الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -218-       كتاب العارية
قال: "العارية جائزة"؛ لأنها نوع إحسان "وقد استعار النبي عليه الصلاة والسلام دروعا من صفوان", "وهي تمليك المنافع بغير عوض" وكان الكرخي رحمه الله يقول: هو إباحة الانتفاع بملك الغير، لأنها تنعقد بلفظة الإباحة، ولا يشترط فيها ضرب المدة، ومع الجهالة لا يصح التمليك ولذلك يعمل فيها النهي، ولا يملك الإجارة من غيره، ونحن نقول: إنه ينبئ عن التمليك، فإن العارية من العرية وهي العطية ولهذا تنعقد بلفظ التمليك، والمنافع قابلة للملك كالأعيان.
والتمليك نوعان: بعوض، وبغير عوض. ثم الأعيان تقبل النوعين، فكذا المنافع، والجامع دفع الحاجة، ولفظة الإباحة استعيرت للتمليك، كما في الإجارة، فإنها تنعقد بلفظة الإباحة، وهي تمليك. والجهالة لا تفضي إلى المنازعة؛ لعدم اللزوم فلا تكون ضائرة. ولأن الملك يثبت بالقبض وهو الانتفاع. وعند ذلك لا جهالة، والنهي منع عن التحصيل فلا يتحصل المنافع على ملكه. ولا يملك الإجارة لدفع زيادة الضرر على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
قال: "وتصح بقوله أعرتك"؛ لأنه صريح فيه "وأطعمتك هذه الأرض"؛ لأنه مستعمل فيه "ومنحتك هذا الثوب وحملتك على هذه الدابة إذا لم يرد به الهبة"؛ لأنهما لتمليك العين، وعند عدم إرادته الهبة تحمل على تمليك المنافع تجوزا.
قال: "وأخدمتك هذا العبد"؛ لأنه أذن له في استخدامه "وداري لك سكنى"؛ لأن معناه سكناها لك "وداري لك عمرى سكنى"؛ لأنه جعل سكناها له مدة عمره. وجعل قوله سكنى تفسيرا لقوله لك؛ لأنه يحتمل تمليك المنافع فحمل عليه بدلالة آخره.
قال: "وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"المنحة مردودة والعارية مؤداة" ولأن المنافع تملك شيئا فشيئا على حسب حدوثها فالتمليك فيما لم يوجد لم يتصل به القبض فيصح الرجوع عنه.
قال: "والعارية أمانة إن هلكت من غير تعد لم يضمن" وقال الشافعي رحمه الله: يضمن

 

ج / 3 ص -219-       لأنه قبض مال غيره لنفسه لا عن استحقاق فيضمنه، والإذن ثبت ضرورة الانتفاع فلا يظهر فيما وراءه، ولهذا كان واجب الرد وصار كالمقبوض على سوم الشراء. ولنا أن اللفظ لا ينبئ عن التزام الضمان؛ لأنه لتمليك المنافع بغير عوض أو لإباحتها، والقبض لم يقع تعديا لكونه مأذونا فيه، والإذن وإن ثبت لأجل الانتفاع فهو ما قبضه إلا للانتفاع فلم يقع تعديا، وإنما وجب الرد مؤنة كنفقة المستعار فإنها على المستعير لا لنقض القبض. والمقبوض على سوم الشراء مضمون بالعقد؛ لأن الأخذ في العقد له حكم العقد على ما عرف في موضعه.
قال: "وليس للمستعير أن يؤاجر ما استعاره؛ فإن آجره فعطب ضمن"؛ لأن الإعارة دون الإجارة والشيء لا يتضمن ما هو فوقه، ولأنا لو صححناه لا يصح إلا لازما؛ لأنه حينئذ يكون بتسليط من المعير، وفي وقوعه لازما زيادة ضرر بالمعير لسد باب الاسترداد إلى انقضاء مدة الإجارة فأبطلناه، وضمنه حين سلمه؛ لأنه إذا لم تتناوله العارية كان غصبا، وإن شاء المعير ضمن المستأجر؛ لأنه قبضه بغير إذن المالك لنفسه، ثم إن ضمن المستعير لا يرجع على المستأجر؛ لأنه ظهر أنه آجر ملك نفسه، وإن ضمن المستأجر يرجع على المؤاجر إذا لم يعلم أنه كان عارية في يده دفعا لضرر الغرور، بخلاف ما إذا علم.
قال: "وله أن يعيره إذا كان مما لا يختلف باختلاف المستعمل" وقال الشافعي: ليس له أن يعيره؛ لأنه إباحة المنافع على ما بينا من قبل، والمباح له لا يملك الإباحة، وهذا؛ لأن المنافع غير قابلة للملك لكونها معدومة، وإنما جعلناها موجودة في الإجارة للضرورة. وقد اندفعت بالإباحة هاهنا. ونحن نقول: هو تمليك المنافع على ما ذكرنا فيملك الإعارة كالموصى له بالخدمة، والمنافع اعتبرت قابلة للملك في الإجارة فتجعل كذلك في الإعارة دفعا للحاجة، وإنما لا تجوز فيما يختلف باختلاف المستعمل دفعا لمزيد الضرر عن المعير؛ لأنه رضي باستعماله لا باستعمال غيره.
قال رضي الله عنه: وهذا إذا صدرت الإعارة مطلقة. وهي على أربعة أوجه:
أحدها: أن تكون مطلقة في الوقت والانتفاع وللمستعير فيه أن ينتفع به أي نوع شاء في أي وقت شاء عملا بالإطلاق.
والثاني: أن تكون مقيدة فيهما وليس له أن يجاوز فيه ما سماه عملا بالتقييد إلا إذا

 

ج / 3 ص -220-       كان خلافا إلى مثل ذلك أو إلى خير منه والحنطة مثل الحنطة، والشعير خير من الحنطة إذا كان كيلا. والثالث: أن تكون مقيدة في حق الوقت مطلقة في حق الانتفاع.
والرابع: عكسه وليس له أن يتعدى ما سماه، فلو استعار دابة ولم يسم شيئا له أن يحمل ويعير غيره للحمل؛ لأن الحمل لا يتفاوت. وله أن يركب ويركب غيره وإن كان الركوب مختلفا؛ لأنه لما أطلق فيه فله أن يعين، حتى لو ركب بنفسه ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين ركوبه، ولو أركب غيره ليس له أن يركبه حتى لو فعله ضمنه؛ لأنه تعين الإركاب.
قال: "وعارية الدراهم والدنانير والمكيل والموزون والمعدود قرض"؛ لأن الإعارة تمليك المنافع، ولا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاك عينها فاقتضى تمليك العين ضرورة وذلك بالهبة أو بالقرض والقرض أدناهما فيثبت. أو؛ لأن من قضية الإعارة الانتفاع ورد العين فأقيم رد المثل مقامه. قالوا: هذا إذا أطلق الإعارة.
وأما إذا عين الجهة بأن استعار دراهم ليعاير بها ميزانا أو يزين بها دكانا لم يكن قرضا ولم يكن له إلا المنفعة المسماة، وصار كما إذا استعار آنية يتجمل بها أو سيفا محلى يتقلده.
قال: "وإذا استعار أرضا ليبني فيها أو ليغرس فيها جاز وللمعير أن يرجع فيها ويكلفه قلع البناء والغرس" أما الرجوع فلما بينا، وأما الجواز فلأنها منفعة معلومة تملك بالإجارة فكذا بالإعارة. وإذا صح الرجوع بقي المستعير شاغلا أرض المعير فيكلف تفريغها، ثم إن لم يكن وقت العارية فلا ضمان عليه؛ لأن المستعير مغتر غير مغرور حيث اعتمد إطلاق العقد من غير أن يسبق منه الوعد وإن كان وقت العارية ورجع قبل الوقت صح رجوعه لما ذكرناه ولكنه يكره لما فيه من خلف الوعد "وضمن المعير ما نقص البناء والغرس بالقلع"؛ لأنه مغرور من جهته حيث وقت له، والظاهر هو الوفاء بالعهد ويرجع عليه دفعا للضرر عن نفسه. كذا ذكره القدوري في المختصر. وذكر الحاكم الشهيد أنه يضمن رب الأرض للمستعير قيمة غرسه وبنائه ويكونان له، إلا أن يشاء المستعير أن يرفعهما ولا يضمنه قيمتهما فيكون له ذلك؛ لأنه ملكه. قالوا: إذا كان في القلع ضرر بالأرض فالخيار إلى رب الأرض؛ لأنه صاحب أصل والمستعير صاحب تبع والترجيح بالأصل، "ولو استعارها ليزرعها لم تؤخذ منه حتى يحصد الزرع وقت أو لم يوقت"؛ لأن له نهاية معلومة، وفي الترك مراعاة الحقين، بخلاف الغرس؛ لأنه ليس له نهاية معلومة فيقلع دفعا للضرر عن المالك.
قال: "وأجرة رد العارية على المستعير"؛ لأن الرد واجب عليه لما أنه قبضه لمنفعة

 

ج / 3 ص -221-       نفسه والأجرة مؤنة الرد فتكون عليه "وأجرة رد العين المستأجرة على المؤجر" لأن الواجب على المستأجر التمكين والتخلية دون الرد، فإن منفعة قبضه سالمة للمؤجر معنى فلا يكون عليه مؤنة رده "وأجرة رد العين المغصوبة على الغاصب"؛ لأن الواجب عليه الرد والإعادة إلى يد المالك دفعا للضرر عنه فتكون مؤنته عليه.
قال: "وإذا استعار دابة فردها إلى إصطبل مالكها فهلكت لم يضمن" وهذا استحسان، وفي القياس يضمن؛ لأنه ما ردها إلى مالكها بل ضيعها. وجه الاستحسان أنه أتي بالتسليم المتعارف؛ لأن رد العواري إلى دار الملاك معتاد كآلة البيت، ولو ردها إلى المالك فالمالك يردها إلى المربط. فصح رده "وإن استعار عبدا فرده إلى دار المالك ولم يسلمه إليه لم يضمن" لما بينا "ولو رد المغصوب أو الوديعة إلى دار المالك ولم يسلمه إليه ضمن"؛ لأن الواجب على الغاصب فسخ فعله، وذلك بالرد إلى المالك دون غيره، الوديعة لا يرضى المالك بردها إلى الدار ولا إلى يد من في العيال؛ لأنه لو ارتضاه لما أودعها إياه، بخلاف العواري؛ لأن فيها عرفا، حتى لو كانت العارية عقد جوهر لم يردها إلا إلى المعير؛ لعدم ما ذكرناه من العرف فيه.
قال: "ومن استعار دابة فردها مع عبده أو أجيره لم يضمن" والمراد بالأجير أن يكون مسانهة أو مشاهرة؛ لأنها أمانة، وله أن يحفظها بيد من في عياله كما في الوديعة، بخلاف الأجير مياومة؛ لأنه ليس في عياله. "وكذا إذا ردها مع عبد رب الدابة أو أجيره"؛ لأن المالك يرضى به؛ ألا ترى أنه لو رده إليه فهو يرده إلى عبده، وقيل هذا في العبد الذي يقوم على الدواب، وقيل فيه وفي غيره وهو الأصح؛ لأنه إن كان لا يدفع إليه دائما يدفع إليه أحيانا "وإن ردها مع أجنبي ضمن" ودلت المسألة على أن المستعير لا يملك الإيداع قصدا كما قاله بعض المشايخ، وقال بعضهم: يملكه لأنه دون الإعارة، وأولوا هذه المسألة بإنهاء الإعارة لانقضاء المدة.
قال: "ومن أعار أرضا بيضاء للزراعة يكتب إنك أطعمتني عند أبي حنيفة رحمه الله وقالا: يكتب إنك أعرتني"؛ لأن لفظة الإعارة موضوعة له والكتابة بالموضوع له أولى كما في إعارة الدار. وله أن لفظة الإطعام أدل على المراد؛ لأنها تخص الزراعة والإعارة تنتظمها وغيرها كالبناء ونحوه فكانت الكتابة بها أولى، بخلاف الدار؛ لأنها لا تعار إلا للسكنى، والله أعلم بالصواب.