الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 3 ص -222-       كتاب الهبة
الهبة عقد مشروع لقوله عليه الصلاة والسلام: "تهادوا تحابوا" وعلى ذلك انعقد الإجماع "وتصح بالإيجاب والقبول والقبض" أما الإيجاب والقبول فلأنه عقد، والعقد ينعقد بالإيجاب، والقبول، والقبض لا بد منه لثبوت الملك. وقال مالك: يثبت الملك فيه قبل القبض اعتبارا بالبيع، وعلى هذا الخلاف الصدقة. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "لا تجوز الهبة إلا مقبوضة" والمراد نفي الملك، لأن الجواز بدونه ثابت، ولأنه عقد تبرع، وفي إثبات الملك قبل القبض إلزام المتبرع شيئا لم يتبرع به، وهو التسليم فلا يصح، بخلاف الوصية؛ لأن أوان ثبوت الملك فيها بعد الموت ولا إلزام على المتبرع؛ لعدم أهلية اللزوم، وحق الوارث متأخر عن الوصية فلم يملكها.
قال: "فإن قبضها الموهوب له في المجلس بغير أمر الواهب جاز" استحسانا "وإن قبض بعد الافتراق لم يجز إلا أن يأذن له الواهب في القبض" والقياس أن لا يجوز في الوجهين وهو قول الشافعي؛ لأن القبض تصرف في ملك الواهب، إذ ملكه قبل القبض باق فلا يصح بدون إذنه، ولنا أن القبض بمنزلة القبول في الهبة من حيث إنه يتوقف عليه ثبوت حكمه وهو الملك، والمقصود منه إثبات الملك فيكون الإيجاب منه تسليطا على القبض، بخلاف ما إذا قبض بعد الافتراق؛ لأنا إنما أثبتنا التسليط فيه إلحاقا له بالقبول، والقبول يتقيد بالمجلس، فكذا ما يلحق به، بخلاف ما إذا نهاه عن القبض في المجلس؛ لأن الدلالة لا تعمل في مقابلة الصريح.
قال: "وتنعقد الهبة بقوله وهبت ونحلت وأعطيت"؛ لأن الأول صريح فيه والثاني مستعمل فيه. قال عليه الصلاة والسلام:
"أكل أولادك نحلت مثل هذا؟" وكذلك الثالث، يقال: أعطاك الله ووهبك الله بمعنى واحد "وكذا تنعقد بقوله أطعمتك هذا الطعام وجعلت هذا الثوب لك وأعمرتك هذا الشيء وحملتك على هذه الدابة إذا نوى بالحملان الهبة" أما الأول فلأن الإطعام إذا أضيف إلى ما يطعم عينه يراد به تمليك العين، بخلاف ما إذا قال: أطعمتك هذه الأرض حيث تكون عارية؛ لأن عينها لا تطعم فيكون المراد أكل غلتها؛ وأما

 

ج / 3 ص -223-       الثاني فلأن حرف اللام للتمليك. وأما الثالث فلقوله عليه الصلاة والسلام "فمن أعمر عمرى فهي للمعمر له ولورثته من بعده" وكذا إذا قال جعلت هذه الدار لك عمرى لما قلنا. وأما الرابع فلأن الحمل هو الإركاب حقيقة فيكون عارية لكنه يحتمل الهبة، يقال حمل الأمير فلانا على فرس ويراد به التمليك فيحمل عليه عند نيته.
"ولو قال كسوتك هذا الثوب يكون هبة"؛ لأنه يراد به التمليك، قال الله تعالى:
{أَوْ كِسْوَتُهُمْ} [المائدة:89] ويقال كسا الأمير فلانا ثوبا: أي ملكه منه "ولو قال منحتك هذه الجارية كانت عارية" لما روينا من قبل."ولو قال داري لك هبة سكنى أو سكنى هبة فهي عارية"؛ لأن العارية محكم في تمليك المنفعة والهبة تحتملها وتحتمل تمليك العين فيحمل المحتمل على المحكم، وكذا إذا قال عمرى سكنى أو نحلي سكنى أو سكنى صدقة أو صدقة عارية أو عارية هبة لما قدمناه. "ولو قال هبة تسكنها فهي هبة"؛ لأن قوله تسكنها مشورة وليس بتفسير له وهو تنبيه على المقصود، بخلاف قوله هبة سكنى؛ لأنه تفسير له.
قال: "ولا تجوز الهبة فيما يقسم إلا محوزة مقسومة، وهبة المشاع فيما لا يقسم جائزة" وقال الشافعي: تجوز في الوجهين؛ لأنه عقد تمليك فيصح في المشاع وغيره كالبيع بأنواعه، وهذا؛ لأن المشاع قابل لحكمه، وهو الملك فيكون محلا له، وكونه تبرعا لا يبطله الشيوع كالقرض والوصية. ولنا أن القبض منصوص عليه في الهبة فيشترط كماله والمشاع لا يقبله إلا بضم غيره إليه، وذلك غير موهوب، ولأن في تجويزه إلزامه شيئا لم يلتزمه وهو مؤنة القسمة، ولهذا امتنع جوازه قبل القبض لئلا يلزمه التسليم، بخلاف ما لا يقسم؛ لأن القبض القاصر هو الممكن فيكتفى به؛ ولأنه لا تلزمه مؤنة القسمة. والمهايأة تلزمه فيما لم يتبرع به وهو المنفعة، والهبة لاقت العين، والوصية ليس من شرطها القبض، وكذا البيع الصحيح، وأما البيع الفاسد والصرف والسلم فالقبض فيها غير منصوص عليه، ولأنها عقود ضمان فتناسب لزوم مؤنة القسمة، والقرض تبرع من وجه وعقد ضمان من وجه، فشرطنا القبض القاصر فيه دون القسمة عملا بالشبهين، على أن القبض غير منصوص عليه فيه. "ولو وهب من شريكه لا يجوز"؛ لأن الحكم يدار على نفس الشيوع.
قال: "ومن وهب شقصا مشاعا فالهبة فاسدة" لما ذكرنا "فإن قسمه وسلمه جاز"؛ لأن تمامه بالقبض وعنده لا شيوع.
قال: "ولو وهب دقيقا في حنطة أو دهنا في سمسم فالهبة فاسدة، فإن طحن وسلم لم يجز" وكذا السمن في اللبن؛ لأن الموهوب معدوم، ولهذا لو استخرجه الغاصب يملكه

 

ج / 3 ص -224-       والمعدوم ليس بمحل للملك فوقع العقد باطلا، فلا ينعقد إلا بالتجديد، بخلاف ما تقدم؛ لأن المشاع محل للتمليك، وهبة اللبن في الضرع والصوف على ظهر الغنم والزرع والنخل في الأرض والتمر في النخيل بمنزلة المشاع؛ لأن امتناع الجواز للاتصال وذلك يمنع القبض كالشائع.
قال: "وإذا كانت العين في يد الموهوب له ملكها بالهبة وإن لم يجدد فيها قبضا"؛ لأن العين في قبضه والقبض هو الشرط، بخلاف ما إذا باعه منه؛ لأن القبض في البيع مضمون فلا ينوب عنه قبض الأمانة، أما قبض الهبة فغير مضمون فينوب عنه.
قال: "وإذا وهب الأب لابنه الصغير هبة ملكها الابن بالعقد"؛ لأنه في قبض الأب فينوب عن قبض الهبة، ولا فرق بين ما إذا كان في يده أو في يد مودعه؛ لأن يده كيده، بخلاف ما إذا كان مرهونا أو مغصوبا أو مبيعا بيعا فاسدا؛ لأنه في يد غيره أو في ملك غيره، والصدقة في هذا مثل الهبة، وكذا إذا وهبت له أمه وهو في عيالها والأب ميت ولا وصي له، وكذلك كل من يعوله. "وإن وهب له أجنبي هبة تمت بقبض الأب"؛ لأنه يملك عليه الدائر بين النافع والضائر فأولى أن يملك المنافع. "وإن وهب لليتيم هبة فقبضها له وليه وهو وصي الأب أو جد اليتيم أو وصيه جاز"؛ لأن لهؤلاء ولاية عليه لقيامهم مقام الأب "وإن كان في حجر أمه فقبضها له جائز"؛ لأن لها الولاية فيما يرجع إلى حفظه وحفظ ماله. وهذا من بابه؛ لأنه لا يبقى إلا بالمال فلا بد من ولاية التحصيل "وكذا إذا كان في حجر أجنبي يربيه"؛ لأن له عليه يدا معتبرة. ألا ترى أنه لا يتمكن أجنبي آخر أن ينزعه من يده فيملك ما يتمحض نفعا في حقه "وإن قبض الصبي الهبة بنفسه جاز" معناه إذا كان عاقلا؛ لأنه نافع في حقه وهو من أهله. وفيما وهب للصغيرة يجوز قبض زوجها لها بعد الزفاف لتفويض الأب أمورها إليه دلالة، بخلاف ما قبل الزفاف ويملكه مع حضرة الأب، بخلاف الأم وكل من يعولها غيرها حيث لا يملكونه إلا بعد موت الأب أو غيبته غيبة منقطعة في الصحيح؛ لأن تصرف هؤلاء للضرورة لا بتفويض الأب، ومع حضوره لا ضرورة.
قال: "وإذا وهب اثنان من واحد دارا جاز"؛ لأنهما سلماها جملة وهو قد قبضها جملة فلا شيوع "وإن وهبها واحد من اثنين لا يجوز عند أبي حنيفة، وقالا يصح"؛ لأن هذه هبة الجملة منهما، إذ التمليك واحد فلا يتحقق الشيوع كما إذا رهن من رجلين. وله أن هذه هبة النصف من كل واحد منهما، ولهذا لو كانت فيما لا يقسم فقبل أحدهما صح، ولأن الملك يثبت لكل واحد منهما في النصف فيكون التمليك كذلك؛ لأنه حكمه، وعلى هذا الاعتبار يتحقق الشيوع، بخلاف الرهن؛ لأن حكمه الحبس، ويثبت لكل واحد منهما كاملا

 

ج / 3 ص -225-       إذ لا تضايف فيه فلا شيوع ولهذا لو قضى دين أحدهما لا يسترد شيئا من الرهن.
"وفي الجامع الصغير: إذا تصدق على محتاجين بعشرة دراهم أو وهبها لهما جاز، ولو تصدق بها على غنيين أو وهبها لهما لم يجز، وقالا: يجوز للغنيين أيضا" جعل كل واحد منهما مجازا عن الآخر، والصلاحية ثابتة؛ لأن كل واحد منهما تمليك بغير بدل، وفرق بين الصدقة والهبة في الحكم. وفي الأصل سوى بينهما فقال: وكذلك الصدقة؛ لأن الشيوع مانع في الفصلين لتوقفهما على القبض. ووجه الفرق على هذه الرواية أن الصدقة يراد بها وجه الله تعالى وهو واحد، والهبة يراد بها وجه الغني وهما اثنان. وقيل هذا هو الصحيح، والمراد بالمذكور في الأصل الصدقة على غنيين. ولو وهب لرجلين دارا لأحدهما ثلثاها وللآخر ثلثها لم يجز عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يجوز. ولو قال لأحدهما نصفها وللآخر نصفها عن أبي يوسف فيه روايتان، فأبو حنيفة مر على أصله، وكذا محمد. والفرق لأبي يوسف أن بالتنصيص على الأبعاض يظهر أن قصده ثبوت الملك في البعض فيتحقق الشيوع، ولهذا لا يجوز إذا رهن من رجلين ونص على الأبعاض.

باب الرجوع في الهبة
قال: "وإذا وهب هبة لأجنبي فله الرجوع فيها" وقال الشافعي: لا رجوع فيها لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا يرجع الواهب في هبته إلا الوالد فيما يهب لولده" ولأن الرجوع يضاد التمليك، والعقد لا يقتضي ما يضاده، بخلاف هبة الوالد لولده على أصله؛ لأنه لم يتم التمليك؛ لكونه جزءا له. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "الواهب أحق بهبته ما لم يثب منها" أي ما لم يعوض؛ ولأن المقصود بالعقد هو التعويض للعادة، فتثبت له ولاية الفسخ عند فواته، إذ العقد يقبله، والمراد بما روي نفي استبداد والرجوع وإثباته للوالد؛ لأنه يتملكه للحاجة وذلك يسمى رجوعا. وقوله في الكتاب فله الرجوع لبيان الحكم، أما الكراهة فلازمة لقوله عليه الصلاة والسلام: "العائد في هبته كالعائد في قيئه" وهذا لاستقباحه. ثم للرجوع موانع ذكر بعضها فقال: "إلا أن يعوضه عنها" لحصول المقصود "أو تزيد زيادة متصلة"؛ لأنه لا وجه إلى الرجوع فيها دون الزيادة؛ لعدم الإمكان ولا مع الزيادة؛ لعدم دخولها تحت العقد.
قال: "أو يموت أحد المتعاقدين"؛ لأن بموت الموهوب له ينتقل الملك إلى الورثة

 

ج / 3 ص -226-       فصار كما إذا انتقل في حال حياته، وإذا مات الواهب فوارثه أجنبي عن العقد إذ هو ما أوجبه.
قال: "أو تخرج الهبة عن ملك الموهوب له"؛ لأنه حصل بتسليطه فلا ينقضه، ولأنه تجدد الملك بتجدد سببه.
قال: "فإن وهب لآخر أرضا بيضاء فأنبت في ناحية منها نخلا أو بنى بيتا أو دكانا أو آريا وكان ذلك زيادة فيها فليس له أن يرجع في شيء منها"؛ لأن هذه زيادة متصلة. وقوله وكان ذلك زيادة فيها؛ لأن الدكان قد يكون صغيرا حقيرا لا يعد زيادة أصلا، وقد تكون الأرض عظيمة يعد ذلك زيادة في قطعة منها فلا يمتنع الرجوع في غيرها.
قال: "فإن باع نصفها غير مقسوم رجع في الباقي"؛ لأن الامتناع بقدر المانع "وإن لم يبع شيئا منها له أن يرجع في نصفها"؛ لأن له أن يرجع في كلها فكذا في نصفها بالطريق الأولى.
قال: "وإن وهب هبة لذي رحم محرم منه فلا رجوع فيها" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إذا كانت الهبة لذي رحم محرم منه لم يرجع فيها"؛ ولأن المقصود فيها صلة الرحم وقد حصل "وكذلك ما وهب أحد الزوجين للآخر"؛ لأن المقصود فيها الصلة كما في القرابة، وإنما ينظر إلى هذا المقصود وقت العقد، حتى لو تزوجها بعدما وهب لها فله الرجوع، ولو أبانها بعدما وهب فلا رجوع.
قال: "وإذا قال الموهوب له للواهب خذ هذا عوضا عن هبتك أو بدلا عنها أو في مقابلتها فقبضه الواهب سقط الرجوع" لحصول المقصود، وهذه العبارات تؤدي معنى واحدا "وإن عوضه أجنبي عن الموهوب له متبرعا فقبض الواهب العوض بطل الرجوع"؛ لأن العوض لإسقاط الحق فيصح من الأجنبي كبدل الخلع والصلح.
قال: "وإذا استحق نصف الهبة رجع بنصف العوض"؛ لأنه لم يسلم له ما يقابل نصفه "وإن استحق نصف العوض لم يرجع في الهبة إلا أن يرد ما بقي ثم يرجع" وقال زفر: يرجع بالنصف اعتبارا بالعوض الآخر. ولنا أنه يصلح عوضا للكل من الابتداء، وبالاستحقاق ظهر أنه لا عوض إلا هو، إلا أنه يتخير؛ لأنه ما أسقط حقه في الرجوع إلا ليسلم له كل العوض ولم يسلم فله أن يرده.
قال: "وإن وهب دارا فعوضه من نصفها رجع الواهب في النصف الذي لم يعوض"؛ لأن المانع خص النصف.

 

ج / 3 ص -227-       قال: "ولا يصح الرجوع إلا بتراضيهما أو بحكم الحاكم"؛ لأنه مختلف بين العلماء، وفي أصله وهاء وفي حصول المقصود وعدمه خفاء، فلا بد من الفصل بالرضا أو بالقضاء، حتى لو كانت الهبة عبدا فأعتقه قبل القضاء نفذ، ولو منعه فهلك لم يضمن؛ لقيام ملكه فيه، وكذا إذا هلك في يده بعد القضاء؛ لأن أول القبض غير مضمون، وهذا دوام عليه إلا أن يمنعه بعد طلبه؛ لأنه تعدى، وإذا رجع بالقضاء أو بالتراضي يكون فسخا من الأصل حتى لا يشترط قبض الواهب ويصح في الشائع؛ لأن العقد وقع جائزا موجبا حق الفسخ، فكان بالفسخ مستوفيا حقا ثابتا له فيظهر على الإطلاق، بخلاف الرد بالعيب بعد القبض؛ لأن الحق هناك في وصف السلامة لا في الفسخ فافترقا.
قال: "وإذا تلفت العين الموهوبة واستحقها مستحق وضمن الموهوب له لم يرجع على الواهب بشيء"؛ لأنه عقد تبرع فلا يستحق فيه السلامة، وهو غير عامل له، والغرور في ضمن عقد المعاوضة سبب الرجوع لا في غيره.
قال: "وإذا وهب بشرط العوض اعتبر التقابض في العوضين، وتبطل بالشيوع"؛ لأنه هبة ابتداء "فإن تقابضا صح العقد وصار في حكم البيع يرد بالعيب وخيار الرؤية وتستحق فيه الشفعة"؛ لأنه بيع انتهاء. وقال زفر والشافعي رحمهما الله: هو بيع ابتداء وانتهاء؛ لأن فيه معنى البيع وهو التمليك بعوض، والعبرة في العقود للمعاني، ولهذا كان بيع العبد من نفسه إعتاقا. ولنا أنه اشتمل على جهتين فيجمع بينهما ما أمكن عملا بالشبهين، وقد أمكن؛ لأن الهبة من حكمها تأخر الملك إلى القبض، وقد يتراخى عن البيع الفاسد والبيع من حكمه اللزوم، وقد تنقلب الهبة لازمة بالتعويض فجمعنا بينهما، بخلاف بيع نفس العبد من نفسه؛ لأنه لا يمكن اعتبار البيع فيه، إذ هو لا يصلح مالكا لنفسه.

فصل: قال: "ومن وهب جارية إلا حملها صحت الهبة وبطل الاستثناء"؛
لأن الاستثناء لا يعمل إلا في محل يعمل فيه العقد، والهبة لا تعمل في الحمل لكونه وصفا على ما بيناه في البيوع فانقلب شرطا فاسدا، والهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة، وهذا هو الحكم في النكاح والخلع والصلح عن دم العمد؛ لأنها لا تبطل بالشروط الفاسدة، بخلاف البيع والإجارة والرهن؛ لأنها تبطل بها. "ولو أعتق ما في بطنها ثم وهبها جاز"؛ لأنه لم يبق الجنين على ملكه فأشبه الاستثناء، "ولو دبر ما في بطنها ثم وهبها لم يجز"؛ لأن الحمل بقي على ملكه فلم يكن

 

ج / 3 ص -228-       شبيه الاستثناء، ولا يمكن تنفيذ الهبة فيه لمكان التدبير فبقي هبة المشاع أو هبة شيء هو مشغول بملك المالك.
قال: "فإن وهبها له على أن يردها عليه أو على أن يعتقها أو أن يتخذها أم ولد أو وهب دارا أو تصدق عليه بدار على أن يرد عليه شيئا منها أو يعوضه شيئا منها فالهبة جائزة والشرط باطل". لأن هذه الشروط تخالف مقتضى العقد فكانت فاسدة، والهبة لا تبطل بها، ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى وأبطل شرط المعمر بخلاف البيع؛ لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع وشرط ولأن الشرط الفاسد في معنى الربا، وهو يعمل في المعاوضات دون التبرعات. قال: "ومن له على آخر ألف درهم فقال إذا جاء الغد فهي لك أو أنت منها بريء. أو قال: إذا أديت إلي النصف فلك نصفه أو أنت بريء من النصف الباقي فهو باطل"؛ لأن الإبراء تمليك من وجه إسقاط من وجه، وهبة الدين ممن عليه إبراء، وهذا؛ لأن الدين مال من وجه ومن هذا الوجه كان تمليكا، ووصف من وجه ومن هذا الوجه كان إسقاطا، ولهذا قلنا: إنه يرتد بالرد، ولا يتوقف على القبول. والتعليق بالشروط يختص بالإسقاطات المحضة التي يحلف بها كالطلاق والعتاق فلا يتعداها.
قال: "والعمرى جائزة للمعمر له حال حياته ولورثته من بعده" لما روينا. ومعناه أن يجعل داره له عمره. وإذا مات ترد عليه فيصح التمليك، ويبطل الشرط لما روينا وقد بينا أن الهبة لا تبطل بالشروط الفاسدة "والرقبى باطلة عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله. وقال أبو يوسف: جائزة"؛ لأن قوله داري لك تمليك. وقوله رقبى شرط فاسد كالعمرى. ولهما أنه عليه الصلاة والسلام أجاز العمرى ورد الرقبى ولأن معنى الرقبى عندهما إن مت قبلك فهو لك، واللفظ من المراقبة كأنه يراقب موته، وهذا تعليق التمليك بالخطر فبطل. وإذا لم تصح تكون عارية عندهما؛ لأنه يتضمن إطلاق الانتفاع به.

فصل: في الصدقة
قال: "والصدقة كالهبة لا تصح إلا بالقبض"؛ لأنه تبرع كالهبة "فلا تجوز في مشاع يحتمل القسمة" لما بينا في الهبة "ولا رجوع في الصدقة"؛ لأن المقصود هو الثواب وقد حصل. وكذا إذا تصدق على غني استحسانا؛ لأنه قد يقصد بالصدقة على الغني الثواب. وكذا إذا وهب الفقير؛ لأن المقصود الثواب وقد حصل.
قال: "ومن نذر أن يتصدق بماله يتصدق بجنس ما يجب فيه الزكاة، ومن نذر أن

 

ج / 3 ص -229-       يتصدق بملكه لزمه أن يتصدق بالجميع" ويروى أنه والأول سواء، وقد ذكرنا الفرق. ووجه الروايتين في مسائل القضاء "ويقال له أمسك ما تنفقه على نفسك وعيالك إلى أن تكتسب، فإذا اكتسب مالا يتصدق بمثل ما أنفق" وقد ذكرناه من قبل.