الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 3 ص -230-
كتاب الإجارات
"الإجارة: عقد على المنافع بعوض"
لأن الإجارة في اللغة بيع المنافع، والقياس
يأبى جوازه؛ لأن المعقود عليه المنفعة وهي
معدومة، وإضافة التمليك إلى ما سيوجد لا يصح
إلا أنا جوزناه لحاجة الناس إليه، وقد شهدت
بصحتها الآثار وهو قوله عليه الصلاة والسلام:
"أعطوا
الأجير أجره قبل أن يجف عرقه" وقوله
عليه الصلاة والسلام:
"من استأجر
أجيرا فليعلمه أجره" وتنعقد
ساعة فساعة على حسب حدوث المنفعة، والدار
أقيمت مقام المنفعة في حق إضافة العقد إليها
ليرتبط الإيجاب بالقبول، ثم عمله يظهر في حق
المنفعة ملكا واستحقاقا حال وجود المنفعة.
"ولا تصح حتى تكون المنافع معلومة، والأجرة
معلومة" لما روينا، ولأن
الجهالة في المعقود عليه وبدله تفضي إلى
المنازعة كجهالة الثمن والمثمن في البيع
"وما جاز أن يكون ثمنا في البيع جاز أن يكون
أجرة في الإجارة"؛ لأن الأجرة
ثمن المنفعة، فتعتبر بثمن المبيع. وما لا يصلح
ثمنا يصلح أجرة أيضا كالأعيان. فهذا اللفظ لا
ينفي صلاحية غيره؛ ل أنه عوض مالي
"والمنافع تارة تصير معلومة بالمدة كاستئجار
الدور، للسكنى والأرضين للزراعة فيصح العقد
على مدة معلومة أي مدة كانت"؛
لأن المدة إذا كانت معلومة كان قدر المنفعة
فيها معلوما إذا كانت المنفعة لا تتفاوت.
وقوله أي مدة كانت إشارة إلى أنه يجوز طالت
المدة أو قصرت لكونها معلومة ولتحقق الحاجة
إليها عسى، إلا أن في الأوقاف لا تجوز الإجارة
الطويلة كي لا يدعي المستأجر ملكها وهي ما زاد
على ثلاث سنين هو المختار.
قال:
"وتارة تصير معلومة بنفسه كمن استأجر رجلا على
صبغ ثوبه أو خياطته أو استأجر دابة؛ ليحمل
عليها مقدارا معلوما أو يركبها مسافة سماها"؛
لأنه إذا بين الثوب ولون الصبغ وقدره وجنس
الخياطة والقدر المحمول وجنسه والمسافة صارت
المنفعة معلومة فيصح العقد، وربما يقال:
الإجارة قد تكون عقدا على العمل كاستئجار
القصار والخياط، ولا بد أن يكون العمل معلوما
وذلك في الأجير المشترك، وقد تكون عقدا على
المنفعة كما في أجير الوحد، ولا بد من بيان
الوقت.
قال:
"وتارة تصير المنفعة معلومة بالتعيين والإشارة
كمن استأجر رجلا، لينقل له هذا
ج / 3 ص -231-
الطعام إلى موضع معلوم"؛
لأنه إذا آراه ما ينقله والموضع الذي يحمل
إليه كانت المنفعة معلومة فيصح العقد.
باب الأجر متى يستحق
قال:
"الأجرة لا تجب بالعقد وتستحق بأحد معان
ثلاثة: إما بشرط التعجيل، أو بالتعجيل من غير
شرط، أو باستيفاء المعقود عليه".
وقال الشافعي: تملك بنفس العقد؛ لأن المنافع
المعدومة صارت موجودة حكما ضرورة تصحيح العقد
فيثبت الحكم فيما يقابله من البدل. ولنا أن
العقد ينعقد شيئا فشيئا على حسب حدوث المنافع
على ما بينا، والعقد معاوضة، ومن قضيتها
المساواة، فمن ضرورة التراخي في جانب المنفعة
التراخي في البدل الآخر. وإذا استوفى المنفعة
يثبت الملك في الأجر لتحقق التسوية. وكذا إذا
شرط التعجيل أو عجل؛ لأن المساواة تثبت حقا له
وقد أبطله.
"وإذا قبض المستأجر الدار فعليه الأجر وإن لم
يسكنها"؛ لأن تسليم عين
المنفعة لا يتصور فأقمنا تسليم المحل مقامه إذ
التمكن من الانتفاع يثبت به.
قال:
"فإن غصبها غاصب من يده سقطت الأجرة"؛
لأن تسليم المحل إنما أقيم مقام تسليم المنفعة
للتمكن من الانتفاع، فإذا فات التمكن فات
التسليم، وانفسخ العقد فسقط الأجر،
"وإن وجد الغصب في بعض المدة سقط الأجر بقدره".
إذ الانفساخ في بعضها.
قال:
"ومن استأجر دارا فللمؤجر أن يطالبه بأجرة كل
يوم"؛ لأنه استوفى منفعة
مقصودة
"إلا أن يبين وقت الاستحقاق بالعقد"؛
لأنه بمنزلة التأجيل
"وكذلك إجارة الأراضي" لما
بينا.
"ومن استأجر بعيرا إلى مكة فللجمال أن يطالبه
بأجرة كل مرحلة"؛ لأن سير كل
مرحلة مقصود. وكان أبو حنيفة يقول أولا: لا
يجب الأجر إلا بعد انقضاء المدة وانتهاء السفر
وهو قول زفر؛ لأن المعقود عليه جملة المنافع
في المدة فلا يتوزع الأجر على أجزائها، كما
إذا كان المعقود عليه العمل. ووجه القول
المرجوع إليه أن القياس يقتضي استحقاق الأجر
ساعة فساعة لتحقق المساواة، إلا أن المطالبة
في كل ساعة تفضي إلى أن لا يتفرغ لغيره فيتضرر
به، فقدرنا بما ذكرنا.
قال:
"وليس للقصار والخياط أن يطالب بأجره حتى يفرغ
من العمل"؛ لأن العمل في
البعض غير منتفع به فلا يستوجب به الأجر، وكذا
إذا عمل في بيت المستأجر لا يستوجب الأجر قبل
الفراغ لما بينا. قال:
"إلا أن يشترط التعجيل" لما
مر أن الشرط فيه لازم.
قال:
"ومن استأجر خبازا ليخبز له في بيته قفيزا من
دقيق بدرهم لم يستحق الأجر
ج / 3 ص -232-
حتى يخرج الخبز من التنور"؛
لأن تمام العمل بالإخراج. فلو احترق أو سقط من
يده قبل الإخراج فلا أجر له للهلاك قبل
التسليم،
"فإن أخرجه ثم احترق من غير فعله فله الأجر"؛
لأنه صار مسلما إليه بالوضع
في بيته، ولا ضمان عليه؛ لأنه لم توجد منه
الجناية. قال: وهذا عند أبي حنيفة؛ لأنه أمانة
في يده، وعندهما يضمن مثل دقيقه ولا أجر له؛
لأنه مضمون عليه فلا يبرأ إلا بعد حقيقة
التسليم، وإن شاء ضمنه الخبز، وأعطاه الأجر.
قال:
"ومن استأجر طباخا ليطبخ له طعاما للوليمة
فالعرف عليه" اعتبارا للعرف.
قال:
"ومن استأجر إنسانا ليضرب له لبنا استحق الأجر
إذا أقامها عند أبي حنيفة، وقالا: لا يستحقها
حتى يشرجها"؛ لأن التشريج من
تمام عمله، إذ لا يؤمن من الفساد قبله فصار
كإخراج الخبز من التنور؛ ولأن الأجير هو الذي
يتولاه عرفا وهو المعتبر فيما لم ينص عليه.
ولأبي حنيفة أن العمل قد تم بالإقامة،
والتشريج عمل زائد كالنقل، ألا ترى أنه ينتفع
به قبل التشريج بالنقل إلى موضع العمل، بخلاف
ما قبل الإقامة؛ لأنه طين منتشر، وبخلاف
الخبز؛ لأنه غير منتفع به قبل الإخراج.
قال:
"وكل صانع لعمله أثر في العين كالقصار والصباغ
فله أن يحبس العين حتى يستوفي الأجر"؛
لأن المعقود عليه وصف قائم في الثوب فله حق
الحبس؛ لاستيفاء البدل كما في المبيع، ولو
حبسه فضاع لا ضمان عليه عند أبي حنيفة؛ لأنه
غير متعد في الحبس فبقي أمانة كما كان عنده،
ولا أجر له لهلاك المعقود عليه قبل التسليم.
وعند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله: العين كانت
مضمونة قبل الحبس فكذا بعده، لكنه بالخيار إن
شاء ضمنه قيمته غير معمول ولا أجر له، وإن شاء
ضمنه معمولا وله الأجر، وسيبين من بعد إن شاء
الله تعالى.
قال:
"وكل صانع ليس لعمله أثر في العين فليس له أن
يحبس العين للأجر كالحمال والملاح"؛
لأن المعقود عليه نفس العمل وهو غير قائم في
العين فلا يتصور حبسه فليس له ولاية الحبس
وغسل الثوب نظير الحمل، وهذا بخلاف الآبق حيث
يكون للراد حق حبسه لاستيفاء الجعل، ولا أثر
لعمله؛ لأنه كان على شرف الهلاك وقد أحياه
فكأنه باعه منه فله حق الحبس، وهذا الذي ذكرنا
مذهب علمائنا الثلاثة. وقال زفر: ليس له حق
الحبس في الوجهين؛ لأنه وقع التسليم باتصال
المبيع بملكه فيسقط حق الحبس. ولنا أن الاتصال
بالمحل ضرورة إقامة تسليم العمل فلم يكن هو
راضيا به من حيث أنه تسليم فلا يسقط حق الحبس
كما إذا قبض المشتري بغير رضا البائع.
ج / 3 ص -233-
قال:
"وإذا شرط على الصانع أن يعمل بنفسه ليس له أن
يستعمل غيره"؛ لأن المعقود
عليه العمل في محل بعينه فيستحق عينه كالمنفعة
في محل بعينه "وإن أطلق له العمل فله أن يستأجر من
يعمله"؛ لأن المستحق عمل في
ذمته، ويمكن إيفاؤه بنفسه وبالاستعانة بغيره
بمنزلة إيفاء الدين.
فصل: "ومن استأجر رجلا ليذهب إلى البصرة فيجيء
بعياله فذهب فوجد بعضهم قد مات فجاء بمن بقي
فله الأجر بحسابه"؛
لأنه أوفى
بعض المعقود عليه فيستحق العوض بقدره، ومراده
إذا كانوا معلومين
"وإن استأجره ليذهب بكتابه إلى فلان
بالبصرة ويجيء بجوابه فذهب فوجد فلانا ميتا
فرده فلا أجر له" هذا عند أبي
حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: له الأجر في
الذهاب؛ لأنه أوفى بعض المعقود عليه، وهو قطع
المسافة، وهذا لأن الأجر مقابل به لما فيه من
المشقة دون حمل الكتاب لخفة مؤنته. ولهما أن
المعقود عليه نقل الكتاب؛ لأنه هو المقصود أو
وسيلة إليه وهو العلم بما في الكتاب ولكن
الحكم معلق به وقد نقضه فيسقط الأجر كما في
الطعام وهي المسألة التي تلي هذه المسألة
"وإن ترك الكتاب في ذلك المكان وعاد يستحق
الأجر بالذهاب بالإجماع"؛ لأن
الحمل لم ينتقض.
"وإن استأجره ليذهب بطعام إلى فلان بالبصرة
فذهب فوجد فلانا ميتا فرده فلا أجر له في
قولهم جميعا"؛ لأنه نقض تسليم
المعقود عليه، وهو حمل الطعام، بخلاف مسألة
الكتاب على قول محمد؛ لأن المعقود عليه هناك
قطع المسافة على ما مر. والله أعلم بالصواب.
باب ما يجوز من الإجارة ومايكون خلافا فيها
قال:
"ويجوز استئجار الدور والحوانيت للسكنى وإن لم
يبين ما يعمل فيها"؛ لأن
العمل المتعارف فيها السكنى فينصرف إليه، وأنه
لا يتفاوت فصح العقد
"وله أن يعمل كل شيء" للإطلاق
"إلا أنه لا يسكن حدادا ولا قصارا ولا طحانا؛
لأن فيه ضررا ظاهرا"؛ لأنه
يوهن البناء فيتقيد العقد بما وراءها دلالة.
قال:
"ويجوز استئجار الأراضي للزراعة"؛
لأنها منفعة مقصودة معهودة فيها
"وللمستأجر الشرب والطريق، وإن لم يشترط"
لأن الإجارة تعقد للانتفاع، ولا انتفاع في
الحال إلا بهما فيدخلان في مطلق العقد، بخلاف
البيع؛ لأن المقصود منه ملك الرقبة لا
الانتفاع في الحال، حتى يجوز بيع الجحش والأرض
السبخة دون الإجارة فلا يدخلان فيه
ج / 3 ص -234-
من غير
ذكر الحقوق وقد مر في البيوع
"ولا يصح العقد حتى يسمي ما يزرع فيها"؛
لأنها قد تستأجر للزراعة ولغيرها وما يزرع
فيها متفاوت فلا بد من التعيين كي لا تقع
المنازعة
"أو يقول على أن يزرع فيها ما شاء"؛
لأنه لما فوض الخيرة إليه ارتفعت الجهالة
المفضية إلى المنازعة. قال:
"ويجوز أن يستأجر الساحة؛ ليبني فيها أو؛
ليغرس فيها نخلا أو شجرا"؛
لأنها منفعة تقصد بالأراضي
"ثم إذا انقضت مدة الإجارة لزمه أن يقلع
البناء والغرس ويسلمها إليه فارغة"؛
لأنه لا نهاية لهما وفي إبقائهما إضرارا بصاحب
الأرض، بخلاف ما إذا انقضت المدة والزرع بقل
حيث يترك بأجر المثل إلى زمان الإدراك؛ لأن له
نهاية معلومة فأمكن رعاية الجانبين.
قال:
"إلا أن يختار صاحب الأرض أن يغرم له قيمة ذلك
مقلوعا ويتملكه فله ذلك" وهذا
برضا صاحب الغرس والشجر، إلا أن تنقص الأرض
بقلعهما فحينئذ يتملكهما بغير رضاه.
قال:
"أو يرضى بتركه على حاله فيكون البناء لهذا
والأرض لهذا"؛ لأن الحق له
فله أن لا يستوفيه.
قال:
"وفي الجامع الصغير: إذا انقضت مدة الإجارة،
وفي الأرض رطبة فإنها تقلع"؛
لأن الرطاب لا نهاية لها فأشبه الشجر.
قال:
"ويجوز استئجار الدواب للركوب والحمل"؛
لأنه منفعة معلومة معهودة
"فإن أطلق الركوب جاز له أن يركب من شاء"
عملا بالإطلاق. ولكن إذا ركب بنفسه أو أركب
واحدا ليس له أن يركب غيره؛ لأنه تعين مرادا
من الأصل، والناس يتفاوتون في الركوب فصار
كأنه نص على ركوبه
"وكذلك إذا استأجر ثوبا للبس وأطلق جاز فيما
ذكرنا" لإطلاق اللفظ وتفاوت
الناس في اللبس
"وإن قال: على أن يركبها فلان أو يلبس الثوب
فلان فأركبها غيره أو ألبسه غيره فعطب كان
ضامنا"؛ لأن الناس يتفاوتون
في الركوب واللبس فصح التعيين، وليس له أن
يتعداه، وكذلك كل ما يختلف باختلاف المستعمل
لما ذكرنا. فأما العقار وما لا يختلف باختلاف
المستعمل إذا شرط سكنى واحد فله أن يسكن غيره؛
لأن التقييد غير مفيد لعدم التفاوت الذي يضر
بالبناء، والذي يضر بالبناء خارج على ما
ذكرناه.
قال:
"وإن سمى نوعا وقدرا معلوما يحمله على الدابة
مثل أن يقول خمسة أقفزة حنطة فله أن يحمل ما
هو مثل الحنطة في الضرر أو أقل كالشعير
والسمسم"؛ لأنه دخل تحت الإذن
لعدم التفاوت، أو لكونه خيرا من الأول
"وليس له أن يحمل ما هو أضر من الحنطة
كالملح والحديد" لانعدام
الرضا فيه "وإن استأجرها ليحمل عليها قطنا سماه
فليس له أن يحمل عليها
ج / 3 ص -235-
مثل وزنه حديدا"؛
لأنه ربما يكون أضر بالدابة فإن الحديد يجتمع
في موضع من ظهرها والقطن ينبسط على ظهرها.
قال:
"وإن استأجرها ليركبها فأردف معه رجلا فعطبت
ضمن نصف قيمتها ولا معتبر بالثقل"؛
لأن الدابة قد يعقرها جهل الراكب الخفيف ويخف
عليها ركوب الثقيل لعلمه بالفروسية، ولأن
الآدمي غير موزون فلا يمكن معرفة الوزن فاعتبر
عدد الراكب كعدد الجناة في الجنايات.
قال:
"وإن استأجرها ليحمل عليها مقدارا من الحنطة
فحمل عليها أكثر منه فعطبت ضمن ما زاد الثقل"؛
لأنها عطبت بما هو مأذون فيه وما هو غير مأذون
فيه والسبب الثقل فانقسم عليهما
"إلا إذا كان حملا لا يطيقه مثل تلك الدابة
فحينئذ يضمن كل قيمتها" لعدم
الإذن فيها أصلا لخروجه عن العادة.
قال:
"وإن كبح الدابة بلجامها أو ضربها فعطبت ضمن
عند أبي حنيفة. وقالا: لا يضمن إذا فعل فعلا
متعارفا"؛ لأن المتعارف مما
يدخل تحت مطلق العقد فكان حاصلا بإذنه فلا
يضمنه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإذن مقيد
بشرط السلامة إذ يتحقق السوق بدونه، وإنما هما
للمبالغة فيتقيد بوصف السلامة كالمرور في
الطريق.
قال:
"وإن استأجرها إلى الحيرة فجاوز بها إلى
القادسية ثم ردها إلى الحيرة ثم نفقت فهو
ضامن، وكذلك العارية" وقيل
تأويل هذه المسألة إذا استأجرها ذاهبا لا
جائيا؛ لينتهي العقد بالوصول إلى الحيرة فلا
يصير بالعود مردودا إلى يد المالك معنى. وأما
إذا استأجرها ذاهبا وجائيا فيكون بمنزلة
المودع إذا خالف ثم عاد إلى الوفاق. وقيل لا،
بل الجواب مجرى على الإطلاق. والفرق أن المودع
بأمور بالحفظ مقصودا فبقي الأمر بالحفظ بعد
العود إلى الوفاق فحصل الرد إلى يد نائب
المالك، وفي الإجارة والعارية يصير الحفظ
مأمورا به تبعا للاستعمال لا مقصودا، فإذا
انقطع الاستعمال لم يبق هو نائبا فلا يبرأ
بالعود وهذا أصح.
قال:
"ومن اكترى حمارا بسرج فنزع السرج وأسرجه بسرج
يسرج بمثله الحمر فلا ضمان عليه"؛
لأنه إذا كان يماثل الأول تناوله إذن المالك،
إذ لا فائدة في التقييد بغيره إلا إذا كان
زائدا عليه في الوزن فحينئذ يضمن الزيادة
"وإن كان لا يسرج بمثله الحمر ضمن"؛
لأنه لم يتناوله الإذن من جهته فصار مخالفا
"وإن أوكفه بإكاف لا يوكف بمثله الحمر
يضمن" لما قلنا في السرج،
وهذا أولى
"وإن أوكفه بإكاف يوكف بمثله الحمر يضمن عند
أبي حنيفة، وقالا: يضمن بحسابه"؛
لأنه إذا كان يوكف بمثله الحمر كان
هو والسرج
ج / 3 ص -236-
سواء
فيكون المالك راضيا به، إلا إذا كان زائدا على
السرج في الوزن فيضمن الزيادة؛ لأنه لم يرض
بالزيادة فصار كالزيادة في الحمل المسمى إذا
كان من جنسه. ولأبي حنيفة رحمه الله أن الإكاف
ليس من جنس السرج؛ لأنه للحمل، والسرج للركوب،
وكذا ينبسط أحدهما على ظهر الدابة ما لا ينبسط
عليه الآخر فكان مخالفا كما إذا حمل الحديد
وقد شرط له الحنطة.
قال:
"وإن استأجر حمالا ليحمل له طعاما في طريق كذا
فأخذ في طريق غيره يسلكه الناس فهلك المتاع
فلا ضمان عليه، وإن بلغ فله الأجر"
وهذا إذا لم يكن بين الطريقين تفاوت؛ لأن عند
ذلك التقييد غير مفيد، أما إذا كان تفاوت يضمن
لصحة التقييد فإن التقييد مفيد إلا أن الظاهر
عدم التفاوت إذا كان طريقا يسلكه الناس فلم
يفصل
"وإن كان طريقا لا يسلكه الناس فهلك ضمن"؛
لأنه صح التقييد فصار مخالفا
"وإن بلغ فله الأجر"؛ لأنه
ارتفع الخلاف معنى، وإن بقي صورة.
قال:
"وإن حمله في البحر فيما يحمله الناس في البر
ضمن" لفحش التفاوت بين البر
والبحر
"وإن بلغ فله الأجر" لحصول
المقصود وارتفاع الخلاف معنى.
قال:
"ومن استأجر أرضا؛ ليزرعها حنطة فزرعها رطبة
ضمن ما نقصها" لأن الرطاب أضر
بالأرض من الحنطة لانتشار عروقها فيها وكثرة
الحاجة إلى سقيها فكان خلافا إلى شر فيضمن ما
نقصها
"ولا أجر له"؛ لأنه غاصب
للأرض على ما قررناه. قال:
"ومن دفع إلى خياط ثوبا ليخيطه قميصا بدرهم
فخاطه قباء، فإن شاء ضمنه قيمة الثوب، وإن شاء
أخذ القباء وأعطاه أجر مثله لا يجاوز به
درهما" قيل: معناه القرطف
الذي هو ذو طاق واحد؛ لأنه يستعمل استعمال
القميص، وقيل هو مجرى على إطلاقه؛ لأنهما
يتقاربان في المنفعة. وعن أبي حنيفة أنه يضمنه
من غير خيار؛ لأن القباء خلاف جنس القميص.
ووجه الظاهر أنه قميص من وجه؛ لأنه يشد وسطه،
فمن هذا الوجه يكون مخالفا؛ لأن القميص لا يشد
وينتفع به انتفاع القميص فجاءت الموافقة
والمخالفة فيميل إلى أي الجهتين شاء، إلا أنه
يجب أجر المثل لقصور جهة الموافقة، ولا يجاوز
به الدرهم المسمى كما هو الحكم في سائر
الإجارات الفاسدة على ما نبينه في بابه إن شاء
الله تعالى. ولو خاطه سراويل وقد أمر بالقباء
قيل يضمن من غير خيار للتفاوت في المنفعة،
والأصح أنه يخير للاتحاد في أصل المنفعة، وصار
كما إذا أمر بضرب طست من شبة فضرب منه كوزا،
فإنه يخير كذا هذا، والله أعلم.
ج / 3 ص -237-
باب الإجارة الفاسدة
قال:
"الإجارة تفسدها الشروط كما تفسد البيع"؛
لأنه بمنزلته، ألا ترى أنه عقد يقال ويفسخ
"والواجب في الإجارة الفاسدة أجر المثل لا
يجاوز به المسمى" وقال زفر
والشافعي: يجب بالغا ما بلغ اعتبارا ببيع
الأعيان. ولنا أن المنافع لا تتقوم بنفسها بل
بالعقد لحاجة الناس فيكتفى بالضرورة في الصحيح
منها، إلا أن الفاسد تبع له، ويعتبر ما يجعل
بدلا في الصحيح عادة، لكنهما إذا اتفقا على
مقدار في الفاسد فقد أسقطا الزيادة، وإذا نقص
أجر المثل لم يجب زيادة المسمى لفساد التسمية،
بخلاف البيع؛ لأن العين متقومة في نفسها وهي
الموجب الأصلي، فإن صحت التسمية انتقل عنه
وإلا فلا.
قال:
"ومن استأجر دارا كل شهر بدرهم فالعقد صحيح في
شهر واحد فاسد في بقية الشهور، إلا أن يسمي
جملة شهور معلومة"؛ لأن الأصل
أن كلمة كل إذا دخلت فيما لا نهاية له تنصرف
إلى الواحد لتعذر العمل بالعموم فكان الشهر
الواحد معلوما فصح العقد فيه، وإذا تم كان لكل
واحد منهما أن ينقض الإجارة لانتهاء العقد
الصحيح
"ولو سمى جملة شهور معلومة جاز"؛
لأن المدة صارت معلومة.
قال:
"وإن سكن ساعة من الشهر الثاني صح العقد فيه
ولم يكن للمؤجر أن يخرجه إلى أن ينقضي، وكذلك
كل شهر سكن في أوله ساعة"؛
لأنه تم العقد بتراضيهما بالسكنى في الشهر
الثاني، إلا أن الذي ذكره في الكتاب هو
القياس، وقد مال إليه بعض المشايخ، وظاهر
الرواية أن يبقى الخيار لكل واحد منهما في
الليلة الأولى من الشهر الثاني ويومها؛ لأن في
اعتبار الأول بعض الحرج.
قال:
"وإن استأجر دارا سنة بعشرة دراهم جاز وإن لم
يبين قسط كل شهر من الأجرة"؛
لأن المدة معلومة بدون التقسيم فصار كإجارة
شهر واحد فإنه جائز وإن لم يبين قسط كل يوم،
ثم يعتبر ابتداء المدة مما سمى وإن لم يسم
شيئا فهو من الوقت الذي استأجره؛ لأن الأوقات
كلها في حق الإجارة على السواء فأشبه اليمين،
بخلاف الصوم؛ لأن الليالي ليست بمحل له
"ثم إن كان العقد حين يهل الهلال فشهور السنة
كلها بالأهلة"؛ لأنها هي
الأصل
"وإن كان في أثناء الشهر فالكل بالأيام"
عند أبي حنيفة وهو رواية عن أبي يوسف. وعند
محمد وهو رواية عن أبي يوسف الأول بالأيام
والباقي بالأهلة؛ لأن الأيام يصار إليها
ضرورة، والضرورة في الأول منها. وله أنه متى
تم الأول بالأيام ابتدأ الثاني بالأيام ضرورة
وهكذا إلى آخر السنة، ونظيره العدة وقد مر في
الطلاق.
ج / 3 ص -238-
قال:
"ويجوز أخذ أجرة الحمام والحجام"
أما الحمام فلتعارف الناس ولم تعتبر الجهالة
لإجماع المسلمين. قال عليه الصلاة والسلام:
"ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن" وأما الحجام فلما روي
"أنه صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحجام
الأجرة" ولأنه استئجار على عمل معلوم بأجر معلوم فيقع جائزا.
قال:
"ولا يجوز أخذ أجرة عسب التيس"
وهو أن يؤجر فحلا لينزو على الإناث لقوله عليه
الصلاة والسلام:
"إن من السحت عسب التيس"
والمراد أخذ الأجرة عليه.
قال:
"ولا
الاستئجار على الأذان والحج، وكذا الإمامة
وتعليم القرآن والفقه" والأصل أن كل طاعة يختص بها المسلم لا يجوز الاستئجار عليه عندنا.
وعند الشافعي رحمه الله يصح في كل ما لا يتعين
على الأجير؛ لأنه استئجار على عمل معلوم غير
متعين عليه فيجوز. ولنا قوله عليه الصلاة
والسلام: "اقرءوا القرآن ولا تأكلوا به" وفي آخر ما عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عثمان بن أبي
العاص: "وإن اتخذت
مؤذنا فلا تأخذ على الأذان أجرا"
ولأن القربة متى حصلت وقعت عن العامل ولهذا
تعتبر أهليته فلا يجوز له أخذ الأجر من غيره
كما في الصوم والصلاة، ولأن التعليم مما لا
يقدر المعلم عليه إلا بمعنى من قبل المتعلم
فيكون ملتزما ما لا يقدر على تسليمه فلا يصح.
وبعض مشايخنا استحسنوا الاستئجار على تعليم
القرآن اليوم؛ لأنه ظهر التواني في الأمور
الدينية. ففي الامتناع تضييع حفظ القرآن وعليه
الفتوى.
قال:
"ولا يجوز الاستئجار على الغناء والنوح، وكذا
سائر الملاهي"؛ لأنه استئجار
على المعصية والمعصية لا تستحق بالعقد.
قال:
"ولا يجوز إجارة المشاع عند أبي حنيفة إلا من
الشريك، وقالا: إجارة المشاع جائزة"
وصورته أن يؤاجر نصيبا من داره أو نصيبه من
دار مشتركة من غير الشريك. لهما أن للمشاع
منفعة ولهذا يجب أجر المثل، والتسليم ممكن
بالتخلية أو بالتهايؤ فصار كما إذا آجر من
شريكه أو من رجلين وصار كالبيع. ولأبي حنيفة
أنه آجر ما لا يقدر على تسليمه فلا يجوز،
وهذا؛ لأن تسليم المشاع وحده لا يتصور،
والتخلية اعتبرت تسليما لوقوعه تمكينا وهو
الفعل الذي يحصل به التمكن ولا تمكن في
المشاع، بخلاف البيع لحصول التمكن فيه، وأما
التهايؤ فإنما يستحق حكما للعقد بواسطة الملك،
وحكم العقد يعقبه والقدرة على التسليم شرط
العقد وشرط الشيء يسبقه، ولا يعتبر المتراخي
سابقا، وبخلاف ما إذا آجر من شريكه فالكل يحدث
على ملكه فلا شيوع، والاختلاف في
ج / 3 ص -239-
النسبة
لا يضره، على أنه لا يصح في رواية الحسن عنه،
وبخلاف الشيوع الطارئ؛ لأن القدرة على التسليم
ليست بشرط للبقاء، وبخلاف ما إذا آجر من
رجلين؛ لأن التسليم يقع جملة ثم الشيوع بتفرق
الملك فيما بينهما طارئ.
قال:
"ويجوز استئجار الظئر بأجرة معلومة"
لقوله تعالى:
{فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [الطلاق:6] ولأن التعامل به كان جاريا على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم وقبله وأقرهم عليه. ثم قيل: إن
العقد يقع على المنافع وهي خدمتها للصبي
والقيام به واللبن يستحق على طريق التبع
بمنزلة الصبغ في الثوب. وقيل إن العقد يقع على
اللبن، والخدمة تابعة، ولهذا لو أرضعته بلبن
شاة لا تستحق الأجر. والأول أقرب إلى الفقه؛
لأن عقد الإجارة لا ينعقد على إتلاف الأعيان
مقصودا، كما إذا استأجر بقرة؛ ليشرب لبنها.
وسنبين العذر عن الإرضاع بلبن الشاة إن شاء
الله تعالى. وإذا ثبت ما ذكرنا يصح إذا كانت
الأجرة معلومة اعتبارا بالاستئجار على الخدمة.
قال:
"ويجوز بطعامها وكسوتها استحسانا عند أبي
حنيفة رحمه الله وقالا: لا يجوز"؛
لأن الأجرة مجهولة فصار كما إذا استأجرها
للخبز والطبخ. وله أن الجهالة لا تفضي إلى
المنازعة؛ لأن في العادة التوسعة على الأظآر
شفقة على الأولاد فصار كبيع قفيز من صبرة،
بخلاف الخبز والطبخ؛ لأن الجهالة فيه تفضي إلى
المنازعة
"وفي الجامع الصغير: فإن سمى الطعام دراهم
ووصف جنس الكسوة وأجلها وذرعها فهو جائز"
يعني بالإجماع. ومعنى تسمية الطعام دراهم أن
يجعل الأجرة دراهم ثم يدفع الطعام مكانه، وهذا
لا جهالة فيه
"ولو سمى الطعام وبين قدره جاز أيضا"
لما قلنا، ولا يشترط تأجيله؛ لأن أوصافها
أثمان.
"ويشترط بيان مكان الإيفاء"
عند أبي حنيفة خلافا لهما، وقد ذكرناه في
البيوع
"وفي الكسوة يشترط بيان الأجل أيضا مع بيان
القدر والجنس"؛ لأنه إنما
يصير دينا في الذمة إذا صار مبيعا، وإنما يصير
مبيعا عند الأجل كما في السلم.
قال:
"وليس للمستأجر أن يمنع زوجها من وطئها"؛
لأن الوطء حق الزوج فلا يتمكن من إبطال حقه؛
ألا ترى أن له أن يفسخ الإجارة إذا لم يعلم به
صيانة لحقه، إلا أن المستأجر يمنعه عن غشيانها
في منزله؛ لأن المنزل حقه
"فإن حبلت كان لهم أن يفسخوا الإجارة إذا
خافوا على الصبي من لبنها"؛
لأن لبن الحامل يفسد الصبي ولهذا كان لهم
الفسخ إذا مرضت أيضا
"وعليها أن تصلح طعام الصبي"؛
لأن العمل عليها. والحاصل أنه يعتبر فيما لا
نص عليه العرف في مثل هذا الباب، فما جرى به
العرف من غسل ثياب الصبي وإصلاح الطعام وغير
ذلك فهو على الظئر أما الطعام فعلى والد
الولد، وما ذكر محمد رحمه الله أن الدهن
ج / 3 ص -240-
والريحان على الظئر فذلك من عادة أهل الكوفة.
"وإن أرضعته في المدة بلبن شاة فلا أجر لها"؛
لأنها لم تأت بعمل مستحق عليها، وهو الإرضاع،
فإن هذا إيجار وليس بإرضاع، وإنما لم يجب
الأجر لهذا المعنى أنه اختلف العمل.
قال:
"ومن دفع إلى حائك غزلا لينسجه بالنصف فله أجر
مثله. وكذا إذا استأجر حمارا يحمل طعاما بقفيز
منه فالإجارة فاسدة"؛ لأنه
جعل الأجر بعض ما يخرج من عمله فيصير في معنى
قفيز الطحان، وقد نهى النبي صلى الله عليه
وسلم عنه، وهو أن يستأجر ثورا ليطحن له حنطة
بقفيز من دقيقه. وهذا أصل كبير يعرف به فساد
كثير من الإجارات، لا سيما في ديارنا، والمعنى
فيه أن المستأجر عاجز عن تسليم الأجر وهو بعض
المنسوج أو المحمول. إذ حصوله بفعل الأجير فلا
يعد هو قادرا بقدرة غيره، وهذا بخلاف ما إذا
استأجره ليحمل نصف طعامه بالنصف الآخر حيث لا
يجب له الأجر؛ لأن المستأجر ملك الأجير في
الحال بالتعجيل فصار مشتركا بينهما. ومن
استأجر رجلا لحمل طعام مشترك بينهما لا يجب
الأجر لأن ما من جزء يحمله إلا وهو عامل لنفسه
فيه فلا يتحقق تسليم المعقود عليه. قال:
"ولا يجاوز بالأجر قفيزا"؛
لأنه لما فسدت الإجارة فالواجب الأقل ما سمى
ومن أجر المثل؛ لأنه رضي بحط الزيادة، وهذا
بخلاف ما إذا اشتركا في الاحتطاب حيث يجب
الأجر بالغا ما بلغ عند محمد؛ لأن المسمى هناك
غير معلوم فلم يصح الحط.
قال:
"ومن استأجر رجلا ليخبز له هذه العشرة
المخاتيم من الدقيق اليوم بدرهم فهو فاسد،
وهذا عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد في
الإجارات: هو جائز"؛ لأنه
يجعل المعقود عليه عملا ويجعل ذكر الوقت
للاستعجال تصحيحا للعقد فترتفع الجهالة. وله
أن المعقود عليه مجهول لأن ذكر الوقت يوجب كون
المنفعة معقودا عليها وذكر العمل يوجب كونه
معقودا عليه ولا ترجيح، ونفع المستأجر في
الثاني ونفع الأجير في الأول فيفضي إلى
المنازعة. وعن أبي حنيفة أنه يصح الإجارة إذا
قال: في اليوم، وقد سمى عملا؛ لأنه للظرف فكان
المعقود عليه العمل، بخلاف قوله اليوم وقد مر
مثله في الطلاق.
قال:
"ومن استأجر أرضا على أن يكربها ويزرعها أو
يسقيها ويزرعها فهو جائز"؛
لأن الزراعة مستحقة بالعقد، ولا تتأتى الزراعة
إلا بالسقي والكراب. فكان كل واحد منهما
مستحقا. وكل شرط هذه صفته يكون من مقتضيات
العقد فذكره لا يوجب الفساد
"فإن اشترط أن يثنيها أو يكري أنهارها أو
يسرقنها فهو فاسد"؛ لأنه يبقى
أثره بعد انقضاء المدة، وأنه ليس من مقتضيات
العقد، وفيه منفعة لأحد المتعاقدين. وما هذا
حاله يوجب الفساد؛ لأن مؤجر
ج / 3 ص -241-
الأرض
يصير مستأجرا منافع الأجير على وجه يبقى بعد
المدة فيصير صفقتان في صفقة واحدة وهي منهي
عنه. ثم قيل: المراد بالتثنية أن يردها مكروبة
ولا شبهة في فساده. وقيل أن يكريها مرتين،
وهذا في موضع تخرج الأرض الريع بالكراب مرة
واحدة والمدة سنة واحدة، وإن كانت ثلاث سنين
لا تبقى منفعته، وليس المراد بكري الأنهار
الجداول بل المراد منها الأنهار العظام هو
الصحيح؛ لأنه تبقى منفعته في العام القابل.
قال:
"وإن استأجرها ليزرعها بزراعة أرض أخرى فلا
خير فيه" وقال الشافعي: هو
جائز، وعلى هذا إجارة السكنى بالسكنى واللبس
باللبس والركوب بالركوب. أن المنافع بمنزلة
الأعيان حتى جازت الإجارة بأجرة دين ولا يصير
دينا بدين، ولنا أن الجنس بانفراده يحرم
النساء عندنا فصار كبيع القوهي بالقوهي نسيئة
وإلى هذا أشار محمد، ولأن الإجارة جوزت بخلاف
القياس للحاجة ولا حاجة عند اتحاد الجنس،
بخلاف ما إذا اختلف جنس المنفعة.
قال:
"وإذا كان الطعام بين رجلين فاستأجر أحدهما
صاحبه أو حمار صاحبه على أن يحمل نصيبه فحمل
الطعام كله فلا أجر له" وقال
الشافعي: له المسمى؛ لأن المنفعة عين عنده
وبيع العين شائعا جائز، وصار كما إذا استأجر
دارا مشتركة بينه وبين غيره ليضع فيها الطعام
أو عبدا مشتركا ليخيط له الثياب ولنا أنه
استأجره لعمل لا وجود له؛ لأن الحمل فعل حسي
لا يتصور في الشائع، بخلاف البيع؛ لأنه تصرف
حكمي، وإذا لم يتصور تسليم المعقود عليه لا
يجب الأجر، ولأن ما من جزء يحمله إلا وهو شريك
فيه فيكون عاملا لنفسه فلا يتحقق التسليم،
بخلاف الدار المشتركة؛ لأن المعقود عليه هنالك
المنافع ويتحقق تسليمها بدون وضع الطعام،
وبخلاف العبد؛ لأن المعقود عليه إنما هو ملك
نصيب صاحبه وأنه أمر حكمي يمكن إيقاعه في
الشائع.
"ومن استأجر أرضا ولم يذكر أنه يزرعها أو أي
شيء يزرعها فالإجارة فاسدة"؛
لأن الأرض تستأجر للزراعة ولغيرها، وكذا ما
يزرع فيها مختلف، فمنه ما يضر بالأرض ما لا
يضر بها غيره، فلم يكن المعقود عليه معلوما.
"فإن زرعها ومضى الأجل فله المسمى"
وهذا استحسان. وفي القياس: لا يجوز وهو قول
زفر؛ لأنه وقع فاسدا فلا ينقلب جائزا. وجه
الاستحسان أن الجهالة ارتفعت قبل تمام العقد
فينقلب جائزا، كما إذا ارتفعت في حالة العقد،
وصار كما إذا أسقط الأجل المجهول قبل مضيه
والخيار الزائد في المدة.
ج / 3 ص -242-
قال:
"ومن استأجر حمارا إلى بغداد بدرهم ولم يسم ما
يحمل عليه فحمل ما يحمل الناس فنفق في نصف
الطريق فلا ضمان عليه"؛ لأن
العين المستأجرة أمانة في يد المستأجر، وإن
كانت الأجرة فاسدة.
قال:
"فإن بلغ بغداد فله الأجر المسمى استحسانا"
على ما ذكرنا في المسألة الأولى.
قال:
"وإن اختصما قبل أن يحمل عليه"
وفي المسألة الأولى قبل أن يزرع
"نقضت الإجارة" دفعا للفساد
إذ الفساد قائم بعد.
باب ضمان الأجير
قال:
"الأجراء على ضربين: أجير مشترك، وأجير
خاص. فالمشترك من لا يستحق الأجرة حتى يعمل
كالصباغ والقصار"؛ لأن
المعقود عليه إذا كان هو العمل أو أثره كان له
أن يعمل للعامة؛ لأن منافعه لم تصر مستحقة
لواحد، فمن هذا الوجه يسمى مشتركا.
قال:
"والمتاع أمانة في يده إن هلك لم يضمن شيئا
عند أبي حنيفة رحمه الله وهو قول زفر، ويضمنه
عندهما إلا من شيء غالب كالحريق الغالب والعدو
المكابر" لهما ما روي عن عمر
وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يضمنان الأجير
المشترك؛ ولأن الحفظ مستحق عليه إذ لا يمكنه
العمل إلا به، فإذا هلك بسبب يمكن الاحتراز
عنه كالغصب والسرقة كان التقصير من جهته
فيضمنه كالوديعة إذا كانت بأجر، بخلاف ما لا
يمكن الاحتراز عنه كالموت حتف أنفه والحريق
الغالب وغيره؛ لأنه لا تقصير من جهته. ولأبي
حنيفة رحمه الله أن العين أمانة في يده؛ لأن
القبض حصل بإذنه، ولهذا لو هلك بسبب لا يمكن
التحرز عنه لم يضمنه، ولو كان مضمونا لضمنه
كما في المغصوب، والحفظ مستحق عليه تبعا لا
مقصودا ولهذا لا يقابله الأجر، بخلاف المودع
بأجر؛ لأن الحفظ مستحق عليه مقصودا حتى يقابله
الأجر.
قال:
"وما تلف بعمله، فتخريق الثوب من دقه وزلق
الحمال وانقطاع الحبل الذي يشد به المكاري
الحمل وغرق السفينة من مده مضمون عليه".
وقال زفر والشافعي رحمهما الله: لا ضمان عليه؛
لأنه أمره بالفعل مطلقا فينتظمه بنوعيه المعيب
والسليم وصار كأجير الوحد ومعين القصار. ولنا
أن الداخل تحت الإذن ما هو الداخل تحت العقد
وهو العمل المصلح؛ لأنه هو الوسيلة إلى الأثر
وهو المعقود عليه حقيقة، حتى لو حصل بفعل
الغير يجب الأجر فلم يكن المفسد مأذونا فيه،
بخلاف المعين؛ لأنه متبرع فلا يمكن تقييده
بالمصلح؛ لأنه يمتنع عن التبرع، وفيما نحن فيه
يعمل بالأجر فأمكن تقييده. وبخلاف أجير الوحد
على ما نذكره
ج / 3 ص -243-
إن شاء
الله تعالى وانقطاع الحبل من قلة اهتمامه فكان
من صنيعه.
قال:
"إلا أنه لا يضمن به بني آدم ممن غرق في
السفينة أو سقط من الدابة وإن كان بسوقه
وقوده"؛ لأن الواجب ضمان
الآدمي. وأنه لا يجب بالعقد. وإنما يجب
بالجناية ولهذا يجب على العاقلة، وضمان العقود
لا تتحمله العاقلة.
قال:
"وإذا استأجر من يحمل له دنا من الفرات فوقع
في بعض الطريق فانكسر، فإن شاء ضمنه قيمته في
المكان الذي حمله ولا أجر له، وإن شاء ضمنه
قيمته في الموضع الذي انكسر وأعطاه الأجر
بحسابه" أما الضمان فلما
قلنا، والسقوط بالعثار أو بانقطاع الحبل وكل
ذلك من صنيعه، وأما الخيار فلأنه إذا انكسر في
الطريق، والحمل شيء واحد تبين أنه وقع تعديا
من الابتداء من هذا الوجه. وله وجه آخر وهو أن
ابتداء الحمل حصل بإذنه فلم يكن تعديا، وإنما
صار تعديا عند الكسر فيميل إلى أي الوجهين
شاء، وفي الوجه الثاني له الأجر بقدر ما
استوفى، وفي الوجه الأول لا أجر له؛ لأنه ما
استوفى أصلا.
قال:
"وإذا فصد الفصاد أو بزغ البزاغ ولم يتجاوز
الموضع المعتاد فلا ضمان عليه فيما عطب من
ذلك. وفي الجامع الصغير: بيطار بزغ دابة بدانق
فنفقت أو حجام حجم عبدا بأمر مولاه فمات فلا
ضمان عليه" وفي كل واحد من
العبارتين نوع بيان. ووجهه أنه لا يمكنه
التحرز عن السراية لأنه يبتنى على قوة الطباع
وضعفها في تحمل الألم فلا يمكن التقييد
بالمصلح من العمل، ولا كذلك دق الثوب ونحوه
مما قدمناه؛ لأن قوة الثوب ورقته تعرف
بالاجتهاد فأمكن القول بالتقييد.
قال:
"والأجير الخاص الذي يستحق الأجرة بتسليم نفسه
في المدة وإن لم يعمل كمن استؤجر شهرا للخدمة
أو لرعي الغنم" وإنما سمي
أجير وحد؛ لأنه لا يمكنه أن يعمل لغيره؛ لأن
منافعه في المدة صارت مستحقة له والأجر مقابل
بالمنافع، ولهذا يبقى الأجر مستحقا، وإن نقض
العمل.
قال:
"ولا ضمان على الأجير الخاص فيما تلف في يده
ولا ما تلف من عمله" أما
الأول فلأن العين أمانة في يده؛ لأنه قبض
بإذنه، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة، وكذا عندهما؛
لأن تضمين الأجير المشترك نوع استحسان عندهما
لصيانة أموال الناس، والأجير الوحد لا يتقبل
الأعمال فتكون السلامة غالبة فيؤخذ فيه
القياس، وأما الثاني فلأن المنافع متى صارت
مملوكة للمستأجر فإذا أمره بالتصرف في ملكه صح
ويصير نائبا منابه فيصير فعله منقولا إليه
كأنه فعل بنفسه فلهذا لا يضمنه، والله أعلم
بالصواب.
ج / 3 ص -244-
باب الإجارة على أحد الشرطين
قال:
"وإذا قال للخياط إن خطت هذا الثوب فارسيا
فبدرهم، وإن خطته روميا فبدرهمين جاز، وأي عمل
من هذين العملين عمل استحق الأجر به"
وكذا إذا قال للصباغ إن صبغته بعصفر فبدرهم،
وإن صبغته بزعفران فبدرهمين، وكذا إذا خيره
بين شيئين بأن قال: آجرتك هذه الدار شهرا
بخمسة أو هذه الدار الأخرى بعشرة، وكذا إذا
خيره بين مسافتين مختلفتين بأن قال: آجرتك هذه
الدابة إلى الكوفة بكذا أو إلى واسط بكذا،
وكذا إذا خيره بين ثلاثة أشياء، وإن خيره بين
أربعة أشياء لم يجز، والمعتبر في جميع ذلك
البيع والجامع دفع الحاجة، غير أنه لا بد من
اشتراط الخيار في البيع، وفي الإجارة لا يشترط
ذلك؛ لأن الأجر إنما يجب بالعمل، وعند ذلك
يصير المعقود عليه معلوما، وفي البيع يجب
الثمن بنفس العقد فتتحقق الجهالة على وجه لا
ترتفع المنازعة إلا بإثبات الخيار
"ولو قال: إن خطته اليوم فبدرهم، وإن خطته غدا
فبنصف درهم، فإن خاطه اليوم فله درهم، وإن
خاطه غدا فله أجر مثله عند أبي حنيفة لا يجاوز
به نصف درهم. وفي الجامع الصغير: لا ينقص من
نصف درهم ولا يزاد على درهم. وقال أبو يوسف
ومحمد: الشرطان جائزان".
قال زفر: الشرطان فاسدان؛ لأن الخياطة شيء
واحد، وقد ذكر بمقابلته بدلان على البدل فيكون
مجهولا، وهذا؛ لأن ذكر اليوم للتعجيل، وذكر
الغد للترفيه فيجتمع في كل يوم تسميتان. ولهما
أن ذكر اليوم للتأقيت. وذكر الغد للتعليق فلا
يجتمع في كل يوم تسميتان؛ ولأن التعجيل
والتأخير مقصود فنزل منزلة اختلاف النوعين.
ولأبي حنيفة أن ذكر الغد للتعليق حقيقة. ولا
يمكن حمل اليوم على التأقيت؛ لأن فيه فساد
العقد لاجتماع الوقت والعمل، وإذا كان كذلك
يجتمع في الغد تسميتان دون اليوم، فيصح اليوم
الأول ويجب المسمى، ويفسد الثاني ويجب أجر
المثل لا يجاوز به نصف درهم؛ لأنه هو المسمى
في اليوم الثاني. وفي الجامع الصغير لا يزاد
على درهم ولا ينقص من نصف درهم؛ لأن التسمية
الأولى لا تنعدم في اليوم الثاني فتعتبر لمنع
الزيادة وتعتبر التسمية الثانية لمنع النقصان،
فإن خاطه في اليوم الثالث لا يجاوز به نصف
درهم عند أبي حنيفة رحمه الله هو الصحيح؛ لأنه
إذا لم يرض بالتأخير إلى الغد فبالزيادة عليه
إلى ما بعد الغد أولى.
"ولو قال: إن سكنت في هذا الدكان عطارا فبدرهم
في الشهر، وإن سكنته حدادا فبدرهمين جاز، وأي
الأمرين فعل استحق الأجر المسمى فيه عند أبي
حنيفة رحمه الله. وقالا: الإجارة فاسدة، وكذا
إذا استأجر بيتا على أنه إن سكن فيه عطارا
فبدرهم وإن سكن فيه حدادا
ج / 3 ص -245-
فبدرهمين فهو جائز عند أبي حنيفة رحمه الله
وقالا: لا يجوز، ومن استأجر دابة إلى الحيرة
بدرهم وإن جاوز بها إلى القادسية فبدرهمين فهو
جائز" ويحتمل الخلاف
"وإن استأجرها إلى الحيرة على أنه إن حمل
عليها كر شعير فبنصف درهم، وإن حمل عليها كر
حنطة فبدرهم فهو جائز في قول أبي حنيفة رحمه
الله. وقالا: لا يجوز" وجه
قولهما أن المعقود عليه مجهول، وكذا الأجر أحد
الشيئين، وهو مجهول والجهالة توجب الفساد،
بخلاف الخياطة الرومية والفارسية؛ لأن الأجر
يجب بالعمل وعنده ترتفع الجهالة.
أما في هذه المسائل يجب الأجر بالتخلية
والتسليم فتبقى الجهالة، وهذا الحرف هو الأصل
عندهما. ولأبي حنيفة أنه خيره بين عقدين
صحيحين مختلفين فيصح كما في مسألة الرومية
والفارسية، وهذا؛ لأن سكناه بنفسه يخالف
إسكانه الحداد؛ ألا ترى أنه لا يدخل ذلك في
مطلق العقد وكذا في أخواتها، والإجارة تعقد
للانتفاع وعنده ترتفع الجهالة، ولو احتيج إلى
الإيجاب بمجرد التسليم يجب أقل الأجرين للتيقن
به، والله أعلم بالصواب.
باب إجارة العبد
قال:
"ومن استأجر عبدا للخدمة فليس له أن يسافر به
إلا أن يشترط ذلك"؛ لأن خدمة
السفر اشتملت على زيادة مشقة فلا ينتظمها
الإطلاق، ولهذا جعل السفر عذرا فلا بد من
اشتراطه كإسكان الحداد والقصار في الدار، ولأن
التفاوت بين الخدمتين ظاهر، فإذا تعين الخدمة
في الحضر لا يبقى غيره داخلا كما في الركوب
"ومن استأجر عبدا محجورا عليه شهرا وأعطاه
الأجر فليس للمستأجر أن يأخذ منه الأجر"
وأصله أن الإجارة صحيحة استحسانا إذا فرغ من
العمل. والقياس أن لا يجوز لانعدام إذن المولى
وقيام الحجر فصار كما إذا هلك العبد. وجه
الاستحسان أن التصرف نافع على اعتبار الفراغ
سالما ضار على اعتبار هلاك العبد، والنافع
مأذون فيه كقبول الهبة، وإذا جاز ذلك لم يكن
للمستأجر أن يأخذ منه.
"ومن غصب عبدا فآجر العبد نفسه فأخذ الغاصب
الأجر فأكله فلا ضمان عليه عند أبي حنيفة،
وقالا: هو ضامن"؛ لأنه أكل
مال المالك بغير إذنه، إذ الإجارة قد صحت على
ما مر. وله أن الضمان إنما يجب بإتلاف مال
محرز؛ لأن التقوم به، وهذا غير محرز في حق
الغاصب؛ لأن العبد لا يحرز نفسه عنه فكيف يحرز
ما في يده.
"وإن وجد المولى الأجر قائما بعينه أخذه"؛
لأنه وجد عين ماله
"ويجوز قبض العبد الأجر في قولهم جميعا"؛
لأنه مأذون له في التصرف على اعتبار الفراغ
على ما مر.
"ومن استأجر عبدا هذين الشهرين شهرا
ج / 3 ص -246-
بأربعة وشهرا بخمسة فهو جائز، والأول منهما
بأربعة"؛ لأن الشهر المذكور أولا ينصرف إلى ما يلي العقد تحريا للجواز أو
نظرا إلى تنجز الحاجة فينصرف الثاني إلى ما
يلي الأول ضرورة.
"ومن استأجر عبدا شهرا بدرهم فقبضه في أول
الشهر ثم جاء آخر الشهر، وهو آبق أو مريض فقال
المستأجر أبق أو مرض حين أخذته وقال المولى لم
يكن ذلك إلا قبل أن تأتيني بساعة فالقول قول
المستأجر، وإن جاء به، وهو صحيح فالقول قول
المؤجر"؛ لأنهما اختلفا في
أمر محتمل فيترجح بحكم الحال، إذ هو دليل على
قيامه من قبل وهو يصلح مرجحا إن لم يصلح حجة
في نفسه. أصله الاختلاف في جريان ماء الطاحونة
وانقطاعه والله سبحانه وتعالى أعلم.
باب الاختلاف في الإجارة
قال:
"وإذا اختلف الخياط ورب الثوب فقال رب الثوب
أمرتك أن تعمله قباء وقال الخياط بل قميصا أو
قال: صاحب الثوب للصباغ أمرتك أن تصبغه أحمر
فصبغته أصفر وقال الصباغ لا بل أمرتني أصفر
فالقول لصاحب الثوب"؛ لأن
الإذن يستفاد من جهته؛ ألا ترى أنه لو أنكر
أصل الإذن كان القول قوله فكذا إذا أنكر صفته،
لكن يحلف؛ لأنه أنكر شيئا لو أقر به لزمه.
قال:
"وإذا حلف فالخياط ضامن"
ومعناه ما مر من قبل أنه بالخيار إن شاء ضمنه،
وإن شاء أخذه، وأعطاه أجر مثله، وكذا يخير في
مسألة الصبغ إذا حلف إن شاء ضمنه قيمة الثوب
أبيض، وإن شاء أخذ الثوب وأعطاه أجر مثله لا
يجاوز به المسمى. وذكر في بعض النسخ: يضمنه ما
زاد الصبغ فيه؛ لأنه بمنزلة الغصب.
"وإن قال: صاحب الثوب عملته لي بغير أجر وقال
الصانع بأجر فالقول قول صاحب الثوب"
عند أبي حنيفة؛ لأنه ينكر تقوم عمله
إذ هو يتقوم بالعقد وينكر الضمان والصانع
يدعيه والقول قول المنكر
"وقال أبو يوسف: إن كان الرجل حريفا له"
أي خليطا له
"فله الأجر وإلا فلا"؛ لأن
سبق ما بينهما يعين جهة الطلب بأجر جريا على
معتادهما
"وقال محمد: إن كان الصانع معروفا بهذه الصنعة
بالأجر فالقول قوله"؛ لأنه
لما فتح الحانوت لأجله جرى ذلك مجرى التنصيص
على الأجر اعتبارا للظاهر، والقياس ما قاله
أبو حنيفة؛ لأنه منكر. والجواب عن استحسانهما
أن الظاهر للدفع، والحاجة هاهنا إلى الاستحقاق
والله أعلم.
باب فسخ الإجارة
قال:
"ومن استأجر دارا فوجد بها عيبا يضر بالسكنى
فله الفسخ"؛ لأن المعقود عليه
ج / 3 ص -247-
المنافع، وأنها توجد شيئا فشيئا فكان هذا عيبا
حادثا قبل القبض فيوجب الخيار كما في البيع،
ثم المستأجر إذا استوفى المنفعة فقد رضي
بالعيب فيلزمه جميع البدل كما في البيع، وإن
فعل المؤجر ما أزال به العيب فلا خيار
للمستأجر لزوال سببه.
قال:
"وإذا خربت الدار أو انقطع شرب الضيعة أو
انقطع الماء عن الرحى انفسخت الإجارة"؛
لأن المعقود عليه قد فات، وهي المنافع
المخصوصة قبل القبض فشابه فوت المبيع قبل
القبض وموت العبد المستأجر. ومن أصحابنا من
قال: إن العقد لا ينفسخ؛ لأن المنافع قد فاتت
على وجه يتصور عودها فأشبه الإباق في البيع
قبل القبض. وعن محمد أن الآجر لو بناها ليس
للمستأجر أن يمتنع ولا للآجر، وهذا تنصيص منه
على أنه لم ينفسخ لكنه يفسخ.
"ولو انقطع ماء الرحى، والبيت مما ينتفع به
لغير الطحن فعليه عن الأجر بحصته"؛
لأنه جزء من المعقود عليه.
قال:
"وإذا مات أحد المتعاقدين وقد عقد الإجارة
لنفسه انفسخت"؛ لأنه لو بقي
العقد تصير المنفعة المملوكة به أو الأجرة
المملوكة لغير العاقد مستحقة بالعقد؛ لأنه
ينتقل بالموت إلى الوارث وذلك لا يجوز
"وإن عقدها لغيره لم تنفسخ"
مثل الوكيل والوصي والمتولي في الوقف لانعدام
ما أشرنا إليه من المعنى.
قال:
"ويصح شرط الخيار في الإجارة"
وقال الشافعي رحمه الله: لا يصح؛ لأن المستأجر
لا يمكنه رد المعقود عليه بكماله لو كان
الخيار له لفوات بعضه، ولو كان للمؤجر فلا
يمكنه التسليم أيضا على الكمال، وكل ذلك يمنع
الخيار. ولنا أنه عقد معاملة لا يستحق القبض
فيه في المجلس فجاز اشتراط الخيار فيه كالبيع
والجامع بينهما دفع الحاجة، وفوات بعض المعقود
عليه في الإجارة لا يمنع الرد بخيار العيب،
فكذا بخيار الشرط، بخلاف البيع، وهذا؛ لأن رد
الكل ممكن في البيع دون الإجارة فيشترط فيه
دونها ولهذا يجبر المستأجر على القبض إذا سلم
المؤجر بعد مضي بعض المدة.
قال:
"وتفسخ الإجارة بالأعذار"
عندنا. وقال الشافعي رحمه الله: لا تفسخ إلا
بالعيب؛ لأن المنافع عنده بمنزلة الأعيان حتى
يجوز العقد عليها فأشبه البيع. ولنا أن
المنافع غير مقبوضة وهي المعقود عليها فصار
العذر في الإجارة كالعيب قبل القبض في البيع
فتنفسخ به، إذ المعنى يجمعهما وهو عجز العاقد
عن المضي في موجبه إلا بتحمل ضرر زائد لم
يستحق به، وهذا هو معنى العذر عندنا
"وهو كمن استأجر حدادا ليقلع ضرسه لوجع به
فسكن الوجع أو استأجر طباخا ليطبخ له طعام
الوليمة فاختلعت منه تفسخ الإجارة"؛
لأن في المضي عليه
ج / 3 ص -248-
إلزام
ضرر زائد لم يستحق بالعقد
"وكذا من استأجر دكانا في السوق ليتجر فيه
فذهب ماله، وكذا من أجر دكانا أو دارا ثم
أفلس، ولزمته ديون لا يقدر على قضائها إلا
بثمن ما أجر فسخ القاضي العقد وباعها في
الديون"؛ لأن في الجري على
موجب العقد إلزام ضرر زائد لم يستحق بالعقد
وهو الحبس؛ لأنه قد لا يصدق على عدم مال آخر.
ثم قوله فسخ القاضي العقد إشارة إلى أنه يفتقر
إلى قضاء القاضي في النقض، وهكذا ذكر في
الزيادات في عذر الدين، وقال في الجامع
الصغير: وكل ما ذكرنا أنه عذر فإن الإجارة فيه
تنتقض، وهذا يدل على أنه لا يحتاج فيه إلى
قضاء القاضي. ووجهه أن هذا بمنزلة العيب قبل
القبض في المبيع على ما مر فينفرد العاقد
بالفسخ. ووجه الأول أنه فصل مجتهد فيه فلا بد
من إلزام القاضي، ومنهم من وفق فقال: إذا كان
العذر ظاهرا لا يحتاج إلى القضاء لظهور العذر،
وإن كان غير ظاهر كالدين يحتاج إلى القضاء
لظهور العذر.
"ومن استأجر دابة ليسافر عليها ثم بدا له من
السفر فهو عذر"؛ لأنه لو مضى
على موجب العقد يلزمه ضرر زائد؛ لأنه ربما
يذهب للحج فذهب وقته أو لطلب غريمه فحضر أو
للتجارة فافتقر
"وإن بدا للمكاري فليس ذلك بعذر"؛
لأنه يمكنه أن يقعد ويبعث الدواب على يد
تلميذه أو أجيره
"ولو مرض المؤاجر فقعد فكذا الجواب"
على رواية الأصل. وروى الكرخي عن أبي حنيفة
أنه عذر؛ لأنه لا يعرى عن ضرر فيدفع عنه عند
الضرورة دون الاختيار
"ومن آجر عبده ثم باعه فليس بعذر"؛
لأنه لا يلزمه الضرر بالمضي على موجب عقد،
وإنما يفوته الاسترباح وأنه أمر زائد.
قال:
"وإذا استأجر الخياط غلاما فأفلس وترك العمل
فهو العذر"؛ لأنه يلزمه الضرر
بالمضي على موجب العقد لفوات مقصوده وهو رأس
ماله، وتأويل المسألة خياط يعمل لنفسه، أما
الذي يخيط بأجر فرأس ماله الخيط والمخيط
والمقراض فلا يتحقق الإفلاس فيه.
"وإن أراد ترك الخياطة، وأن يعمل في الصرف
فليس بعذر"؛ لأنه يمكنه أن
يقعد الغلام للخياطة في ناحية، وهو يعمل في
الصرف في ناحية، وهذا بخلاف ما إذا استأجر
دكانا للخياطة فأراد أن يتركها ويشتغل بعمل
آخر حيث جعله عذرا ذكره في الأصل؛ لأن الواحد
لا يمكنه الجمع بين العملين، أما هاهنا العامل
شخصان فأمكنهما.
"ومن استأجر غلاما يخدمه في المصر ثم سافر فهو
عذر"؛ لأنه لا يعرى عن إلزام
ضرر زائد؛ لأن خدمة السفر أشق، وفي المنع من
السفر ضرر، وكل ذلك لم يستحق بالعقد فيكون
عذرا
"وكذا إذا أطلق" لما مر أنه
يتقيد بالحضر، بخلاف ما إذا آجر عقارا ثم
سافر؛ لأنه لا ضرر إذ المستأجر يمكنه استيفاء
المنفعة من المعقود عليه بعد غيبته، حتى لو
أراد
ج / 3 ص -249-
المستأجر السفر فهو عذر لما فيه من المنع من
السفر أو إلزام الأجر بدون السكنى وذلك ضرر.
مسائل منثورة
قال:
"ومن استأجر أرضا أو استعارها فأحرق الحصائد
فاحترق شيء من أرض أخرى فلا ضمان عليه"؛
لأنه غير متعد في هذا التسبيب فأشبه حافر
البئر في دار نفسه. وقيل هذا إذا كانت الرياح
هادئة ثم تغيرت، أما إذا كانت مضطربة يضمن؛
لأن موقد النار يعلم أنها لا تستقر في أرضه.
قال:
"وإذا أقعد الخياط أو الصباغ في حانوته من
يطرح عليه العمل بالنصف فهو جائز"
لأن هذه شركة الوجوه في الحقيقة، فهذا بوجاهته
يقبل وهذا بحذاقته يعمل فينتظم بذلك المصلحة
فلا تضره الجهالة فيما يحصل.
قال:
"ومن استأجر جملا ليحمل عليه محملا وراكبين
إلى مكة جاز وله المحمل المعتاد"
وفي القياس لا يجوز؛ وهو قول الشافعي للجهالة
وقد يفضي ذلك إلى المنازعة. وجه الاستحسان أن
المقصود هو الراكب وهو معلوم والمحمل تابع،
وما فيه من الجهالة يرتفع بالصرف إلى المتعارف
فلا يفضي ذلك إلى المنازعة وكذا إذا لم ير
الوطاء والدثر.
قال:
"وإن شاهد الجمال الحمل فهو أجود"؛
لأنه أنفى للجهالة وأقرب إلى تحقق الرضا.
قال:
"وإن استأجر بعيرا ليحمل عليه مقدارا من الزاد
فأكل منه في الطريق جاز له أن يرد عوض ما
أكل"؛ لأنه استحق عليه حملا
مسمى في جميع الطريق فله أن يستوفيه
"وكذا غير الزاد من المكيل والموزون"
ورد الزاد معتاد عند البعض كرد الماء فلا مانع
من العمل بالإطلاق والله أعلم. |