الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 3 ص -272-
كتاب الاكراه
قال:
"الإكراه يثبت حكمه إذا حصل ممن يقدر على
إيقاع ما توعد به سلطانا كان أو لصا"
لأن الإكراه اسم لفعل يفعله المرء بغيره
فينتفي به رضاه أو يفسد به اختياره مع بقاء
أهليته، وهذا إنما يتحقق إذا خاف المكره تحقيق
ما توعد به، وذلك إنما يكون من القادر
والسلطان وغيره سيان عند تحقق القدرة، والذي
قاله أبو حنيفة إن الإكراه لا يتحقق إلا من
السلطان لما أن المنعة له والقدرة لا تتحقق
بدون المنعة. فقد قالوا هذا اختلاف عصر وزمان
لا اختلاف حجة وبرهان، ولم تكن القدرة في زمنه
إلا للسلطان، ثم بعد ذلك تغير الزمان وأهله،
ثم كما تشترط قدرة المكره لتحقق الإكراه يشترط
خوف المكره وقوع ما يهدد به، وذلك بأن يغلب
على ظنه أنه يفعله ليصير به محمولا على ما دعي
إليه من الفعل.
قال:
"وإذا أكره الرجل على بيع ما له أو على شراء
سلعة أو على أن يقر لرجل بألف أو يؤاجر داره
فأكره على ذلك بالقتل أو بالضرب الشديد أو
بالحبس فباع أو اشترى فهو بالخيار إن شاء أمضى
البيع وإن شاء فسخه ورجع بالمبيع"
لأن من شرط صحة هذه العقود التراضي، قال الله
تعالى:
{إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء:29] والإكراه بهذه الأشياء يعدم الرضا فيفسد، بخلاف ما إذا
أكره بضرب سوط أو حبس يوم أو قيد يوم لأنه لا
يبالي به بالنظر إلى العادة فلا يتحقق به
الإكراه إلا إذا كان الرجل صاحب منصب يعلم أنه
يستضر به لفوات الرضا، وكذا الإقرار حجة لترجح
جنبة الصدق فيه على جنبة الكذب، وعند الإكراه
يحتمل أنه يكذب لدفع المضرة، ثم إذا باع مكرها
وسلم مكرها يثبت به الملك عندنا، وعند زفر لا
يثبت لأنه بيع موقوف على الإجازة؛ ألا ترى أنه
لو أجاز جاز والموقوف قبل الإجازة لا يفيد
الملك، ولنا أن ركن البيع صدر من أهله مضافا
إلى محله والفساد لفقد شرطه وهو التراضي فصار
كسائر الشروط المفسدة فيثبت الملك عند القبض،
حتى لو قبضه وأعتقه أو تصرف فيه تصرفا لا يمكن
نقضه جاز، ويلزمه القيمة كما في سائر البياعات
الفاسدة وبإجازة المالك يرتفع المفسد وهو
الإكراه وعدم الرضا فيجوز إلا أنه لا ينقطع به
حق استرداد البائع وإن تداولته الأيدي ولم يرض
البائع بذلك بخلاف سائر البياعات الفاسدة لأن
الفساد فيها لحق الشرع وقد تعلق بالبيع الثاني
حق
ج / 3 ص -273-
العبد
وحقه مقدم لحاجته، أما هاهنا الرد لحق العبد
وهما سواء فلا يبطل حق الأول لحق الثاني.
قال رضي الله تعالى عنه: ومن جعل البيع الجائز
المعتاد بيعا فاسدا يجعله كبيع المكره حتى
ينقض بيع المشتري من غيره، لأن الفساد لفوات
الرضا، ومنهم من جعله رهنا لقصد المتعاقدين،
ومنهم من جعله باطلا اعتبارا بالهازل ومشايخ
سمرقند رحمهم الله جعلوه بيعا جائزا مفيدا بعض
الأحكام على ما هو المعتاد للحاجة إليه
قال:
"فإن كان قبض الثمن طوعا فقد أجاز البيع"
لأنه دليل الإجازة كما في البيع الموقوف وكذا
إذا سلم طائعا، بأن كان الإكراه على البيع لا
على الدفع لأنه دليل الإجازة، بخلاف ما إذا
أكرهه على الهبة ولم يذكر الدفع فوهب ودفع حيث
يكون باطلا، لأن مقصود المكره الاستحقاق لا
مجرد اللفظ، وذلك في الهبة بالدفع وفي البيع
بالعقد على ما هو الأصل، فدخل الدفع في
الإكراه على الهبة دون البيع.
قال:
"وإن قبضه مكرها فليس ذلك بإجازة وعليه رده إن
كان قائما في يده" لفساد
العقد.
قال:
"وإن هلك المبيع في يد المشتري وهو غير مكره
ضمن قيمته للبائع" معناه
والبائع مكره لأنه مضمون عليه بحكم عقد فاسد
"وللمكره أن يضمن المكره إن شاء"
لأنه آلة له فيما يرجع إلى الإتلاف، فكأنه دفع
مال البائع إلى المشتري فيضمن أيهما شاء
كالغاصب وغاصب الغاصب، فلو ضمن المكره رجع على
المشتري بالقيمة لقيامه مقام البائع، وإن ضمن
المشتري نفذ كل شراء كان بعد شرائه لو تناسخته
العقود لأنه ملكه بالضمان فظهر أنه باع ملكه،
ولا ينفذ ما كان له قبله لأن الاستناد إلى وقت
قبضه، بخلاف ما إذا أجاز المالك المكره عقدا
منها حيث يجوز ما قبله وما بعده لأنه أسقط حقه
وهو المانع فعاد الكل إلى الجواز، والله أعلم.
فصل: "وإن أكره على أن يأكل الميتة أو يشرب
الخمر، إن أكره على ذلك بحبس أو ضرب أو قيد لم
يحل له إلا أن يكره بما يخاف منه على نفسه أو
على عضو من أعضائه، فإذا خاف على ذلك وسعه أن
يقدم على ما أكره عليه"
وكذا على
هذا الدم ولحم الخنزير، لأن تناول هذه
المحرمات إنما يباح عند الضرورة كما في
المخمصة لقيام المحرم فيما وراءها، ولا ضرورة
إلا إذا خاف على النفس أو على العضو، حتى لو
خيف على ذلك بالضرب
ج / 3 ص -274-
الشديد، وغلب على ظنه يباح له ذلك
"ولا يسعه أن يصبر على ما توعد به، فإن صبر
حتى أوقعوا به ولم يأكل فهو آثم"
لأنه لما أبيح كان بالامتناع عنه معاونا لغيره
على هلاك نفسه فيأثم كما في حالة المخمصة. وعن
أبي يوسف أنه لا يأثم لأنه رخصة إذ الحرمة
قائمة فكان آخذا بالعزيمة.
قلنا: حالة الاضطرار مستثناة بالنص وهو تكلم
بالحاصل بعد الثنيا فلا محرم فكان إباحة لا
رخصة إلا أنه إنما يأثم إذا علم بالإباحة في
هذه الحالة، لأن في انكشاف الحرمة خفاء فيعذر
بالجهل فيه كالجهل بالخطاب في أول الإسلام أو
في دار الحرب.
قال:
"وإن أكره على الكفر بالله تعالى والعياذ
بالله أو سب رسول الله صلى الله عليه وسلم
بقيد أو حبس أو ضرب لم يكن ذلك إكراها حتى
يكره بأمر يخاف منه على نفسه أو على عضو من
أعضائه" لأن الإكراه بهذه
الأشياء ليس بإكراه في شرب الخمر لما مر، ففي
الكفر وحرمته أشد أولى وأحرى.
قال:
"وإذا خاف على ذلك وسعه أن يظهر ما أمروه به
ويوري، فإن أظهر ذلك وقلبه مطمئن بالإيمان فلا
إثم عليه" لحديث عمار بن ياسر
رضي الله عنه حيث ابتلي به، وقد قال له النبي
عليه الصلاة والسلام:
"كيف وجدت قلبك؟"
قال:
مطمئنا بالإيمان، فقال عليه الصلاة والسلام:
"فإن عادوا فعد"، وفيه نزل
قوله تعالى:
{إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَانِ} [النحل:106]. ولأن بهذا الإظهار لا يفوت الإيمان حقيقة لقيام
التصديق، وفي الامتناع فوت النفس حقيقة فيسعه
الميل إليه.
قال:
"فإن صبر حتى قتل ولم يظهر الكفر كان مأجورا"
لأن خبيبا رضي الله عنه صبر على ذلك حتى صلب
وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيد
الشهداء، وقال في مثله "هو رفيقي في الجنة" ولأن الحرمة باقية، والامتناع لإعزاز الدين عزيمة، بخلاف ما تقدم
للاستثناء.
قال:
"وإن أكره على إتلاف مال مسلم بأمر يخاف على
نفسه أو على عضو من أعضائه وسعه أن يفعل ذلك"
لأن مال الغير يستباح للضرورة كما في حالة
المخمصة وقد تحققت
"ولصاحب المال أن يضمن المكره"
لأن المكره آلة للمكره فيما يصلح آلة له
والإتلاف من هذا القبيل
"وإن أكرهه بقتله على قتل غيره لم يسعه أن
يقدم عليه ويصبر حتى يقتل، فإن قتله كان آثما"
لأن قتل المسلم مما لا يستباح لضرورة ما فكذا
بهذه الضرورة.
قال:
"والقصاص على المكره إن كان القتل عمدا"
قال رضي الله عنه: وهذا عند أبي حنيفة ومحمد،
وقال زفر: يجب على المكره. وقال
ج / 3 ص -275-
أبو
يوسف: لا يجب عليهما. وقال الشافعي: يجب
عليهما. لزفر أن الفعل من المكره حقيقة وحسا،
وقرر الشرع حكمه عليه وهو الإثم، بخلاف
الإكراه على إتلاف مال الغير لأنه سقط حكمه
وهو الإثم فأضيف إلى غيره، وبهذا يتمسك
الشافعي في جانب المكره، ويوجبه على المكره
أيضا لوجود التسبيب إلى القتل منه، وللتسبيب
في هذا حكم المباشرة عنده كما في شهود القصاص،
ولأبي يوسف أن القتل بقي مقصورا على المكره من
وجه نظرا إلى التأثيم، وأضيف إلى المكره من
وجه نظرا إلى الحمل فدخلت الشبهة في كل جانب.
ولهما أنه محمول على القتل بطبعه إيثارا
لحياته فيصير آلة للمكره فيما يصلح آلة له وهو
القتل بأن يلقيه عليه ولا يصلح آلة له في
الجناية على دينه فيبقى الفعل مقصورا عليه في
حق الإثم كما نقول في الإكراه على الإعتاق،
وفي إكراه المجوسي على ذبح شاة الغير ينتقل
الفعل إلى المكره في الإتلاف دون الذكاة حتى
يحرم كذا هذا.
قال:
"وإن أكرهه على طلاق امرأته أو عتق عبده ففعل
وقع ما أكره عليه عندنا"
خلافا للشافعي وقد مر في الطلاق.
قال:
"ويرجع على الذي أكرهه بقيمة العبد"
لأنه صلح آلة له فيه من حيث الإتلاف فيضاف
إليه، فله أن يضمنه موسرا كان أو معسرا، ولا
سعاية على العبد لأن السعاية إنما تجب للتخريج
إلى الحرية أو لتعلق حق الغير ولم يوجد واحد
منهما، ولا يرجع المكره على العبد بالضمان
لأنه مؤاخذ بإتلافه.
قال:
"ويرجع بنصف مهر المرأة إن كان قبل الدخول،
وإن لم يكن في العقد مسمى يرجع على المكره بما
لزمه من المتعة" لأن ما عليه
كان على شرف السقوط بأن جاءت الفرقة من قبلها،
وإنما يتأكد بالطلاق فكان إتلافا للمال من هذا
الوجه فيضاف إلى المكره من حيث إنه إتلاف.
بخلاف ما إذا دخل بها لأن المهر قد تقرر
بالدخول لا بالطلاق.
"ولو أكره على التوكيل بالطلاق والعتاق ففعل
الوكيل جاز استحسانا" لأن
الإكراه مؤثر في فساد العقد، والوكالة لا تبطل
بالشروط الفاسدة، ويرجع على المكره استحسانا
لأن مقصود المكره زوال ملكه إذا باشر الوكيل،
والنذر لا يعمل فيه الإكراه لأنه لا يحتمل
الفسخ، ولا رجوع على المكره بما لزمه لأنه لا
مطالب له في الدنيا فلا يطالب به فيها، وكذا
اليمين، والظهار لا يعمل فيهما الإكراه لعدم
احتمالهما الفسخ، وكذا الرجعة والإيلاء والفيء
فيه باللسان لأنها تصح مع الهزل، والخلع من
جانبه طلاق أو يمين لا يعمل فيه الإكراه، فلو
كان هو مكرها على الخلع دونها لزمها البدل
لرضاها بالالتزام.
ج / 3 ص -276-
قال:
"وإن أكرهه على الزنا وجب عليه الحد عند أبي
حنيفة، إلا أن يكرهه السلطان، وقال أبو يوسف
ومحمد لا يلزمه الحد" وقد
ذكرناه في الحدود.
قال:
"وإذا أكرهه على الردة لم تبن امرأته منه"
لأن الردة تتعلق بالاعتقاد، ألا ترى أنه لو
كان قلبه مطمئنا بالإيمان لا يكفر وفي اعتقاده
الكفر شك فلا تثبت البينونة بالشك، فإن قالت
المرأة قد بنت منك وقال هو قد أظهرت ذلك وقلبي
مطمئن بالإيمان فالقول قوله استحسانا، لأن
اللفظ غير موضوع للفرقة وهي بتبدل الاعتقاد
ومع الإكراه لا يدل على التبدل فكان القول
قوله، بخلاف الإكراه على الإسلام حيث يصير به
مسلما، لأنه لما احتمل واحتمل رجحنا الإسلام
في الحالين لأنه يعلو ولا يعلى، وهذا بيان
الحكم، أما فيما بينه وبين الله تعالى إذا لم
يعتقده فليس بمسلم، ولو أكره على الإسلام حتى
حكم بإسلامه ثم رجع لم يقتل لتمكن الشبهة وهي
دارئة للقتل. ولو قال الذي أكره على إجراء
كلمة الكفر أخبرت عن أمر ماض ولم أكن فعلت
بانت منه حكما لا ديانة. لأنه أقر أنه طائع
بإتيان ما لم يكره عليه، وحكم هذا الطائع ما
ذكرناه. ولو قال أردت ما طلب مني وقد خطر
ببالي الخبر عما مضى بانت ديانة وقضاء، لأنه
أقر أنه مبتدئ بالكفر هازل به حيث علم لنفسه
مخلصا غيره. وعلى هذا إذا أكره على الصلاة
للصليب وسب محمد النبي عليه الصلاة والسلام
ففعل وقال نويت به الصلاة لله تعالى ومحمدا
آخر غير النبي عليه الصلاة والسلام بانت منه
قضاء لا ديانة، ولو صلى للصليب وسب محمدا
النبي عليه الصلاة والسلام وقد خطر بباله
الصلاة لله تعالى وسب غير النبي عليه الصلاة
والسلام بانت منه ديانة وقضاء لما مر، وقد
قررناه زيادة على هذا في كفاية المنتهى، والله
أعلم. |