الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 3 ص -277-
كتاب الحجر
قال:
"الأسباب الموجبة للحجر ثلاثة: الصغر، والرق،
والجنون، فلا يجوز تصرف الصغير إلا بإذن وليه،
ولا تصرف العبد إلا بإذن سيده، ولا تصرف
المجنون المغلوب بحال". أما
الصغير فلنقصان عقله، غير أن إذن الولي آية
أهليته، والرق لرعاية حق المولى كي لا يتعطل
منافع عبده. ولا يملك رقبته بتعلق الدين به،
غير أن المولى بالإذن رضي بفوات حقه، والجنون
لا تجامعه الأهلية فلا يجوز تصرفه بحال، أما
العبد فأهل في نفسه والصبي ترتقب أهليته فلهذا
وقع الفرق.
قال:
"ومن باع من هؤلاء شيئا وهو يعقل البيع ويقصده
فالولي بالخيار، إن شاء أجازه إذا كان فيه
مصلحة، وإن شاء فسخه" لأن
التوقف في العبد لحق المولى فيتخير فيه، وفي
الصبي والمجنون نظرا لهما فيتحرى مصلحتهما
فيه، ولا بد أن يعقلا البيع ليوجد ركن العقد
فينعقد موقوفا على الإجازة، والمجنون قد يعقل
البيع ويقصده وإن كان لا يرجح المصلحة على
المفسدة وهو المعتوه الذي يصلح وكيلا عن غيره
كما بينا في الوكالة. فإن قيل: التوقف عندكم
في البيع. أما الشراء فالأصل فيه النفاذ على
المباشر. قلنا: نعم إذا وجد نفاذا عليه كما في
شراء الفضولي، وهاهنا لم نجد نفاذا لعدم
الأهلية أو لضرر المولى فوقفناه.
قال:
"وهذه المعاني الثلاثة توجب الحجر في الأقوال
دون الأفعال" لأنه لا مرد لها
لوجودها حسا ومشاهدة، بخلاف الأقوال، لأن
اعتبارها موجودة بالشرع والقصد من شرطه
"إلا إذا كان فعلا يتعلق به حكم يندرئ
بالشبهات كالحدود والقصاص"
فيجعل عدم القصد في ذلك شبهة في حق الصبي
والمجنون.
قال:
"والصبي والمجنون لا تصح عقودهما ولا
إقرارهما" لما بينا
"ولا يقع طلاقهما ولا عتاقهما"
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"كل طلاق واقع إلا طلاق الصبي والمعتوه" والإعتاق يتمحض مضرة، ولا وقوف للصبي على المصلحة في الطلاق بحال
لعدم الشهوة، ولا وقوف للولي على عدم التوافق
على اعتبار بلوغه حد الشهوة، فلهذا لا يتوقفان
على إجازته ولا ينفذان بمباشرته، بخلاف سائر
العقود.
قال:
"وإن أتلفا شيئا لزمهما ضمانه"
إحياء لحق المتلف عليه، وهذا لأن كون الإتلاف
ج / 3 ص -278-
موجبا
لا يتوقف على القصد كالذي يتلف بانقلاب النائم
عليه والحائط المائل بعد الإشهاد، بخلاف القول
على ما بيناه.
قال:
"فأما العبد فإقراره نافذ في حق نفسه"
لقيام أهليته
"غير نافذ في حق مولاه" رعاية
لجانبه، لأن نفاذه لا يعرى عن تعلق الدين
برقبته أو كسبه، وكل ذلك إتلاف ماله.
قال:
"فإن أقر بمال لزمه بعد الحرية"
لوجود الأهلية وزوال المانع ولم يلزمه في
الحال لقيام المانع
"وإن أقر بحد أو قصاص لزمه في الحال"
لأنه مبقى على أصل الحرية في حق الدم حتى لا
يصح إقرار المولى عليه بذلك
"وينفذ طلاقه" لما
روينا، ولقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يملك العبد والمكاتب شيئا إلا الطلاق"
ولأنه عارف بوجه المصلحة فيه فكان أهلا، وليس
فيه إبطال ملك المولى ولا تفويت منافعه فينفذ،
والله أعلم بالصواب.
باب الحجر للفساد
"قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يحجر على الحر
البالغ العاقل السفيه، وتصرفه في ماله جائز
وإن كان مبذرا مفسدا يتلف ماله فيما لا غرض له
فيه ولا مصلحة. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله وهو قول الشافعي رحمه الله: يحجر على
السفيه ويمنع من التصرف في ماله"
لأنه مبذر ماله بصرفه لا على الوجه الذي
يقتضيه العقل فيحجر عليه نظرا له اعتبارا
بالصبي بل أولى، لأن الثابت في حق الصبي
احتمال التبذير وفي حقه حقيقته ولهذا منع عنه
المال، ثم هو لا يفيد بدون الحجر لأنه يتلف
بلسانه ما منع من يده. ولأبي حنيفة رحمه الله
أنه مخاطب عاقل فلا يحجر عليه اعتبارا
بالرشيد، وهذا لأن في سلب ولايته إهدار آدميته
وإلحاقه بالبهائم وهو أشد ضررا من التبذير فلا
يتحمل الأعلى لدفع الأدنى، حتى لو كان في
الحجر دفع ضرر عام كالحجر على المتطبب الجاهل
والمفتي الماجن والمكاري المفلس جاز فيما يروى
عنه، إذ هو دفع ضرر الأعلى بالأدنى، ولا يصح
القياس على منع المال لأن الحجر أبلغ منه في
العقوبة، ولا على الصبي لأنه عاجز عن النظر
لنفسه، وهذا قادر عليه نظر له الشرع مرة
بإعطاء آلة القدرة والجري على خلافه لسوء
اختياره، ومنع المال مفيد لأن غالب السفه في
الهبات والصدقات وذلك يقف على اليد.
قال:
"وإذا حجر القاضي عليه ثم رفع إلى قاض آخر
فأبطل حجره وأطلق عنه جاز"
لأن الحجر منه فتوى وليس بقضاء؛ ألا يرى أنه
لم يوجد المقضي له والمقضي عليه، ولو كان قضاء
فنفس القضاء مختلف فيه فلا بد من الإمضاء، حتى
لو رفع تصرفه بعد الحجر إلى
ج / 3 ص -279-
القاضي
الحاجر أو إلى غيره فقضى ببطلان تصرفه ثم رفع
إلى قاض آخر نفذ إبطاله لاتصال الإمضاء به فلا
يقبل النقض بعد ذلك
"ثم عند أبي حنيفة إذا بلغ الغلام غير رشيد لم
يسلم إليه ماله حتى يبلغ خمسا وعشرين سنة، فإن
تصرف فيه قبل ذلك نفذ تصرفه، فإذا بلغ خمسا
وعشرين سنة يسلم إليه ماله وإن لم يؤنس منه
الرشد. وقالا: لا يدفع إليه ماله أبدا حتى
يؤنس منه رشده، ولا يجوز تصرفه فيه"
لأن علة المنع السفه فيبقى ما بقي العلة وصار
كالصبا. ولأبي حنيفة رحمه الله أن منع المال
عنه بطريق التأديب، ولا يتأدب بعد هذا ظاهرا
وغالبا؛ ألا يرى أنه قد يصير جدا في هذا السن
فلا فائدة في المنع فلزم الدفع، ولأن المنع
باعتبار أثر الصبا وهو في أوائل البلوغ ويتقطع
بتطاول الزمان فلا يبقى المنع، ولهذا قال أبو
حنيفة: لو بلغ رشيدا ثم صار سفيها لا يمنع
المال عنه لأنه ليس بأثر الصبا، ثم لا يتأتى
التفريع على قوله وإنما التفريع على قول من
يرى الحجر. فعندهما لما صح الحجر لا ينفذ بيعه
إذا باع توفيرا لفائدة الحجر عليه، وإن كان
فيه مصلحة أجازه الحاكم لأن ركن التصرف قد وجد
والتوقف للنظر له وقد نصب الحاكم ناظرا له
فيتحرى المصلحة فيه، كما في الصبي الذي يعقل
البيع والشراء ويقصده. ولو باع قبل حجر القاضي
جاز عند أبي يوسف لأنه لا بد من حجر القاضي
عنده، لأن الحجر دائر بين الضرر والنظر والحجر
لنظره فلا بد من فعل القاضي. وعند محمد لا
يجوز لأنه يبلغ محجورا عنده، إذ العلة هي
السفه بمنزلة الصبا، وعلى هذا الخلاف إذا بلغ
رشيدا ثم صار سفيها
"وإن أعتق عبدا نفذ عتقه عندهما".
وعند الشافعي لا ينفذ. والأصل عندهما أن كل
تصرف يؤثر فيه الهزل يؤثر فيه إلخ وما لا فلا،
لأن السفيه في معنى الهازل من حيث إن الهازل
يخرج كلامه لا على نهج كلام العقلاء لاتباع
الهوى ومكابرة العقل لا لنقصان في عقله، فكذلك
السفيه والعتق مما لا يؤثر فيه الهزل فيصح
منه.
والأصل عنده: أن الحجر بسبب السفه بمنزلة
الحجر بسبب الرق حتى لا ينفذ بعده شيء من
تصرفاته إلا الطلاق كالمرقوق، والإعتاق لا يصح
من الرقيق فكذا من السفيه
"و" إذا صح عندهما
"كان على العبد أن يسعى في قيمته"
لأن الحجر لمعنى النظر وذلك في رد العتق إلا
أنه متعذر فيجب رده برد القيمة كما في الحجر
على المريض. وعن محمد أنه لا تجب السعاية
لأنها لو وجبت إنما تجب حقا لمعتقه والسعاية
ما عهد وجوبها في الشرع إلا لحق غير المعتق
"ولو دبر عبده جاز" لأنه يوجب
حق العتق فيعتبر بحقيقته إلا أنه لا تجب
السعاية ما دام المولى حيا لأنه باق على ملكه
وإذا مات ولم يؤنس منه الرشد سعى في قيمته
مدبرا لأنه عتق بموته وهو مدبر، فصار كما إذا
أعتقه بعد التدبير
ج / 3 ص -280-
"ولو جاءت جاريته بولد فادعاه يثبت نسبه منه وكان الولد حرا
والجارية أم ولد له" لأنه محتاج إلى ذلك لإبقاء نسله فألحق بالمصلح في حقه
"وإن لم يكن معها ولد وقال هذه أم ولدي كانت
بمنزلة أم الولد لا يقدر على بيعها، وإن مات
سعت في جميع قيمتها" لأنه
كالإقرار بالحرية إذ ليس له شهادة الولد،
بخلاف الفصل الأول لأن الولد شاهد لها. ونظيره
المريض إذا ادعى ولد جاريته فهو على هذا
التفصيل.
قال:
"وإن تزوج امرأة جاز نكاحها"
لأنه لا يؤثر فيه الهزل، ولأنه من حوائجه
الأصلية
"وإن سمى لها مهرا جاز منه مقدار مهر مثلها"
لأنه من ضرورات النكاح
"وبطل الفضل" لأنه لا ضرورة
فيه، وهذا التزام بالتسمية ولا نظر له فيه فلم
تصح الزيادة وصار كالمريض مرض الموت
"ولو طلقها قبل الدخول بها وجب لها النصف في
ماله" لأن التسمية صحيحة إلى
مقدار مهر المثل
"وكذا إذا تزوج بأربع نسوة أو كل يوم واحدة"
لما بينا.
قال:
"وتخرج الزكاة من مال السفيه"
لأنها واجبة عليه
"وينفق على أولاده وزوجته ومن تجب نفقته من
ذوي أرحامه" لأن إحياء ولده
وزوجته من حوائجه، والإنفاق على ذي الرحم واجب
عليه لقرابته، والسفه لا يبطل حقوق الناس، إلا
أن القاضي يدفع الزكاة إليه ليصرفها إلى
مصرفها، لأنه لا بد من نيته لكونها عبادة، لكن
يبعث أمينا معه كي لا يصرفه في غير وجهه. وفي
النفقة يدفع إلى أمينه ليصرفه لأنه ليس بعبادة
فلا يحتاج إلى نيته، وهذا بخلاف ما إذا حلف أو
نذر أو ظاهر حيث لا يلزمه المال بل يكفر يمينه
وظهاره بالصوم لأنه مما يجب بفعله، فلو فتحنا
هذا الباب يبذر أمواله بهذا الطريق، ولا كذلك
ما يجب ابتداء بغير فعله.
قال:
"فإن أراد حجة الإسلام لم يمنع منها"
لأنها واجبة عليه بإيجاب الله تعالى من غير
صنعة
"ولا يسلم القاضي النفقة إليه ويسلمها إلى ثقة
من الحاج ينفقها عليه في طريق الحج"
كي لا يتلفها في غير هذا الوجه
"ولو أراد عمرة واحدة لم يمنع منها"
استحسانا لاختلاف العلماء في وجوبها، بخلاف ما
زاد على مرة واحدة من الحج "ولا يمنع من القران"
لأنه لا يمنع من إفراد السفر لكل واحد منهما
فلا يمنع من الجمع بينهما
"ولا يمنع من أن يسوق بدنة"
تحرزا عن موضع الخلاف، إذ عند عبد الله بن عمر
رضي الله عنه لا يجزئه غيرها وهي جزور أو
بقرة.
قال:
"فإن مرض وأوصى بوصايا في القرب وأبواب الخير
جاز ذلك في ثلثه" لأن
ج / 3 ص -281-
نظره
فيه إذ هي حالة انقطاعه عن أمواله والوصية
تخلف ثناء أو ثوابا، وقد ذكرنا من التفريعات
أكثر من هذا في كفاية المنتهى.
قال:
"ولا يحجر على الفاسق إذا كان مصلحا لماله
عندنا والفسق الأصلي والطارئ سواء"
وقال الشافعي: يحجر عليه زجرا له وعقوبة عليه
كما في السفيه ولهذا لم يجعل أهلا للولاية
والشهادة عنده. ولنا قوله تعالى:
{فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ
أَمْوَالَهُمْ}
[النساء:6]. وقد أونس منه نوع رشد فتتناوله
النكرة المطلقة، ولأن الفاسق من أهل الولاية
عندنا لإسلامه فيكون واليا للتصرف، وقد قررناه
فيما تقدم، ويحجر القاضي عندهما أيضا وهو قول
الشافعي بسبب الغفلة وهو أن يغبن في التجارات
ولا يصبر عنها لسلامة قلبه لما في الحجر من
النظر له.
فصل: في حد البلوغ
قال:
"بلوغ الغلام بالاحتلام والإحبال والإنزال إذا
وطئ، فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم له ثماني عشرة
سنة، وبلوغ الجارية بالحيض والاحتلام والحبل،
فإن لم يوجد ذلك فحتى يتم لها سبع عشرة سنة،
وهذا عند أبي حنيفة وقالا: إذا تم الغلام
والجارية خمس عشرة سنة فقد بلغا"،
وهو رواية عن أبي حنيفة، وهو قول الشافعي،
وعنه في الغلام تسع عشرة سنة. وقيل المراد أن
يطعن في التاسع عشرة سنة ويتم له ثماني عشرة
سنة فلا اختلاف. وقيل فيه اختلاف الرواية لأنه
ذكر في بعض النسخ حتى يستكمل تسع عشرة سنة.
أما العلامة فلأن البلوغ بالإنزال حقيقة
والحبل والإحبال لا يكون إلا مع الإنزال، وكذا
الحيض في أوان الحبل، فجعل كل ذلك علامة
البلوغ، وأدنى المدة لذلك في حق الغلام اثنتا
عشرة سنة، وفي حق الجارية تسع سنين.
وأما السن فلهم العادة الفاشية أن البلوغ لا
يتأخر فيهما عن هذه المدة. وله قوله تعالى:
{حَتَّى
يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام:152] وأشد الصبي ثماني عشرة سنة، هكذا قاله ابن عباس
وتابعه القتبي، وهذا أقل ما قيل فيه فيبنى
الحكم عليه للتيقن به، غير أن الإناث نشوءهن
وإدراكهن أسرع فنقصنا في حقهن سنة لاشتمالها
على الفصول الأربعة التي يوافق واحد منها
المزاج لا محالة.
قال:
"وإذا راهق الغلام أو الجارية الحلم وأشكل
أمره في البلوغ فقال قد بلغت، فالقول قوله
وأحكامه أحكام البالغين" لأنه
معنى لا يعرف إلا من جهتهما ظاهرا، فإذا أخبرا
به
ج / 3 ص -282-
ولم
يكذبهما الظاهر قبل قولهما فيه، كما يقبل قول
المرأة في الحيض.
باب الحجر بسبب الدين
"قال أبو
حنيفة: لا أحجر في الدين، وإذا وجبت ديون على
رجل وطلب غرماؤه حبسه والحجر عليه لم أحجر
عليه" لأن
في الحجر إهدار أهليته فلا يجوز لدفع ضرر خاص.
"فإن كان له مال لم يتصرف فيه الحاكم"
لأنه نوع حجر، ولأنه تجارة لا عن تراض فيكون
باطلا بالنص
"ولكن يحبسه أبدا حتى يبيعه في دينه"
إيفاء لحق الغرماء ودفعا لظلمه
"وقالا: إذا طلب غرماء المفلس الحجر عليه حجر
القاضي عليه، ومنعه من البيع والتصرف والإقرار
حتى لا يضر بالغرماء" لأن
الحجر على السفيه إنما جوزاه نظرا له، وفي هذا
الحجر نظر للغرماء لأنه عساه يلجئ ماله فيفوت
حقهم، ومعنى قولهما ومنعه من البيع أن يكون
بأقل من ثمن المثل، أما البيع بثمن المثل لا
يبطل حق الغرماء والمنع لحقهم فلا يمنع منه.
قال:
"وباع ماله إن امتنع المفلس من بيعه وقسمه بين
غرمائه بالحصص عندهما" لأن
البيع مستحق عليه لإيفاء دينه حتى يحبس لأجله،
فإذا امتنع ناب القاضي منابه كما في الجب
والعنة.
قلنا: التلجئة موهومة، والمستحق قضاء الدين،
والبيع ليس بطريق متعين لذلك، بخلاف الجب
والعنة والحبس لقضاء الدين بما يختاره من
الطريق، كيف ولو صح البيع كان الحبس إضرارا
بهما بتأخير حق الدائن وتعذيب المديون فلا
يكون مشروعا.
قال:
"وإن كان دينه دراهم وله دراهم قضى القاضي
بغير أمره" وهذا بالإجماع،
لأن للدائن حق الأخذ من غير رضاه فللقاضي أن
يعينه
"وإن كان دينه دراهم وله دنانير أو على
ضد ذلك باعها القاضي في دينه"
وهذا عند أبي حنيفة استحسان. والقياس أن لا
يبيعه كما في العروض، ولهذا لم يكن لصاحب
الدين أن يأخذه جبرا. وجه الاستحسان أنهما
متحدان في الثمنية والمالية مختلفان في
الصورة، فبالنظر إلى الاتحاد يثبت للقاضي
ولاية التصرف، وبالنظر إلى الاختلاف يسلب عن
الدائن ولاية الأخذ عملا بالشبهين، بخلاف
العروض لأن الغرض يتعلق بصورها وأعيانها، أما
النقوذ فوسائل فافترقا
"ويباع في الدين النقود ثم العروض ثم العقار
يبدأ بالأيسر فالأيسر" لما
فيه من المسارعة إلى قضاء الدين مع مراعاة
جانب المديون
"ويترك عليه دست من ثياب بدنه ويباع الباقي"
لأن به كفاية وقيل دستان وهو
اختيار شمس الأئمة الحلواني، لأنه إذا غسل
ثيابه لا بد له من ملبس.
قال:
"فإن أقر في حال الحجر بإقرار لزمه ذلك بعد
قضاء الديون"، لأنه تعلق بهذا
ج / 3 ص -283-
المال
حق الأولين فلا يتمكن من إبطال حقهم بالإقرار
لغيرهم، بخلاف الاستهلاك لأنه مشاهد لا مرد له
"ولو استفاد مالا آخر بعد الحجر نفذ إقراره
فيه" لأن حقهم لم يتعلق به
لعدمه وقت الحجر.
قال:
"وينفق على المفلس من ماله وعلى زوجته وولده
الصغار وذوي أرحامه ممن يجب نفقته عليه"
لأن حاجته الأصلية مقدمة على حق الغرماء،
ولأنه حق ثابت لغيره فلا يبطله الحجر، ولهذا
لو تزوج امرأة كانت في مقدار مهر مثلها أسوة
للغرماء.
قال:
"فإن لم يعرف للمفلس مال وطلب غرماؤه حبسه وهو
يقول لا مال لي حبسه الحاكم في كل دين التزمه
بعقد كالمهر والكفالة" وقد
ذكرنا هذا الفصل بوجوهه في كتاب أدب القاضي من
هذا الكتاب فلا نعيدها, إلى أن قال: وكذلك إن
أقام البينة أنه لا مال له: يعني خلى سبيله
لوجوب النظرة إلى الميسرة، ولو مرض في الحبس
يبقى فيه إن كان له خادم يقوم بمعالجته، وإن
لم يكن أخرجه تحرزا عن هلاكه، والمحترف فيه لا
يمكن من الاشتغال بعمله هو الصحيح ليضجر قلبه
فينبعث على قضاء دينه، بخلاف ما إذا كانت له
جارية وفيه موضع يمكنه فيه وطؤها لا يمنع عنه
لأنه قضاء إحدى الشهوتين فيعتبر بقضاء الأخرى.
قال:
"ولا يحول بينه وبين غرمائه بعد خروجه من
الحبس يلازمونه ولا يمنعونه من التصرف والسفر"
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لصاحب الحق يد ولسان" أراد باليد
الملازمة وباللسان التقاضي.
قال:
"ويأخذون فضل كسبه يقسم بينهم بالحصص"
لاستواء حقوقهم في القوة
"وقالا: إذا فلسه الحاكم حال بين الغرماء
وبينه إلا أن يقيموا البينة أن له مالا"
لأن القضاء بالإفلاس عندهما يصح فتثبت العسرة
ويستحق النظرة إلى الميسرة. وعند أبي حنيفة
رحمه الله: لا يتحقق القضاء بالإفلاس، لأن مال
الله تعالى غاد ورائح، ولأن وقوف الشهود على
عدم المال لا يتحقق إلا ظاهرا فيصلح للدفع لا
لإبطال حق الملازمة. وقوله إلا أن يقيموا
البينة إشارة إلى أن بينة اليسار تترجح على
بينة الإعسار لأنها أكثر إثباتا، إذ الأصل هو
العسرة. وقوله في الملازمة لا يمنعونه من
التصرف والسفر دليل على أنه يدور معه أينما
دار ولا يجلسه في موضع لأنه حبس
"ولو دخل داره لحاجته لا يتبعه بل يجلس على
باب داره إلى أن يخرج" لأن
الإنسان لا بد أن يكون له موضع خلوة، ولو
اختار المطلوب الحبس والطالب الملازمة فالخيار
إلى الطالب لأنه أبلغ في حصول المقصود
لاختياره الأضيق عليه إلا إذا
ج / 3 ص -284-
علم
القاضي أن يدخل عليه بالملازمة ضرر بين بأن لا
يمكنه من دخوله داره فحينئذ يحبسه دفعا للضرر
عنه
"ولو كان الدين للرجل على المرأة لا يلازمها"
لما فيها من الخلوة بالأجنبية ولكن يبعث امرأة
أمينة تلازمها.
قال:
"ومن أفلس وعنده متاع لرجل بعينه ابتاعه منه
فصاحب المتاع أسوة للغرماء فيه"
وقال الشافعي رحمه الله: يحجر القاضي على
المشتري بطلبه. ثم للبائع خيار الفسخ لأنه عجز
المشتري عن إيفاء الثمن فيوجب ذلك حق الفسخ
كعجز البائع عن تسليم المبيع وهذا لأنه عقد
معاوضة، ومن قضيته المساواة وصار كالسلم. ولنا
أن الإفلاس يوجب العجز عن تسليم العين وهو غير
مستحق بالعقد فلا يثبت حق الفسخ باعتباره
وإنما المستحق وصف في الذمة: أعني الدين،
وبقبض العين تتحقق بينهما مبادلة، هذا هو
الحقيقة فيجب اعتبارها، إلا في موضع التعذر
كالسلم لأن الاستبدال ممتنع فأعطى للعين حكم
الدين، والله أعلم بالصواب.
تم الجزء الثالث، ويليه الجزء الرابع
وأوله
كتاب المأذون |