الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -287-       من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين
"حديث شريف"
بسم الله الرحمن الرحيم
كتاب المأذون
الإذن: الإعلام لغة، وفي الشرع: فك الحجر وإسقاط الحق عندنا، والعبد بعد ذلك يتصرف لنفسه بأهليته؛ لأنه بعد الرق بقي أهلا للتصرف بلسانه الناطق وعقله المميز وانحجاره عن التصرف لحق المولى؛ لأنه ما عهد تصرفه إلا موجبا تعلق الدين برقبته وبكسبه، وذلك مال المولى فلا بد من إذنه كي لا يبطل حقه من غير رضاه، ولهذا لا يرجع بما لحقه من العهدة على المولى، ولهذا لا يقبل التأقيت، حتى لو أذن لعبده يوما أو شهرا كان مأذونا أبدا حتى يحجر عليه؛ لأن الإسقاطات لا تتوقت ثم الإذن كما يثبت بالصريح يثبت بالدلالة، كما إذا رأى عبده يبيع ويشتري فسكت يصير مأذونا عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله. ولا فرق بين أن يبيع عينا مملوكا أو لأجنبي بإذنه أو بغير إذنه بيعا صحيحا أو فاسدا؛ لأن كل من رآه يظنه مأذونا له فيها فيعاقده فيتضرر به لو لم يكن مأذونا له، ولو لم يكن المولى راضيا به لمنعه دفعا للضرر عنهم.
قال: "وإذا أذن المولى لعبده في التجارة إذنا عاما جاز تصرفه في سائر التجارات" ومعنى هذه المسألة أن يقول له أذنت لك في التجارة ولا يقيده. ووجهه أن التجارة اسم عام يتناول الجنس فيبيع ويشتري ما بدا له من أنواع الأعيان؛ لأنه أصل التجارة. "ولو باع أو اشترى بالغبن اليسير فهو جائز" لتعذر الاحتراز عنه "وكذا بالفاحش عند أبي حنيفة رحمه الله خلافا لهما" هما يقولان إن البيع بالفاحش منه بمنزلة التبرع، حتى اعتبر من المريض من ثلث ماله فلا ينتظمه الإذن كالهبة. وله أنه تجارة والعبد متصرف بأهلية نفسه فصار كالحر، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون. "ولو حابى في مرض موته يعتبر من جميع ماله إذا لم يكن عليه دين وإن كان فمن جميع ما بقي"؛ لأن الاقتصار في الحر على الثلث لحق الورثة ولا وارث للعبد، وإن كان الدين محيطا بما في يده يقال للمشتري أدّ جميع المحاباة

 

ج / 4 ص -288-       وإلا فاردد البيع كما في الحر. "وله أن يسلم ويقبل السلم"؛ لأنه تجارة. "وله أن يوكل بالبيع والشراء"؛ لأنه قد لا يتفرغ بنفسه.
قال: "ويرهن ويرتهن"؛ لأنهما من توابع التجارة فإنه إيفاء واستيفاء. "ويملك أن يتقبل الأرض ويستأجر الأجراء والبيوت"؛ لأن كل ذلك من صنيع التجار "ويأخذ الأرض مزارعة"؛ لأن فيه تحصيل الربح "ويشتري طعاما فيزرعه في أرضه"؛ لأنه يقصد به الربح قال عليه الصلاة والسلام:
"الزارع يتاجر ربه".
"وله أن يشارك شركة عنان ويدفع المال مضاربة ويأخذها"؛ لأنه من عادة التجار "وله أن يؤاجر نفسه عندنا" خلافا للشافعي وهو يقول: لا يملك العقد على نفسه فكذا على منافعها؛ لأنها تابعة لها. ولنا أن نفسه رأس ماله فيملك التصرف فيه، إلا إذا كان يتضمن إبطال الإذن كالبيع؛ لأنه ينحجر به، والرهن؛ لأنه يحبس به فلا يحصل مقصود المولى. أما الإجارة فلا ينحجر به ويحصل به المقصود وهو الربح فيملكه.
قال: "فإن أذن له في نوع منها دون غيره فهو مأذون في جميعها" وقال زفر والشافعي: لا يكون مأذونا إلا في ذلك النوع، وعلى هذا الخلاف إذا نهاه عن التصرف في نوع آخر. لهما أن الإذن توكيل وإنابة من المولى؛ لأنه يستفيد الولاية من جهته ويثبت الحكم وهو الملك له دون العبد، ولهذا يملك حجره فيتخصص بما خصه به كالمضارب. ولنا أنه إسقاط الحق وفك الحجر على ما بيناه، وعند ذلك تظهر مالكية العبد فلا يتخصص بنوع دون نوع، بخلاف الوكيل؛ لأنه يتصرف في مال غيره فيثبت له الولاية من جهته، وحكم التصرف وهو الملك واقع للعبد حتى كان له أن يصرفه إلى قضاء الدين والنفقة، وما استغنى عنه يخلفه المالك فيه.
قال: "وإن أذن له في شيء بعينه فليس بمأذون"؛ لأنه استخدام، ومعناه أن يأمره بشراء ثوب معين للكسوة أو طعام رزقا لأهله، وهذا؛ لأنه لو صار مأذونا ينسد عليه باب الاستخدام، بخلاف ما إذا قال: أد إلي الغلة كل شهر كذا، أو قال أد إلي ألفا وأنت حر؛ لأنه طلب منه المال ولا يحصل إلا بالكسب، أو قال له اقعد صباغا أو قصارا؛ لأنه أذن بشراء ما لا بد له منه وهو نوع فيصير مأذونا في الأنواع.
قال: "وإقرار المأذون بالديون والغصوب جائز وكذا بالودائع"؛ لأن الإقرار من توابع التجارة، إذ لو لم يصح لاجتنب الناس مبايعته ومعاملته، ولا فرق بين ما إذا كان عليه دين أو لم يكن إذا كان الإقرار في صحته، فإن كان في مرضه يقدم دين الصحة كما في الحر،

 

ج / 4 ص -289-       بخلاف الإقرار بما يجب من المال لا بسبب التجارة؛ لأنه كالمحجور في حقه.
قال: "وليس له أن يتزوج"؛ لأنه ليس بتجارة.
قال: "ولا يزوج مماليكه" وقال أبو يوسف: يزوج الأمة؛ لأنه تحصيل المال بمنافعها فأشبه إجارتها. ولهما أن الإذن يتضمن التجارة وهذا ليس بتجارة، ولهذا لا يملك تزويج العبد، وعلى هذا الخلاف الصبي المأذون والمضارب والشريك شركة عنان والأب والوصي.
قال: "ولا يكاتب"؛ لأنه ليس بتجارة، إذ هي مبادلة المال بالمال، والبدل فيه مقابل بفك الحجر فلم يكن تجارة "إلا أن يجيزه المولى ولا دين عليه"؛ لأن المولى قد ملكه ويصير العبد نائبا عنه وترجع الحقوق إلى المولى؛ لأن الوكيل في الكتابة سفير.
قال: "ولا يعتق على مال"؛ لأنه لا يملك الكتابة فالإعتاق أولى "ولا يقرض"؛ لأنه تبرع محض كالهبة. "ولا يهب بعوض ولا بغير عوض، وكذا لا يتصدق"؛ لأن كل ذلك تبرع بصريحه ابتداء وانتهاء أو ابتداء فلا يدخل تحت الإذن بالتجارة.
قال: "إلا أن يهدي اليسير من الطعام أو يضيف من يطعمه"؛ لأنه من ضرورات التجارة استجلابا لقلوب المجاهزين، بخلاف المحجور عليه؛ لأنه لا إذن له أصلا فكيف يثبت ما هو من ضروراته. وعن أبي يوسف أن المحجور عليه إذا أعطاه المولى قوت يومه فدعا بعض رفقائه على ذلك الطعام فلا بأس به، بخلاف ما إذا أعطاه قوت شهر؛ لأنهم لو أكلوه قبل الشهر يتضرر به المولى. قالوا: ولا بأس للمرأة أن تتصدق من منزل زوجها بالشيء اليسير كالرغيف ونحوه؛ لأن ذلك غير ممنوع عنه في العادة.
قال: "وله أن يحط من الثمن بالعيب مثل ما يحط التجار"؛ لأنه من صنيعهم، وربما يكون الحط أنظر له من قبول المعيب ابتداء، بخلاف ما إذا حط من غير عيب؛ لأنه تبرع محض بعد تمام العقد فليس من صنيع التجار، ولا كذلك المحاباة في الابتداء؛ لأنه قد يحتاج إليها على ما بيناه "وله أن يؤجل في دين وجب له"؛ لأنه من عادة التجار.
قال: "وديونه متعلقة برقبته يباع للغرماء إلا أن يفديه المولى" وقال زفر والشافعي: لا يباع ويباع كسبه في دينه بالإجماع. لهما أن غرض المولى من الإذن تحصيل مال لم يكن لا تفويت مال قد كان له، وذلك في تعليق الدين بكسبه، حتى إذا فضل شيء منه عن الدين يحصل له لا بالرقبة، بخلاف دين الاستهلاك؛ لأنه نوع جناية، واستهلاك الرقبة بالجناية لا يتعلق بالإذن. ولنا أن الواجب في ذمة العبد ظهر وجوبه في حق المولى،

 

ج / 4 ص -290-       فيتعلق برقبته استيفاء كدين الاستهلاك، والجامع دفع الضرر عن الناس، وهذا؛ لأن سببه التجارة وهي داخلة تحت الإذن، وتعلق الدين برقبته استيفاء حامل على المعاملة، فمن هذا الوجه صلح غرضا للمولى، وينعدم الضرر في حقه بدخول المبيع في ملكه، وتعلقه بالكسب لا ينافي تعلقه بالرقبة فيتعلق بهما، غير أنه يبدأ بالكسب في الاستيفاء لحق الغرماء وإبقاء لمقصود المولى، وعند انعدامه يستوفى من الرقبة. وقوله في الكتاب ديونه المراد منه دين وجب بالتجارة أو بما هو في معناها كالبيع والشراء والإجارة والاستئجار وضمان الغصوب والودائع والأمانات إذا جحدها، وما يجب من العقر بوطء المشتراة بعد الاستحقاق لاستناده إلى الشراء فيلحق به.
قال: "ويقسم ثمنه بينهم بالحصص" لتعلق حقهم بالرقبة فصار كتعلقها بالتركة "فإن فضل شيء من ديونه طولب به بعد الحرية" لتقرر الدين في ذمته وعدم وفاء الرقبة به "ولا يباع ثانيا" كي لا يمتنع البيع أو دفعا للضرر عن المشتري "ويتعلق دينه بكسبه سواء حصل قبل لحوق الدين أو بعده ويتعلق بما يقبل من الهبة"؛ لأن المولى إنما يخلفه في الملك بعد فراغه عن حاجة العبد ولم يفرغ "ولا يتعلق بما انتزعه المولى من يده قبل الدين" لوجود شرط الخلوص له "وله أن يأخذ غلة مثله بعد الدين"؛ لأنه لو لم يكن منه يحجر عليه فلا يحصل الكسب، والزيادة على غلة المثل يردها على الغرماء لعدم الضرورة فيها وتقدم حقهم.
قال: "فإن حجر عليه لم ينحجر حتى يظهر حجره بين أهل سوقه"؛ لأنه لو انحجر لتضرر الناس به لتأخر حقهم إلى ما بعد العتق لما لم يتعلق برقبته وكسبه وقد بايعوه على رجاء ذلك، ويشترط علم أكثر أهل سوقه، حتى لو حجر عليه في السوق وليس فيه إلا رجل أو رجلان لم ينحجر، ولو بايعوه جاز، وإن بايعه الذي علم بحجره ولو حجر عليه في بيته بمحضر من أكثر أهل سوقه ينحجر، والمعتبر شيوع الحجر واشتهاره فيقام ذلك مقام الظهور عند الكل كما في تبليغ الرسالة من الرسل عليهم السلام، ويبقى العبد مأذونا إلى أن يعلم بالحجر كالوكيل إلى أن يعلم بالعزل، وهذا؛ لأنه يتضرر به حيث يلزمه قضاء الدين من خالص ماله بعد العتق وما رضي به، وإنما يشترط الشيوع في الحجر إذا كان الإذن شائعا. أما إذا لم يعلم به إلا العبد ثم حجر عليه بعلم منه ينحجر؛ لأنه لا ضرر فيه.
قال: "ولو مات المولى أو جن أو لحق بدار الحرب مرتدا صار المأذون محجورا عليه"؛ لأن الإذن غير لازم، وما لا يكون لازما من التصرف يعطى لدوامه حكم الابتداء، هذا هو الأصل فلا بد من قيام أهلية الإذن في حالة البقاء وهي تنعدم بالموت والجنون، وكذا

 

ج / 4 ص -291-       باللحوق لأنه موت حكما حتى يقسم ماله بين ورثته.
قال: "وإذا أبق العبد صار محجورا عليه" وقال الشافعي: يبقى مأذونا؛ لأن الإباق لا ينافي ابتداء الإذن، فكذا لا ينافي البقاء وصار كالغصب. ولنا أن الإباق حجر دلالة؛ لأنه إنما يرضى بكونه مأذونا على وجه يتمكن من تقضية دينه بكسبه، بخلاف ابتداء الإذن؛ لأن الدلالة لا معتبر بها عند وجود التصريح بخلافها، وبخلاف الغصب؛ لأن الانتزاع من يد الغاصب متيسر.
قال: "وإذا ولدت المأذون لها من مولاها" فذلك حجر عليها خلافا لزفر، وهو يعتبر حالة البقاء بالابتداء. ولنا أن الظاهر أنه يحصنها بعد الولادة فيكون دلالة الحجر عادة، بخلاف الابتداء؛ لأن الصريح قاض على الدلالة. "ويضمن المولى قيمتها إن ركبتها ديون" لإتلافه محلا تعلق به حق الغرماء، إذ به يمتنع البيع وبه يقضى حقهم.
قال: "وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها فدبرها المولى فهي مأذون لها على حالها" لانعدام دلالة الحجر، إذ العادة ما جرت بتحصين المدبرة، ولا منافاة بين حكميها أيضا، والمولى ضامن لقيمتها لما قررناه في أم الولد.
قال: "وإذا حجر على المأذون له فإقراره جائز فيما في يده من المال عند أبي حنيفة" ومعناه أن يقر بما في يده أنه أمانة لغيره أو غصب منه أو يقر بدين عليه فيقضى مما في يده. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله: لا يجوز إقراره. لهما أن المصحح لإقراره إن كان الإذن فقد زال بالحجر، وإن كان اليد فالحجر أبطلها؛ لأن يد المحجور غير معتبرة وصار كما إذا أخذ المولى كسبه من يده قبل إقراره أو ثبت حجره بالبيع من غيره، ولهذا لا يصح إقراره في حق الرقبة بعد الحجر، وله أن المصحح هو اليد، ولهذا لا يصح إقرار المأذون فيما أخذه المولى من يده واليد باقية حقيقة.
وشرط بطلانها بالحجر حكما فراغها عن حاجته، وإقراره دليل تحققها، بخلاف ما إذا انتزعه المولى من يده قبل الإقرار؛ لأن يد المولى ثابتة حقيقة وحكما فلا تبطل بإقراره، وكذا ملكه ثابت في رقبته فلا يبطل بإقراره من غير رضاه، وهذا بخلاف ما إذا باعه؛ لأن العبد قد تبدل بتبدل الملك على ما عرف فلا يبقى ما ثبت بحكم الملك، ولهذا لم يكن خصما فيما باشره قبل البيع.
قال: "وإذا لزمته ديون تحيط بماله ورقبته لم يملك المولى ما في يده. ولو أعتق من كسبه عبدا لم يعتق عند أبي حنيفة. وقالا: يملك ما في يده ويعتق وعليه قيمته" لأنه

 

ج / 4 ص -292-       وجد سبب الملك في كسبه وهو ملك رقبته ولهذا يملك إعتاقها، ووطء الجارية المأذون لها، وهذا آية كماله، بخلاف الوارث؛ لأنه يثبت الملك له نظرا للمورث والنظر في ضده عند إحاطة الدين بتركته.
أما ملك المولى فما ثبت نظرا للعبد. وله أن ملك المولى إنما يثبت خلافه عن العبد عند فراغه عن حاجته كملك الوارث على ما قررناه والمحيط به الدين مشغول بها فلا يخلفه فيه، وإذا عرف ثبوت الملك وعدمه فالعتق فريعته، وإذا نفذ عندهما يضمن قيمته للغرماء لتعلق حقهم به.
قال: "وإن لم يكن الدين محيطا بماله جاز عتقه في قولهم جميعا" أما عندهما فظاهر، وكذا عنده؛ لأنه لا يعرى عن قليله، فلو جعل مانعا لانسد باب الانتفاع بكسبه فيختل ما هو المقصود من الإذن ولهذا لا يمنع ملك الوارث والمستغرق يمنعه.
قال: "وإذا باع من المولى شيئا بمثل قيمته جاز"؛ لأنه كالأجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين يحيط بكسبه "وإن باعه بنقصان لم يجز مطلقا"؛ لأنه متهم في حقه، بخلاف ما إذا حابى الأجنبي عند أبي حنيفة؛ لأنه لا تهمة فيه، وبخلاف ما إذا باع المريض من الوارث بمثل قيمته حيث لا يجوز عنده لأن حق بقية الورثة تعلق بعينه حتى كان لأحدهم الاستخلاص بأداء قيمته. أما حق الغرماء تعلق بالمالية لا غير فافترقا. وقال أبو يوسف ومحمد: إن باعه بنقصان يجوز البيع، ويخير المولى إن شاء أزال المحاباة، وإن شاء نقض البيع، وعلى المذهبين اليسير من المحاباة والفاحش سواء.
ووجه ذلك: أن الامتناع لدفع الضرر عن الغرماء وبهذا يندفع الضرر عنهم، وهذا بخلاف البيع من الأجنبي بالمحاباة اليسيرة حيث يجوز ولا يؤمر بإزالة المحاباة، والمولى يؤمر به؛ لأن البيع باليسير منهما متردد بين التبرع والبيع لدخوله تحت تقويم المقومين فاعتبرناه تبرعا في البيع مع المولى للتهمة غير تبرع في حق الأجنبي لانعدامها، وبخلاف ما إذا باع من الأجنبي بالكثير من المحاباة حيث لا يجوز أصلا عندهما، ومن المولى يجوز ويؤمر بإزالة المحاباة؛ لأن المحاباة لا تجوز من العبد المأذون على أصلهما إلا بإذن المولى، ولا إذن في البيع مع الأجنبي وهو إذن بمباشرته بنفسه، غير أن إزالة المحاباة لحق الغرماء، وهذان الفرقان على أصلهما.
قال: "وإن باعه المولى شيئا بمثل القيمة أو أقل جاز البيع"؛ لأن المولى أجنبي عن كسبه إذا كان عليه دين على ما بيناه ولا تهمة في هذا البيع؛ ولأنه مفيد فإنه يدخل في

 

ج / 4 ص -293-       كسب العبد ما لم يكن فيه ويتمكن المولى من أخذ الثمن بعد أن لم يكن له هذا التمكن وصحة التصرف تتبع الفائدة "فإن سلم المبيع إليه قبل قبض الثمن بطل الثمن"؛ لأن حق المولى في العين من حيث الحبس، فلو بقي بعد سقوطه يبقى في الدين ولا يستوجبه المولى على عبده، بخلاف ما إذا كان الثمن عرضا؛ لأنه يتعين وجاز أن يبقى حقه متعلقا بالعين.
قال: "وإن أمسكه في يده حتى يستوفي الثمن جاز"؛ لأن البائع له حق الحبس في المبيع ولهذا كان أخص به من الغرماء، وجاز أن يكون للمولى حق في الدين إذا كان يتعلق بالعين "ولو باعه بأكثر من قيمته يؤمر بإزالة المحاباة أو بنقض البيع" كما بينا في جانب العبد؛ لأن الزيادة تعلق بها حق الغرماء.
قال: "وإذا أعتق المولى المأذون وعليه ديون فعتقه جائز"؛ لأن ملكه فيه باق والمولى ضامن لقيمته للغرماء؛ لأنه أتلف ما تعلق به حقهم بيعا واستيفاء من ثمنه "وما بقي من الديون يطالب به بعد العتق"؛ لأن الدين في ذمته وما لزم المولى إلا بقدر ما أتلف ضمانا فبقي الباقي عليه كما كان "فإن كان أقل من قيمته ضمن الدين لا غير"؛ لأن حقهم بقدره بخلاف ما إذا أعتق المدبر وأم الولد المأذون لهما وقد ركبتهما ديون لأن حق الغرماء لم يتعلق برقبتهما استيفاء بالبيع فلم يكن المولى متلفا حقهم فلم يتضمن شيئا.
قال: "وإن باعه المولى وعليه دين يحيط برقبته وقبضه المشتري وغيبه، فإن شاء الغرماء ضمنوا البائع قيمته، وإن شاءوا ضمنوا المشتري"؛ لأن العبد تعلق به حقهم حتى كان لهم أن يبيعوه، إلا أن يقضي المولى دينهم والبائع متلف حقهم بالبيع والتسليم والمشتري بالقبض والتغييب فيخيرون في التضمين "وإن شاءوا أجازوا البيع وأخذوا الثمن"؛ لأن الحق لهم والإجازة اللاحقة كالإذن السابق كما في المرهون "فإن ضمنوا البائع قيمته ثم رد على المولى بعيب للمولى أن يرجع بالقيمة ويكون حق الغرماء في العبد"؛ لأن سبب الضمان قد زال وهو البيع والتسليم، وصار كالغاصب إذا باع وسلم وضمن القيمة ثم رد عليه بالعيب كان له أن يرد على المالك ويسترد القيمة كذا هذا.
قال: "ولو كان المولى باعه من رجل وأعلمه بالدين فللغرماء أن يردوا البيع" لتعلق حقهم وهو حق الاستسعاء والاستيفاء من رقبته، وفي كل واحد منهما فائدة، فالأول تام مؤخر والثاني ناقص معجل، وبالبيع تفوت هذه الخيرة فلهذا كان لهم أن يردوه. قالوا: تأويله إذا لم يصل إليهم الثمن، فإن وصل ولا محاباة في البيع ليس لهم أن يردوه لوصول حقهم إليهم.

 

ج / 4 ص -294-       قال: "فإن كان البائع غائبا فلا خصومة بينهم وبين المشتري" معناه إذا أنكر الدين وهذا "عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: المشتري خصمهم ويقضي لهم بدينهم" وعلى هذا الخلاف إذا اشترى دارا ووهبها وسلمها وغاب ثم حضر الشفيع فالموهوب له ليس بخصم عندهما خلافا له. وعنهما مثل قوله في مسألة الشفعة. لأبي يوسف أنه يدعي الملك لنفسه فيكون خصما لكل من ينازعه. ولهما أن الدعوى تتضمن فسخ العقد وقد قام بهما فيكون الفسخ قضاء على الغائب.
قال: "ومن قدم مصرا وقال أنا عبد لفلان فاشترى وباع لزمه كل شيء من التجارة"؛ لأنه إن أخبر بالإذن فالإخبار دليل عليه، وإن لم يخبر فتصرفه دليل عليه، إذ الظاهر أن المحجور يجري على موجب حجره والعمل بالظاهر هو الأصل في المعاملات كي لا يضيق الأمر على الناس، "إلا أنه لا يباع حتى يحضر مولاه"؛ لأنه لا يقبل قوله في الرقبة؛ لأنها خالص حق المولى، بخلاف الكسب؛ لأنه حق العبد على ما بينا "فإن حضر فقال هو مأذون بيع في الدين"؛ لأنه ظهر الدين في حق المولى "وإن قال هو محجور فالقول قوله"؛ لأنه متمسك بالأصل.

فصل: "وإذا أذن ولي الصبي للصبي في التجارة فهو في البيع والشراء كالعبد المأذون إذا كان يعقل البيع والشراء حتى ينفذ تصرفه"
وقال الشافعي: لا ينفذ؛ لأن حجره لصباه فيبقى ببقائه، ولأنه مولى عليه حتى يملك الولي التصرف عليه ويملك حجره فلا يكون واليا للمنافاة وصار كالطلاق والعتاق، بخلاف الصوم والصلاة؛ لأنه لا يقام بالولي، وكذا الوصية على أصله فتحققت الضرورة إلى تنفيذه منه.
أما بالبيع والشراء فيتولاه الولي فلا ضرورة هاهنا. ولنا أن التصرف المشروع صدر من أهله في محله عن ولاية شرعية فوجب تنفيذه على ما عرف تقريره في الخلافيات. والصبا سبب الحجر لعدم الهداية لا لذاته، وقد ثبتت نظرا إلى إذن الولي، وبقاء ولايته لنظر الصبي لاستيفاء المصلحة بطريقين واحتمال تبدل الحال، بخلاف الطلاق والعتاق؛ لأنه ضار محض فلم يؤهل له. والنافع المحض كقبول الهبة والصدقة يؤهل له قبل الإذن، والبيع والشراء دائر بين النفع والضرر فيجعل أهلا له بعد الإذن لا قبله، لكن قبل الإذن يكون موقوفا منه على إجازة الولي لاحتمال وقوعه نظرا، وصحة التصرف في نفسه، وذكر الولي في الكتاب ينتظم الأب والجد عند عدمه والوصي والقاضي والوالي، بخلاف صاحب

 

ج / 4 ص -295-       الشرط؛ لأنه ليس إليه تقليد القضاة، والشرط أن يعقل كون البيع سالبا للملك جالبا للربح، والتشبيه بالعبد المأذون له يفيد أن ما يثبت في العبد من الأحكام يثبت في حقه؛ لأن الإذن فك الحجر والمأذون يتصرف بأهلية نفسه عبدا كان أو صبيا، فلا يتقيد تصرفه بنوع دون نوع. ويصير مأذونا بالسكوت كما في العبد. ويصح إقراره بما في يده من كسبه وكذا بموروثه في ظاهر الرواية، كما يصح إقرار العبد
ولا يملك تزويج عبده ولا كتابته كما في العبد والمعتوه الذي يعقل البيع والشراء بمنزلة الصبي يصير مأذونا بإذن الأب والجد والوصي دون غيرهم على ما بيناه، وحكمه حكم الصبي، والله أعلم.