الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 4 ص -346-
كتاب الذبائح
قال:
"الذكاة شرط حل الذبيحة"
لقوله تعالى:
{إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] ولأن بها يتميز الدم النجس من اللحم الطاهر. وكما يثبت
به الحل يثبت به الطهارة في المأكول وغيره،
فإنها تنبئ عنها. ومنها قوله عليه الصلاة
والسلام:
"ذكاة
الأرض يبسها" وهي اختيارية كالجرح فيما بين اللبة واللحيين، واضطرارية وهي الجرح
في أي موضع كان من البدن. والثاني كالبدل عن
الأول لأنه لا يصار إليه إلا عند العجز عن
الأول. وهذا آية البدلية، وهذا لأن الأول أعمل
في إخراج الدم والثاني أقصر فيه، فاكتفى به
عند العجز عن الأول، إذ التكليف بحسب الوسع.
ومن شرطه أن يكون الذابح صاحب ملة التوحيد إما
اعتقادا كالمسلم أو دعوى كالكتابي، وأن يكون
حلالا خارج الحرم على ما نبينه إن شاء الله
تعالى.
قال:
"وذبيحة المسلم والكتابي حلال"
لما تلونا. و لقوله تعالى:
{وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ}
[المائدة:5]ويحل إذا كان يعقل التسمية والذبيحة ويضبط وإن كان صبيا
أو مجنونا أو امرأة، أما إذا كان لا يضبط ولا
يعقل التسمية والذبيحة لا تحل لأن التسمية على
الذبيحة شرط بالنص وذلك بالقصد. وصحة القصد
بما ذكرنا. والأقلف والمختون سواء لما ذكرنا،
وإطلاق الكتابي ينتظم الكتابي والذمي والحربي
والعربي والتغلبي، لأن الشرط قيام الملة على
ما مر.
قال:
"ولا تؤكل ذبيحة المجوسي"
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"سنوا بهم سنة أهل الكتاب غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ولأنه لا
يدعي التوحيد فانعدمت الملة اعتقادا ودعوى.
قال:
"والمرتد" لأنه لا ملة له.
فإنه لا يقر على ما انتقل إليه، بخلاف الكتابي
إذا تحول إلى غير دينه لأنه يقر عليه عندنا
فيعتبر ما هو عليه عند الذبح لا ما قبله.
قال:
"والوثني" لأنه لا يعتقد
الملة.
قال:
"والمحرم" يعني من الصيد
"وكذا لا يؤكل ما ذبح في الحرم من الصيد"
ج / 4 ص -347-
والإطلاق في المحرم ينتظم الحل والحرم، والذبح
في الحرم يستوي فيه الحلال والمحرم، وهذا لأن
الذكاة فعل مشروع وهذا الصنيع محرم فلم تكن
ذكاة، بخلاف ما إذا ذبح المحرم غير الصيد أو
ذبح في الحرم غير الصيد صح لأنه فعل مشروع، إذ
الحرم لا يؤمن الشاة، وكذا لا يحرم ذبحه على
المحرم.
قال:
"وإن ترك الذابح التسمية عمدا فالذبيحة ميتة
لا تؤكل وإن تركها ناسيا أكل"
وقال الشافعي: أكل في الوجهين. وقال مالك: لا
يؤكل في الوجهين والمسلم والكتابي في ترك
التسمية سواء، وعلى هذا الخلاف إذا ترك
التسمية عند إرسال البازي والكلب، وعند الرمي،
وهذا القول من الشافعي مخالف للإجماع فإنه لا
خلاف فيمن كان قبله في حرمة متروك التسمية
عامدا، وإنما الخلاف بينهم في متروك التسمية
ناسيا. فمن مذهب ابن عمر رضي الله عنهما أنه
يحرم، ومن مذهب علي وابن عباس رضي الله عنهم
أنه يحل، بخلاف متروك التسمية عامدا، ولهذا
قال أبو يوسف والمشايخ رحمهم الله: إن متروك
التسمية عامدا لا يسع فيه الاجتهاد، ولو قضى
القاضي بجواز بيعه لا ينفذ لكونه مخالفا
للإجماع، له قوله عليه الصلاة والسلام: "المسلم يذبح على اسم الله تعالى سمى أو لم يسم"
ولأن التسمية لو كانت شرطا للحل لما سقطت بعذر النسيان كالطاهرة في
باب الصلاة، ولو كانت شرطا فالملة أقيمت
مقامها كما في الناسي، ولنا الكتاب وهو قوله
تعالى:
{وَلاَ
تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ
اللَّهِ عَلَيْهِ}
[الأنعام:121] الآية، نهي وهو للتحريم. والإجماع وهو ما بينا.
والسنة وهو حديث عدي بن حاتم الطائي رضي الله
عنه فإنه عليه الصلاة والسلام قال في آخره
"فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب
غيرك" علل الحرمة بترك التسمية. ومالك يحتج
بظاهر ما ذكرنا، إذ لا فصل فيه ولكنا نقول: في
اعتبار ذلك من الحرج ما لا يخفى، لأن الإنسان
كثير النسيان والحرج مدفوع والسمع غير مجرى
على ظاهره، إذ لو أريد به لجرت المحاجة وظهر
الانقياد وارتفع الخلاف في الصدر الأول.
والإقامة في حق الناسي وهو معذور لا يدل عليها
في حق العامد ولا عذر، وما رواه محمول على
حالة النسيان ثم التسمية في ذكاة الاختيار
تشترط عند الذبح وهي على المذبوح. وفي الصيد
تشترط عند الإرسال والرمي وهي على الآلة، لأن
المقدور له في الأول الذبح وفي الثاني الرمي
والإرسال دون الإصابة فتشترط عند فعل يقدر
عليه، حتى إذا أضجع شاة وسمى فذبح غيرها بتلك
التسمية لا يجوز. ولو رمى إلى صيد وسمى وأصاب
غيره حل، وكذا في الإرسال، ولو أضجع شاة وسمى
ثم رمى بالشفرة وذبح بالأخرى أكل، ولو سمى على
سهم ثم رمى بغيره صيدا لا يؤكل.
ج / 4 ص -348-
قال:
"ويكره أن يذكر مع اسم الله تعالى شيئا غيره.
وأن يقول عند الذبح: اللهم تقبل من فلان"
وهذه ثلاث مسائل:
إحداها: أن يذكر موصولا لا
معطوفا فيكره ولا تحرم الذبيحة. وهو المراد
بما قال. ونظيره أن يقول: باسم الله محمد رسول
الله. لأن الشركة لم توجد فلم يكن الذبح واقعا
له. إلا أنه يكره لوجود القرآن صورة فيتصور
بصورة المحرم.
والثانية: أن يذكر موصولا على
وجه العطف والشركة بأن يقول: باسم الله واسم
فلان، أو يقول: باسم الله وفلان. أو باسم الله
ومحمد رسول الله بكسر الدال فتحرم الذبيحة
لأنه أهل به لغير الله.
والثالثة: أن يقول مفصولا عنه
صورة ومعنى بأن يقول قبل التسمية وقبل أن يضجع
الذبيحة أو بعده، وهذا لا بأس به لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال بعد الذبح:
"اللهم تقبل هذه عن أمة محمد ممن شهد لك بالوحدانية ولي بالبلاغ" والشرط هو
الذكر الخالص المجرد على ما قال ابن مسعود رضي
الله عنه جردوا التسمية حتى لو قال عند الذبح
اللهم اغفر لي لا يحل لأنه دعاء وسؤال، ولو
قال الحمد لله أو سبحان الله يريد التسمية حل،
ولو عطس عند الذبح فقال الحمد لله لا يحل في
أصح الروايتين. لأنه يريد به الحمد على نعمه
دون التسمية. وما تداولته الألسن عند الذبح
وهو قوله باسم الله والله أكبر منقول عن ابن
عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:
{فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} [الحج:36].
قال:
"والذبح بين الحلق واللبة"
وفي الجامع الصغير: لا بأس بالذبح في الحلق
كله وسطه وأعلاه وأسفله، والأصل فيه قوله عليه
الصلاة والسلام:
"الذكاة ما بين اللبة واللحيين"، ولأنه مجمع المجرى والعروق فيحصل بالفعل فيه إنهار الدم على أبلغ
الوجوه فكان حكم الكل سواء.
قال:
"والعروق التي تقطع في الذكاة أربعة: الحلقوم،
والمريء، والودجان" لقوله
عليه الصلاة والسلام:
"أفر الأوداج بما شئت". وهي
اسم جمع وأقله الثلاث فيتناول المريء
والودجين، وهو حجة على الشافعي في الاكتفاء
بالحلقوم والمريء، إلا أنه لا يمكن قطع هذه
الثلاثة إلا بقطع الحلقوم فيثبت قطع الحلقوم
باقتضائه، وبظاهر ما ذكرنا يحتج مالك ولا يجوز
الأكثر منها بل يشترط قطع جميعها
"وعندنا إن قطعها حل الأكل، وإن قطع
أكثرها فكذلك عند أبي حنيفة رحمه الله"
وقالا: لا بد من قطع الحلقوم والمريء وأحد
الودجين. قال
ج / 4 ص -349-
رضي
الله عنه: هكذا ذكر القدوري الاختلاف في
مختصره. والمشهور في كتب مشايخنا رحمهم الله
أن هذا قول أبي يوسف وحده.
وقال في الجامع الصغير: إن قطع نصف الحلقوم
ونصف الأوداج لم يؤكل. وإن قطع أكثر الأوداج
والحلقوم قبل أن يموت أكل. ولم يحك خلافا
فاختلفت الرواية فيه.
والحاصل: أن عند أبي حنيفة إذا قطع الثلاث: أي
ثلاث كان يحل، وبه كان يقول أبو يوسف أولا ثم
رجع إلى ما ذكرنا. وعن محمد أنه يعتبر أكثر كل
فرد وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله، لأن كل
فرد منها أصل بنفسه لانفصاله عن غيره ولورود
الأمر بفريه فيعتبر أكثر كل فرد منها. ولأبي
يوسف أن المقصود من قطع الودجين إنهار الدم
فينوب أحدهما عن الآخر، إذ كل واحد منهما مجرى
الدم.
أما الحلقوم فيخالف المريء فإنه مجرى العلف
والماء، والمريء مجرى النفس فلا بد من قطعهما.
ولأبي حنيفة أن الأكثر يقوم مقام الكل في كثير
من الأحكام، وأي ثلاث قطعها فقد قطع الأكثر
منها وما هو المقصود يحصل بها هو إنهار الدم
المسفوح والتوحية في إخراج الروح، لأنه لا
يحيا بعد قطع مجرى النفس أو الطعام، ويخرج
الدم بقطع أحد الودجين فيكتفى به تحرزا عن
زيادة التعذيب، بخلاف ما إذا قطع النصف لأن
الأكثر باق فكأنه لم يقطع شيئا احتياطا لجانب
الحرمة.
قال:
"ويجوز الذبح بالظفر والسن والقرن إذا كان
منزوعا حتى لا يكون بأكله بأس، إلا أنه يكره
هذا الذبح" وقال الشافعي:
المذبوح ميتة لقوله عليه الصلاة والسلام:
"كل ما أنهر
الدم وأفرى الأوداج ما خلا الظفر والسن فإنهما
مدى الحبشة" ولأنه فعل غير مشروع فلا يكون ذكاة كما إذا ذبح بغير المنزوع، ولنا
قوله عليه الصلاة والسلام:
"أنهر الدم بما شئت" ويروى
"أفر الأوداج بما شئت" وما رواه محمول على غير المنزوع فإن الحبشة كانوا يفعلون ذلك،
ولأنه آلة جارحة فيحصل به ما هو المقصود وهو
إخراج الدم وصار كالحجر والحديد، بخلاف غير
المنزوع لأنه يقتل بالثقل فيكون في معنى
المنخنقة، وإنما يكره لأن فيه استعمال جزء
الآدمي ولأن فيه إعسارا على الحيوان وقد أمرنا
فيه بالإحسان.
قال:
"ويجوز الذبح بالليطة والمروة وكل شيء أنهر
الدم إلا السن القائم والظفر القائم"
فإن المذبوح بهما ميتة لما بينا، ونص محمد
رحمه الله في الجامع الصغير على أنها ميتة
ج / 4 ص -350-
لأنه
وجد فيه نصا. وما لم يجد فيه نصا يحتاط في
ذلك، فيقول في الحل لا بأس به وفي الحرمة يقول
يكره أو لم يؤكل.
قال:
"ويستحب أن يحد الذابح شفرته"
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"إن الله تعالى كتب الإحسان على كل شيء، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة،
وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة، وليحد أحدكم شفرته
وليرح ذبيحته" ويكره أن يضجعها ثم يحد الشفرة لما روي عن النبي عليه الصلاة
والسلام: "أنه رأى رجلا
أضجع شاة وهو يحد شفرته فقال: لقد أردت أن
تميتها موتات، هلا حددتها قبل أن تضجعها"
قال:
"ومن بلغ بالسكين النخاع أو قطع الرأس كره له
ذلك وتؤكل ذبيحته" وفي بعض
النسخ: قطع مكان بلغ. والنخاع عرق أبيض في عظم
الرقبة، أما الكراهة فلما روي عن النبي عليه
الصلاة والسلام:
"أنه نهى أن تنخع الشاة إذا ذبحت"
وتفسيره ما ذكرناه، وقيل معناه: أن يمد رأسه
حتى يظهر مذبحه، وقيل أن يكسر عنقه قبل أن
يسكن من الاضطراب، وكل ذلك مكروه، وهذا لأن في
جميع ذلك وفي قطع الرأس زيادة تعذيب الحيوان
بلا فائدة وهو منهي عنه.
والحاصل: أن ما فيه زيادة إيلام لا يحتاج إليه
في الذكاة مكروه. ويكره أن يجر ما يريد ذبحه
برجله إلى المذبح، وأن تنخع الشاة قبل أن
تبرد: يعني تسكن من الاضطراب، وبعده لا ألم
فلا يكره النخع والسلخ، إلا أن الكراهة لمعنى
زائد وهو زيادة الألم قبل الذبح أو بعده فلا
يوجب التحريم فلهذا قال: تؤكل ذبيحته.
قال:
"فإن ذبح الشاة من قفاها فبقيت حية حتى قطع
العروق حل" لتحقق الموت بما
هو ذكاة، ويكره لأن فيه زيادة الألم من غير
حاجة فصار كما إذا جرحها ثم قطع الأوداج
"وإن ماتت قبل قطع العروق لم تؤكل"
لوجود الموت بما ليس بذكاة فيها.
قال:
"وما استأنس من الصيد فذكاته الذبح، وما توحش
من النعم فذكاته العقر والجرح"
لأن ذكاة الاضطرار إنما يصار إليه عند العجز
عن ذكاة الاختيار على ما مر، والعجز متحقق في
الوجه الثاني دون الأول
"وكذا ما تردى من النعم في بئر ووقع العجز عن
ذكاة الاختيار" لما بينا.
وقال مالك: لا يحل بذكاة الاضطرار في الوجهين
لأن ذلك نادر. ونحن نقول: المعتبر حقيقة العجز
وقد تحقق فيصار إلى البدل، كيف وإنا لا نسلم
الندرة بل هو غالب. وفي الكتاب أطلق فيما توحش
من النعم. وعن محمد أن الشاة إذا ندت في
الصحراء فذكاتها العقر، وإن ندت في المصر لا
تحل بالعقر لأنها لا تدفع عن
ج / 4 ص -351-
نفسها
فيمكن أخذها في المصر فلا عجز، والمصر وغيره
سواء في البقر والبعير لأنهما يدفعان عن
أنفسهما فلا يقدر على أخذهما، وإن ندا في
المصر فيتحقق العجز، والصيال كالند إذا كان لا
يقدر على أخذه، حتى لو قتله المصول عليه وهو
يريد الذكاة حل أكله.
قال:
"والمستحب في الإبل النحر، فإن ذبحها جاز
ويكره. والمستحب في البقر والغنم الذبح فإن
نحرهما جاز ويكره" أما
الاستحباب فلموافقة السنة المتوارثة ولاجتماع
العروق فيها في المنحر وفيهما في المذبح،
والكراهة لمخالفة السنة وهي لمعنى في غيره فلا
تمنع الجواز والحل خلافا لما يقوله مالك إنه
لا يحل.
قال:
"ومن نحر ناقة أو ذبح بقرة فوجد في بطنها
جنينا ميتا لم يؤكل أشعر أو لم يشعر"
وهذا عند أبي حنيفة. وهو قول زفر والحسن بن
زياد رحمهما الله. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما
الله: إذا تم خلقه أكل وهو قول الشافعي لقوله
عليه الصلاة والسلام:
"ذكاة الجنين ذكاة أمه" ولأنه جزء من الأم حقيقة لأنه متصل بها حتى يفصل بالمقراض ويتغذى
بغذائها ويتنفس بتنفسها، وكذا حكما حتى يدخل
في البيع الوارد على الأم ويعتق بإعتاقها.
وإذا كان جزءا منها فالجرح في الأم ذكاة له
عند العجز عن ذكاته كما في الصيد. وله أنه أصل
في الحياة حتى تتصور حياته بعد موتها وعند ذلك
يفرد بالذكاة، ولهذا يفرد بإيجاب الغرة ويعتق
بإعتاق مضاف إليه، وتصح الوصية له وبه، وهو
حيوان دموي، وما هو المقصود من الذكاة وهو
الميز بين الدم واللحم لا يتحصل بجرح الأم، إذ
هو ليس بسبب لخروج الدم عنه فلا يجعل تبعا في
حقه، بخلاف الجرح في الصيد لأنه سبب لخروجه
ناقصا فيقام مقام الكامل فيه عند التعذر.
وإنما يدخل في البيع تحريا لجوازه كي لا يفسد
باستثنائه، ويعتق بإعتاقها كي لا ينفصل من
الحرة ولد رقيق.
فصل: فيما يحل أكله وما لا يحل
قال:
"ولا يجوز أكل ذي ناب من السباع ولا ذي مخلب
من الطيور" لأن النبي عليه
الصلاة والسلام:
"نهى عن
أكل كل ذي مخلب من الطيور وكل ذي ناب من
السباع".
وقوله من السباع ذكر عقيب النوعين فينصرف
إليهما فيتناول سباع الطيور والبهائم لأكل ما
له مخلب أو ناب. والسبع كل مختطف منتهب جارح
قاتل عاد عادة. ومعنى التحريم والله أعلم
كرامة بني آدم كي لا يعدو شيء من هذه الأوصاف
الذميمة إليهم بالأكل، ويدخل فيه الضبع
والثعلب، فيكون الحديث حجة على الشافعي رحمه
الله في إباحتهما، والفيل ذو ناب فيكره،
واليربوع وابن عرس من السباع الهوام وكرهوا
أكل الرخم والبغاث لأنهما يأكلان الجيف.
ج / 4 ص -352-
قال:
"ولا بأس بغراب الزرع" لأنه
يأكل الحب ولا يأكل الجيف وليس من سباع الطير.
قال:
"ولا يؤكل الأبقع الذي يأكل الجيف، وكذا
الغداف" "وقال أبو حنيفة: لا بأس بأكل العقعق"
لأنه يخلط فأشبه الدجاجة. وعن أبي يوسف أنه
يكره لأن غالب أكله الجيف.
قال:
"ويكره أكل الضبع والضب والسلحفاة والزنبور
والحشرات كلها" أما الضبع
فلما ذكرنا، وأما الضب فلأن النبي عليه الصلاة
والسلام
"نهى عائشة رضي الله عنها حين سألته عن أكله". وهي حجة على الشافعي في إباحته، والزنبور من المؤذيات. والسلحفاة
من خبائث الحشرات ولهذا لا يجب على المحرم
بقتله شيء، وإنما تكره الحشرات كلها استدلالا
بالضب لأنه منها.
قال:
"ولا يجوز أكل الحمر الأهلية والبغال"
لما روى خالد بن الوليد رضي الله عنه أن النبي
صلى الله عليه وسلم:
"نهى عن لحوم الخيل والبغال والحمير"
وعن علي رضي الله عنه:
"أن النبي عليه
الصلاة والسلام أهدر المتعة وحرم لحوم الحمر
الأهلية يوم خيبر"
قال:
"ويكره لحم الفرس عند أبي حنيفة"
وهو قول مالك. وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي
رحمهم الله: لا بأس بأكله لحديث جابر رضي الله
عنه أنه قال
"نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم
الحمر الأهلية، وأذن في لحوم الخيل يوم خيبر" ولأبي
حنيفة قوله تعالى:
{وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} [النحل:8] خرج مخرج الامتنان والأكل من أعلى منافعها، والحكم لا
يترك الامتنان بأعلى النعم ويمتن بأدناها،
ولأنه آلة إرهاب العدو فيكره أكله احتراما له
ولهذا يضرب له بسهم في الغنيمة، ولأن في
إباحته تقليل آلة الجهاد، وحديث. جابر معارض
بحديث خالد رضي الله عنه، والترجيح للمحرم. ثم
قيل: الكراهة عنده كراهة تحريم. وقيل كراهة
تنزيه. والأول أصح. وأما لبنه فقد قيل: لا بأس
به لأنه ليس في شربه تقليل آلة الجهاد
قال:
"ولا بأس بأكل الأرنب" لأن
النبي عليه الصلاة والسلام أكل منه حين أهدي
إليه مشويا وأمر أصحابه رضي الله عنهم بالأكل
منه، ولأنه ليس من السباع ولا من أكلة الجيف
فأشبه الظبي.
قال:
"وإذا ذبح ما لا يؤكل لحمه طهر جلده ولحمه إلا
الآدمي والخنزير" فإن الذكاة
لا تعمل فيهما، أما الآدمي فلحرمته وكرامته
والخنزير لنجاسته كما في الدباغ. وقال
ج / 4 ص -353-
الشافعي: الذكاة لا تؤثر في جميع ذلك لأنه لا
يؤثر في إباحة اللحم أصلا. وفي طهارته وطهارة
الجلد تبعا ولا تبع بدون الأصل وصار كذبح
المجوسي. ولنا أن الذكاة مؤثرة في إزالة
الرطوبات والدماء السيالة وهي النجسة دون ذات
الجلد واللحم، فإذا زالت طهر كما في الدباغ.
وهذا الحكم مقصود في الجلد كالتناول في اللحم
وفعل المجوسي إماتة في الشرع فلا بد من
الدباغ، وكما يطهر لحمه يطهر شحمه، حتى لو وقع
في الماء القليل لا يفسده خلافا له. وهل يجوز
الانتفاع به في غير الأكل؟ قيل: لا يجوز
اعتبارا بالأكل. وقيل يجوز كالزيت إذا خالطه
ودك الميتة. والزيت غالب لا يؤكل وينتفع به في
غير الأكل.
قال:
"ولا يؤكل من حيوان الماء إلا السمك"
وقال مالك وجماعة من أهل العلم بإطلاق جميع ما
في البحر. واستثنى بعضهم الخنزير والكلب
والإنسان. وعن الشافعي أنه أطلق ذاك كله،
والخلاف في الأكل والبيع واحد لهم قوله تعالى:
{أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} [المائدة:96] من غير فصل، وقوله عليه الصلاة والسلام في البحر
"هو الطهور ماؤه والحل ميتته" ولأنه لا دم في هذه الأشياء إذ الدموي لا يسكن الماء والمحرم هو
الدم فأشبه السمك. قلنا: قوله تعالى:
{وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ} [الأعراف:157] وما سوى السمك خبيث.
"ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن دواء يتخذ فيه الضفدع"، ونهى عن
بيع السرطان والصيد المذكور فيما تلا محمول
على الاصطياد وهو مباح فيما لا يحل، والميتة
المذكورة فيما روى محمولة على السمك وهو حلال
مستثنى من ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:
"أحلت لنا ميتتان ودمان، أما الميتتان فالسمك والجراد وأما الدمان
فالكبد والطحال".
قال:
"ويكره أكل الطافي منه"
وقال مالك والشافعي رحمهما الله لا بأس به
لإطلاق ما روينا، ولأن ميتة البحر موصوفة
بالحل بالحديث. ولنا ما روى جابر رضي الله عنه
عن. النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"ما نضب عنه
الماء فكلوا، وما لفظه الماء فكلوا، وما طفا
فلا تأكلوا" وعن جماعة من الصحابة مثل مذهبنا، وميتة البحر ما لفظه البحر ليكون
موته مضافا إلى البحر لا ما مات فيه من غير
آفة.
قال:
"ولا بأس بأكل الجريث والمارماهي وأنواع السمك
والجراد بلا ذكاة" وقال مالك:
لا يحل الجراد إلا أن يقطع الآخذ رأسه أو
يشويه لأنه صيد البر، ولهذا يجب على المحرم
بقتله جزاء يليق به فلا يحل إلا بالقتل كما في
سائره. والحجة عليه ما روينا. وسئل علي رضي
الله عنه عن الجراد يأخذه الرجل من الأرض
وفيها الميت وغيره، فقال:
ج / 4 ص -354-
كله
كله. وهذا عد من فصاحته، ودل على إباحته وإن
مات حتف أنفه، بخلاف السمك إذا مات من غير آفة
لأنا خصصناه بالنص الوارد في الطافي، ثم الأصل
في السمك عندنا أنه إذا مات بآفة يحل
كالمأخوذ، وإذا مات حتف أنفه من غير آفة لا
يحل كالطافي، وتنسحب عليه فروع كثيرة بيناها
في كفاية المنتهى. وعند التأمل يقف المبرز
عليها: منها إذا قطع بعضها فمات يحل أكل ما
أبين وما بقي. لأن موته بآفة وما أبين من الحي
وإن كان ميتا فميتته حلال. وفي الموت بالحر
والبرد روايتان. والله أعلم بالصواب. |