الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -355-       كتاب الأضحية
قال: "الأضحية واجبة على كل حر مسلم مقيم موسر في يوم الأضحى عن نفسه وعن ولده الصغار" أما الوجوب فقول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن وإحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمهم الله. وعنه أنها سنة، ذكره في الجوامع وهو قول الشافعي. وذكر الطحاوي أن على قول أبي حنيفة واجبة، وعلى قول أبي يوسف ومحمد سنة مؤكدة، وهكذا ذكر بعض المشايخ الاختلاف. وجه السنة قوله عليه الصلاة والسلام: "من أراد أن يضحي منكم فلا يأخذ من شعره وأظفاره شيئا" والتعليق بالإرادة ينافي الوجوب، ولأنها لو كانت واجبة على المقيم لوجبت على المسافر لأنهما لا يختلفان في الوظائف المالية كالزكاة وصار كالعتيرة. ووجه الوجوب قوله عليه الصلاة والسلام: "من وجد سعة ولم يضح فلا يقربن مصلانا" ومثل هذا الوعيد لا يلحق بترك غير الواجب، ولأنها قربة يضاف إليها وقتها. يقال يوم الأضحى، وذلك يؤذن بالوجوب لأن الإضافة للاختصاص وهو بالوجود، والوجوب هو المفضي إلى الوجود ظاهرا بالنظر إلى الجنس، غير أن الأداء يختص بأسباب يشق على المسافر استحضارها ويفوت بمضي الوقت فلا تجب عليه بمنزلة الجمعة، والمراد بالإرادة فيما روي والله أعلم ما هو ضد السهو لا التخيير. والعتيرة منسوخة، وهي شاة تقام في رجب على ما قيل، وإنما اختص الوجوب بالحرية لأنها وظيفة مالية لا تتأدى إلا بالملك، والمالك هو الحر؛ وبالإسلام لكونها قربة، وبالإقامة لما بينا، واليسار لما روينا من اشتراط السعة؛ ومقداره ما يجب به صدقة الفطر وقد مر في الصوم، وبالوقت وهو يوم الأضحى لأنها مختصة به، وسنبين مقداره إن شاء الله تعالى. وتجب عن نفسه لأنه أصل في الوجوب عليه على ما بيناه، وعن ولده الصغير لأنه في معنى نفسه فيلحق به كما في صدقة الفطر. وهذه رواية الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله. وروي عنه أنه لا تجب عن ولده وهو ظاهر الرواية، بخلاف صدقة الفطر لأن السبب هناك رأس يمونه ويلي عليه وهما موجودان في الصغير وهذه قربة محضة. والأصل في القرب أن لا تجب على الغير بسبب الغير ولهذا لا تجب عن عبده وإن كان

 

ج / 4 ص -356-       يجب عنه صدقة فطره، وإن كان للصغير مال يضحي عنه أبوه أو وصيه من ماله عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
وقال محمد وزفر والشافعي رحمهم الله: يضحي من مال نفسه لا من مال الصغير، فالخلاف في هذا كالخلاف في صدقة الفطر. وقيل لا تجوز التضحية من مال الصغير، في قولهم جميعا، لأن هذه القربة تتأدى بالإراقة والصدقة بعدها تطوع، ولا يجوز ذلك من مال الصغير، ولا يمكنه أن يأكل كله. والأصح أن يضحي من ماله ويأكل منه ما أمكنه ويبتاع بما بقي ما ينتفع بعينه.
قال: "ويذبح عن كل واحد منهم شاة أو يذبح بقرة أو بدنة عن سبعة" والقياس أن لا تجوز إلا عن واحد، لأن الإراقة واحدة وهي القربة، إلا أنا تركناه بالأثر وهو ما روي عن جابر رضي الله عنه أنه قال:
"نحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم البقرة عن سبعة والبدنة عن سبعة". ولا نص في الشاة، فبقي على أصل القياس. وتجوز عن ستة أو خمسة أو ثلاثة، ذكره محمد رحمه الله في الأصل، لأنه لما جاز عن السبعة فعمن دونهم أولى، ولا تجوز عن ثمانية أخذا بالقياس فيما لا نص فيه وكذا إذا كان نصيب أحدهم أقل من السبع، ولا تجوز عن الكل لانعدام وصف القربة في البعض، وسنبينه إن شاء الله تعالى. وقال مالك: تجوز عن أهل بيت واحد وإن كانوا أكثر من سبعة، ولا تجوز عن أهل بيتين وإن كانوا أقل منها لقوله عليه الصلاة والسلام: "على كل أهل بيت في كل عام أضحاة وعتيرة" قلنا: المراد منه والله أعلم قيم أهل البيت لأن اليسار له يؤيده ما يروى "على كل مسلم في كل عام أضحاة وعتيرة" ولو كانت البدنة بين اثنين نصفين تجوز في الأصح، لأنه لما جاز ثلاثة الأسباع جاز نصف السبع تبعا، وإذا جاز على الشركة فقسمة اللحم بالوزن لأنه موزون، ولو اقتسموا جزافا لا يجوز إلا إذا كان معه شيء من الأكارع والجلد اعتبارا بالبيع.
قال: "ولو اشترى بقرة يريد أن يضحي بها عن نفسه ثم اشترك فيها ستة معه جاز استحسانا" وفي القياس لا يجوز، وهو قول زفر لأنه أعدها للقربة فيمنع عن بيعها تمولا والاشتراك هذه صفته. وجه الاستحسان أنه قد يجد بقرة سمينة يشتريها ولا يظفر بالشركاء وقت البيع، وإنما يطلبهم بعده فكانت الحاجة إليه ماسة فجوزناه دفعا للحرج، وقد أمكن لأن بالشراء للتضحية لا يمتنع البيع، والأحسن أن يفعل ذلك قبل الشراء ليكون أبعد عن

 

ج / 4 ص -357-       الخلاف، وعن صورة الرجوع في القربة. وعن أبي حنيفة أنه يكره الاشتراك بعد الشراء لما بينا.
قال: "وليس على الفقير والمسافر أضحية" لما بينا. وأبو بكر وعمر كانا لا يضحيان إذا كانا مسافرين، وعن علي: وليس على المسافر جمعة ولا أضحية.
قال: "ووقت الأضحية يدخل بطلوع الفجر من يوم النحر، إلا أنه لا يجوز لأهل الأمصار الذبح حتى يصلي الإمام العيد، فأما أهل السواد فيذبحون بعد الفجر". والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
"من ذبح شاة قبل الصلاة فليعد ذبيحته، ومن ذبح بعد الصلاة فقد تم نسكه وأصاب سنة المسلمين" وقال عليه الصلاة والسلام: "إن أول نسكنا في هذا اليوم الصلاة ثم الأضحية" غير أن هذا الشرط في حق من عليه الصلاة وهو المصري دون أهل السواد، لأن التأخير لاحتمال التشاغل به عن الصلاة، ولا معنى للتأخير في حق القروي ولا صلاة عليه، وما رويناه حجة على مالك والشافعي رحمهما الله في نفيهما الجواز بعد الصلاة قبل نحر الإمام، ثم المعتبر في ذلك مكان الأضحية، حتى لو كانت في السواد والمضحي في المصر يجوز كما انشق الفجر، ولو كان على العكس لا يجوز إلا بعد الصلاة. وحيلة المصري إذا أراد التعجيل أن يبعث بها إلى خارج المصر فيضحي بها كما طلع الفجر، لأنها تشبه الزكاة من حيث أنها تسقط بهلاك المال قبل مضي أيام النحر كالزكاة بهلاك النصاب فيعتبر في الصرف مكان المحل لا مكان الفاعل اعتبارا بها، بخلاف صدقة الفطر لأنها لا تسقط بهلاك المال بعدما طلع الفجر من يوم الفطر
ولو ضحى بعدما صلى أهل المسجد ولم يصل أهل الجبانة أجزأه استحسانا لأنها صلاة معتبرة، حتى لو اكتفوا بها أجزأتهم وكذا على عكسه. وقيل هو جائز قياسا واستحسانا.
قال: "وهي جائزة في ثلاثة أيام: يوم النحر ويومان بعده" وقال الشافعي: ثلاثة أيام بعده لقوله عليه الصلاة والسلام: "أيام التشريق كلها أيام ذبح" ولنا ما روي عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا: أيام النحر ثلاثة أفضلها أولها وقد قالوه سماعا لأن الرأي لا يهتدي إلى المقادير، وفي الأخبار تعارض فأخذنا بالمتيقن وهو الأقل، وأفضلها أولها كما قالوا ولأن فيه مسارعة إلى أداء القربة وهو الأصل إلا لمعارض. ويجوز الذبح في لياليها إلا أنه يكره لاحتمال الغلط في ظلمة الليل، وأيام النحر ثلاثة، وأيام التشريق ثلاثة، والكل يمضي بأربعة أولها نحر لا غير وآخرها تشريق لا غير، والمتوسطان نحر وتشريق، والتضحية فيها أفضل من التصدق بثمن الأضحية لأنها تقع واجبة أو سنة

 

ج / 4 ص -358-       والتصدق تطوع محض فتفضل عليه، لأنها تفوت بفوات وقتها، والصدقة يؤتى بها في الأوقات كلها فنزلت منزلة الطواف والصلاة في حق الآفاقي "ولو لم يضح حتى مضت أيام النحر إن كان أوجب على نفسه أو كان فقيرا وقد اشترى الأضحية تصدق بها حية وإن كان غنيا تصدق بقيمة شاة اشترى أو لم يشتر" لأنها واجبة على الغني. وتجب على الفقير بالشراء بنية التضحية عندنا، فإذا فات الوقت وجب عليه التصدق إخراجا له عن العهدة، كالجمعة تقضى بعد فواتها ظهرا، والصوم بعد العجز فدية.
قال: "ولا يضحي بالعمياء والعوراء والعرجاء التي لا تمشي إلى المنسك ولا العجفاء" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تجزئ في الضحايا أربعة: العوراء البين عورها والعرجاء البين عرجها والمريضة البين مرضها، والعجفاء التي لا تنقي"
قال: "ولا تجزئ مقطوعة الأذن والذنب". أما الأذن فلقوله عليه الصلاة والسلام:
"استشرفوا العين والأذن" أي اطلبوا سلامتهما. وأما الذنب فلأنه عضو كامل مقصود فصار كالأذن.
قال: "ولا التي ذهب أكثر أذنها وذنبها، وإن بقي أكثر الأذن والذنب جاز" لأن للأكثر حكم الكل بقاء وذهابا ولأن العيب اليسير لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا.
واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في مقدار الأكثر. ففي الجامع الصغير عنه: وإن قطع من الذنب أو الأذن أو العين أو الألية الثلث أو أقل أجزأه، وإن كان أكثر لم يجزه لأن الثلث تنفذ فيه الوصية من غير رضا الورثة فاعتبر قليلا، وفيما زاد لا تنفذ إلا برضاهم فاعتبر كثيرا، ويروى عنه الربع لأنه يحكي حكاية الكمال على ما مر في الصلاة، ويروى الثلث لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث الوصية
"الثلث والثلث كثير" وقال أبو يوسف ومحمد: إذا بقي الأكثر من النصف أجزأه اعتبارا للحقيقة على ما تقدم في الصلاة وهو اختيار الفقيه أبي الليث. وقال أبو يوسف: أخبرت بقولي أبا حنيفة، فقال قولي هو قولك. قيل هو رجوع منه إلى قول أبي يوسف، وقيل معناه قولي قريب من قولك. وفي كون النصف مانعا روايتان عنهما كما في انكشاف العضو عن أبي يوسف، ثم معرفة المقدار في غير العين متيسر، وفي العين قالوا: تشد العين المعيبة بعد أن لا تعتلف الشاة يوما أو يومين ثم يقرب العلف إليها قليلا قليلا، فإذا رأته من موضع أعلم على ذلك المكان ثم تشد عينها الصحيحة وقرب إليها العلف قليلا قليلا حتى إذا رأته من مكان أعلم عليه. ثم ينظر إلى تفاوت ما بينهما، فإن كان ثلثا فالذاهب الثلث، وإن كان نصفا فالنصف.

 

ج / 4 ص -359-       قال: "ويجوز أن يضحي بالجماء" وهي التي لا قرن لها لأن القرن لا يتعلق به مقصود، وكذا مكسورة القرن لما قلنا "والخصي" لأن لحمها أطيب وقد صح "أن النبي صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين موجوءين" "والثولاء" وهي المجنونة، وقيل هذا إذا كانت تعتلف لأنه لا يخل بالمقصود، أما إذا كانت لا تعتلف فلا تجزئه. "والجرباء" إن كانت سمينة جاز لأن الجرب في الجلد ولا نقصان في اللحم، وإن كانت مهزولة لا يجوز لأن الجرب في اللحم فانتقص. وأما الهتماء وهي التي لا أسنان لها؛ فعن أبي يوسف أنه يعتبر في الأسنان الكثرة والقلة، وعنه إن بقي ما يمكنه الاعتلاف به أجزأه لحصول المقصود. "والسكاء" وهي التي لا أذن لها خلقة لا تجوز، لأن مقطوع أكثر الأذن إذا كان لا يجوز فعديم الأذن أولى
"وهذا" الذي ذكرنا "إذا كانت هذه العيوب قائمة وقت الشراء، ولو اشتراها سليمة ثم تعيبت بعيب مانع إن كان غنيا عليه غيرها، وإن فقيرا تجزئه هذه" لأن الوجوب على الغني بالشرع ابتداء لا بالشراء فلم تتعين به، وعلى الفقير بشرائه بنية الأضحية فتعينت، ولا يجب عليه ضمان نقصانه كما في نصاب الزكاة، وعن هذا الأصل قالوا: إذا ماتت المشتراة للتضحية؛ على الموسر مكانها أخرى ولا شيء على الفقير، ولو ضلت أو سرقت فاشترى أخرى ثم ظهرت الأولى في أيام النحر على الموسر ذبح إحداهما وعلى الفقير ذبحهما "ولو أضجعها فاضطربت فانكسرت رجلها فذبحها أجزأه استحسانا" عندنا خلافا لزفر والشافعي رحمهما الله، لأن حالة الذبح ومقدماته ملحقة بالذبح فكأنه حصل به اعتبارا وحكما "وكذا لو تعيبت في هذه الحالة فانفلتت ثم أخذت من فوره، وكذا بعد فوره عند محمد خلافا لأبي يوسف" لأنه حصل بمقدمات الذبح.
قال: "والأضحية من الإبل والبقر والغنم" لأنها عرفت شرعا ولم تنقل التضحية بغيرها من النبي عليه الصلاة والسلام ولا من الصحابة رضي الله عنهم.
قال: "ويجزئ من ذلك كله الثني فصاعدا. إلا الضأن فإن الجذع منه يجزئ" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ضحوا بالثنايا إلا أن يعسر على أحدكم فليذبح الجذع من الضأن". وقال عليه الصلاة والسلام: "نعمت الأضحية الجذع من الضأن".
قالوا: وهذا إذا كانت عظيمة بحيث لو خلطت بالثنيان يشتبه على الناظر من بعيد. والجذع من الضأن ما تمت له ستة أشهر في مذهب الفقهاء، وذكر الزعفراني أنه ابن سبعة أشهر. والثني منها ومن المعز سنة، ومن البقر ابن سنتين، ومن الإبل ابن خمس سنين، ويدخل في البقر الجاموس لأنه من جنسه، والمولود بين الأهلي والوحشي يتبع الأم

 

ج / 4 ص -360-       لأنها هي الأصل في التبعية، حتى إذا نزا الذئب على الشاة يضحى بالولد.
قال: "وإذا اشترى سبعة بقرة ليضحوا بها فمات أحدهم قبل النحر وقالت الورثة اذبحوها عنه وعنكم أجزأهم، وإن كان شريك الستة نصرانيا أو رجلا يريد اللحم لم يجز عن واحد منهم" ووجهه أن البقرة تجوز عن سبعة، ولكن من شرطه أن يكون قصد الكل القربة وإن اختلفت جهاتها كالأضحية والقران والمتعة عندنا لاتحاد المقصود وهو القربة، وقد وجد هذا الشرط في الوجه الأول لأن الضحية عن الغير عرفت قربة؛ ألا ترى أن النبي عليه الصلاة والسلام ضحى عن أمته على ما روينا من قبل، ولم يوجد في الوجه الثاني لأن النصراني ليس من أهلها، وكذا قصد اللحم ينافيها. وإذا لم يقع البعض قربة والإراقة لا تتجزأ في حق القربة لم يقع الكل أيضا فامتنع الجواز، وهذا الذي ذكره استحسان. والقياس أن لا يجوز وهو رواية عن أبي يوسف، لأنه تبرع بالإتلاف فلا يجوز عن غيره كالإعتاق عن الميت، لكنا نقول: القربة قد تقع عن الميت كالتصدق، بخلاف الإعتاق لأن فيه إلزام الولاء على الميت "فلو ذبحوها عن صغير في الورثة أو أم ولد جاز" لما بينا أنه قربة "ولو مات واحد منهم فذبحها الباقون بغير إذن الورثة لا تجزيهم" لأنه لم يقع بعضها قربة، وفيما تقدم وجد الإذن من الورثة فكان قربة.
قال: "ويأكل من لحم الأضحية ويطعم الأغنياء والفقراء ويدخر" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"كنت نهيتكم عن أكل لحوم الأضاحي فكلوا منها وادخروا" ومتى جاز أكله وهو غني جاز أن يؤكله غنيا.
قال: "ويستحب أن لا ينقص الصدقة عن الثلث" لأن الجهات ثلاثة: الأكل والادخار لما روينا، والإطعام لقوله تعالى:
{وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ} [الحج:36] فانقسم عليهم أثلاثا.
قال: "ويتصدق بجلدها" لأنه جزء منها "أو يعمل منه آلة تستعمل في البيت" كالنطع والجراب والغربال ونحوها، لأن الانتفاع به غير محرم "ولا بأس بأن يشتري به ما ينتفع بعينه في البيت مع بقائه" استحسانا، وذلك مثل ما ذكرنا لأن للبدل حكم المبدل، "ولا يشتري به ما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه كالخل والأبازير" اعتبارا بالبيع بالدراهم. والمعنى فيه أنه تصرف على قصد التمول، واللحم بمنزلة الجلد في الصحيح، فلو باع الجلد أو اللحم بالدراهم أو بما لا ينتفع به إلا بعد استهلاكه تصدق بثمنه، لأن القربة انتقلت إلى بدله، وقوله عليه الصلاة والسلام:
"من باع جلد أضحيته فلا أضحية له" يفيد كراهة البيع.

 

ج / 4 ص -361-       أما البيع جائز لقيام الملك والقدرة على التسليم.
قال: "ولا يعطي أجرة الجزار من الأضحية" لقوله عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله عنه:
"تصدق بجلالها وخطامها ولا تعط أجر الجزار منها شيئا" والنهي عنه نهي عن البيع أيضا لأنه في معنى البيع.
قال: "ويكره أن يجز صوف أضحيته وينتفع به قبل أن يذبحها" لأنه التزم إقامة القربة بجميع أجزائها، بخلاف ما بعد الذبح لأنه أقيمت القربة بها كما في الهدي، ويكره أن يحلب لبنها فينتفع به كما في الصوف.
قال: "والأفضل أن يذبح أضحيته بيده إن كان يحسن الذبح" وإن كان لا يحسنه فالأفضل أن يستعين بغيره، وإذا استعان بغيره ينبغي أن يشهدها بنفسه لقوله عليه الصلاة والسلام لفاطمة رضي الله عنها:
"قومي فاشهدي أضحيتك، فإنه يغفر لك بأول قطرة من دمها كل ذنب".
قال: "ويكره أن يذبحها الكتابي" لأنه عمل هو قربة وهو ليس من أهلها، فلو أمره فذبح جاز لأنه من أهل الذكاة، والقربة أقيمت بإنابته ونيته، بخلاف ما إذا أمر المجوسي لأنه ليس من أهل الذكاة فكان إفسادا.
قال: "وإذا غلط رجلان فذبح كل واحد منهما أضحية الآخر أجزأ عنهما ولا ضمان عليهما" وهذا استحسان، وأصل هذا أن من ذبح أضحية غيره بغير إذنه لا يحل له ذلك وهو ضامن لقيمتها، ولا يجزئه عن الأضحية في القياس وهو قول زفر وفي الاستحسان يجوز ولا ضمان على الذابح، وهو قولنا. وجه القياس أنه ذبح شاة غيره بغير أمره فيضمن، كما إذا ذبح شاة اشتراها القصاب. وجه الاستحسان أنها تعينت للذبح لتعينها للأضحية حتى وجب عليه أن يضحي بها بعينها في أيام النحر. ويكره أن يبدل بها غيرها فصار المال مستعينا بكل من يكون أهلا للذبح آذنا له دلالة لأنها تفوت بمضي هذه الأيام، وعساه يعجز عن إقامتها بعوارض فصار كما إذا ذبح شاة شد القصاب رجلها.
فإن قيل: يفوته أمر مستحب وهو أن يذبحها بنفسه أو يشهد الذبح فلا يرضى به.
قلنا: يحصل له به مستحبان آخران، صيرورته مضحيا لما عينه، وكونه معجلا به فيرتضيه.
ولعلمائنا رحمهم الله من هذا الجنس مسائل استحسانية، وهي أن من طبخ لحم غيره أو طحن حنطته أو رفع جرته فانكسرت أو حمل على دابته فعطبت كل ذلك بغير أمر المالك

 

ج / 4 ص -362-       يكون ضامنا، ولو وضع المالك اللحم في القدر والقدر على الكانون والحطب تحته، أو جعل الحنطة في الدورق وربط الدابة عليه، أو رفع الجرة وأمالها إلى نفسه أو حمل على دابته فسقط في الطريق، فأوقد هو النار فيه وطبخه، أو ساق الدابة فطحنها، أو أعانه على رفع الجرة فانكسرت فيما بينهما، أو حمل على دابته ما سقط فعطبت لا يكون ضامنا في هذه الصور كلها استحسانا لوجود الإذن دلالة.
إذا ثبت هذا فنقول في مسألة الكتاب: ذبح كل واحد منهما أضحية غيره بغير إذنه صريحا فهي خلافية زفر بعينها ويتأتى فيها القياس والاستحسان كما ذكرنا، فيأخذ كل واحد منهما مسلوخة من صاحبه، ولا يضمنه لأنه وكيله فيما فعل دلالة، فإذا كانا قد أكلا ثم علما فليحلل كل واحد منهما صاحبه ويجزيهما، لأنه لو أطعمه في الابتداء يجوز، وإن كان غنيا فكذا له أن يحلله في الانتهاء وإن، تشاحا فلكل واحد منهما أن يضمن صاحبه قيمة لحمه ثم يتصدق بتلك القيمة لأنها بدل عن اللحم فصار كما لو باع أضحيته، وهذا لأن التضحية لما وقعت عن صاحبه كان اللحم له ومن أتلف لحم أضحية غيره كان الحكم ما ذكرناه "ومن غصب شاة فضحى بها ضمن قيمتها وجاز عن أضحيته" لأنه ملكها بسابق الغصب، بخلاف ما لو أودع شاة فضحى بها لأنه يضمنه بالذبح فلم يثبت الملك له إلا بعد الذبح، والله أعلم بالصواب.