الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -363-       كتاب الكراهية
قال رضي الله عنه: تكلموا في معنى المكروه. والمروي عن محمد نصا أن كل مكروه حرام، إلا أنه لما لم يجد فيه نصا قاطعا لم يطلق عليه لفظ الحرام. وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه إلى الحرام أقرب، وهو يشتمل على فصول منها:
فصل: في الأكل والشرب
"قال أبو حنيفة رحمه الله: يكره لحوم الأتن وألبانها وأبوال الإبل. وقال أبو يوسف ومحمد: لا بأس بأبوال الإبل" وتأويل قول أبي يوسف أنه لا بأس بها للتداوي، وقد بينا هذه الجملة فيما تقدم في الصلاة والذبائح فلا نعيدها، واللبن متولد من اللحم فأخذ حكمه.
قال: "ولا يجوز الأكل والشرب والادهان والتطيب في آنية الذهب والفضة للرجال والنساء" لقوله عليه الصلاة والسلام في الذي يشرب في إناء الذهب والفضة:
"إنما يجرجر في بطنه نار جهنم" وأتي أبو هريرة رضي الله عنه بشراب في إناء فضة فلم يقبله وقال: "نهانا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم"، وإذا ثبت هذا في الشرب فكذا في الادهان ونحوه؛ لأنه في معناه ولأنه تشبه بزي المشركين وتنعم بنعم المترفين والمسرفين، وقال في الجامع الصغير: يكره ومراده التحريم ويستوي فيه الرجال والنساء لعموم النهي، وكذلك الأكل بملعقة الذهب والفضة والاكتحال بميل الذهب والفضة وكذا ما أشبه ذلك كالمكحلة والمرآة وغيرهما لما ذكرنا.
قال: "ولا بأس باستعمال آنية الرصاص والزجاج والبلور والعقيق" وقال الشافعي: يكره لأنه في معنى الذهب والفضة في التفاخر به. قلنا: ليس كذلك؛ لأنه ما كان من عادتهم التفاخر بغير الذهب والفضة.
قال: "ويجوز الشرب في الإناء المفضض عند أبي حنيفة والركوب على السرج المفضض والجلوس على الكرسي المفضض والسرير المفضض إذا كان يتقي موضع الفضة" ومعناه: يتقي موضع الفم، وقيل هذا وموضع اليد في الأخذ وفي السرير والسرج موضع

 

ج / 4 ص -364-       الجلوس. وقال أبو يوسف: يكره ذلك، وقول محمد يروى مع أبي حنيفة ويروى مع أبي يوسف، وعلى هذا الخلاف الإناء المضبب بالذهب والفضة والكرسي المضبب بهما، وكذا إذا جعل ذلك في السيف والمشحذ وحلقة المرأة، أو جعل المصحف مذهبا أو مفضضا، وكذا الاختلاف في اللجام والركاب والثفر إذا كان مفضضا، وكذا الثوب فيه كتابة بذهب أو فضة على هذا، وهذا الاختلاف فيما يخلص، فأما التمويه الذي لا يخلص فلا بأس به بالإجماع. لهما أن مستعمل جزء من الإناء مستعمل جميع الأجزاء فيكره، كما إذا استعمل موضع الذهب والفضة. ولأبي حنيفة رحمه الله أن ذلك تابع ولا معتبر بالتوابع فلا يكره. كالجبة المكفوفة بالحرير والعلم في الثوب ومسمار الذهب في الفص.
قال: "ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم وسعه أكله"؛ لأن قول الكافر مقبول في المعاملات؛ لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد فيه حرمة الكذب والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات.
قال: "وإن كان غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه" معناه: إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم؛ لأنه لما قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة.
قال: "ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد والجارية والصبي"؛ لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء، وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض والمبايعة في السوق، فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج. وفي الجامع الصغير: إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها؛ لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسه لما قلنا.
قال: "ويقبل في المعاملات قول الفاسق، ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل". ووجه الفرق أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين أجناس الناس، فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج فيقبل قول الواحد فيها عدلا كان أو فاسقا كافرا أو مسلما عبدا أو حرا ذكرا أو أنثى دفعا للحرج. أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات فجاز أن يشترط فيها زيادة شرط، فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل؛ لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم، بخلاف المعاملات؛ لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا إلا بالمعاملة. ولا يتهيأ له المعاملة إلا بعد قبول قوله فيها فكان فيه ضرورة، ولا يقبل فيها قول المستور في ظاهر الرواية. وعن أبي حنيفة أنه يقبل قوله فيها

 

ج / 4 ص -365-       جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به، وفي ظاهر الرواية هو والفاسق فيه سواء حتى يعتبر فيهما أكبر الرأي.
قال: "ويقبل فيها قول العبد والحر والأمة إذا كانوا عدولا"؛ لأن عند العدالة الصدق راجح والقبول لرجحانه. فمن المعاملات ما ذكرناه، ومنها التوكيل. ومن الديانات الإخبار بنجاسة الماء حتى إذا أخبره مسلم مرضي لم يتوضأ به ويتيمم، ولو كان المخبر فاسقا أو مستورا تحرى، فإن كان أكبر رأيه أنه صادق يتيمم ولا يتوضأ به، وإن أراق الماء ثم تيمم كان أحوط، ومع العدالة يسقط احتمال الكذب فلا معنى للاحتياط بالإراقة، أما التحري فمجرد ظن. ولو كان أكبر رأيه أنه كاذب يتوضأ به ولا يتيمم لترجح جانب الكذب بالتحري، وهذا جواب الحكم. فأما في الاحتياط فيتيمم بعد الوضوء لما قلنا. ومنها الحل والحرمة إذا لم يكن فيه زوال الملك، وفيها تفاصيل وتفريعات ذكرناها في كفاية المنتهى.
قال: "ومن دعي إلى وليمة أو طعام فوجد ثمة لعبا أو غناء فلا بأس بأن يقعد ويأكل" قال أبو حنيفة رحمه الله: ابتليت بهذا مرة فصبرت. وهذا لأن إجابة الدعوة سنة. قال عليه الصلاة والسلام:
"من لم يجب الدعوة فقد عصى أبا القاسم" فلا يتركها لما اقترن بها من البدعة من غيره، كصلاة الجنازة واجبة الإقامة وإن حضرتها نياحة، فإن قدر على المنع منعهم، وإن لم يقدر يصبر، وهذا إذا لم يكن مقتدى به، فإن كان مقتدى ولم يقدر على منعهم يخرج ولا يقعد؛ لأن في ذلك شين الدين وفتح باب المعصية على المسلمين، والمحكي عن أبي حنيفة رحمه الله في الكتاب كان قبل أن يصير مقتدى به، ولو كان ذلك على المائدة لا ينبغي أن يقعد، وإن لم يكن مقتدى لقوله تعالى: {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [الأنعام:68] وهذا كله بعد الحضور، ولو علم قبل الحضور لا يحضر؛ لأنه لم يلزمه حق الدعوة، بخلاف ما إذا هجم عليه؛ لأنه قد لزمه، ودلت المسألة على أن الملاهي كلها حرام حتى التغني بضرب القضيب. وكذا قول أبي حنيفة رحمه الله ابتليت، لأن الابتلاء بالمحرم يكون.

فصل: في اللبس
قال: "لا يحل للرجال لبس الحرير ويحل للنساء"؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام نهى عن لبس الحرير والديباج وقال: "إنما يلبسه من لا خلاق له في الآخرة" وإنما حل للنساء بحديث آخر، وهو ما رواه عدة من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي رضي الله عنه: "أن

 

ج / 4 ص -366-       النبي صلى الله عليه وسلم خرج وبإحدى يديه حرير وبالأخرى ذهب وقال: "هذان محرمان على ذكور أمتي حلال لإناثهم" ويروى "حل لإناثهم".
قال: "إلا أن القليل عفو وهو مقدار ثلاثة أصابع أو أربعة كالأعلام والمكفوف بالحرير" لما روي أنه عليه الصلاة والسلام:
"نهى عن لبس الحرير إلا موضع إصبعين أو ثلاثة أو أربعة" أراد الأعلام. وعنه عليه الصلاة والسلام: "أنه كان يلبس جبة مكفوفة بالحرير".
قال: "ولا بأس بتوسده والنوم عليه عند أبي حنيفة، وقالا: يكره" وفي الجامع الصغير ذكر قول محمد وحده، ولم يذكر قول أبي يوسف، وإنما ذكره القدوري وغيره من المشايخ، وكذا الاختلاف في ستر الحرير وتعليقه على الأبواب. لهما العمومات، ولأنه من زي الأكاسرة والجبابرة والتشبه بهم حرام. وقال عمر رضي الله عنه: إياكم وزي الأعاجم. وله ما روي "أنه عليه الصلاة والسلام جلس على مرفقة حرير"، وقد كان على بساط عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مرفقة حرير، ولأن القليل من الملبوس مباح كالأعلام فكذا القليل من اللبس والاستعمال، والجامع كونه نموذجا على ما عرف.
قال: "ولا بأس بلبس الحرير والديباج في الحرب عندهما" لما روى الشعبي رحمه الله:
"أنه عليه الصلاة والسلام رخص في لبس الحرير والديباج في الحرب" ولأن فيه ضرورة فإن الخالص منه أدفع لمعرة السلاح وأهيب في عين العدو لبريقه.
قال: "ويكره عند أبي حنيفة رحمه الله" لأنه لا فصل فيما رويناه والضرورة إندفعت بالخلوط وهو الذي لحمته حرير وسداه غير ذلك والمحظور لا بستباح إلا لضرورة، وما رواه محمول على المخلوط.
قال: "ولا بأس بلبس ما سداه حرير ولحمته غير حرير كالقطن والخز في الحرب وغيره" لأن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يلبسون الخز مسدى بالحرير ولأن الثوب إنما يصير ثوبا بالنسج والنسج باللحمة فكانت هي المعتبرة دون السدى؛ وقال: أبو يوسف رحمه الله: أكره ثوب القز يكون بين الفرو والظهارة، ولا أرى بحشو الفز بأسا لأن الثوب ملبوس والحشو غير ملبوس. قال: "وما كان لحمته حريرا وسداه غير حرير لا بأس به في الحرب" للضرورة.
قال: "ويكره في غيره" لانعدامها والاعتبار للحمة على ما بينا.
قال "ولا يجوز للرجال التحلي بالذهب" لما روينا.

 

ج / 4 ص -367-       قال: "ولا بالفضة" لأنها في معناه.
قال: "إلا بالخاتم والمنطقة وحلية السيف من الفضة" تحقيقا لمعنى النموذج، والفضة أغنت عن الذهب إذ هما من جنس واحد، كيف وقد جاء في إباحة ذلك آثار. وفي الجامع الصغير: ولا يتختم إلا بالفضة، وهذا نص على أن التختم بالحجر والحديد والصفر حرام. ورأى رسول الله عليه الصلاة والسلام على رجل خاتم صفر فقال:
"مالي أجد منك رائحة الأصنام". ورأى على آخر خاتم حديد فقال: "مالي أرى عليك حلية أهل النار" ومن الناس من أطلق الحجر الذي يقال له يشب؛ لأنه ليس بحجر، إذ ليس له ثقل الحجر، وإطلاق الجواب في الكتاب يدل على تحريمه.
قال: "والتختم بالذهب على الرجال حرام" لما روينا. وعن علي رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام:
"نهى عن التختم بالذهب" ولأن الأصل فيه التحريم، والإباحة ضرورة الختم أو النموذج، وقد اندفعت بالأدنى وهو الفضة، والحلقة هي المعتبرة؛ لأن قوام الخاتم بها، ولا معتبر بالفص حتى يجوز أن يكون من حجر ويجعل الفص إلى باطن كفه بخلاف النسوان؛ لأنه تزين في حقهن، وإنما يتختم القاضي والسلطان لحاجته إلى الختم، وأما غيرهما فالأفضل أن يتركه لعدم الحاجة إليه.
قال: "ولا بأس بمسمار الذهب يجعل في حجر الفص" أي في ثقبه؛ لأنه تابع كالعلم في الثوب فلا يعد لابسا له.
قال: "ولا تشد الأسنان بالذهب وتشد بالفضة" وهذا عند أبي حنيفة. وقال محمد: لا بأس بالذهب أيضا. وعن أبي يوسف مثل قول كل منهما. لهما أن عرفجة بن أسعد الكناني أصيب أنفه يوم الكلاب فاتخذ أنفا من فضة فأنتن. فأمره النبي عليه الصلاة والسلام بأن يتخذ أنفا من ذهب ولأبي حنيفة أن الأصل فيه التحريم والإباحة للضرورة، وقد اندفعت بالفضة وهي الأدنى فبقي الذهب على التحريم. والضرورة فيما روي لم تندفع في الأنف دونه حيث أنتن.
قال: "ويكره أن يلبس الذكور من الصبيان الذهب والحرير"؛ لأن التحريم لما ثبت في حق الذكور وحرم اللبس حرم الإلباس كالخمر لما حرم شربها حرم سقيها.
قال: "وتكره الخرقة التي تحمل فيمسح بها العرق"؛ لأنه نوع تجبر وتكبر
قال: "وكذا التي يمسح بها الوضوء أو يمتخط بها" وقيل إذا كان عن حاجة لا يكره وهو الصحيح، وإنما يكره إذا كان عن تكبر وتجبر وصار كالتربع في الجلوس.

 

ج / 4 ص -368-       قال: "ولا بأس بأن يربط الرجل في أصبعه أو خاتمه الخيط للحاجة" ويسمى ذلك الرتم والرتيمة. وكان ذلك من عادة العرب. قال قائلهم:

لا ينفعنك اليوم إن همت بهم                          كثرة ما توصي وتعقاد الرتم

وقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام أمر بعض أصحابه بذلك، ولأنه ليس بعبث لما فيه من الغرض الصحيح وهو التذكر عند النسيان.

فصل: في الوطء والنظر واللمس
قال: "ولا يجوز أن ينظر الرجل إلى الأجنبية إلا وجهها وكفيها" لقوله تعالى:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا} [النور:31] قال علي وابن عباس رضي الله عنهما؛ ما ظهر منها الكحل والخاتم، والمراد موضعهما وهو الوجه والكف، كما أن المراد بالزينة المذكورة موضعها، ولأن في إبداء الوجه والكف ضرورة لحاجتها إلى المعاملة مع الرجال أخذا وإعطاء وغير ذلك، وهذا تنصيص على أنه لا يباح النظر إلى قدمها. وعن أبي حنيفة أنه يباح؛ لأن فيه بعض الضرورة. وعن أبي يوسف أنه يباح النظر إلى ذراعها أيضا؛ لأنه قد يبدو منها عادة.
قال: "فإن كان لا يأمن الشهوة لا ينظر إلى وجهها إلا لحاجة" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من نظر إلى محاسن امرأة أجنبية عن شهوة صب في عينيه الآنك يوم القيامة" فإذا خاف الشهوة لم ينظر من غير حاجة تحرزا عن المحرم. وقوله لا يأمن يدل على أنه لا يباح إذا شك في الاشتهاء كما إذا علم أو كان أكبر رأيه ذلك "ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة" لقيام المحرم وانعدام الضرورة والبلوى، بخلاف النظر لأن فيه بلوى. والمحرم قوله عليه الصلاة والسلام: "من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة" وهذا إذا كانت شابة تشتهى، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لانعدام خوف الفتنة. وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يدخل بعض القبائل التي كان مسترضعا فيهم وكان يصافح العجائز، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه استأجر عجوزا لتمرضه، وكانت تغمز رجليه وتفلي رأسه، وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها لما قلنا، فإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها لما فيه من التعريض للفتنة. والصغيرة إذا كانت لا تشتهى يباح مسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة.
"والصغيرة إذا كانت لاتشتهي يباح مسها والنظر إليها" لعدم خوف الفتنة.
قال: "ويجوز للقاضي إذا أراد أن يحكم عليها وللشاهد إذا أراد أداء الشهادة عليها

 

ج / 4 ص -369-       النظر إلى وجهها وإن خاف أن يشتهي" للحاجة إلى إحياء حقوق الناس بواسطة القضاء وأداء الشهادة، ولكن ينبغي أن يقصد به أداء الشهادة أو الحكم عليها لا قضاء الشهوة تحرزا عما يمكنه التحرز عنه وهو قصد القبيح. وأما النظر لتحمل الشهادة إذا اشتهى قيل يباح. والأصح أنه لا يباح؛ لأنه يوجد من لا يشتهي فلا ضرورة، بخلاف حالة الأداء.
"ومن أراد أن يتزوج امرأة فلا بأس بأن ينظر إليها وإن علم أنه يشتهيها" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه:
"أبصرها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما" ولأن مقصوده إقامة السنة لا قضاء الشهوة. "ويجوز للطبيب أن ينظر إلى موضع المرض منها" للضرورة "وينبغي أن يعلم امرأة مداواتها" لأن نظر الجنس إلى الجنس أسهل "فإن لم يقدروا يستر كل عضو منها سوى موضع المرض" ثم ينظر ويغض بصره ما استطاع؛ لأن ما ثبت بالضرورة يتقدر بقدرها وصار كنظر الخافضة والختان. "وكذا يجوز للرجل النظر إلى موضع الاحتقان من الرجل" لأنه مداواة ويجوز للمرض وكذا للهزال الفاحش على ما روي عن أبي يوسف؛ لأنه أمارة المرض.
قال: "وينظر الرجل من الرجل إلى جميع بدنه إلا ما بين سرته إلى ركبته" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"عورة الرجل ما بين سرته إلى ركبته" ويروى: "ما دون سرته حتى يجاوز ركبتيه" وبهذا ثبت أن السرة ليست بعورة خلافا لما يقوله أبو عصمة والشافعي، والركبة عورة خلافا لما قاله الشافعي، والفخذ عورة خلافا لأصحاب الظواهر، وما دون السرة إلى منبت الشعر عورة خلافا لما يقوله الإمام أبو بكر محمد بن الفضل الكماري معتمدا فيه العادة؛ لأنه لا معتبر بها مع النص بخلافه، وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "الركبة من العورة" وأبدى الحسن بن علي رضي الله عنه سرته فقبلها أبو هريرة رضي الله عنه وقال لجرهد: "وار فخذك، أما علمت أن الفخذ عورة؟" ولأن الركبة ملتقى عظم الفخذ والساق فاجتمع المحرم والمبيح وفي مثله يغلب المحرم، وحكم العورة في الركبة أخف منه في الفخذ، وفي الفخذ أخف منه في السوأة، حتى أن كاشف الركبة ينكر عليه برفق وكاشف الفخذ يعنف عليه وكاشف السوءة يؤدب إن لج "وما يباح النظر إليه للرجل من الرجل يباح المس" لأنهما فيما ليس بعورة سواء.
قال: "ويجوز للمرأة أن تنظر من الرجل إلى ما ينظر الرجل إليه منه إذا أمنت الشهوة" لاستواء الرجل والمرأة في النظر إلى ما ليس بعورة كالثياب والدواب. وفي كتاب الخنثى من الأصل: أن نظر المرأة إلى الرجل الأجنبي بمنزلة نظر الرجل إلى محارمه؛ لأن النظر إلى

 

ج / 4 ص -370-       خلاف الجنس أغلظ، فإن كان في قلبها شهوة أو أكبر رأيها أنها تشتهي أو شكت في ذلك يستحب لها أن تغض بصرها، ولو كان الناظر هو الرجل إليها وهو بهذه الصفة لم ينظر، وهذا إشارة إلى التحريم. ووجه الفرق أن الشهوة عليهن غالبة وهو كالمتحقق اعتبارا، فإذا اشتهى الرجل كانت الشهوة موجودة في الجانبين، ولا كذلك إذا اشتهت المرأة؛ لأن الشهوة غير موجودة في جانبه حقيقة واعتبارا فكانت من جانب واحد، والمتحقق من الجانبين في الإفضاء إلى المحرم أقوى من المتحقق في جانب واحد.
قال: "وتنظر المرأة من المرأة إلى ما يجوز للرجل أن ينظر إليه من الرجل" لوجود المجانسة، وانعدام الشهوة غالبا كما في نظر الرجل إلى الرجل، وكذا الضرورة قد تحققت إلى الانكشاف فيما بينهن. وعن أبي حنيفة رحمه الله أن نظر المرأة إلى المرأة كنظر الرجل إلى محارمه، بخلاف نظرها إلى الرجل؛ لأن الرجال يحتاجون إلى زيادة الانكشاف للاشتغال بالأعمال. والأول أصح.
قال: "وينظر الرجل من أمته التي تحل له وزوجته إلى فرجها" وهذا إطلاق في النظر إلى سائر بدنها عن شهوة وغير شهوة. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
"غض بصرك إلا عن أمتك وامرأتك" ولأن ما فوق ذلك من المس والغشيان مباح فالنظر أولى، إلا أن الأولى أن لا ينظر كل واحد منهما إلى عورة صاحبه لقوله عليه الصلاة والسلام: "إذا أتى أحدكم أهله فليستتر ما استطاع ولا يتجردان تجرد العير" ولأن ذلك يورث النسيان لورود الأثر. وكان ابن عمر رضي الله عنهما يقول: الأولى أن ينظر ليكون أبلغ في تحصيل معنى اللذة.
قال: "وينظر الرجل من ذوات محارمه إلى الوجه والرأس والصدر والساقين والعضدين. ولا ينظر إلى ظهرها وبطنها وفخذها". والأصل فيه قوله تعالى:
{وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ} [النور:31] الآية، والمراد والله أعلم مواضع الزينة وهي ما ذكر في الكتاب، ويدخل في ذلك الساعد والأذن والعنق والقدم؛ لأن كل ذلك موضع الزينة، بخلاف الظهر والبطن والفخذ؛ لأنها ليست من مواضع الزينة، ولأن البعض يدخل على البعض من غير استئذان واحتشام والمرأة في بيتها في ثياب مهنتها عادة، فلو حرم النظر إلى هذه المواضع أدى إلى الحرج، وكذا الرغبة تقل للحرمة المؤبدة فقلما تشتهى، بخلاف ما وراءها، لأنها لا تنكشف عادة. والمحرم من لا تجوز المناكحة بينه وبينها على التأبيد بنسب كان أو بسبب كالرضاع والمصاهرة لوجود المعنيين فيه، وسواء كانت المصاهرة بنكاح أو سفاح في الأصح لما بينا.

 

ج / 4 ص -371-       قال: "ولا بأس بأن يمس ما جاز أن ينظر إليه منها" لتحقق الحاجة إلى ذلك في المسافرة وقلة الشهوة للمحرمية، بخلاف وجه الأجنبية وكفيها حيث لا يباح المس وإن أبيح النظر؛ لأن الشهوة متكاملة "إلا إذا كان يخاف عليها أو على نفسه الشهوة" فحينئذ لا ينظر ولا يمس لقوله عليه الصلاة والسلام: "العينان تزنيان وزناهما النظر، واليدان تزنيان وزناهما البطش"، وحرمة الزنا بذوات المحارم أغلظ فيجتنب. "ولا بأس بالخلوة والمسافرة بهن" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام ولياليها إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ألا لا يخلون رجل بامرأة ليس منها بسبيل فإن ثالثهما الشيطان" والمراد إذا لم يكن محرما، فإن احتاج إلى الإركاب والإنزال فلا بأس بأن يمسها من وراء ثيابها ويأخذ ظهرها وبطنها دون ما تحتهما إذا أمنا الشهوة، فإن خافها على نفسه أو عليها تيقنا أو ظنا أو شكا فليجتنب ذلك بجهده، ثم إن أمكنها الركوب بنفسها يمتنع عن ذلك أصلا، وإن لم يمكنها يتكلف بالثياب كي لا تصيبه حرارة عضوها، وإن لم يجد الثياب يدفع الشهوة عن قلبه بقدر الإمكان.
قال: "وينظر الرجل من مملوكة غيره إلى ما يجوز أن ينظر إليه من ذوات محارمه" لأنها تخرج لحوائج مولاها وتخدم أضيافه وهي في ثياب مهنتها، فصار حالها خارج البيت في حق الأجانب كحال المرأة داخله في حق محارمه الأقارب. وكان عمر رضي الله عنه إذا رأى جارية متقنعة علاها بالدرة وقال: ألقي عنك الخمار يا دفار أتتشبهين بالحرائر ولا يحل النظر إلى بطنها وظهرها خلافا لما يقوله محمد بن مقاتل أنه يباح إلا إلى ما دون السرة إلى الركبة؛ لأنه لا ضرورة كما في المحارم، بل أولى لقلة الشهوة فيهن وكمالها في الإماء. ولفظة المملوكة تنتظم المدبرة والمكاتبة وأم الولد لتحقق الحاجة، والمستسعاة كالمكاتبة عند أبي حنيفة على ما عرف، وأما الخلوة بها والمسافرة معها فقد قيل يباح كما في المحارم، وقد قيل لا يباح لعدم الضرورة فيهن، وفي الإركاب والإنزال اعتبر محمد في الأصل الضرورة فيهن وفي ذوات المحارم مجرد الحاجة.
قال: "ولا بأس بأن يمس ذلك إذا أراد الشراء، وإن خاف أن يشتهي" كذا ذكره في المختصر، وأطلق أيضا في الجامع الصغير ولم يفصل. قال مشايخنا رحمهم الله: يباح النظر في هذه الحالة وإن اشتهى للضرورة، ولا يباح المس إذا اشتهى أو كان أكبر رأيه ذلك؛ لأنه نوع استمتاع، وفي غير حالة الشراء يباح النظر والمس بشرط عدم الشهوة.
قال: "وإذا حاضت الأمة لم تعرض في إزار واحد" ومعناه بلغت، وهذا موافق لما بينا

 

ج / 4 ص -372-       أن الظهر والبطن منها عورة. وعن محمد أنها إذا كانت تشتهى ويجامع مثلها فهي كالبالغة لا تعرض في إزار واحد لوجود الاشتهاء.
قال: "والخصي في النظر إلى الأجنبية كالفحل" لقول عائشة رضي الله عنها: الخصاء مثله فلا يبيح ما كان حراما قبله ولأنه فحل يجامع. وكذا المجبوب؛ لأنه يسحق وينزل، وكذا المخنث في الرديء من الأفعال؛ لأنه فحل فاسق.
والحاصل: أنه يؤخذ فيه بمحكم كتاب الله المنزل فيه، والطفل الصغير مستثنى بالنص.
قال: "ولا يجوز للمملوك أن ينظر من سيدته إلا ما يجوز للأجنبي النظر إليه منها". وقال مالك: هو كالمحرم، وهو أحد قولي الشافعي لقوله تعالى:
{أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ} [النور:31] ولأن الحاجة متحققة لدخوله عليها من غير استئذان. ولنا أنه فحل غير محرم ولا زوج، والشهوة متحققة لجواز النكاح في الجملة والحاجة قاصرة؛ لأنه يعمل خارج البيت. والمراد بالنص الإماء، قال سعيد والحسن وغيرهما: لا تغرنكم سورة النور فإنها في الإناث دون الذكور.
قال: "ويعزل عن أمته بغير إذنها ولا يعزل عن زوجته إلا بإذنها" لأنه عليه الصلاة والسلام نهى عن العزل عن الحرة إلا بإذنها، وقال لمولى أمة:
"اعزل عنها إن شئت"، ولأن الوطء حق الحرة قضاء للشهوة وتحصيلا للولد ولهذا تخير في الجب والعنة، ولا حق للأمة في الوطء فلهذا لا ينقص حق الحرة بغير إذنها ويستبد به المولى ولو كان تحته أمة غيره فقد ذكرناه في النكاح.

فصل: في الاستبراء وغيره
قال: "ومن اشترى جارية فإنه لا يقربها ولا يلمسها ولا يقبلها ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يستبرئها" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام في سبايا أوطاس:
"ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن حملهن، ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" أفاد وجوب الاستبراء على المولى، ودل على السبب في المسبية وهو استحداث الملك واليد؛ لأنه هو الموجود في مورد النص، وهذا لأن الحكمة فيه التعرف عن براءة الرحم صيانة للمياه المحترمة عن الاختلاط والأنساب عن الاشتباه، وذلك عند حقيقة الشغل أو توهم الشغل بماء محترم، وهو أن يكون الولد ثابت النسب، ويجب على المشتري لا على البائع؛ لأن العلة الحقيقية إرادة الوطء، والمشتري هو الذي يريده دون البائع فيجب عليه، غير أن الإرادة أمر مبطن

 

ج / 4 ص -373-       فيدار الحكم على دليلها، وهو التمكن من الوطء والتمكن إنما يثبت بالملك واليد فانتصب سببا وأدير الحكم عليه تيسيرا، فكان السبب استحداث ملك الرقبة المؤكد باليد وتعدي الحكم إلى سائر أسباب الملك كالشراء والهبة والوصية والميراث والخلع والكتابة وغير ذلك وكذا يجب على المشتري من مال الصبي ومن المرأة والمملوك وممن لا يحل له وطؤها، وكذا إذا كانت المشتراة بكرا لم توطأ لتحقق السبب وإدارة الأحكام على الأسباب دون الحكم لبطونها فيعتبر تحقق السبب عند توهم الشغل. وكذا لا يجتزأ بالحيضة التي اشتراها في أثنائها ولا بالحيضة التي حاضتها بعد الشراء أو غيره من أسباب الملك قبل القبض، ولا بالولادة الحاصلة بعدها قبل القبض خلافا لأبي يوسف رحمه الله؛ لأن السبب استحداث الملك واليد، والحكم لا يسبق السبب، وكذا لا يجتزأ بالحاصل قبل الإجازة في بيع الفضولي وإن كانت في يد المشتري، ولا بالحاصل بعد القبض في الشراء الفاسد قبل أن يشتريها شراء صحيحا لما قلنا.
"ويجب في جارية للمشتري فيها شقص فاشترى الباقي"؛ لأن السبب قد تم الآن، والحكم يضاف إلى تمام العلة، ويجتزأ بالحيضة التي حاضتها بعد القبض وهي مجوسية أو مكاتبة بأن كاتبها بعد الشراء ثم أسلمت المجوسية أو عجزت المكاتبة لوجودها بعد السبب وهو استحداث الملك واليد إذ هو مقتض للحل والحرمة لمانع كما في حالة الحيض "ولا يجب الاستبراء إذا رجعت الآبقة أو ردت المغصوبة أو المؤاجرة" أو فكت المرهونة لانعدام السبب وهو استحداث الملك واليد وهو سبب متعين فأدير الحكم عليه وجودا وعدما، ولها نظائر كثيرة كتبناها في كفاية المنتهى. وإذا ثبت وجوب الاستبراء وحرمة الوطء حرم الدواعي لإفضائها إليه. أو لاحتمال وقوعها في غير الملك على اعتبار ظهور الحبل ودعوة البائع. بخلاف الحائض حيث لا تحرم الدواعي فيها لأنه لا يحتمل الوقوع في غير الملك، ولأنه زمان نفرة فالإطلاق في الدواعي لا يفضي إلى الوطء والرغبة في المشتراة قبل الدخول أصدق الرغبات فتفضي إليه، ولم يذكر الدواعي في المسبية. وعن محمد أنها لا تحرم؛ لأنها لا يحتمل وقوعها في غير الملك لأنه لو ظهر بها حبل لا تصح دعوة الحربي، بخلاف المشتراة على ما بينا.
"والاستبراء في الحامل بوضع الحمل" لما روينا "وفي ذوات الأشهر بالشهر"؛ لأنه أقيم في حقهن مقام الحيض كما في المعتدة، "وإذا حاضت في أثنائه بطل الاستبراء بالأيام للقدرة على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل كما في المعتدة. فإن ارتفع حيضها تركها، حتى إذا تبين أن ليست بحامل وقع عليها وليس فيه تقدير في ظاهر الرواية. وقيل يتبين بشهرين أو

 

ج / 4 ص -374-       ثلاثة. وعن محمد أربعة أشهر وعشرة أيام، وعنه شهران وخمسة أيام اعتبارا بعدة الحرة والأمة في الوفاة. وعن زفر سنتان وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله".
قال: "ولا بأس بالاحتيال لإسقاط الاستبراء عند أبي يوسف خلافا لمحمد" وقد ذكرنا الوجهين في الشفعة. والمأخوذ قول أبي يوسف فيما إذا علم أن البائع لم يقربها في طهرها ذلك، وقول محمد فيما إذا قربها. والحيلة إذا لم يكن تحت المشتري حرة أن يتزوجها قبل الشراء ثم يشتريها. ولو كانت فالحيلة أن يزوجها البائع قبل الشراء أو المشتري قبل القبض ممن يوثق به ثم يشتريها ويقبضها ثم يطلق الزوج؛ لأن عند وجود السبب وهو استحداث الملك المؤكد بالقبض إذا لم يكن فرجها حلالا له لا يجب الاستبراء. وإن حل بعد ذلك؛ لأن المعتبر أوان وجود السبب كما إذا كانت معتدة الغير.
قال: "ولا يقرب المظاهر ولا يلمس ولا يقبل ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يكفر"؛ لأنه لما حرم الوطء إلى أن يكفر حرم الدواعي للإفضاء إليه. لأن الأصل أن سبب الحرام حرام كما في الاعتكاف والإحرام وفي المنكوحة إذا وطئت بشبهة، بخلاف حالة الحيض والصوم؛ لأن الحيض يمتد شطر عمرها والصوم يمتد شهرا فرضا وأكثر العمر نفلا، ففي المنع عنها بعض الحرج، ولا كذلك ما عددناها لقصور مددها. وقد صح
"أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يقبل وهو صائم ويضاجع نساءه وهن حيض".
قال: "ومن له أمتان أختان فقبلهما بشهوة فإنه لا يجامع واحدة منهما ولا يقبلها ولا يمسها بشهوة ولا ينظر إلى فرجها بشهوة حتى يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها"، وأصل هذا أن الجمع بين الأختين المملوكتين لا يجوز وطئا لإطلاق قوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} [النساء:23] ولا يعارض بقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء:3]؛ لأن الترجيح للمحرم، وكذا لا يجوز الجمع بينهما في الدواعي لإطلاق النص، ولأن الدواعي إلى الوطء بمنزلة الوطء في التحريم على ما مهدناه من قبل، فإذا قبلهما فكأنه وطئهما، ولو وطئهما فليس له أن يجامع إحداهما ولا أن يأتي بالدواعي فيهما، فكذا إذا قبلهما وكذا إذا مسهما بشهوة أو نظر إلى فرجهما بشهوة لما بينا إلا أن يملك فرج الأخرى غيره بملك أو نكاح أو يعتقها؛ لأنه لما حرم عليه فرجها لم يبق جامعا. وقوله بملك أراد به ملك يمين فينتظم التمليك بسائر أسبابه بيعا أو غيره، وتمليك الشقص فيه كتمليك الكل؛ لأن الوطء يحرم به، وكذا إعتاق البعض من إحداهما كإعتاق كلها، وكذا الكتابة كالإعتاق في هذا لثبوت حرمة الوطء بذلك كله، وبرهن إحداهما وإجارتها

 

ج / 4 ص -375-       وتدبيرها لا تحل الأخرى؛ ألا يرى أنها لا تخرج بها عن ملكه، وقوله أو نكاح أراد به النكاح الصحيح. أما إذا زوج إحداهما نكاحا فاسدا لا يباح له وطء الأخرى إلا أن يدخل الزوج بها فيه؛ لأنه يجب العدة عليها، والعدة كالنكاح الصحيح في التحريم. ولو وطئ إحداهما حل له وطء الموطوءة دون الأخرى؛ لأنه يصير جامعا بوطء الأخرى لا بوطء الموطوءة. وكل امرأتين لا يجوز الجمع بينهما نكاحا فيما ذكرناه بمنزلة الأختين.
قال: "ويكره أن يقبل الرجل فم الرجل أو يده أو شيئا منه أو يعانقه" وذكر الطحاوي أن هذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا بأس بالتقبيل والمعانقة لما روي
"أن النبي عليه الصلاة والسلام عانق جعفرا رضي الله عنه حين قدم من الحبشة وقبل بين عينيه" ولهما ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن المكامعة وهي المعانقة، وعن المكاعمة وهي التقبيل". وما رواه محمول على ما قبل التحريم. قالوا: الخلاف في المعانقة في إزار واحد، أما إذا كان عليه قميص أو جبة فلا بأس بها بالإجماع وهو الصحيح.
قال: "ولا بأس بالمصافحة"؛ لأنه هو المتوارث. وقال عليه الصلاة والسلام:
"من صافح أخاه المسلم وحرك يده تناثرت ذنوبه".

فصل: في البيع
قال: "ولا بأس ببيع السرقين، ويكره بيع العذرة" وقال الشافعي: لا يجوز بيع السرقين أيضا؛ لأنه نجس العين فشابه العذرة وجلد الميتة قبل الدباغ. ولنا أنه منتفع به؛ لأنه يلقى في الأراضي لاستكثار الريع فكان مالا، والمال محل للبيع. بخلاف العذرة؛ لأنه لا ينتفع بها إلا مخلوطا. ويجوز بيع المخلوط هو المروي عن محمد وهو الصحيح. وكذا يجوز الانتفاع بالمخلوط لا بغير المخلوط في الصحيح، والمخلوط بمنزلة زيت خالطته النجاسة.
قال: "ومن علم بجارية أنها لرجل فرأى آخر يبيعها وقال وكلني صاحبها ببيعها فإنه يسعه أنه يبتاعها ويطؤها"؛ لأنه أخبر بخبر صحيح لا منازع له، وقول الواحد في المعاملات مقبول على أي وصف كان لما مر من قبل. وكذا إذا قال اشتريتها منه أو وهبها لي أو تصدق بها علي لما قلنا. وهذا إذا كان ثقة. وكذا إذا كان غير ثقة، وأكبر رأيه أنه صادق؛ لأن عدالة المخبر في المعاملات غير لازمة للحاجة على ما مر، وإن كان أكبر رأيه أنه كاذب لم يسع له

 

ج / 4 ص -376-       أن يتعرض لشيء من ذلك؛ لأن أكبر الرأي يقام مقام اليقين، وكذا إذا لم يعلم أنها لفلان، ولكن أخبره صاحب اليد أنها لفلان، وأنه وكله ببيعها أو اشتراها منه، والمخبر ثقة قبل قوله، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر رأيه؛ لأن إخباره حجة في حقه، وإن لم يخبره صاحب اليد بشيء. فإن كان عرفها للأول لم يشترها حتى يعلم انتقالها إلى ملك الثاني؛ لأن يد الأول دليل ملكه، وإن كان لا يعرف ذلك له أن يشتريها وإن كان ذو اليد فاسقا؛ لأن يد الفاسق دليل الملك في حق الفاسق والعدل ولم يعارضه معارض، ولا معتبر بأكبر الرأي عند وجود الدليل الظاهر إلا أن يكون مثله لا يملك مثل ذلك، فحينئذ يستحب له أن يتنزه، ومع ذلك لو اشتراها يرجى أن يكون في سعة من ذلك لاعتماده الدليل الشرعي. وإن كان الذي أتاه بها عبدا أو أمة لم يقبلها ولم يشترها حتى يسأل؛ لأن المملوك لا ملك له فيعلم أن الملك فيها لغيره، فإن أخبره أن مولاه أذن له وهو ثقة قبل، وإن لم يكن ثقة يعتبر أكبر الرأي، وإن لم يكن له رأي لم يشترها لقيام الحاجر فلا بد من دليل.
قال: "ولو أن امرأة أخبرها ثقة أن زوجها الغائب مات عنها، أو طلقها ثلاثا أو كان غير ثقة وأتاها بكتاب من زوجها بالطلاق، ولا تدري أنه كتابه أم لا. إلا أن أكبر رأيها أنه حق" يعني بعد التحري "فلا بأس بأن تعتد ثم تتزوج"؛ لأن القاطع طارئ ولا منازع، وكذا لو قالت لرجل طلقني زوجي وانقضت عدتي فلا بأس أن يتزوجها. وكذا إذا قالت المطلقة الثلاث انقضت عدتي وتزوجت بزوج آخر، ودخل بي ثم طلقني وانقضت عدتي فلا بأس بأن يتزوجها الزوج الأول، وكذا لو قالت جارية كنت أمة فلان فأعتقني؛ لأن القاطع طارئ. ولو أخبرها مخبر أن أصل النكاح كان فاسدا أو كان الزوج حين تزوجها مرتدا أو أخاها من الرضاعة لم يقبل قوله حتى يشهد بذلك رجلان أو رجل وامرأتان. وكذا إذا أخبره مخبر أنك تزوجتها وهي مرتدة أو أختك من الرضاعة لم يتزوج بأختها أو أربع سواها حتى يشهد بذلك عدلان؛ لأنه أخبر بفساد مقارن، والإقدام على العقد يدل على صحته وإنكار فساده فثبت المنازع بالظاهر، بخلاف ما إذا كانت المنكوحة صغيرة فأخبر الزوج أنها ارتضعت من أمه أو أخته حيث يقبل قول الواحد فيه؛ لأن القاطع طارئ، والإقدام الأول لا يدل على انعدامه فلم يثبت المنازع فافترقا، وعلى هذا الحرف يدور الفرق. ولو كانت جارية صغيرة لا تعبر عن نفسها في يد رجل يدعي أنها له فلما كبرت لقيها رجل في بلد آخر فقالت أنا حرة الأصل لم يسعه أن يتزوجها لتحقق المنازع وهو ذو اليد بخلاف ما تقدم.
قال: "وإذا باع المسلم خمرا وأخذ ثمنها وعليه دين فإنه يكره لصاحب الدين أن يأخذ منه، وإن كان البائع نصرانيا فلا بأس به" والفرق أن البيع في الوجه الأول قد بطل؛ لأن الخمر

 

ج / 4 ص -377-       ليس بمال متقوم في حق المسلم فبقي الثمن على ملك المشتري فلا يحل أخذه من البائع. وفي الوجه الثاني صح البيع؛ لأنه مال متقوم في حق الذمي فملكه البائع فيحل الأخذ منه.
قال: "ويكره الاحتكار في أقوات الآدميين والبهائم إذا كان ذلك في بلد يضر الاحتكار بأهله وكذلك التلقي. فأما إذا كان لا يضر فلا بأس به" والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
"الجالب مرزوق والمحتكر ملعون" ولأنه تعلق به حق العامة، وفي الامتناع عن البيع إبطال حقهم وتضييق الأمر عليهم فيكره إذا كان يضر بهم ذلك بأن كانت البلدة صغيرة، بخلاف ما إذا لم يضر بأن كان المصر كبيرا؛ لأنه حابس ملكه من غير إضرار بغيره، وكذلك التلقي على هذا التفصيل لأن النبي عليه الصلاة والسلام: "نهى عن تلقي الجلب وعن تلقي الركبان". قالوا هذا إذا لم يلبس المتلقي على التجار سعر البلدة. فإن لبس فهو مكروه في الوجهين؛ لأنه غادر بهم. وتخصيص الاحتكار بالأقوات كالحنطة والشعير والتبن والقت قول أبي حنيفة رحمه الله، وقال أبو يوسف رحمه الله كل ما أضر بالعامة حبسه فهو احتكار وإن كان ذهبا أو فضة أو ثوبا. وعن محمد رحمه الله أنه قال: لا احتكار في الثياب؛ فأبو يوسف اعتبر حقيقة الضرر إذ هو المؤثر في الكراهة، وأبو حنيفة اعتبر الضرر المعهود المتعارف. ثم المدة إذا قصرت لا يكون احتكارا لعدم الضرر، وإذا طالت يكون احتكارا مكروها لتحقق الضرر. ثم قيل: هي مقدرة بأربعين يوما لقوله عليه الصلاة والسلام: "من احتكر طعاما أربعين ليلة فقد برئ من الله وبرئ الله منه" وقيل بالشهر؛ لأن ما دونه قليل عاجل، والشهر وما فوقه كثير آجل، وقد مر في غير موضع، ويقع التفاوت في المأثم بين أن يتربص العزة وبين أن يتربص القحط والعياذ بالله، وقيل المدة للمعاقبة في الدنيا إما يأثم وإن قلت المدة. والحاصل أن التجارة في الطعام غير محمودة.
قال: "ومن احتكر غلة ضيعته أو ما جلبه من بلد آخر فليس بمحتكر" أما الأول فلأنه خالص حقه لم يتعلق به حق العامة؛ ألا ترى أن له أن لا يزرع فكذلك له أن لا يبيع. وأما الثاني فالمذكور قول أبي حنيفة؛ لأن حق العامة إنما يتعلق بما جمع في المصر وجلب إلى فنائها. وقال أبو يوسف: يكره لإطلاق ما روينا. وقال محمد: كل ما يجلب منه إلى المصر في الغالب فهو بمنزلة فناء المصر يحرم الاحتكار فيه لتعلق حق العامة به، بخلاف ما إذا كان البلد بعيدا لم تجر العادة بالحمل منه إلى المصر؛ لأنه لم يتعلق به حق العامة.
قال: "ولا ينبغي للسلطان أن يسعر على الناس" لقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تسعروا فإن الله هو المسعر القابض الباسط الرازق" ولأن الثمن حق العاقد فإليه تقديره

 

ج / 4 ص -378-       فلا ينبغي للإمام أن يتعرض لحقه إلا إذا تعلق به دفع ضرر العامة على ما نبين. وإذا رفع إلى القاضي هذا الأمر يأمر المحتكر ببيع ما فضل عن قوته وقوت أهله على اعتبار السعة في ذلك وينهاه عن الاحتكار، فإن رفع إليه مرة أخرى حبسه وعزره على ما يرى زجرا له ودفعا للضرر عن الناس، فإن كان أرباب الطعام يتحكمون ويتعدون عن القيمة تعديا فاحشا، وعجز القاضي عن صيانة حقوق المسلمين إلا بالتسعير فحينئذ لا بأس به بمشورة من أهل الرأي والبصيرة، فإذا فعل ذلك وتعدى رجل عن ذلك وباع بأكثر منه أجازه القاضي، وهذا ظاهر عند أبي حنيفة؛ لأنه لا يرى الحجر على الحر وكذا عندهما، إلا أن يكون الحجر على قوم بأعيانهم. ومن باع منهم بما قدره الإمام صح؛ لأنه غير مكره على البيع، هل يبيع القاضي على المحتكر طعامه من غير رضاه. قيل هو على الاختلاف الذي عرف في بيع مال المديون، وقيل يبيع بالاتفاق؛ لأن أبا حنيفة يرى الحجر لدفع ضرر عام، وهذا كذلك.
قال: "ويكره بيع السلاح في أيام الفتنة" معناه ممن يعرف أنه من أهل الفتنة؛ لأنه تسبيب إلى المعصية وقد بيناه في السير، وإن كان لا يعرف أنه من أهل الفتنة لا بأس بذلك؛ لأنه يحتمل أن لا يستعمله في الفتنة فلا يكره بالشك.
قال: "ولا بأس ببيع العصير ممن يعلم أنه يتخذه خمرا"؛ لأن المعصية لا تقام بعينه بل بعد تغييره، بخلاف بيع السلاح في أيام الفتنة لأن المعصية تقوم بعينه.
قال: "ومن أجر بيتا ليتخذ فيه بيت نار أو كنيسة أو بيعة أو يباع فيه الخمر بالسواد فلا بأس به" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا ينبغي أن يكريه لشيء من ذلك؛ لأنه إعانة على المعصية. وله أن الإجارة ترد على منفعة البيت، ولهذا تجب الأجرة بمجرد التسليم، ولا معصية فيه، وإنما المعصية بفعل المستأجر، وهو مختار فيه فقطع نسبته عنه، وإنما قيده بالسواد لأنهم لا يمكنون من اتخاذ البيع والكنائس وإظهار بيع الخمور والخنازير في الأمصار لظهور شعائر الإسلام فيها. بخلاف السواد. قالوا: هذا كان في سواد الكوفة، لأن غالب أهلها أهل الذمة. فأما في سوادنا فأعلام الإسلام فيها ظاهرة فلا يمكنون فيها أيضا، وهو الأصح.
قال: "ومن حمل لذمي خمرا فإنه يطيب له الأجر عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يكره له ذلك"؛ لأنه إعانة على المعصية، وقد صح
" أن النبي عليه الصلاة والسلام لعن في الخمر عشرا حاملها والمحمول إليه " له أن المعصية في

 

ج / 4 ص -379-       شربها وهو فعل فاعل مختار، وليس الشرب من ضرورات الحمل ولا يقصد به، والحديث محمول على الحمل المقرون بقصد المعصية.
قال: "ولا بأس ببيع بناء بيوت مكة، ويكره بيع أرضها" وهذا عند أبي حنيفة. وقالا: لا بأس ببيع أرضها أيضا. وهذا رواية عن أبي حنيفة؛ لأنها مملوكة لهم لظهور الاختصاص الشرعي بها فصار كالبناء. ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام:
"ألا إن مكة حرام لا تباع رباعها ولا تورث" ولأنها حرة محترمة لأنها فناء الكعبة. وقد ظهر آية أثر التعظيم فيها حتى لا ينفر صيدها ولا يختلى خلاها ولا يعضد شوكها، فكذا في حق البيع، بخلاف البناء؛ لأنه خالص ملك الباني. ويكره إجارتها أيضا لقوله عليه الصلاة والسلام: "من آجر أرض مكة فكأنما أكل الربا" ولأن أراضي مكة تسمى السوائب على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام من احتاج إليها سكنها ومن استغنى عنها أسكن غيره "ومن وضع درهما عند بقال يأخذ منه ما شاء يكره له ذلك"؛ لأنه ملكه قرضا جر به نفعا، وهو أن يأخذ منه ما شاء حالا فحالا. "ونهى رسول الله عليه الصلاة والسلام عن قرض جر نفعا"، وينبغي أن يستودعه ثم يأخذ منه ما شاء جزءا فجزءا؛ لأنه وديعة وليس بقرض، حتى لو هلك لا شيء على الآخذ، والله أعلم.

مسائل متفرقة
قال: "ويكره التعشير والنقط في المصحف" لقول ابن مسعود رضي الله عنه: جردوا القرآن. ويروى: جردوا المصاحف. وفي التعشير والنقط ترك التجريد. ولأن التعشير يخل بحفظ الآي والنقط بحفظ الإعراب اتكالا عليه فيكره. قالوا: في زماننا لا بد للعجم من دلالة. فترك ذلك إخلال بالحفظ وهجران للقرآن فيكون حسنا.
قال: "ولا بأس بتحلية المصحف" لما فيه من تعظيمه. وصار كنقش المسجد وتزيينه بماء الذهب وقد ذكرناه من قبل.
قال: "ولا بأس بأن يدخل أهل الذمة المسجد الحرام" وقال الشافعي: يكره ذلك: وقال مالك: يكره في كل مسجد. للشافعي قوله تعالى:
{إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} [التوبة:28] ولأن الكافر لا يخلو عن جنابة؛ لأنه لا يغتسل اغتسالا يخرجه عنها، والجنب يجنب المسجد، وبهذا يحتج مالك، والتعليل بالنجاسة عام فينتظم المساجد كلها. ولنا ما روي "أن النبي عليه الصلاة والسلام أنزل وفد ثقيف في مسجده وهم كفار" ولأن الخبث في اعتقادهم فلا يؤدي إلى

 

ج / 4 ص -380-       تلويث المسجد. والآية محمولة على الحضور استيلاء واستعلاء أو طائفين عراة كما كانت عادتهم في الجاهلية.
قال: "ويكره استخدام الخصيان"؛ لأن الرغبة في استخدامهم حث الناس على هذا الصنيع وهو مثلة محرمة.
قال: "ولا بأس بخصاء البهائم وإنزاء الحمير على الخيل"؛ لأن في الأول منفعة للبهيمة والناس. وقد صح
"أن النبي عليه الصلاة والسلام ركب البغلة" فلو كان هذا الفعل حراما لما ركبها لما فيه من فتح بابه.
قال: "ولا بأس بعيادة اليهودي والنصراني"؛ لأنه نوع بر في حقهم، وما نهينا عن ذلك، وقد صح أن النبي عليه الصلاة والسلام عاد يهوديا مرض بجواره.
قال: "ويكره أن يقول الرجل في دعائه: أسألك بمعقد العز من عرشك" وللمسألة عبارتان: هذه، ومقعد العز، ولا ريب في كراهة الثانية؛ لأنه من القعود، وكذا الأولى؛ لأنه يوهم تعلق عزه بالعرش وهو محدث والله تعالى بجميع صفاته قديم. وعن أبي يوسف رحمه الله أنه لا بأس به. وبه أخذ الفقيه أبو الليث رحمه الله لأنه مأثور عن النبي عليه الصلاة والسلام. روي أنه كان من دعائه
"اللهم إني أسألك بمعقد العز من عرشك؛ ومنتهى الرحمة من كتابك، وباسمك الأعظم وجدك الأعلى وكلماتك التامة" ولكنا نقول: هذا خبر واحد فكان الاحتياط في الامتناع "ويكره أن يقول الرجل في دعائه بحق فلان أو بحق أنبياؤك ورسلك"؛ لأنه لا حق للمخلوق على الخالق.
قال: "ويكره اللعب بالشطرنج والنرد والأربعة عشر وكل لهو"؛ لأنه إن قامر بها فالميسر حرام بالنص وهو اسم لكل قمار، وإن لم يقامر فهو عبث ولهو. وقال عليه الصلاة والسلام:
"لهو المؤمن باطل إلا الثلاث: تأديبه لفرسه، ومناضلته عن قوسه، وملاعبته مع أهله" وقال بعض الناس: يباح اللعب بالشطرنج لما فيه من تشحيذ الخواطر وتذكية الأفهام، وهو محكي عن الشافعي رحمه الله. لنا قوله عليه الصلاة والسلام: "من لعب بالشطرنج والنردشير فكأنما غمس يده في دم الخنزير" ولأنه نوع لعب يصد عن ذكر الله وعن الجمع والجماعات فيكون حراما لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما ألهاك عن ذكر الله فهو ميسر" ثم إن قامر به تسقط عدالته، وإن لم يقامر لا تسقط؛ لأنه متأول فيه. وكره أبو يوسف ومحمد التسليم عليهم تحذيرا لهم، ولم ير أبو حنيفة رحمه الله به بأسا ليشغلهم عما هم فيه.

 

ج / 4 ص -381-       قال: "ولا بأس بقبول هدية العبد التاجر وإجابة دعوته واستعارة دابته. وتكره كسوته الثوب وهديته الدراهم والدنانير" وهذا استحسان. وفي القياس: كل ذلك باطل؛ لأنه تبرع والعبد ليس من أهله. وجه الاستحسان "أنه عليه الصلاة والسلام قبل هدية سلمان رضي الله عنه حين كان عبدا"، "وقبل هدية بريرة رضي الله عنها وكانت مكاتبة" "وأجاب رهط من الصحابة رضي الله عنهم دعوة مولى أبي أسيد وكان عبدا"، ولأن في هذه الأشياء ضرورة لا يجد التاجر بدا منها، ومن ملك شيئا يملك ما هو من ضروراته، ولا ضرورة في الكسوة وإهداء الدراهم فبقي على أصل القياس.
قال: "ومن كان في يده لقيط لا أب له فإنه يجوز قبضه الهبة والصدقة له" وأصل هذا أن التصرف على الصغار أنواع ثلاثة: نوع هو من باب الولاية لا يملكه إلا من هو ولي كالإنكاح والشراء والبيع لأموال القنية؛ لأن الولي هو الذي قام مقامه بإنابة الشرع، ونوع آخر ما كان من ضرورة حال الصغار وهو شراء ما لا بد للصغير منه وبيعه وإجارة الأظآر. وذلك جائز ممن يعوله وينفق عليه كالأخ والعم والأم والملتقط إذا كان في حجرهم. وإذا ملك هؤلاء هذا النوع فالولي أولى به، إلا أنه لا يشترط في حق الولي أن يكون الصبي في حجره، ونوع ثالث ما هو نفع محض كقبول الهبة والصدقة والقبض، فهذا يملكه الملتقط والأخ والعم والصبي بنفسه إذا كان يعقل، لأن اللائق بالحكمة فتح باب مثله نظرا للصبي فيملك بالعقل والولاية والحجر وصار بمنزلة الإنفاق.
قال: "ولا يجوز للملتقط أن يؤاجره، ويجوز للأم أن تؤاجر ابنها إذا كان في حجرها ولا يجوز للعم"؛ لأن الأم تملك إتلاف منافعه باستخدام، ولا كذلك الملتقط والعم "ولو أجر الصبي نفسه لا يجوز"؛ لأنه مشوب بالضرر "إلا إذا فرغ من العمل"؛ لأن عند ذلك تمحض نفعا فيجب المسمى وهو نظير العبد المحجور يؤاجر نفسه وقد ذكرناه.
قال: "ويكره أن يجعل الرجل في عنق عبده الراية" ويروون الداية، وهو طوق الحديد الذي يمنعه من أن يحرك رأسه، وهو معتاد بين الظلمة؛ لأنه عقوبة أهل النار فيكره كالإحراق بالنار "ولا يكره أن يقيده" لأنه سنة المسلمين في السفهاء وأهل الدعارة فلا يكره في العبد تحرزا عن إباقه وصيانة لماله.
قال: "ولا بأس بالحقنة يريد به التداوي" لأن التداوي مباح بالإجماع، وقد ورد بإباحته الحديث. ولا فرق بين الرجال والنساء إلا أنه لا ينبغي أن يستعمل المحرم كالخمر ونحوها؛ لأن الاستشفاء بالمحرم حرام.
قال: "ولا بأس برزق القاضي"؛ لأنه عليه الصلاة والسلام

 

ج / 4 ص -382-       بعث عتاب بن أسيد إلى مكة وفرض له، وبعث عليا إلى اليمن وفرض له ولأنه محبوس لحق المسلمين فتكون نفقته في مالهم وهو مال بيت المال، وهذا لأن الحبس من أسباب النفقة كما في الوصي والمضارب إذا سافر بمال المضاربة، وهذا فيما يكون كفاية، فإن كان شرطا فهو حرام؛ لأنه استئجار على الطاعة، إذ القضاء طاعة بل هو أفضلها، ثم القاضي إذا كان فقيرا: فالأفضل بل الواجب الأخذ؛ لأنه لا يمكنه إقامة فرض القضاء إلا به، إذ الاشتغال بالكسب يقعده عن إقامته، وإن كان غنيا فالأفضل الامتناع على ما قيل رفقا ببيت المال. وقيل الأخذ وهو الأصح صيانة للقضاء عن الهوان ونظرا لمن يولى بعده من المحتاجين؛ لأنه إذا انقطع زمانا يتعذر إعادته ثم تسميته رزقا يدل على أنه بقدر الكفاية، وقد جرى الرسم بإعطائه في أول السنة؛ لأن الخراج يؤخذ في أول السنة وهو يعطى منه، وفي زماننا الخراج يؤخذ في آخر السنة والمأخوذ من الخراج خراج السنة الماضية هو الصحيح، ولو استوفى رزق سنة وعزل قبل استكمالها، قيل هو على اختلاف معروف في نفقة المرأة إذا ماتت في السنة بعد استعجال نفقة السنة، والأصح أنه يجب الرد.
قال: "ولا بأس بأن تسافر الأمة وأم الولد بغير محرم"؛ لأن الأجانب في حق الإماء فيما يرجع إلى النظر والمس بمنزلة المحارم على ما ذكرنا من قبل، وأم الولد أمة لقيام الملك فيها وإن امتنع بيعها والله أعلم بالصواب.