الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -383-       كتاب إحياء الموات
قال: "الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة" سمي بذلك لبطلان الانتفاع به.
قال: "فما كان منها عاديا لا مالك له أو كان مملوكا في الإسلام لا يعرف له مالك بعينه وهو بعيد من القرية بحيث إذا وقف إنسان من أقصى العامر فصاح لا يسمع الصوت فيه فهو موات" قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري، ومعنى العادي ما قدم خرابه. والمروي عن محمد رحمه الله أنه يشترط أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي مع انقطاع الارتفاق بها ليكون ميتة مطلقا.
فأما التي هي مملوكة لمسلم أو ذمي لا تكون مواتا، وإذا لم يعرف مالكه تكون لجماعة المسلمين، ولو ظهر له مالك يرد عليه، ويضمن الزارع نقصانها، والبعد عن القرية على ما قال شرطه أبو يوسف؛ لأن الظاهر أن ما يكون قريبا من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه فيدار الحكم عليه. ومحمد رحمه الله اعتبر انقطاع ارتفاق أهل القرية عنها حقيقة، وإن كان قريبا من القرية، كذا ذكره الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله، وشمس الأئمة السرخسي رحمه الله اعتمد على ما اختاره أبو يوسف رحمه الله "ثم من أحياه بإذن الإمام ملكه، وإن أحياه بغير إذنه لم يملكه عند أبي حنيفة رحمه الله، وقالا: يملكه" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من أحيا أرضا ميتة فهي له" ولأنه مال مباح سبقت يده إليه فيملكه كما في الحطب والصيد. ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام: "ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به" وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصب لشرع، ولأنه مغنوم لوصوله إلى يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فليس لأحد أن يختص به بدون إذن الإمام كما في سائر الغنائم. ويجب فيه العشر؛ لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز إلا إذا سقاه بماء الخراج؛ لأنه حينئذ يكون إبقاء الخراج على اعتبار الماء. فلو أحياها، ثم تركها فزرعها غيره فقد قيل الثاني أحق بها؛ لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها، فإذا تركها كان الثاني أحق بها. والأصح أن الأول ينزعها من الثاني؛ لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث، إذ الإضافة

 

ج / 4 ص -384-       فيه فاللام التمليك وملكه لا يزول بالترك. ومن أحيا أرضا ميتة ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التعاقب؛ فعن محمد أن طريق الأول في الأرض الرابعة لتعينها لتطرقه وقصد الرابع إبطال حقه.
قال: "ويملك الذمي بالإحياء كما يملكه المسلم"؛ لأن الإحياء سبب الملك، إلا أن عند أبي حنيفة رحمه الله إذن الإمام من شرطه فيستويان فيه كما في سائر أسباب الملك حتى الاستيلاء على أصلنا.
قال: "ومن حجر أرضا ولم يعمرها ثلاث سنين أخذها الإمام ودفعها إلى غيره" لأن الدفع إلى الأول كان ليعمرها فتحصل المنفعة للمسلمين من حيث العشر أو الخراج. فإذا لم تحصل يدفع إلى غيره تحصيلا للمقصود، ولأن التحجير ليس بإحياء ليملكه به؛ لأن الإحياء إنما هو العمارة والتحجير الإعلام، سمي به لأنهم كانوا يعلمونه بوضع الأحجار حوله أو يعلمونه لحجر غيرهم عن إحيائه فبقي غير مملوك كما كان هو الصحيح. وإنما شرط ترك ثلاث سنين لقول عمر رضي الله عنه: ليس لمتحجر بعد ثلاث سنين حق. ولأنه إذا أعلمه لا بد من زمان يرجع فيه إلى وطنه وزمان يهيئ أموره فيه، ثم زمان يرجع فيه إلى ما يحجره فقدرناه بثلاث سنين؛ لأن ما دونها من الساعات والأيام والشهور لا يفي بذلك، وإذا لم يحضر بعد انقضائها فالظاهر أنه تركها.
قالوا: هذا كله ديانة، فأما إذا أحياها غيره قبل مضي هذه المدة ملكها لتحقق الإحياء منه دون الأول وصار كالاستيام فإنه يكره، ولو فعل يجوز العقد. ثم التحجير قد يكون بغير الحجر بأن غرز حولها أغصانا يابسة أو نقى الأرض وأحرق ما فيها من الشوك أو خضد ما فيها من الحشيش أو الشوك، وجعلها حولها وجعل التراب عليها من غير أن يتم المسناة ليمنع الناس من الدخول، أو حفر من بئر ذراعا أو ذراعين، وفي الأخير ورد الخبر. ولو كربها وسقاها فعن محمد أنه إحياء، ولو فعل أحدهما يكون تحجيرا، ولو حفر أنهارها ولم يسقها يكون تحجيرا، وإن سقاها مع حفر الأنهار كان إحياء لوجود الفعلين، ولو حوطها أو سنمها بحيث يعصم الماء يكون إحياء؛ لأنه من جملة البناء، وكذا إذا بذرها.
قال: "ولا يجوز إحياء ما قرب من العامر ويترك مرعى لأهل القرية ومطرحا لحصائدهم" لتحقق حاجتهم إليها حقيقة أو دلالة على ما بيناه، فلا يكون مواتا لتعلق حقهم بها بمنزلة الطريق والنهر. على هذا قالوا: لا يجوز للإمام أن يقطع ما لا غنى بالمسلمين عنه كالملح والآبار التي يستقي الناس منها لما ذكرنا.

 

ج / 4 ص -385-       قال: "ومن حفر بئرا في برية فله حريمها" ومعناه إذا حفر في أرض موات بإذن الإمام عنده أو بإذنه وبغير إذنه عندهما؛ لأن حفر البئر إحياء.
قال: "فإن كانت للعطن فحريمها أربعون ذراعا" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من حفر بئرا فله مما حولها أربعون ذراعا عطنا لماشيته" ثم قيل: الأربعون من كل الجوانب. والصحيح أنه من كل جانب؛ لأن في الأراضي رخوة ويتحول الماء إلى ما حفر دونها "وإن كانت للناضح فحريمها ستون ذراعا، وهذا عندهما. وعند أبي حنيفة أربعون ذراعا" لهما قوله عليه الصلاة والسلام: "حريم العين خمسمائة ذراع. وحريم بئر العطن أربعون ذراعا، وحريم بئر الناضح ستون ذراعا" ولأنه قد يحتاج فيه إلى أن يسير دابته للاستقاء، وقد يطول الرشاء وبئر العطن للاستقاء منه بيده فقلت الحاجة فلا بد من التفاوت. وله ما روينا من غير فصل، والعام المتفق على قبوله والعمل به أولى عنده من الخاص المختلف في قبوله والعمل به، ولأن القياس يأبى استحقاق الحريم؛ لأن عمله في موضع الحفر، والاستحقاق به، ففيما اتفق عليه الحديثان تركناه وفيما تعارضا فيه حفظناه؛ ولأنه قد يستقى من العطن بالناضح ومن بئر الناضح باليد فاستوت الحاجة فيهما، ويمكنه أن يدبر البعير حول البئر فلا يحتاج فيه إلى زيادة مسافة.
قال: "وإن كانت عينا فحريمها خمسمائة ذراع" لما روينا، ولأن الحاجة فيه إلى زيادة مسافة؛ لأن العين تستخرج للزراعة فلا بد من موضع يجري فيه الماء ومن حوض يجتمع فيه الماء. ومن موضع يجرى فيه إلى المزرعة فلهذا يقدر بالزيادة، والتقدير بخمسمائة بالتوقيف. والأصح أنه خمسمائة ذراع من كل جانب كما ذكرنا في العطن، والذراع هي المكسرة وقد بيناه من قبل. وقيل إن التقدير في العين والبئر بما ذكرناه في أراضيهم لصلابة بها وفي أراضينا رخاوة فيزاد كي لا يتحول الماء إلى الثاني فيتعطل الأول.
قال: "فمن أراد أن يحفر في حريمها منع منه" كي لا يؤدي إلى تفويت حقه والإخلال به، وهذا لأنه بالحفر ملك الحريم ضرورة تمكنه من الانتفاع به فليس لغيره أن يتصرف في ملكه؛ فإن احتفر آخر بئرا في حريم الأول للأول أن يصلحه ويكبسه تبرعا، ولو أراد أخذ الثاني فيه قيل: له أن يأخذه ويكبسه؛ لأن إزالة جناية حفره به كما في الكناسة يلقيها في دار غيره فإنه يؤخذ برفعها، وقيل يضمنه النقصان ثم يكبسه بنفسه كما إذا هدم جدار غيره، وهذا هو الصحيح ذكره في أدب القاضي للخصاف. وذكر طريق معرفة النقصان، وما عطب في الأول فلا ضمان فيه؛ لأنه غير متعد، إن كان بإذن الإمام فظاهر، وكذا إن كان بغير إذنه

 

ج / 4 ص -386-       عندهما. والعذر لأبي حنيفة أنه جعل في الحفر تحجيرا وهو بسبيل منه بغير إذن الإمام، وإن كان لا يملكه بدونه، وما عطب في الثانية ففيه الضمان؛ لأنه متعد فيه حيث حفر في ملك غيره، وإن حفر الثاني بئرا وراء حريم الأول فذهب ماء البئر الأول فلا شيء عليه؛ لأنه غير متعد في حفرها، وللثاني الحريم من الجوانب الثلاثة دون الجانب الأول لسبق ملك الحافر الأول فيه "والقناة لها حريم بقدر ما يصلحها" وعن محمد أنه بمنزلة البئر في استحقاق الحريم. وقيل هو عندهما. وعنده لا حريم لها ما لم يظهر الماء على الأرض؛ لأنه نهر في التحقيق فيعتبر بالنهر الظاهر.
قالوا: وعند ظهور الماء على الأرض هو بمنزلة عين فوارة فيقدر حريمه بخمسمائة ذراع "والشجرة تغرس في أرض موات لها حريم أيضا حتى لم يكن لغيره أن يغرس شجرا في حريمها"؛ لأنه يحتاج إلى حريم له يجد فيه ثمره ويضعه فيه وهو مقدر بخمسة أذرع من كل جانب، به ورد الحديث.
قال: "وما ترك الفرات أو الدجلة وعدل عنه الماء ويجوز عوده إليه لم يجز إحياؤه" لحاجة العامة إلى كونه نهرا "وإن كان لا يجوز أن يعود إليه فهو كالموات إذا لم يكن حريما لعامر"؛ لأنه ليس في ملك أحد، لأن قهر الماء يدفع قهر غيره وهو اليوم في يد الإمام.
قال: "ومن كان له نهر في أرض غيره فليس له حريم عند أبي حنيفة إلا أن يقيم بينة على ذلك، وقالا: له مسناة النهر يمشي عليها ويلقي عليها طينه" قيل هذه المسألة بناء على أن من حفر نهرا في أرض موات بإذن الإمام لا يستحق الحريم عنده. وعندهما يستحقه؛ لأن النهر لا ينتفع به إلا بالحريم لحاجته إلى المشي لتسييل الماء، ولا يمكنه المشي عادة في بطن النهر وإلى إلقاء الطين، ولا يمكنه النقل إلى مكان بعيد إلا بحرج فيكون له الحريم اعتبارا بالبئر. وله أن القياس يأباه على ما ذكرناه، وفي البئر عرفناه بالأثر، والحاجة إلى الحريم فيه فوقها إليه في النهر؛ لأن الانتفاع بالماء في النهر ممكن بدون الحريم، ولا يمكن في البئر إلا بالاستقاء ولا استقاء إلا بالحريم فتعذر الإلحاق.
ووجه البناء أن باستحقاق الحريم تثبت اليد عليه اعتبارا تبعا للنهر، والقول لصاحب اليد، وبعدم استحقاقه تنعدم اليد، والظاهر يشهد لصاحب الأرض على ما نذكره إن شاء الله تعالى، وإن كانت مسألة مبتدأة فلهما أن الحريم في يد صاحب النهر باستمساكه الماء به، ولهذا لا يملك صاحب الأرض نقضه. وله أنه أشبه بالأرض صورة ومعنى، أما صورة فلاستوائهما، ومعنى من حيث صلاحيته للغرس والزراعة، والظاهر شاهد لمن في يده

 

ج / 4 ص -387-       ما هو أشبه به. كاثنين تنازعا في مصراع باب ليس في يدهما، والمصراع الآخر معلق على باب أحدهما يقضى للذي في يده ما هو أشبه بالمتنازع فيه، والقضاء في موضع الخلاف قضاء ترك، ولا نزاع فيما به استمساك الماء إنما النزاع فيما وراءه مما يصلح للغرس، على أنه إن كان مستمسكا به ماء نهره فالآخر دافع به الماء عن أرضه، والمانع من نقضه تعلق حق صاحب النهر لا ملكه. كالحائط لرجل ولآخر عليه جذوع لا يتمكن من نقضه وإن كان ملكه.
"وفي الجامع الصغير نهر لرجل إلى جنبه مسناة ولآخر خلف المسناة أرض تلزقها، وليست المسناة في يد أحدهما فهي لصاحب الأرض عند أبي حنيفةوقالا: هي لصاحب النهر حريما لملقى طينه وغير ذلك". وقوله وليست المسناة في يد أحدهما معناه: ليس لأحدهما عليه غرس ولا طين ملقى فينكشف بهذا اللفظ موضع الخلاف.
أما إذا كان لأحدهما عليه ذلك فصاحب الشغل أولى، لأنه صاحب يد. ولو كان عليه غرس لا يدرى من غرسه فهو من مواضع الخلاف أيضا. وثمرة الاختلاف أن ولاية الغرس لصاحب الأرض عنده وعندهما لصاحب النهر. وأما إلقاء الطين فقد قيل إنه على الخلاف، وقيل إن لصاحب النهر ذلك ما لم يفحش. وأما المرور فقد قيل يمنع صاحب النهر عنده، وقيل لا يمنع للضرورة.
قال الفقيه أبو جعفر: آخذ بقوله في الغرس وبقولهما في إلقاء الطين. ثم عن أبي يوسف أن حريمه مقدار نصف النهر من كل جانب، وعن محمد مقدار بطن النهر من كل جانب. وهذا أرفق بالناس.

فصول في مسائل الشرب
فصل: في المياه
"وإذا كان لرجل نهر أو بئر أو قناة فليس له أن يمنع شيئا من الشفة، والشفة الشرب لبني آدم والبهائم"
اعلم أن المياه أنواع منها: ماء البحار، ولكل واحد من الناس فيها حق الشفة وسقي الأراضي، حتى إن من أراد أن يكري نهرا منها إلى أرضه لم يمنع من ذلك، والانتفاع بماء البحر كالانتفاع بالشمس والقمر والهواء فلا يمنع من الانتفاع به على أي وجه شاء.
والثاني: ماء الأودية العظام كجيحون وسيحون ودجلة والفرات للناس فيه حق الشفة على الإطلاق وحق سقي الأراضي، فإن أحيا واحد أرضا ميتة وكرى منه نهرا ليسقيها. إن كان لا يضر بالعامة ولا يكون النهر في ملك أحد له ذلك؛ لأنها مباحة في الأصل إذ قهر

 

ج / 4 ص -388-       الماء يدفع قهر غيره، وإن كان يضر بالعامة فليس له ذلك؛ لأن دفع الضرر عنهم واجب، وذلك في أن يميل الماء إلى هذا الجانب إذا انكسرت ضفته فيغرق القرى والأراضي، وعلى هذا نصب الرحى عليه؛ لأن شق النهر للرحى كشقه للسقي به.
والثالث: إذا دخل الماء في المقاسم فحق الشفة ثابت. والأصل فيه قوله عليه الصلاة والسلام:
"الناس شركاء في ثلاث: الماء، والكلإ، والنار" وأنه ينتظم الشرب، والشرب خص منه الأول وبقي الثاني وهو الشفة، ولأن البئر ونحوها ما وضع للإحراز. ولا يملك المباح بدونه كالظبي إذا تكنس في أرضه، ولأن في إبقاء الشفة ضرورة؛ لأن الإنسان لا يمكنه استصحاب الماء إلى كل مكان وهو محتاج إليه لنفسه وظهره؛ فلو منع عنه أفضى إلى حرج عظيم، وإن أراد رجل أن يسقي بذلك أرضا أحياها كان لأهل النهر أن يمنعوه عنه أضر بهم أو لم يضر؛ لأنه حق خاص لهم ولا ضرورة. ولأنا لو أبحنا ذلك لانقطعت منفعة الشرب.
والرابع: الماء المحرز في الأواني وأنه صار مملوكا له بالإحراز، وانقطع حق غيره عنه كما في الصيد المأخوذ، إلا أنه بقيت فيه شبهة الشركة نظرا إلى الدليل وهو ما روينا، حتى لو سرقه إنسان في موضع يعز وجوده وهو يساوي نصابا لم تقطع يده. ولو كان البئر أو العين أو الحوض أو النهر في ملك رجل له أن يمنع من يريد الشفة من الدخول في ملكه إذا كان يجد ماء آخر يقرب من هذا الماء في غير ملك أحد، وإن كان لا يجد يقال لصاحب النهر: إما أن تعطيه الشفة أو تتركه يأخذ بنفسه بشرط أن لا يكسر ضفته، وهذا مروي عن الطحاوي، وقيل ما قاله صحيح فيما إذا احتفر في أرض مملوكة له.
أما إذا احتفرها في أرض موات فليس له أن يمنعه؛ لأن الموات كان مشتركا والحفر لإحياء حق مشترك فلا يقطع الشركة في الشفة، ولو منعه عن ذلك، وهو يخاف على نفسه أو ظهره العطش له أن يقاتله بالسلاح لأنه قصد إتلافه بمنع حقه وهو الشفة، والماء في البئر مباح غير مملوك، بخلاف الماء المحرز في الإناء حيث يقاتله بغير السلاح؛ لأنه قد ملكه، وكذا الطعام عند إصابة المخمصة، وقيل في البئر ونحوها الأولى أن يقاتله بغير السلاح بعصا؛ لأنه ارتكب معصية فقام ذلك مقام التعزير له؛ والشفة إذا كان يأتي على الماء كله بأن كان جدولا صغيرا. وفيما يرد من الإبل والمواشي كثرة ينقطع الماء بشربها قيل لا يمنع منه؛ لأن الإبل لا ترده في كل وقت وصار كالمياومة وهو سبيل في قسمة الشرب. وقيل له أن يمنع اعتبارا: بسقي المزارع والمشاجر والجامع تفويت حقه، ولهم أن يأخذوا الماء منه للوضوء وغسل الثياب في الصحيح،؛ لأن الأمر بالوضوء والغسل فيه كما قيل يؤدي إلى الحرج وهو مدفوع، وإن أراد أن يسقي شجرا أو خضرا في داره حملا بجراره له ذلك في

 

ج / 4 ص -389-       الأصح؛ لأن الناس يتوسعون فيه ويعدون المنع من الدناءة، وليس له أن يسقي أرضه ونخله وشجره من نهر هذا الرجل وبئره وقناته إلا بإذنه نصا، وله أن يمنعه من ذلك؛ لأن الماء متى دخل في المقاسم انقطعت شركة الشرب بواحدة؛ لأن في إبقائه قطع شرب صاحبه، ولأن المسيل حق صاحب النهر، والضفة تعلق بها حقه فلا يمكنه التسييل فيه ولا شق الضفة، فإن أذن له صاحبه في ذلك أو أعاره فلا بأس به؛ لأنه حقه فتجرى فيه الإباحة كالماء المحرز في إنائه، والله سيحانه وتعالى أعلم بالصواب.

فصل: في كري الأنهار
قال رضي الله عنه: الأنهار ثلاثة: نهر غير مملوك لأحد ولم يدخل ماؤه في المقاسم بعد كالفرات ونحوه، ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة إلا أنه عام. ونهر مملوك دخل ماؤه في القسمة وهو خاص. والفاصل بينهما استحقاق الشفة به وعدمه. فالأول كريه على السلطان من بيت مال المسلمين؛ لأن منفعة الكري لهم فتكون مؤنته عليهم، ويصرف إليه من مؤنة الخراج والجزية دون العشور والصدقات؛ لأن الثاني للفقراء والأول للنوائب، فإن لم يكن في بيت المال شيء فالإمام يجبر الناس على كريه إحياء لمصلحة العامة إذ هم لا يقيمونها بأنفسهم، وفي مثله قال عمر رضي الله عنه:: لو تركتم لبعتم أولادكم، إلا أنه يخرج له من كان يطيقه ويجعل مؤنته على المياسير الذين لا يطيقونه بأنفسهم.
وأما الثاني: فكريه على أهله على بيت المال؛ لأن الحق لهم والمنفعة تعود إليهم على الخصوص والخلوص، ومن أبى منهم يجبر على كريه دفعا للضرر العام وهو ضرر بقية الشركاء وضرر الآبي خاص ويقابله عوض فلا يعارض به؛ ولو أرادوا أن يحصنوه خيفة الانبثاق وفيه ضرر عام كغرق الأراضي وفساد الطرق يجبر الآبي، وإلا فلا لأنه موهوم بخلاف الكري؛ لأنه معلوم.
وأما الثالث: وهو الخاص من كل وجه فكريه على أهله لما بينا ثم قيل يجبر الآبي كما في الثاني. وقيل لا يجبر؛ لأن كل واحد من الضررين خاص. ويمكن دفعه عنهم بالرجوع على الآبي بما أنفقوا فيه إذا كان بأمر القاضي فاستوت الجهتان، بخلاف ما تقدم، ولا يجبر لحق الشفة كما إذا امتنعوا جميعا ومؤنة كري النهر المشترك عليهم من أعلاه، فإذا جاوز أرض رجل رفع عنه وهذا عند أبي حنيفة رحمه الله. وقالا: هي عليهم جميعا من أوله إلى آخره بحصص الشرب والأرضين؛ لأن لصاحب الأعلى حقا في الأسفل لاحتياجه إلى تسييل ما فضل من الماء فيه. وله أن المقصد من الكري الانتفاع بالسقي، وقد حصل

 

ج / 4 ص -390-       لصاحب الأعلى فلا يلزمه إنفاع غيره، وليس على صاحب السيل عمارته كما إذا كان له مسيل على سطح غيره، كيف وأنه يمكنه دفع الماء عن أرضه بسده من أعلاه، ثم إنما يرفع عنه إذا جاوز أرضه كما ذكرناه، وقيل إذا جاوز فوهة نهره، وهو مروي عن محمد رحمه الله. والأول أصح؛ لأن له رأيا في اتخاذ الفوهة من أعلاه وأسفله، فإذا جاوز الكري أرضه حتى سقطت عنه مؤنته قيل له أن يفتح الماء ليسقي أرضه لانتهاء الكري في حقه، وقيل ليس له ذلك ما لم يفرغ شركاؤه نفيا لاختصاصه، وليس على أهل الشفة من الكري شيء؛ لأنهم لا يحصون ولأنهم أتباع.

فصل: في الدعوى والاختلاف والتصرف فيه
قال: "وتصح دعوى الشرب بغير أرض استحسانا"؛ لأنه قد يملك بدون الأرض إرثا، وقد يبيع الأرض ويبقى الشرب له وهو مرغوب فيه فيصح فيه الدعوى.
قال: "وإذا كان نهر لرجل يجري في أرض غيره فأراد صاحب الأرض أن لا يجرى النهر في أرضه ترك على حاله"؛ لأنه مستعمل له بإجراء مائه. فعند الاختلاف يكون القول قوله، فإن لم يكن في يده، ولم يكن جاريا فعليه البينة أن هذا النهر له، أو أنه قد كان مجراه له في هذا النهر يسوقه إلى أرضه ليسقيها فيقضي له لإثباته بالحجة ملكا له أو حقا مستحقا فيه، وعلى هذا المصب في نهر أو على سطح أو الميزاب أو الممشى في دار غيره، فحكم الاختلاف فيها نظيره في الشرب.
قال: "وإذا كان نهر بين قوم واختصموا في الشرب كان الشرب بينهم على قدر أراضيهم"؛ لأن المقصود الانتفاع بسقيها فيتقدر بقدره، بخلاف الطريق؛ لأن المقصود التطرق وهو في الدار الواسعة والضيقة على نمط واحد، فإن كان الأعلى منهم لا يشرب حتى يسكر النهر لم يكن له ذلك لما فيه من إبطال حق الباقين، ولكنه يشرب بحصته، فإن تراضوا على أن يسكر الأعلى النهر حتى يشرب بحصته أو اصطلحوا على أن يسكر كل رجل منهم في نوبته جاز؛ لأن الحق له، إلا أنه إذا تمكن من ذلك بلوح لا يسكر بما ينكبس به النهر من غير تراض لكونه إضرارا بهم، وليس لأحدهم أن يكري منه نهرا أو ينصب عليه رحى ماء إلا برضا أصحابه؛ لأن فيه كسر ضفة النهر وشغل موضع مشترك بالبناء، إلا أن يكون رحى لا يضر بالنهر ولا بالماء، ويكون موضعها في أرض صاحبها؛ لأنه تصرف في ملك نفسه ولا ضرر في حق غيره. ومعنى الضرر بالنهر ما بيناه من كسر ضفته، وبالماء أن يتغير عن سننه الذي كان يجري عليه، والدالية والسانية نظير الرحى، ولا يتخذ عليه جسرا ولا قنطرة بمنزلة طريق خاص

 

ج / 4 ص -391-       بين قوم، بخلاف ما إذا كان لواحد نهر خاص يأخذ من نهر خاص بين قوم فأراد أن يقنطر عليه ويستوثق منه له ذلك، أو كان مقنطرا مستوثقا فأراد أن ينقض ذلك ولا يزيد ذلك في أخذ الماء حيث يكون له ذلك لأنه يتصرف في خالص ملكه وضعا ورفعا. ولا ضرر بالشركاء بأخذ زيادة الماء، ويمنع من أن يوسع فم النهر؛ لأنه يكسر ضفة النهر، ويزيد على مقدار حقه في أخذ الماء، وكذا إذا كانت القسمة بالكوى، وكذا إذا أراد أن يؤخرها عن فم النهر فيجعلها في أربعة أذرع منه لاحتباس الماء فيه فيزداد دخول الماء فيه. بخلاف ما إذا أراد أن يسفل كواه أو يرفعها حيث يكون له ذلك في الصحيح؛ لأن قسمة الماء في الأصل باعتبار سعة الكوة وضيقها من غير اعتبار التسفل والترفع وهو العادة فلم يكن فيه تغيير موضع القسمة، ولو كانت القسمة وقعت بالكوى فأراد أحدهم أن يقسم بالأيام ليس له ذلك؛ لأن القديم يترك على قدمه لظهور الحق فيه. ولو كان لكل منهم كوى مسماة في نهر خاص ليس لواحد أن يزيد كوة وإن كان لا يضر بأهله؛ لأن الشركة خاصة، بخلاف ما إذا كانت الكوى في النهر الأعظم؛ لأن لكل منهم أن يشق نهرا منه ابتداء فكان له أن يزيد في الكوى بالطريق الأولى.
قال: "وليس لأحد الشركاء في النهر أن يسوق شربه إلى أرض له أخرى ليس لها في ذلك شرب"؛ لأنه إذا تقادم العهد يستدل به على أنه حقه.
قال: "وكذا إذا أراد أن يسوق شربه في أرضه الأولى حتى ينتهي إلى هذه الأرض الأخرى"؛ لأنه يستوفي زيادة على حقه، إذ الأرض الأولى تنشف بعض الماء قبل أن تسقى الأرض الأخرى، وهو نظير طريق مشترك أراد أحدهم أن يفتح فيه بابا إلى دار أخرى ساكنها غير ساكن هذه الدار التي يفتحها في هذا الطريق، ولو أراد الأعلى من الشريكين في النهر الخاص وفيه كوى بينهما أن يسد بعضها دفعا لفيض الماء عن أرضه كي لا تنز ليس له ذلك لما فيه من الضرر بالآخر، وكذا إذا أراد أن يقسم الشرب مناصفة بينهما؛ لأن القسمة بالكوى تقدمت إلا أن يتراضيا؛ لأن الحق لهما، وبعض التراضي لصاحب الأسفل أن ينقض ذلك. وكذا لورثته من بعده؛ لأنه إعارة الشرب، فإن مبادلة الشرب بالشرب باطلة، والشرب مما يورث ويوصى بالانتفاع بعينه، بخلاف البيع والهبة والصدقة والوصية بذلك حيث لا تجوز العقود إما للجهالة أو للغرر، أو لأنه ليس بمال متقوم حتى لا يضمن إذا سقى من شرب غيره، وإذا بطلت العقود فالوصية بالباطل باطلة، وكذا لا يصلح مسمى في النكاح حتى يجب مهر المثل، ولا في الخلع حتى يجب رد ما قبضت من الصداق لتفاحش الجهالة. ولا يصلح بدل الصلح عن الدعوى؛ لأنه لا يملك بشيء من العقود. ولا يباع الشرب في دين

 

ج / 4 ص -392-       صاحبه بعد موته بدون أرض كما في حال حياته، وكيف يصنع الإمام؟ الأصح أن يضمه إلى أرض لا شرب لها فيبيعها بإذن صاحبها، ثم ينظر إلى قيمة الأرض مع الشرب وبدونه فيصرف التفاوت إلى قضاء الدين، وإن لم يجد ذلك اشترى على تركة الميت أرضا بغير شرب، ثم ضم الشرب إليها وباعهما فيصرف من الثمن إلى ثمن الأرض ويصرف الفاضل إلى قضاء الدين "وإذا سقى الرجل أرضه أو مخرها ماء" أي ملأها "فسال من مائها في أرض رجل فغرقها أو نزت أرض جاره من هذا الماء لم يكن عليه ضمانها"؛ لأنه غير متعد فيه، والله أعلم.