الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -393-       كتاب الأشربة
سمي بها وهي جمع شراب لما فيه من بيان حكمها.
قال: "الأشربة المحرمة أربعة: الخمر وهي عصير العنب إذا غلى واشتد وقذف بالزبد، والعصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه" وهو الطلاء المذكور في الجامع الصغير "ونقيع التمر وهو السكر، ونقيع الزبيب إذا اشتد وغلى" أما الخمر فالكلام فيها في عشرة مواضع.
أحدها: في بيان مائيتها وهي النيء من ماء العنب إذا صار مسكرا وهذا عندنا وهو المعروف عند أهل اللغة وأهل العلم وقال بعض الناس: هو اسم لكل مسكر لقوله عليه الصلاة والسلام:
"كل مسكر خمر": وقوله عليه الصلاة والسلام: "الخمر من هاتين الشجرتين" وأشار إلى الكرمة والنخلة، ولأنه مشتق من مخامرة العقل وهو موجود في كل مسكر ولنا أنه اسم خاص بإطباق أهل اللغة فيما ذكرناه ولهذا اشتهر استعماله فيه وفي غيره غيره، ولأن حرمة الخمر قطعية وهي في غيرها ظنية، وإنما سمي خمرا لتخمره لا لمخامرته العقل، على أن ما ذكرتم لا ينافي كون الاسم خاصا فيه فإن النجم مشتق من النجوم وهو الظهور، ثم هو اسم خاص للنجم المعروف لا لكل ما ظهر وهذا كثير النظير والحديث الأول طعن فيه يحيى بن معين رحمه الله.
والثاني: أريد به بيان الحكم؛ إذ هو اللائق بمنصب الرسالة والثاني في حق ثبوت هذا الاسم وهذا الذي ذكره في الكتاب قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما إذا اشتد صار خمرا، ولا يشترط القذف بالزبد؛ لأن الاسم يثبت به، وكذا المعنى المحرم وهو المؤثر في الفساد بالاشتداد ولأبي حنيفة رحمه الله أن الغليان بداية الشدة، وكمالها بقذف بالزبد وسكونه؛ إذ به يتميز الصافي من الكدر، وأحكام الشرع قطعية فتناط بالنهاية كالحد وإكفار

 

ج / 4 ص -394-       المستحل وحرمة البيع وقيل يؤخذ في حرمة الشرب بمجرد الاشتداد احتياطا.
والثالث: أن عينها حرام غير معلول بالسكر ولا موقوف عليه: ومن الناس من أنكر حرمة عينها، وقال: إن السكر منها حرام؛ لأن به يحصل الفساد وهو الصد عن ذكر الله، وهذا كفر؛ لأنه جحود الكتاب فإنه تعالى سماه رجسا والرجس ما هو محرم العين، وقد جاءت السنة متواترة
"أن النبي عليه الصلاة والسلام حرم الخمر"؛ وعليه انعقد الإجماع، ولأن قليله يدعو إلى كثيره وهذا من خواص الخمر، ولهذا تزداد لشاربه اللذة بالاستكثار منه، بخلاف سائر المطعومات ثم هو غير معلول عندنا حتى لا يتعدى حكمه إلى سائر المسكرات، والشافعي رحمه الله يعديه إليها، وهذا بعيد؛ لأنه خلاف السنة المشهورة وتعليله لتعدية الاسم، والتعليل في الأحكام لا في الأسماء.
والرابع: أنها نجسة نجاسة غليظة كالبول لثبوتها بالدلائل القطعية على ما بينا.
والخامس: أنه يكفر مستحلها لإنكاره الدليل القطعي.
والسادس: لسقوط تقومها في حق المسلم حتى لا يضمن متلفها وغاصبها ولا يجوز بيعها؛ لأن الله تعالى لما نجسها فقد أهانها والتقوم يشعر بعزتها وقال عليه الصلاة والسلام:
"إن الذي حرم شربها حرم بيعها وأكل ثمنها" واختلفوا في سقوط ماليتها والأصح أنه مال؛ لأن الطباع تميل إليها وتضن بها ومن كان له على مسلم دين فأوفاه ثمن خمر لا يحل له أن يأخذه، ولا للمديون أن يؤديه؛ لأنه ثمن بيع باطل وهو غصب في يده أو أمانة على حسب ما اختلفوا فيه كما في بيع الميتة ولو كان الدين على ذمي فإنه يؤديه من ثمن الخمر، والمسلم الطالب يستوفيه؛ لأن بيعها فيما بينهم جائز.
والسابع: حرمة الانتفاع بها؛ لأن الانتفاع بالنجس حرام، ولأنه واجب الاجتناب وفي الانتفاع به اقتراب.
والثامن: أن يحد شاربها وإن لم يسكر منها لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من شرب الخمر فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاجلدوه، فإن عاد فاقتلوه" إلا أن حكم.
القتل قد انتسخ فبقي الجلد مشروعا، وعليه انعقد إجماع الصحابة رضي الله عنهم، وتقديره ذكرناه في الحدود.

 

ج / 4 ص -395-       والتاسع: أن الطبخ لا يؤثر فيها؛ لأنه للمنع من ثبوت الحرمة لا لرفعها بعد ثبوتها، إلا أنه لا يحد فيه ما لم يسكر منه على ما قالوا؛ لأن الحد بالقليل في النيء خاصة، لما ذكرنا وهذا قد طبخ.
والعاشر: جواز تخليلها وفيه خلاف الشافعي وسنذكره من بعد إن شاء الله تعالى، هذا هو الكلام في الخمر.
وأما العصير إذا طبخ حتى يذهب أقل من ثلثيه وهو المطبوخ أدنى طبخة ويسمى الباذق والمنصف وهو ما ذهب نصفه بالطبخ فكل ذلك حرام عندنا إذا غلى واشتد وقذف بالزبد أو إذا اشتد على الاختلاف وقال الأوزاعي: إنه مباح، وهو قول بعض المعتزلة؛ لأنه مشروب طيب وليس بخمر ولنا أنه رقيق ملذ مطرب ولهذا يجتمع عليه الفساق فيحرم شربه دفعا للفساد المتعلق به.
وأما نقيع التمر وهو السكر وهو النيء من ماء التمر: أي الرطب فهو حرام مكروه وقال شريك بن عبد الله: إنه مباح لقوله تعالى:
{تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [النحل:67] امتن علينا به، وهو بالمحرم لا يتحقق ولنا إجماع الصحابة رضي الله عنهم، ويدل عليه ما روينا من قبل، والآية محمولة على الابتداء إذ كانت الأشربة مباحة كلها، وقيل أراد به التوبيخ، معناه والله أعلم: تتخذون منه سكرا وتدعون رزقا حسنا.
وأما نقيع الزبيب: وهو النيء من ماء الزبيب فهو حرام إذا اشتد وغلى ويتأتى فيه خلاف الأوزاعي، وقد بينا المعنى من قبل، إلى أن حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها، ويكفر مستحل الخمر؛ لأن حرمتها اجتهادية، وحرمة الخمر قطعية، ولا يجب الحد بشربها حتى يسكر، ويجب بشرب قطرة من الخمر، ونجاستها خفيفة في رواية وغليظة في أخرى، ونجاسة الخمر غليظة رواية واحدة، ويجوز بيعها، ويضمن متلفها عند أبي حنيفة خلافا لهما فيهما؛ لأنه مال متقوم، وما شهدت دلالة قطعية بسقوط تقومها، بخلاف الخمر، غير أن عنده يجب قيمتها لا مثلها على ما عرف، ولا ينتفع بها بوجه من الوجوه؛ لأنها محرمة وعن أبي يوسف أنه يجوز بيعها إذا كان الذاهب بالطبخ أكثر من النصف دون الثلثين.
"وقال في الجامع الصغير: وما سوى ذلك من الأشربة فلا بأس به" قالوا: هذا الجواب

 

ج / 4 ص -396-       على هذا العموم والبيان لا يوجد في غيره، وهو نص على أن ما يتخذ من الحنطة والشعير والعسل والذرة حلال عند أبي حنيفة، ولا يحد شاربه عنده وإن سكر منه، ولا يقع طلاق السكران منه بمنزلة النائم ومن ذهب عقله بالبنج ولبن الرماك وعن محمد أنه حرام ويحد شاربه ويقع طلاقه إذا سكر منه كما في سائر الأشربة المحرمة "وقال فيه أيضا: وكان أبو يوسف يقول: ما كان من الأشربة يبقى بعد ما يبلغ عشرة أيام ولا يفسد فإني أكرهه، ثم رجع إلى قول أبي حنيفة" وقوله الأول مثل قول محمد إن كل مسكر حرام، إلا أنه تفرد بهذا الشرط، ومعنى قوله: يبلغ: يغلي ويشتد، ومعنى قوله ولا يفسد: لا يحمض ووجهه أن بقاءه هذه المدة من غير أن يحمض دلالة قوته وشدته فكان آية حرمته، ومثل ذلك يروى عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأبو حنيفة يعتبر حقيقة الشدة على الحد الذي ذكرناه فيما يحرم أصل شربه وفيما يحرم السكر منه على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأبو يوسف رجع إلى قول أبي حنيفة فلم يحرم كل مسكر، ورجع عن هذا الشرط أيضا.
"وقال في المختصر: ونبيذ التمر والزبيب إذا طبخ كل واحد منهما أدنى طبخة حلال"، وإن اشتد إذا شرب منه ما يغلب على ظنه أنه لا يسكره من غير لهو ولا طرب وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد والشافعي حرام، والكلام فيه كالكلام في المثلث العنبي ونذكره إن شاء الله تعالى.
قال "ولا بأس بالخليطين" لما روي عن ابن زياد أنه قال: سقاني ابن عمر رضي الله عنه شربة ما كدت أهتدي إلى منزلي فغدوت إليه من الغد فأخبرته بذلك فقال: ما زدناك على عجوة وزبيب وهذا نوع من الخليطين وكان مطبوخا؛ لأن المروي عنه حرمة نقيع الزبيب وهو النيء منه، وما روي أنه عليه الصلاة والسلام:
"نهى عن الجمع بين التمر والزبيب، والزبيب والرطب، والرطب والبسر" محمول على حالة الشدة، وكان ذلك في الابتداء.
قال: "ونبيذ العسل والتين ونبيذ الحنطة والذرة والشعير حلال وإن لم يطبخ" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله إذا كان من غير لهو وطرب لقوله عليه الصلاة والسلام:
"الخمر من هاتين الشجرتين"، وأشار إلى الكرمة والنخلة خص التحريم بهما والمراد بيان الحكم، ثم قيل يشترط الطبخ فيه لإباحته، وقيل لا يشترط وهو المذكور في الكتاب؛ لأن قليله لا يدعو إلى كثيره كيفما كان وهل يحد في المتخذ من الحبوب إذا سكر منه؟ قيل لا يحد وقد ذكرنا الوجه من قبل

 

ج / 4 ص -397-       قالوا: والأصح أنه يحد، فإنه روي عن محمد فيمن سكر من الأشربة أنه يحد من غير تفصيل، وهذا؛ لأن الفساق يجتمعون عليه في زماننا اجتماعهم على سائر الأشربة، بل فوق ذلك، وكذلك المتخذ من الألبان إذا اشتد فهو على هذا وقيل: إن المتخذ من لبن الرماك لا يحل عند أبي حنيفة اعتبارا بلحمه؛ إذ هو متولد منه قالوا: والأصح أنه يحل؛ لأن كراهة لحمه لما في إباحته من قطع مادة الجهاد أو لاحترامه فلا يتعدى إلى لبنه.
قال: "وعصير العنب إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه حلال وإن اشتد" وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد ومالك والشافعي: حرام، وهذا الخلاف فيما إذا قصد به التقوي، أما إذا قصد به التلهي لا يحل بالاتفاق وعن محمد مثل قولهما، وعنه أنه كره ذلك، وعنه أنه توقف فيه لهم في إثبات الحرمة قوله عليه الصلاة والسلام:
"كل مسكر خمر" وقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر كثيره فقليله حرام" ويروى عنه عليه الصلاة والسلام: "ما أسكر الجرة منه فالجرعة منه حرام" ولأن المسكر يفسد العقل فيكون حراما قليله وكثيره كالخمر ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "حرمت الخمر لعينها" ويروى "بعينها قليلها وكثيرها، والسكر من كل شراب" خص السكر بالتحريم في غير الخمر؛ إذ العطف للمغايرة، ولأن المفسد هو القدح المسكر وهو حرام عندنا وإنما يحرم القليل منه؛ لأنه يدعو لرقته ولطافته إلى الكثير فأعطي حكمه، والمثلث لغلظه لا يدعو وهو في نفسه غذاء فبقي على الإباحة: والحديث الأول غير ثابت على ما بيناه، ثم هو محمول على القدح الأخير إذ هو المسكر حقيقة والذي يصب عليه الماء بعد ما ذهب ثلثاه بالطبخ حتى يرق ثم يطبخ طبخة حكمه حكم المثلث؛ لأن صب الماء لا يزيده إلا ضعفا، بخلاف ما إذا صب الماء على العصير ثم يطبخ حتى يذهب ثلثا الكل؛ لأن الماء يذهب أولا للطافته، أو يذهب منهما فلا يكون الذاهب ثلثي ماء العنب ولو طبخ العنب كما هو ثم يعصر يكتفى بأدنى طبخة في رواية عن أبي حنيفة، وفي رواية عنه لا يحل ما لم يذهب ثلثاه بالطبخ، وهو الأصح؛ لأن العصير قائم فيه من غير تغير فصار كما بعد العصر، ولو جمع في الطبخ بين العنب والتمر أو بين التمر والزبيب لا يحل حتى يذهب ثلثاه لأن التمر إن كان يكتفى فيه بأدنى طبخة فعصير العنب لا بد أن يذهب ثلثاه فيعتبر جانب العنب احتياطا، وكذا إذا جمع بين عصير العنب ونقيع التمر لما قلنا.
ولو طبخ نقيع التمر والزبيب أدنى طبخة ثم أنقع فيه تمر أو زبيب، إن كان ما أنقع فيه شيئا يسيرا لا يتخذ النبيذ من مثله

 

ج / 4 ص -398-       لا بأس به، وإن كان يتخذ النبيذ من مثله لم يحل كما إذا صب في المطبوخ قدح من النقيع والمعنى تغليب جهة الحرمة، ولا حد في شربه؛ لأن التحريم للاحتياط وهو للحد في درئه. ولو طبخ الخمر أو غيره بعد الاشتداد حتى يذهب ثلثاه لم يحل؛ لأن الحرمة قد تقررت فلا ترتفع بالطبخ.
قال: "ولا بأس بالانتباذ في الدباء والحنتم والمزفت والنقير" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث فيه طول بعد ذكر هذه الأوعية:
"فاشربوا في كل ظرف، فإن الظرف لا يحل شيئا ولا يحرمه ولا تشربوا المسكر" وقال ذلك بعد ما أخبر عن النهي عنه فكان ناسخا له، وإنما ينتبذ فيه بعد تطهيره، فإن كان الوعاء عتيقا يغسل ثلاثا فيطهر، وإن كان جديدا لا يطهر عند محمد لتشرب الخمر فيه بخلاف العتيق وعند أبي يوسف يغسل ثلاثا ويجفف في كل مرة وهي مسألة ما لا ينعصر بالعصر، وقيل عن أبي يوسف: يملأ ماء مرة بعد أخرى، حتى إذا خرج الماء صافيا غير متغير يحكم بطهارته.
قال: "وإذا تخللت الخمر حلت سواء صارت خلا بنفسها أو بشيء يطرح فيها، ولا يكره تخليلها" وقال الشافعي: يكره التخليل ولا يحل الخل الحاصل به إن كان التخليل بإلقاء شيء فيه قولا واحدا، وإن كان بغير إلقاء شيء فيه فله في الخل الحاصل به قولان له أن في التخليل اقترابا من الخمر على وجه التمول، والأمر بالاجتناب ينافيه ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"نعم الإدام الخل" من غير فصل، وقوله عليه الصلاة والسلام: "خير خلكم خل خمركم" ولأن بالتخليل يزول الوصف المفسد وتثبت صفة الصلاح من حيث تسكين الصفراء وكسر الشهوة، والتغذي به والإصلاح مباح، وكذا الصالح للمصالح اعتبارا بالمتخلل بنفسه وبالدباغ والاقتراب لإعدام الفساد فأشبه الإراقة، والتخليل أولى لما فيه من إحراز مال يصير حلالا في الثاني فيختاره من ابتلي به، وإذا صار الخمر خلا يطهر ما يوازيها من الإناء، فأما أعلاه وهو الذي نقص منه الخمر قيل يطهر تبعا وقيل لا يطهر؛ لأنه خمر يابس إلا إذا غسل بالخل فيتخلل من ساعته فيطهر، وكذا إذا صب فيه الخمر ثم ملئ خلا يطهر في الحال على ما قالوا.
قال: "ويكره شرب دردي الخمر والامتشاط به"؛ لأن فيه أجزاء الخمر، والانتفاع بالمحرم حرام، ولهذا لا يجوز أن يداوي به جرحا أو دبرة دابة ولا أن يسقي ذميا ولا أن يسقي صبيا للتداوي، والوبال على من سقاه، وكذا لا يسقيها الدواب وقيل: لا تحمل الخمر

 

ج / 4 ص -399-       إليها، أما إذا قيدت إلى الخمر فلا بأس به كما في الكلب والميتة ولو ألقي الدردي في الخل لا بأس به؛ لأنه يصير خلا لكن يباح حمل الخل إليه لا عكسه لما قلنا.
قال: "ولا يحد شاربه" أي شارب الدردي "إن لم يسكر" وقال الشافعي: يحد؛ لأنه شرب جزءا من الخمر ولنا أن قليله لا يدعو إلى كثيره لما في الطباع من النبوة عنه فكان ناقصا فأشبه غير الخمر من الأشربة ولا حد فيها إلا بالسكر، ولأن الغالب عليه الثفل فصار كما إذا غلب عليه الماء بالامتزاج "ويكره الاحتقان بالخمر وإقطارها في الإحليل"؛ لأنه انتفاع بالمحرم ولا يجب الحد لعدم الشرب وهو السبب، ولو جعل الخمر في مرقة لا تؤكل لتنجسها بها ولا حد ما لم يسكر منه؛ لأنه أصابه الطبخ "ويكره أكل خبز عجن عجينه بالخمر" لقيام أجزاء الخمر فيه.

فصل: في طبخ العصير
والأصل أن ما ذهب بغليانه بالنار وقذفه بالزبد يجعل كأن لم يكن ويعتبر ذهاب ثلثي ما بقي ليحل الثلث الباقي، بيانه عشرة دوارق من عصير طبخ فذهب دورق بالزبد يطبخ الباقي حتى يذهب ستة دوارق ويبقى الثلث فيحل؛ لأن الذي يذهب زبدا هو العصير أو ما يمازجه، وأيا ما كان جعل كأن العصير تسعة دوارق فيكون ثلثها ثلاثة وأصل آخر أن العصير إذا صب عليه ماء قبل الطبخ ثم طبخ بمائه، إن كان الماء أسرع ذهابا لرقته ولطافته يطبخ الباقي بعد ما ذهب مقدار ما صب فيه من الماء حتى يذهب ثلثاه؛ لأن الذاهب الأول هو الماء والثاني العصير، فلا بد من ذهاب ثلثي العصير، وإن كانا يذهبان معا تغلى الجملة حتى يذهب ثلثاه ويبقى ثلثه فيحل؛ لأنه ذهب الثلثان ماء وعصيرا والثلث الباقي ماء وعصير فصار كما إذا صب الماء فيه بعد ما ذهب من العصير بالغلي ثلثاه بيانه عشرة دوارق من عصير وعشرون دورقا من ماء ففي الوجه الأول يطبخ حتى يبقى تسع الجملة؛ لأنه ثلث العصير؛ وفي الوجه الثاني حتى يذهب ثلثا الجملة لما قلنا، والغلي بدفعة أو دفعات سواء إذا حصل قبل أن يصير محرما ولو قطع عنه النار فغلى حتى ذهب الثلثان يحل؛ لأنه أثر النار وأصل آخر أن العصير إذا طبخ فذهب بعضه ثم أهريق بعضه كم تطبخ البقية حتى يذهب الثلثان فالسبيل فيه أن تأخذ ثلث الجميع فتضربه في الباقي بعد المنصب ثم تقسمه على ما بقي بعد ذهاب ما ذهب بالطبخ قبل أن ينصب منه شيء فما يخرج بالقسمة فهو حلال بيانه عشرة أرطال عصير طبخ حتى ذهب رطل ثم أهريق منه ثلاثة أرطال تأخذ ثلث العصير كله، وهو

 

ج / 4 ص -400-       ثلاثة وثلث وتضربه فيما بقي بعد المنصب هو ستة فيكون عشرين ثم تقسم العشرين على ما بقي بعد ما ذهب بالطبخ منه قبل أن ينصب منه شيء وذلك تسعة، فيخرج لكل جزء من ذلك اثنان وتسعان، فعرفت أن الحلال فيما بقي منه رطلان وتسعان، وعلى هذا تخرج المسائل ولها طريق آخر، وفيما اكتفينا به كفاية وهداية إلى تخريج غيرها من المسائل والله أعلم بالصواب.