الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -401-       كتاب الصيد
الصيد: الاصطياد، ويطلق على ما يصاد، والفعل مباح لغير المحرم في غير الحرم لقوله تعالى: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة:2] وقوله عز وجل {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:96] ولقوله عليه الصلاة والسلام لعدي بن حاتم الطائي رضي الله عنه: "إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل، وإن أكل منه فلا تأكل؛ لأنه إنما أمسك على نفسه، وإن شارك كلبك كلب آخر فلا تأكل فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على كلب غيرك" وعلى إباحته انعقد الإجماع ولأنه نوع اكتساب وانتفاع بما هو مخلوق لذلك، وفيه استبقاء المكلف وتمكينه من إقامة التكاليف فكان مباحا بمنزلة الاحتطاب ثم جملة ما يحويه الكتاب فصلان: أحدهما في الصيد بالجوارح والثاني في الاصطياد بالرمي.

فصل: في الجوارح
قال: "ويجوز الاصطياد بالكلب المعلم والفهد والبازي وسائر الجوارح المعلمة وفي الجامع الصغير: وكل شيء علمته من ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير فلا بأس بصيده، ولا خير فيما سوى ذلك إلا أن تدرك ذكاته" والأصل فيه قوله تعالى: {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة:4] والجوارح: الكواسب قال في تأويل المكلبين: المسلطين، فيتناول الكل بعمومه، دل عليه ما روينا من حديث عدي رضي الله عنه واسم الكلب في اللغة يقع على كل سبع حتى الأسد وعن أبي يوسف أنه استثني من ذلك الأسد والدب؛ لأنهما لا يعملان لغيرهما الأسد لعلو همته والدب لخساسته، وألحق بهما بعضهم الحدأة لخساستها، والخنزير مستثنى؛ لأنه نجس العين فلا يجوز الانتفاع به ثم لا بد من التعليم؛ لأن ما تلونا من النص ينطق باشتراط التعليم والحديث به وبالإرسال، ولأنه إنما يصير آلة بالتعليم ليكون عاملا له فيترسل بإرساله ويمسكه عليه.
قال: "تعليم الكلب أن يترك الأكل ثلاث مرات، وتعليم البازي أن يرجع ويجيب إذا

 

ج / 4 ص -402-       دعوته" وهو مأثور عن ابن عباس رضي الله عنهما، ولأن بدن البازي لا يحتمل الضرب، وبدن الكلب يحتمله فيضرب ليتركه، ولأن آية التعليم ترك ما هو ألوف عادة، والبازي متوحش متنفر فكانت الإجابة آية تعليمه وأما الكلب فهو مألوف يعتاد الانتهاب فكان آية تعليمه ترك مألوفه وهو الأكل والاستلاب ثم شرط ترك الأكل ثلاثا وهذا عندهما وهو رواية عن أبي حنيفة رحمه الله؛ لأن فيما دونه مزيد الاحتمال فلعله تركه مرة أو مرتين شبعا، فإذا تركه ثلاثا دل على أنه صار عادة له، وهذا؛ لأن الثلاث مدة ضربت للاختبار وإبلاء الأعذار كما في مدة الخيار وفي بعض قصص الأخيار: ولأن الكثير هو الذي يقع أمارة على العلم دون القليل، والجمع هو الكثير وأدناه الثلاث فقدر بها وعند أبي حنيفة على ما ذكر في الأصل: لا يثبت التعليم ما لم يغلب على ظن الصائد أنه معلم، ولا يقدر بالثلاث؛ لأن المقادير لا تعرف اجتهادا بل نصا وسماعا ولا سمع فيفوض إلى رأي المبتلى به كما هو أصله في جنسها وعلى الرواية الأولى عنده يحل ما اصطاده ثالثا وعندهما لا يحل؛ لأنه إنما يصير معلما بعد تمام الثلاث وقبل التعليم غير معلم، فكان الثالث صيد كلب جاهل وصار كالتصرف المباشر في سكوت المولى وله أنه آية تعليمه عنده فكان هذا صيد جارحة معلمة، بخلاف تلك المسألة؛ لأن الإذن إعلام ولا يتحقق دون علم العبد وذلك بعد المباشرة.
قال: "وإذا أرسل كلبه المعلم أو بازيه وذكر اسم الله تعالى عند إرساله فأخذ الصيد وجرحه فمات حل أكله" لما روينا من حديث عدي رضي الله عنه، ولأن الكلب أو البازي آلة، والذبح لا يحصل بمجرد الآلة إلا بالاستعمال وذلك فيهما بالإرسال فنزل منزلة الرمي وإمرار السكين فلا بد من التسمية عنده ولو تركه ناسيا حل أيضا على ما بيناه، وحرمة متروك التسمية عامدا في الذبائح ولا بد من الجرح في ظاهر الرواية ليتحقق الذكاة الاضطراري وهو الجرح في أي موضع كان من البدن بانتساب ما وجد من الآلة إليه بالاستعمال وفي ظاهر قوله تعالى:
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ} [المائدة:4] ما يشير إلى اشتراط الجرح؛ إذ هو من الجرح بمعنى الجراحة في تأويل فيحمل على الجارح الكاسب بنابه ومخلبه ولا تنافي، وفيه أخذ باليقين وعن أبي يوسف أنه لا يشترط رجوعا إلى التأويل الأول وجوابه ما قلنا.
قال: "فإن أكل منه الكلب أو الفهد لم يؤكل وإن أكل منه البازي أكل" والفرق ما بيناه في دلالة التعليم وهو مؤيد بما روينا من حديث عدي رضي الله عنه وهو حجة على مالك والشافعي في قوله القديم في إباحة ما أكل الكلب منه.
قال: "ولو أنه صاد صيودا ولم يأكل منها ثم أكل من صيد لا يؤكل هذا الصيد" لأنه

 

ج / 4 ص -403-       علامة الجهل، ولا ما يصيده بعده حتى يصير معلما على اختلاف الروايات كما بيناها في الابتداء وأما الصيود التي أخذها من قبل فما أكل منها لا تظهر الحرمة فيه لانعدام المحلية وما ليس بمحرز بأن كان في المفازة بأن لم يظفر صاحبه بعد تثبت الحرمة فيه بالاتفاق، وما هو محرز في بيته يحرم عنده خلافا لهما هما يقولان: إن الأكل ليس يدل على الجهل فيما تقدم؛ لأن الحرفة قد تنسى، ولأن فيما أحرزه قد أمضى الحكم فيه الاجتهاد فلا ينقض باجتهاد مثله؛ لأن المقصود قد حصل بالأول، بخلاف غير المحرز؛ لأنه ما حصل المقصود من كل وجه لبقائه صيدا من وجه لعدم الإحراز فحرمناه احتياطا وله أنه آية جهله من الابتداء؛ لأن الحرفة لا ينسى أصلها، فإذا أكل تبين أنه كان ترك الأكل للشبع لا للعلم، وتبدل الاجتهاد قبل حصول المقصود؛ لأنه بالأكل فصار كتبدل اجتهاد القاضي قبل القضاء.
قال: "ولو أن صقرا فر من صاحبه فمكث حينا ثم صاد لا يؤكل صيده"؛ لأنه ترك ما صار به عالما فيحكم بجهله كالكلب إذا أكل من الصيد.
قال: "ولو شرب الكلب من دم الصيد ولم يأكل منه أكل"؛ لأنه ممسك للصيد عليه، وهذا من غاية علمه حيث شرب ما لا يصلح لصاحبه وأمسك عليه ما يصلح له.
قال: "ولو أخذ الصيد من المعلم ثم قطع منه قطعة وألقاها إليه فأكلها يؤكل ما بقي"؛ لأنه لم يبق صيدا فصار كما إذا ألقى إليه طعاما غيره، وكذا إذا وثب الكلب فأخذه منه وأكل منه؛ لأنه ما أكل من الصيد، والشرط ترك الأكل من الصيد فصار كما إذا افترس شاته، بخلاف ما إذا فعل ذلك قبل أن يحرزه المالك؛ لأنه بقيت فيه جهة الصيدية.
قال: "ولو نهس الصيد فقطع منه بضعة فأكلها ثم أدرك الصيد فقتله ولم يأكل منه لم يؤكل"؛ لأنه صيد كلب جاهل حيث أكل من الصيد.
قال: "ولو ألقى ما نهسه واتبع الصيد فقتله ولم يأكل منه وأخذه صاحبه ثم مر بتلك البضعة فأكلها يؤكل الصيد"؛ لأنه لو أكل من نفس الصيد في هذه الحالة لم يضره، فإذا أكل ما بان منه وهو لا يحل لصاحبه أولى، بخلاف الوجه الأول؛ لأنه أكل في حالة الاصطياد فكان جاهلا ممسكا لنفسه، ولأن نهس البضعة قد يكون ليأكلها وقد يكون حيلة في الاصطياد ليضعف بقطع القطعة منه فيدركه، فالأكل قبل الأخذ يدل على الوجه الأول، وبعده على الوجه الثاني فلا يدل على جهله.
قال: "وإن أدرك المرسل الصيد حيا وجب عليه أن يذكيه، وإن ترك تذكيته حتى مات لم يؤكل، وكذا البازي والسهم"؛ لأنه قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل، إذ المقصود

 

ج / 4 ص -404-       هو الإباحة ولم تثبت قبل موته فبطل حكم البدل، وهذا إذا تمكن من ذبحه أما إذا وقع في يده ولم يتمكن من ذبحه وفيه من الحياة فوق ما يكون في المذبوح لم يؤكل في ظاهر الرواية وعن أبي حنيفة وأبي يوسف أنه يحل وهو قول الشافعي؛ لأنه لم يقدر على الأصل فصار كما إذا رأى الماء ولم يقدر على الاستعمال ووجه الظاهر أنه قدر اعتبارا؛ لأنه ثبت يده على حسب تفاوتهم في الكياسة والهداية في أمر الذبح فأدير الحكم على ما ذكرنا، بخلاف ما إذا بقي فيه من الحياة مثل ما يبقى في المذبوح؛ لأنه ميت حكما، ألا ترى أنه لو وقع في الماء وهو بهذه الحالة لم يحرم كما إذا وقع وهو ميت والميت ليس بمذبح وفصل بعضهم فيها تفصيلا وهو أنه إن لم يتمكن لفقد الآلة لم يؤكل، وإن لم يتمكن بضيق الوقت لم يؤكل عندنا خلافا للشافعي؛ لأنه إذا وقع في يده لم يبق صيدا فبطل حكم ذكاة الاضطرار، وهذا إذا كان يتوهم بقاؤه، أما إذا شق بطنه وأخرج ما فيه ثم وقع في يد صاحبه حل؛ لأن ما بقي اضطراب المذبوح فلا يعتبر كما إذا وقعت شاة في الماء بعدما ذبحت وقيل هذا قولهما، أما عند أبي حنيفة فلا يؤكل أيضا؛ لأنه وقع في يده حيا فلا يحل إلا بذكاة الاختيار رد إلى المتردية على ما نذكره إن شاء الله تعالى هذا الذي ذكرنا إذا ترك التذكية، فلو أنه ذكاه حل أكله عند أبي حنيفة، وكذا المتردية والنطيحة والموقوذة، والذي يبقر الذئب بطنه وفيه حياة خفية أو بينة، وعليه الفتوى لقوله تعالى: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة:3] استثناه مطلقا من غير فصل وعند أبي يوسف إذا كان بحال لا يعيش مثله لا يحل؛ لأنه لم يكن موته بالذبح وقال محمد: إن كان يعيش فوق ما يعيش المذبوح يحل وإلا فلا؛ لأنه لا معتبر بهذه الحياة على ما قررناه.
قال: "ولو أدركه ولم يأخذه، فإن كان في وقت لو أخذه أمكنه ذبحه لم يؤكل"؛ لأنه صار في حكم المقدور عليه.
قال: "وإن كان لا يمكنه ذبحه أكل"؛ لأن اليد لم تثبت به، والتمكن من الذبح لم يوجد.
قال: "وإن أدركه فذكاه حل له"؛ لأنه إن كان فيه حياة مستقرة فالذكاة وقعت موقعها بالإجماع، وإن لم يكن فيه حياة مستقرة؛ فعند أبي حنيفة رحمه الله ذكاته الذبح على ما ذكرناه وقد وجد، وعندهما لا يحتاج إلى الذبح.

 

ج / 4 ص -405-       قال: "وإذا أرسل كلبه المعلم على صيد وأخذ غيره حل" وقال مالك: لا يحل؛ لأنه أخذه بغير إرسال؛ إذ الإرسال مختص بالمشار إليه ولنا أنه شرط غير مفيد؛ لأن مقصوده حصول الصيد إذ لا يقدر على الوفاء به؛ إذ لا يمكنه تعليمه على وجه يأخذ ما عينه فسقط اعتباره.
قال: "ولو أرسله على صيد كثير وسمى مرة واحدة حالة الإرسال، فلو قتل الكل يحل بهذه التسمية الواحدة"؛ لأن الذبح يقع بالإرسال على ما بيناه، ولهذا تشترط التسمية عنده والفعل واحد فيكفيه تسمية واحدة، بخلاف ذبح الشاتين بتسمية واحدة؛ لأن الثانية تصير مذبوحة بفعل غير الأول فلا بد من تسمية أخرى، حتى لو أضجع إحداهما فوق الأخرى، وذبحهما بمرة واحدة تحلان بتسمية واحدة.
قال: "ومن أرسل فهدا فكمن حتى يستمكن ثم أخذ الصيد فقتله يؤكل"؛ لأن مكثه ذلك حيلة منه للصيد لا استراحة فلا يقطع الإرسال.
قال: "وكذا الكلب إذا اعتاد عادته" "ولو أخذ الكلب صيدا فقتله ثم أخذ آخر فقتله وقد أرسله صاحبه أكلا جميعا"؛ لأن الإرسال قائم لم ينقطع، وهو بمنزلة ما لو رمى سهما إلى صيد فأصابه وأصاب آخر.
قال: "ولو قتل الأول فجثم عليه طويلا من النهار ثم مر به صيد آخر فقتله لا يؤكل الثاني" لانقطاع الإرسال بمكثه إذ لم يكن ذلك حيلة منه للأخذ وإنما كان استراحة، بخلاف ما تقدم.
قال: "ولو أرسل بازيه المعلم على صيد فوقع على شيء ثم اتبع الصيد فأخذه وقتله فإنه يؤكل" وهذا إذا لم يمكث زمانا طويلا للاستراحة، وإنما مكث ساعة للتمكين لما بيناه في الكلب.
قال: "ولو أن بازيا معلما أخذ صيدا فقتله ولا يدرى أرسله إنسان أم لا لا يؤكل" لوقوع الشك في الإرسال، ولا تثبت الإباحة بدونه.
قال: "وإن خنقه الكلب ولم يجرحه لم يؤكل"؛ لأن الجرح شرط على ظاهر الرواية على ما ذكرناه، وهذا يدلك على أنه لا يحل بالكسر وعن أبي حنيفة أنه إذا كسر عضوا فقتله لا بأس بأكله؛ لأنه جراحة باطنة فهي كالجراحة الظاهرة وجه الأول أن المعتبر جرح ينتهض سببا لإنهار الدم ولا يحصل ذلك بالكسر فأشبه التخنيق.
قال: "وإن شاركه كلب غير معلم أو كلب مجوسي أو كلب لم يذكر اسم الله عليه

 

ج / 4 ص -406-       يريد به عمدا لم يؤكل" لما روينا في حديث عدي رضي الله عنه، ولأنه اجتمع المبيح والمحرم فيغلب جهة الحرمة نصا أو احتياطا "ولو رده عليه الكلب الثاني ولم يجرحه معه ومات بجرح الأول يكره أكله" لوجود المشاركة في الأخذ وفقدها في الجرح، وهذا بخلاف ما إذا رده المجوسي بنفسه حيث لا يكره؛ لأن فعل المجوسي ليس من جنس فعل الكلب فلا تتحقق المشاركة وتتحقق بين فعلي الكلبين لوجود المجانسة "ولو لم يرده الكلب الثاني على الأول لكنه أشد على الأول حتى اشتد على الصيد فأخذه وقتله لا بأس بأكله"؛ لأن فعل الثاني أثر في الكلب المرسل دون الصيد حيث ازداد به طلبا فكان تبعا لفعله؛ لأنه بناء عليه فلا يضاف الأخذ إلى التبع، بخلاف ما إذا كان رده عليه؛ لأنه لم يصر تبعا فيضاف إليهما.
قال: "وإذا أرسل المسلم كلبه فزجره مجوسي فانزجر بزجره فلا بأس بصيده" والمراد بالزجر الإغراء بالصياح عليه، وبالانزجار إظهار زيادة الطلب ووجهه أن الفعل يرفع بما هو فوقه أو مثله كما في نسخ الآي، والزجر دون الإرسال لكونه بناء عليه.
قال: "ولو أرسله مجوسي فزجره مسلم فانزجر بزجره لم يؤكل"؛ لأن الزجر دون الإرسال ولهذا لم تثبت به شبهة الحرمة فأولى أن لا يثبت به الحل، وكل من لا تجوز ذكاته كالمرتد والمحرم وتارك التسمية عامدا في هذا بمنزلة المجوسي "وإن لم يرسله أحد فزجره مسلم فانزجر فأخذ الصيد فلا بأس بأكله"؛ لأن الزجر مثل الانفلات؛ لأنه إن كان دونه من حيث إنه بناء عليه فهو فوقه من حيث إنه فعل المكلف فاستويا فصلح ناسخا "ولو أرسل المسلم كلبه على صيد وسمى فأدركه فضربه ووقذه ثم ضربه فقتله أكل، وكذا إذا أرسل كلبين فوقذه أحدهما ثم قتله الآخر أكل"؛ لأن الامتناع عن الجرح بعد الجرح لا يدخل تحت التعليم فجعل عفوا "ولو أرسل رجلان كل واحد منهما كلبا فوقذه أحدهما وقتله الآخر أكل" لما بينا "والملك للأول"؛ لأن الأول أخرجه عن حد الصيدية إلا أن الإرسال من الثاني بعد الخروج عن الصيدية بجرح الكلب الأول.

فصل: في الرمي
"ومن سمع حسا ظنه حس صيد فرماه أو أرسل كلبا أو بازيا عليه فأصاب صيدا، ثم تبين أنه حس صيد حل المصاب" أي صيد كان؛ لأنه قصد الاصطياد وعن أبي يوسف أنه خص من ذلك الخنزير لتغليظ التحريم؛ ألا ترى أنه لا تثبت الإباحة في شيء منه بخلاف السباع؛ لأنه يؤثر في جلدها وزفر خص منها ما لا يؤكل لحمه؛ لأن الإرسال فيه

 

ج / 4 ص -407-       ليس للإباحة ووجه الظاهر أن اسم الاصطياد لا يختص بالمأكول فوقع الفعل اصطيادا وهو فعل مباح في نفسه، وإباحة التناول ترجع إلى المحل فتثبت بقدر ما يقبله لحما وجلدا، وقد لا تثبت إذا لم يقبله، وإذا وقع اصطيادا صار كأنه رمى إلى صيد فأصاب غيره "وإن تبين أنه حس آدمي أو حيوان أهلي لا يحل المصاب"؛ لأن الفعل ليس باصطياد "والطير الداجن الذي يأوي البيوت أهلي والظبي الموثق بمنزلته" لما بينا "ولو رمى إلى طائر فأصاب صيدا ومر الطائر ولا يدري وحشي هو أو غير وحشي حل الصيد"؛ لأن الظاهر فيه التوحش "ولو رمى إلى بعير فأصاب صيدا ولا يدري ناد هو أم لا لا يحل الصيد"؛ لأن الأصل فيه الاستئناس "ولو رمى إلى سمكة أو جرادة فأصاب صيدا يحل في رواية عن أبي يوسف"؛ لأنه صيد، وفي أخرى عنه لا يحل؛ لأنه لا ذكاة فيهما "ولو رمى فأصاب المسموع حسه وقد ظنه آدميا فإذا هو صيد يحل"؛ لأنه لا معتبر بظنه مع تعينه "فإذا سمى الرجل عند الرمي أكل ما أصاب إذا جرح السهم فمات"؛ لأنه ذابح بالرمي لكون السهم آلة له فتشترط التسمية عنده، وجميع البدن محل لهذا النوع من الذكاة، ولا بد من الجرح ليتحقق معنى الذكاة على ما بيناه.
قال: "وإذا أدركه حيا ذكاه" وقد بيناها بوجوهها، والاختلاف فيها في الفصل الأول فلا نعيده.
قال: "وإذا وقع السهم بالصيد فتحامل حتى غاب عنه ولم يزل في طلبه حتى أصابه ميتا أكل، وإن قعد عن طلبه" ثم أصابه ميتا لم يؤكل، لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه كره أكل الصيد إذا غاب عن الرامي وقال:
"لعل هوام الأرض قتلته" ولأن احتمال الموت بسبب آخر قائم فما ينبغي أن يحل أكله؛ لأن الموهوم في هذا كالمتحقق لما روينا، إلا أنا أسقطنا اعتباره ما دام في طلبه ضرورة أن لا يعرى الاصطياد عنه، ولا ضرورة فيما إذا قعد عن طلبه لإمكان التحرز عن توار يكون بسبب عمله، والذي رويناه حجة على مالك في قوله إن ما توارى عنه إذا لم يبت يحل فإذا بات ليلة لم يحل "ولو وجد به جراحة سوى جراحة سهمه لا يحل"؛ لأنه موهوم يمكن الاحتراز عنه فاعتبر محرما، بخلاف وهم الهوام والجواب في إرسال الكلب في هذا كالجواب في الرمي في جميع ما ذكرناه.
قال: "وإذا رمى صيدا فوقع في الماء أو وقع على سطح أو جبل ثم تردى منه إلى الأرض لم يؤكل"؛ لأنه المتردية وهي حرام بالنص، ولأنه احتمل الموت بغير الرمي؛ إذ الماء مهلك وكذا السقوط من عال، يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام لعدي رضي الله عنه:
"وإن وقعت رميتك في الماء فلا تأكل، فإنك لا تدري أن الماء قتله أو سهمك" "وإن وقع على

 

ج / 4 ص -408-       الأرض ابتداء أكل"؛ لأنه لا يمكن الاحتراز عنه، وفي اعتباره سد باب الاصطياد بخلاف ما تقدم؛ لأنه يمكن التحرز عنه، فصار الأصل أن سبب الحرمة والحل إذا اجتمعا وأمكن التحرز عما هو سبب الحرمة ترجح جهة الحرمة احتياطا، وإن كان مما لا يمكن التحرز عنه جرى وجوده مجرى عدمه؛ لأن التكليف بحسب الوسع، فمما يمكن التحرز عنه إذا وقع على شجر أو حائط أو آجرة ثم وقع على الأرض أو رماه، وهو على جبل فتردى من موضع إلى موضع حتى تردى إلى الأرض، أو رماه فوقع على رمح منصوب أو على قصبة قائمة أو على حرف آجرة لاحتمال أن حد هذه الأشياء قتله، ومما لا يمكن الاحتراز عنه إذا وقع على الأرض كما ذكرناه، أو على ما هو معناه كجبل أو ظهر بيت أو لبنة موضوعة أو صخرة فاستقر عليها؛ لأن وقوعه عليه وعلى الأرض سواء وذكر في المنتفى: لو وقع على صخرة فانشق بطنه لم يؤكل لاحتمال الموت بسبب آخر وصححه الحاكم الشهيد وحمل مطلق المروي في الأصل على غير حالة الانشقاق، وحمله شمس الأئمة السرخسي رحمه الله على ما أصابه حد الصخرة فانشق بطنه بذلك، وحمل المروي في الأصل على أنه لم يصبه من الآجرة إلا ما يصيبه من الأرض لو وقع عليها وذلك عفو وهذا أصح وإن كان الطير مائيا، فإن كانت الجراحة لا تنغمس في الماء أكل، وإن انغمست لا يؤكل كما إذا وقع في الماء.
قال: "وما أصابه المعراض بعرضه لم يؤكل، وإن جرحه يؤكل" لقوله عليه الصلاة والسلام فيه:
"ما أصاب بحده فكل، وما أصاب بعرضه فلا تأكل" ولأنه لا بد من الجرح ليتحقق معنى الذكاة على ما قدمناه.
قال: "ولا يؤكل ما أصابته البندقة فمات بها"؛ لأنها تدق وتكسر ولا تجرح فصار كالمعراض إذا لم يخزق، وكذلك إن رماه بحجر، وكذا إن جرحه قالوا: تأويله إذا كان ثقيلا وبه حدة لاحتمال أنه قتله بثقله، وإن كان الحجر خفيفا وبه حدة يحل لتعين الموت بالجرح، ولو كان الحجر خفيفا، وجعله طويلا كالسهم وبه حدة فإنه يحل؛ لأنه يقتله بجرحه، ولو رماه بمروة حديدة ولم تبضع بضعا لا يحل؛ لأنه قتله دقا، وكذا إذا رماه بها فأبان رأسه أو قطع أوداجه؛ لأن العروق تنقطع بثقل الحجر كما تنقطع بالقطع فوق الشك أو لعله مات قبل قطع الأوداج، ولو رماه بعصا أو بعود حتى قتله لا يحل؛ لأنه يقتله ثقلا لا جرحا، اللهم إلا إذا كان له حدة يبضع بضعا فحينئذ لا بأس به؛ لأنه بمنزلة السيف والرمح.
والأصل في هذه المسائل أن الموت إذا كان مضافا إلى الجرح بيقين كان الصيد حلالا، وإذا كان مضافا إلى الثقل بيقين كان حراما، وإن وقع الشك ولا يدري مات بالجرح

 

ج / 4 ص -409-       أو بالثقل كان حراما احتياطا، وإن رماه بسيف أو بسكين فأصابه بحده فجرحه حل، وإن أصابه بقفا السكين أو بمقبض السيف لا يحل؛ لأنه قتله دقا، والحديد وغيره فيه سواء ولو رماه فجرحه ومات بالجرح، إن كان الجرح مدميا يحل بالاتفاق، وإن لم يكن مدميا فكذلك عند بعض المتأخرين سواء كانت الجراحة صغيرة أو كبيرة؛ لأن الدم قد يحتبس بضيق المنفذ أو غلظ الدم وعند بعضهم يشترط الإدماء لقوله عليه الصلاة والسلام: "ما أنهر الدم وأفرى الأوداج فكل" شرط الإنهار، وعند بعضهم إن كانت كبيرة حل بدون الإدماء، ولو ذبح شاة ولم يسل منه الدم قيل لا تحل وقيل تحل ووجه القولين دخل فيما ذكرناه وإذا أصاب السهم ظلف الصيد أو قرنه، فإن أدماه حل وإلا فلا، وهذا يؤيد بعض ما ذكرناه.
قال: "وإذا رمى صيدا فقطع عضوا منه أكل الصيد" لما بيناه "ولا يؤكل العضو" وقال الشافعي رحمه الله: أكلا إن مات الصيد منه؛ لأنه مبان بذكاة الاضطرار فيحل المبان والمبان منه كما إذا أبين الرأس بذكاة الاختيار بخلاف ما إذا لم يمت؛ لأنه ما أبين بالذكاة ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"ما أبين من الحي فهو ميت" ذكر الحي مطلقا فينصرف إلى الحي حقيقة وحكما، والعضو المبان بهذه الصفة؛ لأن المبان منه حي حقيقة لقيام الحياة فيه، وكذا حكما؛ لأنه تتوهم سلامته بعد هذه الجراحة ولهذا اعتبره الشرع حيا، حتى لو وقع في الماء وفيه حياة بهذه الصفة يحرم وقوله أبين بالذكاة.
قلنا: حال وقوعه لم يقع ذكاة لبقاء الروح في الباقي، وعند زواله لا يظهر في المبان لعدم الحياة فيه، ولا تبعية لزوالها بالانفصال فصار هذا الحرف هو الأصل؛ لأن المبان من الحي حقيقة وحكما لا يحل، والمبان من الحي صورة لا حكما يحل وذلك بأن يبقى في المبان منه حياة بقدر ما يكون في المذبوح فإنه حياة صورة لا حكما، ولهذا لو وقع في الماء وبه هذا القدر من الحياة أو تردى من جبل أو سطح لا يحرم فتخرج عليه المسائل، فنقول: إذا قطع يدا أو رجلا أو فخذا أو ثلثه مما يلي القوائم أو أقل من نصف الرأس يحرم المبان ويحل المبان منه؛ لأنه يتوهم بقاء الحياة في الباقي "ولو قده بنصفين أو قطعه أثلاثا والأكثر مما يلي العجز أو قطع نصف رأسه أو أكثر منه يحل المبان والمبان منه"؛ لأن المبان منه حي صورة لا حكما؛ إذ لا يتوهم بقاء الحياة بعد هذا الجرح، والحديث وإن تناول السمك وما أبين منه فهو ميت، إلا أن ميتته حلال بالحديث الذي رويناه "ولو ضرب عنق شاة فأبان رأسها يحل لقطع الأوداج" ويكره هذا الصنيع لإبلاغه النخاع، وإن ضربه من قبل القفا، إن مات قبل قطع الأوداج لا يحل، وإن لم يمت حتى قطع الأوداج حل "ولو ضرب صيدا

 

ج / 4 ص -410-       فقطع يدا أو رجلا ولم يبنه؛ إن كان يتوهم الالتئام والاندمال فإذا مات حل أكله"؛ لأنه بمنزلة سائر أجزائه، وإن كان لا يتوهم بأن بقي متعلقا بجلده حل ما سواه لوجود الإبانة معنى والعبرة للمعاني.
قال: "ولا يؤكل صيد المجوسي والمرتد والوثني"؛ لأنهم ليسوا من أهل الذكاة على ما بيناه في الذبائح، ولا بد منها في إباحة الصيد بخلاف النصراني واليهودي؛ لأنهما من أهل الذكاة اختيارا فكذا اضطرارا.
قال: "ومن رمى صيدا فأصابه ولم يثخنه ولم يخرجه عن حيز الامتناع فرماه آخر فقتله فهو للثاني ويؤكل"؛ لأنه هو الآخذ، وقد قال عليه الصلاة والسلام:
"الصيد لمن أخذ" "وإن كان الأول أثخنه فرماه الثاني فقتله فهو للأول ولم يؤكل" لاحتمال الموت بالثاني، وهو ليس بذكاة للقدرة على ذكاة الاختيار، بخلاف الوجه الأول، وهذا إذا كان الرمي الأول بحال ينجو منه الصيد؛ لأنه حينئذ يكون الموت مضافا إلى الرمي الثاني وأما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد بأن لا يبقى فيه من الحياة إلا بقدر ما يبقى في المذبوح، كما إذا أبان رأسه يحل؛ لأن الموت لا يضاف إلى الرمي الثاني؛ لأن وجوده وعدمه بمنزلة، وإن كان الرمي الأول بحال لا يعيش منه الصيد إلا أنه بقي فيه من الحياة أكثر مما يكون بعد الذبح بأن كان يعيش يوما أو دونه؛ فعلى قول أبي يوسف لا يحرم بالرمي الثاني؛ لأن هذا القدر من الحياة لا عبرة بها عنده وعند محمد يحرم؛ لأن هذا القدر من الحياة معتبر عنده على ما عرف من مذهبه فصار الجواب فيه والجواب فيما إذا كان الأول بحال لا يسلم منه الصيد سواء فلا يحل.
قال: "والثاني ضامن لقيمته للأول غير ما نقصته جراحته"؛ لأنه بالرمي أتلف صيدا مملوكا له؛ لأنه ملكه بالرمي المثخن وهو منقوص بجراحته، وقيمة المتلف تعتبر يوم الإتلاف.
قال رضي الله عنه: تأويله إذا علم أن القتل حصل بالثاني بأن كان الأول بحال يجوز أن يسلم الصيد منه والثاني بحال لا يسلم الصيد منه ليكون القتل كله مضافا إلى الثاني وقد قتل حيوانا مملوكا للأول منقوصا بالجراحة فلا يضمنه كملا، كما إذا قتل عبدا مريضا إن علم أن الموت يحصل من الجراحتين أو لا يدري قال في الزيادات: يضمن الثاني ما نقصته جراحته ثم يضمنه نصف قيمته مجروحا بجراحتين ثم يضمن نصف قيمة لحمه أما الأول فلأنه جرح حيوانا مملوكا للغير وقد نقصه فيضمن ما نقصه أولا وأما الثاني:

 

ج / 4 ص -411-       فلأن الموت حصل بالجراحتين فيكون هو متلفا نصفه وهو مملوك لغيره فيضمن نصف قيمته مجروحا بالجراحتين؛ لأن الأولى ما كانت بصنعه، والثانية ضمنها مرة فلا يضمنها ثانيا وأما الثالث فلأن بالرمي الأول صار بحال يحل بذكاة الاختيار لولا رمي الثاني، فهذا بالرمي الثاني أفسد عليه نصف اللحم فيضمنه، ولا يضمن النصف الآخر؛ لأنه ضمنه مرة فدخل ضمان اللحم فيه، وإن كان رماه الأول ثانيا فالجواب في حكم الإباحة كالجواب فيما إذا كان الرامي غيره، ويصير كما إذا رمى صيدا على قمة جبل فأثخنه ثم رماه ثانيا فأنزله لا يحل؛ لأن الثاني محرم، كذا هذا.
قال: "ويجوز اصطياد ما يؤكل لحمه من الحيوان وما لا يؤكل" لإطلاق ما تلونا والصيد لا يختص بمأكول اللحم قال قائلهم:

صيد الملوك أرانب وثعالب                       وإذا ركبت فصيدي الأبطال

 

 

ولأن صيده سبب للانتفاع بجلده أو شعره أو ريشة أو لاستدفاع شره وكل ذلك مشروع والله أعلم بالصواب.