الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 4 ص -412-
كتاب الرهن
الرهن لغة:
حبس الشيء بأي سبب كان وفي الشريعة: جعل الشيء
محبوسا بحق يمكن استيفاؤه من الرهن كالديون،
وهو مشروع بقوله تعالى:
{فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ}
[البقرة:283] وبما روي:
"أنه عليه
الصلاة والسلام اشترى من يهودي طعاما ورهنه به
درعه" وقد انعقد على ذلك الإجماع، ولأنه عقد وثيقة لجانب الاستيفاء
فيعتبر بالوثيقة في طرف الوجوب وهي الكفالة.
قال:
"الرهن ينعقد بالإيجاب والقبول ويتم بالقبض"
قالوا: الركن الإيجاب بمجرده؛ لأنه عقد تبرع
فيتم بالمتبرع كالهبة والصدقة والقبض شرط
اللزوم على ما نبينه إن شاء الله تعالى وقال
مالك: يلزم بنفس العقد؛ لأنه يختص بالمال من
الجانبين فصار كالبيع، ولأنه عقد وثيقة فأشبه
الكفالة ولنا ما تلونا، والمصدر المقرون بحرف
الفاء في محل الجزاء يراد به الأمر، ولأنه عقد
تبرع لما أن الراهن لا يستوجب بمقابلته على
المرتهن شيئا ولهذا لا يجبر عليه فلا بد من
إمضائه كما في الوصية وذلك بالقبض، ثم يكتفي
فيه بالتخلية في ظاهر الرواية؛ لأنه قبض بحكم
عقد مشروع فأشبه قبض المبيع وعن أبي يوسف رحمه
الله أنه لا يثبت في المنقول إلا بالنقل؛ لأنه
قبض موجب للضمان ابتداء بمنزلة الغصب، بخلاف
الشراء؛ لأنه ناقل للضمان من البائع إلى
المشتري وليس بموجب ابتداء والأول أصح.
قال:
"وإذا قبضه المرتهن محوزا مفرغا متميزا تم
العقد فيه" لوجود القبض
بكماله فلزم العقد
"وما لم يقبضه فالراهن بالخيار إن شاء سلمه
وإن شاء رجع عن الرهن" لما
ذكرنا أن اللزوم بالقبض إذ المقصود لا يحصل
قبله.
قال:
"وإذا سلمه إليه فقبضه دخل في ضمانه"
وقال الشافعي رحمه الله: هو أمانة في يده، ولا
يسقط شيء من الدين بهلاكه لقوله عليه الصلاة
والسلام: "لا يغلق الرهن، قالها ثلاثة، لصاحبه غنمه وعليه غرمه" قال: ومعناه لا يصير مضمونا بالدين، ولأن الرهن وثيقة بالدين
فبهلاكه لا يسقط الدين اعتبارا بهلاك الصك،
وهذا؛ لأن بعد الوثيقة يزداد معنى الصيانة،
والسقوط بالهلاك يضاد ما اقتضاه العقد إذا لحق
به يصير بعرض الهلاك وهو ضد الصيانة ولنا قوله
عليه الصلاة والسلام للمرتهن بعد ما نفق فرس
الرهن عنده
"ذهب حقك"
ج / 4 ص -413-
وقوله
عليه الصلاة والسلام:
"إذا غمى الرهن فهو بما فيه"
معناه: على ما قالوا إذا اشتبهت قيمة الرهن
بعد ما هلك وإجماع الصحابة والتابعين رضي الله
عنهم على أن الراهن مضمون مع اختلافهم في
كيفيته، والقول بالأمانة خرق له، والمراد
بقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا يغلق الرهن"
على ما قالوا الاحتباس الكلي والتمكن بأن يصير
مملوكا له كذا ذكر الكرخي عن السلف ولأن
الثابت للمرتهن يد الاستيفاء وهو ملك اليد
والحبس؛ لأن الرهن ينبئ عن الحبس الدائم، قال
الله تعالى:
{كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ}
[المدثر:38] وقال قائلهم:
وفارقتك برهن لا فكاك له
يوم الوداع فأمسى الرهن قد غلقا
والأحكام الشرعية تنعطف
على الألفاظ على وفق الأنباء، ولأن الرهن
وثيقة لجانب الاستيفاء وهو أن تكون موصلة إليه
وذلك ثابت له بملك اليد والحبس ليقع الأمن من
الجحود مخافة جحود المرتهن الرهن، وليكون
عاجزا عن الانتفاع به فيتسارع إلى قضاء الدين
لحاجته أو لضجره، وإذا كان كذلك يثبت
الاستيفاء من وجه وقد تقرر بالهلاك، فلو
استوفاه ثانيا يؤدي إلى الربا، بخلاف حالة
القيام؛ لأنه ينقض هذا الاستيفاء بالرد على
الراهن فلا يتكرر، ولا وجه إلى استيفاء الباقي
بدونه؛ لأنه لا يتصور، والاستيفاء يقع
بالمالية أما العين فأمانة حتى كانت نفقة
المرهون على الراهن في حياته وكفنه بعد مماته،
وكذا قبض الرهن لا ينوب عن قبض الشراء إذا
اشتراه المرتهن؛ لأن العين أمانة فلا تنوب عن
قبض ضمان، وموجب العقد ثبوت يد الاستيفاء وهذا
يحقق الصيانة، وإن كان فراغ الذمة من ضروراته
كما في الحوالة.
فالحاصل: أن عندنا حكم الرهن صيرورة الرهن
محتبسا بدينه بإثبات يد الاستيفاء عليه وعنده
تعلق الدين بالعين استيفاء منه عينا بالبيع،
فيخرج على هذين الأصلين عدة من المسائل
المختلف فيها بيننا وبينه عددناها في كفاية
المنتهى جملة: منها أن الراهن ممنوع عن
الاسترداد للانتفاع؛ لأنه يفوت موجبه وهو
الاحتباس على الدوام، وعنده لا يمنع منه؛ لأنه
لا ينافي موجبه وهو تعينه للبيع وسيأتيك
البواقي في أثناء المسائل إن شاء الله تعالى.
قال:
"ولا يصح الرهن إلا بدين مضمون"؛
لأن حكمه ثبوت يد الاستيفاء، والاستيفاء يتلو
الوجوب قال رضي الله عنه: ويدخل على هذا اللفظ
الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها، فإنه يصح
الرهن بها ولا دين ويمكن أن يقال: إن الواجب
الأصلي فيها هو القيمة ورد العين مخلص على ما
عليه أكثر المشايخ وهو دين ولهذا تصح الكفالة
بها، ولئن كان لا يجب إلا بعد الهلاك ولكنه
يجب عند الهلاك بالقبض السابق، ولهذا تعتبر
قيمته يوم
ج / 4 ص -414-
القبض
فيكون رهنا بعد وجود سبب وجوبه فيصح كما في
الكفالة، ولهذا لا تبطل الحوالة المقيدة به
بهلاكه، بخلاف الوديعة.
قال:
"وهو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين، فإذا
هلك في يد المرتهن، وقيمته والدين سواء صار
المرتهن مستوفيا لدينه، وإن كانت قيمة الرهن
أكثر فالفضل أمانة في يده"؛
لأن المضمون بقدر ما يقع به الاستيفاء وذاك
بقدر الدين
"وإن كانت أقل سقط من الدين بقدره ورجع
المرتهن بالفضل"؛ لأن
الاستيفاء بقدر المالية.
وقال زفر رحمه الله: الرهن مضمون بالقيمة، حتى
لو هلك الرهن، وقيمته يوم الرهن ألف وخمسمائة
والدين ألف رجع الراهن على المرتهن بخمسمائة
له حديث علي رضي الله عنه قال:
" يترادان
الفضل في الرهن " ولأن
الزيادة على الدين مرهونة لكونها محبوسة به
فتكون مضمونة اعتبارا بقدر الدين ومذهبنا مروي
عن عمر وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهم،
ولأن يد المرتهن يد الاستيفاء فلا توجب الضمان
إلا بالقدر المستوفي كما في حقيقة الاستيفاء،
والزيادة مرهونة به ضرورة امتناع حبس الأصل
بدونها ولا ضرورة في حق الضمان والمراد
بالتراد فيما يروى حالة البيع، فإنه روي عنه
أنه قال: المرتهن أمين في الفضل.
قال:
"وللمرتهن أن يطالب الراهن بدينه ويحبسه به"؛
لأن حقه باق بعد الرهن والرهن لزيادة الصيانة
فلا تمتنع به المطالبة، والحبس جزاء الظلم،
فإذا ظهر مطله عند القاضي يحبسه كما بيناه على
التفصيل فيما تقدم
"وإذا طلب المرتهن دينه يؤمر بإحضار الرهن"؛
لأن قبض الرهن قبض استيفاء فلا يجوز أن يقبض
ماله مع قيام يد الاستيفاء؛ لأنه يتكرر
الاستيفاء على اعتبار الهلاك في يد المرتهن
وهو محتمل
"وإذا أحضر أمر الراهن بتسليم الدين إليه
أولا" ليتعين حقه كما تعين حق
الراهن تحقيقا للتسوية كما في تسليم المبيع
والثمن يحضر المبيع ثم يسلم الثمن أولا
"وإن طالبه بالدين في غير البلد الذي وقع
العقد فيه، إن كان الرهن مما لا حمل له ولا
مؤنة، فكذلك الجواب"؛ لأن
الأماكن كلها في حق التسليم كمكان واحد فيما
ليس له حمل ومؤنة؛ ولهذا لا يشترط بيان مكان
الإيفاء فيه في باب السلم بالإجماع
"وإن كان له حمل ومؤنة يستوفي دينه ولا يكلف
إحضار الرهن"؛ لأن هذا نقل،
والواجب عليه التسليم بمعنى التخلية، لا النقل
من مكان إلى مكان؛ لأنه يتضرر به زيادة الضرر
ولم يلتزمه.
"ولو سلط الراهن العدل على بيع المرهون فباعه
بنقد أو نسيئة جاز" لإطلاق
الأمر
"فلو طالب المرتهن بالدين لا يكلف المرتهن
إحضار الرهن"؛ لأنه لا قدرة
له على الإحضار
"وكذا إذا أمر المرتهن ببيعه فباعه ولم يقبض
الثمن"؛ لأنه صار دينا بالبيع
بأمر الراهن، فصار كأن
ج / 4 ص -415-
الراهن
رهنه وهو دين
"ولو قبضه يكلف إحضاره لقيام البدل مقام
المبدل"؛ لأن الذي يتولى قبض
الثمن هو المرتهن؛ لأنه هو العاقد فترجع
الحقوق إليه، وكما يكلف إحضار الرهن لاستيفاء
كل الدين يكلف لاستيفاء نجم قد حل لاحتمال
الهلاك، ثم إذا قبض الثمن يؤمر بإحضاره
لاستيفاء الدين لقيامه مقام العين، وهذا بخلاف
ما إذا قتل رجل العبد الرهن خطأ حتى قضى به
بالقيمة على عاقلته في ثلاث سنين لم يجبر
الراهن على قضاء الدين حتى يحضر كل القيمة؛
لأن القيمة خلف عن الرهن فلا بد من إحضار كلها
كما لا بد من إحضار كل عين الرهن وما صارت
قيمة بفعله، وفيما تقدم صار دينا بفعل الراهن
فلهذا افترقا
"ولو وضع الرهن على يد العدل وأمر أن يودعه
غيره ففعل ثم جاء المرتهن يطلب دينه لا يكلف
إحضار الرهن"؛ لأنه لم يؤتمن
عليه حيث وضع على يد غيره فلم يكن تسليمه في
قدرته
"ولو وضعه العدل في يد من في عياله وغاب وطلب
المرتهن دينه والذي في يده يقول أودعني فلان
ولا أدري لمن هو يجبر الراهن على قضاء الدين"؛
لأن إحضار الرهن ليس على المرتهن؛ لأنه لم
يقبض شيئا.
"وكذلك إذا غاب العدل بالرهن ولا يدرى أين هو"
لما قلنا
"ولو أن الذي أودعه العدل جحد الرهن وقال هو
مالي لم يرجع المرتهن على الراهن بشيء حتى
يثبت كونه رهنا"؛ لأنه لما
جحد الرهن فقد توى المال والتوى على المرتهن
فيتحقق استيفاء الدين ولا يملك المطالبة به.
قال:
"وإن كان الرهن في يده ليس عليه أن يمكنه من
البيع حتى يقضيه الدين"؛ لأن
حكمه الحبس الدائم إلى أن يقضي الدين على ما
بيناه
"ولو قضاه البعض فله أن يحبس كل الرهن حتى
يستوفي البقية" اعتبارا بحبس
المبيع
"فإذا قضاه الدين قيل له سلم الرهن إليه"؛
لأنه زال المانع من التسليم لوصول الحق إلى
مستحقه
"فلو هلك قبل التسليم استرد الراهن ما قضاه"؛
لأنه صار مستوفيا عند الهلاك بالقبض السابق،
فكان الثاني استيفاء بعد استيفاء فيجب رده
"وكذلك لو تفاسخا الرهن له حبسه ما لم يقبض
الدين أو يبرئه، ولا يبطل الرهن إلا بالرد على
الراهن على وجه الفسخ"؛ لأنه
يبقى مضمونا ما بقي القبض والدين
"ولو هلك في يده سقط الدين إذا كان به وفاء
بالدين" لبقاء الرهن
"وليس للمرتهن أن ينتفع بالرهن لا باستخدام،
ولا بسكنى ولا لبس، إلا أن يأذن له المالك"؛
لأن له حق الحبس دون الانتفاع
"وليس له أن يبيع إلا بتسليط من الراهن، وليس
له أن يؤاجر ويعير"؛ لأنه ليس
له ولاية الانتفاع بنفسه فلا يملك تسليط غيره
عليه، فإن فعل كان متعديا، ولا يبطل عقد الرهن
بالتعدي.
قال:
"وللمرتهن أن يحفظ الرهن بنفسه وزوجته وولده
وخادمه الذي في عياله" قال
رضي الله عنه: معناه أن يكون الولد في عياله
أيضا، وهذا؛ لأن عينه أمانة في يده فصار
ج / 4 ص -416-
كالوديعة
"وإن حفظه بغير من في عياله أو أودعه ضمن"
هل يضمن الثاني فهو على الخلاف، وقد بينا جميع
ذلك بدلائله في الوديعة
"وإذا تعدى المرتهن في الرهن ضمنه ضمان الغصب
بجميع قيمته"؛ لأن الزيادة
على مقدار الدين أمانة، والأمانات تضمن
بالتعدي
"ولو رهنه خاتما فجعله في خنصره فهو ضامن"؛
لأنه متعد بالاستعمال؛ لأنه
غير مأذون فيه، وإنما الإذن بالحفظ واليمنى
واليسرى في ذلك سواء؛ لأن العادة فيه مختلفة
"ولو جعله في بقية الأصابع كان رهنا بما فيه"؛
لأنه لا يلبس كذلك عادة فكان من باب الحفظ،
وكذا الطيلسان إن لبسه لبسا معتادا ضمن، وإن
وضعه على عاتقه لم يضمن
"ولو رهنه سيفين أو ثلاثة فتقلدها لم يضمن في
الثلاثة وضمن في السيفين"؛
لأن العادة جرت بين الشجعان بتقلد السيفين في
الحرب ولم تجر بتقلد الثلاثة، وإن لبس خاتما
فوق خاتم، إن كان هو ممن يتجمل بلبس خاتمين
ضمن، وإن كان لا يتجمل بذلك فهو حافظ فلا
يضمن.
قال:
"وأجرة البيت الذي يحفظ فيه الرهن على المرتهن
وكذلك أجرة الحافظ وأجرة الراعي ونفقة الرهن
على الراهن" والأصل أن ما
يحتاج إليه لمصلحة الرهن وتبقيته فهو على
الراهن سواء كان في الرهن فضل أو لم يكن؛ لأن
العين باق على ملكه، وكذلك منافعه مملوكة له
فيكون إصلاحه وتبقيته عليه لما أنه مؤنة ملكه
كما في الوديعة، وذلك مثل النفقة في مأكله
ومشربه، وأجرة الراعي في معناه؛ لأنه علف
الحيوان، ومن هذا الجنس كسوة الرقيق وأجرة ظئر
ولد الرهن، وسقي البستان، وكري النهر وتلقيح
نخيله وجذاذه، والقيام بمصالحه، وكل ما كان
لحفظه أو لرده إلى يد المرتهن أو لرد جزء منه
فهو على المرتهن مثل أجرة الحافظ؛ لأن الإمساك
حق له والحفظ واجب عليه فيكون بدله عليه،
وكذلك أجرة البيت الذي يحفظ الرهن فيه، وهذا
في ظاهر الرواية وعن أبي يوسف أن كراء المأوى
على الراهن بمنزلة النفقة؛ لأنه سعى في
تبقيته، ومن هذا القسم جعل الآبق فإنه على
المرتهن؛ لأنه محتاج إلى إعادة الاستيفاء التي
كانت له ليرده فكانت مؤنة الرد فيلزمه، وهذا
إذا كانت قيمة الرهن والدين سواء، وإن كانت
قيمة الرهن أكثر فعليه بقدر المضمون وعلى
الراهن بقدر الزيادة عليه؛ لأنه أمانة في يده
والرد لإعادة اليد، ويده في الزيادة يد المالك
إذ هو كالمودع فيها فلهذا يكون على المالك،
وهذا بخلاف أجرة البيت الذي ذكرناه فإن كلها
تجب على المرتهن، وإن كان في قيمة الرهن فضل؛
لأن وجوب ذلك بسبب الحبس، وحق الحبس في الكل
ثابت له فأما الجعل إنما يلزمه لأجل الضمان
فيتقدر بقدر المضمون.
قال:
"ومداواة الجراحة والقروح ومعالجة الأمراض
والفداء من الجناية تنقسم
ج / 4 ص -417-
على المضمون والأمانة، والخراج على الراهن
خاصة" لأنه من مؤن الملك.
قال:
"والعشر فيما يخرج مقدم على حق المرتهن"
لتعلقه بالعين ولا يبطل الرهن في الباقي؛ لأن
وجوبه لا ينافي ملكه، بخلاف الاستحقاق.
قال:
"وما أداه أحدهما مما وجب على صاحبه فهو
متطوع، وما أنفق أحدهما مما يجب على الآخر
بأمر القاضي رجع عليه" كأن
صاحبه أمره به؛ لأن ولاية القاضي عامة وعن أبي
حنيفة أنه لا يرجع إذا كان صاحبه حاضرا وإن
كان بأمر القاضي وقال أبو يوسف إنه يرجع في
الوجهين، وهي فرع مسألة الحجر، والله أعلم.
باب ما يجوز ارتهانه والارتهان به وما لا يجوز
قال:
"ولا يجوز رهن المشاع" وقال
الشافعي: يجوز، ولنا فيه وجهان: أحدهما يبتني
على حكم الرهن، فإنه عندنا ثبوت يد الاستيفاء،
وهذا لا يتصور فيما يتناوله العقد وهو المشاع
وعنده المشاع يقبل ما هو الحكم عنده وهو تعينه
للبيع والثاني أن موجب الرهن هو الحبس الدائم؛
لأنه لم يشرع إلا مقبوضا بالنص، أو بالنظر إلى
المقصود منه وهو الاستيثاق من الوجه الذي
بيناه، وكل ذلك يتعلق بالدوام، ولا يفضي إليه
إلا استحقاق الحبس، ولو جوزناه في المشاع يفوت
الدوام؛ لأنه لا بد من المهايأة فيصير كما إذا
قال رهنتك يوما ويوما لا، ولهذا لا يجوز فيما
يحتمل القسمة وما لا يحتملها، بخلاف الهبة حيث
يجوز فيما لا يحتمل القسمة؛ لأن المانع في
الهبة غرامة القسمة وهو فيما يقسم، أما حكم
الهبة الملك والمشاع يقبله، وها هنا الحكم
ثبوت يد الاستيفاء والمشاع لا يقبله وإن كان
لا يحتمل القسمة، ولا يجوز من شريكه؛ لأنه لا
يقبل حكمه على الوجه الأول وعلى الوجه الثاني
يسكن يوما بحكم الملك ويوما بحكم الرهن فيصير
كأنه رهن يوما ويوما لا والشيوع الطارئ يمنع
بقاء الرهن في رواية الأصل، وعن أبي يوسف أنه
لا يمنع؛ لأن حكم البقاء أسهل من حكم الابتداء
فأشبه الهبة وجه الأول أن الامتناع لعدم
المحلية وما يرجع إليه، فالابتداء والبقاء
سواء كالمحرمية في باب النكاح، بخلاف الهبة؛
لأن المشاع يقبل حكمها وهو الملك، واعتبار
القبض في الابتداء لنفي الغرامة على ما بيناه،
ولا حاجة إلى اعتباره في حالة البقاء ولهذا
يصح الرجوع في بعض الهبة، ولا يجوز فسخ العقد
في بعض الرهن.
قال:
"ولا رهن ثمرة على رءوس النخيل، ولا زرع الأرض
دون الأرض
ج / 4 ص -418-
ولا رهن النخيل في الأرض دونها"؛
لأن المرهون متصل بما ليس بمرهون خلقة فكان في
معنى الشائع.
قال:
"وكذا إذا رهن الأرض دون النخيل أو دون الزرع
أو النخيل دون الثمر"؛ لأن
الاتصال يقوم بالطرفين، فصار الأصل أن المرهون
إذا كان متصلا بما ليس بمرهون لم يجز؛ لأنه لا
يمكن قبض المرهون وحده وعن أبي حنيفة أن رهن
الأرض بدون الشجر جائز؛ لأن الشجر اسم للنابت
فيكون استثناء الأشجار بمواضعها، بخلاف ما إذا
رهن الدار دون البناء؛ لأن البناء اسم للمبنى
فيصير راهنا جميع الأرض وهي مشغولة بملك
الراهن.
قال:
"ولو رهن النخيل بمواضعها جاز"؛
لأن هذه مجاورة وهي لا تمنع الصحة.
قال:
"ولو كان فيه ثمر يدخل في الرهن"؛
لأنه تابع لاتصاله به فيدخل تبعا تصحيحا
للعقد، بخلاف البيع؛ لأن بيع النخيل بدون
الثمر جائز، ولا ضرورة إلى إدخاله من غير ذكر،
وبخلاف المتاع في الدار حيث لا يدخل في رهن
الدار من غير ذكره؛ لأنه ليس بتابع بوجه ما،
وكذا يدخل الزرع والرطبة في رهن الأرض ولا
يدخل في البيع لما ذكرنا في الثمرة
"ويدخل البناء والغرس في رهن الأرض والدار
والقرية" لما ذكرنا
قال:
"ولو رهن الدار بما فيها جاز ولو استحق بعضه،
إن كان الباقي يجوز ابتداء الرهن عليه وحده
بقي رهنا بحصته وإلا بطل كله"؛
لأن الرهن جعل كأنه ما ورد إلا على الباقي،
ويمنع التسليم كون الراهن أو متاعه في الدار
المرهونة، وكذا متاعه في الوعاء المرهون،
ويمنع تسليم الدابة المرهونة الحمل عليها فلا
يتم حتى يلقي الحمل؛ لأنه شاغل لها، بخلاف ما
إذا رهن الحمل دونها حيث يكون رهنا تاما إذا
دفعها إليه؛ لأن الدابة مشغولة به فصار كما
إذا رهن متاعا في دار أو في وعاء دون الدار
والوعاء، بخلاف ما إذا رهن سرجا على دابة أو
لجاما في رأسها ودفع الدابة مع السرج واللجام
حيث لا يكون رهنا حتى ينزعه منها ثم يسلمه
إليه؛ لأنه من توابع الدابة بمنزلة الثمرة
للنخيل حتى قالوا يدخل فيه من غير ذكر.
قال:
"ولا يصح الرهن بالأمانات"
كالودائع والعواري والمضاربات.
قال:
"ومال الشركة"؛ لأن القبض في
باب الرهن قبض مضمون فلا بد من ضمان ثابت ليقع
القبض مضمونا ويتحقق استيفاء الدين منه.
قال:
"وكذلك لا يصح بالأعيان المضمونة بغيرها
كالمبيع في يد البائع"؛ لأن
الضمان ليس بواجب، فإنه إذا هلك العين لم يضمن
البائع شيئا لكنه يسقط الثمن وهو حق البائع
ج / 4 ص -419-
فلا
يصح الرهن فأما الأعيان المضمونة بعينها وهو
أن يكون مضمونا بالمثل أو بالقيمة عند هلاكه
مثل المغصوب وبدل الخلع والمهر وبدل الصلح عن
دم العمد يصح الرهن بها؛ لأن الضمان متقرر،
فإنه إن كان قائما وجب تسليمه، وإن كان هالكا
تجب قيمته فكان رهنا بما هو مضمون فيصح.
قال:
"والرهن بالدرك باطل والكفالة بالدرك جائزة"
والفرق أن الرهن للاستيفاء ولا استيفاء قبل
الوجوب، وإضافة التمليك إلى زمان في المستقبل
لا تجوز أما الكفالة فلالتزام المطالبة،
والتزام الأفعال يصح مضافا إلى المآل كما في
الصوم والصلاة، ولهذا تصح الكفالة بما ذاب له
على فلان ولا يصح الرهن، فلو قبضه قبل الوجوب
فهلك عنده يهلك أمانة؛ لأنه لا عقد حيث وقع
باطلا، بخلاف الرهن بالدين الموعود وهو أن
يقول رهنتك هذا لتقرضني ألف درهم وهلك في يد
المرتهن حيث يهلك بما سمى من المال بمقابلته؛
لأن الموعود جعل كالموجود باعتبار الحاجة،
ولأنه مقبوض بجهة الرهن الذي يصح على اعتبار
وجوده فيعطى له حكمه كالمقبوض على سوم الشراء
فيضمنه.
قال:
"ويصح الرهن برأس مال السلم وبثمن الصرف
والمسلم فيه" وقال زفر: لا
يجوز؛ لأن حكمه الاستيفاء، وهذا استبدال لعدم
المجانسة، وباب الاستبدال فيها مسدود ولنا أن
المجانسة ثابتة في المالية فيتحقق الاستيفاء
من حيث المال وهو المضمون على ما مر.
قال:
"والرهن بالمبيع باطل" لما
بينا أنه غير مضمون بنفسه.
قال:
"فإن هلك ذهب بغير شيء"؛ لأنه
لا اعتبار للباطل فبقي قبضا بإذنه.
قال:
"وإن هلك الرهن بثمن الصرف ورأس مال السلم في
مجلس العقد تم الصرف والسلم وصار المرتهن
مستوفيا لدينه حكما" لتحقق
القبض حكما.
قال:
"وإن افترقا قبل هلاك الرهن بطلا"
لفوات القبض حقيقة وحكما.
قال:
"وإن هلك الرهن بالمسلم فيه بطل السلم بهلاكه"
ومعناه: أنه يصير مستوفيا للمسلم فيه فلم يبق
السلم.
قال:
"ولو تفاسخا السلم وبالمسلم فيه رهن يكون ذلك
رهنا برأس المال حتى يحبسه"؛
لأنه بدله فصار كالمغصوب إذا هلك وبه رهن يكون
رهنا بقيمته.
قال:
"ولو هلك الرهن بعد التفاسخ يهلك بالطعام
المسلم فيه"؛ لأنه رهنه به،
وإن كان محبوسا بغيره كمن باع عبدا وسلم
المبيع وأخذ بالثمن رهنا ثم تقايلا البيع له
أن يحبسه
ج / 4 ص -420-
لأخذ
المبيع؛ لأن الثمن بدله، ولو هلك المرهون يهلك
بالثمن لما بينا؛ وكذا لو اشترى عبدا شراء
فاسدا وأدى ثمنه له أن يحبسه ليستوفي الثمن،
ثم لو هلك المشترى في يد المشتري يهلك بقيمته
فكذا هذا.
قال:
"ولا يجوز رهن الحر والمدبر والمكاتب وأم
الولد"؛ لأن حكم الرهن ثبوت
يد الاستيفاء، ولا يتحقق الاستيفاء من هؤلاء
لعدم المالية في الحر وقيام المانع في
الباقين، ولا يجوز الرهن بالكفالة بالنفس،
وكذا بالقصاص في النفس وما دونها لتعذر
الاستيفاء، بخلاف ما إذا كانت الجناية خطأ لأن
استيفاء الأرش من الرهن ممكن.
قال:
"ولا يجوز الرهن بالشفعة"؛
لأن المبيع غير مضمون على المشتري.
قال:
"ولا بالعبد الجاني والعبد المأذون والمديون"؛
لأنه غير مضمون على المولى، فإنه لو هلك لا
يجب عليه شيء.
قال:
"ولا بأجرة النائحة والمغنية، حتى لو ضاع لم
يكن مضمونا"؛ لأنه لا يقابله
شيء مضمون.
قال:
"ولا يجوز للمسلم أن يرهن خمرا أو يرتهنه من
مسلم أو ذمي" لتعذر الإيفاء
والاستيفاء في حق المسلم، ثم الراهن إذا كان
ذميا فالخمر مضمون عليه للذمي كما إذا غصبه،
وإن كان المرتهن ذميا لم يضمنها للمسلم كما لا
يضمنها بالغصب منه، بخلاف ما إذا جرى ذلك فيما
بينهم؛ لأنها مال في حقهم، أما الميتة فليست
بمال عندهم فلا يجوز رهنها وارتهانها فيما
بينهم، كما لا يجوز فيما بين المسلمين بحال.
"ولو اشترى عبدا ورهن بثمنه عبدا أو خلا أو
شاة مذبوحة ثم ظهر العبد حرا أو الخل خمرا أو
الشاة ميتة فالرهن مضمون"؛
لأنه رهنه بدين واجب ظاهرا
"وكذا إذا قتل عبدا ورهن بقيمته رهنا ثم ظهر
أنه حر" وهذا كله على ظاهر
الرواية
"وكذا إذا صالح على إنكار ورهن بما صالح عليه
رهنا ثم تصادقا أن لا دين فالرهن مضمون"
وعن أبي يوسف خلافه، وكذا قياسه فيما تقدم من
جنسه.
قال:
"ويجوز للأب أن يرهن بدين عليه عبدا لابنه
الصغير"؛ لأنه يملك الإيداع،
وهذا أنظر في حق الصبي منه؛ لأن قيام المرتهن
بحفظه أبلغ خيفة الغرامة
"ولو هلك يهلك مضمونا، الوديعة تهلك أمانة
والوصي بمنزلة الأب" في هذا
الباب لما بينا وعن أبي يوسف وزفر أنه لا يجوز
ذلك منهما، وهو القياس اعتبارا بحقيقة
الإيفاء، ووجه الفرق على الظاهر وهو الاستحسان
أن في حقيقة الإيفاء إزالة ملك الصغير من غير
عوض يقابله في
ج / 4 ص -421-
الحال،
وفي هذا نصب حافظ لماله ناجزا مع بقاء ملكه
فوضح الفرق
"وإذا جاز الرهن يصير المرتهن مستوفيا دينه لو
هلك في يده ويصير الأب" أو
الوصي
"موفيا له ويضمنه للصبي"؛
لأنه قضى دينه بماله، وكذا لو سلطا المرتهن
على بيعه؛ لأنه توكيل بالبيع وهما يملكانه
قالوا: أصل هذه المسألة البيع، فإن الأب أو
الوصي إذا باع مال الصبي من غريم نفسه جاز
وتقع المقاصة ويضمنه للصبي عندهما، وعند أبي
يوسف لا تقع المقاصة، وكذا وكيل البائع
بالبيع، والرهن نظير البيع نظرا إلى عاقبته من
حيث وجوب الضمان.
"وإذا رهن الأب متاع الصغير من نفسه أو من ابن
له صغير أو عبد له تاجر لا دين عليه جاز"؛
لأن الأب لوفور شفقته أنزل منزلة شخصين وأقيمت
عبارته مقام عبارتين في هذا العقد كما في بيعه
مال الصغير من نفسه فتولى طرفي العقد
"ولو ارتهنه الوصي من نفسه أو من هذين
أو رهنا عينا له من اليتيم بحق لليتيم عليه لم
يجز"؛ لأنه وكيل محض، والواحد
لا يتولى طرفي العقد في الرهن كما لا يتولاهما
في البيع، وهو قاصر الشفقة فلا يعدل عن
الحقيقة في حقه إلحاقا له بالأب، والرهن من
ابنه الصغير وعبده التاجر الذي ليس عليه دين
بمنزلة الرهن من نفسه، بخلاف ابنه الكبير
وأبيه وعبده الذي عليه دين؛ لأنه لا ولاية له
عليهم، بخلاف الوكيل بالبيع إذا باع من هؤلاء؛
لأنه متهم فيه ولا تهمة في الرهن؛ لأن له حكما
واحدا.
"وإن استدان الوصي لليتيم في كسوته
وطعامه فرهن به متاعا لليتيم جاز"؛
لأن الاستدانة جائزة للحاجة والرهن يقع إيفاء
للحق فيجوز
"وكذلك لو اتجر لليتيم فارتهن أو رهن"؛
لأن الأولى له التجارة تثميرا لمال اليتيم فلا
يجد بدا من الارتهان والرهن؛ لأنه إيفاء
واستيفاء
"وإذا رهن الأب متاع الصغير فأدرك الابن ومات
الأب ليس للابن أن يرده حتى يقضي الدين"
لوقوعه لازما من جانبه؛ إذ تصرف الأب بمنزلة
تصرفه بنفسه بعد البلوغ لقيامه مقامه
"ولو كان الأب رهنه لنفسه فقضاه الابن رجع به
في مال الأب"؛ لأنه مضطر فيه
لحاجته إلى إحياء ملكه فأشبه معير الرهن
"وكذا إذا هلك قبل أن يفتكه"؛
لأن الأب يصير قاضيا دينه بماله فله
أن يرجع عليه
"ولو رهنه بدين على نفسه وبدين على الصغير
جاز" لاشتماله على أمرين
جائزين
"فإن هلك ضمن الأب حصته من ذلك للولد"
لإيفائه دينه من ماله بهذا المقدار، وكذلك
الوصي، وكذلك الجد أب الأب إذا لم يكن الأب أو
وصي الأب.
"ولو رهن الوصي متاعا لليتيم في دين استدانه
عليه وقبض المرتهن ثم استعاره الوصي لحاجة
اليتيم فضاع في يد الوصي فإنه خرج من الرهن
وهلك من مال اليتيم"؛ لأن فعل
الوصي كفعله بنفسه بعد البلوغ؛ لأنه استعاره
لحاجة الصبي والحكم فيه هذا على ما نبينه إن
شاء الله تعالى
"والمال دين على الوصي" معناه
هو المطالب به
"ثم يرجع بذلك على
ج / 4 ص -422-
الصبي"؛ لأنه غير متعد في هذه الاستعارة؛ إذ هي لحاجة الصبي
"ولو استعاره لحاجة نفسه ضمنه للصبي"؛
لأنه متعد؛ إذ ليس له ولاية الاستعمال في حاجة
نفسه
"ولو غصبه الوصي بعد ما رهنه فاستعمله لحاجة
نفسه حتى هلك عنده فالوصي ضامن لقيمته"؛
لأنه متعد في حق المرتهن بالغصب والاستعمال،
وفي حق الصبي بالاستعمال في حاجة نفسه، فيقضى
به الدين إن كان قد حل
"فإن كان قيمته مثل الدين أداه إلى المرتهن
ولا يرجع على اليتيم"؛ لأنه
وجب لليتيم عليه مثل ما وجب له على اليتيم
فالتقيا قصاصا
"وإن كانت قيمته أقل" من
الدين
"أدى قدر القيمة إلى المرتهن وأدى الزيادة من
مال اليتيم"؛ لأن المضمون
عليه قدر القيمة لا غير
"وإن كانت قيمة الرهن أكثر من الدين أدى قدر
الدين من القيمة إلى المرتهن، والفضل لليتيم،
وإن كان لم يحل الدين فالقيمة رهن"؛
لأنه ضامن للمرتهن بتفويت حقه المحترم فتكون
رهنا عنده، ثم إذا حل الأجل كان الجواب على
التفصيل الذي فصلناه.
"ولو أنه غصبه واستعمله لحاجة الصغير حتى هلك
في يده يضمنه لحق المرتهن، ولا يضمنه لحق
الصغير"؛ لأن استعماله لحاجة
الصغير ليس بتعد، وكذا الأخذ؛ لأن له ولاية
أخذ مال اليتيم، ولهذا قال في كتاب الإقرار:
إذا أقر الأب أو الوصي بغصب مال الصغير لا
يلزمه شيء؛ لأنه لا يتصور غصبه لما أن له
ولاية الأخذ، فإذا هلك في يده يضمنه للمرتهن
يأخذه بدينه إن كان قد حل، ويرجع الوصي على
الصغير؛ لأنه ليس بمتعد بل هو عامل له، وإن
كان لم يحل يكون رهنا عند المرتهن، ثم إذا حل
الدين يأخذ دينه منه ويرجع الوصي على الصبي
بذلك لما ذكرنا.
قال:
"ويجوز رهن الدراهم والدنانير والمكيل
والموزون"؛ لأنه يتحقق
الاستيفاء منه فكان محلا للرهن
"فإن رهنت بجنسها فهلكت هلكت بمثلها من الدين
وإن اختلفا في الجودة"؛ لأنه
لا معتبر بالجودة عند المقابلة بجنسها، وهذا
عند أبي حنيفة؛ لأن عنده يصير مستوفيا باعتبار
الوزن دون القيمة، وعندهما يضمن القيمة من
خلاف جنسه ويكون رهنا مكانه.
"وفي الجامع الصغير: فإن رهن إبريق فضة وزنه
عشرة بعشرة فضاع فهو بما فيه"
قال رضي الله عنه: معناه أن تكون قيمته مثل
وزنه أو أكثر هذا الجواب في الوجهين بالاتفاق؛
لأن الاستيفاء عنده باعتبار الوزن وعندهما
باعتبار القيمة، وهي مثل الدين في الأول
وزيادة عليه في الثاني فيصير بقدر الدين
مستوفيا "فإن
كان قيمته أقل من الدين فهو على الخلاف"
المذكور لهما أنه لا وجه إلى الاستيفاء بالوزن
لما فيه من الضرر بالمرتهن، ولا إلى اعتبار
القيمة؛ لأنه يؤدي إلى الربا فصرنا إلى
التضمين، بخلاف الجنس لينتقض القبض
ج / 4 ص -423-
ويجعل
مكانه ثم يتملكه وله أن الجودة ساقطة العبرة
في الأموال الربوية عند المقابلة بجنسها،
واستيفاء الجيد بالرديء جائز كما إذا تجوز به
وقد حصل الاستيفاء بالإجماع ولهذا يحتاج إلى
نقضه، ولا يمكن نقضه بإيجاب الضمان؛ لأنه لا
يد له من مطالب ومطالب، وكذا الإنسان لا يضمن
ملك نفسه وبتعذر التضمين يتعذر النقض، وقيل:
هذه فريعة ما إذا استوفى الزيوف مكان الجياد
فهلكت ثم علم بالزيافة يمنع الاستيفاء وهو
معروف، غير أن البناء لا يصح ما هو المشهور؛
لأن محمدا فيها مع أبي حنيفة وفي هذا مع أبي
يوسف والفرق لمحمد أنه قبض الزيوف ليستوفي من
عينها، والزيافة لا تمنع الاستيفاء، وقد تم
بالهلاك وقبض الرهن ليستوفي من محل آخر فلا بد
من نقض القبض، وقد أمكن عنده بالتضمين، ولو
انكسر الإبريق ففي الوجه الأول وهو ما إذا
كانت قيمته مثل وزنه عند أبي حنيفة وأبي يوسف
لا يجبر على الفكاك؛ لأنه لا وجه إلى أن يذهب
شيء من الدين؛ لأنه يصير قاضيا دينه بالجودة
على الانفراد، ولا إلى أن يفتكه مع النقصان
لما فيه من الضرر فخيرناه، إن شاء افتكه بما
فيه وإن شاء ضمنه قيمته من جنسه أو خلاف جنسه،
وتكون رهنا عند المرتهن، والمكسور للمرتهن
بالضمان وعند محمد إن شاء افتكه ناقصا، وإن
شاء جعله بالدين اعتبارا لحالة الانكسار بحالة
الهلاك، وهذا؛ لأنه لما تعذر الفكاك مجانا صار
بمنزلة الهلاك، وفي الهلاك الحقيقي مضمون
بالدين بالإجماع فكذا فيما هو في معناه.
قلنا: الاستيفاء عند الهلاك بالمالية، وطريقه
أن يكون مضمونا بالقيمة ثم تقع المقاصة، وفي
جعله بالدين إغلاق الرهن وهو حكم جاهلي فكان
التضمين بالقيمة أولى وفي الوجه الثالث وهو ما
إذا كانت قيمته أقل من وزنه ثمانية يضمن قيمته
جيدا من خلاف جنسه أو رديئا من جنسه وتكون
رهنا عنده، وهذا بالاتفاق أما عندهما فظاهر
وكذلك عند محمد؛ لأنه يعتبر حالة الانكسار
بحالة الهلاك، والهلاك عنده بالقيمة وفي الوجه
الثاني وهو ما إذا كانت قيمته أكثر من وزنه
اثني عشر عند أبي حنيفة يضمن جميع قيمته وتكون
رهنا عنده؛ لأن العبرة للوزن عنده لا للجودة
والرداءة فإن كان باعتبار الوزن كله مضمونا
يجعل كله مضمونا، وإن كان بعضه فبعضه، وهذا
لأن الجودة تابعة للذات، ومتى صار الأصل
مضمونا استحال أن يكون التابع أمانة وعند أبي
يوسف يضمن خمسة أسداس قيمته، ويكون خمسة أسداس
الإبريق له بالضمان وسدسه يفرز حتى لا يبقى
الرهن شائعا، ويكون مع قيمته خمسة أسداس
المكسور رهنا؛ فعنده تعتبر الجودة والرداءة،
وتجعل زيادة القيمة كزيادة الوزن كأن وزنه
اثنا عشر، وهذا لأن الجودة متقومة
ج / 4 ص -424-
في
ذاتها حتى تعتبر عند المقابلة، بخلاف جنسها،
وفي تصرف المريض، وإن كانت لا تعتبر عند
المقابلة بجنسها سمعا فأمكن اعتبارها، وفي
بيان قول محمد نوع طول يعرف في موضعه من
المبسوط والزيادات مع جميع شعبها.
قال:
"ومن باع عبدا على أن يرهنه المشتري شيئا
بعينه جاز استحسانا" والقياس
أن لا يجوز، وعلى هذا القياس والاستحسان إذا
باع شيئا على أن يعطيه كفيلا معينا حاضرا في
المجلس فقبل وجه القياس أنه صفقة في صفقة وهو
منهي عنه، ولأنه شرط لا يقتضيه العقد وفيه
منفعة لأحدهما، ومثله يفسد البيع وجه
الاستحسان أنه شرط ملائم للعقد؛ لأن الكفالة
والرهن للاستيثاق وأنه يلائم الوجوب، فإذا كان
الكفيل حاضرا في المجلس والرهن معينا اعتبرنا
فيه المعنى وهو ملائم فصح العقد، وإذا لم يكن
الرهن ولا الكفيل معينا أو كان الكفيل غائبا
حتى افترقا لم يبق معنى الكفالة والرهن
للجهالة فبقي الاعتبار لعينه فيفسد، ولو كان
غائبا فحضر في المجلس وقبل صح
"ولو امتنع المشتري عن تسليم الرهن لم يجبر
عليه" وقال زفر: يجبر؛ لأن
الرهن إذا شرط في البيع صار حقا من حقوقه
كالوكالة المشروطة في الرهن فيلزمه بلزومه
ونحن نقول: الرهن عقد تبرع من جانب الراهن على
ما بيناه ولا جبر على التبرعات
"ولكن البائع بالخيار إن شاء رضي بترك الرهن
وإن شاء فسخ البيع"؛ لأنه وصف
مرغوب فيه وما رضي إلا به فيتخير بفواته
"إلا أن يدفع المشتري الثمن حالا"
لحصول المقصود
"أو يدفع قيمة الرهن رهنا"؛
لأن يد الاستيفاء تثبت على المعنى وهو القيمة.
قال:
"ومن اشترى ثوبا بدراهم فقال للبائع أمسك هذا
الثوب حتى أعطيك الثمن فالثوب رهن"؛
لأنه أتى بما ينبئ عن معنى الرهن وهو الحبس
إلى وقت الإعطاء، والعبرة في العقود للمعاني
حتى كانت الكفالة بشرط براءة الأصيل حوالة،
والحوالة في ضد ذلك كفالة وقال زفر: لا يكون
رهنا، ومثله عن أبي يوسف؛ لأن قوله: أمسك
يحتمل الرهن ويحتمل الإيداع، والثاني أقلهما
فيقضي بثبوته بخلاف ما إذا قال: أمسكه بدينك
أو بمالك؛ لأنه لما قابله بالدين فقد عين جهة
الرهن قلنا: لما مده إلى الإعطاء علم أن مراده
الرهن.
فصل: "ومن رهن عبدين بألف فقضى حصة أحدهما لم
يكن له أن يقبضه حتى يؤدي باقي الدين"
وحصة كل واحد منهما ما يخصه إذا قسم الدين على
قيمتهما، وهذا؛ لأن الرهن
ج / 4 ص -425-
محبوس
بكل الدين فيكون محبوسا بكل جزء من أجزائه
مبالغة في حمله على قضاء الدين وصار كالمبيع
في يد البائع، فإن سمى لكل واحد من أعيان
الرهن شيئا من المال الذي رهنه به، فكذا
الجواب في رواية الأصل: وفي الزيادات: له أن
يقبضه إذا أدى ما سمى له وجه الأول أن العقد
متحد لا يتفرق بتفرق التسمية كما في المبيع
وجه الثاني أنه لا حاجة إلى الاتحاد؛ لأن أحد
العقدين لا يصير مشروطا في الآخر؛ ألا يرى أنه
لو قبل الرهن في أحدهما جاز.
قال:
"فإن رهن عينا واحدة عند رجلين بدين لكل واحد
منهما عليه جاز، وجميعها رهن عند كل واحد
منهما"؛ لأن الرهن أضيف إلى
جميع العين في صفقة واحدة ولا شيوع فيه،
وموجبه صيرورته محتبسا بالدين، وهذا مما لا
يقبل الوصف بالتجزي فصار محبوسا بكل واحد
منها، وهذا بخلاف الهبة من رجلين حيث لا تجوز
عند أبي حنيفة
"فإن تهايآ فكل واحد منهما في نوبته كالعدل في
حق الآخر والمضمون على كل واحد منهما حصته من
الدين"؛ لأن عند الهلاك يصير
كل واحد منهما مستوفيا حصته؛ إذ الاستيفاء مما
يتجزأ.
قال:
"فإن أعطى أحدهما دينه كان كله رهنا في يد
الآخر"؛ لأن جميع العين رهن
في يد كل واحد منهما من غير تفرق وعلى هذا حبس
المبيع إذا أدى أحد المشتريين حصته من الثمن.
قال:
"وإن رهن رجلان بدين عليهما رجلا رهنا واحدا
فهو جائز والرهن رهن بكل الدين، وللمرتهن أن
يمسكه حتى يستوفي جميع الدين"؛
لأن قبض الرهن يحصل في الكل من غير شيوع
"فإن أقام الرجلان كل واحد منهما البينة على
رجل أنه رهنه عبده الذي في يده وقبضه فهو
باطل"؛ لأن كل واحد منهما
أثبت ببينته أنه رهنه كل العبد، ولا وجه إلى
القضاء لكل واحد منهما بالكل؛ لأن العبد
الواحد يستحيل أن يكون كله رهنا لهذا وكله
رهنا لذلك في حالة واحدة، ولا إلى القضاء بكله
لواحد بعينه لعدم الأولوية، ولا إلى القضاء
لكل واحد منهما بالنصف؛ لأنه يؤدي إلى الشيوع
فتعذر العمل بهما وتعين التهاتر ولا يقال: إنه
يكون رهنا لهما كأنهما ارتهناه معا إذا جهل
التاريخ بينهما، وجعل في كتاب الشهادات هذا
وجه الاستحسان لأنا نقول: هذا عمل على خلاف ما
اقتضته الحجة؛ لأن كلا منهما أثبت ببينته حبسا
يكون وسيلة إلى مثله في الاستيفاء، وبهذا
القضاء يثبت حبس يكون وسيلة إلى شطره في
الاستيفاء، وليس هذا عملا على وفق الحجة، وما
ذكرناه وإن كان قياسا لكن محمدا أخذ به لقوته،
وإذا وقع باطلا فلو هلك يهلك أمانة؛ لأن
الباطل لا حكم له.
ج / 4 ص -426-
قال:
"ولو مات الراهن والعبد في أيديهما فأقام كل
واحد منهما البينة على ما وصفناه كان في يد كل
واحد منهما نصفه رهنا يبيعه بحقه استحسانا"
وهو قول أبي حنيفة ومحمد، وفي القياس: هذا
باطل، وهو قول أبي يوسف؛ لأن الحبس للاستيفاء
حكم أصلي لعقد الرهن فيكون القضاء به قضاء
بعقد الرهن وأنه باطل للشيوع كما في حالة
الحياة وجه الاستحسان أن العقد لا يراد لذاته،
وإنما يراد لحكمه، وحكمه في حالة الحياة الحبس
والشيوع يضره، وبعد الممات الاستيفاء بالبيع
في الدين والشيوع لا يضره، وصار كإذا ادعى
الرجلان نكاح امرأة أو ادعت أختان النكاح على
رجل وأقاموا البينة تهاترت في حالة الحياة
ويقضى بالميراث بينهم بعد الممات؛ لأنه يقبل
الانقسام، والله أعلم.
باب الرهن يوضع على يد العدل
قال:
"وإذا اتفقا على وضع الرهن على يد العدل جاز
وقال مالك: لا يجوز" ذكر قوله
في بعض النسخ؛ لأن يد العدل يد المالك ولهذا
يرجع العدل عليه عند الاستحقاق فانعدم القبض
ولنا أن يده على الصورة يد المالك في الحفظ؛
إذ العين أمانة، وفي حق المالية يد المرتهن؛
لأن يده يد ضمان والمضمون هو المالية فنزل
منزلة الشخصين تحقيقا لما قصداه من الرهن،
وإنما يرجع العدل على المالك في الاستحقاق؛
لأنه نائب عنه في حفظ العين كالمودع.
قال:
"وليس للمرتهن ولا للراهن أن يأخذه منه"
لتعلق حق الراهن في الحفظ بيده وأمانته وتعلق
حق المرتهن به استيفاء فلا يملك أحدهما إبطال
حق الآخر
"فلو هلك في يده هلك في ضمان المرتهن"؛
لأن يده في حق المالية يد المرتهن وهي
المضمونة
"ولو دفع العدل إلى الراهن أو المرتهن ضمن"؛
لأنه مودع الراهن في حق العين ومودع المرتهن
في حق المالية وأحدهما أجنبي عن الآخر،
والمودع يضمن بالدفع إلى الأجنبي
"وإذا ضمن العدل قيمة الرهن بعد ما دفع إلى
أحدهما وقد استهلكه المدفوع عليه أو هلك في
يده لا يقدر أن يجعل القيمة رهنا في يده"؛
لأنه يصير قاضيا ومقتضيا وبينهما تناف، لكن
يتفقان على أن يأخذاها منه ويجعلاها رهنا عنده
أو عند غيره ولو تعذر اجتماعهما يرفع أحدهما
إلى القاضي ليفعل كذلك، ولو فعل ذلك ثم قضى
الراهن الدين وقد ضمن العدل القيمة بالدفع إلى
الراهن فالقيمة سالمة له لوصول المرهون إلى
الراهن ووصول الدين إلى المرتهن ولا يجتمع
البدل والمبدل في ملك واحد
"وإن كان ضمنها بالدفع إلى المرتهن فالراهن
يأخذ
ج / 4 ص -427-
القيمة منه"؛ لأن
العين لو كانت قائمة في يده يأخذها إذا أدى
الدين، فكذلك يأخذ ما قام مقامها، ولا جمع فيه
بين البدل والمبدل.
قال:
"وإذا وكل الراهن المرتهن أو العدل أو غيرهما
ببيع الرهن عند حلول الدين فالوكالة جائزة"؛
لأنه توكيل ببيع ماله
"وإن شرطت في عقد الرهن فليس للراهن أن يعزل
الوكيل، وإن عزله لم ينعزل"؛
لأنها لما شرطت في ضمن عقد الرهن صار وصفا من
أوصافه وحقا من حقوقه؛ ألا ترى أنه لزيادة
الوثيقة فيلزم بلزوم أصله، ولأنه تعلق به حق
المرتهن وفي العزل إتواء حقه وصار كالوكيل
بالخصومة بطلب المدعي
"ولو وكله بالبيع مطلقا حتى ملك البيع بالنقد
والنسيئة ثم نهاه عن البيع نسيئة لم يعمل
نهيه"؛ لأنه لازم بأصله، فكذا
بوصفه لما ذكرنا،
"وكذا إذا عزله المرتهن لا ينعزل؛ لأنه لم
يوكله وإنما وكله غيره وإن مات الراهن لم
ينعزل"؛ لأن الرهن لا يبطل
بموته ولأنه لو بطل إنما يبطل لحق الورثة وحق
المرتهن مقدم.
قال:
"وللوكيل أن يبيعه بغير محضر من الورثة كما
يبيعه في حال حياته بغير محضر منه، وإن مات
المرتهن فالوكيل على وكالته"؛
لأن العقد لا يبطل بموتهما ولا بموت أحدهما
فيبقى بحقوقه وأوصافه
"وإن مات الوكيل انتقضت الوكالة ولا يقوم
وارثه ولا وصيه مقامه"؛ لأن
الوكالة لا يجري فيها الإرث، ولأن الموكل رضي
برأيه لا برأي غيره وعن أبي يوسف إن وصي
الوكيل يملك بيعه؛ لأن الوكالة لازمة فيملكه
الوصي، كالمضارب إذا مات بعدما صار رأس المال
أعيانا يملك وصي المضارب بيعها لما أنه لازم
بعد ما صار أعيانا.
قلنا: التوكيل حق لازم لكن عليه، والإرث يجري
فيما له بخلاف المضاربة؛ لأنها حق المضارب
"وليس للمرتهن أن يبيعه إلا برضا الراهن"؛
لأنه ملكه وما رضي ببيعه
"وليس للراهن أن يبيعه إلا برضا المرتهن"؛
لأن المرتهن أحق بماليته من الراهن فلا يقدر
الراهن على تسليمه بالبيع.
قال:
"فإن حل الأجل وأبى الوكيل الذي في يده الرهن
أن يبيعه والراهن غائب أجبر على بيعه"
لما ذكرنا من الوجهين في لزومه
"وكذلك الرجل يوكل غيره بالخصومة وغاب الموكل
فأبى أن يخاصم أجبر على الخصومة"
للوجه الثاني وهو أن فيه إتواء الحق، بخلاف
الوكيل بالبيع؛ لأن الموكل يبيع بنفسه فلا
يتوي حقه.
أما المدعي لا يقدر على الدعوى والمرتهن لا
يملك بيعه بنفسه، فلو لم يكن التوكيل
ج / 4 ص -428-
مشروطا
في عقد الرهن وإنما شرط بعده قيل لا يجبر
اعتبارا بالوجه الأول، وقيل يجبر رجوعا إلى
الوجه الثاني، وهذا أصح وعن أبي يوسف رحمه
الله أن الجواب في الفصلين واحد، ويؤيده إطلاق
الجواب في الجامع الصغير وفي الأصل.
"وإذا باع العدل الرهن فقد خرج من الرهن،
والثمن قائم مقامه فكان رهنا، وإن لم يقبض
بعد" لقيامه مقام ما كان
مقبوضا، وإذا توى كان مال المرتهن لبقاء عقد
الرهن في الثمن لقيامه مقام المبيع المرهون،
وكذلك إذا قتل العبد الرهن وغرم القاتل قيمته؛
لأن المالك لا يستحقه من حيث المالية، وإن كان
بدل الدم فأخذ حكم ضمان المال في حق المستحق
فبقي عقد الرهن، وكذلك لو قتله عبد فدفع به؛
لأنه قائم مقام الأول لحما ودما.
قال:
"وإن باع العدل الرهن فأوفى المرتهن الثمن ثم
استحق الرهن فضمنه العدل كان بالخيار، إن شاء
ضمن الراهن قيمته، وإن شاء ضمن المرتهن الثمن
الذي أعطاه، وليس له أن يضمنه غيره"
وكشف هذا أن المرهون المبيع إذا استحق إما أن
يكون هالكا أو قائما ففي الوجه الأول المستحق
بالخيار إن شاء ضمن الراهن قيمته؛ لأنه غاصب
في حقه، وإن شاء ضمن العدل؛ لأنه متعد في حقه
بالبيع والتسليم فإن ضمن الراهن نفذ البيع وصح
الاقتضاء؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه
أمره ببيع ملك نفسه، وإن ضمن البائع ينفذ
البيع أيضا؛ لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه
باع ملك نفسه وإذا ضمن العدل فالعدل بالخيار،
إن شاء رجع على الراهن بالقيمة؛ لأنه وكيل من
جهته عامل له فيرجع عليه بما لحقه من العهدة
ونفذ البيع وصح الاقتضاء فلا يرجع المرتهن
عليه بشيء من دينه، وإن شاء رجع على المرتهن
بالثمن؛ لأنه تبين أنه أخذ الثمن بغير حق؛
لأنه ملك العبد بأداء الضمان ونفذ بيعه عليه
فصار الثمن له، وإنما أداه إليه على حسبان أنه
ملك الراهن، فإذا تبين أنه ملكه لم يكن راضيا
به فله أن يرجع به عليه، وإذا رجع بطل
الاقتضاء فيرجع المرتهن على الراهن بدينه وفي
الوجه الثاني وهو أن يكون قائما في يد المشتري
فللمستحق أن يأخذه من يده؛ لأنه وجد عين ماله
ثم للمشتري أن يرجع على العدل بالثمن؛ لأنه
العاقد فتتعلق به حقوق العقد، وهذا من حقوقه
حيث وجب بالبيع، وإنما أداه ليسلم له المبيع
ولم يسلم ثم العدل بالخيار إن شاء رجع على
الراهن بالقيمة؛ لأنه هو الذي أدخله في هذه
العهدة فيجب عليه تخليصه وإذا رجع عليه صح قبض
المرتهن؛ لأن المقبوض سلم له، وإن شاء رجع على
المرتهن؛ لأنه إذا انتقض العقد بطل الثمن وقد
قبضه ثمنا فيجب نقض قبضه ضرورة، وإذا رجع عليه
وانتقض قبضه عاد حقه في الدين كما كان فيرجع
به على الراهن ولو أن المشتري سلم الثمن إلى
المرتهن لم يرجع على العدل؛ لأنه في البيع
عامل للراهن، وإنما
ج / 4 ص -429-
يرجع
عليه إذا قبض ولم يقبض فبقي الضمان على
الموكل، ولو كان التوكيل بعد عقد الرهن غير
مشروط في العقد فما لحق العدل من العهدة يرجع
به على الراهن قبض الثمن المرتهن أم لا؛ لأنه
لم يتعلق بهذا التوكيل حق المرتهن فلا رجوع،
كما في الوكالة المفردة عن الرهن إذا باع
الوكيل ودفع الثمن إلى من أمره الموكل ثم لحقه
عهدة لا يرجع به على المقتضى، بخلاف الوكالة
المشروطة في العقد؛ لأنه تعلق به حق المرتهن
فيكون البيع لحقه.
قال رضي الله عنه: هكذا ذكر الكرخي، وهذا يؤيد
قول من لا يرى جبر هذا الوكيل على البيع
قال:
"وإن مات العبد المرهون في يد المرتهن ثم
استحقه رجل فله الخيار، إن شاء ضمن الراهن،
وإن شاء ضمن المرتهن"؛ لأن كل
واحد منهما متعد في حقه بالتسليم أو بالقبض
"فإن ضمن الراهن فقد مات بالدين"؛
لأنه ملكه بأداء الضمان فصح الإيفاء
"وإن ضمن المرتهن يرجع على الراهن بما ضمن من
القيمة وبدينه" أما بالقيمة
فلأنه مغرور من جهة الراهن، وأما بالدين فلأنه
انتقض اقتضاؤه فيعود حقه كما كان فإن قيل: لما
كان قرار الضمان على الراهن برجوع المرتهن
عليه، والملك في المضمون يثبت لمن عليه قرار
الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه فصار كما إذا
ضمن المستحق الراهن ابتداء.
قلنا: هذا طعن أبي خازم القاضي والجواب عنه
أنه يرجع عليه بسبب الغرور والغرور بالتسليم
كما ذكرناه، أو بالانتقال من المرتهن إليه
كأنه وكيل عنه، والملك بكل ذلك متأخر عن عقد
الرهن، بخلاف الوجه الأول؛ لأن المستحق يضمنه
باعتبار القبض السابق على الرهن فيستند الملك
إليه فتبين أنه رهن ملك نفسه وقد طولنا الكلام
في كفاية المنتهى والله أعلم بالصواب.
باب التصرف في الرهن والجناية عليه وجنايته على
غيره
قال:
"وإذا باع الراهن الرهن بغير إذن المرتهن
فالبيع موقوف" لتعلق حق الغير
به وهو المرتهن فيتوقف على إجازته، وإن كان
الراهن يتصرف في ملكه كمن أوصى بجميع ماله تقف
على إجازة الورثة فيما زاد على الثلث لتعلق
حقهم به
"فإن أجاز المرتهن جاز"؛ لأن
التوقف لحقه وقد رضي بسقوطه
"وإن قضاه الراهن دينه جاز أيضا"؛
لأنه زال المانع من النفوذ والمقتضي موجود وهو
التصرف الصادر من الأهل في المحل
"وإذا نفذ البيع بإجازة المرتهن ينتقل حقه إلى
بدله هو الصحيح"؛ لأن حقه
تعلق بالمالية، والبدل له حكم المبدل فصار
كالعبد المديون المأذون إذا بيع برضا الغرماء
ينتقل حقهم إلى البدل؛ لأنهم رضوا
ج / 4 ص -430-
بالانتقال دون السقوط رأسا فكذا هذا
"وإن لم يجز المرتهن البيع وفسخه انفسخ في
رواية، حتى لو افتك الراهن الرهن لا سبيل
للمشتري عليه"؛ لأن الحق
الثابت للمرتهن بمنزلة الملك فصار كالمالك له
أن يجيز وله أن يفسخ
"وفي أصح الروايتين لا ينفسخ بفسخه"؛
لأنه لو ثبت حق الفسخ له إنما يثبت ضرورة
صيانة حقه، وحقه في الحبس لا يبطل بانعقاد هذا
العقد فبقي موقوفا، فإن شاء المشتري صبر حتى
يفتك الراهن الرهن؛ إذ العجز على شرف الزوال،
وإن شاء رفع الأمر إلى القاضي، وللقاضي أن
يفسخ لفوات القدرة على التسليم، وولاية الفسخ
إلى القاضي لا إليه، وصار كما إذا أبق العبد
المشترى قبل القبض فإنه يتخير المشتري لما
ذكرنا كذلك هذا.
"ولو باعه الراهن من رجل ثم باعه بيعا ثانيا
من غيره قبل أن يجيزه المرتهن فالثاني موقوف
أيضا على إجازته"؛ لأن الأول
لم ينفذ والموقوف لا يمنع توقف الثاني، فلو
أجاز المرتهن البيع الثاني جاز الثاني
"ولو باع الراهن ثم أجر أو وهب أو رهن من
غيره، وأجاز المرتهن هذه العقود جاز البيع
الأول" والفرق أن المرتهن ذو
حظ من البيع الثاني؛ لأنه يتعلق حقه ببدله
فيصح تعيينه لتعلق فائدته به، أما لا حق له في
هذه العقود؛ لأنه لا بدل في الهبة والرهن،
والذي في الإجارة بدل المنفعة لا بدل العين،
وحقه في مالية العين لا في المنفعة فكانت
إجازته إسقاطا لحقه فزال المانع فنفذ البيع
الأول فوضح الفرق.
قال:
"ولو أعتق الراهن عبد الرهن نفذ عتقه"
وفي بعض أقوال الشافعي لا ينفذ إذا كان المعتق
معسرا؛ لأن في تنفيذه إبطال حق المرتهن فأشبه
البيع، بخلاف ما إذا كان موسرا حيث ينفذ على
بعض أقواله؛ لأنه لا يبطل حقه معنى بالتضمين،
وبخلاف إعتاق المستأجر؛ لأن الإجارة تبقى
مدتها؛ إذ الحر يقبلها، أما ما لا يقبل الرهن
فلا يبقى ولنا أنه مخاطب أعتق ملك نفسه فلا
يلغو بصرفه بعدم إذن المرتهن كما إذا أعتق
العبد المشترى قبل القبض أو أعتق الآبق أو
المغصوب، ولا خفاء في قيام ملك الرقبة لقيام
المقتضي، وعارض الرهن لا ينبئ عن زواله ثم إذا
زال ملكه في الرقبة بإعتاقه يزول ملك المرتهن
في اليد بناء عليه كإعتاق العبد المشترك، بل
أولى؛ لأن ملك الرقبة أقوى من ملك اليد، فلما
لم يمنع الأعلى لا يمنع الأدنى بالطريق
الأولى، وامتناع النفاذ في البيع والهبة
لانعدام القدرة على التسليم، وإعتاق الوارث
العبد الموصى برقبته لا يلغو بل يؤخر إلى أداء
السعاية عند أبي حنيفة، وإذا نفذ الإعتاق بطل
الرهن لفوات محله
"ثم" بعد ذلك
"إن كان الراهن موسرا، والدين حالا طولب بأداء
الدين"؛ لأنه لو طولب بأداء
القيمة تقع المقاصة بقدر الدين فلا فائدة فيه
"وإن كان الدين مؤجلا أخذت منه قيمة العبد
وجعلت رهنا مكانه حتى يحل
ج / 4 ص -431-
الدين" لأن سبب الضمان متحقق، وفي التضمين فائدة فإذا حل الدين اقتضاه
بحقه إذا كان من جنس حقه ورد الفضل
"وإن كان معسرا سعى العبد في قيمته وقضى به
الدين إلا إذا كان بخلاف جنس حقه"؛
لأنه لما تعذر الوصول إلى عين حقه من جهة
المعتق يرجع إلى من ينتفع بعتقه وهو العبد؛
لأن الخراج بالضمان.
قال رضي الله عنه: وتأويله إذا كانت القيمة
أقل من الدين، أما إذا كان الدين أقل نذكره إن
شاء الله تعالى
"ثم يرجع بما سعى على مولاه إذا أيسر"؛
لأنه قضى دينه وهو مضطر فيه بحكم الشرع فيرجع
عليه بما تحمل عنه، بخلاف المستسعى في
الإعتاق؛ لأنه يؤدي ضمانا عليه؛ لأنه إنما
يسعى لتحصيل العتق عنده وعندهما لتكميله، وهنا
يسعى في ضمان على غيره بعد تمام إعتاقه فصار
كمعير الرهن ثم أبو حنيفة أوجب السعاية في
المستسعى المشترك في حالتي اليسار والإعسار،
وفي العبد المرهون شرط الإعسار؛ لأن الثابت
للمرتهن حق الملك وأنه أدنى من حقيقته الثابتة
للشريك الساكت فوجب السعاية هنا في حالة واحدة
إظهار النقصان رتبته بخلاف المشترى قبل القبض
إذا أعتقه المشتري حيث لا يسعى للبائع إلا
رواية عن أبي يوسف والمرهون يسعى؛ لأن حق
البائع في الحبس أضعف؛ لأن البائع لا يملكه في
الآخرة ولا يستوفى من عينه، وكذلك يبطل حقه في
الحبس بالإعارة من المشتري، والمرتهن ينقلب
حقه ملكا، ولا يبطل حقه بالإعارة من الراهن
حتى يمكنه الاسترداد، فلو أوجبنا السعاية
فيهما لسوينا بين الحقين وذلك لا يجوز.
"ولو أقر المولى برهن عبده بأن قال له رهنتك
عند فلان وكذبه العبد ثم أعتقه تجب السعاية"
عندنا خلافا لزفر، وهو يعتبر،
بإقراره بعد العتق ونحن نقول أقر بتعلق الحق
في حال يملك التعليق فيه لقيام ملكه فيصح،
بخلاف ما بعد العتق؛ لأنه حال انقطاع الولاية.
قال:
"ولو دبره الراهن صح تدبيره بالاتفاق"
أما عندنا فظاهر، وكذا عنده؛ لأن التدبير لا
يمنع البيع على أصله
"ولو كانت أمة فاستولدها الراهن صح الاستيلاد
بالاتفاق"؛ لأنه يصح بأدنى
الحقين وهو ما للأب في جارية الابن فيصح
بالأعلى
"وإذا صحا خرجا من الرهن"
لبطلان المحلية؛ إذ لا يصح استيفاء الدين
منهما "فإن كان الراهن موسرا ضمن قيمتهما"
على التفصيل الذي ذكرناه في الإعتاق
"وإن كان معسرا استسعى المرتهن المدبر وأم
الولد في جميع الدين"؛ لأن
كسبهما مال المولى، بخلاف المعتق حيث يسعى في
الأقل من الدين ومن القيمة؛ لأن كسبه حقه،
والمحتبس عنده ليس إلا قدر القيمة فلا يزاد
عليه، وحق المرتهن بقدر الدين فلا تلزمه
الزيادة ولا يرجعان بما يؤديان على المولى بعد
يساره؛ لأنهما أدياه من مال
ج / 4 ص -432-
المولى، والمعتق يرجع؛ لأنه أدى ملكه عنه وهو
مضطر على ما مر وقيل الدين إذا كان مؤجلا يسعى
المدبر في قيمته قنا؛ لأنه عوض الرهن حتى تحبس
مكانه فيتقدر بقدر العوض، بخلاف ما إذا كان
حالا؛ لأنه يقضي به الدين، ولو أعتق الراهن
المدبر وقد قضى عليه بالسعاية أو لم يقض لم
يسع إلا بقدر القيمة؛ لأن كسبه بعد العتق
ملكه، وما أداه قبل العتق لا يرجع به على
مولاه لأنه أداه من مال المولى.
قال:
"وكذلك لو استهلك الراهن الرهن"؛
لأنه حق محترم مضمون عليه بالإتلاف، والضمان
رهن في يد المرتهن لقيامه مقام العين "فإن استهلكه أجنبي فالمرتهن هو الخصم
في تضمينه فيأخذ القيمة وتكون رهنا في يده"؛
لأنه أحق بعين الرهن حال قيامه فكذا في
استرداد ما قام مقامه، والواجب على هذا
المستهلك قيمته يوم هلك، فإن كانت قيمته يوم
استهلكه خمسمائة ويوم رهن ألفا غرم خمسمائة
وكانت رهنا وسقط من الدين خمسمائة فصار الحكم
في الخمسمائة الزيادة كأنها هلكت بآفة سماوية،
والمعتبر في ضمان الرهن القيمة يوم القبض لا
يوم الفكاك؛ لأن القبض السابق مضمون عليه؛
لأنه قبض استيفاء، إلا أنه يتقرر عند الهلاك.
"ولو استهلكه المرتهن والدين مؤجل غرم
القيمة"؛ لأنه أتلف ملك الغير
"وكانت رهنا في يده حتى يحل الدين"؛
لأن الضمان بدل العين فأخذ حكمه
"وإذا حل الدين وهو على صفة القيمة استوفى
المرتهن منها قدر حقه"؛ لأنه
جنس حقه
"ثم إن كان فيه فضل يرده على الراهن"؛
لأنه بدل ملكه وقد فرغ عن حق المرتهن
"وإن نقصت عن الدين بتراجع السعر إلى خمسمائة
وقد كانت قيمته يوم الرهن ألفا وجب بالاستهلاك
خمسمائة وسقط من الدين خمسمائة"؛
لأن ما انتقص كالهالك وسقط الدين
بقدره، وتعتبر قيمته يوم القبض فهو مضمون
بالقبض السابق لا بتراجع السعر، ووجب عليه
الباقي بالإتلاف وهو قيمته يوم أتلف.
قال:
"وإذا أعار المرتهن الرهن للراهن ليخدمه أو
ليعمل له عملا فقبضه خرج من ضمان المرتهن"
لمنافاة بين يد العارية ويد الرهن
"فإن هلك في يد الراهن هلك بغير شيء"
لفوات القبض المضمون
"وللمرتهن أن يسترجعه إلى يده"؛
لأن عقد الرهن باق إلا في حكم الضمان في
الحال.
ألا ترى أنه لو هلك الراهن قبل أن يرده على
المرتهن كان المرتهن أحق به من سائر الغرماء،
وهذا؛ لأن يد العارية ليست بلازمة والضمان ليس
من لوازم الرهن على كل حال؛ ألا ترى أن حكم
الرهن ثابت في ولد الرهن وإن لم يكن مضمونا
بالهلاك، وإذا بقي عقد
ج / 4 ص -433-
الرهن
فإذا أخذه عاد الضمان؛ لأنه عاد القبض في عقد
الرهن فيعود بصفته
"وكذلك لو أعاره أحدهما أجنبيا بإذن
الآخر سقط حكم الضمان" لما
قلنا
"ولكل واحد منهما أن يرده رهنا كما كان"؛
لأن لكل واحد منهما حقا محترما فيه وهذا بخلاف
الإجارة والبيع والهبة من أجنبي إذا باشرها
أحدهما بإذن الآخر حيث يخرج عن الرهن فلا يعود
إلا بعقد مبتدأ.
"ولو مات الراهن قبل الرد إلى المرتهن يكون
المرتهن أسوة للغرماء"؛ لأنه
تعلق بالرهن حق لازم بهذه التصرفات فيبطل به
حكم الرهن، أما بالعارية لم يتعلق به حق لازم
فافترقا.
"وإذا استعار المرتهن الرهن من الراهن ليعمل
به فهلك قبل أن يأخذ في العمل هلك على ضمان
الرهن" لبقاء يد الرهن
"وكذا إذا هلك بعد الفراغ من العمل"
لارتفاع يد العارية
"ولو هلك في حالة العمل هلك بغير ضمان"
لثبوت يد العارية بالاستعمال، وهي
مخالفة ليد الراهن فانتفى الضمان
"وكذا إذا أذن الراهن للمرتهن بالاستعمال"
لما بيناه.
"ومن استعار من غيره ثوبا ليرهنه فما رهنه به
من قليل أو كثير فهو جائز"؛
لأنه متبرع بإثبات ملك اليد فيعتبر بالتبرع
بإثبات ملك العين واليد وهو قضاء الدين، ويجوز
أن ينفصل ملك اليد عن ملك العين ثبوتا للمرتهن
كما ينفصل زوالا في حق البائع، والإطلاق واجب
الاعتبار خصوصا في الإعارة؛ لأن الجهالة فيها
لا تفضي إلى المنازعة.
"ولو عين قدرا لا يجوز للمستعير أن يرهنه
بأكثر منه، ولا بأقل منه"؛
لأن التقييد مفيد، وهو ينفي الزيادة؛ لأن غرضه
الاحتباس بما تيسر أداؤه، وينفي النقصان أيضا؛
لأن غرضه أن يصير مستوفيا للأكثر بمقابلته عند
الهلاك ليرجع به عليه
"وكذلك التقييد بالجنس وبالمرتهن وبالبلد"؛
لأن كل ذلك مفيد لتيسر البعض بالإضافة إلى
البعض وتفاوت الأشخاص في الأمانة والحفظ
"فإذا خالف كان ضامنا، ثم إن شاء المعير ضمن
المستعير ويتم عقد الرهن فيما بينه وبين
المرتهن"؛ لأنه ملكه بأداء
الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه
"وإن شاء ضمن المرتهن، ويرجع المرتهن بما ضمن
وبالدين على الراهن" وقد
بيناه في الاستحقاق
"وإن وافق" بأن رهنه بمقدار
ما أمره به
"إن كانت قيمته مثل الدين أو أكثر فهلك عند
المرتهن يبطل المال عن الراهن"
لتمام الاستيفاء بالهلاك
"ووجب مثله لرب الثوب على الراهن"؛
لأنه صار قاضيا دينه بماله بهذا القدر وهو
الموجب للرجوع دون القبض بذاته؛ لأنه برضاه،
وكذلك إن أصابه عيب ذهب من الدين بحسابه ووجب
مثله لرب الثوب على الراهن على ما بيناه.
"وإن كانت قيمته أقل من الدين ذهب بقدر القيمة
وعلى الراهن بقية دينه للمرتهن"؛
لأنه لم يقع الاستيفاء بالزيادة على قيمته
وعلى الراهن لصاحب الثوب ما صار به موفيا لما
ج / 4 ص -434-
بيناه
"ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن
يفتكه جبرا عن الراهن لم يكن للمرتهن إذا قضى
دينه أن يمتنع"؛ لأنه غير
متبرع حيث يخلص ملكه ولهذا يرجع على الراهن
بما أدى المعير فأجبر المرتهن على الدفع
"بخلاف الأجنبي إذا قضى الدين"؛
لأنه متبرع؛ إذ هو لا يسعى في تخليص ملكه ولا
في تفريغ ذمته فكان للطالب أن لا يقبله.
"ولو هلك الثوب العارية عند الراهن قبل أن
يرهنه أو بعد ما افتكه فلا ضمان عليه"؛
لأنه لا يصير قاضيا بهذا، وهو الموجب على ما
بينا "ولو اختلفا في ذلك فالقول للراهن"
لأنه ينكر الإيفاء بدعواه الهلاك في هاتين
الحالتين.
"كما لو اختلفا في مقدار ما أمره بالرهن به
فالقول للمعير"؛ لأن القول
قوله في إنكار أصله فكذا في إنكار وصفه
"ولو رهنه المستعير بدين موعود وهو أن يرهنه
به ليقرضه كذا فهلك في يد المرتهن قبل الإقراض
والمسمى والقيمة سواء يضمن قدر الموعود
المسمى" لما بينا أنه
كالموجود ويرجع المعير على الراهن بمثله؛ لأن
سلامة مالية الرهن باستيفائه من المرتهن
كسلامته ببراءة ذمته عنه.
"ولو كانت العارية عبدا فأعتقه المعير جاز"
لقيام ملك الرقبة
"ثم المرتهن بالخيار إن شاء رجع بالدين على
الراهن"؛ لأنه لم يستوفه
"وإن شاء ضمن المعير قيمته"؛
لأن الحق قد تعلق برقبته برضاه وقد أتلفه
بالإعتاق
"وتكون رهنا عنده إلى أن يقبض دينه فيردها إلى
المعير"؛ لأن استرداد القيمة
كاسترداد العين
"ولو استعار عبدا أو دابة ليرهنه فاستخدم
العبد أو ركب الدابة قبل أن يرهنهما ثم رهنهما
بمال مثل قيمتهما ثم قضى المال فلم يقبضهما
حتى هلكا عند المرتهن فلا ضمان على الراهن"؛
لأنه قد برئ من الضمان حين رهنهما، فإنه كان
أمينا خالف ثم عاد إلى الوفاق
"وكذا إذا افتك الرهن ثم ركب الدابة أو استخدم
العبد فلم يعطب ثم عطب بعد ذلك من غير صنعه لا
يضمن"؛ لأنه بعد الفكاك
بمنزلة المودع لا بمنزلة المستعير لانتهاء حكم
الاستعارة بالفكاك وقد عاد إلى الوفاق فيبرأ
عن الضمان، وهذا بخلاف المستعير؛ لأن يده يد
نفسه فلا بد من الوصول إلى يد المالك، أما
المستعير في الرهن فيحصل مقصود الآمر وهو
الرجوع عليه عند الهلاك وتحقق الاستيفاء.
قال:
"وجناية الراهن على الرهن مضمونة"؛
لأنه تفويت حق لازم محترم، وتعلق مثله بالمال
يجعل المالك كالأجنبي في حق الضمان كتعلق حق
الورثة بمال المريض مرض الموت يمنع نفاذ تبرعه
فيما وراء الثلث، والعبد الموصى بخدمته إذا
أتلفه الورثة ضمنوا قيمته ليشترى بها عبد يقوم
مقامه.
قال:
"وجناية المرتهن عليه تسقط من دينه بقدرها"
ومعناه أن يكون الضمان على
ج / 4 ص -435-
صفة
الدين، وهذا؛ لأن العين ملك المالك، وقد تعدى
عليه المرتهن فيضمنه لمالكه.
قال:
"وجناية الرهن على الراهن والمرتهن وعلى
مالهما هدر" وهذا عند أبي
حنيفة وقالا: جنايته على المرتهن معتبرة،
والمراد بالجناية على النفس ما يوجب المال،
أما الوفاقية فلأنها جناية المملوك على
المالك؛ ألا ترى أنه لو مات كان الكفن عليه،
بخلاف جناية المغصوب على المغصوب منه؛ لأن
الملك عند أداء الضمان يثبت للغاصب مستندا حتى
يكون الكفن عليه، فكانت جناية على غير المالك
فاعتبرت ولهما في الخلافية أن الجناية حصلت
على غير مالكه وفي الاعتبار فائدة وهو دفع
العبد إليه بالجناية فتعتبر ثم إن شاء الراهن
والمرتهن أبطلا الرهن ودفعاه بالجناية إلى
المرتهن، وإن قال المرتهن لا أطلب الجناية فهو
رهن على حاله وله أن هذه الجناية لو اعتبرنا
للمرتهن كان عليه التطهير من الجناية؛ لأنها
حصلت في ضمانه فلا يفيد وجوب الضمان له مع
وجوب التخليص عليه، وجنايته على مال المرتهن
لا تعتبر بالاتفاق إذا كانت قيمته والدين
سواء؛ لأنه لا فائدة في اعتبارها؛ لأنه لا
يتملك العبد وهو الفائدة، وإن كانت القيمة
أكثر من الدين؛ فعن أبي حنيفة أنه يعتبر بقدر
الأمانة؛ لأن الفضل ليس في ضمانه فأشبه جناية
العبد الوديعة على المستودع وعنه أنها لا
تعتبر؛ لأن حكم الرهن وهو الحبس فيه ثابت فصار
كالمضمون، وهذا بخلاف جناية الرهن على ابن
الراهن أو ابن المرتهن؛ لأن الأملاك حقيقة
متباينة فصار كالجناية على الأجنبي.
قال:
"ومن رهن عبدا يساوي ألفا بألف إلى أجل فنقص
في السعر فرجعت قيمته إلى مائة ثم قتله رجل
وغرم قيمته مائة ثم حل الأجل فإن المرتهن يقبض
المائة قضاء عن حقه ولا يرجع على الراهن بشيء"
وأصله أن النقصان من حيث السعر لا يوجب سقوط
الدين عندنا خلافا لزفر، وهو يقول: إن المالية
قد انتقصت فأشبه انتقاص العين ولنا أن نقصان
السعر عبارة عن فتور رغبات الناس وذلك لا
يعتبر في البيع حتى لا يثبت به الخيار ولا في
الغصب حتى لا يجب الضمان، بخلاف نقصان العين؛
لأن بفوات جزء منه يتقرر الاستيفاء فيه؛ إذ
اليد يد الاستيفاء، وإذا لم يسقط شيء من الدين
بنقصان السعر بقي مرهونا بكل الدين، فإذا قتله
حر غرم قيمته مائة؛ لأنه تعتبر قيمته يوم
الإتلاف في ضمان الإتلاف؛ لأن الجابر بقدر
الفائت، وأخذه المرتهن؛ لأنه بدل المالية في
حق المستحق وإن كان مقابلا بالدم على أصلنا
حتى لا يزاد على دية الحر؛ لأن المولى استحقه
بسبب المالية وحق المرتهن متعلق بالمالية فكذا
فيما قام مقامه، ثم لا يرجع على الراهن بشيء؛
لأن يد الرهن يد الاستيفاء من الابتداء
وبالهلاك يتقرر، وقيمته كانت في الابتداء ألفا
فيصير مستوفيا
ج / 4 ص -436-
الكل
من الابتداء. أو نقول: لا يمكن أن يجعل
مستوفيا الألف بمائة؛ لأنه يؤدي إلى الربا
فيصير مستوفيا المائة وبقي تسعمائة في العين،
فإذا هلك يصير مستوفيا تسعمائة بالهلاك، بخلاف
ما إذا مات من غير قتل أحد؛ لأنه يصير مستوفيا
الكل بالعبد؛ لأنه لا يؤدي إلى الربا.
قال:
"وإن كان أمره الراهن أن يبيعه فباعه بمائة
وقبض المائة قضاء من حقه فيرجع بتسعمائة"؛
لأنه لما باعه بإذن الراهن صار كأن الراهن
استرده وباعه بنفسه، ولو كان كذلك يبطل الرهن
ويبقى الدين إلا بقدر ما استوفى، وكذا هذا.
قال:
"وإن قتله عبد قيمته مائة فدفع مكانه افتكه
بجميع الدين" وهذا عند أبي
حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: هو بالخيار إن شاء
افتكه بجميع الدين، وإن شاء سلم العبد المدفوع
إلى المرتهن بماله وقال زفر: يصير رهنا بمائة
له أن يد الرهن يد استيفاء وقد تقرر بالهلاك،
إلا أنه أخلف بدلا بقدر العشر فيبقى الدين
بقدره ولأصحابنا على زفر أن العبد الثاني قائم
مقام الأول لحما ودما، ولو كان الأول قائما
وانتقض السعر لا يسقط شيء من الدين عندنا لما
ذكرنا، فكذلك إذا قام المدفوع مكانه ولمحمد في
الخيار أن المرهون تغير في ضمان المرتهن فيخير
الراهن كالمبيع إذا قتل قبل القبض والمغصوب
إذا قتل في يد الغاصب يخير المشتري، والمغصوب
منه كذا هذا ولهما أن التغير لم يظهر في نفس
العبد لقيام الثاني مقام الأول لحما ودما كما
ذكرناه مع زفر، وعين الرهن أمانة عندنا فلا
يجوز تمليكه منه بغير رضاه، ولأن جعل الرهن
بالدين حكم جاهلي، وأنه منسوخ، بخلاف البيع؛
لأن الخيار فيه حكمه الفسخ وهو مشروع وبخلاف
الغصب؛ لأن تملكه بأداء الضمان مشروع، ولو كان
العبد تراجع سعره حتى صار يساوي مائة ثم قتله
عبد يساوي مائة فدفع به فهو على هذا الخلاف
"وإذا قتل العبد الرهن قتيلا خطأ فضمان
الجناية على المرتهن وليس له أن يدفع"؛
لأنه لا يملك التمليك.
قال:
"ولو فدي طهر المحل فبقي الدين على حاله ولا
يرجع على الراهن بشيء من الفداء"؛
لأن الجناية حصلت في ضمانه فكان عليه إصلاحها.
قال:
"ولو أبى المرتهن أن يفدي قيل للراهن ادفع
العبد أو افده بالدية"؛ لأن
الملك في الرقبة قائم له، وإنما إلى المرتهن
الفداء لقيام حقه.
قال:
"فإذا امتنع عن الفداء يطالب الراهن بحكم
الجناية ومن حكمها التخيير"
بين الدفع والفداء.
ج / 4 ص -437-
قال:
"فإن اختار الدفع سقط الدين"؛
لأنه استحق لمعنى في ضمان المرتهن فصار
كالهلاك.
قال:
"وكذلك إن فدى"؛ لأن العبد
كالحاصل له بعوض كان على المرتهن، وهو الفداء،
بخلاف ولد الرهن إذا قتل إنسانا أو استهلك
مالا حيث يخاطب الراهن بالدفع أو الفداء في
الابتداء؛ لأنه غير مضمون على المرتهن، فإن
دفع خرج من الرهن ولم يسقط شيء من الدين كما
لو هلك في الابتداء، وإن فدى فهو رهن مع أمه
على حالهما.
قال:
"ولو استهلك العبد المرهون مالا يستغرق رقبته،
فإن أدى المرتهن الدين الذي لزم العبد فدينه
على حاله كما في الفداء، وإن أبى قيل للراهن
بعه في الدين إلا أن يختار أن يؤدي عنه، فإن
أدى بطل دين المرتهن" كما
ذكرنا في الفداء.
قال:
"وإن لم يؤد وبيع العبد فيه يأخذ صاحب دين
العبد دينه"؛ لأن دين العبد
مقدم على دين المرتهن وحق ولي الجناية لتقدمه
على حق المولى.
قال:
"فإن فضل شيء ودين غريم العبد مثل دين المرتهن
أو أكثر فالفضل للراهن وبطل دين المرتهن"؛
لأن الرقبة استحقت لمعنى هو في ضمان المرتهن
فأشبه الهلاك.
قال:
"وإن كان دين العبد أقل سقط من دين المرتهن
بقدر دين العبد وما فضل من دين العبد يبقى
رهنا كما كان، ثم إن كان دين المرتهن قد حل
أخذه به"؛ لأنه من جنس حقه.
قال:
"وإن كان لم يحل أمسكه حتى يحل، وإن كان ثمن
العبد لا يفي بدين الغريم أخذ الثمن ولم يرجع
بما بقي على أحد حتى يعتق العبد"؛
لأن الحق في دين الاستهلاك يتعلق برقبته وقد
استوفيت فيتأخر إلى ما بعد العتق.
قال:
"وإن كانت قيمة العبد ألفين وهو رهن بألف وقد
جنى العبد يقال لهما افدياه"؛
لأن النصف منه مضمون، والنصف أمانة، والفداء
في المضمون على المرتهن، وفي الأمانة على
الراهن، فإن أجمعا على الدفع دفعاه وبطل دين
المرتهن، والدفع لا يجوز في الحقيقة من
المرتهن لما بينا، وإنما منه الرضا به.
قال:
"فإن تشاحا فالقول لمن قال أنا أفدي راهنا كان
أو مرتهنا" أما المرتهن فلأنه
ليس في الفداء إبطال حق الراهن، وفي الدفع
الذي يختاره الراهن إبطال المرتهن، وكذا في
جناية الرهن إذا قال المرتهن أنا أفدي له ذلك
وإن كان المالك يختار الدفع؛ لأنه إن لم يكن
مضمونا فهو محبوس بدينه وله في الفداء غرض
صحيح، ولا ضرر على الراهن، فكان له أن يفدي،
وأما الراهن فلأنه ليس للمرتهن ولاية الدفع
لما بينا فكيف يختاره.
ج / 4 ص -438-
قال:
"ويكون المرتهن في الفداء متطوعا في حصة
الأمانة حتى لا يرجع على الراهن"؛
لأنه يمكنه أن لا يختاره فيخاطب الراهن، فلما
التزمه، والحالة هذه كان متبرعا، وهذا على ما
روي عن أبي حنيفة رحمه الله أنه لا يرجع مع
الحضور، وسنبين القولين إن شاء الله تعالى.
قال:
"ولو أبى المرتهن أن يفدي وفداه الراهن فإنه
يحتسب على المرتهن نصف الفداء من دينه"؛
لأن سقوط الدين أمر لازم فدى أو دفع فلم يجعل
الراهن في الفداء متطوعا، ثم ينظر إن كان نصف
الفداء مثل الدين أو أكثر بطل الدين، وإن كان
أقل سقط من الدين بقدر نصف الفداء، وكان العبد
رهنا بما بقي؛ لأن الفداء في نصف كان عليه،
فإذا أداه الراهن، وهو ليس بمتطوع كان له
الرجوع عليه فيصير قصاصا بدينه كأنه أوفى نصفه
فيبقى العبد رهنا بما بقي.
قال:
"ولو كان المرتهن فدى، والراهن حاضر فهو
متطوع، وإن كان غائبا لم يكن متطوعا"
وهذا قول أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف
ومحمد والحسن وزفر رحمهم الله: المرتهن متطوع
في الوجهين؛ لأنه فدى ملك غيره بغير أمره
فأشبه الأجنبي وله أنه إذا كان الراهن حاضرا
أمكنه مخاطبته، فإذا فداه المرتهن فقد تبرع
كالأجنبي، فأما إذا كان الراهن غائبا تعذر
مخاطبته، والمرتهن يحتاج إلى إصلاح المضمون،
ولا يمكنه ذلك إلا بإصلاح الأمانة فلا يكون
متبرعا.
قال:
"وإذا مات الراهن باع وصيه الرهن وقضى الدين"؛
لأن الوصي قائم مقامه، ولو تولى الموصى حيا
بنفسه كان له ولاية البيع بإذن المرتهن فكذا
لوصيه.
قال:
"وإن لم يكن له وصي نصب القاضي له وصيا وأمره
ببيعه"؛ لأن القاضي نصب ناظرا
لحقوق المسلمين إذا عجزوا عن النظر لأنفسهم،
والنظر في نصب الوصي ليؤدي ما عليه لغيره
ويستوفي ماله من غيره.
قال:
"وإن كان على الميت دين فرهن الوصي بعض التركة
عند غريم من غرمائه لم يجز وللآخرين أن
يردوه"؛ لأنه آثر بعض الغرماء
بالإيفاء الحكمي فأشبه الإيثار بالإيفاء
الحقيقي.
قال:
"فإن قضى دينهم قبل أن يردوه جاز"
لزوال المانع بوصول حقهم إليهم.
قال:
"ولو لم يكن للميت غريم آخر جاز الرهن"
اعتبارا بالإيفاء الحقيقي.
قال:
"وبيع في دينه"؛ لأنه يباع
فيه قبل الرهن فكذا بعده.
قال:
"وإذا ارتهن الوصي بدين للميت على رجل جاز"؛
لأنه استيفاء وهو يملكه.
ج / 4 ص -439-
قال
رضي الله عنه: وفي رهن الوصي تفصيلات نذكرها
في كتاب الوصايا إن شاء الله تعالى.
فصل: قال: "ومن رهن عصيرا بعشرة قيمته عشرة
فتخمر ثم صار خلا يساوي عشرة فهو رهن بعشرة"؛
لأن ما يكون
محلا للبيع يكون محلا للرهن، إذ المحلية
بالمالية فيهما، والخمر وإن لم يكن محلا للبيع
ابتداء فهو محل له بقاء حتى إن من اشترى عصيرا
فتخمر قبل القبض يبقى العقد إلا أنه يتخير في
البيع لتغير وصف المبيع بمنزلة ما إذا تعيب.
قال:
"ولو رهن شاة قيمتها عشرة بعشرة فماتت فدبغ
جلدها فصار يساوي درهما فهو رهن بدرهم"؛
لأن الرهن يتقرر بالهلاك، فإذا حيي بعض المحل
يعود حكمه بقدره، بخلاف ما إذا ماتت الشاة
المبيعة قبل القبض فدبغ جلدها حيث لا يعود
البيع؛ لأن البيع ينتقض بالهلاك قبل القبض
والمنتقض لا يعود، أما الرهن يتقرر بالهلاك
على ما بيناه ومن مشايخنا من يمنع مسألة البيع
ويقول: يعود البيع.
قال:
"ونماء الرهن للراهن وهو مثل الولد والثمر
واللبن والصوف"؛ لأنه متولد
من ملكه ويكون رهنا مع الأصل؛ لأنه تبع له،
والرهن حق لازم فيسري إليه.
قال:
"فإن هلك يهلك بغير شيء"؛ لأن
الأتباع لا قسط لها مما يقابل بالأصل؛ لأنها
لم تدخل تحت العقد مقصودا؛ إذ اللفظ لا
يتناولها.
قال:
"وإن هلك الأصل وبقي النماء افتكه الراهن
بحصته يقسم الدين على قيمة الرهن يوم القبض
وقيمة النماء يوم الفكاك"؛
لأن الرهن يصير مضمونا بالقبض، والزيادة تصير
مقصودة بالفكاك إذا بقي إلى وقته، والتبع
يقابله شيء إذا صار مقصودا كولد المبيع، فما
أصاب الأصل يسقط من الدين؛ لأنه يقابله الأصل
مقصودا، وما أصاب النماء افتكه الراهن لما
ذكرنا وصور المسائل على هذا الأصل تخرج، وقد
ذكرنا بعضها في كفاية المنتهى، وتمامه في
الجامع والزيادات.
قال:
"ولو رهن شاة بعشرة وقيمتها عشرة وقال الراهن
للمرتهن: احلب الشاة فما حلبت فهو لك حلال
فحلب وشرب فلا ضمان عليه في شيء من ذلك"
أما الإباحة فيصح تعليقها بالشرط والخطر؛
لأنها إطلاق وليس بتمليك فتصح مع الخطر.
قال:
"ولا يسقط شيء من الدين"؛
لأنه أتلفه بإذن المالك.
ج / 4 ص -440-
قال:
"فإن لم يفتك الشاة حتى ماتت في يد المرتهن
قسم الدين على قيمة اللبن الذي شرب وعلى قيمة
الشاة، فما أصاب الشاة سقط، وما أصاب اللبن
أخذه المرتهن من الراهن"؛ لأن
اللبن تلف على ملك الراهن بفعل المرتهن والفعل
حصل بتسليط من قبله فصار كأن الراهن أخذه
وأتلفه فكان مضمونا عليه فيكون له حصته من
الدين فبقي بحصته، وكذلك ولد الشاة إذا أذن له
الراهن في أكله، وكذلك جميع النماء الذي يحدث
على هذا القياس.
قال:
"وتجوز الزيادة في الرهن ولا تجوز في الدين"
عند أبي حنيفة ومحمد ولا يصير الرهن رهنا بها
وقال أبو يوسف: تجوز الزيادة في الدين أيضا
وقال زفر والشافعي: لا تجوز فيهما، والخلاف
معهما في الرهن، والثمن والمثمن والمهر
والمنكوحة سواء، وقد ذكرناه في البيوع ولأبي
يوسف في الخلافية الأخرى أن الدين في باب
الرهن كالثمن في البيع، والرهن كالمثمن فتجوز
الزيادة فيهما كما في البيع، والجامع بينهما
الالتحاق بأصل العقد للحاجة والإمكان ولهما
وهو القياس أن الزيادة في الدين توجب الشيوع
في الرهن، وهو غير مشروع عندنا، والزيادة في
الرهن توجب الشيوع في الدين، وهو غير مانع من
صحة الرهن؛ ألا ترى أنه لو رهن عبدا بخمسمائة
من الدين جاز، وإن كان الدين ألفا وهذا شيوع
في الدين، والالتحاق بأصل العقد غير ممكن في
طرف الدين؛ لأنه غير معقود عليه ولا معقود به
بل وجوبه سابق على الرهن، وكذا يبقى بعد
انفساخه، والالتحاق بأصل العقد في بدلي العقد،
بخلاف البيع؛ لأن الثمن بدل يجب بالعقد، ثم
إذا صحت الزيادة في الرهن وتسمى هذه زيادة
قصدية يقسم الدين على قيمة الأول يوم القبض،
وعلى قيمة الزيادة يوم قبضت، حتى لو كانت قيمة
الزيادة يوم قبضها خمسمائة، وقيمة الأول يوم
القبض ألفا والدين ألفا يقسم الدين أثلاثا، في
الزيادة ثلث الدين، وفي الأصل ثلثا الدين
اعتبارا بقيمتهما في وقتي الاعتبار، وهذا؛ لأن
الضمان في كل واحد منهما يثبت بالقبض فتعتبر
قيمة كل واحد منهما وقت القبض
"وإذا ولدت المرهونة ولدا ثم إن الراهن زاد مع
الولد عبدا، وقيمة كل واحد ألف فالعبد رهن مع
الولد خاصة يقسم ما في الولد عليه وعلى العبد
الزيادة"؛ لأنه جعله زيادة مع
الولد دون الأم
"ولو كانت الزيادة مع الأم يقسم الدين على
قيمة الأم يوم العقد وعلى قيمة الزيادة يوم
القبض، فما أصاب الأم قسم عليها وعلى ولدها"؛
لأن الزيادة دخلت على الأم.
قال:
"فإن رهن عبدا يساوي ألفا بألف ثم أعطاه عبدا
آخر قيمته ألف رهنا مكان الأول، فالأول رهن
حتى يرده إلى الراهن، والمرتهن في الآخر أمين
حتى يجعله مكان الأول"؛ لأن
الأول إنما دخل في ضمانه بالقبض والدين وهما
باقيان فلا يخرج عن الضمان إلا بنقض
ج / 4 ص -441-
القبض
ما دام الدين باقيا، وإذا بقي الأول في ضمانه
لا يدخل الثاني في ضمانه؛ لأنهما رضيا بدخول
أحدهما فيه لا بدخولهما فإذا رد الأول دخل
الثاني في ضمانه ثم قيل: يشترط تجديد القبض؛
لأن يد المرتهن على الثاني يد أمانة ويد الرهن
بعد استيفاء وضمان فلا ينوب عنه، كمن له على
آخر جياد فاستوفى زيوفا ظنها جيادا ثم علم
بالزيافة وطالبه بالجياد وأخذها فإن الجياد
أمانة في يده ما لم يرد الزيوف ويجدد القبض
وقيل لا يشترط؛ لأن الرهن تبرع كالهبة على ما
بيناه من قبل وقبض الأمانة ينوب عن قبض الهبة،
ولأن الرهن عينه أمانة، والقبض يرد على العين
فينوب قبض الأمانة عن قبض العين.
"ولو أبرأ المرتهن الراهن عن الدين أو وهبه
منه ثم هلك الرهن في يد المرتهن يهلك بغير شيء
استحسانا" خلافا لزفر،؛ لأن
الرهن مضمون بالدين أو بجهته عند توهم الوجود
كما في الدين الموعود ولم يبق الدين بالإبراء
أو الهبة ولا جهته لسقوطه، إلا إذا أحدث منعا؛
لأنه يصير به غاصبا إذا لم تبق له ولاية المنع
"وكذا إذا ارتهنت المرأة رهنا بالصداق فأبرأته
أو وهبته أو ارتدت والعياذ بالله قبل الدخول
أو اختلعت منه على صداقها ثم هلك الرهن في
يدها يهلك بغير شيء في هذا كله ولم تضمن شيئا"
لسقوط الدين كما في الإبراء،
"ولو استوفى المرتهن الدين بإيفاء الراهن أو
بإيفاء متطوع ثم هلك الرهن في يده يهلك بالدين
ويجب عليه رد ما استوفى إلى ما استوفى منه وهو
من عليه أو المتطوع بخلاف الإبراء"
ووجه الفرق أن بالإبراء يسقط الدين أصلا كما
ذكرنا، وبالاستيفاء لا يسقط لقيام الموجب، إلا
أنه يتعذر الاستيفاء لعدم الفائدة؛ لأنه يعقب
مطالبة مثله، فأما هو في نفسه فقائم، فإذا هلك
يتقرر الاستيفاء الأول فانتقض الاستيفاء
الثاني.
"وكذا إذا اشترى بالدين عينا أو صالح عنه على
عين"؛ لأنه استيفاء
"وكذلك إذا أحال الراهن المرتهن بالدين على
غيره ثم هلك الرهن بطلت الحوالة ويهلك
بالدين"؛ لأنه في معنى
البراءة بطريق الأداء؛ لأنه يزول به عن ملك
المحيل مثل ما كان له على المحتال عليه، أو ما
يرجع عليه به إن لم يكن للمحيل على المحتال
عليه دين؛ لأنه بمنزلة الوكيل
"وكذا لو تصادقا على أن لا دين ثم هلك الرهن
يهلك بالدين" لتوهم وجوب
الدين بالتصادق على قيامه فتكون الجهة باقية
بخلاف الإبراء، والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب وإليه المرجع والمآب. |