الهداية
في شرح بداية المبتدي ج / 4 ص -442-
كتاب الجنايات
قال:
"القتل على خمسة أوجه: عمد، وشبه عمد، وخطأ،
وما أجري مجرى الخطأ، والقتل بسبب"
والمراد بيان قتل تتعلق به الأحكام.
قال:
"فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى
السلاح كالمحدد من الخشب وليطة القصب والمروة
المحددة والنار"؛ لأن العمد
هو القصد، ولا يوقف عليه إلا بدليله وهو
استعمال الآلة القاتلة فكان متعمدا فيه عند
ذلك
"وموجب ذلك المأثم" لقوله
تعالى:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا
فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} [النساء:93] الآية، وقد نطق به غير واحد من السنة، وعليه انعقد
إجماع الأمة.
قال:
"والقود" لقوله تعالى:
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى} [البقرة:178] إلا أنه تقيد بوصف العمدية لقوله عليه الصلاة
والسلام:
"العمد قود" أي موجبه، ولأن الجناية بها تتكامل وحكمة الزجر عليها تتوفر،
والعقوبة المتناهية لا شرع لها دون ذلك.
قال:
"إلا أن يعفو الأولياء أو يصالحوا"؛
لأن الحق لهم ثم هو واجب عينا، وليس للولي أخذ
الدية إلا برضا القاتل وهو أحد قولي الشافعي،
إلا أن له حق العدول إلى المال من غير مرضاة
القاتل؛ لأنه تعين مدفعا للهلاك فيجوز بدون
رضاه، وفي قول الواجب أحدهما لا بعينه ويتعين
باختياره؛ لأن حق العبد شرع جابرا وفي كل واحد
نوع جبر فيتخير ولنا ما تلونا من الكتاب
وروينا من السنة، ولأن المال لا يصلح موجبا
لعدم المماثلة، والقصاص يصلح للتماثل، وفيه
مصلحة الأحياء زجرا وجبرا فيتعين، وفي الخطإ
وجوب المال ضرورة صون الدم عن الإهدار، ولا
يتيقن بعدم قصد الولي بعد أخذ المال فلا يتعين
مدفعا للهلاك، ولا كفارة فيه عندنا: وعند
الشافعي رحمه الله تجب؛ لأن الحاجة إلى
التكفير في العمد أمس منها إليه في الخطأ فكان
أدعى إلى إيجابها ولنا أنه كبيرة محضة، وفي
الكفارة معنى العبادة فلا تناط بمثلها، ولأن
الكفارة من المقادير، وتعينها في الشرع لدفع
الأدنى لا يعينها لدفع الأعلى ومن حكمه حرمان
الميراث لقوله عليه الصلاة والسلام "لا ميراث
لقاتل".
ج / 4 ص -443-
قال:
"وشبه العمد عند أبي حنيفة أن يتعمد الضرب بما
ليس بسلاح ولا ما أجري مجرى السلاح"
وقال أبو يوسف ومحمد وهو قول الشافعي: إذا
ضربه بحجر عظيم أو بخشبة عظيمة فهو عمد وشبه
العمد أن يتعمد ضربه بما لا يقتل به غالبا؛
لأنه يتقاصر معنى العمدية باستعمال آلة صغيرة
لا يقتل بها غالبا لما أنه يقصد بها غيره
كالتأديب ونحوه فكان شبه العمد، ولا يتقاصر
باستعمال آلة لا تلبث؛ لأنه لا يقصد به إلا
القتل كالسيف فكان عمدا موجبا للقود وله قوله
عليه الصلاة والسلام:
"ألا إن قتيل خطأ العمد قتيل السوط والعصا، وفيه مائة من الإبل" ولأن الآلة
غير موضوعة للقتل ولا مستعملة فيه؛ إذ لا يمكن
استعمالها على غرة من المقصود قتله، وبه يحصل
القتل غالبا فقصرت العمدية نظرا إلى الآلة،
فكان شبه العمد كالقتل بالسوط والعصا الصغيرة.
قال:
"وموجب ذلك على القولين الإثم"؛
لأنه قتل وهو قاصد في الضرب
"والكفارة" لشبهه بالخطأ
"والدية مغلظة على العاقلة"
والأصل أن كل دية وجبت بالقتل ابتداء لا بمعنى
يحدث من بعد فهي على العاقلة اعتبارا بالخطأ،
وتجب في ثلاث سنين لقضية عمر بن الخطاب رضي
الله عنه، وتجب مغلظة، وسنبين صفة التغليظ من
بعد إن شاء الله تعالى
"ويتعلق به حرمان الميراث"؛
لأنه جزاء القتل، والشبهة تؤثر في سقوط القصاص
دون حرمان الميراث ومالك وإن أنكر معرفة شبه
العمد فالحجة عليه ما أسلفناه.
قال:
"والخطأ على نوعين: خطأ في القصد، وهو أن يرمي
شخصا يظنه صيدا، فإذا هو آدمي، أو يظنه حربيا
فإذا هو مسلم وخطأ في الفعل، وهو أن يرمي غرضا
فيصيب آدميا، وموجب ذلك الكفارة، والدية على
العاقلة" لقوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ}
[النساء:92]الآية، وهي على عاقلته في ثلاث
سنين، لما بيناه.
قال:
"ولا إثم فيه" يعني في
الوجهين قالوا: المراد إثم القتل، فأما في
نفسه فلا يعرى عن الإثم من حيث ترك العزيمة
والمبالغة في التثبت في حال الرمي، إذ شرع
الكفارة يؤذن باعتبار هذا المعنى
"ويحرم عن الميراث"؛ لأن فيه
إثما فيصح تعليق الحرمان به، بخلاف ما إذا
تعمد الضرب موضعا من جسده فأخطأ فأصاب موضعا
آخر فمات حيث يجب القصاص؛ لأن القتل قد وجد
بالقصد إلى بعض بدنه، وجميع البدن كالمحل
الواحد.
قال:
"وما أجري مجرى الخطأ مثل النائم ينقلب على
رجل فيقتله فحكمه حكم الخطأ في الشرع، وأما
القتل بسبب كحافر البئر وواضع الحجر في غير
ملكه، وموجبه إذا تلف فيه آدمي الدية على
العاقلة"؛ لأنه سبب التلف وهو
متعد فيه فأنزل موقعا دافعا فوجبت
ج / 4 ص -444-
الدية
"ولا كفارة فيه ولا يتعلق به حرمان الميراث"
وقال الشافعي: يلحق بالخطإ في أحكامه؛ لأن
الشرع أنزله قاتلا ولنا أن القتل معدوم منه
حقيقة فألحق به في حق الضمان فبقي في حق غيره
على الأصل، وهو إن كان يأثم بالحفر في غير
ملكه لا يأثم بالموت على ما قالوا، وهذه كفارة
ذنب القتل وكذا الحرمان بسببه
"وما يكون شبه عمد في النفس فهو عمد فيما
سواها"؛ لأن إتلاف النفس
يختلف باختلاف الآلة، وما دونها لا يختص
إتلافه بآلة دون آلة، والله أعلم.
باب ما يوجب القصاص وما لا يوجبه
قال:
"القصاص واجب بقتل كل محقون الدم على التأبيد
إذا قتل عمدا" أما العمدية
فلما بيناه، وأما حقن الدم على التأبيد
فلتنتفي شبهة الإباحة وتتحقق المساواة.
قال:
"ويقتل الحر بالحر والحر بالعبد"
للعمومات وقال الشافعي رحمه الله: لا
يقتل الحر بالعبد لقوله تعالى:
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ} [البقرة:178] ومن ضرورة هذه المقابلة أن لا يقتل حر بعبد، ولأن
مبنى القصاص على المساواة وهي منتفية بين
المالك والمملوك ولهذا لا يقطع طرف الحر
بطرفه، بخلاف العبد بالعبد؛ لأنهما يستويان،
وبخلاف العبد حيث يقتل بالحر؛ لأنه تفاوت إلى
نقصان ولنا أن القصاص يعتمد المساواة في
العصمة وهي بالدين وبالدار ويستويان فيهما،
وجريان القصاص بين العبدين يؤذن بانتفاء شبهة
الإباحة، والنص تخصيص بالذكر فلا ينفي ما
عداه.
قال:
"والمسلم بالذمي" خلافا
للشافعي له قوله عليه الصلاة والسلام "لا يقتل
مؤمن بكافر" ولأنه لا مساواة بينهما وقت
الجناية، وكذا الكفر مبيح فيورث الشبهة ولنا
ما روي "أن
النبي صلى الله عليه وسلم قتل مسلما بذمي"
ولأن المساواة في العصمة ثابتة نظرا إلى
التكليف والدار والمبيح كفر المحارب دون
المسالم، والقتل بمثله يؤذن بانتفاء الشبهة،
والمراد بما روى الحربي لسياقه
"ولا ذو عهد في عهده" والعطف للمغايرة.
قال:
"ولا يقتل بالمستأمن"؛ لأنه
غير محقون الدم على التأبيد، وكذلك كفره باعث
على الحراب؛ لأنه على قصد الرجوع
"ولا يقتل الذمي بالمستأمن"
لما بينا
"ويقتل المستأمن بالمستأمن"
قياسا للمساواة، ولا يقتل استحسانا لقيام
المبيح "ويقتل الرجل بالمرأة، والكبير
بالصغير، والصحيح بالأعمى والزمن وبناقص
الأطراف وبالمجنون" للعمومات،
ولأن في اعتبار التفاوت فيما وراء العصمة
امتناع القصاص وظهور التقاتل والتفاني.
قال:
"ولا يقتل الرجل بابنه" لقوله
عليه الصلاة والسلام:
"لا يقاد الوالد بولده" وهو
ج / 4 ص -445-
بإطلاقه حجة على مالك رحمه الله في قوله يقاد
إذا ذبحه ذبحا، ولأنه سبب لإحيائه، فمن المحال
أن يستحق له إفناؤه ولهذا لا يجوز له قتله،
وإن وجده في صف الأعداء مقاتلا أو زانيا وهو
محصن، والقصاص يستحقه المقتول ثم يخلفه وارثه،
والجد من قبل الرجال أو النساء، وإن علا في
هذا بمنزلة الأب، وكذا الوالدة والجدة من قبل
الأب أو الأم قربت أو بعدت لما بينا، ويقتل
الولد بالوالد لعدم المسقط.
قال:
"ولا يقتل الرجل بعبده ولا مدبره ولا مكاتبه
ولا بعبد ولده"؛ لأنه لا
يستوجب لنفسه على نفسه القصاص ولا ولده عليه،
وكذا لا يقتل بعبد ملك بعضه؛ لأن القصاص لا
يتجزأ.
قال:
"ومن ورث قصاصا على أبيه سقط"
لحرمة الأبوة، قال:
"ولا يستوفى القصاص إلا بالسيف"
وقال الشافعي: يفعل به مثل ما فعل إن كان فعلا
مشروعا، فإن مات وإلا تحز رقبته؛ لأن مبنى
القصاص على المساواة ولنا قوله عليه الصلاة
والسلام:
"لا قود إلا بالسيف" والمراد به السلاح، ولأن فيما ذهب إليه استيفاء الزيادة لو لم يحصل
المقصود بمثل ما فعل فيحز فيجب التحرز عنه كما
في كسر العظم.
قال:
"وإذا قتل المكاتب عمدا وليس له وارث إلا
المولى وترك وفاء فله القصاص عند أبي حنيفة
وأبي يوسف وقال محمد: لا أرى في هذا قصاصا"؛
لأنه اشتبه سبب الاستيفاء فإنه الولاء إن مات
حرا والملك إن مات عبدا، وصار كمن قال لغيره
بعني هذه الجارية بكذا، وقال المولى زوجتها
منك لا يحل له وطؤها لاختلاف السبب كذا هذا
ولهما أن حق الاستيفاء للمولى بيقين على
التقديرين وهو معلوم والحكم متحد، واختلاف
السبب لا يفضي إلى المنازعة ولا إلى اختلاف
حكم فلا يبالى به، بخلاف تلك المسألة؛ لأن حكم
ملك اليمين يغاير حكم النكاح
"ولو ترك وفاء وله وارث غير المولى فلا قصاص،
وإن اجتمعوا مع المولى"؛ لأنه
اشتبه من له الحق؛ لأنه المولى إن مات عبدا،
والوارث إن مات حرا إذ ظهر الاختلاف بين
الصحابة رضي الله عنهم في موته على نعت الحرية
أو الرق، بخلاف الأولى؛ لأن المولى متعين فيها
"وإن لم يترك وفاء وله ورثة أحرار وجب القصاص
للمولى في قولهم جميعا"؛ لأنه مات عبدا بلا
ريب لانفساخ الكتابة، بخلاف معتق البعض إذا
مات ولم يترك وفاء؛ لأن العتق في البعض لا
ينفسخ بالعجز
"وإذا قتل عبد الرهن في يد المرتهن لم يجب
القصاص حتى يجتمع الراهن والمرتهن"؛
لأن المرتهن لا ملك له فلا يليه، والراهن لو
تولاه لبطل حق المرتهن في الدين فيشترط
اجتماعهما ليسقط حق المرتهن برضاه.
ج / 4 ص -446-
قال:
"وإذا قتل ولي المعتوه فلأبيه أن يقتل"؛
لأنه من الولاية على النفس شرع لأمر راجع
إليها وهو تشفي الصدر فيليه كالإنكاح
"وله أن يصالح"؛ لأنه أنظر في
حق المعتوه، وليس له أن يعفو؛ لأن فيه إبطال
حقه
"وكذلك إن قطعت يد المعتوه عمدا"
لما ذكرنا
"والوصي بمنزلة الأب في جميع ذلك إلا أنه لا
يقتل"؛ لأنه ليس له ولاية على
نفسه وهذا من قبيله، ويندرج تحت هذا الإطلاق
الصلح عن النفس واستيفاء القصاص في الطرف فإنه
لم يستثن إلا القتل وفي كتاب الصلح أن الوصي
لا يملك الصلح؛ لأنه تصرف في النفس بالاعتياض
عنه فينزل منزلة الاستيفاء ووجه المذكور هاهنا
أن المقصود من الصلح المال وأنه يجب بعقده كما
يجب بعقد الأب بخلاف القصاص؛ لأن المقصود
التشفي وهو مختص بالأب ولا يملك العفو؛ لأن
الأب لا يملكه لما فيه من الإبطال فهو أولى
وقالوا القياس ألا يملك الوصي الاستيفاء في
الطرف كما لا يملكه في النفس؛ لأن المقصود
متحد وهو التشفي وفي الاستحسان يملكه؛ لأن
الأطراف يسلك بها مسلك الأموال فإنها خلقت
وقاية للأنفس كالمال على ما عرف فكان استيفاؤه
بمنزلة التصرف في المال، والصبي بمنزلة
المعتوه في هذا، والقاضي بمنزلة الأب في
الصحيح؛ ألا ترى أن من قتل ولا ولي له يستوفيه
السلطان، والقاضي بمنزلته فيه.
قال:
"ومن قتل وله أولياء صغار وكبار فللكبار أن
يقتلوا القاتل عند أبي حنيفة وقالا ليس لهم
ذلك حتى يدرك الصغار"؛ لأن
القصاص مشترك بينهم ولا يمكن استيفاء البعض
لعدم التجزي، وفي استيفائهم الكل إبطال حق
الصغار فيؤخر إلى إدراكهم كما إذا كان بين
الكبيرين وأحدهما غائب أو كان بين الموليين
وله أنه حق لا يتجزأ لثبوته بسبب لا يتجزأ وهو
القرابة، واحتمال العفو من الصغير منقطع فيثبت
لكل واحد منهما كملا كما في ولاية الإنكاح،
بخلاف الكبيرين؛ لأن احتمال العفو من الغائب
ثابت ومسألة الموليين ممنوعة.
قال:
"ومن ضرب رجلا بمر فقتله، فإن أصابه بالحديد
قتل به وإن أصابه بالعود فعليه الدية"
قال رضي الله عنه: وهذا إذا أصابه بحد الحديد
لوجود الجرح فكمل السبب، وإن أصابه بظهر
الحديد فعندهما يجب، وهو رواية عن أبي حنيفة
اعتبارا منه للآلة، وهو الحديد وعنه إنما يجب
إذا جرح، وهو الأصح على ما نبينه إن شاء الله
تعالى، وعلى هذا الضرب بسنجات الميزان؛ وأما
إذا ضربه بالعود فإنما تجب الدية لوجود قتل
النفس المعصومة وامتناع القصاص حتى لا يهدر
الدم، ثم قيل: هو بمنزلة العصا الكبيرة فيكون
قتلا بالمثقل، وفيه خلاف أبي حنيفة على ما
نبين، وقيل هو بمنزلة السوط، وفيه خلاف
ج / 4 ص -447-
الشافعي وهي مسألة الموالاة له أن الموالاة في
الضربات إلى أن مات دليل العمدية فيتحقق
الموجب ولنا ما روينا:
"ألا إن قتيل
خطإ العمد" ويروى
"شبه العمد" الحديث
ولأن فيه شبهة عدم العمدية؛ لأن الموالاة قد
تستعمل للتأديب أو لعله اعتراه القصد في خلال
الضربات فيعرى أول الفعل عنه وعساه أصاب
المقتل، والشبهة دارئة للقود فوجب الدية.
قال:
"ومن غرق صبيا أو بالغا في البحر فلا قصاص"
عند أبي حنيفة، وقال: يقتص منه وهو قول
الشافعي، غير أن عندهما يستوفى حزا وعنده يغرق
كما بيناه من قبل لهم قوله عليه الصلاة
والسلام:
"من غرق غرقناه" ولأن الآلة
قاتلة فاستعمالها أمارة العمدية، ولا مراء في
العصمة وله قوله عليه الصلاة والسلام:
"ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا" وفيه "وفي كل
خطإ أرش"؛ لأن الآلة غير معدة للقتل، ولا مستعملة فيه لتعذر استعماله فتمكنت
شبهة عدم العمدية ولأن القصاص ينبئ عن
المماثلة، ومنه يقال: اقتص أثره، ومنه القصة
للجلمين، ولا تماثل بين الجرح والدق لقصور
الثاني عن تخريب الظاهر، وكذا لا يتماثلان في
حكمة الزجر؛ لأن القتل بالسلاح غالب وبالمثقل
نادر، وما رواه غير مرفوع أو هو محمول على
السياسة، وقد أومت إليه إضافته إلى نفسه فيه
وإذا امتنع القصاص وجبت الدية، وهي على
العاقلة، وقد ذكرناه واختلاف الروايتين في
الكفارة.
قال:
"ومن جرح رجلا عمدا فلم يزل صاحب فراش حتى مات
فعليه القصاص" لوجود السبب
وعدم ما يبطل حكمه في الظاهر فأضيف إليه.
قال:
"وإذا التقى الصفان من المسلمين والمشركين
فقتل مسلم مسلما ظن أنه مشرك فلا قود عليه
وعليه الكفارة"؛ لأن هذا أحد
نوعي الخطإ على ما بيناه، والخطأ بنوعيه لا
يوجب القود ويوجب الكفارة، وكذا الدية على ما
نطق به نص الكتاب ولما اختلفت سيوف المسلمين
على اليمان أبي حذيفة قضى رسول الله عليه
الصلاة والسلام بالدية قالوا: إنما تجب الدية
إذا كانوا مختلطين، فإن كان في صف المشركين لا
تجب لسقوط عصمته بتكثير سوادهم قال عليه
الصلاة والسلام:
"من كثر سواد قوم فهو منهم".
قال: "ومن شج نفسه وشجه رجل وعقره أسد
وأصابته حية فمات من ذلك كله فعلى الأجنبي ثلث
الدية"؛ لأن فعل الأسد والحية
جنس واحد لكونه هدرا في الدنيا والآخرة، وفعله
بنفسه هدر في الدنيا معتبر في الآخرة حتى يأثم
عليه وفي النوادر أن عند أبي حنيفة ومحمد يغسل
ويصلى عليه وعند أبي يوسف يغسل ولا يصلى عليه،
وفي
ج / 4 ص -448-
شرح
السير الكبير ذكر في الصلاة عليه اختلاف
المشايخ على ما كتبناه في كتاب التجنيس
والمزيد فلم يكن هدرا مطلقا وكان جنسا آخر،
وفعل الأجنبي معتبر في الدنيا والآخرة فصارت
ثلاثة أجناس فكأن النفس تلفت بثلاثة أفعال
فيكون التالف بفعل كل واحد ثلثه فيجب عليه ثلث
الدية، والله أعلم بالصواب.
فصل: قال "ومن شهر على المسلمين سيفا فعليهم أن
يقتلوه"
لقوله عليه الصلاة والسلام:
"من شهر على المسلمين سيفا فقد أطل دمه"
ولأنه باغ فتسقط عصمته ببغيه، ولأنه تعين
طريقا لدفع القتل عن نفسه فله قتله وقوله
فعليهم وقول محمد في الجامع الصغير فحق على
المسلمين أن يقتلوه إشارة إلى الوجوب، والمعنى
وجوب دفع الضرر وفي سرقة الجامع الصغير: ومن
شهر على رجل سلاحا ليلا أو نهارا أو شهر عليه
عصا ليلا في مصر أو نهارا في طريق في غير مصر
فقتله المشهور عليه عمدا فلا شيء عليه لما
بينا، وهذا؛ لأن السلاح لا يلبث فيحتاج إلى
دفعه بالقتل والعصا الصغيرة، وإن كانت تلبث
ولكن في الليل لا يلحقه الغوث فيضطر إلى دفعه
بالقتل، وكذا في النهار في غير المصر في
الطريق لا يلحقه الغوث فإذا قتله كان دمه هدرا
قالوا: فإن كان عصا لا تلبث يحتمل أن تكون مثل
السلاح عندهما.
قال:
"وإن شهر المجنون على غيره سلاحا فقتله
المشهور عليه عمدا فعليه الدية في ماله"
وقال الشافعي: لا شيء عليه، وعلى هذا الخلاف
الصبي والدابة وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان في
الدابة ولا يجب في الصبي والمجنون للشافعي أنه
قتله دافعا عن نفسه فيعتبر بالبالغ الشاهر،
ولأنه يصير محمولا على قتله بفعله فأشبه
المكره ولأبي يوسف أن فعل الدابة غير معتبر
أصلا حتى لو تحقق لا يوجب الضمان أما فعلهما
معتبر في الجملة حتى لو حققناه يجب عليهما
الضمان، وكذا عصمتهما لحقهما وعصمة الدابة لحق
مالكها فكان فعلهما مسقطا للعصمة دون فعل
الدابة، ولنا أنه قتل شخصا معصوما أو أتلف
مالا معصوما حقا للمالك وفعل الدابة لا يصلح
مسقطا وكذا فعلهما، وإن كانت عصمتهما حقهما
لعدم اختيار صحيح ولهذا لا يجب القصاص بتحقق
الفعل منهما، بخلاف العاقل البالغ؛ لأن له
اختيارا صحيحا، وإنما لا يجب القصاص لوجود
المبيح وهو دفع الشر فتجب الدية.
قال:
"ومن شهر على غيره سلاحا في المصر فضربه ثم
قتله الآخر فعلى القاتل
ج / 4 ص -449-
القصاص" معناه: إذا ضربه فانصرف؛ لأنه خرج من أن يكون محاربا بالانصراف
فعادت عصمته.
قال:
"ومن دخل عليه غيره ليلا وأخرج السرقة فاتبعه
وقتله فلا شيء عليه" لقوله
عليه الصلاة والسلام: "قاتل
دون مالك" ولأنه يباح له القتل دفعا في الابتداء فكذا استردادا في الانتهاء،
وتأويل المسألة إذا كان لا يتمكن من الاسترداد
إلا بالقتل، والله أعلم.
باب القصاص فيما دون النفس
قال:
"ومن قطع يد غيره عمدا من المفصل قطعت يده وإن
كانت يده أكبر من اليد المقطوعة"
لقوله تعالى:
{وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}
[المائدة:45] وهو ينبئ عن المماثلة، فكل ما
أمكن رعايتها فيه يجب فيه القصاص وما لا فلا،
وقد أمكن في القطع من المفصل فاعتبر، ولا
معتبر بكبر اليد وصغرها لأن منفعة اليد لا
تختلف بذلك، وكذلك الرجل ومارن الأنف والأذن
لإمكان رعاية المماثلة. قال:
"ومن ضرب عين رجل فقلعها لا قصاص عليه"
لامتناع المماثلة في القلع، وإن كانت قائمة
فذهب ضوءها فعليه القصاص لإمكان المماثلة على
ما قال في الكتاب: تحمى له المرآة ويجعل على
وجهه قطن رطب وتقابل عينه بالمرآة فيذهب
ضوءها، وهو مأثور عن جماعة من الصحابة رضي
الله عنهم.
قال:
"وفي السن القصاص" لقوله
تعالى:
{ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ } [المائدة:45]
"وإن كان سن من يقتص منه أكبر من سن الآخر"
لأن منفعة السن لا تتفاوت بالصغر والكبر.
قال:
"وفي كل شجة تتحقق فيها المماثلة القصاص"
لما تلونا.
قال:
"ولا قصاص في عظم إلا في السن"
وهذا اللفظ مروي عن عمر وابن مسعود رضي الله
عنهما، وقال عليه الصلاة والسلام:
"لا قصاص في العظم"
والمراد غير السن، ولأن اعتبار المماثلة في
غير السن متعذر لاحتمال الزيادة والنقصان،
بخلاف السن لأنه يبرد بالمبرد، ولو قلع من
أصله يقلع الثاني فيتماثلان.
قال:
"وليس فيما دون النفس شبه عمد إنما هو عمد أو
خطأ" لأن شبه العمد يعود إلى
الآلة، والقتل هو الذي يختلف باختلافها دون ما
دون النفس لأنه لا يختلف إتلافه باختلاف الآلة
فلم يبق إلا العمد والخطأ.
"ولا قصاص بين الرجل والمرأة فيما دون النفس،
ولا بين الحر والعبد، ولا بين العبدين"
خلافا للشافعي في جميع ذلك إلا في الحر يقطع
طرف العبد. ويعتبر الأطراف بالأنفس لكونها
تابعة لها. ولنا أن الأطراف يسلك بها مسلك
الأموال فينعدم التماثل بالتفاوت في القيمة،
وهو معلوم قطعا بتقويم الشرع فأمكن اعتباره
ج / 4 ص -450-
بخلاف
التفاوت في البطش لأنه لا ضابط له فاعتبر
أصله، وبخلاف الأنفس لأن المتلف إزهاق الروح
ولا تفاوت فيه.
"ويجب القصاص في الأطراف بين المسلم والكافر"
للتساوي بينهما في الأرش.
قال:
"ومن قطع يد رجل من نصف الساعد أو جرحه جائفة
فبرأ منها فلا قصاص عليه"
لأنه لا يمكن اعتبار المماثلة فيه، إذ الأول
كسر العظم ولا ضابط فيه، وكذا البرء نادر
فيفضي الثاني إلى الهلاك ظاهرا.
قال:
"وإذا كانت يد المقطوع صحيحة ويد القاطع شلاء
أو ناقصة الأصابع فالمقطوع بالخيار إن شاء قطع
اليد المعيبة ولا شيء له غيرها وإن شاء أخذ
الأرش كاملا" لأن استيفاء
الحق كاملا متعذر فله أن يتجوز بدون حقه وله
أن يعدل إلى العوض كالمثلي إذا انصرم عن أيدي
الناس بعد الإتلاف ثم إذا استوفاها ناقصا فقد
رضي به فيسقط حقه كما إذا رضي بالرديء مكان
الجيد
"ولو سقطت المؤنة قبل اختيار المجني عليه أو
قطعت ظلما فلا شيء له" عندنا
لأن حقه متعين في القصاص، وإنما ينتقل إلى
المال باختياره فيسقط بفواته، بخلاف ما إذا
قطعت بحق عليه من قصاص أو سرقة حيث يجب عليه
الأرش لأنه أوفى به حقا مستحقا فصارت سالمة له
معنى.
قال:
"ومن شج رجلا فاستوعبت الشجة ما بين قرنيه وهي
لا تستوعب ما بين قرني الشاج فالمشجوج
بالخيار، إن شاء اقتص بمقدار شجته يبتدئ من أي
الجانبين شاء، وإن شاء أخذ الأرش"
لأن الشجة موجبة لكونها مشينة فقط فيزداد
الشين بزيادتها، وفي استيفائه ما بين قرني
الشاج زيادة على ما فعل، ولا يلحقه من الشين
باستيفائه قدر حقه ما يلحق المشجوج فينتقص
فيخير كما في الشلاء والصحيحة، وفي عكسه يخير
أيضا لأنه يتعذر الاستيفاء كاملا للتعدي إلى
غير. حقه، وكذا إذا كانت الشجة في طول الرأس
وهي تأخذ من جبهته إلى قفاه ولا تبلغ إلى قفا
الشاج فهو بالخيار لأن المعنى لا يختلف.
قال:
"ولا قصاص في اللسان ولا في الذكر"
وعن أبي يوسف أنه إذا قطع من أصله يجب لأنه
يمكن اعتبار المساواة. ولنا أنه ينقبض وينبسط
فلا يمكن اعتبار المساواة
"إلا أن تقطع الحشفة" لأن
موضع القطع معلوم كالمفصل، ولو قطع بعض الحشفة
أو بعض الذكر فلا قصاص فيه لأن البعض لا يعلم
مقداره، بخلاف الأذن إذا قطع كله أو بعضه لأنه
لا ينقبض ولا ينبسط وله حد يعرف فيمكن اعتبار
المساواة، والشفة إذا استقصاها بالقطع يجب
القصاص لإمكان اعتبار المساواة، بخلاف ما إذا
قطع بعضها لأنه يتعذر اعتبارها.
ج / 4 ص -451-
فصل: قال: "وإذا اصطلح القاتل وأولياء القتيل
على مال سقط القصاص ووجب المال قليلا كان أو
كثيرا"
لقوله
تعالى:
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} [البقرة:178] الآية على ما قيل نزلت الآية في الصلح. وقوله عليه
الصلاة والسلام:
"من قتل
له قتيل" الحديث، والمراد والله أعلم الأخذ بالرضا على ما بيناه وهو الصلح
بعينه، ولأنه حق ثابت للورثة يجري فيه الإسقاط
عفوا فكذا تعويضا لاشتماله على إحسان الأولياء
وإحياء القاتل فيجوز بالتراضي. والقليل
والكثير فيه سواء لأنه ليس فيه نص مقدر فيفوض
إلى اصطلاحهما كالخلع وغيره، وإن لم يذكروا
حالا ولا مؤجلا فهو حال لأنه مال واجب بالعقد،
والأصل في أمثاله الحلول نحو المهر والثمن،
بخلاف الدية لأنها ما وجبت بالعقد.
قال:
"وإن كان القاتل حرا وعبدا فأمر الحر ومولى
العبد رجلا بأن يصالح عن دمهما على ألف درهم
ففعل فالألف على الحر والمولى نصفان"
لأن عقد الصلح أضيف إليهما.
"وإذا عفا أحد الشركاء من الدم أو صالح من
نصيبه على عوض سقط حق الباقين عن القصاص وكان
لهم نصيبهم من الدية". وأصل
هذا أن القصاص حق جميع الورثة، وكذا الدية
خلافا لمالك والشافعي في الزوجين. لهما أن
الوراثة خلافة وهي بالنسب دون السبب لانقطاعه
بالموت، ولنا أنه عليه الصلاة والسلام أمر
بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم،
ولأنه حق يجري فيه الإرث، حتى أن من قتل وله
ابنان فمات أحدهما عن ابن كان القصاص بين
الصلبي وابن الابن فيثبت لسائر الورثة،
والزوجية تبقى بعد الموت حكما في حق الإرث أو
يثبت بعد الموت مستندا إلى سببه وهو الجرح،
وإذا ثبت للجميع فكل منهم يتمكن من الاستيفاء
والإسقاط عفوا وصلحا ومن ضرورة سقوط حق البعض
في القصاص سقوط حق الباقين فيه، لأنه لا
يتجزأ، بخلاف ما إذا قتل رجلين وعفا أحد
الوليين لأن الواجب هناك قصاصان من غير شبهة
لاختلاف القتل والمقتول وهاهنا واحد
لاتحادهما، وإذا سقط القصاص ينقلب نصيب
الباقين مالا لأنه امتنع لمعنى راجع إلى
القاتل، وليس للعافي شيء من المال لأنه أسقط
حقه بفعله ورضاه، ثم يجب ما يجب من المال في
ثلاث سنين وقال زفر: يجب في سنتين فيما إذا
كان بين الشريكين وعفا أحدهما، لأن الواجب نصف
الدية فيعتبر بما إذا قطعت يده خطأ. ولنا أن
هذا بعض بدل الدم وكله مؤجل إلى ثلاث سنين
فكذلك بعضه، والواجب في اليد كل بدل الطرف وهو
في سنتين في الشرع ويجب في ماله لأنه عمد.
ج / 4 ص -452-
قال:
"وإذا قتل جماعة واحدا عمدا اقتص من جميعهم"
لقول عمر رضي الله عنه فيه: لو تمالأ عليه أهل
صنعاء لقتلتهم، ولأن القتل بطريق التغالب
غالب، والقصاص مزجرة للسفهاء فيجب تحقيقا
لحكمة الإحياء.
"وإذا قتل واحد جماعة فحضر أولياء المقتولين
قتل لجماعتهم ولا شيء لهم غير ذلك، فإن حضر
واحد منهم قتل له وسقط حق الباقين"
وقال الشافعي: يقتل بالأول منهم ويجب للباقين
المال، وإن اجتمعوا ولم يعرف الأول قتل لهم
وقسمت الديات بينهم، وقيل يقرع بينهم فيقتل
لمن خرجت قرعته. له أن الموجود من الواحد
قتلات والذي تحقق في حقه قتل واحد فلا تماثل،
وهو القياس في الفصل الأول، إلا أنه عرف
بالشرع. ولنا أن كل واحد منهم قاتل بوصف
الكمال فجاء التماثل أصله الفصل الأول، إذ لو
لم يكن كذلك لما وجب القصاص، ولأنه وجد من كل
واحد منهم جرح صالح للإزهاق فيضاف إلى كل منهم
إذ هو لا يتجزأ، ولأن القصاص شرع مع المنافي
لتحقيق الإحياء وقد حصل بقتله فاكتفى به.
قال:
"ومن وجب عليه القصاص إذا مات سقط القصاص"
لفوات محل الاستيفاء فأشبه موت العبد الجاني،
ويتأتى فيه خلاف الشافعي إذ الواجب أحدهما
عنده.
قال:
"وإذا قطع رجلان يد رجل واحد فلا قصاص على
واحد منهما وعليهما نصف الدية"
وقال الشافعي: تقطع يداهما، والمفرض إذا أخذ
سكينا وأمره على يده حتى انقطعت له الاعتبار
بالأنفس، والأيدي تابعة لها فأخذت حكمها، أو
يجمع بينهما بجامع الزجر. ولنا أن كل واحد
منهما قاطع بعض اليد، لأن الانقطاع حصل
باعتماديهما والمحل متجزئ فيضاف إلى كل واحد
منهما البعض فلا مماثلة، بخلاف النفس لأن
الانزهاق لا يتجزأ، ولأن القتل بطريق الاجتماع
غالب حذار الغوث، والاجتماع على قطع اليد من
المفصل في حيز الندرة لافتقاره إلى مقدمات
بطيئة فيلحقه الغوث.
قال:
"وعليهما نصف الدية" لأنه دية
اليد الواحدة وهما قطعاها.
"وإن قطع واحد يميني رجلين فحضرا فلهما أن
يقطعا يده ويأخذا منه نصف الدية يقسمانه نصفين
سواء قطعهما معا أو على التعاقب"
وقال الشافعي: في التعاقب يقطع بالأول، وفي
القران يقرع لأن اليد استحقها الأول فلا يثبت
الاستحقاق فيها للثاني كالرهن بعد الرهن، وفي
القران اليد الواحدة لا تفي بالحقين فترجح
بالقرعة. ولنا أنهما استويا في سبب الاستحقاق
فيستويان في حكمه كالغريمين في التركة،
والقصاص ملك الفعل يثبت مع المنافي فلا يظهر
إلا في حق الاستيفاء. أما المحل فخلو عنه فلا
يمنع ثبوت الثاني، بخلاف الرهن لأن الحق ثابت
في
ج / 4 ص -453-
المحل.
فصار كما إذا قطع العبد يمينيهما على التعاقب
فتستحق رقبته لهما، وإن حضر واحد منهما فقطع
يده فللآخر عليه نصف الدية، لأن للحاضر أن
يستوفي لثبوت حقه وتردد حق الغائب، وإذا
استوفى لم يبق محل الاستيفاء فيتعين حق الآخر
في الدية لأنه أوفى به حقا مستحقا.
قال:
"وإذا أقر العبد بقتل العمد لزمه القود"
وقال زفر: لا يصح إقراره لأنه يلاقي حق المولى
بالإبطال فصار كما إذا أقر بالمال. ولنا أنه
غير متهم فيه لأنه مضر به فيقبل، ولأن العبد
مبقى على أصل الحرية في حق الدم عملا بالآدمية
حتى لا يصح إقرار المولى عليه بالحد والقصاص،
وبطلان حق المولى بطريق الضمن فلا يبالى به.
"ومن رمى رجلا عمدا فنفذ السهم منه إلى آخر
فماتا فعليه القصاص للأول والدية للثاني على
عاقلته" لأن الأول عمد
والثاني أحد نوعي الخطأ، كأنه رمى إلى صيد
فأصاب آدميا والفعل يتعدد بتعدد الأثر.
فصل: قال: "ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله عمدا قبل
أن تبرأ يده أو قطع يده عمدا ثم قتله خطأ أو
قطع يده خطأ فبرئت يده ثم قتله خطأ أو قطع يده
عمدا فبرأت ثم قتله عمدا فإنه يؤخذ بالأمرين
جميعا"
والأصل فيه
أن الجمع بين الجراحات واجب ما أمكن تتميما
للأول، لأن القتل في الأعم يقع بضربات
متعاقبة، وفي اعتبار كل ضربة بنفسها بعض
الحرج، إلا أن لا يمكن الجمع فيعطى كل واحد
حكم نفسه، وقد تعذر الجمع في هذه الفصول في
الأولين لاختلاف حكم الفعلين، وفي الآخرين
لتخلل البرء وهو قاطع للسراية، حتى لو لم
يتخلل وقد تجانسا بأن كانا خطأين يجمع
بالإجماع لإمكان الجمع واكتفى بدية واحدة
"وإن كان قطع يده عمدا ثم قتله عمدا قبل أن
تبرأ يده، فإن شاء الإمام قال: اقطعوه ثم
اقتلوه، وإن شاء قال: اقتلوه"
وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: يقتل ولا تقطع يده
لأن الجمع ممكن لتجانس الفعلين وعدم تخلل
البرء فيجمع بينهما. وله أن الجمع متعذر، إما
للاختلاف بين الفعلين هذين لأن الموجب القود
وهو يعتمد المساواة في الفعل وذلك بأن يكون
القتل بالقتل والقطع بالقطع وهو متعذر، أو لأن
الحز يقطع إضافة السراية إلى القطع، حتى لو
صدر من شخصين يجب القود على الحاز فصار كتخلل
البرء، بخلاف ما إذا قطع وسرى لأن الفعل واحد،
وبخلاف ما إذا كانا خطأين لأن الموجب الدية
وهي بدل النفس من غير اعتبار المساواة، ولأن
أرش اليد إنما يجب عند استحكام أثر الفعل وذلك
بالحز القاطع للسراية
ج / 4 ص -454-
فيجتمع
ضمان الكل وضمان الجزء في حالة واحدة ولا
يجتمعان. أما القطع والقتل قصاصا يجتمعان.
قال:
"ومن ضرب رجلا مائة سوط فبرأ من تسعين ومات من
عشرة ففيه دية واحدة" لأنه
لما برأ منها لا تبقى معتبرة في حق الأرش وإن
بقيت معتبرة في حق التعزير فبقي الاعتبار
للعشرة، وكذلك كل جراحة اندملت ولم يبق لها
أثر على أصل أبي حنيفة. وعن أبي يوسف في مثله
حكومة عدل. وعن محمد أنه تجب أجرة الطبيب
"وإن ضرب رجلا مائة سوط وجرحته وبقي له أثر
تجب حكومة العدل" لبقاء الأثر
والأرش إنما يجب باعتبار الأثر في النفس.
قال:
"ومن قطع يد رجل فعفا المقطوعة يده عن القطع
ثم مات من ذلك فعلى القاطع الدية في ماله، وإن
عفا عن القطع وما يحدث منه ثم مات من ذلك فهو
عفو عن النفس، ثم إن كان خطأ فهو من الثلث،
وإن كان عمدا فهو من جميع المال"
وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: إذا عفا عن القطع
فهو عفو عن النفس أيضا، وعلى هذا الخلاف إذا
عفا عن الشجة ثم سرى إلى النفس ومات، لهما أن
العفو عن القطع عفو عن موجبه، وموجبه القطع لو
اقتصر أو القتل إذا سرى، فكان العفو عنه عفوا
عن أحد موجبيه أيهما كان، ولأن اسم القطع
يتناول الساري والمقتصر فيكون العفو عن قطع
عفوا عن نوعيه وصار كما إذا عفا عن الجناية
فإنه يتناول الجناية السارية والمقتصرة. كذا
هذا. وله أن سبب الضمان قد تحقق وهو قتل نفس
معصومة متقومة والعفو لم يتناوله بصريحه لأنه
عفا عن القطع وهو غير القتل، وبالسراية تبين
أن الواقع قتل وحقه فيه ونحن نوجب ضمانه. وكان
ينبغي أن يجب القصاص وهو القياس لأنه هو
الموجب للعمد، إلا أن في الاستحسان تجب الدية،
لأن صورة العفو أورثت شبهة وهي دارئة للقود.
ولا نسلم أن الساري نوع من القطع، وأن السراية
صفة له، بل الساري قتل من الابتداء، وكذا لا
موجب له من حيث كونه قطعا فلا يتناوله العفو،
بخلاف العفو عن الجناية لأنه اسم جنس، وبخلاف
العفو عن الشجة وما يحدث منها لأنه صريح في
العفو عن السراية والقتل، ولو كان القطع خطأ
فقد أجراه مجرى العمد في هذه الوجوه وفاقا
وخلافا، آذن بذلك إطلاقه، إلا أنه إن كان خطأ
فهو من الثلث، وإن كان عمدا فهو من جميع
المال، لأن موجب العمد القود ولم يتعلق به حق
الورثة لما أنه ليس بمال فصار كما إذا أوصى
بإعارة أرضه. أما الخطأ فموجبه المال، وحق
الورثة يتعلق به فيعتبر من الثلث.
قال:
"وإذا قطعت المرأة يد رجل فتزوجها على يده ثم
مات فلها مهر مثلها، وعلى
ج / 4 ص -455-
عاقلتها الدية إن كان خطأ، وإن كان عمدا ففي
مالها" وهذا عند أبي حنيفة، لأن العفو عن اليد إذا لم يكن عفوا عما يحدث
منه عنده فالتزوج على اليد لا يكون تزوجا على
ما يحدث منه. ثم القطع إذا كان عمدا يكون هذا
تزوجا على القصاص في الطرف وهو ليس بمال فلا
يصلح مهرا، لا سيما على تقدير السقوط فيجب مهر
المثل، وعليها الدية في مالها لأن التزوج وإن
كان يتضمن العفو على ما نبين إن شاء الله
تعالى لكن عن القصاص في الطرف في هذه الصورة،
وإذا سرى تبين أنه قتل النفس ولم يتناوله
العفو فتجب الدية وتجب في مالها لأنه عمد.
والقياس أن يجب القصاص على ما بيناه. وإذا وجب
لها مهر المثل وعليها الدية تقع المقاصة إن
كانا على السواء، وإن كان في الدية فضل ترده
على الورثة، وإن كان في المهر فضل يرده الورثة
عليها، وإذا كان القطع خطأ يكون هذا تزوجا على
أرش اليد، وإذا سرى إلى النفس تبين أنه لا أرش
لليد وأن المسمى معدوم فيجب مهر المثل، كما
إذا تزوجها على ما في اليد ولا شيء فيها. ولا
يتقاصان لأن الدية تجب على العاقلة في الخطأ
والمهر لها.
قال:
"ولو تزوجها على اليد وما يحدث منها أو على
الجناية ثم مات من ذلك والقطع عمد فلها مهر
مثلها" لأن هذا تزوج على
القصاص وهو لا يصلح مهرا فيجب مهر المثل على
ما بيناه، وصار كما إذا تزوجها على خمر أو
خنزير ولا شيء له عليها، لأنه لما جعل القصاص
مهرا فقد رضي بسقوطه بجهة المهر فيسقط أصلا
كما إذا أسقط القصاص بشرط أن يصير مالا فإنه
يسقط أصلا
"وإن كان خطأ يرفع عن العاقلة مهر مثلها، ولهم
ثلث ما ترك وصية" لأن هذا
تزوج على الدية وهي تصلح مهرا إلا أنه يعتبر
بقدر مهر المثل من جميع المال لأنه مريض مرض
الموت والتزوج من الحوائج الأصلية ولا يصح في
حق الزيادة على مهر المثل لأنه محاباة فيكون
وصية فيرفع عن العاقلة لأنهم يتحملون عنها،
فمن المحال أن ترجع عليهم بموجب جنايتها، وهذه
الزيادة وصية لهم لأنهم من أهل الوصية لما
أنهم ليسوا بقتلة، فإن كانت تخرج من الثلث
تسقط، وإن لم تخرج يسقط ثلثه. وقال أبو يوسف
ومحمد: كذلك الجواب فيما إذا تزوجها على اليد،
لأن العفو عن اليد عفو عما يحدث منه عندهما
فاتفق جوابهما في الفصلين.
قال:
"ومن قطعت يده فاقتص له من اليد ثم مات فإنه
يقتل المقتص منه" لأنه تبين
أن الجناية كانت قتل عمد وحق المقتص له القود،
واستيفاء القطع لا يوجب سقوط القود كمن كان له
القود إذا استوفى طرف من عليه القود. وعن أبي
يوسف أنه يسقط حقه في القصاص، لأنه لما أقدم
على القطع فقد أبرأه عما وراءه. ونحن نقول:
إنما أقدم على القطع
ج / 4 ص -456-
ظنا
منه أن حقه فيه وبعد السراية تبين أنه في
القود فلم يكن مبرئا عنه بدون العلم به.
قال:
"ومن قتل وليه عمدا فقطع يد قاتله ثم عفا وقد
قضي له بالقصاص أو لم يقض فعلى قاطع اليد دية
اليد عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء عليه"
لأنه استوفى حقه فلا يضمنه، وهذا لأنه استحق
إتلاف النفس بجميع أجزائها، ولهذا لو لم يعف
لا يضمنه، وكذا إذا سرى وما برأ أو ما عفا وما
سرى، أو قطع ثم حز رقبته قبل البرء أو بعده
وصار كما إذا كان له قصاص في الطرف فقطع
أصابعه ثم عفا لا يضمن الأصابع. وله أنه
استوفى غير حقه، لأن حقه في القتل. وهذا قطع
وإبانة، وكان القياس أن يجب القصاص إلا أنه
سقط للشبهة فإن له أن يتلفه تبعا، وإذا سقط
وجب المال، وإنما لا يجب في الحال لأنه يحتمل
أن يصير قتلا بالسراية فيكون مستوفيا حقه،
وملك القصاص في النفس ضروري لا يظهر إلا عند
الاستيفاء أو العفو أو الاعتياض لما أنه تصرف
فيه، فأما قبل ذلك لم يظهر لعدم الضرورة بخلاف
ما إذا سرى لأنه استيفاء. وأما إذا لم يعف وما
سرى، قلنا: إنما يتبين كونه قطعا بغير حق
بالبرء حتى لو قطع وما عفا وبرأ الصحيح أنه
على هذا الخلاف، وإذا قطع ثم حز رقبته قبل
البرء فهو استيفاء ولو حز بعد البرء فهو على
هذا الخلاف هو الصحيح، والأصابع وإن كانت
تابعة قياما بالكف فالكف تابعة لها غرضا،
بخلاف الطرف لأنها تابعة للنفس من كل وجه.
قال:
"ومن له القصاص في الطرف إذا استوفاه ثم سرى
إلى النفس ومات يضمن دية النفس عند أبي حنيفة
وقالا: لا يضمن" لأنه استوفى
حقه وهو القطع، ولا يمكن التقييد بوصف السلامة
لما فيه من سد باب القصاص، إذ الاحتراز عن
السراية ليس في وسعه فصار كالإمام والبزاغ
والحجام والمأمور بقطع اليد. وله أنه قتل بغير
حق لأن حقه في القطع وهذا وقع قتلا ولهذا لو
وقع ظلما كان قتلا. ولأنه جرح أفضى إلى فوات
الحياة في مجرى العادة وهو مسمى القتل، إلا أن
القصاص سقط للشبهة فوجب المال بخلاف ما
استشهدا به من المسائل إلا أنه مكلف فيها
بالفعل، إما تقلدا كالإمام أو عقدا كما في
غيره منها. والواجبات لا تتقيد بوصف السلامة
كالرمي إلى الحربي، وفيما نحن فيه لا التزام
ولا وجوب، إذ هو مندوب إلى العفو فيكون من باب
الإطلاق فأشبه الاصطياد، والله أعلم بالصواب.
باب الشهادة في القتل
قال:
"ومن قتل وله ابنان حاضر وغائب فأقام الحاضر
البينة على القتل ثم قدم
ج / 4 ص -457-
الغائب فإنه يعيد البينة"
عند أبي حنيفة، وقالا: لا يعيد
"وإن كان خطأ لم يعدها بالإجماع"
وكذلك الدين يكون لأبيهما على آخر.
لهما في الخلافية أن القصاص طريقه طريق
الوراثة كالدين، وهذا لأنه عوض عن نفسه فيكون
الملك فيه لمن له الملك في المعوض كما في
الدية، ولهذا لو انقلب مالا يكون للميت، ولهذا
يسقط بعفوه بعد الجرح قبل الموت فينتصب أحد
الورثة خصما عن الباقين. وله أن القصاص طريقه
الخلافة دون الوراثة؛ ألا ترى أن ملك القصاص
يثبت بعد الموت والميت ليس من أهله، بخلاف
الدين والدية لأنه من أهل الملك في الأموال،
كما إذا نصب شبكة فتعلق بها صيد بعد موته فإنه
يملكه، وإذا كان طريقه الإثبات ابتداء لا
ينتصب أحدهم خصما عن الباقين فيعيد البينة بعد
حضوره
"فإن كان أقام القاتل البينة أن الغائب قد عفا
فالشاهد خصم ويسقط القصاص"
لأنه ادعى على الحاضر سقوط حقه في القصاص إلى
مال، ولا يمكنه إثباته إلا بإثبات العفو من
الغائب فينتصب الحاضر خصما عن الغائب
"وكذلك عبد بين رجلين قتل عمدا وأحد الرجلين
غائب فهو على هذا" لما بيناه.
قال:
"فإن كان الأولياء ثلاثة فشهد أثنان منهم على
الآخر أنه قد عفا فشهادتهما باطلة وهو عفو
منهما" لأنهما يجران
بشهادتهما إلى أنفسهما مغنما وهو انقلاب القود
مالا
"فإن صدقهما القاتل فالدية بينهم أثلاثا"
معناه: إذا صدقهما وحده، لأنه لما صدقهما فقد
أقر بثلثي الدية لهما فصح إقراره، إلا أنه
يدعي سقوط حق المشهود عليه وهو ينكر فلا يصدق
ويغرم نصيبه
"وإن كذبهما فلا شيء لهما وللآخر ثلث الدية"
ومعناه: إذا كذبهما القاتل أيضا، وهذا لأنهما
أقرا على أنفسهما بسقوط القصاص فقبل وادعيا
انقلاب نصيبهما مالا فلا يقبل إلا بحجة،
وينقلب نصيب المشهود عليه مالا لأن دعواهما
العفو عليه وهو ينكر بمنزلة ابتداء العفو
منهما في حق المشهود عليه، لأن سقوط القود
مضاف إليهما، وإن صدقهما المشهود عليه وحده
غرم القاتل ثلث الدية للمشهود عليه لإقراره له
بذلك.
قال:
"وإذا شهد الشهود أنه ضربه فلم يزل صاحب فراش
حتى مات فعليه القود إذا كان عمدا"
لأن الثابت بالشهادة كالثابت معاينة، وفي ذلك
القصاص على ما بيناه، والشهادة على قتل العمد
تتحقق على هذا الوجه، لأن الموت بسبب الضرب
إنما يعرف إذا صار بالضرب صاحب فراش حتى مات،
وتأويله إذا شهدوا أنه ضربه بشيء جارح.
قال: "وإذا
اختلف شاهدا القتل في الأيام أو في البلد أو
في الذي كان به القتل فهو باطل"
لأن القتل لا يعاد ولا يكرر، والقتل في زمان
أو في مكان غير القتل في زمان أو مكان آخر،
والقتل بالعصا غير القتل بالسلاح لأن الثاني
عمد والأول شبه العمد، ويختلف أحكامهما
ج / 4 ص -458-
فكان
على كل قتل شهادة فرد
"وكذا إذا قال أحدهما: قتله بعصا وقال الآخر
لا أدري بأي شيء قتله فهو باطل"
لأن المطلق يغاير المقيد.
قال:
"وإن شهدا أنه قتله وقالا: لا ندري بأي شيء
قتله ففيه الدية استحسانا"
والقياس أن لا تقبل هذه الشهادة لأن القتل
يختلف باختلاف الآلة فجهل المشهود به. وجه
الاستحسان أنهم شهدوا بقتل مطلق والمطلق ليس
بمجمل فيجب أقل موجبيه وهو الدية ولأنه يحمل
إجمالهم في الشهادة على إجمالهم بالمشهود عليه
سترا عليه. وأولوا كذبهم في نفي العلم بظاهر
ما ورد بإطلاقه في إصلاح ذات البين وهذا في
معناه، فلا يثبت الاختلاف بالشك، وتجب الدية
في ماله لأن الأصل في الفعل العمد فلا يلزم
العاقلة.
قال:
"وإذا أقر رجلان كل واحد منهما أنه قتل فلانا
فقال الولي: قتلتماه جميعا فله أن يقتلهما،
وإن شهدوا على رجل أنه قتل فلانا وشهد آخرون
على آخر بقتله وقال الولي: قتلتماه جميعا بطل
ذلك كله" والفرق أن الإقرار
والشهادة يتناول كل واحد منهما وجود كل القتل
ووجوب القصاص، وقد حصل التكذيب في الأولى من
المقر له وفي الثانية من المشهود له، غير أن
تكذيب المقر له المقر في بعض ما أقر به لا
يبطل إقراره في الباقي، وتكذيب المشهود له
الشاهد في بعض ما شهد به يبطل شهادته أصلا،
لأن التكذيب تفسيق وفسق الشاهد يمنع القبول،
أما فسق المقر لا يمنع صحة الإقرار، والله
سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
باب في اعتبار حالة القتل
قال:
"ومن رمى مسلما فارتد المرمي إليه والعياذ
بالله ثم وقع به السهم فعلى الرامي الدية عند
أبي حنيفة. وقالا: لا شيء عليه"
لأنه بالارتداد أسقط تقوم نفسه فيكون مبرئا
للرامي عن موجبه كما إذا أبرأه بعد الجرح قبل
الموت. وله أن الضمان يجب بفعله وهو الرمي إذ
لا فعل منه بعد فتعتبر حالة الرمي والمرمي
إليه فيها متقوم. ولهذا تعتبر حالة الرمي في
حق الحل حتى لا يحرم بردة الرامي بعد الرمي،
وكذا في حق التكفير حتى جاز بعد الجرح قبل
الموت. والفعل وإن كان عمدا فالقود سقط للشبهة
ووجبت الدية.
"ولو رمى إليه وهو مرتد فأسلم ثم وقع به السهم
فلا شيء عليه في قولهم جميعا، وكذا إذا رمى
حربيا فأسلم" لأن الرمي ما
انعقد موجبا للضمان لعدم تقوم المحل فلا ينقلب
موجبا لصيرورته متقوما بعد ذلك.
قال:
"وإن رمى عبدا فأعتقه مولاه ثم وقع السهم به
فعليه قيمته للمولى" عند
ج / 4 ص -459-
أبي
حنيفة. وقال محمد: عليه فضل ما بين قيمته
مرميا إلى غير مرمي، وقول أبي يوسف مع قول أبي
حنيفة. له أن العتق قاطع للسراية، وإذا انقطعت
بقي مجرد الرمي وهو جناية ينتقص بها قيمة
المرمي إليه بالإضافة إلى ما قبل الرمي فيجب
ذلك. ولهما أنه يصير قاتلا من وقت الرمي لأن
فعله الرمي وهو مملوك في تلك الحالة فتجب
قيمته، بخلاف القطع والجرح لأنه إتلاف بعض
المحل، وأنه يوجب الضمان للمولى، وبعد السراية
لو وجب شيء لوجب للعبد فتصير النهاية مخالفة
للبداية.
أما الرمي قبل الإصابة ليس بإتلاف شيء منه
لأنه لا أثر له في المحل. وإنما قلت الرغبات
فيه فلا يجب به ضمان فلا تتخالف النهاية
والبداية فتجب قيمته للمولى. وزفر وإن كان
يخالفنا في وجوب القيمة نظرا إلى حالة الإصابة
فالحجة عليه ما حققناه.
قال:
"ومن قضي عليه بالرجم فرماه رجل ثم رجع أحد
الشهود ثم وقع به الحجر فلا شيء على الرامي"
لأن المعتبر حالة الرمي وهو مباح الدم فيها.
"وإذا رمى المجوسي صيدا ثم أسلم ثم
وقعت الرمية بالصيد لم يؤكل، وإن رماه وهو
مسلم ثم تمجس والعياذ بالله أكل"
لأن المعتبر حال الرمي في حق الحل والحرمة إذ
الرمي هو الذكاة فتعتبر الأهلية وانسلابها
عنده.
"ولو رمى المحرم صيدا ثم حل فوقعت الرمية
بالصيد فعليه الجزاء، وإن رمى حلال صيدا ثم
أحرم فلا شيء عليه" لأن
الضمان إنما يجب بالتعدي وهو رميه في حالة
الإحرام، وفي الأول هو محرم وقت الرمي وفي
الثاني حلال فلهذا افترقا، والله أعلم
بالصواب. |