الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -460-       كتاب الديات
قال: "وفي شبه العمد دية مغلظة على العاقلة وكفارة على القاتل" وقد بيناه في أول الجنايات.
قال: "وكفارته عتق رقبة مؤمنة" لقوله تعالى:
{فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} [النساء:92] الآية "فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين" بهذا النص "ولا يجزئ فيه الإطعام" لأنه لم يرد به نص والمقادير تعرف بالتوقيف، ولأنه جعل المذكور كل الواجب بحرف الفاء، أو لكونه كل المذكور على ما عرف "ويجزئه رضيع أحد أبويه مسلم" لأنه مسلم به والظاهر بسلامة أطرافه "ولا يجزئ ما في البطن" لأنه لا تعرف حياته ولا سلامته.
قال: "وهو الكفارة في الخطأ" لما تلوناه "وديته عند أبي حنيفة وأبي يوسف مائة من الإبل أرباعا: خمس وعشرون بنت مخاض، وخمس وعشرون بنت لبون، وخمس وعشرون حقة، وخمس وعشرون جذعة" وقال محمد والشافعي أثلاثا: ثلاثون جذعة وثلاثون حقة، وأربعون ثنية، كلها خلفات في بطونها أولادها، لقوله عليه الصلاة والسلام:
"ألا إن قتيل خطإ العمد قتيل السوط والعصا، وفيه مائة من الإبل أربعون منها في بطونها أولادها" وعن عمر رضي الله عنه: ثلاثون حقة وثلاثون جذعة، ولأن دية شبه العمد أغلظ وذلك فيما قلنا. ولهما قوله عليه الصلاة والسلام: "في نفس المؤمن مائة من الإبل" وما روياه غير ثابت لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم في صفة التغليظ، وابن مسعود رضي الله عنه قال بالتغليظ أرباعا كما ذكرنا وهو كالمرفوع فيعارض به.
قال: "ولا يثبت التغليظ إلا في الإبل خاصة" لأن التوقيف فيه، فإن قضى بالدية في غير الإبل لم تتغلظ لما قلنا.
قال: "وقتل الخطأ تجب به الدية على العاقلة والكفارة على القاتل" لما بينا من قبل.
قال: "والدية في الخطأ مائة من الإبل أخماسا عشرون بنت مخاض وعشرون بنت لبون وعشرون ابن مخاض وعشرون حقة وعشرون جذعة" وهذا قول ابن مسعود رضي الله

 

ج / 4 ص -461-       عنه، وأخذنا نحن والشافعي به لروايته "أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى في قتيل قتل خطأ أخماسا" على نحو ما قال، ولأن ما قلناه أخف فكان أليق بحالة الخطإ لأن الخاطئ معذور، غير أن عند الشافعي يقضي بعشرين ابن لبون مكان ابن مخاض والحجة عليه ما رويناه.
قال: "ومن العين ألف دينار ومن الورق عشرة آلاف درهم" وقال الشافعي: من الورق اثنا عشر ألفا لما روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بذلك. ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه
"أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى بالدية في قتيل بعشرة آلاف درهم". وتأويل ما روي أنه قضى من دراهم كان وزنها وزن ستة وقد كانت كذلك.
قال: "ولا تثبت الدية إلا من هذه الأنواع الثلاثة عند أبي حنيفة، وقالا منها ومن البقر مائتا بقرة، ومن الغنم ألفا شاة، ومن الحلل مائتا حلة كل حلة ثوبان". لأن عمر رضي الله عنه هكذا جعل على أهل كل مال منها. وله أن التقدير إنما يستقيم بشيء معلوم المالية، وهذه الأشياء مجهولة المالية ولهذا لا يقدر بها ضمان، والتقدير بالإبل عرف بالآثار المشهورة وعدمناها في غيرها. وذكر في المعاقل أنه لو صالح على الزيادة على مائتي حلة أو مائتي بقرة لا يجوز، وهذا آية التقدير بذلك. ثم قيل: هو قول الكل فيرتفع الخلاف، وقيل هو قولهما خاصة.
قال: "ودية المرأة على النصف من دية الرجل" وقد ورد هذا اللفظ موقوفا على علي رضي الله عنه ومرفوعا إلى النبي عليه الصلاة والسلام. وقال الشافعي: ما دون الثلث لا يتنصف، وإمامه فيه زيد بن ثابت رضي الله عنه، والحجة عليه ما رويناه بعمومه، ولأن حالها أنقص من حال الرجل ومنفعتها أقل، وقد ظهر أثر النقصان بالتنصيف في النفس فكذا في أطرافها وأجزائها اعتبارا بها وبالثلث وما فوقه.
قال: "ودية المسلم والذمي سواء" وقال الشافعي: دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. وقال مالك: دية اليهودي والنصراني ستة آلاف درهم لقوله عليه الصلاة والسلام:
"عقل الكافر نصف عقل المسلم" والكل عنده اثنا عشر ألفا. وللشافعي ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام جعل دية اليهودي والنصراني أربعة آلاف درهم، ودية المجوسي ثمانمائة درهم. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار" وكذلك قضى أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، وما رواه الشافعي رحمه الله لم يعرف راويه ولم يذكر في كتب الحديث، وما رويناه أشهر مما رواه مالك فإنه ظهر به عمل الصحابة رضي الله عنهم والله أعلم.

 

ج / 4 ص -462-       فصل: فيما دون النفس
قال: "وفي النفس الدية" وقد ذكرناه.
قال: "وفي المارن الدية، وفي اللسان الدية، وفي الذكر الدية" والأصل فيه ما روى سعيد بن المسيب رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"في النفس الدية، وفي اللسان الدية، وفي المارن الدية" وهكذا هو في الكتاب الذي كتبه رسول الله عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم رضي الله عنه. والأصل في الأطراف أنه إذا فوت جنس منفعة على الكمال أو أزال جمالا مقصودا في الآدمي على الكمال يجب كل الدية لإتلافه النفس من وجه وهو ملحق بالإتلاف من كل وجه تعظيما للآدمي. أصله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدية كلها في اللسان والأنف، وعلى هذا تنسحب فروع كثيرة.
فنقول: في الأنف الدية لأنه أزال الجمال على الكمال وهو مقصود، وكذا إذا قطع المارن أو الأرنبة لما ذكرنا، ولو قطع المارن مع القصبة لا يزاد على دية واحدة لأنه عضو واحد، وكذا اللسان لفوات منفعة مقصودة وهو النطق، وكذا في قطع بعضه إذا منع الكلام لتفويت منفعة مقصودة وإن كانت الآلة قائمة، ولو قدر على التكلم ببعض الحروف قيل: تقسم على عدد الحروف، وقيل: على عدد حروف تتعلق باللسان؛ فبقدر ما لا يقدر تجب، وقيل: إن قدر على أداء أكثرها تجب حكومة عدل لحصول الإفهام مع الاختلال، وإن عجز عن أداء الأكثر يجب كل الدية لأن الظاهر أنه لا تحصل منفعة الكلام، وكذا الذكر لأنه يفوت به منفعة الوطء والإيلاد واستمساك البول والرمي به ودفق الماء والإيلاج الذي هو طريق الإعلاق عادة، وكذا في الحشفة الدية كاملة، لأن الحشفة أصل في منفعة الإيلاج والدفق والقصبة كالتابع له.
قال: "وفي العقل إذا ذهب بالضرب الدية" لفوات منفعة الإدراك إذ به ينتفع بنفسه في معاشه ومعاده.
قال: "وكذا إذا ذهب سمعه أو بصره أو شمه أو ذوقه" لأن كل واحد منها منفعة مقصودة، وقد روي: أن عمر رضي الله عنه قضى بأربع ديات في ضربة واحدة ذهب بها العقل والكلام والسمع والبصر.
قال: "وفي اللحية إذا حلقت فلم تنبت الدية" لأنه يفوت به منفعة الجمال.
قال: "وفي شعر الرأس الدية" لما قلنا. وقال مالك: وهو قول الشافعي تجب فيهما حكومة عدل، لأن ذلك زيادة في الآدمي، ولهذا يحلق شعر الرأس كله، واللحية بعضها

 

ج / 4 ص -463-       في بعض البلاد وصار كشعر الصدر والساق ولهذا يجب في شعر العبد نقصان القيمة. ولنا أن اللحية في وقتها جمال وفي حلقها تفويته على الكمال فتجب الدية كما في الأذنين الشاخصتين، وكذا شعر الرأس جمال؛ ألا ترى أن من عدمه خلقة يتكلف في ستره، بخلاف شعر الصدر والساق لأنه لا يتعلق به جمال. وأما لحية العبد فعن أبي حنيفة أنه يجب فيها كمال القيمة، والتخريج على الظاهر أن المقصود بالعبد المنفعة بالاستعمال دون الجمال بخلاف الحر.
قال: "وفي الشارب حكومة عدل هو الأصح" لأنه تابع للحية فصار كبعض أطرافها.
قال: "ولحية الكوسج إن كان على ذقنه شعرات معدودة فلا شيء في حلقه" لأن وجوده يشينه ولا يزينه "وإن كان أكثر من ذلك وكان على الخد والذقن جميعا لكنه غير متصل ففيه حكومة عدل" لأن فيه بعض الجمال "وإن كان متصلا ففيه كمال الدية" لأنه ليس بكوسج وفيه معنى الجمال، وهذا كله إذا فسد المنبت، فإن نبتت حتى استوى كما كان لا يجب شيء لأنه لم يبق أثر الجناية ويؤدب على ارتكابه ما لا يحل، وإن نبتت بيضاء فعن أبي حنيفة أنه لا يجب شيء في الحر لأنه يزيد جمالا، وفي العبد تجب حكومة عدل لأنه ينقص قيمته، وعندهما تجب حكومة عدل لأنه في غير أوانه يشينه ولا يزينه، ويستوي العمد والخطأ على هذا الجمهور. "وفي الحاجبين الدية وفي إحداهما نصف الدية" وعند مالك والشافعي رحمهما الله تجب حكومة عدل، وقد مر الكلام فيه في اللحية.
قال: "وفي العينين الدية، وفي اليدين الدية، وفي الرجلين الدية، وفي الشفتين الدية، وفي الأذنين الدية، وفي الأنثيين الدية" كذا روي في حديث سعيد بن المسيب رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام.
قال: "وفي كل واحد من هذه الأشياء نصف الدية" وفيما كتبه النبي عليه الصلاة والسلام لعمرو بن حزم:
"وفي العينين الدية، وفي إحداهما نصف الدية" ولأن في تفويت الاثنين من هذه الأشياء تفويت جنس المنفعة أو كمال الجمال فيجب كل الدية، وفي تفويت إحداهما تفويت النصف فيجب نصف الدية.
قال: "وفي ثديي المرأة الدية" لما فيه من تفويت جنس المنفعة "وفي إحداهما نصف دية المرأة" لما بينا.

 

ج / 4 ص -464-       قال: "وفي أشفار العينين الدية وفي إحداها ربع الدية" قال رضي الله عنه: يحتمل أن مراده الأهداب مجازا كما ذكره محمد في الأصل للمجاورة كالراوية للقربة وهي حقيقة في البعير، وهذا لأنه يفوت الجمال على الكمال وجنس المنفعة وهي منفعة دفع الأذى والقذى عن العين إذ هو يندفع بالهدب، وإذا كان الواجب في الكل كل الدية وهي أربعة كان في أحدها ربع الدية وفي ثلاثة منها ثلاثة أرباعها، ويحتمل أن يكون مراده منبت الشعر والحكم فيه هكذا. "ولو قطع الجفون بأهدابها ففيه دية واحدة" لأن الكل كشيء واحد وصار كالمارن مع القصبة.
قال: "وفي كل أصبع من أصابع اليدين والرجلين عشر الدية" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"في كل أصبع عشر من الإبل" ولأن في قطع الكل تفويت جنس المنفعة وفيه دية كاملة وهي عشر فتنقسم الدية عليها.
قال: "والأصابع كلها سواء" لإطلاق الحديث، ولأنها سواء في أصل المنفعة فلا تعتبر الزيادة فيه كاليمين مع الشمال، وكذا أصابع الرجلين لأنه يفوت بقطع كلها منفعة المشي فتجب الدية كاملة، ثم فيهما عشر أصابع فتنقسم الدية عليها أعشارا.
قال: "وفي كل أصبع فيها ثلاثة مفاصل؛ ففي أحدها. ثلث دية الأصبع وما فيها مفصلان ففي أحدهما نصف دية الأصبع" وهو نظير انقسام دية اليد على الأصابع.
قال: "وفي كل سن خمس من الإبل" لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه:
"وفي كل سن خمس من الإبل" والأسنان والأضراس كلها سواء لإطلاق ما روينا، ولما روي في بعض الروايات: والأسنان كلها سواء، ولأن كلها في أصل المنفعة سواء فلا يعتبر التفاضل كالأيدي والأصابع، وهذا إذا كان خطأ، فإن كان عمدا ففيه القصاص وقد مر في الجنايات.
قال: "ومن ضرب عضوا فأذهب منفعته ففيه دية كاملة كاليد إذا شلت والعين إذا ذهب ضوءها" لأن المتعلق تفويت جنس المنفعة لا فوات الصورة. "ومن ضرب صلب غيره فانقطع ماؤه تجب الدية" لتفويت جنس المنفعة "وكذا لو أحدبه" لأنه فوت جمالا على الكمال وهو استواء القامة "فلو زالت الحدوبة لا شيء عليه" لزوالها لا عن أثر.

فصل: في الشجاج
قال: "الشجاج عشرة: الحارصة" وهي التي تحرص الجلد: أي تخدشه ولا تخرج الدم "والدامعة" وهي التي تظهر الدم ولا تسيله كالدمع من العين "والدامية" وهي التي تسيل

 

ج / 4 ص -465-       الدم "والباضعة" وهي التي تبضع الجلد أي تقطعه "والمتلاحمة" وهي التي تأخذ في اللحم "والسمحاق" وهي التي تصل إلى السمحاق وهي جلدة رقيقة بين اللحم وعظم الرأس "والموضحة" وهي التي توضح العظم أي تبينه "والهاشمة" وهي التي تهشم العظم: أي تكسره "والمنقلة" وهي التي تنقل العظم بعد الكسر: أي تحوله "والآمة" وهي التي تصل إلى أم الرأس وهو الذي فيه الدماغ.
قال: "ففي الموضحة القصاص إن كانت عمدا" لما روي أنه عليه الصلاة والسلام قضى بالقصاص في الموضحة ولأنه يمكن أن ينتهي السكين إلى العظم فيتساويان فيتحقق القصاص. قال: "ولا قصاص في بقية الشجاج" لأنه لا يمكن اعتبار المساواة فيها لأنه لا حد ينتهي السكين إليه، ولأن فيما فوق الموضحة كسر العظم ولا قصاص فيه، وهذا رواية عن أبي حنيفة. وقال محمد في الأصل وهو ظاهر الرواية: يجب القصاص فيما قبل الموضحة لأنه يمكن اعتبار المساواة فيه، إذ ليس فيه كسر العظم ولا خوف هلاك غالب فيسبر غورها بمسبار ثم تتخذ حديدة بقدر ذلك فيقطع بها مقدار ما قطع فيتحقق استيفاء القصاص.
قال: "وفيما دون الموضحة حكومة عدل" لأنه ليس فيها أرش مقدر ولا يمكن إهداره فوجب اعتباره بحكم العدل، وهو مأثور عن النخعي وعمر بن عبد العزيز رحمه الله.
قال: "وفي الموضحة إن كانت خطأ نصف عشر الدية، وفي الهاشمة عشر الدية، وفي المنقلة عشر الدية ونصف عشر الدية، وفي الآمة ثلث الدية، وفي الجائفة ثلث الدية، فإن نفذت فهما جائفتان ففيهما ثلثا الدية" لما روي في كتاب عمرو بن حزم رضي الله عنه أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"وفي الموضحة خمس من الإبل، وفي الهاشمة عشر، وفي المنقلة خمسة عشر، وفي الآمة" ويروى: "المأمومة ثلث الدية" وقال عليه الصلاة والسلام: "في الجائفة ثلث الدية" وعن أبي بكر رضي الله عنه أنه حكم في جائفة نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية، ولأنها إذا نفذت نزلت منزلة جائفتين إحداهما من جانب البطن والأخرى من جانب الظهر وفي كل جائفة ثلث الدية فلهذا وجب في النافذة ثلثا الدية.
وعن محمد رحمه الله أنه جعل المتلاحمة قبل الباضعة وقال: هي التي يتلاحم فيها الدم ويسود. وما ذكرناه بدءا مروي عن أبي يوسف وهذا اختلاف عبارة لا يعود إلى معنى وحكم وبعد هذا شجة أخرى تسمى الدامغة، وهي التي تصل إلى الدماغ، وإنما لم يذكرها لأنها تقع قتلا في الغالب لا جناية مقتصرة منفردة بحكم على حدة، ثم هذه الشجاج

 

ج / 4 ص -466-       تختص بالوجه والرأس لغة، وما كان في غير الوجه والرأس يسمى جراحة، والحكم مرتب على الحقيقة في الصحيح، حتى لو تحققت في غيرهما نحو الساق واليد لا يكون لها أرش مقدر، وإنما تجب حكومة العدل لأن التقدير بالتوقيف وهو إنما ورد فيما يختص بهما، ولأنه إنما ورد الحكم فيها لمعنى الشين الذي يلحقه ببقاء أثر الجراحة، والشين يختص بما يظهر منها في الغالب وهو العضوان هذان لا سواهما.
وأما اللحيان فقد قيل ليسا من الوجه وهو قول مالك، حتى لو وجد فيهما ما فيه أرش مقدر لا يجب المقدر. وهذا لأن الوجه مشتق من المواجهة، ولا مواجهة للناظر فيهما إلا أن عندنا هما من الوجه لاتصالهما به من غير فاصلة، وقد يتحقق فيه معنى المواجهة أيضا. وقالوا: الجائفة تختص بالجوف: جوف الرأس أو جوف البطن، وتفسير حكومة العدل على ما قاله الطحاوي أن يقوم مملوكا بدون هذا الأثر ويقوم وبه هذا الأثر، ثم ينظر إلى تفاوت ما بين القيمتين، فإن كان نصف عشر القيمة يجب نصف عشر الدية، وإن كان ربع عشر فربع عشر. وقال الكرخي: ينظر كم مقدار هذه الشجة من الموضحة فيجب بقدر ذلك من نصف عشر الدية، لأن ما لا نص فيه يرد إلى المنصوص عليه والله أعلم.

فصل: قال: "وفي أصابع اليد نصف الدية"
لأن في كل أصبع عشر الدية على ما روينا، فكان في الخمس نصف الدية ولأن في قطع الأصابع تفويت جنس منفعة البطش وهو الموجب على ما مر "فإن قطعها مع الكف ففيه أيضا نصف الدية" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف الدية" ولأن الكف تبع للأصابع لأن البطش بها "وإن قطعها مع نصف الساعد ففي الأصابع والكف نصف الدية، وفي الزيادة حكومة عدل" وهو رواية عن أبي يوسف، وعنه أن ما زاد على أصابع اليد والرجل فهو تبع للأصابع إلى المنكب وإلى الفخذ لأن الشرع أوجب في اليد الواحدة نصف الدية، واليد اسم لهذه الجارحة إلى المنكب فلا يزاد على تقدير الشرع ولهما أن اليد آلة باطشة والبطش يتعلق بالكف، والأصابع دون الذراع فلم يجعل الذراع تبعا في حق التضمين ولأنه لا وجه إلى أن يكون تبعا للأصابع لأن بينهما عضوا كاملا ولا إلى أن يكون تبعا للكف لأنه تابع ولا تبع للتبع.
قال: "وإن قطع الكف من المفصل وفيها أصبع واحدة ففيه عشر الدية، وإن كان

 

ج / 4 ص -467-       أصبعين فالخمس، ولا شيء في الكف" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: ينظر إلى أرش الكف والأصبع فيكون عليه الأكثر، ويدخل القليل في الكثير لأنه لا وجه إلى الجمع بين الأرشين لأن الكل شيء واحد، ولا إلى إهدار أحدهم لأن كل واحد منهما أصل من وجه فرجحنا بالكثرة. وله أن الأصابع أصل والكف تابع حقيقة وشرعا، لأن البطش يقوم بها، وأوجب الشرع في أصبع واحدة عشرا من الإبل، والترجيح من حيث الذات والحكم أولى من الترجيح من حيث مقدار الواجب "ولو كان في الكف ثلاثة أصابع يجب أرش الأصابع ولا شيء في الكف بالإجماع" لأن الأصابع أصول في التقويم، وللأكثر حكم الكل فاستتبعت الكف، كما إذا كانت الأصابع قائمة بأسرها.
قال: "وفي الأصبع الزائدة حكومة عدل" تشريفا للآدمي لأنه جزء من يده، ولكن لا منفعة فيه ولا زينة "وكذلك السن الشاغية" لما قلنا. "وفي عين الصبي وذكره ولسانه إذا لم تعلم صحته حكومة عدل" وقال الشافعي: تجب فيه دية كاملة، لأن الغالب فيه الصحة فأشبه قطع المارن والأذن. ولنا أن المقصود من هذه الأعضاء المنفعة، فإن لم يعلم صحتها لا يجب الأرش الكامل بالشك، والظاهر لا يصلح حجة للإلزام بخلاف المارن والأذن الشاخصة، لأن المقصود هو الجمال وقد فوته على الكمال "وكذا لو استهل الصبي" لأنه ليس بكلام وإنما هو مجرد صوت ومعرفة الصحة فيه بالكلام وفي الذكر بالحركة وفي العين بما يستدل به على النظر فيكون حكمه بعد ذلك حكم البالغ في العمد والخطإ.
قال: "ومن شج رجلا فذهب عقله أو شعر رأسه دخل أرش الموضحة في الدية" لأن بفوات العقل تبطل منفعة جميع الأعضاء فصار كما إذا أوضحه فمات، وأرش الموضحة يجب بفوات جزء من الشعر، حتى لو نبت يسقط، والدية بفوات كل الشعر وقد تعلقا بسبب واحد فدخل الجزء في الجملة كما إذا قطع أصبع رجل فشلت يده. وقال زفر: لا يدخل لأن كل واحد منهما جناية فيما دون النفس فلا يتداخلان كسائر الجنايات. وجوابه ما ذكرناه.
قال: "وإن ذهب سمعه أو بصره أو كلامه فعليه أرش الموضحة مع الدية" قالوا: هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وعن أبي يوسف أن الشجة تدخل في دية السمع والكلام ولا تدخل في دية البصر. وجه الأول أن كلا منهما جناية فيما دون النفس والمنفعة مختصة به فأشبه الأعضاء المختلفة، بخلاف العقل لأن منفعته عائدة إلى جميع الأعضاء على ما بينا. ووجه الثاني أن السمع والكلام مبطن فيعتبر بالعقل، والبصر ظاهر فلا يلحق به.

 

ج / 4 ص -468-       قال: "وفي الجامع الصغير: ومن شج رجلا موضحة فذهبت عيناه فلا قصاص في ذلك" عند أبي حنيفة. قالوا: وينبغي أن تجب الدية فيهما "وقالا: في الموضحة القصاص" قالوا: وينبغي أن تجب الدية في العينين.
قال: "وإن قطع أصبع رجل من المفصل الأعلى فشل ما بقي من الأصبع أو اليد كلها لا قصاص عليه في شيء من ذلك" وينبغي أن تجب الدية في المفصل الأعلى وفيما بقي حكومة عدل "وكذلك لو كسر سن رجل فاسود ما بقي" ولم يحك خلافا وينبغي أن تجب الدية في السن كله "ولو قال: اقطع المفصل واترك ما يبس أو اكسر القدر المكسور واترك الباقي لم يكن له ذلك" لأن الفعل في نفسه ما وقع موجبا للقود فصار كما لو شجه منقلة فقال: أشجه موضحة أترك الزيادة. لهما في الخلافية أن الفعل في محلين فيكون جنايتين مبتدأتين فالشبهة في إحداهما لا تتعدى إلى الأخرى، كمن رمى إلى رجل عمدا فأصابه ونفذ منه إلى غيره فقتله يجب القود في الأول والدية في الثاني. وله أن الجراحة الأولى سارية والجزاء بالمثل، وليس في وسعه الساري فيجب المال، ولأن الفعل واحد حقيقة وهو الحركة القائمة، وكذا المحل متحد من وجه لاتصال أحدهما بالآخر فأورثت نهايته شبهة الخطأ في البداية، بخلاف النفسين لأن أحدهما ليس من سراية صاحبه، وبخلاف ما إذا وقع السكين على الأصبع لأنه ليس فعلا مقصودا.
قال: "وإن قطع أصبعا فشلت إلى جنبها أخرى فلا قصاص في شيء من ذلك" عند أبي حنيفة. وقالا هما وزفر والحسن: يقتص من الأولى وفي الثانية أرشها. والوجه من الجانبين قد ذكرناه. وروى ابن سماعة عن محمد في المسألة الأولى وهو ما إذا شج موضحة فذهب بصره أنه يجب القصاص فيهما لأن الحاصل بالسراية مباشرة كما في النفس والبصر يجري فيه القصاص، بخلاف الخلافية الأخيرة لأن الشلل لا قصاص فيه، فصار الأصل عند محمد على هذه الرواية أن سراية ما يجب فيه القصاص إلى ما يمكن فيه القصاص يوجب الاقتصاص كما لو آلت إلى النفس وقد وقع الأول ظلما. ووجه المشهور أن ذهاب البصر بطريق التسبيب؛ ألا يرى أن الشجة بقيت موجبة في نفسها ولا قود في التسبيب، بخلاف السراية إلى النفس لأنه لا تبقى الأولى فانقلبت الثانية مباشرة.
قال: "ولو كسر بعض السن فسقطت فلا قصاص" إلا على رواية ابن سماعة "ولو أوضحه موضحتين فتآكلتا فهو على الروايتين هاتين".

 

ج / 4 ص -469-       قال: "ولو قلع سن رجل فنبتت مكانها أخرى سقط الأرش في قول أبي حنيفة، وقال: عليه الأرش كاملا" لأن الجناية قد تحققت والحادث نعمة مبتدأة من الله تعالى. وله أن الجناية انعدمت معنى فصار كما إذا قلع سن صبي فنبتت لا يجب الأرش بالإجماع لأنه لم يفت عليه منفعة ولا زينة "وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة عدل" لمكان الألم الحاصل "ولو قلع سن غيره فردها صاحبها في مكانها ونبت عليه اللحم فعلى القالع الأرش بكماله" لأن هذا مما لا يعتد به إذ العروق لا تعود "وكذا إذا قطع أذنه فألصقها فالتحمت" لأنها لا تعود إلى ما كانت عليه. "ومن نزع سن رجل فانتزع المنزوعة سنه سن النازع فنبتت سن الأول فعلى الأول لصاحبه خمسمائة درهم" لأنه تبين أنه استوفى بغير حق لأن الموجب فساد المنبت ولم يفسد حيث نبت مكانها أخرى فانعدمت الجناية، ولهذا يستأنى حولا بالإجماع، وكان ينبغي أن ينتظر اليأس في ذلك للقصاص، إلا أن في اعتبار ذلك تضييع الحقوق فاكتفينا بالحول لأنه تنبت فيه ظاهرا، فإذا مضى الحول ولم تنبت قضينا بالقصاص، وإذا نبتت تبين أنا أخطأنا فيه والاستيفاء كان بغير حق، إلا أنه لا يجب القصاص للشبهة فيجب المال.
قال: "ولو ضرب إنسان سن إنسان فتحركت يستأنى حولا" ليظهر أثر فعله "فلو أجله القاضي سنة ثم جاء المضروب وقد سقطت سنه فاختلفا قبل السنة فيما سقط بضربه فالقول للمضروب" ليكون التأجيل مفيدا، وهذا بخلاف ما إذا شجه موضحة فجاء وقد صارت منقلة فاختلفا حيث يكون القول قول الضارب لأن الموضحة لا تورث المنقلة، أما التحريك فيؤثر في السقوط فافترقا "وإن اختلفا في ذلك بعد السنة فالقول للضارب" لأنه ينكر أثر فعله وقد مضى الأجل الذي وقته القاضي لظهور الأثر فكان القول للمنكر "ولو لم تسقط لا شيء على الضارب" وعن أبي يوسف أنه تجب حكومة الألم، وسنبين الوجهين بعد هذا إن شاء الله تعالى "ولو لم تسقط ولكنها اسودت يجب الأرش في الخطإ على العاقلة وفي العمد في ماله، ولا يجب القصاص" لأنه لا يمكنه أن يضربه ضربا تسود منه "وكذا إذا كسر بعضه واسود الباقي" لا قصاص لما ذكرنا "وكذا لو احمر أو اخضر" ولو اصفر فيه روايتان.
قال: "ومن شج رجلا فالتحمت ولم يبق لها أثر ونبت الشعر سقط الأرش" عند أبي حنيفة لزوال الشين الموجب. وقال أبو يوسف: يجب عليه أرش الألم وهو حكومة عدل، لأن الشين إن زال فالألم الحاصل ما زال فيجب تقويمه. وقال محمد: عليه أجرة الطبيب، لأنه إنما لزمه الطبيب وثمن الدواء بفعله فصار كأنه أخذ ذلك من

 

ج / 4 ص -470-       ماله، إلا أن أبا حنيفة يقول: إن المنافع على أصلنا لا تتقوم إلا بعقد أو بشبهة، ولم يوجد في حق الجاني فلا يغرم شيئا.
قال: "ومن ضرب رجلا مائة سوط فجرحه فبرئ منها فعليه أرش الضرب" معناه: إذا بقي أثر الضرب، فأما إذا لم يبق أثره فهو على اختلاف قد مضى في الشجة الملتحمة.
قال: "ومن قطع يد رجل خطأ ثم قتله خطأ قبل البرء فعليه الدية وسقط عنه أرش اليد" لأن الجناية من جنس واحد والموجب واحد وهو الدية وإنها بدل النفس بجميع أجزائها فدخل الطرف في النفس كأنه قتله ابتداء.
قال: "ومن جرح رجلا جراحة لم يقتص منه حتى يبرأ" وقال الشافعي رحمه الله: يقتص منه في الحال اعتبارا بالقصاص في النفس، وهذا لأن الموجب قد قد تحقق فلا يعطل. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام:
"يستأنى في الجراحات سنة" ولأن الجراحات يعتبر فيها مآلها لا حالها لأن حكمها في الحال غير معلوم فلعلها تسري إلى النفس فيظهر أنه قتل وإنما يستقر الأمر بالبرء.
قال: "وكل عمد سقط القصاص فيه بشبهة فالدية في مال القاتل، وكل أرش وجب بالصلح فهو في مال القاتل" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا تعقل العواقل عمدا" الحديث. وهذا عمد، غير أن الأول يجب في ثلاث سنين لأنه مال وجب بالقتل ابتداء فأشبه شبه العمد. والثاني يجب حالا لأنه مال وجب بالعقد فأشبه الثمن في البيع.
قال: "وإن قتل الأب ابنه عمدا فالدية في ماله في ثلاث سنين" وقال الشافعي رحمه الله: تجب حالة لأن الأصل أن ما يجب بالإتلاف يجب حالا، والتأجيل للتخفيف في الخاطئ وهذا عامد فلا يستحقه، ولأن المال وجب جبرا لحقه، وحقه في نفسه حال فلا ينجبر بالمؤجل. ولنا أنه مال واجب بالقتل فيكون مؤجلا كدية الخطإ وشبه العمد، وهذا لأن القياس يأبى تقوم الآدمي بالمال لعدم التماثل، والتقويم ثبت بالشرع وقد ورد به مؤجلا لا معجلا فلا يعدل عنه لا سيما إلى زيادة، ولما لم يجز التغليط باعتبار العمدية قدرا لا يجوز وصفا "وكل جناية اعترف بها الجاني فهي في ماله ولا يصدق على عاقلته" لما روينا، ولأن الإقرار لا يتعدى المقر لقصور ولايته عن غيره فلا يظهر في حق العاقلة.
قال: "وعمد الصبي والمجنون خطأ وفيه الدية" على العاقلة، وكذلك كل جناية موجبها خمسمائة فصاعدا والمعتوه كالمجنون "وقال الشافعي رحمه الله: عمده عمد حتى تجب الدية في ماله حالة" لأنه عمد حقيقة، إذ العمد هو القصد غير أنه تخلف عنه أحد حكميه وهو

 

ج / 4 ص -471-       القصاص فينسحب عليه حكمه الآخر وهو الوجوب في ماله، ولهذا تجب الكفارة به، ويحرم عن الميراث على أصله لأنهما يتعلقان بالقتل. ولنا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه جعل عقل المجنون على عاقلته، وقال: عمده وخطؤه سواء، ولأن الصبي مظنة المرحمة، والعاقل الخاطئ لما استحق التخفيف حتى وجبت الدية على العاقلة فالصبي وهو أعذر أولى بهذا التخفيف. ولا نسلم تحقق العمدية فإنها تترتب على العلم والعلم بالعقل، والمجنون عديم العقل والصبي قاصر العقل فأنى يتحقق منهما القصد وصار كالنائم. وحرمان الميراث عقوبة، وهما ليسا من أهل العقوبة والكفارة كاسمها ستارة: ولا ذنب تستره لأنهما مرفوعا القلم والله أعلم.

فصل: في الجنين
قال: "وإذا ضرب بطن امرأة فألقت جنينا ميتا ففيه غرة وهي نصف عشر الدية" قال رضي الله عنه: معناه دية الرجل، وهذا في الذكر، وفي الأنثى عشر دية المرأة وكل منهما خمسمائة درهم. والقياس أن لا يجب شيء لأنه لم يتيقن بحياته، والظاهر لا يصلح حجة للاستحقاق. وجه الاستحسان ما روي أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: "في الجنين غرة عبد أو أمة قيمته خمسمائة" ويروى "أو خمسمائة" فتركنا القياس بالأثر، وهو حجة على من قدرها بستمائة نحو مالك والشافعي "وهي على العاقلة" عندنا إذا كانت خمسمائة درهم. وقال مالك: في ماله لأنه بدل الجزء. ولنا أنه عليه الصلاة والسلام: "قضى بالغرة على العاقلة"، ولأنه بدل النفس ولهذا سماه عليه الصلاة والسلام دية حيث قال: "دوه" وقالوا: "أندي من لا صاح ولا استهل" الحديث، إلا أن العواقل لا تعقل ما دون خمسمائة. "وتجب في سنة" وقال الشافعي رحمه الله: في ثلاث سنين لأنه بدل النفس ولهذا يكون موروثا بين ورثته. ولنا ما روي عن محمد بن الحسن رحمه الله أنه قال: "بلغنا أن رسول الله عليه الصلاة والسلام جعله على العاقلة في سنة" ولأنه إن كان بدل النفس من حيث إنه نفس على حدة فهو بدل العضو من حيث الاتصال بالأم فعملنا بالشبه الأول في حق التوريث، وبالثاني في حق التأجيل إلى سنة، لأن بدل العضو إذا كان ثلث الدية أو أقل أكثر من نصف العشر يجب في سنة، بخلاف أجزاء الدية لأن كل جزء منها على من وجب يجب في ثلاث سنين "ويستوي فيه الذكر والأنثى" لإطلاق ما روينا، ولأن في الحيين إنما ظهر التفاوت لتفاوت معاني الآدمية ولا تفاوت في الجنين فيقدر بمقدار واحد وهو خمسمائة. "فإن ألقته حيا ثم مات ففيه دية كاملة" لأنه أتلف حيا بالضرب السابق "وإن ألقته ميتا ثم ماتت الأم فعليه دية بقتل الأم وغرة بإلقائها" وقد صح "أنه عليه الصلاة والسلام قضى في هذا بالدية والغرة" "وإن ماتت الأم من

 

ج / 4 ص -472-       الضربة ثم خرج الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه دية في الأم ودية في الجنين" لأنه قاتل شخصين "وإن ماتت ثم ألقت ميتا فعليه دية في الأم ولا شيء في الجنين" وقال الشافعي: تجب الغرة في الجنين لأن الظاهر موته بالضرب فصار كما إذا ألقته ميتا وهي حية. ولنا أن موت الأم أحد سببي موته لأنه يختنق بموتها إذ تنفسه بتنفسها فلا يجب الضمان بالشك.
قال: "وما يجب في الجنين موروث عنه" لأنه بدل نفسه فيرثه ورثته "ولا يرثه الضارب، حتى لو ضرب بطن امرأته فألقت ابنه ميتا فعلى عاقلة الأب غرة ولا يرث منها" لأنه قاتل بغير حق مباشرة ولا ميراث للقاتل.
قال: "وفي جنين الأمة إذا كان ذكرا نصف عشر قيمته لو كان حيا وعشر قيمته لو كان أنثى" وقال الشافعي: فيه عشر قيمة الأم، لأنه جزء من وجه، وضمان الأجزاء يؤخذ مقدارها من الأصل. ولنا أنه بدل نفسه لأن ضمان الطرف لا يجب إلا عند ظهور النقصان، ولا معتبر في ضمان الجنين فكان بدل نفسه فيقدر بها. وقال أبو يوسف: يجب ضمان النقصان لو انتقصت الأم اعتبارا بجنين البهائم، وهذا لأن الضمان في قتل الرقيق ضمان مال عنده على ما نذكر إن شاء الله تعالى، فصح الاعتبار على أصله.
قال: "فإن ضربت فأعتق المولى ما في بطنها ثم ألقته حيا ثم مات ففيه قيمته حيا ولا تجب الدية وإن مات بعد العتق" لأنه قتله بالضرب السابق وقد كان في حالة الرق فلهذا تجب القيمة دون الدية، وتجب قيمته حيا لأنه بالضرب صار قاتلا إياه وهو حي فنظرنا إلى حالتي السبب والتلف. وقيل: هذا عندهما، وعند محمد تجب قيمته ما بين كونه مضروبا إلى كونه غير مضروب، لأن الإعتاق قاطع للسراية على ما يأتيك بعد إن شاء الله تعالى.
قال: "ولا كفارة في الجنين" وعند الشافعي تجب لأنه نفس من وجه فتجب الكفارة احتياطا. ولنا أن الكفارة فيها معنى العقوبة وقد عرفت في النفوس المطلقة فلا تتعداها ولهذا لم يجب كل البدل. قالوا: إلا أن يشاء ذلك لأنه ارتكب محظورا، فإذا تقرب إلى الله تعالى كان أفضل له ويستغفر مما صنع "والجنين الذي قد استبان بعض خلقه بمنزلة الجنين التام في جميع هذه الأحكام" لإطلاق ما روينا، ولأنه ولد في حق أمومية الولد وانقضاء العدة والنفاس وغير ذلك، فكذا في حق هذا الحكم، ولأن بهذا القدر يتميز من العلقة والدم فكان نفسها، والله أعلم.

 

ج / 4 ص -473-       باب ما يحدث الرجل في الطريق
قال: "ومن أخرج إلى الطريق الأعظم كنيفا أو ميزابا أو جرصنا أو بنى دكانا فلرجل من عرض الناس أن ينزعه" لأن كل واحد صاحب حق بالمرور بنفسه وبدوابه فكان له حق النقض، كما في الملك المشترك فإن لكل واحد حق النقض لو أحدث غيرهم فيه شيئا فكذا في الحق المشترك.
قال: "ويسع للذي عمله أن ينتفع به ما لم يضر بالمسلمين" لأن له حق المرور ولا ضرر فيه فليلحق ما في معناه به، إذ المانع متعنت، فإذا أضر بالمسلمين كره له ذلك لقوله عليه الصلاة والسلام:
"لا ضرر ولا ضرار في الإسلام".
قال: "وليس لأحد من أهل الدرب الذي ليس بنافذ أن يشرع كنيفا أو ميزابا إلا بإذنهم" لأنها مملوكة لهم ولهذا وجبت الشفعة لهم على كل حال، فلا يجوز التصرف أضر بهم أو لم يضر إلا بإذنهم. وفي الطريق النافذ له التصرف إلا إذا أضر لأنه يتعذر الوصول إلى إذن الكل، فجعل في حق كل واحد كأنه هو المالك وحده حكما كي لا يتعطل عليه طريق الانتفاع، ولا كذلك غير النافذ لأن الوصول إلى إرضائهم ممكن فبقي على الشركة حقيقة وحكما.
قال: "وإذا أشرع في الطريق روشنا أو ميزابا أو نحوه فسقط على إنسان فعطب فالدية على عاقلته" لأنه سبب لتلفه متعد بشغله هواء الطريق، وهذا من أسباب الضمان وهو الأصل، وكذلك إذا سقط شيء مما ذكرنا في أول الباب "وكذا إذا تعثر بنقضه إنسان أو عطبت به دابة، وإن عثر بذلك رجل فوقع على آخر فماتا فالضمان على الذي أحدثه فيهما" لأنه يصير كالدافع إياه عليه "وإن سقط الميزاب بطرفان أصاب ما كان منه في الحائط رجلا فقتله فلا ضمان عليه" لأنه غير متعد فيه لما أنه وضعه في ملكه "وإن أصابه ما كان خارجا من الحائط فالضمان على الذي وضعه فيه" لكونه متعديا فيه، ولا ضرورة لأنه يمكنه أن يركبه في الحائط ولا كفارة عليه، ولا يحرم عن الميراث لأنه ليس بقاتل حقيقة.
"ولو أصابه الطرفان جميعا وعلم ذلك وجب نصف الدية وهدر النصف كما إذا جرحه سبع وإنسان، ولو لم يعلم أي طرف أصابه يضمن النصف" اعتبارا للأحوال.
"ولو أشرع جناحا إلى الطريق ثم باع الدار فأصاب الجناح رجلا فقتله أو وضع خشبة في الطريق ثم باع الخشبة وبرئ إليه منها فتركها المشتري حتى عطب بها إنسان فالضمان

 

ج / 4 ص -474-       على البائع" لأن فعله وهو الوضع لم ينفسخ بزوال ملكه وهو الموجب "ولو وضع في الطريق جمرا فأحرق شيئا يضمنه" لأنه متعد فيه.
"ولو حركته الريح إلى موضع آخر ثم أحرق شيئا لا يضمنه" لنسخ الريح فعله، وقيل إذا كان اليوم ريحا يضمنه لأنه فعله مع علمه بعاقبته وقد أفضى إليها فجعل كمباشرته.
"ولو استأجر رب الدار الفعلة لإخراج الجناح أو الظلة فوقع فقتل إنسانا قبل أن يفرغوا من العمل فالضمان عليهم" لأن التلف بفعلهم "وما لم يفرغوا لم يكن العمل مسلما إلى رب الدار" وهذا لأنه انقلب فعلهم قتلا حتى وجبت عليهم الكفارة، والقتل غير داخل في عقده فلم يتسلم فعلهم إليه فاقتصر عليهم "وإن سقط بعد فراغهم فالضمان على رب الدار استحسانا" لأنه صح الاستئجار حتى استحقوا الأجر ووقع فعلهم عمارة وإصلاحا فانتقل فعلهم إليه فكأنه فعل بنفسه فلهذا يضمنه "وكذا إذا صب الماء في الطريق فعطب به إنسان أو دابة، وكذا إذا رش الماء أو توضأ" لأنه متعد فيه بإلحاق الضرر بالمارة "بخلاف ما إذا فعل ذلك في سكة غير نافذة وهو من أهلها أو قعد أو وضع متاعه" لأن لكل واحد أن يفعل ذلك فيها لكونه من ضرورات السكنى كما في الدار المشتركة. قالوا: هذا إذا رش ماء كثيرا بحيث يزلق به عادة، أما إذا رش ماء قليلا كما هو المعتاد والظاهر أنه لا يزلق به عادة لا يضمن.
"ولو تعمد المرور في موضع صب الماء فسقط لا يضمن الراش" لأنه صاحب علة. وقيل: هذا إذا رش بعض الطريق لأنه يجد موضعا للمرور لا أثر للماء فيه، فإذا تعمد المرور على موضع صب الماء مع علمه بذلك لم يكن على الراش شيء، وإن رش جميع الطريق يضمن لأنه مضطر في المرور؛ وكذلك الحكم في الخشبة الموضوعة في الطريق في أخذها جميعه أو بعضه.
"ولو رش فناء حانوت بإذن صاحبه فضمان ما عطب على الآمر استحسانا. وإذا استأجر أجيرا ليبني له في فناء حانوته فتعقل به إنسان بعد فراغه فمات يجب الضمان على الآمر استحسانا، ولو كان أمره بالبناء في وسط الطريق فالضمان على الأجير" لفساد الأمر.
قال: "ومن حفر بئرا في طريق المسلمين أو وضع حجرا فتلف بذلك إنسان فديته على عاقلته، وإن تلفت به بهيمة فضمانها في ماله" لأنه متعد فيه فيضمن ما يتولد منه، غير أن العاقلة تتحمل النفس دون المال فكان ضمان البهيمة في ماله وإلقاء التراب واتخاذ الطين في الطريق بمنزلة إلقاء الحجر والخشبة لما ذكرنا، بخلاف ما إذا كنس الطريق فعطب بموضع كنسه إنسان حيث لم يضمن لأنه ليس بمتعد فإنه ما أحدث شيئا فيه إنما قصد دفع

 

ج / 4 ص -475-       الأذى عن الطريق، حتى لو جمع الكناسة في الطريق وتعقل بها إنسان كان ضامنا لتعديه بشغله.
"ولو وضع حجرا فنحاه غيره عن موضعه فعطب به إنسان فالضمان على الذي نحاه" لأن حكم فعله قد انتسخ لفراغ ما شغله، وإنما اشتغل بالفعل الثاني موضع آخر.
"وفي الجامع الصغير في البالوعة يحفرها الرجل في الطريق، فإن أمره السلطان بذلك أو أجبره عليه لم يضمن" لأنه غير متعد حيث فعل ما فعل بأمر من له الولاية في حقوق العامة "وإن كان بغير أمره فهو متعد" إما بالتصرف في حق غيره أو بالافتيات على رأي الإمام أو هو مباح مقيد بشرط السلامة، وكذا الجواب على هذا التفصيل في جميع ما فعل في طريق العامة مما ذكرناه وغيره لأن المعنى لا يختلف "وكذا إن حفره في ملكه لا يضمن" لأنه غير متعد "وكذا إذا حفره في فناء داره" لأن له ذلك لمصلحة داره والفناء في تصرفه. وقيل هذا إذا كان الفناء مملوكا له أو كان له حق الحفر فيه لأنه غير متعد، أما إذا كان لجماعة المسلمين أو مشتركا بأن كان في سكة غير نافذة فإنه يضمنه لأنه مسبب متعد وهذا صحيح.
"ولو حفر في الطريق ومات الواقع فيه جوعا أو غما لا ضمان على الحافر" عند أبي حنيفة رحمه الله لأنه مات لمعنى في نفسه فلا يضاف إلى الحفر، والضمان إنما يجب إذا مات من الوقوع. وقال أبو يوسف رحمه الله: إن مات جوعا فكذلك، وإن مات غما فالحافر ضامن له لأنه لا سبب للغم سوى الوقوع، أما الجوع فلا يختص بالبئر. وقال محمد: هو ضامن في الوجوه كلها، لأنه إنما حدث بسبب الوقوع، إذ لولاه لكان الطعام قريبا منه.
قال: "وإن استأجر أجراء فحفروها له في غير فنائه فذلك على المستأجر ولا شيء على الأجراء إن لم يعلموا أنها في غير فنائه" لأن الإجارة صحت ظاهرا إذا لم يعلموا فنقل فعلهم إليه لأنهم كانوا مغرورين، فصار كما إذا أمر آخر بذبح هذه الشاة فذبحها ثم ظهر أن الشاة لغيره، إلا أن هناك يضمن المأمور ويرجع على الآمر لأن الذابح مباشر والآمر مسبب والترجيح للمباشرة فيضمن المأمور ويرجع المغرور، وهنا يجب الضمان على المستأجر ابتداء لأن كل واحد منهما مسبب والأجير غير متعد والمستأجر متعد فيرجح جانبه "وإن علموا ذلك فالضمان على الأجراء" لأنه لم يصح أمره بما ليس بمملوك له ولا غرور فبقي الفعل مضافا إليهم "وإن قال لهم: هذا فنائي وليس لي فيه حق الحفر فحفروا ومات فيه إنسان فالضمان على الأجراء قياسا" لأنهم علموا بفساد الأمر فما غرهم "وفي الاستحسان الضمان

 

ج / 4 ص -476-       على المستأجر" لأن كونه فناء له بمنزلة كونه مملوكا له لانطلاق يده في التصرف فيه من إلقاء الطين والحطب وربط الدابة والركوب وبناء الدكان فكان الأمر بالحفر في ملكه ظاهرا بالنظر إلى ما ذكرنا فكفى ذلك لنقل الفعل إليه.
قال: "ومن جعل قنطرة بغير إذن الإمام فتعمد رجل المرور عليها فعطب فلا ضمان على الذي عمل القنطرة، وكذلك إذا وضع خشبة في الطريق فتعمد رجل المرور عليها" لأن الأول تعد هو تسبيب، والثاني تعد هو مباشرة فكانت الإضافة إلى المباشر أولى، ولأن تخلل فعل فاعل مختار يقطع النسبة كما في الحافر مع الملقي.
قال: "ومن حمل شيئا في الطريق فسقط على إنسان فعطب به إنسان فهو ضامن، وكذا إذا سقط فتعثر به إنسان وإن كان رداء قد لبسه فسقط عنه فعطب به إنسان لم يضمن" وهذا اللفظ يشمل الوجهين، والفرق أن حامل الشيء قاصد حفظه فلا حرج في التقييد بوصف السلامة، واللابس لا يقصد حفظ ما يلبسه فيخرج بالتقييد بما ذكرنا فجعلناه مباحا مطلقا. وعن محمد أنه إذا لبس ما لا يلبسه عادة فهو كالحامل لأن الحاجة لا تدعو إلى لبسه.
قال: "وإذا كان المسجد للعشيرة فعلق رجل منهم فيه قنديلا أو جعل فيه بواري أو حصاة فعطب به رجل لم يضمن، وإن كان الذي فعل ذلك من غير العشيرة ضمن" قالوا: هذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن في الوجهين جميعا، لأن هذه من القرب وكل أحد مأذون في إقامتها فلا يتقيد بشرط السلامة، كما إذا فعله بإذن واحد من أهل المسجد. ولأبي حنيفة وهو الفرق أن التدبير فيما يتعلق بالمسجد لأهله دون غيرهم كنصب الإمام واختيار المتولي وفتح بابه وإغلاقه وتكرار الجماعة إذا سبقهم بها غير أهله فكان فعلهم مباحا مطلقا غير مقيد بشرط السلامة وفعل غيرهم تعديا أو مباحا مقيدا بشرط السلامة، وقصد القربة لا ينافي الغرامة إذا أخطأ الطريق كما إذا تفرد بالشهادة على الزنا والطريق فيما نحن فيه الاستئذان من أهله.
قال: "وإن جلس فيه رجل منهم فعطب به رجل لم يضمن إن كان في الصلاة، وإن كان في غير الصلاة ضمن" وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا يضمن على كل حال. ولو كان جالسا لقراءة القرآن أو للتعليم أو للصلاة أو نام فيه في أثناء الصلاة أو في غير الصلاة أو مر فيه مارا أو قعد فيه لحديث فهو على هذا الاختلاف.
وأما المعتكف فقد قيل على هذا الاختلاف، وقيل لا يضمن بالاتفاق. لهما أن

 

ج / 4 ص -477-       المسجد إنما بني للصلاة والذكر ولا يمكنه أداء الصلاة بالجماعة إلا بانتظارها فكان الجلوس فيه مباحا لأنه من ضرورات الصلاة، أو لأن المنتظر للصلاة في الصلاة حكما بالحديث فلا يضمن كما إذا كان في الصلاة. وله أن المسجد إنما بني للصلاة، وهذه الأشياء ملحقة بها فلا بد من إظهار التفاوت فجعلنا الجلوس للأصل مباحا مطلقا والجلوس لما يلحق به مباحا مقيدا بشرط السلامة ولا غرو أن يكون الفعل مباحا أو مندوبا إليه وهو مقيد بشرط السلامة كالرمي إلى الكافر أو إلى الصيد والمشي في الطريق والمشي في المسجد إذا وطئ غيره والنوم فيه إذا انقلب على غيره.
"وإن جلس رجل من غير العشيرة فيه للصلاة فتعقل به إنسان ينبغي أن لا يضمن" لأن المسجد بني للصلاة وأمر الصلاة بالجماعة إن كان مفوضا إلى أهل المسجد فلكل واحد من المسلمين أن يصلي فيه وحده، والله سبحانه وتعالى أعلم.

فصل: في الحائط المائل
قال: "وإذا مال الحائط إلى طريق المسلمين فطولب صاحبه بنقضه وأشهد عليه فلم ينقضه في مدة يقدر على نقضه حتى سقط ضمن ما تلف به من نفس أو مال" والقياس أن لا يضمن لأنه لا صنع منه مباشرة، والمباشرة شرط هو متعد فيه، لأن أصل البناء كان في ملكه، والميلان وشغل الهواء ليس من فعله فصار كما قبل الإشهاد. وجه الاستحسان أن الحائط لما مال إلى الطريق فقد اشتمل هواء طريق المسلمين بملكه ورفعه في يده، فإذا تقدم إليه وطولب بتفريغه يجب عليه فإذا امتنع صار متعديا بمنزلة ما لو وقع ثوب إنسان في حجره يصير متعديا بالامتناع عن التسليم إذا طولب به كذا هذا، بخلاف ما قبل الإشهاد لأنه بمنزلة هلاك الثوب قبل الطلب، ولأنا لو لم نوجب عليه الضمان يمتنع عن التفريغ فينقطع المارة حذرا على أنفسهم فيتضررون به، ودفع الضرر العام من الواجب وله تعلق بالحائط فيتعين لدفع هذا الضرر، وكم من ضرر خاص يتحمل لدفع العام منه، ثم فيما تلف به من النفوس تجب الدية وتتحملها العاقلة، لأنه في كونه جناية دون الخطأ فيستحق فيه التخفيف بالطريق الأولى كي لا يؤدي إلى استئصاله والإجحاف به، وما تلف به من الأموال كالدواب والعروض يجب ضمانها في ماله، لأن العواقل لا تعقل المال والشرط التقدم إليه وطلب النقض منه دون الإشهاد، وإنما ذكر الإشهاد ليتمكن من إثباته عند إنكاره فكان من باب الاحتياط. وصورة الإشهاد أن يقول الرجل: اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في هدم حائطه هذا، ولا يصح الإشهاد قبل أن يهي الحائط لانعدام التعدي.

 

ج / 4 ص -478-       قال: "ولو بنى الحائط مائلا في الابتداء قالوا: يضمن ما تلف بسقوطه من غير إشهاد" لأن البناء تعد ابتداء كما في إشراع الجناح.
قال: "وتقبل شهادة رجلين أو رجل وامرأتين على التقدم" لأن هذه ليست بشهادة على القتل، وشرط الترك في مدة يقدر على نقضه فيها لأنه لا بد من إمكان النقض ليصير بتركه جانيا، ويستوي أن يطالبه بنقضه مسلم أو ذمي، لأن الناس كلهم شركاء في المرور فيصح التقدم إليه من كل واحد منهم رجلا كان أو امرأة حرا كان أو مكاتبا، ويصح التقدم إليه عند السلطان وغيره لأنه مطالبة بالتفريغ فيتفرد كل صاحب حق به.
قال: "وإن مال إلى دار رجل فالمطالبة إلى مالك الدار خاصة" لأن الحق له على الخصوص، وإن كان فيها سكان لهم أن يطالبوه لأن لهم المطالبة بإزالة ما شغل الدار فكذا بإزالة ما شغل هواءها، ولو أجله صاحب الدار أو أبرأه منها أو فعل ذلك ساكنوها فذلك جائز، ولا ضمان عليه فيما تلف بالحائط لأن الحق لهم، بخلاف ما إذا مال إلى الطريق فأجله القاضي أو من أشهد عليه حيث لا يصح، لأن الحق لجماعة المسلمين وليس إليهما إبطال حقهم. ولو باع الدار بعدما أشهد عليه وقبضها المشتري برئ من ضمانه لأن الجناية بترك الهدم مع تمكنه وقد زال تمكنه بالبيع، بخلاف إشراع الجناح لأنه كان جانيا بالوضع ولم ينفسخ بالبيع فلا يبرأ على ما ذكرنا، ولا ضمان على المشتري لأنه لم يشهد عليه، ولو أشهد عليه بعد شرائه فهو ضامن لتركه التفريغ مع تمكنه بعدما طولب به، والأصل أنه يصح التقدم إلى كل من يتمكن من نقض الحائط وتفريغ الهواء، ومن لا يتمكن منه لا يصح التقدم إليه كالمرتهن والمستأجر والمودع وساكن الدار، ويصح التقدم إلى الراهن لقدرته على ذلك بواسطة الفكاك وإلى الوصي وإلى أبي اليتيم أو أمه في حائط الصبي لقيام الولاية، وذكر الأم في الزيادات والضمان في مال اليتيم لأن فعل هؤلاء كفعله، وإلى المكاتب لأن الولاية له، وإلى العبد التاجر سواء كان عليه دين أو لم يكن لأن ولاية النقض له، ثم التلف بالسقوط إن كان ما لا فهو في عتق العبد، وإن كان نفسا فهو على عاقلة المولى لأن الإشهاد من وجه على المولى وضمان المال أليق بالعبد وضمان النفس بالمولى، ويصح التقدم إلى أحد الورثة في نصيبه وإن كان لا يتمكن من نقض الحائط وحده لتمكنه من إصلاح نصيبه بطريقه وهو المرافعة إلى القاضي. "ولو سقط الحائط المائل على إنسان بعد الإشهاد فقتله فتعثر بالقتيل غيره فعطب لا يضمنه" لأن التفريغ عنه إلى الأولياء لا إليه.

 

ج / 4 ص -479-       قال: "وإن عطب بالنقض ضمنه" لأن التفريغ إليه إذ النقض ملكه والإشهاد على الحائط إشهاد على النقض لأن المقصود امتناع الشغل.
قال: "ولو عطب بجرة كانت على الحائط فسقطت بسقوطه وهي ملكه ضمنه" لأن التفريغ إليه "وإن كان ملك غيره لا يضمنه" لأن التفريغ إلى مالكها.
قال: "وإن كان الحائط بين خمسة رجال أشهد على أحدهم فقتل إنسانا ضمن خمس الدية ويكون ذلك على عاقلته، وإن كانت دار بين ثلاثة نفر فحفر أحدهم فيها بئرا والحفر كان بغير رضا الشريكين الآخرين أو بنى حائطا فعطب به إنسان فعليه ثلثا الدية على عاقلته، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: عليه نصف الدية على عاقلته في الفصلين" لهما أن التلف بنصيب من أشهد عليه معتبر، وبنصيب من لم يشهد عليه هدر، فكانا قسمين فانقسم نصفين كما مر في عقر الأسد ونهش الحية وجرح الرجل. وله أن الموت حصل بعلة واحدة وهو الثقل المقدر والعمق المقدر، لأن أصل ذلك ليس بعلة وهو القليل حتى يعتبر كل جزء علة فتجتمع العلل، وإذا كان كذلك يضاف إلى العلة الواحدة ثم تقسم على أربابها بقدر الملك، بخلاف الجراحات فإن كل جراحة علة للتلف بنفسها صغرت أو كبرت على ما عرف، إلا أن عند المزاحمة أضيف إلى الكل لعدم الأولوية، والله أعلم.

باب جناية البهيمة والجناية عليها
قال: "الراكب ضامن لما أوطأت الدابة ما أصابت بيدها أو رجلها أو رأسها أو كدمت أو خبطت، وكذا إذا صدمت ولا يضمن ما نفحت برجلها أو ذنبها" والأصل أن المرور في طريق المسلمين مباح مقيد بشرط السلامة لأنه يتصرف في حقه من وجه وفي حق غيره من وجه لكونه مشتركا بين كل الناس فقلنا بالإباحة مقيدا بما ذكرنا ليعتدل النظر من الجانبين، ثم إنما يتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه ولا يتقيد بها فيما لا يمكن التحرز عنه لما فيه من المنع عن التصرف وسد بابه وهو مفتوح، والاحتراز عن الإيطاء وما يضاهيه ممكن، فإنه ليس من ضرورات التيسير فقيدناه بشرط السلامة عنه، والنفحة بالرجل والذنب ليس يمكنه الاحتراز عنه مع السير على الدابة فلم يتقيد به.
قال: "فإن أوقفها في الطريق ضمن النفحة أيضا" لأنه يمكنه التحرز عن الإيقاف وإن لم يمكنه عن النفحة فصار متعديا في الإيقاف وشغل الطريق به فيضمنه.
قال: "وإن أصابت بيدها أو برجلها حصاة أو نواة أو أثارت غبارا أو حجرا صغيرا ففقأ عين إنسان أو أفسد ثوبه لم يضمن، وإن كان حجرا كبيرا ضمن" لأنه في الوجه الأول

 

ج / 4 ص -480-       لا يمكن التحرز عنه، إذ سير الدواب لا يعرى عنه، وفي الثاني ممكن لأنه ينفك عن السير عادة، وإنما ذلك بتعنيف الراكب، والمرتدف فيما ذكرنا كالراكب لأن المعنى لا يختلف.
قال: "فإن راثت أو بالت في الطريق وهي تسير فعطب به إنسان لم يضمن" لأنه من ضرورات السير فلا يمكنه الاحتراز عنه.
قال: "وكذا إذا أوقفها لذلك" لأن من الدواب ما لا يفعل ذلك إلا بالإيقاف، وإن أوقفها لغير ذلك فعطب إنسان بروثها أو بولها ضمن لأنه متعد في هذا الإيقاف لأنه ليس من ضرورات السير، ثم هو أكثر ضررا بالمارة من السير لما أنه أدوم منه فلا يلحق به.
قال: "والسائق ضامن لما أصابت بيدها أو رجلها والقائد ضامن لما أصابت بيدها دون رجلها" والمراد النفحة. قال رضي الله عنه: هكذا ذكره القدوري في مختصره، وإليه مال بعض المشايخ. ووجهه أن النفحة بمرأى عين السائق فيمكنه الاحتراز عنه وغائب عن بصر القائد فلا يمكنه التحرز عنه. وقال أكثر المشايخ: إن السائق لا يضمن النفحة أيضا وإن كان يراها، إذ ليس على رجلها ما يمنعها به فلا يمكنه التحرز عنه، بخلاف الكدم لإمكانه كبحها بلجامها. وبهذا ينطق أكثر النسخ وهو الأصح. وقال الشافعي: يضمنون النفحة كلهم لأن فعلها مضاف إليهم، والحجة عليه ما ذكرناه، وقوله عليه الصلاة والسلام:
"الرجل جبار" ومعناه النفحة بالرجل، وانتقال الفعل بتخويف القتل كما في المكره وهذا تخويف بالضرب.
قال: "وفي الجامع الصغير وكل شيء ضمنه الراكب ضمنه السائق والقائد" لأنهما مسببان بمباشرتهما شرط التلف وهو تقريب الدابة إلى مكان الجناية فيتقيد بشرط السلامة فيما يمكن الاحتراز عنه كالراكب.
قال: "إلا أن على الراكب الكفارة" فيما أوطأته الدابة بيدها أو برجلها "ولا كفارة عليها" ولا على الراكب فيما وراء الإبطاء، لأن الراكب مباشر فيه لأن التلف بثقله وثقل الدابة تبع له، لأن سير الدابة مضاف إليه وهي آلة له وهما مسببان لأنه لا يتصل منهما إلى المحل شيء، وكذا الراكب في غير الإيطاء، والكفارة حكم المباشرة لا حكم التسبب، وكذا يتعلق بالإيطاء في حق الراكب حرمان الميراث والوصية دون السائق والقائد لأنه يختص بالمباشرة.
قال: "ولو كان راكب وسائق قيل: لا يضمن السائق ما أوطأت الدابة" لأن الراكب

 

ج / 4 ص -481-       مباشر فيه لما ذكرناه والسائق مسبب، والإضافة إلى المباشر أولى. وقيل: الضمان عليهما لأن كل ذلك سبب الضمان.
قال: "وإذا اصطدم فارسان فماتا فعلى عاقلة كل واحد منهما دية الآخر" وقال زفر والشافعي: يجب على عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر لما روي ذلك عن علي رضي الله عنه، ولأن كل واحد منهما مات بفعله وفعل صاحبه، لأنه بصدمته آلم نفسه وصاحبه فيهدر نصفه ويعتبر نصفه، كما إذا كان الاصطدام عمدا، أو جرح كل واحد منهما نفسه وصاحبه جراحة أو حفرا على قارعة الطريق بئرا فانهار عليهما يجب على كل واحد منهما النصف فكذا هذا. ولنا أن الموت يضاف إلى فعل صاحبه لأن فعله في نفسه مباح وهو المشي في الطريق فلا يصلح مستندا للإضافة في حق الضمان، كالماشي إذا لم يعلم بالبئر ووقع فيها لا يهدر شيء من دمه، وفعل صاحبه وإن كان مباحا، لكن الفعل المباح في غيره سبب للضمان كالنائم إذا انقلب على غيره. وروي عن علي رضي الله عنه أنه أوجب على كل واحد منهما كل الدية فتعارضت روايتاه فرجحنا بما ذكرنا، وفيما ذكر من المسائل الفعلان محظوران فوضح الفرق. هذا الذي ذكرنا إذا كانا حرين في العمد والخطإ، ولو كانا عبدين يهدر الدم في الخطإ لأن الجناية تعلقت برقبته دفعا وفداء، وقد فاتت لا إلى خلف من غير فعل المولى فهدر ضرورة، وكذا في العمد لأن كل واحد منهما هلك بعدما جنى ولم يخلف بدلا، ولو كان أحدهما حرا والآخر عبدا ففي الخطإ تجب على عاقلة الحر المقتول قيمة العبد فيأخذها ورثة المقتول الحر، ويبطل حق الحر المقتول في الدية فيما زاد على القيمة؛ لأن أصل أبي حنيفة ومحمد تجب القيمة على العاقلة لأنه ضمان الآدمي فقد أخلف بدلا بهذا القدر فيأخذه ورثة الحر المقتول ويبطل ما زاد عليه لعدم الخلف، وفي العمد يجب على عاقلة الحر نصف قيمة العبد لأن المضمون هو النصف في العمد، وهذا القدر يأخذه ولي المقتول، وما على العبد في رقبته وهو نصف دية الحر يسقط بموته إلا قدر ما أخلف من البدل وهو نصف القيمة.
قال: "ومن ساق دابة فوقع السرج على رجل فقتله ضمن، وكذا على هذا سائر أدواته كاللجام ونحوه، وكذا ما يحمل عليها" لأنه متعد في هذا التسبيب، لأن الوقوع بتقصير منه وهو ترك الشد أو الإحكام فيه، بخلاف الرداء لأنه لا يشد في العادة، ولأنه قاصد لحفظ هذه الأشياء كما في المحمول على عاتقه دون اللباس على ما مر من قبل فيقيد بشرط السلامة.
قال: "ومن قاد قطارا فهو ضامن لما أوطأ"، فإن وطئ بعير إنسانا ضمن به القائد والدية على العاقلة لأن القائد عليه حفظ القطار كالسائق وقد أمكنه ذلك وقد صار متعديا

 

ج / 4 ص -482-       بالتقصير فيه، والتسبب بوصف التعدي سبب للضمان، إلا أن ضمان النفس على العاقلة فيه وضمان المال في ماله "وإن كان معه سائق فالضمان عليهما" لأن قائد الواحد قائد للكل، وكذا سائقه لاتصال الأزمة، وهذا إذا كان السائق في جانب من الإبل.
أما إذا كان توسطها وأخذ بزمام واحد يضمن ما عطب بما هو خلفه، ويضمنان ما تلف بما بين يديه لأن القائد لا يقود ما خلف السائق لانفصام الزمام، والسائق يسوق ما يكون قدامه.
قال: "وإن ربط رجل بعيرا إلى القطار والقائد لا يعلم فوطئ المربوط إنسانا فقتله فعلى عاقلة القائد الدية" لأنه يمكنه صيانة القطار عن ربط غيره، فإذا ترك الصيانة صار متعديا، وفي التسبيب الدية على العاقلة كما في القتل الخطإ "ثم يرجعون بها على عاقلة الرابط" لأنه هو الذي أوقعهم في هذه العهدة، وإنما لا يجب الضمان عليهما في الابتداء وكل منهما مسبب لأن الربط من القود بمنزلة التسيب من المباشرة لاتصال التلف بالقود دون الربط. قالوا: هذا إذا ربط والقطار يسير لأنه أمر بالقود دلالة، فإذا لم يعلم به لا يمكنه التحفظ من ذلك فيكون قرار الضمان على الرابط.
أما إذا ربط والإبل قيام ثم قادها ضمنها القائد لأنه قاد بعير غيره بغير إذنه لا صريحا ولا دلالة فلا يرجع بما لحقه عليه.
قال: "ومن أرسل بهيمة وكان لها سائقا فأصابت في فورها يضمنه" لأن الفعل انتقل إليه بواسطة السوق.
قال: "ولو أرسل طيرا وساقه فأصاب في فوره لم يضمن" والفرق أن بدن البهيمة يحتمل السوق فاعتبر سوقه والطير لا يحتمل السوق فصار وجود السوق وعدمه بمنزلة، وكذا لو أرسل كلبا ولم يكن له سائقا لم يضمن، ولو أرسله إلى صيد ولم يكن له سائقا فأخذ الصيد وقتله حل. ووجه الفرق أن البهيمة مختارة في فعلها ولا تصلح نائبة عن المرسل فلا يضاف فعلها إلى غيرها، هذا هو الحقيقة، إلا أن الحاجة مست في الاصطياد فأضيف إلى المرسل لأن الاصطياد مشروع ولا طريق له سواه ولا حاجة في حق ضمان العدوان. وروي عن أبي يوسف أنه أوجب الضمان في هذا كله احتياطا صيانة لأموال الناس.
قال رضي الله عنه: وذكر في المبسوط إذا أرسل دابة في طريق المسلمين فأصابت في فورها فالمرسل ضامن؛ لأن سيرها مضاف إليه ما دامت تسير على سننها، ولو انعطفت

 

ج / 4 ص -483-       يمنة أو يسرة انقطع حكم الإرسال إلا إذا لم يكن له طريق آخر سواه وكذا إذا وقفت ثم سارت بخلاف ما إذا وقفت بعد الإرسال في الاصطياد ثم سارت فأخذت الصيد، لأن تلك الوقفة تحقق مقصود المرسل لأنه لتمكنه من الصيد، وهذه تنافي مقصود المرسل وهو السير فينقطع حكم الإرسال، وبخلاف ما إذا أرسله إلى صيد فأصاب نفسا أو مالا في فوره لا يضمنه من أرسله، وفي الإرسال في الطريق يضمنه لأن شغل الطريق تعد فيضمن ما تولد منه، أما الإرسال للاصطياد فمباح ولا تسبيب إلا بوصف التعدي.
قال: "ولو أرسل بهيمة فأفسدت زرعا على فوره ضمن المرسل، وإن مالت يمينا أو شمالا" وله طريق آخر لا يضمن لما مر، ولو انفلتت الدابة فأصابت مالا أو آدميا ليلا أو نهارا "لا ضمان على صاحبها" لقوله عليه الصلاة والسلام:
"جرح العجماء جبار" وقال محمد رحمه الله: هي المنفلتة، ولأن الفعل غير مضاف إليه لعدم ما يوجب النسبة إليه من الإرسال وأخواته.
قال: "شاة لقصاب فقئت عينها ففيها ما نقصها" لأن المقصود منها هو اللحم فلا يعتبر إلا النقصان "وفي عين بقرة الجزار وجزوره ربع القيمة، وكذا في عين الحمار والبغل والفرس" وقال الشافعي: فيه النقصان أيضا اعتبارا بالشاة. ولنا ما روي
"أن النبي عليه الصلاة والسلام قضى في عين الدابة بربع القيمة" وهكذا قضى عمر رضي الله عنه، ولأن فيها مقاصد سوى اللحم كالحمل والركوب والزينة والجمال والعمل، فمن هذا الوجه تشبه الآدمي وقد تمسك للأكل، فمن هذا الوجه تشبه المأكولات فعملنا بالشبهين بشبه الآدمي في إيجاب الربع وبالشبه الآخر في نفي النصف، ولأنه إنما يمكن إقامة العمل بها بأربعة أعين عيناها وعينا المستعمل فكأنها ذات أعين أربعة فيجب الربع بفوات إحداها.
قال: "ومن سار على دابة في الطريق فضربها رجل أو نخسها فنفحت رجلا أو ضربته بيدها أو نفرت فصدمته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب" هو المروي عن عمر وابن مسعود رضي الله عنهما، ولأن الراكب والمركب مدفوعان بدفع الناخس فأضيف فعل الدابة إليه كأنه فعله بيده، ولأن الناخس متعد في تسبيبه والراكب في فعله غير متعد فيترجح جانبه في التغريم للتعدي، حتى لو كان واقفا دابته على الطريق يكون الضمان على الراكب والناخس نصفين لأنه متعد في الإيقاف أيضا.
قال: "وإن نفحت الناخس كان دمه هدرا" لأنه بمنزلة الجاني على نفسه "وإن ألقت الراكب فقتلته كان ديته على عاقلة الناخس" لأنه متعد في تسبيبه وفيه الدية على العاقلة.

 

ج / 4 ص -484-       قال: "ولو وثبت بنخسه على رجل أو وطئته فقتلته كان ذلك على الناخس دون الراكب" لما بيناه، والواقف في ملكه والذي يسير في ذلك سواء. وعن أبي يوسف أنه يجب الضمان على الناخس والراكب نصفين، لأن التلف حصل بثقل الراكب ووطء الدابة، والثاني مضاف إلى الناخس فيجب الضمان عليهما، وإن نخسها بإذن الراكب كان ذلك بمنزلة فعل الراكب لو نخسها، ولا ضمان عليه في نفحتها لأنه أمره بما يملكه، إذ النخس في معنى السوق فصح أمره به، وانتقل إليه لمعنى الأمر.
قال: "ولو وطئت رجلا في سيرها وقد نخسها الناخس بإذن الراكب فالدية عليهما نصفين جميعا إذا كانت في فورها الذي نخسها" لأن سيرها في تلك الحالة مضاف إليهما، والإذن يتناول فعله من حيث السوق ولا يتناوله من حيث إنه إتلاف، فمن هذا الوجه يقتصر عليه، والركوب وإن كان علة للوطء فالنخس ليس بشرط لهذه العلة بل هو شرط أو علة للسير والسير علة للوطء وبهذا لا يترجح صاحب العلة، كمن جرح إنسانا فوقع في بئر حفرها غيره على قارعة الطريق ومات فالدية عليهما لما أن الحفر شرط علة أخرى دون علة الجرح كذا هذا. ثم قيل: يرجع الناخس على الراكب بما ضمن في الإيطاء لأنه فعله بأمره. وقيل: لا يرجع وهو الأصح فيما أراه، لأنه لم يأمره بالإيطاء والنخس ينفصل عنه، وصار كما إذا أمر صبيا يستمسك على الدابة بتسييرها فوطئت إنسانا ومات حتى ضمن عاقلة الصبي فإنهم لا يرجعون على الآمر لأنه أمره بالتسيير والإيطاء ينفصل عنه، وكذا إذا ناوله سلاحا فقتل به آخر حتى ضمن لا يرجع على الآمر، ثم الناخس إنما يضمن إذا كان الإيطاء في فور النخس حتى يكون السوق مضافا إليه، وإذا لم يكن في فور ذلك فالضمان على الراكب لانقطاع أثر النخس فبقي السوق مضافا إلى الراكب على الكمال. "ومن قاد دابة فنخسها رجل فانفلتت من يد القائد فأصابت في فورها فهو على الناخس وكذا إذا كان لها سائق فنخسها غيره" لأنه مضاف إليه، والناخس إذا كان عبدا فالضمان في رقبته، وإن كان صبيا ففي ماله لأنهما مؤاخذان بأفعالهما "ولو نخسها شيء منصوب في الطريق فنفحت إنسانا فقتلته فالضمان على من نصب ذلك الشيء" لأنه متعد بشغل الطريق فأضيف إليه كأنه نخسها بفعله، والله أعلم.

باب جناية المملوك والجناية عليه
قال: "وإذا جنى العبد جناية خطإ قيل لمولاه: إما أن تدفعه بها أو تفديه" وقال الشافعي: جنايته في رقبته يباع فيها إلا أن يقضي المولى الأرش، وفائدة الاختلاف

 

ج / 4 ص -485-       في اتباع الجاني بعد العتق. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضوان الله عليهم. له أن الأصل في موجب الجناية أن يجب على المتلف لأنه هو الجاني، إلا أن العاقلة تتحمل عنه، ولا عاقلة للعبد لأن العقل عندي بالقرابة ولا قرابة بين العبد ومولاه فتجب في ذمته كما في الدين. ويتعلق برقبته يباع فيه كما في الجناية على المال. ولنا أن الأصل في الجناية على الآدمي حالة الخطإ أن تتباعد عن الجاني تحرزا عن استئصاله والإجحاف به، إذ هو معذور فيه حيث لم يتعمد الجناية، وتجب على عاقلة الجاني إذا كان له عاقلة، والمولى عاقلته لأن العبد يستنصر به.
والأصل في العاقلة عندنا النصرة حتى تجب على أهل الديوان. بخلاف الذمي لأنهم لا يتعاقلون فيما بينهم فلا عاقلة فتجب في ذمته صيانة للدم عن الهدر، وبخلاف الجناية على المال؛ لأن العواقل لا تعقل المال، إلا أنه يخير بين الدفع والفداء لأنه واحد، وفي إثبات الخيرة نوع تخفيف في حقه كي لا يستأصل، غير أن الواجب الأصلي هو الدفع في الصحيح، ولهذا يسقط الموجب بموت العبد لفوات محل الواجب وإن كان له حق النقل إلى الفداء كما في مال الزكاة، بخلاف موت الجاني الحر لأن الواجب لا يتعلق بالحر استيفاء فصار كالعبد في صدقة الفطر.
قال: "فإن دفعه ملكه ولي الجناية وإن فداه فداه بأرشها وكل ذلك يلزم حالا" أما الدفع فلأن التأجيل في الأعيان باطل وعند اختياره الواجب عين. وأما الفداء فلأنه جعل بدلا عن العبد في الشرع وإن كان مقدرا بالمتلف ولهذا سمي فداء فيقوم مقامه ويأخذ حكمه فلهذا وجب حالا كالمبدل "وأيهما اختاره وفعله لا شيء لولي الجناية غيره" أما الدفع فلأن حقه متعلق به، فإذا خلى بينه وبين الرقبة سقط. وأما الفداء فلأنه لا حق له إلا الأرش، فإذا أوفاه حقه سلم العبد له، فإن لم يختر شيئا حتى مات العبد بطل حق المجني عليه لفوات محل حقه على ما بيناه، وإن مات بعدما اختار الفداء لم يبرأ لتحول الحق من رقبة العبد إلى ذمة المولى.
قال: "فإن عاد فجنى كان حكم الجناية الثانية كحكم الجناية الأولى" معناه بعد الفداء لأنه لما طهر عن الجناية بالفداء جعل كأن لم تكن، وهذا ابتداء جناية.
قال: "وإن جنى جنايتين قيل للمولى إما أن تدفعه إلى ولي الجنايتين يقتسمانه على قدر حقيهما وإما أن تفديه بأرش كل واحد واحد منهما" لأن تعلق الأول برقبته لا يمنع تعلق الثانية بها كالديون المتلاحقة؛ ألا ترى أن ملك المولى لم يمنع تعلق الجناية فحق المجني

 

ج / 4 ص -486-       عليه الأول أولى أن لا يمنع، ومعنى قوله على قدر حقيهما على قدر أرش جنايتهما "وإن كانوا جماعة يقتسمون العبد المدفوع على قدر حصصهم وإن فداه فداه بجميع أروشهم" لما ذكرنا "ولو قتل واحدا وفقأ عين آخر" يقتسمانه أثلاثا "لأن أرش العين على النصف من أرش النفس"، وعلى هذا حكم الشجات "وللمولى أن يفدي من بعضهم ويدفع إلى بعضهم مقدار ما تعلق به حقه من العبد" لأن الحقوق مختلفة باختلاف أسبابها وهي الجنايات المختلفة، بخلاف مقتول العبد إذا كان له وليان لم يكن له أن يفدي من أحدهما ويدفع إلى الآخر لأن الحق متحد لاتحاد سببه وهي الجناية المتحدة، والحق يجب للمقتول ثم للوارث خلافة عنه فلا يملك التفريق في موجبها.
قال: "فإن أعتقه المولى وهو لا يعلم بالجناية ضمن الأقل من قيمته ومن أرشها، وإن أعتقه بعد العلم بالجناية وجب عليه الأرش" لأن في الأول فوت حقه فيضمنه وحقه في أقلهما، ولا يصير مختارا للفداء لأنه لا اختيار بدون العلم، وفي الثاني صار مختارا لأن الإعتاق يمنعه من الدفع فالإقدام عليه اختيار منه للآخر، وعلى هذين الوجهين البيع والهبة والتدبير والاستيلاد، لأن كل ذلك مما يمنع الدفع لزوال الملك به، بخلاف الإقرار على رواية الأصل لأنه لا يسقط به حق ولي الجناية، فإنه المقر له يخاطب بالدفع إليه. وليس فيه نقل الملك لجواز أن يكون الأمر كما قاله المقر وألحقه الكرخي بالبيع وأخواته لأنه ملكه في الظاهر فيستحقه المقر له بإقراره فأشبه البيع. وإطلاق الجواب في الكتاب ينتظم النفس وما دونها، وكذا المعنى لا يختلف وإطلاق البيع ينتظم البيع بشرط الخيار للمشتري لأنه يزيل الملك، بخلاف ما إذا كان الخيار للبائع ونقضه، وبخلاف العرض على البيع لأن الملك ما زال، ولو باعه بيعا فاسدا لم يصر مختارا حتى يسلمه لأن الزوال به، بخلاف الكتابة الفاسدة لأن موجبه يثبت قبل قبض البدل فيصير بنفسه مختارا، ولو باعه مولاه من المجني عليه فهو مختار، بخلاف ما إذا وهبه منه؛ لأن المستحق له أخذه بغير عوض وهو متحقق في الهبة دون البيع، وإعتاق المجني عليه بأمر المولى بمنزلة إعتاق المولى فيما ذكرناه، لأن فعل المأمور مضاف إليه، ولو ضربه فنقصه فهو مختار إذا كان عالما بالجناية لأنه حبس جزءا منه وكذا إذا كانت بكرا فوطئها وإن لم يكن معلقا لما قلنا بخلاف التزويج لأنه عيب من حيث الحكم، وبخلاف وطء الثيب على ظاهر الرواية لأنه لا ينقص من غير إعلاق، وبخلاف الاستخدام لأنه لا يختص بالملك، ولهذا لا يسقط به خيار الشرط ولا يصير مختارا بالإجارة والرهن في الأظهر من الروايات، وكذا بالإذن في التجارة وإن ركبه دين، لأن الإذن لا يفوت الدفع ولا ينقص الرقبة، إلا أن لولي الجناية أن يمتنع من قبوله

 

ج / 4 ص -487-       لأن الدين لحقه من جهة المولى فلزم المولى قيمته.
قال: "ومن قال لعبده إن قتلت فلانا أو رميته أو شججته فأنت حر فهو مختار للفداء إن فعل ذلك" وقال زفر: لا يصير مختارا للفداء لأن وقت تكلمه لا جناية ولا علم له بوجوده، وبعد الجناية لم يوجد منه فعل يصير به مختارا.
ألا ترى أنه لو علق الطلاق أو العتاق بالشرط ثم حلف أن لا يطلق أو لا يعتق وجد الشرط وثبت العتق والطلاق لا يحنث في يمينه تلك، كذا هذا. ولنا أنه علق الإعتاق بالجناية والمعلق بالشرط ينزل عند وجود الشرط كالمنجز فصار كما إذا أعتقه بعد الجناية.
ألا يرى أن من قال لامرأته إن دخلت الدار فوالله لا أقربك يصير ابتداء الإيلاء من وقت الدخول، وكذا إذا قال لها إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا فمرض حتى طلقت ومات من ذلك المرض يصير فارا لأنه يصير مطلقا بعد وجود المرض، بخلاف ما أورد لأن غرضه طلاق أو عتق يمكنه الامتناع عنه، إذ اليمين للمنع فلا يدخل تحته ما لا يمكنه الامتناع عنه، ولأنه حرضه على مباشرة الشرط بتعليق أقوى الدواعي إليه والظاهر أنه يفعله، فهذا دلالة الاختيار.
قال: "وإذا قطع العبد يد رجل عمدا فدفع إليه بقضاء أو بغير قضاء فأعتقه ثم مات من قطع اليد فالعبد صلح بالجناية، وإن لم يعتقه رد على المولى وقيل للأولياء اقتلوه أو اعفوا عنه" ووجه ذلك وهو أنه إذا لم يعتقه وسرى تبين أن الصلح وقع باطلا لأن الصلح كان عن المال؛ لأن أطراف العبد لا يجري القصاص بينها وبين أطراف الحر فإذا سرى تبين أن المال غير واجب، وإنما الواجب هو القود فكان الصلح واقعا بغير بدل فبطل والباطل لا يورث الشبهة، كما إذا وطئ المطلقة الثلاث في عدتها مع العلم بحرمتها عليه فوجب القصاص، بخلاف ما إذا أعتقه لأن إقدامه على الإعتاق يدل على قصده تصحيح الصلح لأن الظاهر أن من أقدم على تصرف يقصد تصحيحه ولا صحة له إلا وأن يجعل صلحا عن الجناية وما يحدث منها ولهذا لو نص عليه ورضي المولى به يصح وقد رضي المولى به لأنه لما رضي بكون العبد عوضا عن القليل يكون أرضى بكونه عوضا عن الكثير فإذا أعتق يصح الصلح في ضمن الإعتاق ابتداء وإذا لم يعتق لم يوجد الصلح ابتداء والصلح الأول وقع باطلا فيرد العبد إلى المولى والأولياء على خيرتهم في العفو والقتل. وذكر في بعض النسخ: رجل قطع يد رجل عمدا فصالح القاطع المقطوعة يده على عبد ودفعه إليه فأعتقه المقطوعة يده ثم مات من ذلك فالعبد صلح بالجناية إلى آخر ما ذكرنا من الرواية. وهذا الوضع يرد

 

ج / 4 ص -488-       إشكالا فيما إذا عفا عن اليد ثم سرى إلى النفس ومات حيث لا يجب القصاص هنالك، وهاهنا قال يجب. قيل ما ذكر هاهنا جواب القياس فيكون الوضعان جميعا على القياس والاستحسان. وقيل بينهما فرق، ووجهه أن العفو عن اليد صح ظاهرا لأن الحق كان له في اليد من حيث الظاهر فيصح العفو ظاهرا، فبعد ذلك وإن بطل حكما يبقى موجودا حقيقة فكفى ذلك لمنع وجوب القصاص. أما هاهنا الصلح لا يبطل الجناية بل يقررها حيث صالح عنها على مال، فإذا لم يبطل الجناية لم تمتنع العقوبة، هذا إذا لم يعتقه، أما إذا أعتقه فالتخريج ما ذكرناه من قبل.
قال: "وإذا جنى العبد المأذون له جناية وعليه ألف درهم فأعتقه المولى ولم يعلم بالجناية فعليه قيمتان: قيمة لصاحب الدين، وقيمة لأولياء الجناية" لأنه أتلف حقين كل واحد منهما مضمون بكل القيمة على الانفراد: الدفع للأولياء، والبيع للغرماء، فكذا عند الاجتماع. ويمكن الجمع بين الحقين إيفاء من الرقبة الواحدة بأن يدفع إلى ولي الجناية ثم يباع للغرماء فيضمنها بالإتلاف بخلاف ما إذا أتلفه أجنبي حيث تجب قيمة واحدة للمولى ويدفعها المولى إلى الغرماء، لأن الأجنبي إنما يضمن للمولى بحكم الملك فلا يظهر في مقابلته الحق لأنه دونه، وهاهنا يجب لكل واحد منهما بإتلاف الحق فلا ترجيح فيظهران فيضمنهما.
قال: "وإذا استدانت الأمة المأذون لها أكثر من قيمتها ثم ولدت فإنه يباع الولد معها في الدين، وإن جنت جناية لم يدفع الولد معها" والفرق أن الدين وصف حكمي فيها واجب في ذمتها متعلق برقبتها استيفاء فيسري إلى الولد كولد المرهونة، بخلاف الجناية لأن وجوب الدفع في ذمة المولى لا في ذمتها، وإنما يلاقيها أثر الفعل الحقيقي وهو الدفع والسراية في الأوصاف الشرعية دون الأوصاف الحقيقية.
قال: "وإذا كان العبد لرجل زعم رجل آخر أن مولاه أعتقه فقتل العبد وليا لذلك الرجل الزاعم خطأ فلا شيء له" لأنه لما زعم أن مولاه أعتقه فقد ادعى الدية على العاقلة وأبرأ العبد والمولى إلا أنه لا يصدق على العاقلة من غير حجة.
قال: "وإذا أعتق العبد فقال لرجل قتلت أخاك خطأ وأنا عبد وقال الآخر قتلته وأنت حر فالقول قول العبد" لأنه منكر للضمان لما أنه أسنده إلى حالة معهودة منافية للضمان، إذ الكلام فيما إذا عرف رقه، والوجوب في جناية العبد على المولى دفعا أو فداء، وصار كما إذا قال البالغ العاقل طلقت امرأتي وأنا صبي أو بعت داري وأنا صبي، أو قال طلقت امرأتي

 

ج / 4 ص -489-       وأنا مجنون أو بعت داري وأنا مجنون وقد كان جنونه معروفا كان القول قوله لما ذكرنا.
قال: "ومن أعتق جارية ثم قال لها قطعت يدك وأنت أمتي وقالت قطعتها وأنا حرة فالقول قولها، وكذلك كل ما أخذ منها إلا الجماع والغلة استحسانا، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد: لا يضمن إلا شيئا قائما بعينه يؤمر برده عليها" لأنه منكر وجوب الضمان لإسناده الفعل إلى حالة معهودة منافية له كما في المسألة الأولى وكما في الوطء والغلة. وفي الشيء القائم أقر بيدها حيث اعترف بالأخذ منها ثم ادعى التملك عليها وهي منكرة والقول قول المنكر فلهذا يؤمر بالرد إليها، ولهما أنه أقر بسبب الضمان ثم ادعى ما يبرئه فلا يكون القول قوله كما إذا قال لغيره فقأت عينك اليمنى وعيني اليمنى صحيحة ثم فقئت وقال المقر له: لا بل فقأتها وعينك اليمنى مفقوءة فإن القول قول المقر له، وهذا لأنه ما أسنده إلى حالة منافية للضمان لأنه يضمن يدها لو قطعها وهي مديونة، وكذا يضمن مال الحربي إذا أخذه وهو مستأمن، بخلاف الوطء والغلة لأن وطء المولى أمته المديونة لا يوجب العقر، وكذا أخذه من غلتها، وإن كانت مديونة لا يوجب الضمان عليه فحصل الإسناد إلى حالة معهودة منافية للضمان.
قال: "وإذا أمر العبد المحجور عليه صبيا حرا بقتل رجل فقتله فعلى عاقلة الصبي الدية" لأنه هو القاتل حقيقة، وعمده وخطؤه سواء على ما بينا من قبل "ولا شيء على الآمر" وكذا إذا كان الآمر صبيا لأنهما لا يؤاخذان بأقوالهما؛ لأن المؤاخذة فيها باعتبار الشرع وما اعتبر قولهما، ولا رجوع لعاقلة الصبي على الصبي الآمر أبدا، ويرجعون على العبد الآمر بعد الإعتاق لأن عدم الاعتبار لحق المولى وقد زال لا لنقصان أهلية العبد، بخلاف الصبي لأنه قاصر الأهلية.
قال: "وكذلك إن أمر عبدا" معناه أن يكون الآمر عبدا والمأمور عبدا محجورا عليهما "يخاطب مولى القاتل بالدفع أو الفداء" ولا رجوع له على الأول في الحال، ويجب أن يرجع بعد العتق بأقل من الفداء وقيمة العبد لأنه غير مضطر في دفع الزيادة، وهذا إذا كان القتل خطأ، وكذا إذا كان عمدا والعبد القاتل صغيرا لأن عمده خطأ، أما إذا كان كبيرا يجب القصاص لجريانه بين الحر والعبد.
قال: "وإذا قتل العبد رجلين عمدا ولكل واحد منهما وليان فعفا أحد وليي كل واحد منهما فإن المولى يدفع نصفه إلى الآخرين أو يفديه بعشرة آلاف درهم" لأنه لما عفا أحد ولي كل واحد منهما سقط القصاص وانقلب مالا فصار كما لو وجب المال من الابتداء،

 

ج / 4 ص -490-       وهذا لأن حقهم في الرقبة أو في عشرين ألفا وقد سقط نصيب العافيين وهو النصف وبقي النصف.
"فإن كان قتل أحدهما عمدا والآخر خطأ فعفا أحد وليي العمد فإن فداه المولى فداه بخمسة عشر ألفا خمسة آلاف للذي لم يعف من وليي العمد وعشرة آلاف لوليي الخطأ" لأنه لما انقلب العمد مالا كان حق وليي الخطإ في كل الدية عشرة آلاف، وحق أحد وليي العمد في نصفها خمسة آلاف، ولا تضايق في الفداء فيجب خمسة عشر ألفا "وإن دفعه دفعه إليهم أثلاثا: ثلثاه لوليي الخطإ، وثلثه لغير العافي من وليي العمد عند أبي حنيفة وقالا: يدفعه أرباعا: ثلاثة أرباعه لوليي الخطإ، وربعه لولي العمد" فالقسمة عندهما بطريق المنازعة، فيسلم النصف لوليي الخطإ بلا منازعة، واستوت منازعة الفريقين في النصف الآخر فيتنصف، فلهذا يقسم أرباعا. وعنده يقسم بطريق العول والمضاربة أثلاثا، لأن الحق تعلق بالرقبة أصله التركة المستغرقة بالديون فيضرب هذا بالكل وذلك بالنصف، ولهذه المسألة نظائر وأضداد ذكرناها في الزيادات.
قال: "وإذا كان عبد بين رجلين فقتل مولى لهما" أي قريبا لهما "فعفا أحدهما بطل الجميع عند أبي حنيفة، وقالا: يدفع الذي عفا نصف نصيبه إلى الآخر أو يفديه بربع الدية" وذكر في بعض النسخ قتل وليا لهما، والمراد القريب أيضا، وذكر في بعض النسخ قول محمد مع أبي حنيفة، وذكر في الزيادات: عبد قتل مولاه وله ابنان فعفا أحد الابنين بطل ذلك كله عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف الجواب فيه كالجواب في مسألة الكتاب. ولم يذكر اختلاف الرواية. لأبي يوسف رحمه الله أن حق القصاص ثبت في العبد على سبيل الشيوع، لأن ملك المولى لا يمنع استحقاق القصاص له فإذا عفا أحدهما انقلب نصيب الآخر وهو النصف مالا، غير أنه شائع في الكل فيكون نصفه في نصيبه والنصف في نصيب صاحبه، فما يكون في نصيبه سقط ضرورة أن المولى لا يستوجب على عبده مالا، وما كان في نصيب صاحبه بقي ونصف النصف هو الربع فلهذا يقال: ادفع نصف نصيبك أو افتداه بربع الدية. ولهما أن ما يجب من المال يكون حق المقتول لأنه بدل دمه، ولهذا تقضى منه ديونه وتنفذ به وصاياه، ثم الورثة يخلفونه فيه عند الفراغ من حاجته والمولى لا يستوجب على عبده دينا فلا تخلفه الورثة فيه، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.

 

ج / 4 ص -491-       فصل: "ومن قتل عبدا خطأ فعليه قيمته لا تزاد على عشرة آلاف درهم،
فإن كانت قيمته عشرة آلاف درهم أو أكثر قضى له بعشرة آلاف إلا عشرة، وفي الأمة إذا زادت قيمتها على الدية خمسة آلاف إلا عشرة"
وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشافعي: تجب قيمته بالغة ما بلغت، ولو غصب عبدا قيمته عشرون ألفا فهلك في يده تجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع. لهما أن الضمان بدل المالية ولهذا يجب للمولى وهو لا يملك العبد إلا من حيث المالية، ولو قتل العبد المبيع قبل القبض يبقى العقد وبقاؤه ببقاء المالية أصلا أو بدله وصار كقليل القيمة وكالغصب. ولأبي حنيفة ومحمد قوله تعالى:
{وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [النساء:92] أوجبها مطلقا، وهي اسم للواجب بمقابلة الآدمية، ولأن فيه معنى الآدمية حتى كان مكلفا، وفيه معنى المالية، والآدمية أعلاهما فيجب اعتبارها بإهدار الأدنى عند تعذر الجمع بينهما وضمان الغصب بمقابلة المالية، إذ الغصب لا يرد إلا على المال، وبقاء العقد يتبع الفائدة حتى يبقى بعد قتله عمدا وإن لم يكن القصاص بدلا عن المالية فكذلك أمر الدية، وفي قليل القيمة الواجب بمقابلة الآدمية إلا أنه لا سمع فيه فقدرناه بقيمته رأيا، بخلاف كثير القيمة لأن قيمة الحر مقدرة بعشرة آلاف درهم ونقصنا منها في العبد إظهارا لانحطاط رتبته، وتعيين العشرة بأثر عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
قال: "وفي يد العبد نصف قيمته لا يزاد على خمسة آلاف إلا خمسة" لأن اليد من الآدمي نصفه فتعتبر بكله، وينقص هذا المقدار إظهارا لانحطاط رتبته، وكل ما يقدر من دية الحر فهو مقدر من قيمة العبد لأن القيمة في العبد كالدية في الحر إذ هو بدل الدم على ما قررناه، وإن غصب أمة قيمتها عشرون ألفا فماتت في يده فعليه تمام قيمتها لما بينا أن ضمان الغصب ضمان المالية.
قال: "ومن قطع يد عبد فأعتقه المولى ثم مات من ذلك، فإن كان له ورثة غير المولى فلا قصاص فيه وإلا اقتص منه، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا قصاص في ذلك، وعلى القاطع أرش اليد، وما نقصه ذلك إلى أن يعتقه ويبطل الفضل" وإنما لم يجب القصاص في الوجه الأول لاشتباه من له الحق، لأن القصاص يجب عند الموت مستندا إلى وقت الجرح، فعلى اعتبار حالة الجرح يكون الحق للمولى، وعلى اعتبار الحالة الثانية يكون للورثة فتحقق الاشتباه وتعذر الاستيفاء فلا يجب على وجه

 

ج / 4 ص -492-       يستوفى، وفيه الكلام، واجتماعهما لا يزيل الاشتباه لأن الملكين في الحالين، بخلاف العبد الموصى بخدمته لرجل وبرقبته لآخر إذا قتل، لأن ما لكل منهما من الحق ثابت من وقت الجرح إلى وقت الموت، فإذا اجتمعا زال الاشتباه. ولمحمد في الخلافية وهو ما إذا لم يكن للعبد ورثة سوى المولى أن سبب الولاية قد اختلف لأنه الملك على اعتبار إحدى الحالتين والوراثة بالولاء على اعتبار الأخرى، فنزل منزلة اختلاف المستحق فيما يحتاط فيه كما إذا قال لآخر بعتني هذه الجارية بكذا فقال المولى زوجتها منك لا يحل له وطؤها ولأن الإعتاق قاطع للسراية، وبانقطاعها يبقى الجرح بلا سراية، والسراية بلا قطع فيمتنع القصاص. ولهما أنا تيقنا بثبوت الولاية للمولى فيستوفيا وهذا لأن المقضي له معلوم والحكم متحد فوجب القول بالاستيفاء، بخلاف الفصل الأول، لأن المقضي له مجهول، ولا معتبر باختلاف السبب هاهنا لأن الحكم لا يختلف، بخلاف تلك المسألة لأن ملك اليمين يغاير ملك النكاح حكما، والإعتاق لا يقطع السراية لذاته بل لاشتباه من له الحق، وذلك في الخطإ دون العمد لأن العبد لا يصلح مالكا للمال، فعلى اعتبار حالة الجرح يكون الحق للمولى، وعلى اعتبار حالة الموت يكون للميت لحريته فيقضى منه ديونه وينفذ وصاياه فجاء الاشتباه.
أما العمد فموجبه القصاص والعبد مبقى على أصل الحرية فيه، وعلى اعتبار أن يكون الحق له فالمولى هو الذي يتولاه إذ لا وارث له سواه فلا اشتباه فيمن له الحق، وإذا امتنع القصاص في الفصلين عند محمد يجب أرش اليد، وما نقصه من وقت الجرح إلى وقت الإعتاق كما ذكرنا لأنه حصل على ملكه ويبطل الفضل، وعندهما الجواب في الفصل الأول كالجواب عند محمد في الثاني.
قال: "ومن قال لعبديه أحدكما حر ثم شجا فأوقع العتق على أحدهما فأرشهما للمولى" لأن العتق غير نازل في المعين والشجة تصادف المعين فبقيا مملوكين في حق الشجة "ولو قتلهما رجل تجب دية حر وقيمة عبد" والفرق أن البيان إنشاء من وجه وإظهار من وجه على ما عرف، وبعد الشجة بقي محلا للبيان فاعتبر إنشاء في حقهما، وبعد الموت لم يبق محلا للبيان فاعتبرناه إظهارا محضا، وأحدهما حر بيقين فتجب قيمة عبد ودية حر، بخلاف ما إذا قتل كل واحد منهما رجل حيث قيمة المملوكين، لأنا لم نتيقن بقتل كل واحد منهما حرا وكل منهما ينكر ذلك، ولأن القياس يأبى ثبوت العتق في المجهول لأنه لا يفيد فائدة، وإنما صححناه ضرورة صحة التصرف وأثبتنا له ولاية النقل من المجهول إلى المعلوم فيتقدر بقدر الضرورة وهي في النفس دون الأطراف فبقي مملوكا في حقها.

 

ج / 4 ص -493-       قال: "ومن فقأ عيني عبد، فإن شاء المولى دفع عبده وأخذ قيمته وإن شاء أمسكه، ولا شيء له من النقصان عند أبي حنيفة، وقالا: إن شاء أمسك العبد وأخذ ما نقصه، وإن شاء دفع العبد وأخذ قيمته" وقال الشافعي: يضمنه كل القيمة ويمسك الجثة لأنه يجعل الضمان مقابلا بالفائت فبقي الباقي على ملكه، كما إذا قطع إحدى يديه أو فقأ إحدى عينيه. ونحن نقول: إن المالية قائمة في الذات وهي معتبرة في حق الأطراف لسقوط اعتبارها في حق الذات قصرا عليه. وإذا كانت معتبرة وقد وجد إتلاف النفس من وجه بتفويت جنس المنفعة والضمان يتقدر بقيمة الكل فوجب أن يتملك الجثة دفعا للضرر ورعاية للمماثلة، بخلاف ما إذا فقأ عيني حر لأنه ليس فيه معنى المالية، وبخلاف عيني المدبر لأنه لا يقبل الانتقال من الملك إلى ملك، وفي قطع إحدى اليدين وفقء إحدى العينين لم يوجد تفويت جنس المنفعة. ولهما أن معنى المالية لما كان معتبرا وجب أن يتخير المولى على الوجه الذي قلناه كما في سائر الأموال فإن من خرق ثوب غيره خرقا فاحشا إن شاء المالك دفع الثوب إليه وضمنه قيمته، وإن شاء أمسك الثوب وضمنه النقصان. وله أن المالية وإن كانت معتبرة في الذات فالآدمية غير مهدرة فيه وفي الأطراف أيضا، ألا ترى أن عبدا لو قطع يد عبد آخر يؤمر المولى بالدفع أو الفداء وهذا من أحكام الآدمية، لأن موجب الجناية على المال أن تباع رقبته فيها ثم من أحكام الأولى أن لا ينقسم على الأجزاء، ولا يتملك الجثة، ومن أحكام الثانية أن ينقسم ويتملك الجثة فوفرنا على الشبهين حظهما من الحكم.

فصل: في جناية المدبر وأم الولد
قال: "وإذا جنى المدبر أو أم الولد جناية ضمن المولى الأقل من قيمته ومن أرشها" لما روي عن أبي عبيدة رضي الله عنه أنه قضى بجناية المدبر على مولاه، ولأنه صار مانعا عن تسليمه في الجناية بالتدبير أو الاستيلاد من غير اختياره الفداء فصار كما إذا فعل ذلك بعد الجناية وهو لا يعلم. وإنما يجب الأقل من قيمته ومن الأرش؛ لأنه لا حق لولي الجناية في أكثر من الأرش، ولا منع من المولى في أكثر من القيمة، ولا تخيير بين الأقل والأكثر لأنه لا يفيد في جنس واحد لاختياره الأقل لا محالة، بخلاف القن لأن الرغبات صادقة في الأعيان فيفيد التخيير بين الدفع والفداء "وجنايات المدبر وإن توالت لا توجب إلا قيمة واحدة" لأنه لا منع منه إلا في رقبة واحدة، ولأن دفع القيمة كدفع العبد وذلك لا يتكرر فهذا

 

ج / 4 ص -494-       كذلك ويتضاربون بالحصص فيها، وتعتبر قيمته لكل واحد في حال الجناية عليه لأن المنع في هذا الوقت يتحقق.
قال: "فإن جنى جناية أخرى وقد دفع المولى القيمة إلى ولي الأولى بقضاء فلا شيء عليه" لأنه مجبور على الدفع.
قال: "وإن كان المولى دفع القيمة بغير قضاء فالولي بالخيار، إن شاء اتبع المولى وإن شاء اتبع ولي الجناية، وهذا عند أبي حنيفة، وقالا: لا شيء على المولى" لأنه حين دفع لم تكن الجناية الثانية موجودة فقد دفع كل الحق إلى مستحقة وصار كما إذا دفع القضاء. ولأبي حنيفة أن المولى جان بدفع حق ولي الجناية الثانية طوعا، وولي الأولى ضامن بقبض حقه ظلما فيتخير، وهذا لأن الثانية مقارنة حكما من وجه ولهذا يشارك ولي الجناية الأولى، ومتأخرة حكما من حيث إنه تعتبر قيمته يوم الجناية الثانية في حقها فجعلت كالمقارنة في حق التضمين لإبطاله ما تعلق به من حق ولي الثانية عملا بالشبهين. "وإذا أعتق المولى المدبر وقد جنى جنايات لم تلزمه إلا قيمة واحدة" لأن الضمان إنما وجب عليه بالمنع فصار وجود الإعتاق من بعد وعدمه بمنزلة "وأم الولد بمنزلة المدبر في جميع ما وصفنا" لأن الاستيلاد مانع من الدفع كالتدبير "وإذا أقر المدبر بجناية الخطإ لم يجز إقراره ولا يلزمه به شيء عتق أو لم يعتق" لأن موجب جناية الخطإ على سيده وإقراره به لا ينفذ على السيد، والله أعلم.

باب غصب العبد والمدبر والصبي والجناية في ذلك
قال: "ومن قطع يد عبده ثم غصبه رجل ومات في يده من القطع فعليه قيمته أقطع، وإن كان المولى قطع يده في يد الغاصب فمات من ذلك في يد الغاصب لا شيء عليه" والفرق أن الغصب قاطع للسراية لأنه سبب الملك كالبيع فيصير كأنه هلك بآفة سماوية فتجب قيمته أقطع، ولم يوجد القاطع في الفصل الثاني فكانت السراية مضافة إلى البداية فصار المولى متلفا فيصير مستردا، كيف وأنه استولى عليه وهو استرداد فيبرأ الغاصب عن الضمان.
قال: "وإذا غصب العبد المحجور عليه عبدا محجورا عليه فمات في يده فهو ضامن" لأن المحجور عليه مؤاخذ بأفعاله.
قال: "ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان" لأن المولى بالتدبير السابق أعجز نفسه عن الدفع

 

ج / 4 ص -495-       من غير أن يصير مختارا للفداء فيصير مبطلا حق أولياء الجناية إذ حقهم فيه ولم يمنع إلا رقبة واحدة فلا يزاد على قيمتها، ويكون بين ولي الجنايتين نصفين لاستوائهما في الموجب.
قال: "ويرجع المولى بنصف قيمته على الغاصب" لأنه استحق نصف البدل بسبب كان في يد الغاصب فصار كما إذا استحق نصف العبد بهذا السبب.
قال: "ويدفعه إلى ولي الجناية الأولى ثم يرجع بذلك على الغاصب، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بنصف قيمته فيسلم له" لأن الذي يرجع به المولى على الغاصب عوض ما سلم لولي الجناية الأولى فلا يدفعه إليه كي لا يؤدي إلى اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد، وكيلا يتكرر الاستحقاق. ولهما أن حق الأول في جميع القيمة لأنه حين جنى في حقه لا يزاحمه أحد، وإنما انتقص باعتبار مزاحمة الثاني فإذا وجد شيئا من بدل العبد في يد المالك فارغا يأخذه ليتم حقه فإذا أخذه منه يرجع المولى بما أخذه على الغاصب لأنه استحق من يده بسبب كان في يد الغاصب.
قال: "وإن كان جنى عند المولى فغصبه رجل فجنى عنده جناية أخرى فعلى المولى قيمته بينهما نصفان ويرجع بنصف القيمة على الغاصب" لما بينا في الفصل الأول، غير أن استحقاق النصف حصل بالجناية الثانية إذ كانت هي في يد الغاصب فيدفعه إلى ولي الجناية الأولى ولا يرجع به على الغاصب وهذا بالإجماع.
ثم وضع المسألة في العبد فقال: "ومن غصب عبدا فجنى في يده ثم رده فجنى جناية أخرى فإن المولى يدفعه إلى ولي الجنايتين ثم يرجع على الغاصب بنصف القيمة فيدفعه إلى الأول ويرجع به على الغاصب، وهذا عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله. وقال محمد رحمه الله: يرجع بنصف القيمة فيسلم له، وإن جنى عند المولى ثم غصبه فجنى في يده دفعه المولى نصفين ويرجع بنصف قيمته فيدفعه إلى الأول ولا يرجع به" والجواب في العبد كالجواب في المدبر في جميع ما ذكرنا، إلا أن في هذا الفصل يدفع المولى العبد وفي الأول يدفع القيمة.
قال: "ومن غصب مدبرا فجنى عنده جناية ثم رده على المولى ثم غصبه ثم جنى عنده جناية فعلى المولى قيمته بينهما نصفان" لأنه منع رقبة واحدة بالتدبير فيجب عليه قيمة واحدة "ثم يرجع بقيمته على الغاصب" لأن الجنايتين كانتا في يد الغاصب "فيدفع نصفها إلى

 

ج / 4 ص -496-       الأول" لأنه استحق كل القيمة، لأن عند وجود الجناية عليه لا حق لغيره، وإنما انتقص بحكم المزاحمة من بعد.
قال: "ويرجع به على الغاصب" لأن الاستحقاق بسبب كان في يده ويسلم له، ولا يدفعه إلى ولي الجناية الأولى، ولا إلى ولي الجناية الثانية لأنه لا حق له إلا في النصف لسبق حق الأول وقد وصل ذلك إليه. ثم قيل: هذه المسألة على الاختلاف كالأولى، وقيل على الاتفاق. والفرق لمحمد أن في الأولى الذي يرجع به عوض عما سلم لولي الجناية الأولى لأن الجناية الثانية كانت في يد المالك، فلو دفع إليه ثانيا يتكرر الاستحقاق، فأما في هذه المسألة فيمكن أن يجعل عوضا عن الجناية الثانية لحصولها في يد الغاصب فلا يؤدي إلى ما ذكرناه.
قال: "ومن غصب صبيا حرا فمات في يده فجأة أو بحمى فليس عليه شيء، وإن مات من صاعقة أو نهسة حية فعلى عاقلة الغاصب الدية" وهذا استحسان. والقياس أن لا يضمن في الوجهين وهو قول زفر والشافعي، لأن الغصب في الحر لا يتحقق؛ ألا يرى أنه لو كان مكاتبا صغيرا لا يضمن مع أنه حر يدا، فإذا كان الصغير حرا رقبة ويدا أولى. وجه الاستحسان أنه لا يضمن بالغصب ولكن يضمن بالإتلاف، وهذا إتلاف تسببيا لأنه نقله إلى أرض مسبعة أو إلى مكان الصواعق، وهذا لأن الصواعق والحيات والسباع لا تكون في كل مكان، فإذا نقله إليه فهو متعد فيه وقد أزال حفظ الولي فيضاف إليه، لأن شرط العلة ينزل منزلة العلة إذا كان تعديا كالحفر في الطريق، بخلاف الموت فجأة أو بحمى، لأن ذلك لا يختلف باختلاف الأماكن، حتى لو نقله إلى موضع يغلب فيه الحمى والأمراض نقول بأنه يضمن فتجب الدية على العاقلة لكونه قتلا تسبيبا.
قال: "وإذا أودع صبي عبدا فقتله فعلى عاقلته الدية، وإن أودع طعاما فأكله لم يضمن" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف والشافعي: يضمن في الوجهين جميعا، وعلى هذا إذا أودع العبد المحجور عليه مالا فاستهلكه لا يؤاخذ بالضمان في الحال عند أبي حنيفة ومحمد، ويؤاخذ به بعد العتق. وعند أبي يوسف والشافعي يؤاخذ به في الحال. وعلى هذا الخلاف الإقراض والإعارة في العبد والصبي. وقال محمد في أصل الجامع الصغير: صبي قد عقل، وفي الجامع الكبير وضع المسألة في صبي ابن اثنتي عشرة سنة، وهذا يدل على أن غير العاقل يضمن بالاتفاق لأن التسليط غير معتبر وفعله معتبر لهما أنه أتلف مالا متقوما معصوما حقا لمالكه فيجب عليه الضمان كما إذا كانت الوديعة عبدا وكما إذا أتلفه غير
ش

 

ج / 4 ص -497-       الصبي في يد الصبي المودع، ولأبي حنيفة ومحمد أنه أتلف مالا غير معصوم فلا يجب الضمان كما إذا أتلفه بإذنه ورضاه، وهذا لأن العصمة تثبت حقا له وقد فوتها على نفسه حيث وضع المال في يد مانعة فلا يبقى مستحقا للنظر إلا إذا أقام غيره مقام نفسه في الحفظ، ولا إقامة هاهنا لأنه لا ولاية له على الاستقلال على الصبي ولا للصبي على نفسه، بخلاف البالغ والمأذون له لأن لهما ولاية على أنفسهما وبخلاف ما إذا كانت الوديعة عبدا لأن عصمته لحقه إذ هو مبقى على أصل الحرية في حق الدم، وبخلاف ما إذا أتلفه غير الصبي في يد الصبي لأنه سقطت العصمة بالإضافة إلى الصبي الذي وضع في يده المال دون غيره.
قال: "وإن استهلك مالا ضمن" يريد به من غير إيداع؛ لأن الصبي يؤاخذ بأفعاله، وصحة القصد لا معتبر بها في حقوق العباد، والله أعلم بالصواب.

باب القسامة
قال: "وإذا وجد القتيل في محلة ولا يعلم من قتله استحلف خمسون رجلا منهم. يتخيرهم الولي بالله ما قتلناه ولا علمنا له قاتلا" وقال الشافعي: إذا كان هناك لوث استحلف الأولياء خمسين يمينا ويقضي لهم بالدية على المدعى عليه عمدا كانت الدعوى أو خطأ. وقال مالك: يقضي بالقود إذا كانت الدعوى في القتل العمد وهو أحد قولي الشافعي، والموت عندهما أن يكون هناك علامة القتل على واحد بعينه أو ظاهر يشهد للمدعي من عداوة ظاهرة أو شهادة عدل أو جماعة غير عدول أن أهل المحلة قتلوه، وإن لم يكن الظاهر شاهدا له فمذهبه مثل مذهبنا، غير أنه لا يكرر اليمين بل يردها على الولي، فإن حلفوا لا دية عليهم للشافعي في البداء بيمين الولي قوله عليه الصلاة والسلام للأولياء:
"فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه" ولأن اليمين تجب على من يشهد له الظاهر ولهذا تجب على صاحب اليد، فإذا كان الظاهر شاهدا للولي يبدأ بيمينه ورد اليمين على المدعي أصل له كما في النكول، غير أن هذه دلالة فيها نوع شبهة والقصاص لا يجامعها والمال يجب معها فلهذا وجبت الدية. ولنا قوله عليه الصلاة والسلام: "البينة على المدعي واليمين على من أنكر" وفي رواية: "على المدعى عليه" وروى سعيد بن المسيب "أن النبي عليه الصلاة والسلام بدأ باليهود بالقسامة وجعل الدية عليهم لوجود القتيل بين أظهرهم" ولأن اليمين حجة للدفع دون الاستحقاق وحاجة الولي إلى الاستحقاق ولهذا لا يستحق بيمينه المال المبتذل فأولى أن لا يستحق به النفس المحترمة. وقوله يتخيرهم الولي إشارة إلى

 

ج / 4 ص -498-       أن خيار تعيين الخمسين إلى الولي لأن اليمين حقه، والظاهر أنه يختار من يتهمه بالقتل أو يختار صالحي أهل المحلة لما أن تحرزهم عن اليمين الكاذبة أبلغ التحرز فيظهر القاتل، وفائدة اليمين النكول، فإن كانوا لا يباشرون ويعلمون يفيد يمين الصالح على العلم بأبلغ مما يفيد يمين الطالح، ولو اختاروا أعمى أو محدودا في قذف جاز لأنه يمين وليس بشهادة.
قال: "وإذا حلفوا قضى على أهل المحلة بالدية ولا يستحلف الولي" وقال الشافعي لا تجب الدية لقوله عليه الصلاة والسلام في حديث عبد الله بن سهل رضي الله عنه:
"تبرئكم اليهود بأيمانها" ولأن اليمين عهد في الشرع مبرئا للمدعى عليه لا ملزما كما في سائر الدعاوى. ولنا أن النبي عليه الصلاة والسلام جمع بين الدية والقسامة في حديث ابن سهل وفي حديث زياد بن أبي مريم، وكذا جمع عمر رضي الله عنه بينهما على وادعة. وقوله عليه الصلاة والسلام: "تبرئكم اليهود" محمول على الإبراء عن القصاص والحبس، وكذا اليمين مبرئة عما وجب له اليمين والقسامة ما شرعت لتجب الدية إذا نكلوا، بل شرعت ليظهر القصاص بتحرزهم عن اليمين الكاذبة فيقروا بالقتل، فإذا حلفوا حصلت البراءة عن القصاص. ثم الدية تجب بالقتل الموجود منهم ظاهرا لوجود القتيل بين أظهرهم لا بنكولهم، أو وجبت بتقصيرهم في المحافظة كما في القتل الخطإ "ومن أبى منهم اليمين حبس حتى يحلف" لأن اليمين فيه مستحقة لذاتها تعظيما لأمر الدم ولهذا يجمع بينه وبين الدية، بخلاف النكول في الأموال لأن اليمين بدل عن أصل حقه ولهذا يسقط ببذل المدعي وفيما نحن فيه لا يسقط ببذل الدية، هذا الذي ذكرنا إذا ادعى الولي القتل على جميع أهل المحلة، وكذا إذا ادعى على البعض لا بأعيانهم والدعوى في العمد أو الخطإ لأنهم لا يتميزون عن الباقي، ولو ادعى على البعض بأعيانهم أنه قتل وليه عمدا أو خطأ فكذلك الجواب، يدل عليه إطلاق الجواب في الكتاب، وهكذا الجواب في المبسوط. وعن أبي يوسف في غير رواية الأصل أن في القياس تسقط القسامة والدية عن الباقين من أهل المحلة، ويقال للولي ألك بينة؟ فإن قال لا يستحلف المدعى عليه يمينا واحدة. ووجهه أن القياس يأباه لاحتمال وجود القتل من غيرهم، وإنما عرف بالنص فيما إذا كان في مكان ينسب إلى المدعى عليهم والمدعي يدعي القتل عليهم، وفيما وراءه بقي على أصل القياس وصار كما إذا ادعى القتل على واحد من غيرهم. وفي الاستحسان تجب القسامة والدية على أهل المحلة لأنه لا فصل في إطلاق النصوص بين دعوى ودعوى فنوجبه بالنص لا بالقياس، بخلاف ما إذا ادعى على واحد من غيرهم لأنه ليس فيه نص، فلو أوجبناهما لأوجبناهما بالقياس وهو ممتنع، ثم حكم ذلك أن يثبت ما ادعاه إذا كان له بينة، وإن لم

 

ج / 4 ص -499-       تكن استحلفه يمينا واحدة لأنه ليس بقسامة لانعدام النص وامتناع القياس. ثم إن حلف برئ وإن نكل والدعوى في المال ثبت به، وإن كان في القصاص فهو على اختلاف مضى في كتاب الدعوى.
قال: "وإن لم يكمل أهل المحلة كررت الأيمان عليهم حتى تتم خمسين" لما روي أن عمر رضي الله عنه لما قضى في القسامة وافى إليه تسعة وأربعون رجلا فكرر اليمين على رجل منهم حتى تمت خمسين ثم قضى بالدية. وعن شريح والنخعي رحمهما الله مثل ذلك، ولأن الخمسين واجب بالسنة فيجب إتمامها ما أمكن، ولا يطلب فيه الوقوف على الفائدة لثبوتها بالسنة، ثم فيه استعظام أمر الدم، فإن كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر على أحدهم فليس له ذلك، لأن المصير إلى التكرار ضرورة الإكمال.
قال: "ولا قسامة على صبي ولا مجنون" لأنهما ليسا من أهل القول الصحيح واليمين قول صحيح.
قال: "ولا امرأة ولا عبد" لأنهما ليسا من أهل النصرة واليمين على أهلها.
قال: "وإن وجد ميتا لا أثر به فلا قسامة ولا دية" لأنه ليس بقتيل، إذ القتيل في العرف من فاتت حياته بسبب يباشره حي وهذا ميت حتف أنفه، والغرامة تتبع فعل العبد والقسامة تتبع احتمال القتل ثم يجب عليهم القسم فلا بد من أن يكون به أثر يستدل به على كونه قتيلا، وذلك بأن يكون به جراحة أو أثر ضرب أو خنق، وكذا إذا كان خرج الدم من عينه أو أذنه لأنه لا يخرج منها إلا بفعل من جهة الحي عادة، بخلاف ما إذا خرج من فيه أو دبره أو ذكره لأن الدم يخرج من هذه المخارج عادة بغير فعل أحد، وقد ذكرناه في الشهيد.
"ولو وجد بدن القتيل أو أكثر من نصف البدن أو النصف ومعه الرأس في محلة فعلى أهلها القسامة والدية، وإن وجد نصفه مشقوقا بالطول أو وجد أقل من النصف ومعه الرأس أو وجد يده أو رجله أو رأسه فلا شيء عليهم" لأن هذا حكم عرفناه بالنص وقد ورد به في البدن، إلا أن للأكثر حكم الكل تعظيما للآدمي، بخلاف الأقل لأنه ليس ببدن ولا ملحق به فلا تجري فيه القسامة، ولأنا لو اعتبرناه تتكرر القسامتان والديتان بمقابلة نفس واحدة ولا تتواليان، والأصل فيه أن الموجود الأول إن كان بحال لو وجد الباقي تجري فيه القسامة لا تجب فيه، وإن كان بحال لو وجد الباقي لا تجري فيه القسامة تجب، والمعنى ما أشرنا إليه، وصلاة الجنازة في هذا تنسحب على هذا الأصل لأنها لا تتكرر.

 

ج / 4 ص -500-       "ولو وجد فيهم جنين أو سقط ليس به أثر الضرب فلا شيء على أهل المحلة" لأنه لا يفوق الكبير حالا "وإن كان به أثر الضرب وهو تام الخلق وجبت القسامة والدية عليهم" لأن الظاهر أن تام الخلق ينفصل حيا "وإن كان ناقص الخلق فلا شيء عليهم" لأنه ينفصل ميتا لا حيا.
قال: "وإذا وجد القتيل على دابة يسوقها رجل فالدية على عاقلته دون أهل المحلة" لأنه في يده فصار كما إذا كان في داره، وكذا إذا كان قائدها أو راكبها "فإن اجتمعوا فعليهم" لأن القتيل في أيديهم فصار كما إذا وجد في دارهم.
قال: "وإن مرت دابة بين القريتين وعليها قتيل فهو على أقربهما" لما روي
"أن النبي عليه الصلاة والسلام أتي بقتيل وجد بين قريتين فأمر أن يذرع". وعن عمر رضي الله عنه أنه لما كتب إليه في القتيل الذي وجد بين وداعة وأرحب كتب بأن يقيس بين قريتين، فوجد القتيل إلى وادعة أقرب فقضى عليهم بالقسامة. قيل هذا محمول على ما إذا كان بحيث يبلغ أهله الصوت، لأنه إذا كان بهذه الصفة يلحقه الغوث فتمكنهم النصرة وقد قصروا.
قال: "وإذا وجد القتيل في دار إنسان فالقسامة عليه" لأن الدار في يده "والدية على عاقلته" لأن نصرته منهم وقوته بهم.
قال: "ولا تدخل السكان في القسامة مع الملاك عند أبي حنيفة" وهو قول محمد "وقال أبو يوسف هو عليهم جميعا" لأن ولاية التدبير كما تكون بالملك تكون بالسكنى ألا ترى
"أنه عليه الصلاة والسلام جعل القسامة والدية على اليهود وإن كانوا سكانا بخيبر". ولهما أن المالك هو المختص بنصرة البقعة دون السكان لأن سكنى الملاك ألزم وقرارهم أدوم فكانت ولاية التدبير إليهم فيتحقق التقصير منهم. وأما أهل خيبر فالنبي عليه الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم فكان يأخذ منهم على وجه الخراج.
قال: "وهي على أهل الخطة دون المشترين" وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: الكل مشتركون لأن الضمان إنما يجب بترك الحفظ ممن له ولاية الحفظ وبهذا الطريق يجعل جانبا مقصرا، والولاية باعتبار الملك وقد استووا فيه. ولهما أن صاحب الخطة هو المختص بنصرة البقعة هو المتعارف، ولأنه أصيل والمشتري دخيل وولاية التدبير إلى الأصيل، وقيل: أبو حنيفة بنى ذلك على ما شاهد بالكوفة.
قال: "وإن بقي واحد منهم بأن باعوا كلهم فهو على المشترين" لأن الولاية انتقلت

 

 

ج / 4 ص -501-       إليهم أو خلصت لهم لزوال من يتقدمهم أو يزاحمهم. "وإذا وجد قتيل في دار فالقسامة على رب الدار وعلى قومه وتدخل العاقلة في القسامة إن كانوا حضورا، وإن كانوا غيبا فالقسامة على رب الدار يكرر عليه الأيمان" وهذا عند أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا قسامة على العاقلة؛ لأن رب الدار أخص به من غيره فلا يشاركه غيره فيها كأهل المحلة لا يشاركهم فيها عواقلهم. ولهما أن الحضور لزمتهم نصرة البقعة كما تلزم صاحب الدار فيشاركونه في القسامة.
قال: "وإن وجد القتيل في دار مشتركة نصفها لرجل وعشرها لرجل ولآخر ما بقي فهو على رءوس الرجال" لأن صاحب القليل يزاحم صاحب الكثير في التدبير فكانوا سواء في الحفظ والتقصير فيكون على عدد الرءوس بمنزلة الشفعة.
قال: "ومن اشترى دارا ولم يقبضها حتى وجد فيها قتيل فهو على عاقلة البائع وإن كان في البيع خيار لأحدهما فهو على عاقلة الذي في يده" وهذا عند أبي حنيفة وقالا: إن لم يكن فيه خيار فهو على عاقلة المشتري وإن كان فيه خيار فهو على عاقلة الذي تصير له، لأنه إنما أنزل قاتلا باعتبار التقصير في الحفظ ولا يجب إلا على من له ولاية الحفظ، والولاية تستفاد بالملك ولهذا كانت الدية على عاقلة صاحب الدار دون المودع، والملك للمشتري قبل القبض في البيع البات، وفي المشروط فيه الخيار يعتبر قرار الملك كما في صدقة الفطر. وله أن القدرة على الحفظ باليد لا بالملك؛ ألا يرى أنه يقتدر على الحفظ باليد دون الملك ولا يقتدر بالملك دون اليد، وفي البات اليد للبائع قبل القبض، وكذا فيما فيه الخيار لأحدهما قبل القبض؛ لأنه دون البات، ولو كان المبيع في يد المشتري والخيار له فهو أخص الناس به تصرفا، ولو كان الخيار للبائع فهو في يده مضمون عليه بالقيمة كالمغصوب فتعتبر يده إذ بها يقدر على الحفظ.
قال: "ومن كان في يده دار فوجد فيها قتيل لم تعقله العاقلة حتى تشهد الشهود أنها للذي في يده" لأنه لا بد من الملك لصاحب اليد حتى تعقل العواقل عنه، واليد وإن كانت دليلا على الملك لكنها محتملة فلا تكفي لإيجاب الدية على العاقلة كما لا تكفي لاستحقاق الشفعة به في الدار المشفوعة فلا بد من إقامة البينة.
قال: "وإن وجد قتيل في سفينة فالقسامة على من فيها من الركاب والملاحين" لأنها في أيديهم واللفظ يشمل أربابها حتى تجب على الأرباب الذين فيها وعلى السكان، وكذا على

 

ج / 4 ص -502-       من يمدها والمالك في ذلك وغير المالك سواء، وكذا العجلة، وهذا على ما روي عن أبي يوسف ظاهر. والفرق لهما أن السفينة تنقل وتحول فيعتبر فيها اليد دون الملك كما في الدابة، بخلاف المحلة والدار لأنها لا تنقل.
قال: "وإن وجد في مسجد محلة فالقسامة على أهلها" لأن التدبير فيه إليهم "وإن وجد في المسجد الجامع أو الشارع الأعظم فلا قسامة فيه والدية على بيت المال" لأنه للعامة لا يختص به واحد منهم، وكذلك الجسور العامة ومال بيت المال مال عامة المسلمين. "ولو وجد في السوق إن كان مملوكا فعند أبي يوسف تجب على السكان وعندهما على المالك، وإن لم يكن مملوكا كالشوارع العامة التي بنيت فيها فعلى بيت المال" لأنه لجماعة المسلمين "ولو وجد في السجن فالدية على بيت المال، وعلى قول أبي يوسف الدية والقسامة على أهل السجن" لأنهم سكان وولاية التدبير إليهم، والظاهر أن القتل حصل منهم، وهما يقولان: إن أهل السجن مقهورون فلا يتناصرون فلا يتعلق بهم ما يجب لأجل النصرة، ولأنه بني لاستيفاء حقوق المسلمين، فإذا كان غنمه يعود إليهم فغرمه يرجع عليهم. قالوا: وهذه فريعة المالك والساكن وهي مختلف فيها بين أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله.
قال: "وإن وجد في برية ليس بقربها عمارة فهو هدر" وتفسير القرب ما ذكرنا من استماع الصوت لأنه إذا كان بهذه الحالة لا يلحقه الغوث من غيره فلا يوصف أحد بالتقصير، وهذا إذا لم تكن مملوكة لأحد. أما إذا كانت فالدية والقسامة على عاقلته "وإن وجد بين قريتين كان على أقربهما" وقد بيناه. "وإن وجد في وسط الفرات يمر به الماء فهو هدر" لأنه ليس في يد أحد ولا في ملكه "وإن كان محتبسا بالشاطئ فهو على أقرب القرى من ذلك المكان" على التفسير الذي تقدم لأنه اختص بنصرة هذا الموضع فهو كالموضوع على الشط والشط في يد من هو أقرب منه؛ ألا ترى أنهم يستقون منه الماء ويوردون بهائمهم فيها، بخلاف النهر الذي يستحق به الشفعة لاختصاص أهلها به لقيام يدهم عليه فتكون القسامة والدية عليهم.
قال: "وإن ادعى الولي على واحد من أهل المحلة بعينه لم تسقط القسامة عنهم" وقد ذكرناه وذكرنا فيه القياس والاستحسان.
قال: "وإن ادعى على واحد من غيرهم سقطت عنهم" وقد بيناه من قبل ووجه الفرق هو أن وجوب القسامة عليهم دليل على أن القاتل منهم فتعيينه واحدا منهم لا ينافي ابتداء

 

ج / 4 ص -503-       الأمر لأنه منهم بخلاف ما إذا عين من غيرهم لأن ذلك بيان أن القاتل ليس منهم، وهم إنما يغرمون إذا كان القاتل منهم لكونهم قتلة تقديرا حيث لم يأخذوا على يد الظالم، ولأن أهل المحلة لا يقومون بمجرد ظهور القتيل بين أظهرهم إلا بدعوى الولي، فإذا ادعى القتل على غيرهم امتنع دعواه عليهم وسقط لفقد شرطه.
قال: "وإذا التقى قوم بالسيوف فأجلوا عن قتيل فهو على أهل المحلة" لأن القتيل بين أظهرهم والحفظ عليهم "إلا أن يدعي الأولياء على أولئك أو على رجل منهم بعينه فلم يكن على أهل المحلة شيء" لأن هذه الدعوى تضمنت براءة أهل المحلة عن القسامة.
قال: "ولا على أولئك حتى يقيموا البينة" لأن بمجرد الدعوى لا يثبت الحق للحديث الذي رويناه، أما يسقط به الحق عن أهل المحلة لأن قوله حجة على نفسه. "ولو وجد قتيل في معسكر أقاموه بفلاة من الأرض لا ملك لأحد فيها، فإن وجد في خباء أو فسطاط فعلى من يسكنها الدية والقسامة، وإن كان خارجا من الفسطاط فعلى أقرب الأخبية" اعتبارا لليد عند انعدام الملك "وإن كان القوم لقوا قتالا ووجد قتيل بين أظهرهم فلا قسامة ولا دية" لأن الظاهر أن العدو قتله فكان هدرا، وإن لم يلقوا عدوا فعلى ما بيناه "وإن كان للأرض مالك فالعسكر كالسكان فيجب على المالك عند أبي حنيفة" خلافا لأبي يوسف وقد ذكرناه.
قال: "وإذا قال المستحلف قتله فلان استحلف بالله ما قتلت ولا عرفت له قاتلا غير فلان" لأنه يريد إسقاط الخصومة عن نفسه بقوله فلا يقبل فيحلف على ما ذكرنا، لأنه لما أقر بالقتل على واحد صار مستثنى عن اليمين فبقي حكم من سواه فيحلف عليه.
قال: "وإذا شهد اثنان من أهل المحلة على رجل من غيرهم أنه قتل لم تقبل شهادتهما" وهكذا عند أبي حنيفة، وقالا: تقبل لأنهم كانوا بعرضية أن يصيروا خصماء وقد بطلت العرضية بدعوى الولي القتل على غيرهم فتقبل شهادتهم كالوكيل بالخصومة إذا عزل قبل الخصومة. وله أنهم خصماء بإنزالهم قاتلين للتقصير الصادر منهم فلا تقبل شهادتهم وإن خرجوا من جملة الخصوم كالوصي إذا خرج من الوصاية بعدما قبلها ثم شهد. قال رضي الله عنه: وعلى هذين الأصلين يتخرج كثير من المسائل من هذا الجنس.
قال: "ولو ادعى على واحد من أهل المحلة بعينه فشهد شاهدان من أهلها عليه لم

 

ج / 4 ص -504-       تقبل الشهادة" لأن الخصومة قائمة مع الكل على ما بيناه والشاهد يقطعها عن نفسه فكان متهما. وعن أبي يوسف أن الشهود يحلفون بالله ما قتلناه ولا يزدادون على ذلك لأنهم أخبروا أنهم عرفوا القاتل.
قال: "ومن جرح في قبيلة فنقل إلى أهله فمات من تلك الجراحة، فإن كان صاحب فراش حتى مات فالقسامة والدية على القبيلة، وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: لا قسامة ولا دية" لأن الذي حصل في القبيلة والمحلة ما دون النفس ولا قسامة فيه، فصار كما إذا لم يكن صاحب فراش. وله أن الجرح إذا اتصل به الموت صار قتلا ولهذا وجب القصاص، فإن كان صاحب فراش أضيف إليه، وإن لم يكن احتمل أن يكون الموت من غير الجرح فلا يلزم بالشك.
قال: "ولو أن رجلا معه جريح به رمق حمله إنسان إلى أهله فمكث يوما أو يومين ثم مات لم يضمن الذي حمله إلى أهله في قول أبي يوسف وفي قياس قول أبي حنيفة يضمن" لأن يده بمنزلة المحلة فوجوده جريحا في يده كوجوده فيها، وقد ذكرنا وجهي القولين فيما قبله من مسألة القبيلة.
قال: "ولو وجد رجل قتيلا في دار نفسه فديته على عاقلته لورثته عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد وزفر لا شيء فيه" لأن الدار في يده حين وجد الجريح فيجعل كأنه قتل نفسه فيكون هدرا. وله أن القسامة إنما تجب بناء على ظهور القتل، ولهذا لا يدخل في الدية من مات قبل ذلك، وحال ظهور القتل الدار للورثة فتجب على عاقلتهم، بخلاف المكاتب إذا وجد قتيلا في دار نفسه لأن حال ظهور قتله بقيت الدار على حكم ملكه فيصير كأنه قتل نفسه فيهدر دمه.
"ولو أن رجلين كانا في بيت وليس معهما ثالث فوجد أحدهما مذبوحا، قال أبو يوسف: يضمن الآخر الدية، وقال محمد: لا يضمنه" لأنه يحتمل أنه قتل نفسه فكان التوهم. ويحتمل أنه قتله الآخر فلا يضمنه بالشك. ولأبي يوسف أن الظاهر أن الإنسان لا يقتل نفسه فكان التوهم ساقطا كما إذا وجد قتيل في محلة.
"ولو وجد قتيل في قرية لامرأة فعند أبي حنيفة ومحمد عليها القسامة تكرر عليها الأيمان، والدية على عاقلتها أقرب القبائل إليها في النسب. وقال أبو يوسف: على العاقلة أيضا" لأن القسامة إنما تجب على من كان من أهل النصرة والمرأة ليست من أهلها فأشبهت الصبي. ولهما أن القسامة لنفي التهمة وتهمة القتل من

 

ج / 4 ص -505-       المرأة متحققة. قال المتأخرون: إن المرأة تدخل مع العاقلة في التحمل في هذه المسألة لأنا أنزلناها قاتلة والقاتل يشارك العاقلة. "ولو وجد رجل قتيلا في أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهلها، قال: هو على صاحب الأرض" لأنه أحق بنصرة أرضه من أهل القرية، والله أعلم.