الهداية في شرح بداية المبتدي

ج / 4 ص -506-       كتاب المعاقل
المعاقل جمع معقلة، وهي الدية، وتسمى الدية عقلا لأنها تعقل الدماء من أن تسفك: أي تمسك.
قال: "والدية في شبه العمد والخطإ، وكل دية تجب بنفس القتل على العاقلة، والعاقلة الذين يعقلون" يعني يؤدون العقل وهو الدية، وقد ذكرناه في الديات. والأصل في وجوبها على العاقلة قوله عليه الصلاة والسلام في حديث حمل بن مالك رضي الله عنه للأولياء
"قوموا فدوه" ولأن النفس محترمة لا وجه إلى الإهدار والخاطئ معذور، وكذا الذي تولى شبه العمد نظرا إلى الآلة فلا وجه إلى إيجاب العقوبة عليه، وفي إيجاب مال عظيم إجحافه واستئصاله فيصير عقوبة فضم إليه العاقلة تحقيقا للتخفيف. وإنما خصوا بالضم لأنه إنما قصر لقوة فيه وتلك بأنصاره وهم العاقلة فكانوا هم المقصرين في تركهم مراقبته فخصوا به.
قال: "والعاقلة أهل الديوان إن كان القاتل من أهل الديوان يؤخذ من عطاياهم في ثلاث سنين" وأهل الديوان أهل الرايات وهم الجيش الذين كتبت أساميهم في الديوان وهذا عندنا. وقال الشافعي: الدية على أهل العشيرة لأنه كان كذلك على عهد رسول الله عليه الصلاة والسلام ولا نسخ بعده ولأنه صلة والأولى بها الأقارب.
ولنا قضية عمر رضي الله عنه فإنه لما دون الدواوين جعل العقل على أهل الديوان، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير منهم، وليس ذلك بنسخ بل هو تقرير معنى لأن العقل كان على أهل النصرة وقد كانت بأنواع: بالقرابة والحلف والولاء والعد. وفي عهد عمر رضي الله عنه قد صارت بالديوان فجعلها على أهله اتباعا للمعنى ولهذا قالوا: لو كان اليوم قوم تناصرهم بالحرف فعاقلتهم أهل الحرفة، وإن كان بالحلف فأهله والدية صلة كما قال، لكن إيجابها فيما هو صلة وهو العطاء أولى منه في أصول أموالهم، والتقدير بثلاث سنين مروي عن النبي عليه الصلاة والسلام ومحكي عن عمر رضي الله عنه، ولأن الأخذ من العطاء للتخفيف والعطاء يخرج في كل سنة مرة "فإن خرجت

 

ج / 4 ص -507-       العطايا في أكثر من ثلاث سنين أو أقل أخذ منها" لحصول المقصود.
وتأويله: إذا كانت العطايا للسنين المستقبلة بعد القضاء، حتى لو اجتمعت في السنين الماضية قبل القضاء ثم خرجت بعد القضاء لا يؤخذ منها لأن الوجوب بالقضاء على ما نبين إن شاء الله تعالى. ولو خرج للقاتل ثلاث عطايا في سنة واحدة معناه في المستقبل يؤخذ منها كل الدية لما ذكرنا، وإذا كان جميع الدية في ثلاث سنين فكل ثلث منها في سنة، وإن كان الواجب بالعقل ثلث دية النفس أو أقل كان في سنة واحدة وما زاد على الثلث إلى تمام الثلثين في السنة الثانية، وما زاد على ذلك إلى تمام الدية في السنة الثالثة. وما وجب على العاقلة من الدية أو على القاتل بأن قتل الأب ابنه عمدا فهو في ماله في ثلاث سنين. وقال الشافعي رحمه الله: وما وجب على القاتل في ماله فهو حال، لأن التأجيل للتخفيف لتحمل العاقلة فلا يلحق به العمد المحض. ولنا أن القياس يأباه والشرع ورد به مؤجلا فلا يتعداه. ولو قتل عشرة رجلا خطأ فعلى كل واحد عشر الدية في ثلاث سنين اعتبارا للجزء بالكل إذ هو بدل النفس، وإنما يعتبر مدة ثلاث سنين من وقت القضاء بالدية لأن الواجب الأصلي المثل والتحول إلى القيمة بالقضاء فيعتبر ابتداؤها من وقته كما في ولد المغرور.
قال: "ومن لم يكن من أهل الديوان فعاقلته قبيلته" لأن نصرته بهم وهي المعتبرة في التعاقل.
قال: "وتقسم عليهم في ثلاث سنين لا يزاد الواحد على أربعة دراهم في كل سنة وينقص منها" قال رضي الله عنه: كذا ذكره القدوري رحمه الله في مختصره، وهذا إشارة إلى أنه يزاد على أربعة من جميع الدية، وقد نص محمد رحمه الله على أنه لا يزاد على كل واحد من جميع الدية في ثلاث سنين على ثلاثة أو أربعة فلا يؤخذ من كل واحد في كل سنة إلا درهم أو درهم وثلث درهم وهو الأصح.
قال: "وإن لم يكن تتسع القبيلة لذلك ضم إليهم أقرب القبائل" معناه: نسبا كل ذلك لمعنى التخفيف ويضم الأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات: الإخوة ثم بنوهم، ثم الأعمام ثم بنوهم. وأما الآباء والأبناء فقيل يدخلون لقربهم، وقيل لا يدخلون لأن الضم لنفي الحرج حتى لا يصيب كل واحد أكثر من ثلاثة أو أربعة، وهذا المعنى إنما يتحقق عند الكثرة والآباء والأبناء لا يكثرون، وعلى هذا حكم الرايات إذا لم يتسع لذلك أهل راية ضم إليهم أقرب الرايات: يعني أقربهم نصرة إذا حزبهم أمر الأقرب فالأقرب، ويفوض ذلك إلى الإمام لأنه هو العالم به، ثم هذا كله عندنا، وعند الشافعي رحمه الله يجب على كل واحد نصف دينار فيسوى

 

ج / 4 ص -508-       بين الكل لأنه صلة فيعتبر بالزكاة وأدناها ذلك إذ خمسة دراهم عندهم نصف دينار، ولكنا نقول: هي أحط رتبة منها؛ ألا ترى أنها لا تؤخذ من أصل المال فينتقص منها تحقيقا لزيادة التخفيف.
"ولو كانت عاقلة الرجل أصحاب الرزق يقضى بالدية في أرزاقهم في ثلاث سنين في كل سنة الثلث" لأن الرزق في حقهم بمنزلة العطاء قائم مقامه إذ كل منهما صلة من بيت المال، ثم ينظر إن كانت أرزاقهم تخرج في كل سنة، فكما يخرج رزق يؤخذ منه الثلث بمنزلة العطاء، وإن كان يخرج في كل ستة أشهر وخرج بعد القضاء يؤخذ منه سدس الدية وإن كان يخرج في كل شهر يؤخذ من كل رزق بحصته من الشهر حتى يكون المستوفي في كل سنة مقدار الثلث، وإن خرج بعد القضاء بيوم أو أكثر أخذ من رزق ذلك الشهر بحصة الشهر، وإن كانت لهم أرزاق في كل شهر وأعطية في كل سنة فرضت الدية في الأعطية دون الأرزاق لأنه أيسر، إما لأن الأعطية أكثر، أو لأن الرزق لكفاية الوقت فيتعسر الأداء منه والأعطيات ليكونوا في الديوان قائمين بالنصرة فيتيسر عليهم.
قال: "وأدخل القاتل مع العاقلة فيكون فيما يؤدي كأحدهم" لأنه هو الفاعل فلا معنى لإخراجه ومؤاخذة غيره. وقال الشافعي: لا يجب على القاتل شيء من الدية اعتبارا للجزء بالكل في النفي عنه والجامع كونه معذورا.
قلنا: إيجاب الكل إجحاف به ولا كذلك إيجاب الجزء، ولو كان الخاطئ معذورا فالبريء منه أولى، قال الله تعالى:
{وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}. [الأنعام:164]
"وليس على النساء والذرية ممن كان له حظ في الديوان عقل" لقول عمر رضي الله عنه: لا يعقل مع العاقلة صبي ولا امرأة، ولأن العقل إنما يجب على أهل النصرة لتركهم مراقبته، والناس لا يتناصرون بالصبيان والنساء ولهذا لا يوضع عليهم ما هو خلف عن النصرة وهو الجزية، وعلى هذا لو كان القاتل صبيا أو امرأة لا شيء عليهما من الدية بخلاف الرجل، لأن وجوب جزء من الدية على القاتل باعتبار أنه أحد العواقل لأنه ينصر نفسه وهذا لا يوجد فيهما، والفرض لهما من العطاء للمعونة لا للنصرة كفرض أزواج النبي عليه الصلاة والسلام ورضي الله عنهن. "ولا يعقل أهل مصر عن مصر آخر" يريد به أنه إذا كان لأهل كل مصر ديوان على حدة لأن التناصر بالديوان عند وجوده، ولو كان باعتبار القرب في السكنى فأهل مصره أقرب إليه من أهل مصر آخر "ويعقل أهل كل مصر من أهل سوادهم" لأنهم أتباع لأهل المصر، فإنهم إذا حزبهم أمر استنصروا بهم فيعقلهم أهل المصر باعتبار معنى

 

ج / 4 ص -509-       القرب في النصرة "ومن كان منزله بالبصرة وديوانه بالكوفة عقل عنه أهل الكوفة" لأنه يستنصر بأهل ديوانه لا بجيرانه.
والحاصل: أن الاستنصار بالديوان أظهر فلا يظهر معه حكم النصرة بالقرابة والنسب والولاء وقرب السكنى وغيره وبعد الديوان النصرة بالنسب على ما بيناه، وعلى هذا يخرج كثير من صور مسائل المعاقل "ومن جنى جناية من أهل المصر وليس له في الديوان عطاء وأهل البادية أقرب إليه ومسكنه المصر عقل عنه أهل الديوان من ذلك المصر" ولم يشترط أن يكون بينه وبين أهل الديوان قرابة، قيل هو صحيح لأن الذين يذبون عن أهل المصر ويقومون بنصرتهم ويدفعون عنهم أهل الديوان من أهل المصر ولا يخصون به أهل العطاء. وقيل تأويله إذا كان قريبا لهم، وفي الكتاب إشارة إليه حيث قال: وأهل البادية أقرب إليه من أهل مصر، وهذا لأن الوجوب عليهم بحكم القرابة وأهل المصر أقرب منهم مكانا فكانت القدرة على النصرة لهم وصار نظير مسألة الغيبة المنقطعة "ولو كان البدوي نازلا في المصر لا مسكن له فيه لا يعقله أهل المصر" لأن أهل العطاء لا ينصرون من لا مسكن له فيه، كما أن أهل البادية لا تعقل عن أهل المصر النازل فيهم لأنه لا يستنصر بهم "وإن كان لأهل الذمة عواقل معروفة يتعاقلون بها فقتل أحدهم قتيلا فديته على عاقلته بمنزلة المسلم" لأنهم التزموا أحكام الإسلام في المعاملات لا سيما في المعاني العاصمة عن الإصرار، ومعنى التناصر موجود في حقهم "وإن لم تكن لهم عاقلة معروفة فالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى بها عليه" كما في حق المسلم لما بينا أن الوجوب على القاتل وإنما يتحول عنه إلى العاقلة أن لو وجدت، فإذا لم توجد بقيت عليه بمنزلة تاجرين مسلمين في دار الحرب قتل أحدهما صاحبه يقضى بالدية عليه في ماله لأن أهل دار الإسلام لا يعقلون عنه، وتمكنه من هذا القتل ليس بنصرتهم. "ولا يعقل كافر عن مسلم ولا مسلم عن كافر" لعدم التناصر والكفار يتعاقلون فيما بينهم وإن اختلفت مللهم لأن الكفر كله ملة واحدة. قالوا: هذا إذا لم تكن المعاداة فيما بينهم ظاهرة، أما إذا كانت ظاهرة كاليهود والنصارى ينبغي أن لا يتعاقلون بعضهم عن بعض، وهكذا عن أبي يوسف لانقطاع التناصر. ولو كان القاتل من أهل الكوفة وله بها عطاء فحول ديوانه إلى البصرة ثم رفع إلى القاضي فإنه يقضى بالدية على عاقلته من أهل البصرة.
وقال زفر رحمه الله تعالى: يقضى على عاقلته من أهل الكوفة وهو رواية عن أبي يوسف، لأن الموجب هو الجناية وقد تحقق وعاقلته أهل الكوفة، وصار كما إذا حول بعد القضاء. ولنا أن المال إنما يجب عند القضاء لما ذكرنا أن الواجب هو المثل

 

ج / 4 ص -510-       وبالقضاء ينتقل إلى المال، وكذا الوجوب على القاتل وتتحمل عنه عاقلته، وإذا كان كذلك يتحمل عنه من يكون عاقلته عند القضاء، بخلاف ما بعد القضاء لأن الواجب قد تقرر بالقضاء فلا ينتقل بعد ذلك، لكن حصة القاتل تؤخذ من عطائه بالبصرة لأنها تؤخذ من العطاء وعطاؤه بالبصرة، بخلاف ما إذا قلت العاقلة بعد القضاء عليهم حيث يضم إليهم أقرب القبائل في النسب، لأن في النقل إبطال حكم الأول فلا يجوز بحال، وفي الضم تكثير المتحملين لما قضي به عليهم فكان فيه تقرير الحكم الأول لا إبطاله، وعلى هذا لو كان القاتل مسكنه بالكوفة وليس له عطاء فلم يقض عليه حتى استوطن البصرة قضي بالدية على أهل البصرة، ولو كان قضى بها على أهل الكوفة لم ينتقل عنهم، وكذا البدوي إذا ألحق بالديوان بعد القتل قبل القضاء يقضى بالدية على أهل الديوان، وبعد القضاء على عاقلته بالبادية لا يتحول عنهم، وهذا بخلاف ما إذا كان قوم من أهل البادية قضي بالدية عليهم في أموالهم في ثلاث سنين ثم جعلهم الإمام في العطاء حيث تصير الدية في أعطياتهم وإن كان قضى بها أول مرة في أموالهم لأنه ليس فيه نقض القضاء الأول لأنه قضى بها في أموالهم وأعطياتهم أموالهم، غير أن الدية تقضى من أيسر الأموال أداء، والأداء من العطاء أيسر إذا صاروا من أهل العطاء إلا إذا لم يكن مال العطاء من جنس ما قضي به عليه بأن كان القضاء بالإبل والعطاء دراهم فحينئذ لا تتحول إلى الدراهم أبدا لما فيه من إبطال القضاء الأول، لكن يقضى ذلك من مال العطاء لأنه أيسر.
قال: "وعاقلة المعتق قبيلة مولاه" لأن النصرة بهم يؤيد ذلك قوله عليه الصلاة والسلام:
"مولى القوم منهم".
قال:
"ومولى الموالاة يعقل عنه مولاه وقبيلته" لأنه ولاء يتناصر به فأشبه ولاء العتاقة، وفيه خلاف الشافعي وقد مر في كتاب الولاء.
قال: "ولا تعقل العاقلة أقل من نصف عشر الدية وتتحمل نصف العشر فصاعدا" والأصل فيه حديث ابن عباس رضي الله عنهما موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام:
"لا تعقل العواقل عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا ولا ما دون أرش الموضحة" وأرش الموضحة نصف عشر بدل النفس، ولأن التحمل للتحرز عن الإجحاف ولا إجحاف في القليل وإنما هو في الكثير، والتقدير الفاصل عرف بالسمع.
قال: "وما نقص من ذلك يكون في مال الجاني" والقياس فيه التسوية بين القليل والكثير فيجب الكل على العاقلة كما ذهب إليه الشافعي، أو التسوية في أن لا يجب

 

ج / 4 ص -511-       على العاقلة شيء، إلا أنا تركناه بما روينا، وبما روي "أنه عليه الصلاة والسلام أوجب أرش الجنين على العاقلة" وهو نصف عشر بدل الرجل على ما مر في الديات، فما دونه يسلك به مسلك الأموال لأنه يجب بالتحكيم كما يجب ضمان المال بالتقويم فلهذا كان في مال الجاني أخذا بالقياس.
قال: "ولا تعقل العاقلة جناية العبد ولا ما لزم بالصلح أو باعتراف الجاني" لما روينا، ولأنه لا تناصر بالعبد والإقرار والصلح لا يلزمان العاقلة لقصور الولاية عنهم.
قال: "إلا أن يصدقوه" لأنه ثبت بتصادقهم والامتناع كان لحقهم ولهم ولاية على أنفسهم. "ومن أقر بقتل خطإ ولم يرفعوا إلى القاضي إلا بعد سنين قضي عليه بالدية في ماله في ثلاث سنين من يوم يقضى" لأن التأجيل من وقت القضاء في الثابت بالبينة ففي الثابت بالإقرار أولى "ولو تصادق القاتل وولي الجناية على أن قاضي بلد كذا قضى بالدية على عاقلته بالكوفة بالبينة وكذبهما العاقلة فلا شيء على العاقلة" لأن تصادقهما ليس بحجة عليهم "ولم يكن عليه شيء في ماله" لأن الدية بتصادقهما تقررت على العاقلة بالقضاء وتصادقهما حجة في حقهما، بخلاف الأول "إلا أن يكون له عطاء معهم فحينئذ يلزمه بقدر حصته" لأنه في حق حصته مقر على نفسه وفي حق العاقلة مقر عليهم.
قال: "وإذا جنى الحر على العبد فقتله خطأ كان على عاقلته قيمته" لأنه بدل النفس على ما عرف من أصلنا. وفي أحد قولي الشافعي تجب في ماله لأنه بدل المال عنده ولهذا يوجب قيمته بالغة ما بلغت، وما دون النفس من العبد لا تتحمله العاقلة لأنه يسلك به مسلك الأموال عندنا على ما عرف، وفي أحد قوليه العاقلة تتحمله كما في الحر وقد مر من قبل.
قال أصحابنا: إن القاتل إذا لم يكن له عاقلة فالدية في بيت المال لأن جماعة المسلمين هم أهل نصرته وليس بعضهم أخص من بعض بذلك، ولهذا لو مات كان ميراثه لبيت المال فكذا ما يلزمه من الغرامة يلزم بيت المال. وعن أبي حنيفة رواية شاذة أن الدية في ماله، ووجهه أن الأصل أن تجب الدية على القاتل لأنه بدل متلف والإتلاف منه، إلا أن العاقلة تتحملها تحقيقا للتخفيف على ما مر. وإذا لم يكن له عاقلة عاد الحكم إلى الأصل. "وابن الملاعنة تعقله عاقلة أمه" لأن نسبه ثابت منها دون الأب "فإن عقلوا عنه ثم ادعاه الأب رجعت عاقلة الأم بما أدت على عاقلة الأب في ثلاث سنين من يوم يقضي القاضي لعاقلة الأم على عاقلة الأب" لأنه تبين أن الدية واجبة عليهم لأن عند الإكذاب ظهر أن النسب

 

ج / 4 ص -512-       لم يزل كان ثابتا من الأب حيث بطل اللعان بالإكذاب، ومتى ظهر من الأصل فقوم الأم تحملوا ما كان واجبا على قوم الأب فيرجعون عليهم لأنهم مضطرون في ذلك، وكذلك إن مات المكاتب عن وفاء وله ولد حر فلم يؤد كتابته حتى جنى ابنه وعقل عنه قوم أمه ثم أديت الكتابة لأنه عند الأداء يتحول ولاؤه إلى قوم أبيه من وقت حرية الأب وهو آخر جزء من أجزاء حياته فيتبين أن قوم الأم عقلوا عنهم فيرجعون عليهم، وكذلك رجل أمر صبيا بقتل رجل فقتله فضمنت عاقلة الصبي الدية رجعت بها على عاقلة الآمر إن كان الأمر ثبت بالبينة، وفي مال الآمر إن كان ثبت بإقراره في ثلاث سنين من يوم يقضي بها القاضي على الآمر، أو على عاقلته لأن الديات تجب مؤجلة بطريق التيسير.
قال رضي الله عنه: هاهنا عدة مسائل ذكرها محمد متفرقة، والأصل الذي يخرج عليه أن يقال: حال القاتل إذا تبدل حكما فانتقل ولاؤه إلى ولاء بسبب أمر حادث لم تنتقل جنايته عن الأول قضى بها أو لم يقض، وإن ظهرت حالة خفية مثل دعوة ولد الملاعنة حولت الجناية إلى الأخرى وقع القضاء بها أو لم يقع، ولو لم يختلف حال الجاني ولكن العاقلة تبدلت كان الاعتبار في ذلك لوقت القضاء، فإن كان قضى بها على الأولى لم تنتقل إلى الثانية، وإن لم يكن قضى بها على الأولى فإنه يقضي بها على الثانية، وإن كانت العاقلة واحدة فلحقها زيادة أو نقصان اشتركوا في حكم الجناية قبل القضاء وبعده إلا فيما سبق أداؤه فمن أحكم هذا الأصل متأملا يمكنه التخريج فيما ورد عليه من النظائر والأضداد، والله أعلم بالصواب.