بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع ج / 2 ص -2-
"كتاب الزكاة"
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في موضعين في
بيان أنواع الزكاة وفي بيان حكم كل نوع منها,
أما الأول: فالزكاة في الأصل نوعان فرض, وواجب
فالفرض زكاة المال والواجب زكاة الرأس, وهي
صدقة الفطر وزكاة المال نوعان: زكاة الذهب
والفضة وأموال التجارة والسوائم, وزكاة الزروع
والثمار وهي العشر أو نصف العشر أما الأول
فالكلام فيها يقع في مواضع في. بيان فرضيتها,
وفي بيان كيفية الفرضية وفي بيان سبب الفرضية,
وفي بيان ركنها, وفي بيان شرائط الركن, وفي
بيان ما يسقطها بعد وجوبها. أما الأول فالدليل
على فرضيتها الكتاب, والسنة, والإجماع,
والمعقول الكتاب فقوله تعالى
{وَآتُوا
الزَّكَاةَ}, وقوله عز وجل
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً
تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} وقوله عز وجل
{وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ} والحق المعلوم هو الزكاة, وقوله
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ}
الآية فكل مال لم تؤد زكاته فهو كنز لما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"كل مال أديت الزكاة عنه فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين وكل مال لم
تؤد الزكاة عنه فهو كنز وإن كان على وجه
الأرض" فقد ألحق الوعيد الشديد بمن كنز الذهب والفضة ولم ينفقها في سبيل
الله ولا يكون ذلك إلا بترك الفرض وقوله
تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ} وأداء
الزكاة إنفاق في سبيل الله, وقوله تعالى
{وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُحْسِنِينَ} وقوله تعالى
{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى}
وإيتاء الزكاة من باب الإحسان والإعانة على
البر والتقوى. وأما السنة فما ورد في المشاهير
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله,
وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج
البيت من استطاع إليه سبيلا". وروي عنه
عليه الصلاة والسلام أنه قال عام حجة الوداع
"اعبدوا ربكم, وصلوا خمسكم, وصوموا شهركم,
وحجوا بيت ربكم, وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها
أنفسكم تدخلوا جنة ربكم".
وروي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح
ثم أحمي عليها في نار جهنم فيكوى بها جنبه,
وجبهته, وظهره في يوم كان مقداره
ج / 2 ص -3-
خمسين ألف سنة حتى يقضى بين الناس فيرى سبيله
إما إلى الجنة وإما إلى النار وما من صاحب بقر
ولا غنم لا يؤدي حقها إلا أتي بها يوم القيامة
تطؤه بأظلافها وتنطحه بقرونها, ثم ذكر فيه ما
ذكر في الأول قالوا: يا رسول الله, فصاحب
الخيل؟ قال: الخيل ثلاث: لرجل أجر, ولرجل ستر,
ولرجل وزر, فأما من ربطها عدة في سبيل الله
فإنه لو طول لها في مرج خصب أو في روضة كتب
الله له عدد ما أكلت حسنات وعدد أرواثها
حسنات, وإن مرت بنهر عجاج لا يريد منه السقي
فشربت كتب الله له عدد ما شربت حسنات ومن
ارتبطها عزا وفخرا على المسلمين كانت له وزرا
يوم القيامة, ومن ارتبطها تغنيا وتعففا ثم لم
ينس حق الله تعالى في رقابها وظهورها كانت له
سترا من النار يوم القيامة" وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"ما من صاحب غنم لا يؤدي زكاتها إلا بطح لها يوم القيامة بقاع قرقر
تطؤها بأظلافها وتنطحه بقرونها ". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال في مانعي زكاة الغنم والإبل
والبقر والفرس:
"لألفين أحدكم
يأتي يوم القيامة وعلى عاتقه شاة تيعر يقول:
يا محمد, يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله
شيئا ألا قد بلغت, ولألفين أحدكم يأتي يوم
القيامة وعلى عاتقه بعير له رغاء فيقول: يا
محمد, يا محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا
ألا قد بلغت, ولألفين أحدكم يأتي يوم القيامة
وعلى عاتقه بقرة لها خوار فيقول: يا محمد, يا
محمد فأقول: لا أملك لك من الله شيئا ألا قد
بلغت, ولألفين أحدكم يوم القيامة وعلى عاتقه
فرس له حمحمة فيقول: يا محمد, يا محمد فأقول:
لا أملك لك من الله شيئا ألا قد بلغت", والأحاديث في الباب كثيرة. وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على
فرضيتها, وأما المعقول فمن وجوه أحدها أن أداء
الزكاة من باب إعانة الضعيف وإغاثة اللهيف
وإقدار العاجز وتقويته على أداء ما افترض الله
عز وجل عليه من التوحيد والعبادات والوسيلة
إلى أداء المفروض مفروض والثاني أن الزكاة
تطهر نفس المؤدي عن أنجاس الذنوب. وتزكي
أخلاقه بتخلق الجود والكرم وترك الشح والضن إذ
الأنفس مجبولة على الضن بالمال فتتعود
السماحة, وترتاض لأداء الأمانات وإيصال الحقوق
إلى مستحقيها وقد تضمن ذلك كله قوله تعالى
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ
بِهَا} والثالث: أن الله تعالى قد أنعم على الأغنياء وفضلهم بصنوف النعمة
والأموال الفاضلة عن الحوائج الأصلية وخصهم
بها فيتنعمون ويستمتعون بلذيذ العيش. وشكر
النعمة فرض عقلا وشرعا وأداء الزكاة إلى
الفقير من باب شكر النعمة فكان فرضا.
"فصل": وأما كيفية فرضيتها فقد اختلف فيها ذكر الكرخي أنها على الفور,
وذكر في المنتقى ما يدل عليه فإنه قال:"إذا لم
يؤد الزكاة حتى مضى حولان فقد أساء وأثم ولم
يحل له ما صنع وعليه زكاة حول واحد" وعن محمد
أن من لم يؤد الزكاة لم تقبل شهادته. وروي عنه
أن التأخير لا يجوز وهذا نص على الفور وهو
ظاهر مذهب الشافعي وذكر الجصاص أنها على
التراخي واستدل بمن عليه الزكاة إذا هلك نصابه
بعد تمام الحول والتمكن من الأداء أنه لا
يضمن, ولو كانت واجبة على الفور لضمن كمن أخر
صوم شهر رمضان عن وقته أنه يجب عليه القضاء.
وذكر أبو عبد الله الثلجي عن أصحابنا أنها تجب
وجوبا موسعا, وقال عامة مشايخنا: إنها على
سبيل التراخي ومعنى التراخي عندهم أنها تجب
مطلقا عن الوقت غير عين ففي أي وقت أدى يكون
مؤديا للواجب ويتعين ذلك الوقت للوجوب وإذا لم
يؤد إلى آخر عمره يتضيق عليه الوجوب بأن بقي
من الوقت قدر ما يمكنه الأداء فيه وغلب على
ظنه أنه لو لم يؤد فيه يموت فيفوت فعند ذلك
يتضيق عليه الوجوب حتى أنه لو لم يؤد فيه حتى
مات يأثم وأصل المسألة أن الأمر المطلق عن
الوقت هل يقتضي وجوب الفعل على الفور أم على
التراخي كالأمر بقضاء صوم رمضان والأمر
بالكفارات, والنذور المطلقة, وسجدة التلاوة
ونحوها فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وقال إمام
الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي السمرقندي:"
إنه يجب تحصيل الفعل على الفور" وهو الفعل في
أول أوقات الإمكان ولكن عملا لا اعتقادا على
طريق التعيين بل مع الاعتقاد المبهم أن ما
أراد الله به من الفور والتراخي فهو حق وهذه
من مسائل أصول الفقه. ويجوز أن تبنى مسألة
هلاك النصاب على هذا الأصل؛ لأن الوجوب لما
كان على التراخي عندنا لم يكن بتأخيره الأداء
عن أول أوقات الإمكان مفرطا فلا يضمن, وعنده
لما كان الوجوب على الفور صار مفرطا لتأخيره
فيضمن. ويجوز
ج / 2 ص -4-
أن تبنى على أصل آخر نذكره في بيان صفة الواجب
إن شاء الله تعالى.
"فصل": وأما سبب فرضيتها فالمال؛ لأنها وجبت شكرا لنعمة المال, ولذا تضاف
إلى المال فيقال: زكاة المال والإضافة في مثل
هذا يراد بها السببية كما يقال: صلاة الظهر
وصوم الشهر وحج البيت ونحو ذلك.
"فصل": وأما شرائط الفرضية فأنواع بعضها يرجع إلى من عليه وبعضها يرجع إلى
المال. أما الذي يرجع إلى من عليه فأنواع أيضا
منها إسلامه حتى لا تجب على الكافر في حق
أحكام الآخرة عندنا؛ لأنها عبادة والكفار غير
مخاطبين بشرائع هي عبادات هو الصحيح من مذهب
أصحابنا خلافا للشافعي وهي من مسائل أصول
الفقه. وأما في حق أحكام الدنيا فلا خلاف في
أنها لا تجب على الكافر الأصلي حتى لا يخاطب
بالأداء بعد الإسلام كالصوم والصلاة. وأما
المرتد فكذلك عندنا حتى إذا مضى عليه الحول
وهو مرتد فلا زكاة عليه حتى لا يجب عليه
أداؤها إذا أسلم, وعند الشافعي تجب عليه في
حال الردة ويخاطب بأدائها بعد الإسلام وعلى
هذا الخلاف الصلاة. وجه قوله: أنه أهل للوجوب
لقدرته على الأداء بواسطة الطهارة فكان ينبغي
أن يخاطب الكافر الأصلي بالأداء بعد الإسلام
إلا أنه سقط عنه الأداء رحمة عليه وتخفيفا له.
والمرتد لا يستحق التخفيف؛ لأنه رجع بعد ما
عرف محاسن الإسلام فكان كفره أغلظ فلا يلحق
به. "ولنا" قول النبي صلى الله عليه وسلم
"الإسلام يجب ما قبله "؛ ولأن الزكاة عبادة
والكافر ليس من أهل العبادة لعدم شرط الأهلية
وهو الإسلام فلا يكون من أهل وجوبها كالكافر
الأصلي, وقوله: أنه قادر على الأداء بتقديم
شرطه وهو الإيمان فاسد؛ لأن الإيمان أصل
والعبادات توابع له بدليل أنه لا يتحقق الفعل
عبادة بدونه, والإيمان عبادة بنفسه. وهذه آية
التبعية, ولهذا لا يجوز أن يرتفع الإيمان عن
الخلائق بحال من الأحوال في الدنيا والآخرة مع
ارتفاع غيره من العبادات فكان هو عبادة بنفسه
وغيره عبادة به فكان تبعا له فالقول بوجوب
الزكاة وغيرها من العبادات بناء على تقديم
الإيمان جعل التبع متبوعا والمتبوع تابعا وهذا
قلب الحقيقة, وتغيير الشريعة بخلاف الصلاة مع
الطهارة؛ لأن الصلاة أصل والطهارة تابعة لها
فكان إيجاب الأصل إيجابا للتبع وهو الفرق.
ومنها العلم بكونها فريضة عند أصحابنا الثلاثة
ولسنا نعني به حقيقة العلم بل السبب الموصل
إليه وعند زفر ليس بشرط حتى أن الحربي لو أسلم
في دار الحرب ولم يهاجر إلينا ومكث هناك سنين
وله سوائم ولا علم له بالشرائع لا يجب عليه
زكاتها حتى لا يخاطب بأدائها إذا خرج إلى دار
الإسلام عندنا خلافا لزفر. وقد ذكرنا المسألة
في كتاب الصلاة وهل تجب عليه إذا بلغه رجل
واحد في دار الحرب أو يحتاج فيه إلى العدد؟
وقد ذكرنا الاختلاف فيه في كتاب الصلاة. ومنها
البلوغ عندنا فلا تجب على الصبي وهو قول علي
وابن عباس فإنهما قالا:" لا تجب الزكاة على
الصبي حتى تجب عليه الصلاة" وعند الشافعي ليس
بشرط وتجب الزكاة في مال الصبي, ويؤديها الولي
وهو قول ابن عمر وعائشة وكان ابن مسعود يقول:
يحصي الولي أعوام اليتيم فإذا بلغ أخبره وهذا
إشارة إلى أنه تجب الزكاة لكن ليس للولي ولاية
الأداء. وهو قول ابن أبي ليلى حتى قال: "لو
أداها الولي من ماله ضمن" ومن أصحابنا من بنى
المسألة على أصل وهو أن الزكاة عبادة عندنا,
والصبي ليس من أهل وجوب العبادة فلا تجب عليه
كما لا يجب عليه الصوم والصلاة, وعند الشافعي
حق العبد والصبي من أهل وجوب حقوق العباد
كضمان المتلفات, وأروش الجنايات, ونفقة
الأقارب والزوجات, والخراج, والعشر وصدقة
الفطر, ولإن كانت عبادة فهي عبادة مالية تجرى
فيها النيابة حتى تتأدى بأداء الوكيل, والولي
نائب الصبي فيها فيقوم مقامه في إقامة هذا
الواجب بخلاف العبادات البدنية؛ لأنها لا تجري
فيها النيابة ومنهم من تكلم فيها ابتداء. أما
الكلام فيها على وجه البناء فوجه قوله: النص,
ودلالة الإجماع, والحقيقة أما النص فقوله
تعالى
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}
وقوله عز وجل
{وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ}
والإضافة بحرف اللام تقتضي الاختصاص بجهة
الملك إذا كان المضاف إليه من أهل الملك وأما
دلالة الإجماع فلأنا أجمعنا على أن من عليه
الزكاة إذا وهب جميع النصاب من الفقير ولم
تحضره النية تسقط عنه الزكاة, والعبادة لا
تتأدى بدون النية ولذا يجرى فيها الجبر
والاستحلاف من الساعي
ج / 2 ص -5-
وإنما يجريان في حقوق العباد وكذا يصح توكيل
الذمي بأداء الزكاة والذمي ليس من أهل
العبادة. وأما الحقيقة فإن الزكاة تمليك المال
من الفقير, والمنتفع بها هو الفقير فكانت حق
الفقير والصبا لا يمنع حقوق العباد على ما
بينا. ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم
"بني الإسلام
على خمس شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام
الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت
من استطاع إليه سبيلا"
وما بني عليه الإسلام يكون عبادة والعبادات
التي تحتمل السقوط تقدر في الجملة, فلا تجب
على الصبيان كالصوم والصلاة. وأما الآية
فالمراد من الصدقة المذكورة فيها محل الصدقة,
وهو المال لا نفس الصدقة؛ لأنها اسم للفعل وهو
إخراج المال إلى الله تعالى وذلك حق الله
تعالى لا حق الفقير, وكذلك الحق المذكور في
الآية الأخرى المراد منه المال, وذا ليس بزكاة
بل هو محل الزكاة وسقوط الزكاة بهبة النصاب من
الفقير لوجود النية دلالة والجبر على الأداء
ليؤدي من عليه بنفسه لا ينافي العبادة حتى لو
مد يده وأخذه من غير أداء من عليه لا تسقط عنه
الزكاة عندنا وجريان الاستخلاف لثبوت ولاية
المطالبة للساعي ليؤدي من عليه باختياره وهذا
لا يقتضي كون الزكاة حق العبد وإنما جازت
بأداء الوكيل؛ لأن المؤدي في الحقيقة هو
الموكل, والخراج ليس بعبادة بل هو مؤنة الأرض
وصدقة الفطر ممنوعة على قول محمد. وأما على
قول أبي حنيفة وأبي يوسف فلأنها مؤنة من وجه
قال النبي صلى الله عليه وسلم
"أدوا عمن تمونون" فتجب بوصف المؤنة لا بوصف العبادة وهو الجواب عن العشر. وأما
الكلام في المسألة على وجه الابتداء فالشافعي
احتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال
"ابتغوا في
أموال اليتامى خيرا كي لا تأكلها الصدقة"
ولو لم تجب الزكاة في مال اليتيم ما كانت
الصدقة تأكلها. وروي عنه صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "من ولي يتيما فليؤد زكاة
ماله". وروي
"من ولي يتيما فليزك ماله ",
ولعمومات الزكاة من غير فصل بين البالغين
والصبيان ولأن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب وقد
وجد فتجب الزكاة فيه كالبالغ. "ولنا" أنه لا
سبيل إلى الإيجاب على الصبي؛ لأنه مرفوع القلم
بالحديث ولأن إيجاب الزكاة إيجاب الفعل وإيجاب
الفعل على العاجز عن الفعل تكليف ما ليس في
الوسع ولا سبيل إلى الإيجاب على الولي ليؤدي
من مال الصبي؛ لأن الولي منهي عن قربان مال
اليتيم إلا على وجه الأحسن بنص الكتاب وأداء
الزكاة من ماله قربان ماله لا على وجه الأحسن
لما ذكرنا في الخلافيات والحديثان غريبان أو
من الآحاد فلا يعارضان الكتاب مع ما أن اسم
الصدقة يطلق على النفقة. قال صلى الله عليه
وسلم
"نفقة
الرجل على نفسه صدقة وعلى عياله صدقة"
وفي الحديث ما يدل عليه؛ لأنه أضاف الأكل إلى
جميع المال, والنفقة هي التي تأكل الجميع لا
الزكاة أو تحمل الصدقة والزكاة على صدقة
الفطر؛ لأنها تسمى زكاة وأما قوله "من ولي
يتيما فليزك ماله" أي: ليتصرف في ماله كي ينمو
ماله إذ التزكية هي التنمية توفيقا بين
الدلائل, وعمومات الزكاة لا تتناول الصبيان أو
هي مخصوصة فتخص المتنازع فيه بما ذكرنا والله
أعلم. "ومنها" العقل عندنا فلا تجب الزكاة في
مال المجنون جنونا أصليا وجملة الكلام فيه أن
الجنون نوعان أصلي وطارئ. أما الأصلي وهو أن
يبلغ مجنونا فلا خلاف بين أصحابنا أنه يمنع
انعقاد الحول على النصاب حتى لا يجب عليه أداء
زكاة ما مضى من الأحوال بعد الإفاقة وإنما
يعتبر ابتداء الحول من وقت الإفاقة؛ لأنه الآن
صار أهلا لأن ينعقد الحول على ماله كالصبي إذا
بلغ أنه لا يجب عليه أداء زكاة ما مضى من زمان
الصبا, وإنما يعتبر ابتداء الحول على ماله من
وقت البلوغ عندنا كذا هذا ولهذا منع وجوب
الصلاة والصوم كذا الزكاة. وأما الجنون الطارئ
فإن دام سنة كاملة فهو في حكم الأصلي ألا ترى
أنه في حق الصوم كذلك كذا في حق الزكاة؛ لأن
السنة في الزكاة كالشهر في الصوم, والجنون
المستوعب للشهر يمنع وجوب الصوم فالمستوعب
للسنة يمنع وجوب الزكاة ولهذا يمنع وجوب
الصلاة والحج فكذا الزكاة وإن كان في بعض
السنة ثم أفاق روي عن محمد في النوادر أنه إن
أفاق في شيء من السنة وإن كان ساعة من الحول
من أوله أو وسطه أو آخره تجب زكاة ذلك الحول
وهو رواية ابن سماعة عن أبي يوسف أيضا وروى
هشام عنه أنه قال: إن أفاق أكثر السنة وجبت
وإلا فلا. وجه هذه الرواية أنه إذا كان أكثر
السنة مفيقا فكأنه كان مفيقا في جميع السنة؛
لأن للأكثر حكم الكل في كثير من الأحكام خصوصا
فيما يحتاط فيه. وجه الرواية الأخرى وهو قول
محمد هو اعتبار
ج / 2 ص -6-
الزكاة بالصوم وهو اعتبار صحيح؛ لأن السنة
للزكاة كالشهر للصوم ثم الإفاقة في جزء من
الشهر يكفي لوجوب صوم الشهر كذا الإفاقة في
جزء من السنة تكفي لانعقاد الحول على المال.
وأما الذي يجن ويفيق فهو كالصحيح وهو بمنزلة
النائم والمغمى عليه. ومنها الحرية؛ لأن الملك
من شرائط الوجوب لما نذكر, والمملوك لا ملك له
حتى لا تجب الزكاة على العبد وإن كان مأذونا
له في التجارة؛ لأنه إن لم يكن عليه دين فكسبه
لمولاه وعلى المولى زكاته, وإن كان عليه دين
محيط بكسبه فالمولى لا يملك كسب عبده المأذون
المديون عند أبي حنيفة فلا زكاة فيه على أحد,
وعند أبي يوسف ومحمد إن كان يملكه لكنه مشغول
بالدين والمال المشغول بالدين لا يكون مال
الزكاة وكذا المدبر وأم الولد لما قلنا وكذا
لا زكاة على المكاتب في كسبه؛ لأنه ليس ملكه
حقيقة لقيام الرق فيه بشهادة النبي صلى الله
عليه وسلم
"المكاتب عبد ما بقي عليه درهم"
والعبد اسم للمرقوق والرق ينافي الملك. وأما
المستسعى فحكمه حكم المكاتب في قول أبي حنيفة,
وعندهما هو حر مديون فينظر إن كان فضل عن
سعايته ما يبلغ نصابا تجب الزكاة عليه وإلا
فلا. ومنها أن لا يكون عليه دين مطالب به من
جهة العباد عندنا فإن كان فإنه يمنع وجوب
الزكاة بقدره حالا كان أو مؤجلا, وعند الشافعي
هذا ليس بشرط, والدين لا يمنع وجوب الزكاة
كيفما كان احتج الشافعي بعمومات الزكاة من غير
فصل, ولأن سبب وجوب الزكاة ملك النصاب, وشرطه
أن يكون معدا للتجارة, أو للإسامة وقد وجد.
أما الملك فظاهر؛ لأن المديون مالك لماله؛ لأن
دين الحر الصحيح يجب في ذمته ولا يتعلق بماله
ولهذا يملك التصرف فيه كيف شاء. وأما الإعداد
للتجارة أو الإسامة؛ فلأن الدين لا ينافي ذلك,
والدليل عليه أنه لا يمنع وجوب العشر. "ولنا"
ما روي عن عثمان أنه خطب في شهر رمضان وقال في
خطبته: ألا إن شهر زكاتكم قد حضر فمن كان له
مال وعليه دين فليحسب ماله بما عليه ثم ليزك
بقية ماله, وكان بمحضر من الصحابة ولم ينكر
عليه أحد منهم فكان ذلك إجماعا منهم على أنه
لا تجب الزكاة في القدر المشغول بالدين, وبه
تبين أن مال المديون خارج عن عمومات الزكاة؛
ولأنه محتاج إلى هذا المال حاجة أصلية؛ لأن
قضاء الدين من الحوائج الأصلية. والمال
المحتاج إليه حاجة أصلية لا يكون مال الزكاة؛
لأنه لا يتحقق به الغنى
"ولا صدقة إلا عن ظهر غنى" على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم خطأ1
G13 وقد خرج الجواب عن قوله أنه وجد سبب الوجوب وشرطه؛ لأن صفة الغنى
مع ذلك شرط, ولا يتحقق مع الدين مع ما أن ملكه
في النصاب ناقص بدليل أن لصاحب الدين إذا ظفر
بجنس حقه أن يأخذه من غير قضاء ولا إرضاء,
وعند الشافعي له ذلك في الجنس وخلاف الجنس وذا
آية عدم الملك كما في الوديعة والمغصوب, فلأن
يكون دليل نقصان الملك أولى. وأما العشر فقد
روى ابن المبارك عن أبي حنيفة أن الدين يمنع
وجوب العشر فيمنع على هذه الرواية. وأما على
ظاهر الرواية فلأن العشر مؤنة الأرض النامية
كالخراج فلا يعتبر فيه غنى المالك, ولهذا لا
يعتبر فيه أصل الملك عندنا حتى يجب في الأراضي
الموقوفة وأرض المكاتب بخلاف الزكاة فإنه لا
بد فيها من غنى المالك, والغنى لا يجامع
الدين, وعلى هذا يخرج مهر المرأة فإنه يمنع
وجوب الزكاة عندنا معجلا كان أو مؤجلا؛ لأنها
إذا طالبته يؤاخذ به, وقال بعض مشايخنا: إن
المؤجل لا يمنع؛ لأنه غير مطالب به عادة, فأما
المعجل فيطالب به عادة فيمنع, وقال بعضهم: إن
كان الزوج على عزم من قضائه يمنع, وإن لم يكن
على عزم القضاء لا يمنع؛ لأنه لا يعده دينا
وإنما يؤاخذ المرء بما عنده في الأحكام. وذكر
الشيخ الإمام أبو بكر محمد بن الفضل البخاري
في الإجارة الطويلة التي تعارفها أهل بخارى أن
الزكاة في الأجرة المعجلة تجب على الآجر؛ لأنه
ملكه قبل الفسخ, وإن كان يلحقه دين بعد الحول
بالفسخ. وقال بعض مشايخنا: إنه يجب على
المستأجر أيضا؛ لأنه يعد ذلك مالا موضوعا عند
الآجر, وقالوا في البيع الذي اعتاده أهل
سمرقند وهو بيع الوفاء: إن الزكاة على البائع
في ثمنه إن بقي حولا؛ لأنه ملكه, وبعض مشايخنا
قالوا: يجب أن يلزم المشتري أيضا؛ لأنه يعده
مالا موضوعا عند البائع فيؤاخذ بما عنده,
وقالوا فيمن ضمن الدرك فاستحق المبيع: إنه إن
كان في الحول يمنع لأن المانع قارن الموجب
فيمنع الوجوب فأما إذا استحق بعد الحول لا
يسقط الزكاة؛ لأنه دين حادث؛ لأن الوجوب مقتصر
على حالة الاستحقاق, وإن كان الضمان سببا حتى
ج / 2 ص -7-
اعتبر من جميع المال, وإذا اقتصر وجوب الدين
لم يمنع وجوب الزكاة قبله. وأما نفقة الزوجات
فما لم يصر دينا إما بفرض القاضي أو بالتراضي
لا يمنع؛ لأنها تجب شيئا فشيئا فتسقط إذا لم
يوجد قضاء القاضي أو التراضي, وتمنع إذا فرضت
بقضاء القاضي أو بالتراضي لصيرورته دينا, وكذا
نفقة المحارم تمنع إذا فرضها القاضي في مدة
قصيرة نحو ما دون الشهر فتصير دينا, فأما إذا
كانت المدة طويلة فلا تصير دينا بل تسقط؛
لأنها صلة محضة بخلاف نفقة الزوجات إلا أن
القاضي يضطر إلى الفرض في الجملة في نفقة
المحارم أيضا, لكن الضرورة ترتفع بأدنى المدة.
وقال بعض مشايخنا: إن نفقة المحارم تصير دينا
أيضا بالتراضي في المدة اليسيرة, وقالوا: دين
الخراج يمنع وجوب الزكاة؛ لأنه مطالب به وكذا
إذا صار العشر دينا في ذمته بأن أتلف الطعام
العشري صاحبه, فأما وجوب العشر فلا يمنع؛ لأنه
متعلق بالطعام يبقى ببقائه ويهلك بهلاكه.
والطعام ليس مال التجارة حتى يصير مستحقا
بالدين. وأما الزكاة الواجبة في النصاب أو دين
الزكاة بأن أتلف مال الزكاة حتى انتقل من
العين إلى الذمة فكل ذلك يمنع وجوب الزكاة في
قول أبي حنيفة ومحمد سواء كان في الأموال
الظاهرة أو الباطنة. وقال زفر: "لا يمنع
كلاهما" وقال أبو يوسف: "وجوب الزكاة في
النصاب يمنع فأما دين الزكاة فلا يمنع" هكذا
ذكر الكرخي قول زفر ولم يفصل بين الأموال
الظاهرة والباطنة, وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي أن هذا مذهبه في الأموال الباطنة من
الذهب والفضة وأموال التجارة, ووجه هذا القول
ظاهر؛ لأن الأموال الباطنة لا يطالب الإمام
بزكاتها فلم يكن لزكاتها مطالب من جهة العباد
سواء كانت في العين أو في الذمة فلا يمنع وجوب
الزكاة كديون الله تعالى من الكفارات والنذور
وغيرها بخلاف الأموال الظاهرة؛ لأن الإمام
يطالب بزكاتها وأما وجه قوله الآخر فهو أن
الزكاة قربة فلا يمنع وجوب الزكاة كدين النذور
والكفارات, ولأبي يوسف الفرق بين وجوب الزكاة
وبين دينها هو أن دين الزكاة في الذمة لا
يتعلق بالنصاب فلا يمنع الوجوب كدين الكفارات
والنذور. وأما وجوب الزكاة فمتعلق بالنصاب إذ
الواجب جزء من النصاب, واستحقاق جزء من النصاب
يوجب النصاب إذ المستحق كالمصروف. وحكي أنه
قيل لأبي يوسف: ما حجتك على زفر؟ فقال: ما
حجتي على من يوجب في مائتي درهم أربعمائة
درهم؟ والأمر على ما قاله أبو يوسف؛ لأنه إذا
كان له مائتا درهم فلم يؤد زكاتها سنين كثيرة
يؤدي إلى إيجاب الزكاة في المال أكثر منه
بأضعافه وإنه قبيح, ولأبي حنيفة ومحمد أن كل
ذلك دين مطالب به من جهة العباد أما زكاة
السوائم فلأنها يطالب بها من جهة السلطان عينا
كان أو دينا, ولهذا يستحلف إذا أنكر الحول أو
أنكر كونه للتجارة أو ما أشبه ذلك, فصار
بمنزلة ديون العباد. وأما زكاة التجارة فمطالب
بها أيضا تقديرا؛ لأن حق الأخذ للسلطان وكان
يأخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر
وعمر إلى زمن عثمان فلما كثرت الأموال في
زمانه وعلم أن في تتبعها زيادة ضرر بأربابها
رأى المصلحة في أن يفوض الأداء إلى أربابها
بإجماع الصحابة فصار أرباب الأموال كالوكلاء
عن الإمام ألا ترى أنه قال: من كان عليه دين
فليؤده وليترك ما بقي من ماله؟ فهذا توكيل
لأرباب الأموال بإخراج الزكاة فلا يبطل حق
الإمام عن الأخذ؛ ولهذا قال أصحابنا: إن
الإمام إذا علم من أهل بلدة أنهم يتركون أداء
الزكاة من الأموال الباطنة فإنه يطالبهم بها,
لكن إذا أراد الإمام أن يأخذها بنفسه من غير
تهمة الترك من أربابها ليس له ذلك لما فيه من
مخالفة إجماع الصحابة رضي الله عنهم. وبيان
ذلك أنه إذا كان لرجل مائتا درهم أو عشرين
مثقال ذهب فلم يؤد زكاته سنتين يزكي السنة
الأولى, وليس عليه للسنة الثانية شيء عند
أصحابنا الثلاثة. وعند زفر يؤدي زكاة سنتين,
وكذا هذا في مال التجارة, وكذا في السوائم إذا
كان له خمس من الإبل السائمة مضى عليها سنتان
ولم يؤد زكاتها أنه يؤدي زكاة السنة الأولى
وذلك شاة ولا شيء عليه للسنة الثانية. ولو
كانت عشرا وحال عليها حولان يجب للسنة الأولى
شاتان وللثانية شاة. ولو كانت الإبل خمسا
وعشرين يجب للسنة الأولى بنت مخاض وللسنة
الثانية أربع شياه. ولو كان له ثلاثون من
البقر السوائم يجب للسنة الأولى تبيع أو تبيعة
ولا شيء للسنة الثانية وإن كانت أربعين يجب
للسنة الأولى مسنة وللثانية تبيع أو تبيعة.
وإن كان له أربعون من الغنم عليه للسنة الأولى
شاة ولا شيء للسنة الثانية. وإن كانت مائة
وإحدى وعشرين
ج / 2 ص -8-
عليه للسنة الأولى شاتان وللسنة الثانية شاة.
ولو لحقه دين مطالب به من جهة العباد في خلال
الحول هل ينقطع حكم الحول؟ قال أبو يوسف: لا
ينقطع حتى إذا سقط بالقضاء أو بالإبراء قبل
تمام الحول تلزمه الزكاة إذا تم الحول. وقال
زفر ينقطع الحول بلحوق الدين, والمسألة مبنية
على نقصان النصاب في خلال الحول لأن بالدين
ينعدم كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية
فتنعدم صفة الغنى في المالك فكان نظير نقصان
النصاب في أثناء الحول, وعندنا نقصان النصاب
في خلال الحول لا يقطع الحول, وعند زفر يقطع
على ما نذكر فهذا مثله. وأما الديون التي لا
مطالب لها من جهة العبادات كالنذور,
والكفارات, وصدقة الفطر, ووجوب الحج, ونحوها
لا يمنع وجوب الزكاة؛ لأن أثرها في حق أحكام
الآخرة, وهو الثواب بالأداء والإثم بالترك
فأما لا أثر له في أحكام الدنيا, ألا ترى أنه
لا يجبر ولا يحبس؟ فلا يظهر في حق حكم من
أحكام الدنيا فكانت ملحقة بالعدم في حق أحكام
الدنيا, ثم إذا كان على الرجل دين وله مال
الزكاة وغيره من عبيد الخدمة, وثياب البذلة,
ودور السكنى فإن الدين يصرف إلى مال الزكاة
عندنا سواء كان من جنس الدين أو لا ولا يصرف
إلى غير مال الزكاة, وإن كان من جنس الدين,
وقال زفر: "يصرف الدين إلى الجنس وإن لم يكن
مال الزكاة حتى أنه لو تزوج امرأة على خادم
بغير عينه وله مائتا درهم وخادم فدين المهر
يصرف إلى المائتين دون الخادم عندنا وعنده
يصرف إلى الخادم. وجه قول زفر أن قضاء الدين
من الجنس أيسر فكان الصرف إليه أولى, ولنا أن
عين مال الزكاة مستحق كسائر الحوائج, ومال
الزكاة فاضل عنها فكان الصرف إليه أيسر وأنظر
بأرباب الأموال؛ ولهذا لا يصرف إلى ثياب بدنه
وقوته وقوت عياله, وإن كان من جنس الدين لما
قلنا وذكر محمد في الأصل "أرأيت لو تصدق عليه؟
لم يكن موضعا للصدقة" ومعنى هذا الكلام أن مال
الزكاة مشغول بحاجة الدين فكان ملحقا بالعدم,
وملك الدار والخادم لا يحرم عليه أخذ الصدقة
فكان فقيرا, ولا زكاة على الفقير ولو كان في
يده من أموال الزكاة أنواع مختلفة من الدراهم
والدنانير وأموال التجارة والسوائم فإنه يصرف
الدين إلى الدراهم والدنانير وأموال التجارة
دون السوائم؛ لأن زكاة هذه الجملة يؤديها
أرباب الأموال, وزكاة السوائم يأخذها الإمام.
وربما يقصرون في الصرف إلى الفقراء ضنا بما
لهم فكان صرف الدين إلى الأموال الباطنة ليأخذ
السلطان زكاة السوائم نظرا للفقراء. وهذا أيضا
عندنا. وعلى قول زفر يصرف الدين إلى الجنس وإن
كان من السوائم حتى إن من تزوج امرأة على خمس
من الإبل السائمة بغير أعيانها وله أموال
التجارة وإبل سائمة فإن عنده يصرف المهر إلى
الإبل وعندنا يصرف إلى مال التجارة لما مر.
وذكر الشيخ الإمام السرخسي أن هذا إذا حضر
المصدق فإن لم يحضر فالخيار لصاحب المال إن
شاء صرف الدين إلى السائمة وأدى الزكاة من
الدراهم, وإن شاء صرف الدين إلى الدراهم وأدى
الزكاة من السائمة؛ لأن في حق صاحب المال هما
سواء لا يختلف وإنما الاختلاف في حق المصدق
فإن له ولاية أخذ الزكاة من السائمة دون
الدراهم؛ فلهذا إذا حضر صرف الدين إلى الدراهم
وأخذ الزكاة من السائمة فأما إذا لم يكن له
مال الزكاة سوى السوائم فإن الدين يصرف إليها
ولا يصرف إلى أموال البذلة لما ذكرنا ثم ينظر
إن كان له أنواع مختلفة من السوائم فإن الدين
يصرف إلى أقلها زكاة حتى يجب الأكثر نظرا
للفقراء بأن كان له خمس من الإبل وثلاثون من
البقر وأربعون شاة فإن الدين يصرف إلى الإبل
أو الغنم دون البقر حتى يجب التبيع؛ لأنه أكثر
قيمة من الشاة, وهذا إذا صرف الدين إلى الإبل
والغنم بحيث لا يفضل شيء منه فأما إذا استغرق
أحدهما وفضل منه شيء وإن صرف إلى البقر لا
يفضل منه شيء فإنه يصرف إلى البقر؛ لأنه إذا
فضل شيء منه يصرف إلى الغنم فانتقص النصاب
بسبب الدين فامتنع وجوب شاتين. ولو صرف إلى
البقر وامتنع وجوب التبيع تجب الشاتان؛ لأنه
لو صرف الدين إلى الغنم يبقى نصاب الإبل
السائمة كاملا والتبيع أقل قيمة من شاتين, ولو
لم يكن له إلا الإبل والغنم ذكر في الجامع أن
لصاحب المال أن يصرف الدين إلى أيهما شاء؛
لاستوائهما في قدر الواجب وهو الشاة. وذكر في
نوادر الزكاة أن للمصدق أن يأخذ الزكاة من
الإبل دون الغنم؛ لأن الشاة الواجبة في الإبل
ليست من نفس النصاب فلا ينتقص النصاب بأخذها.
ولو صرف الدين إلى الإبل يأخذ الشاة من
الأربعين فينتقص النصاب فكان هذا أنفع
للفقراء. ولو كان له خمس وعشرون من الإبل
وثلاثون بقرا
ج / 2 ص -9-
وأربعون شاة فإن كان الدين لا يفضل عن الغنم
يصرف إلى الشاة؛ لأنه أقل زكاة, فإن فضل منه
ينظر إن كان بنت مخاض وسط أقل قيمة من الشاة,
وتبيع وسط يصرف إلى الإبل, وإن كان أكثر قيمة
منها يصرف إلى الغنم والبقر؛ لأن هذا أنفع
للفقراء فالمدار على هذا الحرف فأما إذا لم
يكن له مال للزكاة فإنه يصرف الدين إلى عروض
البذلة والمهنة أولا, ثم إلى العقار؛ لأن
الملك مما يستحدث في العروض ساعة فساعة فأما
العقار فمما لا يستحدث فيه الملك غالبا فكان
فيه مراعاة النظر لهما جميعا والله أعلم.
"فصل": وأما الشرائط التي ترجع إلى المال فمنها: الملك فلا تجب الزكاة في
سوائم الوقف والخيل المسبلة لعدم الملك وهذا؛
لأن في الزكاة تمليكا والتمليك في غير الملك
لا يتصور. ولا تجب الزكاة في المال الذي
استولى عليه العدو وأحرزوه بدراهم عندنا؛
لأنهم ملكوها بالإحراز عندنا فزال ملك المسلم
عنها, وعند الشافعي تجب؛ لأن ملك المسلم بعد
الاستيلاء والإحراز بالدار قائم وإن زالت يده
عنه, والزكاة وظيفة الملك عنده. ومنها الملك
المطلق وهو أن يكون مملوكا له رقبة ويدا وهذا
قول أصحابنا الثلاثة, وقال زفر: "اليد ليست
بشرط" وهو قول الشافعي فلا تجب الزكاة في
المال الضمار عندنا خلافا لهما. وتفسير مال
الضمار هو كل مال غير مقدور الانتفاع به مع
قيام أصل الملك كالعبد الآبق والضال, والمال
المفقود, والمال الساقط في البحر, والمال الذي
أخذه السلطان مصادرة, والدين المجحود إذا لم
يكن للمالك بينة وحال الحول ثم صار له بينة
بأن أقر عند الناس, والمال المدفون في الصحراء
إذا خفي على المالك مكانه فإن كان مدفونا في
البيت تجب فيه الزكاة بالإجماع. وفي المدفون
في الكرم والدار الكبيرة اختلاف المشايخ
احتجاجا بعمومات الزكاة من غير فصل؛ ولأن وجوب
الزكاة يعتمد الملك دون اليد بدليل ابن السبيل
فإنه تجب الزكاة في ماله وإن كانت يده فائتة
لقيام ملكه. وتجب الزكاة في الدين مع عدم
القبض, وتجب في المدفون في البيت فثبت أن
الزكاة وظيفة الملك والملك موجود فتجب الزكاة
فيه إلا أنه لا يخاطب بالأداء للحال لعجزه عن
الأداء لبعد يده عنه وهذا لا ينفي الوجوب كما
في ابن السبيل. ولنا ما روي عن علي رضي الله
عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"لا زكاة في مال الضمار" وهو المال الذي لا ينتفع به مع قيام الملك مأخوذ من البعير الضامر
الذي لا ينتفع به لشدة هزاله مع كونه حيا,
وهذه الأموال غير منتفع بها في حق المالك؛
لعدم وصول يده إليها فكانت ضمارا؛ ولأن المال
إذا لم يكن مقدور الانتفاع به في حق المالك لا
يكون المالك به غنيا ولا زكاة على غير الغنى
بالحديث الذي روينا, ومال ابن السبيل مقدور
الانتفاع به في حقه بيد نائبه وكذا المدفون في
البيت؛ لأنه يمكنه الوصول إليه بالنبش بخلاف
المفازة؛ لأن نبش كل الصحراء غير مقدور له,
وكذا الدين المقر به إذا كان المقر مليا فهو
ممكن الوصول إليه. وأما الدين المجحود فإن لم
يكن له بينة فهو على الاختلاف وإن كان له بينة
اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: تجب الزكاة فيه؛
لأنه يتمكن الوصول إليه بالبينة فإذا لم يقم
البينة فقد ضيع القدرة فلم يعذر, وقال بعضهم:
لا تجب؛ لأن الشاهد قد يفسق إلا إذا كان
القاضي عالما بالدين؛ لأنه يقضى بعلمه فكان
مقدور الانتفاع به, وإن كان المديون يقر في
السر ويجحد في العلانية فلا زكاة فيه كذا روي
عن أبي يوسف؛ لأنه لا ينتفع بإقراره في السر
فكان بمنزلة الجاحد سرا وعلانية. وإن كان
المديون مقرا بالدين لكنه مفلس فإن لم يكن
مقضيا عليه بالإفلاس تجب الزكاة فيه في قولهم
جميعا وقال الحسن بن زياد: لا زكاة فيه؛ لأن
الدين على المعسر غير منتفع به فكان ضمارا
والصحيح قولهم: لأن المفلس قادر على الكسب
والاستقراض مع أن الإفلاس محتمل الزوال ساعة
فساعة إذ المال غاد ورائح, وإن كان مقضيا عليه
بالإفلاس فكذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف
وقال محمد: لا زكاة فيه فمحمد مر على أصله؛
لأن التفليس عنده يتحقق, وأنه يوجب زيادة عجز؛
لأنه يسد عليه باب التصرف؛ لأن الناس لا
يعاملونه بخلاف الذي لم يقض عليه بالإفلاس
وأبو حنيفة مر على أصله؛ لأن الإفلاس عنده لا
يتحقق في حال الحياة والقضاء به باطل, وأبو
يوسف, وإن كان يرى التفليس لكن المفلس قادر في
الجملة بواسطة الاكتساب فصار الدين مقدور
الانتفاع في الجملة فكان أثر التفليس في تأخير
المطالبة إلى وقت اليسار فكان كالدين المؤجل
فتجب الزكاة فيه. ولو دفع إلى إنسان وديعة ثم
نسي
ج / 2 ص -10-
المودع
فإن كان المدفوع إليه من معارفه فعليه الزكاة
لما مضى إذا تذكر؛ لأن نسيان المعروف نادر
فكان طريق الوصول قائما؛ وإن كان ممن لا يعرفه
فلا زكاة عليه فيما مضى لتعذر الوصول إليه ولا
زكاة في دين الكتابة والدية على العاقلة؛ لأن
دين الكتابة ليس بدين حقيقة؛ لأنه لا يجب
للمولى على عبده دين فلهذا لم تصح الكفالة به.
والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم إذا هو ملك
المولى من وجه وملك المكاتب من وجه؛ لأن
المكاتب في اكتسابه كالحر فلم يكن بدل الكتابة
ملك المولى مطلقا بل كان ناقصا, وكذا الدية
على العاقلة ملك ولي القتيل فيها متزلزل بدليل
أنه لو مات واحد من العاقلة سقط ما عليه فلم
يكن ملكا مطلقا, ووجوب الزكاة وظيفة الملك
المطلق وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة في الدين
الذي وجب للإنسان لا بدلا عن شيء رأسا
كالميراث بالدين والوصية بالدين, أو وجب بدلا
عما ليس بمال أصلا كالمهر للمرأة على الزوج,
وبدل الخلع للزوج على المرأة, والصلح عن دم
العمد أنه لا تجب الزكاة فيه. وجملة الكلام في
الديون أنها على ثلاث مراتب في قول أبي حنيفة:
دين قوي, ودين ضعيف, ودين وسط كذا قال عامة
مشايخنا أما القوي فهو الذي وجب بدلا عن مال
التجارة كثمن عرض التجارة من ثياب التجارة,
وعبيد التجارة, أو غلة مال التجارة ولا خلاف
في وجوب الزكاة فيه إلا أنه لا يخاطب بأداء
شيء من زكاة ما مضى ما لم يقبض أربعين درهما,
فكلما قبض أربعين درهما أدى درهما واحدا. وعند
أبي يوسف ومحمد كلما قبض شيئا يؤدي زكاته قل
المقبوض أو كثر. وأما الدين الضعيف فهو الذي
وجب له بدلا عن شيء سواء وجب له بغير صنعه
كالميراث, أو بصنعه كما لوصية, أو وجب بدلا
عما ليس بمال كالمهر, وبدل الخلع, والصلح عن
القصاص, وبدل الكتابة ولا زكاة فيه ما لم يقبض
كله ويحول عليه الحول بعد القبض. وأما الدين
الوسط فما وجب له بدلا عن مال ليس للتجارة
كثمن عبد الخدمة, وثمن ثياب البذلة والمهنة
وفيه روايتان عنه, ذكر في الأصل أنه تجب فيه
الزكاة قبل القبض لكن لا يخاطب بالأداء ما لم
يقبض مائتي درهم فإذا قبض مائتي درهم زكى لما
مضى, وروى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة
أنه لا زكاة فيه حتى يقبض المائتين ويحول عليه
الحول من وقت القبض وهو أصح الروايتين عنه,
وقال أبو يوسف ومحمد: الديون كلها سواء, وكلها
قوية تجب الزكاة فيها قبل القبض إلا الدية على
العاقلة ومال الكتابة فإنه لا تجب الزكاة فيها
أصلا ما لم تقبض ويحول عليها الحول. وجه
قولهما أن ما سوى بدل الكتابة والدية على
العاقلة ملك صاحب الدين ملكا مطلقا رقبة ويدا؛
لتمكنه من القبض بقبض بدله وهو العين فتجب فيه
الزكاة كسائر الأعيان المملوكة ملكا مطلقا إلا
أنه لا يخاطب بالأداء للحال؛ لأنه ليس في يده
حقيقة فإذا حصل في يده يخاطب بأداء الزكاة قدر
المقبوض كما هو مذهبهم في العين فيما زاد على
النصاب بخلاف الدية وبدل الكتابة؛ لأن ذلك ليس
بملك مطلق بل هو ملك ناقص على ما بينا والله
أعلم ولأبي حنيفة وجهان أحدهما: أن الدين ليس
بمال بل هو فعل واجب وهو فعل تمليك المال
وتسليمه إلى صاحب الدين, والزكاة إنما تجب في
المال فإذا لم يكن مالا لا تجب فيه الزكاة
ودليل كون الدين فعلا من وجوه ذكرناها في
الكفالة بالدين عن ميت مفلس في الخلافيات كان
ينبغي أن لا تجب الزكاة في دين ما لم يقبض
ويحول عليه الحول إلا أن ما وجب له بدلا عن
مال التجارة أعطي له حكم المال؛ لأن بدل الشيء
قائم مقامه كأنه هو فصار كأن المبدل قائم في
يده وأنه مال التجارة وقد حال عليه الحول في
يده, والثاني إن كان الدين مالا مملوكا أيضا
لكنه مال لا يحتمل القبض؛ لأنه ليس بمال حقيقة
بل هو مال حكمي في الذمة وما في الذمة لا يمكن
قبضه فلم يكن مالا مملوكا رقبة, ويدا فلا تجب
الزكاة فيه كمال الضمار فقياس هذا أن لا تجب
الزكاة في الديون كلها لنقصان الملك بفوات
اليد إلا أن الدين الذي هو بدل مال التجارة
التحق بالعين في احتمال القبض لكونه بدل مال
التجارة قابل للقبض, والبدل يقام مقام المبدل
والمبدل عين قائمة قابلة للقبض فكذا ما يقوم
مقامه. وهذا المعنى لا يوجد فيما ليس ببدل
رأسا ولا فيما هو بدل عما ليس بمال, وكذا في
بدل مال ليس للتجارة على الرواية الصحيحة أنه
لا تجب فيه الزكاة ما لم يقبض قدر النصاب
ويحول عليه الحول بعد القبض؛ لأن الثمن بدل
مال ليس للتجارة فيقوم مقام المبدل. ولو كان
المبدل قائما في يده حقيقة لا تجب الزكاة فيه
فكذا في بدله بخلاف بدل مال التجارة. وأما
الكلام في إخراج زكاة قدر المقبوض من الدين
الذي تجب فيه
ج / 2 ص -11-
الزكاة
على نحو الكلام في المال العين إذا كان زائدا
على قدر النصاب وحال عليه الحول فعند أبي
حنيفة لا شيء في الزيادة هناك ما لم يكن
أربعين درهما فههنا أيضا لا يخرج شيئا من زكاة
المقبوض ما لم يبلغ المقبوض أربعين درهما
فيخرج من كل أربعين درهما يقبضها درهما
وعندهما يخرج قدر ما قبض قل المقبوض أو كثر
كما في المال العين إذا كان زائدا على النصاب.
وسيأتي الكلام فيه إن شاء الله تعالى. وذكر
الكرخي أن هذا إذا لم يكن له مال سوى الدين,
فأما إذا كان له مال سوى الدين فما قبض منه
فهو بمنزلة المستفاد فيضم إلى ما عنده والله
أعلم. "ومنها" كون المال ناميا؛ لأن معنى
الزكاة وهو النماء لا يحصل إلا من المال
النامي ولسنا نعني به حقيقة النماء؛ لأن ذلك
غير معتبر وإنما نعني به كون المال معدا
للاستنماء بالتجارة أو بالإسامة؛ لأن الإسامة
سبب لحصول الدر والنسل والسمن, والتجارة سبب
لحصول الربح فيقام السبب مقام المسبب, وتعلق
الحكم به كالسفر مع المشقة والنكاح مع الوطء
والنوم مع الحدث, ونحو ذلك, وإن شئت قلت:
ومنها كون المال فاضلا عن الحاجة الأصلية؛ لأن
به يتحقق الغنى ومعنى النعمة وهو التنعم وبه
يحصل الأداء عن طيب النفس إذ المال المحتاج
إليه حاجة أصلية لا يكون صاحبه غنيا عنه ولا
يكون نعمة إذ التنعم لا يحصل بالقدر المحتاج
إليه حاجة أصلية؛ لأنه من ضرورات حاجة البقاء
وقوام البدن فكان شكره شكر نعمة البدن. ولا
يحصل الأداء عن طيب نفس فلا يقع الأداء بالجهة
المأمور بها؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"وأدوا زكاة
أموالكم طيبة بها أنفسكم" فلا تقع
زكاة إذ حقيقة الحاجة أمر باطن لا يوقف عليه
فلا يعرف الفضل عن الحاجة فيقام دليل الفضل عن
الحاجة مقامه وهو الإعداد للإسامة والتجارة
وهذا قول عامة العلماء, وقال مالك: هذا ليس
بشرط لوجوب الزكاة, وتجب الزكاة في كل مال
سواء كان ناميا فاضلا عن الحاجة الأصلية أو لا
كثياب البذلة والمهنة, والعلوفة, والحمولة,
والعمولة من المواشي, وعبيد الخدمة والمسكن,
والمراكب, وكسوة الأهل وطعامهم, وما يتجمل به
من آنية أو لؤلؤ أو فرش ومتاع لم ينو به
التجارة, ونحو ذلك. واحتج بعمومات الزكاة من
غير فصل بين مال ومال نحو قوله تعالى:
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}
وقوله عز وجل:
{وَفِي
أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ
وَالْمَحْرُومِ}
وقوله تعالى
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} وغير ذلك؛ ولأنها وجبت شكرا لنعمة المال ومعنى النعمة في هذه
الأموال أتم وأقرب؛ لأنها متعلق البقاء فكانت
أدعى إلى الشكر, ولنا أن معنى النماء والفضل
عن الحاجة الأصلية لا بد منه لوجوب الزكاة لما
ذكرنا من الدلائل ولا يتحقق ذلك في هذه
الأموال وبه تبين أن المراد من العمومات
الأموال النامية الفاضلة عن الحوائج الأصلية,
وقد خرج الجواب عن قوله: أنها نعمة لما ذكرنا
أن معنى النعمة فيها يرجع إلى البدن؛ لأنها
تدفع الحاجة الضرورية وهي حاجة دفع الهلاك عن
البدن, فكانت تابعة لنعمة البدن فكان شكرها
شكر نعمة البدن وهي العبادات البدنية من
الصلاة والصوم وغير ذلك, وقوله تعالى
{وَآتُوا الزَّكَاةَ}
دليلنا؛ لأن الزكاة عبارة عن النماء وذلك من
المال النامي على التفسير الذي ذكرناه وهو أن
يكون معدا للاستنماء وذلك بالإعداد للإسامة في
المواشي والتجارة في أموال التجارة, إلا أن
الإعداد للتجارة في الأثمان المطلقة من الذهب
والفضة ثابت بأصل الخلقة؛ لأنها لا تصلح
للانتفاع بأعيانها في دفع الحوائج الأصلية فلا
حاجة إلى الإعداد من العبد للتجارة بالنية, إذ
النية للتعيين وهي متعينة للتجارة بأصل الخلقة
فلا حاجة إلى التعيين بالنية فتجب الزكاة
فيها, نوى التجارة أو لم ينو أصلا أو نوى
النفقة. وأما فيما سوى الأثمان من العروض
فإنما يكون الإعداد فيها للتجارة بالنية؛
لأنها كما تصلح للتجارة تصلح للانتفاع
بأعيانها بل المقصود الأصلي منها ذلك فلا بد
من التعيين للتجارة وذلك بالنية. وكذا في
المواشي لا بد فيها من نية الإسامة؛ لأنها لا
تصلح للدر والنسل تصلح للحمل والركوب واللحم,
فلا بد من النية ثم نية التجارة والإسامة لا
تعتبر ما لم تتصل بفعل التجارة والإسامة؛ لأن
مجرد النية لا عبرة به في الأحكام لقول النبي
صلى الله عليه وسلم
"إن الله عفا عن أمتى ما تحدثت به أنفسهم ما
لم يتكلموا به أو يفعلوا" ثم نية التجارة قد تكون صريحا وقد تكون دلالة أما الصريح فهو أن
ينوي عند عقد التجارة أن يكون المملوك به
للتجارة بأن اشترى سلعة ونوى أن تكون للتجارة
عند الشراء فتصير للتجارة سواء كان الثمن الذي
اشتراها به من الأثمان المطلقة أو من عروض
التجارة أو مال البذلة والمهنة أو أجر داره
بعرض بنية
ج / 2 ص -12-
التجارة فيصير ذلك مال التجارة لوجود صريح نية
التجارة مقارنا لعقد التجارة أما الشراء فلا
شك أنه تجارة. وكذلك الإجارة؛ لأنها معاوضة
المال بالمال وهو نفس التجارة؛ ولهذا ملك
المأذون بالتجارة الإجارة. والنية المقارنة
للفعل معتبرة. ولو اشترى عينا من الأعيان ونوى
أن تكون للبذلة والمهنة دون التجارة لا تكون
للتجارة سواء كان الثمن من مال التجارة أو من
غير مال التجارة؛ لأن الشراء بمال التجارة إن
كان دلالة التجارة فقد وجد صريح نية الابتذال
ولا تعتبر الدلالة مع الصريح بخلافها. ولو ملك
عروضا بغير عقد أصلا بأن ورثها ونوى التجارة
لم تكن للتجارة؛ لأن النية تجردت عن العمل
أصلا فضلا عن عمل التجارة؛ لأن الموروث يدخل
في ملكه من غير صنعه. ولو ملكها بعقد ليس
مبادلة أصلا كالهبة والوصية والصدقة أو بعقد
هو مبادلة مال بغير مال كالمهر, وبدل الخلع,
والصلح عن دم العمد, وبدل العتق ونوى التجارة
يكون للتجارة عند أبي يوسف, وعند محمد لا يكون
للتجارة, كذا ذكر الكرخي, وذكر القاضي الشهيد
الاختلاف على القلب فقال في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف: لا يكون للتجارة, وفي قول محمد:
يكون للتجارة. وجه قول من قال: إنه لا يكون
للتجارة أن النية لم تقارن عملا هو تجارة وهي
مبادلة المال بالمال فكان الحاصل مجرد النية
فلا تعتبر. ووجه القول الآخر أن التجارة عقد
اكتساب المال وما لا يدخل في ملكه إلا بقبوله
فهو حاصل بكسبه فكانت نيته مقارنة لفعله فأشبه
قرانها بالشراء والإجارة. والقول الأول أصح؛
لأن التجارة كسب المال ببدل ما هو مال,
والقبول اكتساب المال بغير بدل أصلا فلم تكن
من باب التجارة فلم تكن النية مقارنة عمل
التجارة. ولو استقرض عروضا ونوى أن تكون
للتجارة اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: يصير
للتجارة؛ لأن القرض ينقلب معاوضة المال بالمال
في العاقبة, وإليه أشار في الجامع أن من كان
له مائتا درهم لا مال له غيرها فاستقرض قبل
حولان الحول بيوم من رجل خمسة أقفزة لغير
التجارة ولم تستهلك الأقفزة حتى حال الحول لا
زكاة عليه في المائتين ويصرف الدين إلى مال
الزكاة دون الجنس الذي ليس بمال الزكاة فقوله:
استقرض لغير التجارة دليل أنه لو استقرض
للتجارة يصير للتجارة وقال بعضهم: لا يصير
للتجارة وإن نوى؛ لأن القرض إعارة وهو تبرع لا
تجارة فلم توجد نية التجارة مقارنة للتجارة
فلا تعتبر. ولو اشترى عروضا للبذلة والمهنة ثم
نوى أن تكون للتجارة بعد ذلك لا تصير للتجارة
ما لم يبعها فيكون بدلها للتجارة, فرق بين هذا
وبين ما إذا كان له مال التجارة فنوى أن يكون
للبذلة حيث يخرج من أن يكون للتجارة وإن لم
يستعمله؛ لأن النية لا تعتبر ما لم تتصل
بالفعل وهو ليس بفاعل فعل التجارة فقد عزبت
النية عن فعل التجارة فلا تعتبر للحال بخلاف
ما إذا نوى الابتذال؛ لأنه نوى ترك التجارة
وهو تارك لها في الحال فاقترنت النية بعمل هو
ترك التجارة فاعتبرت. ونظير الفصلين السفر مع
الإقامة وهو أن المقيم إذا نوى السفر لا يصير
مسافرا ما لم يخرج عن عمران المصر, والمسافر
إذا نوى الإقامة في مكان صالح للإقامة يصير
مقيما للحال. ونظيرهما من غير هذا الجنس
الكافر إذا نوى أن يسلم بعد شهر لا يصير مسلما
للحال, والمسلم إذا قصد أن يكفر بعد سنين
والعياذ بالله فهو كافر للحال. ولو أنه اشترى
بهذه العروض التي اشتراها للابتذال بعد ذلك
عروضا أخر تصير بدلها للتجارة بتلك النية
السابقة. وكذلك في الفصول التي ذكرنا أنه نوى
للتجارة في الوصية والقرض ومبادلة مال بما ليس
بمال إذا اشترى بتلك العروض عروضا أخر صارت
للتجارة؛ لأن النية قد وجدت حقيقة إلا أنها لم
تعمل للحال؛ لأنها لم تصادف عمل التجارة فإذا
وجدت التجارة بعد ذلك عملت النية السابقة
عملها فيصير المال للتجارة لوجود نية التجارة
مع التجارة. وأما الدلالة فهي أن يشتري عينا
من الأعيان بعرض التجارة, أو يؤاجر داره التي
للتجارة بعرض من العروض فيصير للتجارة وإن لم
ينو التجارة صريحا؛ لأنه لما اشترى بمال
التجارة فالظاهر أنه نوى به التجارة. وأما
الشراء بغير مال التجارة فلا يشكل. وأما إجارة
الدار فلأن بدل منافع عين معدة للتجارة كبدل
عين معدة للتجارة في أنه للتجارة كذا ذكر في
كتاب الزكاة من الأصل. وذكر في الجامع ما يدل
على أنه لا يكون للتجارة إلا بالنية صريحا
فإنه قال: وإن كانت الأجرة جارية تساوي ألف
درهم. وكانت عند المستأجر للتجارة فأجر المؤجر
داره بها وهو يريد التجارة شرط النية عند
الإجارة لتصير الجارية للتجارة ولم يذكر أن
الدار للتجارة أو لغير التجارة فهذا يدل على
أن النية شرط ليصير بدل منافع الدار
ج / 2 ص -13-
المستأجرة للتجارة وإن كانت الدار معدة
للتجارة فكان في المسألة روايتان ومشايخ بلخ
كانوا يصححون رواية الجامع ويقولون: إن العين
وإن كانت للتجارة لكن قد يقصد ببدل منافعها
المنفعة فيؤاجر الدابة لينفق عليها والدار
للعمارة فلا تصير للتجارة مع التردد إلا
بالنية وأما إذا اشترى عروضا بالدراهم أو
بالدنانير أو بما يكال أو يوزن موصوفا في
الذمة فإنها لا تكون للتجارة ما لم ينو
التجارة عند الشراء وإن كانت الدراهم
والدنانير أثمانا والموصوف في الذمة من المكيل
والموزون أثمان عند الناس؛ ولأنها كما جعلت
ثمنا لمال التجارة جعلت ثمنا لشراء ما يحتاج
إليه للابتذال والقوت فلا يتعين الشراء به
للتجارة مع الاحتمال وعلى هذا لو اشترى
المضارب بمال المضاربة عبيدا ثم اشترى لهم
كسوة وطعاما للنفقة كان الكل للتجارة. وتجب
الزكاة في الكل؛ لأن نفقة عبيد المضاربة من
مال المضاربة فمطلق تصرفه ينصرف إلى ما يملك
دون ما لا يملك حتى لا يصير خائنا وعاصيا عملا
بدينه وعقله, وإن نص على النفقة, وبمثله
المالك إذا اشترى عبيدا للتجارة ثم اشترى لهم
ثيابا للكسوة وطعاما للنفقة فإنه لا يكون
للتجارة؛ لأن المالك كما يملك الشراء للتجارة
يملك الشراء للنفقة والبذلة وله أن ينفق من
مال التجارة وغير مال التجارة فلا يتعين
للتجارة إلا بدليل زائد. وأما الأجراء الذين
يعملون للناس نحو الصباغين والقصارين
والدباغين إذا اشتروا الصبغ والصابون والدهن
ونحو ذلك مما يحتاج إليه في عملهم ونووا عند
الشراء أن ذلك للاستعمال في عملهم هل يصير ذلك
مال التجارة؟ روى بشر بن الوليد عن أبي يوسف
أن الصباغ إذا اشترى العصفر والزعفران ليصبغ
ثياب الناس فعليه فيه الزكاة, والحاصل أن هذا
على وجهين: إن كان شيئا يبقى أثره في المعمول
فيه كالصبغ والزعفران والشحم الذي يدبغ به
الجلد فإنه يكون مال التجارة؛ لأن الأجر يكون
مقابلة ذلك الأثر وذلك الأثر مال قائم فإنه من
أجزاء الصبغ والشحم لكنه لطيف فيكون هذا
تجارة, وإن كان شيئا لا يبقى أثره في المعمول
فيه مثل الصابون والأشنان والقلي والكبريت فلا
يكون مال التجارة؛ لأن عينها تتلف ولم ينتقل
أثرها إلى الثوب المغسول حتى يكون له حصة من
العوض بل البياض أصلي للثوب يظهر عند زوال
الدرن فما يأخذ من العوض يكون بدل عمله لا بدل
هذه الآلات فلم يكن مال التجارة. وأما آلات
الصناع وظروف أمتعة التجارة لا تكون مال
التجارة؛ لأنها لا تباع مع الأمتعة عادة
وقالوا في نخاس الدواب إذا اشترى المقاود
والجلال والبراذع أنه إن كان يباع مع الدواب
عادة يكون للتجارة؛ لأنها معدة لها وإن كان لا
يباع معها ولكن تمسك وتحفظ بها الدواب فهي من
آلات الصناع فلا يكون مال التجارة, إذا لم ينو
التجارة عند شرائها وقال أصحابنا في عبد
التجارة قتله عبد خطأ فدفع به أن الثاني
للتجارة؛ لأنه عوض مال التجارة. وكذا إذا فدى
بالدية من العروض والحيوان. وأما إذا قتله
عمدا فصالح المولى من الدية على العبد القاتل
أو على شيء من العروض لا يكون مال التجارة؛
لأنه عوض القصاص لا عوض العبد المقتول,
والقصاص ليس بمال والله أعلم. ومنها الحول في
بعض الأموال دون بعض, وجملة الكلام في هذا
الشرط يقع في موضعين أحدهما: في بيان ما يشترط
له الحول من الأموال وما لا يشترط, والثاني في
بيان ما يقطع حكم الحول وما لا يقطع. أما
الأول فنقول: لا خلاف في أن أصل النصاب وهو
النصاب الموجود في أول الحول يشترط له الحول
لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول"؛
ولأن كون المال ناميا شرط وجوب الزكاة لما
ذكرنا, والنماء لا يحصل إلا بالاستنماء ولا بد
لذلك من مدة, وأقل مدة يستنمى المال فيها
بالتجارة والإسامة عادة الحول فأما المستفاد
في خلال الحول فهل يشترط له حول على حدة أو
يضم إلى الأصل فيزكى بحول الأصل؟ جملة الكلام
في المستفاد أنه لا يخلو إما أن كان مستفادا
في الحول وإما أن كان مستفادا بعد الحول,
والمستفاد في الحول لا يخلو إما أن كان من جنس
الأصل, وإما أن كان من خلاف جنسه. فإن كان من
خلاف جنسه كالإبل مع البقر والبقر مع الغنم
فإنه لا يضم إلى نصاب الأصل بل يستأنف له
الحول بلا خلاف وإن كان من جنسه فأما إن كان
متفرعا من الأصل أو حاصلا بسببه كالولد
والربح, وأما لم يكن متفرعا من الأصل ولا
حاصلا بسببه كالمشترى والموروث والموهوب
والموصى به فإن كان متفرعا من الأصل أو حاصلا
بسببه يضم إلى الأصل ويزكى بحول الأصل
بالإجماع. وإن لم يكن متفرعا من الأصل
ج / 2 ص -14-
ولا
حاصلا بسببه فإنه يضم إلى الأصل عندنا, وعند
الشافعي رحمه الله لا يضم. احتج بقول النبي
صلى الله عليه وسلم
"لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول"
والمستفاد مال لم يحل عليه الحول فلا زكاة فيه
ولأن الزكاة وظيفة الملك والمستفاد أصل في
الملك؛ لأنه أصل في سبب الملك؛ لأنه ملك بسبب
على حدة فيكون أصلا في شرط الحول كالمستفاد
بخلاف الجنس بخلاف الولد والربح؛ لأن ذلك تبع
للأصل في الملك؛ لكونه تبعا له في سبب الملك
فيكون تبعا في الحول. ولنا أن عمومات الزكاة
تقتضي الوجوب مطلقا عن شرط الحول إلا ما خص
بدليل؛ ولأن المستفاد من جنس الأصل تبع له؛
لأنه زيادة عليه, إذ الأصل يزداد به ويتكثر
والزيادة تبع للمزيد عليه والتبع لا يفرد
بالشرط كما لا يفرد بالسبب لئلا ينقلب التبع
أصلا فتجب الزكاة فيها بحول الأصل كالأولاد
والأرباح بخلاف المستفاد بخلاف الجنس؛ لأنه
ليس بتابع بل هو أصل بنفسه. ألا ترى أن الأصل
لا يزداد به ولا يتكثر؟ وقوله: أنه أصل في
الملك؛ لأنه أصل في سبب الملك مسلم, لكن كونه
أصلا من هذا الوجه لا ينفي أن يكون تبعا من
الوجه الذي بينا وهو أن الأصل يزداد به
ويتكثر, فكان أصلا من وجه وتبعا من وجه,
فتترجح جهة التبعية في حق الحول احتياطا لوجوب
الزكاة. وأما الحديث فعام خص منه بعضه وهو
الولد والربح فيخص المتنازع فيه بما ذكرنا ثم
إنما يضم المستفاد عندنا إلى أصل المال إذا
كان الأصل نصابا فأما إذا كان أقل من النصاب
فإنه لا يضم إليه, وإن كان يتكامل به النصاب
وينعقد الحول عليهما حال وجود المستفاد؛ لأنه
إذا كان أقل من النصاب لم ينعقد الحول على
الأصل فكيف ينعقد على المستفاد من طريق
التبعية؟ وأما المستفاد بعد الحول فلا يضم إلى
الأصل في حق الحول الماضي بلا خلاف وإنما يضم
إليه في حق الحول الذي استفيد فيه؛ لأن النصاب
بعد مضي الحول عليه يجعل متجددا حكما كأنه
انعدم الأول وحدث آخر؛ لأن شرط الوجوب وهو
النماء يتجدد بتجدد الحول فيصير النصاب
كالمتجدد, والموجود في الحول الأول يصير
كالعدم, والمستفاد إنما يجعل تبعا للأصل
الموجود لا للمعدوم هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن
المستفاد ثمن الإبل المزكاة, فأما إذا كان
فإنه لا يضم إلى ما عنده من النصاب من جنسه
ولا يزكى بحول الأصل بل يشترط له حول على حدة
في قول أبي حنيفة وعندهما يضم, وصورة المسألة
إذا كان لرجل خمس من الإبل السائمة ومائتا
درهم فتم حول السائمة فزكاها, ثم باعها بدراهم
ولم يتم حول الدراهم فإنه يستأنف للثمن حولا
عنده ولا يضم إلى الدراهم, وعندهما يضم ولو
زكاها ثم جعلها علوفة ثم باعها ثم تم الحول
على الدراهم فإن ثمنها يضم إلى الدراهم فيزكى
الكل بحول الدراهم. ولو كان له عبد للخدمة
فأدى صدقة فطره, أو كان له طعام فأدى عشره, أو
كان له أرض فأدى خراجها ثم باعها يضم ثمنها
إلى أصل النصاب. وجه قولهما ما ذكرنا في
المسألة الأولى وهو ظاهر نصوص الزكاة مطلقة عن
شرط الحول واعتبار معنى التبعية, والدليل عليه
ثمن الإبل المعلوفة, وعبد الخدمة, والطعام
المعشور, والأرض التي أدى خراجها ولأبي حنيفة
عموم قوله: صلى الله عليه وسلم
"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" من غير فصل بين مال ومال, إلا أن المستفاد الذي ليس بثمن الإبل
السائمة صار مخصوصا بدليل فبقي الثمن على أصل
العموم وصار مخصوصا عن عمومات الزكاة بالحديث
المشهور وهو قوله: صلى الله عليه وسلم
"لا ثنى في الصدقة" أي: لا تؤخذ الصدقة مرتين إلا أن الأخذ حال اختلاف المالك, والحول
والمال صورة ومعنى صار مخصوصا, وههنا لم يوجد
اختلاف المالك والحول ولا شك فيه. وكذا المال
لم يختلف من حيث المعنى لأن الثمن بدل الإبل
السائمة وبدل الشيء يقوم مقامه كأنه هو فكانت
السائمة قائمة معنى وما ذكرا من معنى التبعية
قياس في مقابلة النص فيكون باطلا على أن
اعتبار التبعية إن كان يوجب الضم فاعتبار
البناء يحرم الضم, والقول بالحرمة أولى
احتياطا. وأما إذا زكاها ثم جعلها علوفة ثم
باعها بدراهم فقد قال بعض مشايخنا أن على قول
أبي حنيفة لا يضم, والصحيح أنه يضم بالإجماع,
ووجه التحريم أنه لما جعلها علوفة فقد خرجت من
أن تكون مال الزكاة لفوات وصف النماء فصار
كأنها هلكت وحدث عين أخرى فلم يكن الثمن بدل
الإبل السائمة فلا يؤدي إلى البناء. وكذا في
المسائل الأخر الثمن ليس بدل مال الزكاة وهو
المال النامي الفاضل عن الحاجة الأصلية, فلا
يكون الضم بناء ولو كان عنده نصابان أحدهما
ثمن الإبل المزكاة والآخر
ج / 2 ص -15-
غير
ثمن الإبل من الدراهم والدنانير, وأحدهما أقرب
حولا من الآخر فاستفاد دراهم بالإرث أو الهبة
أو الوصية, فإن المستفاد يضم إلى أقربها حولا
أيهما كان, ولو لم يوهب له ولا ورث شيئا ولا
أوصى له بشيء ولكنه تصرف في النصاب الأول بعد
ما أدى زكاته وربح فيه ربحا ولم يحل حول ثمن
الإبل المزكاة, فإن الربح يضم إلى النصاب الذي
ربح فيه لا إلى ثمن الإبل وإن كان ذلك أبعد
حولا, وإنما كان كذلك؛ لأن في الفصل الأول
استويا في جهة التبعية فيرجح أقرب النصابين
حولا يضم المستفاد إليه نظرا للفقراء. وفي
الفصل الثاني ما استويا في جهة التبعية بل
أحدهما أقوى في الاستتباع؛ لأن المستفاد تبع
لأحدهما حقيقة؛ لكونه متفرعا منه فتعتبر حقيقة
التبعية فلا يقطع حكم التبع عن الأصل. وأما
الثاني وهو بيان ما يقطع حكم الحول وما لا
يقطع فهلاك النصاب في خلال الحول يقطع حكم
الحول حتى لو استفاد في ذلك الحول نصابا
يستأنف له الحول. لقول النبي: صلى الله عليه
وسلم
"لا زكاة في
مال حتى يحول عليه الحول"
والهالك ما حال عليه الحول. وكذا المستفاد
بخلاف ما إذا هلك بعض النصاب ثم استفاد ما
يكمل به؛ لأن ما بقي من النصاب ما حال عليه
الحول فلم ينقطع حكم الحول. ولو استبدل مال
التجارة بمال التجارة وهي العروض قبل تمام
الحول لا يبطل حكم الحول سواء استبدل بجنسها
أو بخلاف جنسها بلا خلاف؛ لأن وجوب الزكاة في
أموال التجارة يتعلق بمعنى المال وهو المالية
والقيمة فكان الحول منعقدا على المعنى وأنه
قائم لم يفت بالاستبدال. وكذلك الدراهم
والدنانير إذا باعها بجنسها أو بخلاف جنسها
بأن باع الدراهم بالدراهم أو الدنانير
بالدنانير أو الدنانير بالدراهم أو الدراهم
بالدنانير وقال الشافعي: ينقطع حكم الحول فعلى
قياس قوله: لا تجب الزكاة في مال الصيارفة
لوجود الاستبدال منهم ساعة فساعة. وجه قوله
أنهما عينان مختلفان حقيقة فلا تقوم إحداهما
مقام الأخرى فينقطع الحول المنعقد على إحداهما
كما إذا باع السائمة بالسائمة بجنسها أو بخلاف
جنسها. ولنا أن الوجوب في الدراهم أو الدنانير
متعلق بالمعنى أيضا لا بالعين, والمعنى قائم
بعد الاستبدال فلا يبطل حكم الحول كما في
العروض بخلاف ما إذا استبدل السائمة بالسائمة؛
لأن الحكم هناك متعلق بالعين وقد تبدلت العين
فبطل الحول المنعقد على الأول فيستأنف للثاني
حولا. ولو استبدل السائمة بالسائمة فإن
استبدلها بخلاف جنسها بأن باع الإبل بالبقر أو
البقر بالغنم ينقطع حكم الحول بالإجماع, وإن
استبدلها بجنسها بأن باع الإبل بالإبل أو
البقر بالبقر أو الغنم بالغنم, فكذلك في قول
أصحابنا الثلاثة, وقال زفر: لا ينقطع وجه قوله
أن الجنس واحد فكان المعنى متحدا فلا ينقطع
الحول كما إذا باع الدراهم بالدراهم ولنا أن
الوجوب في السوائم يتعلق بالعين لا بالمعنى
ألا ترى أن من كان له خمس من الإبل عجاف هزال
لا تساوي مائتي درهم تجب فيها الزكاة؟ فدل أن
الوجوب فيها تعلق بالعين والعين قد اختلفت
فيختلف له الحول. وكذا لو باع السائمة
بالدراهم أو بالدنانير أو بعروض ينوي بها
التجارة أنه يبطل حكم الحول الأول بالاتفاق؛
لأن متعلق الوجوب في المالين قد اختلف إذ
المتعلق في أحدهما العين, وفي الآخر المعنى.
ولو احتال بشيء من ذلك فرارا من وجوب الزكاة
عليه هل يكره له ذلك؟ قال محمد: يكره. وقال
أبو يوسف: لا يكره. وهو على الاختلاف في
الحيلة لمنع وجوب الشفعة, ولا خلاف في الحيلة
لإسقاط الزكاة بعد وجوبها مكروهة كالحيلة
لإسقاط الشفعة بعد وجوبها. ومنها النصاب وجملة
الكلام في النصاب في مواضع في بيان أنه شرط
وجوب الزكاة, وفي بيان كيفية اعتبار هذا الشرط
وفي بيان مقدار النصاب, وفي بيان صفته, وفي
بيان مقدار الواجب في النصاب, وفي بيان صفته.
أما الأول فكمال النصاب شرط وجوب الزكاة فلا
تجب الزكاة فيما دون النصاب؛ لأنها لا تجب إلا
على الغني والغنى لا يحصل إلا بالمال الفاضل
عن الحاجة الأصلية وما دون النصاب لا يفضل عن
الحاجة الأصلية فلا يصير الشخص غنيا به؛
ولأنها وجبت شكر النعمة المال. وما دون النصاب
لا يكون نعمة موجبة للشكر للمال بل يكون شكره
شكرا لنعمة البدن لكونه من توابع نعمة البدن
على ما ذكرنا, ولكن هذا الشرط يعتبر في أول
الحول وفي آخره لا في خلاله حتى لو انتقص
النصاب في أثناء الحول ثم كمل في آخره تجب
الزكاة سواء كان من السوائم أو من الذهب
والفضة أو مال التجارة, وهذا قول أصحابنا
الثلاثة. وقال زفر: كمال النصاب من أول الحول
إلى آخره شرط وجوب الزكاة. وهو قول
ج / 2 ص -16-
الشافعي إلا في مال التجارة فإنه يعتبر كمال
النصاب في آخر الحول ولا يعتبر في أول الحول
ووسطه, حتى أنه إذا كان قيمة مال التجارة في
أول الحول مائة درهم فصارت قيمته في آخر الحول
مائتين تجب الزكاة عنده. وجه قول زفر أن حولان
الحول على النصاب شرط وجوب الزكاة فيه ولا
نصاب في وسط الحول فلا يتصور حولان الحول
عليه؛ ولهذا لو هلك النصاب في خلال الحول
ينقطع حكم الحول. وكذا لو كان النصاب سائمة
فجعلها علوفة في وسط الحول بطل الحول, وبهذا
يحتج الشافعي أيضا إلا أنه يقول: تركت هذا
القياس في مال التجارة للضرورة وهي أن نصاب
التجارة يكمل بالقيمة والقيمة تزداد وتنتقص في
كل ساعة لتغير السعر لكثرة رغبة الناس وقلتها
وعزة السلعة وكثرتها, فيشق عليه تقويم ماله في
كل يوم, فاعتبر الكمال عند وجوب الزكاة وهو
آخر الحول لهذه الضرورة. وهذه الضرورة لا توجد
في السائمة؛ لأن نصابها لا يكمل باعتبار
القيمة بل باعتبار العين. ولنا أن كمال النصاب
شرط وجوب الزكاة فيعتبر وجوده في أول الحول
وآخره لا غير؛ لأن أول الحول وقت انعقاد السبب
وآخره وقت ثبوت الحكم فأما وسط الحول فليس
بوقت انعقاد السبب ولا وقت ثبوت الحكم فلا
معنى لاعتبار كمال النصاب فيه إلا أنه لا بد
من بقاء شيء من النصاب الذي انعقد عليه الحول
ليضم المستفاد إليه, فإذا هلك كله لم يتصور
الضم فيستأنف له الحول بخلاف ما إذا جعل
السائمة علوفة في خلال الحول؛ لأنه لما جعلها
علوفة فقد أخرجها من أن تكون مال الزكاة فصار
كما لو هلكت. وما ذكر الشافعي من اعتبار
المشقة يصلح لإسقاط اعتبار كمال النصاب في
خلال الحول لا في أوله؛ لأنه لا يشق عليه
تقويم ماله عند ابتداء الحول ليعرف به انعقاد
الحول كما, لا يشق عليه ذلك في آخر الحول
ليعرف به وجوب الزكاة في ماله والله أعلم. أما
مقدار النصاب وصفته, ومقدار الواجب في النصاب
وصفته فلا سبيل إلى معرفتها إلا بعد معرفة
أموال الزكاة؛ لأن هذه الجملة تختلف باختلاف
أموال الزكاة فنقول وبالله التوفيق: أموال
الزكاة أنواع ثلاثة أحدها: الأثمان المطلقة
وهي الذهب والفضة, والثاني: أموال التجارة وهي
العروض المعدة للتجارة, والثالث: السوائم
فنبين مقدار النصاب من كل واحد وصفته ومقدار
الواجب في كل واحد وصفته, ومن له المطالبة
بأداء الواجب في السوائم والأموال الظاهرة.
"فصل": أما الأثمان المطلقة وهي الذهب والفضة أما قدر النصاب فيهما فالأمر
لا يخلو إما أن يكون له فضة مفردة أو ذهب مفرد
أو اجتمع له الصنفان جميعا, فإن كان له فضة
مفردة فلا زكاة فيها حتى تبلغ مائتي درهم وزنا
وزن سبعة فإذا بلغت ففيها خمسة دراهم لما روي
أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كتب كتاب
الصدقات لعمرو بن حزم ذكر فيه الفضة ليس فيها
صدقة حتى تبلغ مائتي درهم فإذا بلغت مائتين
ففيها خمسة دراهم. وروي عنه صلى الله عليه
وسلم أنه قال لمعاذ لما بعثه إلى اليمن
"ليس فيما دون مائتين من الورق شيء, وفي مائتين خمسة" وإنما اعتبرنا الوزن في الدراهم دون العدد؛ لأن الدراهم اسم
للموزون؛ لأنه عبارة عن قدر من الموزون مشتمل
على جملة موزونة من الدوانيق والحبات حتى لو
كان وزنها دون المائتين, وعددها مائتان, أو
قيمتها لجودتها وصياغتها تساوي مائتين فلا
زكاة فيها, وإنما اعتبرنا وزن سبعة وهو أن
يكون العشرة منها وزن سبعة مثاقيل, والمائتان
مما يوزن مائة وأربعون مثقالا؛ لأنه الوزن
المجمع عليه للدراهم المضروبة في الإسلام.
وذلك أن الدراهم في الجاهلية كان بعضها ثقيلا
مثقالا وبعضها خفيفا طيريا فلما عزموا على ضرب
الدراهم في الإسلام جمعوا الدرهم الثقيل
والدرهم الخفيف فجعلوهما درهمين فكانا درهمين
بوزن سبعة فاجتمعت الأمة على العمل على ذلك
ولو نقص النصاب عن المائتين نقصانا يسيرا يدخل
بين الوزنين. قال أصحابنا: لا تجب الزكاة فيه؛
لأنه وقع الشك في كمال النصاب فلا نحكم بكماله
مع الشك والله أعلم ولو كانت الفضة مشتركة بين
اثنين فإن كان يبلغ نصيب كل واحد منهما مقدار
النصاب تجب الزكاة وإلا فلا. ويعتبر في حال
الشركة ما يعتبر في حال الانفراد وهذا عندنا.
وعند الشافعي تجب ونذكر المسألة في السوائم إن
شاء الله تعالى.
"فصل": وأما صفة هذا النصاب فنقول: لا يعتبر في هذا النصاب صفة زائدة على
كونه فضة فتجب الزكاة فيها سواء
ج / 2 ص -17-
كانت
دراهم مضروبة, أو نقرة, أو تبرا, أو حليا
مصوغا, أو حلية سيف, أو منطقة أو لجام أو سرج
أو الكواكب في المصاحف والأواني, وغيرها إذا
كانت تخلص عند الإذابة إذا بلغت مائتي درهم,
وسواء كان يمسكها للتجارة, أو للنفقة, أو
للتجمل, أو لم ينو شيئا. وهذا عندنا, وهو قول
الشافعي أيضا إلا في حلي النساء إذا كان معدا
للبس مباح أو للعارية للثواب فله فيه قولان:
في قول لا شيء فيه وهو مروي عن ابن عمر وعائشة
رضي الله عنهما واحتج بما روي في الحديث
"لا زكاة
في الحلي" وعن ابن عمر أنه قال: زكاة الحلي إعارته, ولأنه مال مبتذل في وجه
مباح فلا يكون نصاب الزكاة كثياب البذلة
والمهنة بخلاف حلي الرجال فإنه مبتذل في وجه
محظور, وهذا؛ لأن الابتذال إذا كان مباحا كان
معتبرا شرعا وإذا كان محظورا كان ساقط
الاعتبار شرعا, فكان ملحقا بالعدم. نظيره ذهاب
العقل بشرب الدواء مع ذهابه بسبب السكر أنه
اعتبر الأول وسقط اعتبار الثاني كذا هذا. ولنا
قوله تعالى
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا
فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ
أَلِيمٍ} ألحق الوعيد الشديد بكنز الذهب والفضة وترك إنفاقهما في سبيل الله
من غير فصل بين الحلي وغيره. وكل مال لم تؤد
زكاته فهو كنز بالحديث الذي روينا فكان تارك
أداء الزكاة منه كانزا فيدخل تحت الوعيد ولا
يلحق الوعيد إلا بترك الواجب. وقول النبي صلى
الله عليه وسلم:
"وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم" من غير فصل بين مال ومال؛ ولأن الحلي مال فاضل عن الحاجة الأصلية
إذ الإعداد للتجمل والتزين دليل الفضل عن
الحاجة الأصلية فكان نعمة لحصول التنعم به
فيلزمه شكرها بإخراج جزء منها للفقراء. وأما
الحديث فقد قال بعض صيارفة الحديث: أنه لم يصح
لأحد شيء في باب الحلي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم والمروي عن ابن عمر معارض بالمروي
عنه أيضا أنه زكى حلي بناته ونسائه على أن
المسألة مختلفة بين الصحابة فلا يكون قول
البعض حجة على البعض, مع ما أن تسمية إعارة
الحلي زكاة لا تنفي وجوب الزكاة المعهودة إذا
قام دليل الوجوب. وقد بينا ذلك هذا إذا كانت
الدراهم فضة خالصة, فأما إذا كانت مغشوشة فإن
كان الغالب هو الفضة فكذلك؛ لأن الغش فيها
مغمور مستهلك كذا روى الحسن عن أبي حنيفة أن
الزكاة تجب في الدراهم الجياد والزيوف
والنبهرجة والمكحلة والمزيفة. قال: لأن الغالب
فيها كلها الفضة وما تغلب فضته على غشه
يتناوله اسم الدراهم مطلقا. والشرع أوجب باسم
الدراهم وإن كان الغالب هو الغش والفضة فيها
مغلوبة, فإن كانت أثمانا رائجة أو كان يمسكها
للتجارة يعتبر قيمتها فإن بلغت قيمتها مائتي
درهم من أدنى الدراهم التي تجب فيها الزكاة
وهي التي الغالب عليها الفضة تجب فيها الزكاة
وإلا فلا. وإن لم تكن أثمانا رائجة ولا معدة
للتجارة فلا زكاة فيها إلا أن يكون ما فيها من
الفضة يبلغ مائتي درهم بأن كانت كبيرة؛ لأن
الصفر لا تجب فيه الزكاة إلا بنية التجارة,
والفضة لا يشترط فيها نية التجارة فإذا أعدها
للتجارة اعتبر القيمة كمعروض التجارة وإذا لم
تكن للتجارة ولا ثمنا رائجة اعتبرنا ما فيها
من الفضة. وكذا روى الحسن عن أبي حنيفة فيمن
كانت عنده فلوس أو دراهم رصاص أو نحاس أو
مموهة بحيث لا يخلص فيها الفضة أنها إن كانت
للتجارة يعتبر قيمتها, فإن بلغت مائتي درهم من
الدراهم التي تغلب فيها الفضة ففيها الزكاة,
وإن لم تكن للتجارة فلا زكاة فيها لما ذكرنا
أن الصفر ونحوه لا تجب فيه الزكاة ما لم تكن
للتجارة. وعلى هذا كان جواب المتقدمين من
مشايخنا بما وراء النهر في الدراهم المسماة
بالغطارفة التي كانت في الزمن المتقدم في
ديارنا أنها إن كانت أثمانا رائجة يعتبر
قيمتها بأدنى ما ينطلق عليه اسم الدراهم وهي
التي تغلب عليها الفضة, وإن لم تكن أثمانا
رائجة فإن كانت سلعا للتجارة تعتبر قيمتها
أيضا, وإن لم تكن للتجارة ففيها الزكاة بقدر
ما فيها من الفضة إن بلغت نصابا, أو بالضم إلى
ما عنده من مال التجارة. وكان الشيخ الإمام
أبو بكر محمد بن الفضل البخاري يفتى بوجوب
الزكاة في كل مائتين فيها ربع عشرها وهو خمسة
منها عددا. وكان يقول: "هو من أعز النقود فينا
بمنزلة الفضة فيهم ونحن أعرف بنقودنا" وهو
اختيار الإمام الحلواني والسرخسي, وقول السلف
أصح لما ذكرنا من الفقه. ولو زاد على نصاب
الفضة شيء فلا شيء في الزيادة حتى تبلغ أربعين
فيجب فيها درهم في قول أبي حنيفة: وعلى هذا
أبدا في كل أربعين درهم. وقال أبو يوسف ومحمد
والشافعي
ج / 2 ص -18-
تجب
الزكاة في الزيادة بحساب ذلك قلت أو كثرت حتى
لو كانت الزيادة درهما يجب فيه جزء من
الأربعين جزءا من درهم. والمسألة مختلفة بين
الصحابة رضي الله عنهم روي عن عمر رضي الله
عنه مثل قول أبي حنيفة. وروي عن علي وابن عمر
رضي الله عنهما مثل قولهم ولا خلاف في السوائم
أنه لا شيء في الزوائد منها على النصاب حتى
تبلغ نصابا احتجوا بما روي عن علي رضي الله
عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"وما زاد على المائتين فبحساب ذلك" وهذا نص في الباب, ولأن شرط النصاب ثبت معدولا به عن القياس؛ لأن
الزكاة عرف وجوبها شكرا لنعمة المال. ومعنى
النعمة يوجد في القليل والكثير, وإنما عرفنا
اشتراطه بالنص, وأنه ورد في أصل النصاب فبقي
الأمر في الزيادة على أصل القياس إلا أن
الزيادة في السوائم لا تعتبر ما لم تبلغ نصابا
دفعا لضرر الشركة إذ الشركة في الأعيان عيب,
وهذا المعنى لم يوجد ههنا ولأبي حنيفة ما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في
كتاب عمرو بن حزم "فإذا بلغت مائتين ففيها
خمسة دراهم وفي كل أربعين درهم, وليس فيما دون
الأربعين صدقة ". وروي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال لمعاذ حين وجهه إلى اليمن "لا تأخذ من الكسور شيئا فإذا كان الورق مائتي درهم فخذ منها خمسة
دراهم, ولا تأخذ مما زاد شيئا حتى يبلغ أربعين
درهما فتأخذ منها درهما" ولأن الأصل أن يكون بعد كل نصاب عفو نظرا لأرباب الأموال كما في
السوائم, ولأن في اعتبار الكسور حرجا وأنه
مدفوع. وحديث علي رضي الله عنه لم يرفعه أحد
من الثقات بل شكوا في قوله: "وما زاد على
المائتين فبحساب ذلك" أن ذلك قول النبي صلى
الله عليه وسلم أو قول علي فإن كان قول النبي
صلى الله عليه وسلم يكون حجة, وإن كان قول علي
رضي الله عنه لا يكون حجة؛ لأن المسألة مختلفة
بين الصحابة رضي الله عنهم فلا يحتج بقول
البعض على البعض. وبه تبين أنه لا يصلح معارضا
لما روينا, وما ذكروا من شكر النعمة فالجواب
عنه ما ذكرنا فيما تقدم؛ لأن معنى النعمة هو
التنعم, وأنه لا يحصل بما دون النصاب ثم يبطل
بالسوائم مع أنه قياس في مقابلة النص, وأنه
باطل والله أعلم.
"فصل": وأما مقدار الواجب فيها فربع العشر وهو خمسة من مائتين؛ للأحاديث
التي روينا إذ المقادير لا تعرف إلا توقيفا
وقوله صلى الله عليه وسلم
"هاتوا ربع عشور أموالكم" وخمسة من مائتين ربع عشرها وأما صدقة الواجب فنذكرها إن شاء الله
تعالى.
"فصل": هذا إذا كان له فضة مفردة, فأما إذا كان له ذهب مفرد فلا شيء فيه
حتى يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ عشرين مثقالا
ففيه نصف مثقال؛ لما روي في حديث عمرو بن حزم "والذهب ما لم
يبلغ قيمته مائتي درهم فلا صدقة فيه فإذا بلغ
قيمته مائتي درهم ففيه ربع العشر" وكان الدينار على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مقوما بعشرة
دراهم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال لعلي "ليس عليك في الذهب زكاة ما لم يبلغ عشرين مثقالا فإذا بلغ عشرين
مثقالا ففيه نصف مثقال"
وسواء كان الذهب لواحد أو كان مشتركا بين
اثنين أنه لا شيء على أحدهما ما لم يبلغ نصيب
كل واحد منهما نصابا عندنا, خلافا للشافعي.
والمسألة تأتي في نصاب السوائم إن شاء الله
تعالى.
ج / 2 ص -19-
لأن
نصف مثقال من عشرين مثقالا ربع عشره. وأما صفة
الواجب فنذكرها إن شاء الله تعالى هذا إذا كان
له فضة مفردة أو ذهب مفرد. فأما إذا كان له
الصنفان جميعا فإن لم يكن كل واحد منهما نصابا
بأن كان له عشرة مثاقيل ومائة درهم فإنه يضم
أحدهما إلى الآخر في حق تكميل النصاب عندنا.
وعند الشافعي لا يضم أحدهما إلى الآخر بل
يعتبر كمال النصاب من كل واحد منهما على حدة.
وجه قوله: أنهما جنسان مختلفان فلا يضم أحدهما
للآخر في تكميل النصاب كالسوائم عند اختلاف
الجنس, وإنما قلنا: أنهما عينان مختلفان
لاختلافهما صورة ومعنى. أما الصورة فظاهر.
وأما المعنى فلأنه يجوز بيع أحدهما بالآخر
متفاضلا وصار كالإبل مع الغنم بخلاف مال
التجارة؛ لأن هناك يكمل النصاب من قيمتها
والقيمة واحدة وهي دراهم أو دنانير فكان مال
الزكاة جنسا واحدا وهو الذهب أو الفضة فأما
الزكاة في الذهب والفضة فإنما تجب لعينها دون
القيمة؛ ولهذا لا يكمل به القيمة حالة
الانفراد, وإنما يكمل بالوزن كثرت القيامة أو
قلت بأن كانت رديئة. "ولنا" ما روي عن بكير بن
عبد الله بن الأشج أنه قال: مضت السنة من
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بضم الذهب
إلى الفضة والفضة إلى الذهب في إخراج الزكاة.
ولأنهما مالان متحدان في المعنى الذي تعلق به
وجوب الزكاة فيهما وهو الإعداد للتجارة بأصل
الخلقة والثمنية فكانا في حكم الزكاة كجنس
واحد. ولهذا اتفق الواجب فيهما وهو ربع العشر
على كل حال وإنما يتفق الواجب عند اتحاد
المال. وأما عند الاختلاف فيختلف الواجب وإذا
اتحد المالان معنى فلا يعتبر اختلاف الصورة
كعروض التجارة ولهذا يكمل نصاب كل واحد منهما
بعروض التجارة ولا يعتبر اختلاف الصورة, كما
إذا كان له أقل من عشرين مثقالا وأقل من مائتي
درهم وله عروض للتجارة ونقد البلد في الدراهم
والدنانير سواء فإن شاء كمل به نصاب الذهب وإن
شاء كمل به نصاب الفضة وصار كالسود مع البيض
بخلاف السوائم؛ لأن الحكم هناك متعلق بالصورة
والمعنى وهما مختلفان صورة ومعنى فتعذر تكميل
نصاب أحدهما بالآخر, ثم إذا وجبت الزكاة عند
ضم أحدهما بالآخر اختلفت الرواية فيما يؤدى
روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه يؤدى من مائة
درهم درهمان ونصف, ومن عشرة مثاقيل ذهب ربع
مثقال وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف؛ لأن
هذا أقرب إلى المعادلة والنظر من الجانبين.
وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنه يقوم أحدهما
بالآخر ثم يؤدي الزكاة من نوع واحد وهو أقرب
إلى موافقة نصوص الزكاة, ثم اختلف أصحابنا في
كيفية الضم فقال أبو حنيفة: يضم أحدهما إلى
الآخر باعتبار القيمة, وقال أبو يوسف ومحمد:
يضم باعتبار الأجزاء وهو رواية عن أبي حنيفة
أيضا ذكره في نوادر هشام. وإنما تظهر ثمرة
الاختلاف فيما إذا كانت قيمة أحدهما لجودته
وصياغته أكثر من وزنه بأن كان له مائة درهم
وخمسة مثاقيل قيمتها مائة درهم فعند أبي حنيفة
يقوم الدنانير بخلاف جنسها دراهم وتضم إلى
الدراهم فيكمل نصاب الدراهم من حيث القيمة
فتجب الزكاة. وعندهما تضم باعتبار الأجزاء فلا
يكمل النصاب؛ لأن له نصف نصاب الفضة وربع نصاب
الذهب فيكون ثلاثة أرباع النصاب فلا يجب شيء.
وعلى هذا لو كان له مائة درهم وعشرة مثاقيل
ذهب قيمتها مائة وأربعون درهما تضم باعتبار
القيمة عند أبي حنيفة فتبلغ مائتين وأربعين
درهما فتجب فيها ستة دراهم, وعندهما تضم
باعتبار الأجزاء فيكون نصف نصاب الذهب ونصف
نصاب الفضة فيكون نصابا تاما فيجب في نصف كل
واحد منهما ربع عشره أما إذا كان وزنهما
وقيمتهما سواء بأن كان له مائة درهم وعشرة
مثاقيل ذهب تساوي مائة أو مائة وخمسون درهما
وخمسة مثاقيل ذهب أو خمسة عشر مثقالا وخمسون
درهما فههنا لا تظهر ثمرة الاختلاف بل يضم
أحدهما إلى الآخر بالإجماع على اختلاف الأصلين
عنده باعتبار التقويم. وعندهما باعتبار
الأجزاء وأجمعوا على أنه إذا كان له مائة درهم
وخمسة مثاقيل ذهب قيمتها خمسون درهما لا تجب
الزكاة فيهما؛ لأن النصاب لم يكمل بالضم لا
باعتبار القيمة ولا باعتبار الأجزاء وأجمعوا
على أنه لا تعتبر القيمة في الذهب والفضة عند
الانفراد في حق تكميل النصاب, حتى أنه إذا كان
له إبريق فضة وزنه مائة درهم وقيمته لصناعة
مائتان لا تجب فيه الزكاة باعتبار القيمة.
وكذلك إذا كان له آنية ذهب وزنها عشرة وقيمتها
لصناعتها مائتا درهم لا تجب فيها الزكاة
ج / 2 ص -20-
باعتبار القيمة. وجه قولهما أن القيمة في
الذهب والفضة ساقطة الاعتبار شرعا؛ لأن سائر
الأشياء تقوم بهما وإنما المعتبر فيهما الوزن
ألا ترى أن من ملك إبريق فضة وزنه مائة وخمسون
درهما وقيمته مائتا درهم لا تجب الزكاة ؟.
وكذلك إذا ملك آنية ذهب وزنها عشرة مثاقيل
وقيمتها مائتا درهم لا تجب الزكاة. ولو كانت
القيمة فيها معتبرة لوجبت ولأبي حنيفة أنهما
عينان وجب ضم أحدهما إلى الآخر لإيجاب الزكاة
فكان الضم باعتبار القيمة كعروض التجارة,
وهذا؛ لأن كمال النصاب لا يتحقق إلا عند اتحاد
الجنس ولا اتحاد إلا باعتبار صفة المالية دون
العين فإن الأموال أجناس بأعيانها جنس واحد
باعتبار صفة المالية فيها, وهذا بخلاف الإبريق
والآنية؛ لأن هناك ما وجب ضمه إلى شيء آخر حتى
تعتبر فيه القيمة وهذا؛ لأن القيمة في الذهب
والفضة إنما تظهر شرعا عند مقابلة أحدهما
بالآخر فإن الجودة والصنعة لا قيمة لها إذا
قوبلت بجنسها. قال النبي صلى الله عليه وسلم
"جيدها ورديئها سواء" فأما
عند مقابلة أحدهما بالآخر فتظهر للجودة قيمة
ألا ترى أنه متى وقعت الحاجة إلى تقويم الذهب
والفضة في حقوق العباد تقوم بخلاف جنسها؟ فإن
اغتصب قلبا فهشمه واختار المالك تضمينه ضمنه
قيمته من خلاف جنسه فكذلك في حقوق الله تعالى,
ولأن في التكميل باعتبار التقويم ضرب احتياط
في باب العبادة ونظرا للفقراء فكان أولى, ثم
عند أبي حنيفة يعتبر في التقويم منفعة الفقراء
كما هو أصله حتى روي عنه أنه قال: إذا كان
لرجل مائة وخمسة وتسعون درهما ودينار يساوي
خمسة دراهم إنه تجب الزكاة, وذلك بأن يقوم
الفضة بالذهب كل خمسة منها بدينار وهذا الذي
ذكرنا كله من وجوب الضم إذا لم يكن كل واحد
منهما نصابا بأن كان أقل من النصاب فأما إذا
كان كل واحد منهما نصابا تاما ولم يكن زائدا
عليه لا يجب الضم بل ينبغي أن يؤدي من كل واحد
منهما زكاته. ولو ضم أحدهما إلى الآخر حتى
يؤدى كله من الفضة أو من الذهب فلا بأس به
عندنا ولكن يجب أن يكون التقويم بما هو أنفع
للفقراء رواجا وإلا فيؤدى من كل واحد منهما
ربع عشره. وإن كان على كل واحد من النصابين
زيادة فعند أبي يوسف ومحمد لا يجب ضم إحدى
الزيادتين إلى الأخرى؛ لأنهما يوجبان الزكاة
في الكسور بحساب ذلك. وأما عند أبي حنيفة
فينظر إن بلغت الزيادة أربع مثاقيل وأربعين
درهما فكذلك. وإن كان أقل من أربعة مثاقيل
وأقل من أربعين درهما يجب ضم إحدى الزيادتين
إلى الأخرى ليتم أربعين درهما أو أربعة
مثاقيل؛ لأن الزكاة لا تجب في الكسور عنده
والله أعلم.
"فصل": وأما أموال التجارة فتقدير النصاب فيها بقيمتها من الدنانير
والدراهم فلا شيء فيها ما لم تبلغ قيمتها
مائتي درهم أو عشرين مثقالا من ذهب فتجب فيها
الزكاة, وهذا قول عامة العلماء, وقال أصحاب
الظواهر: ولا زكاة فيها أصلا, وقال مالك: إذا
نضت زكاها لحول واحد. وجه قول أصحاب الظواهر
أن وجوب الزكاة إنما عرف بالنص والنص ورد
بوجوبها في الدراهم والدنانير والسوائم فلو
وجبت في غيرها لوجبت بالقياس عليها والقياس
ليس بحجة خصوصا في باب المقادير. "ولنا" ما
روي عن سمرة بن جندب أنه قال "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يأمرنا بإخراج الزكاة من
الرقيق الذي كنا نعده للبيع". وروي عن أبي ذر
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"في البر صدقة", وقال صلى
الله عليه وسلم
"هاتوا ربع عشر أموالكم" فإن قيل: الحديث ورد في نصاب الدراهم؛ لأنه قال في آخره: "من كل
أربعين درهما درهم". فالجواب أن أول الحديث
عام وخصوص آخره يوجب سلب عموم أوله أو نحمل
قوله من كل أربعين درهم على القيمة أي: من كل
أربعين درهما من قيمتها درهم. وقال صلى الله
عليه وسلم
"وأدوا زكاة أموالكم" من غير فصل
بين مال ومال إلا ما خص بدليل, ولأن مال
التجارة مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية فيكون
مال الزكاة كالسوائم. وقد خرج الجواب عن
قولهم: إن وجوب الزكاة عرف بالنص؛ لأنا قد
روينا النص في الباب على أن أصل الوجوب عرف
بالعقل وهو شكر لنعمة المال وشكر نعمة القدرة
بإعانة العاجز إلا أن مقدار الواجب عرف
بالسمع. وما ذكر مالك غير سديد؛ لأنه وجد سبب
وجوب الزكاة وشرطه في كل حول فلا معنى لتخصيص
الحول الأول بالوجوب فيه كالسوائم والدراهم
والدنانير, وسواء كان مال التجارة عروضا أو
عقارا أو شيئا مما يكال
ج / 2 ص -21-
أو
يوزن؛ لأن الوجوب في أموال التجارة تعلق
بالمعنى وهو المالية والقيمة, وهذه الأموال
كلها في هذا المعنى جنس واحد. وكذا يضم بعض
أموال التجارة إلى البعض في تكميل النصاب لما
قلنا. وإذا كان تقدير النصاب من أموال التجارة
بقيمتها من الذهب والفضة وهو أن تبلغ قيمتها
مقدار نصاب من الذهب والفضة فلا بد من التقويم
حتى يعرف مقدار النصاب ثم بماذا تقوم؟ ذكر
القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه يقوم بأوفى
القيمتين من الدراهم والدنانير حتى إنها إذا
بلغت بالتقويم بالدراهم نصابا ولم تبلغ
بالدنانير قومت بما تبلغ به النصاب. وكذا روي
عن أبي حنيفة في الأمالي أنه يقومها بأنفع
النقدين للفقراء. وعن أبي يوسف أنه يقومها بما
اشتراها به فإن اشتراها بالدراهم قومها
بالدراهم وإن اشتراها بالدنانير قومها
بالدنانير وإن اشتراها بغيرهما من العروض أو
لم يكن اشتراها بأن كان وهب له فقبله ينوي به
التجارة قومها بالنقد الغالب في ذلك الموضع.
وعند محمد يقومها بالنقد الغالب على كل حال
وذكر في كتاب الزكاة أنه يقومها يوم حال الحول
إن شاء بالدراهم وإن شاء بالدنانير. وجه قول
محمد أن التقويم في حق الله تعالى يعتبر
بالتقويم في حق العباد ثم إذا وقعت الحاجة إلى
تقويم شيء من حقوق العباد كالمغصوب والمستهلك
يقوم بالنقد الغالب في البلدة كذا هذا. وجه
قول أبي يوسف أن المشترى بدل وحكم البدل يعتبر
بأصله فإذا كان مشترى بأحد النقدين فتقويمه
بما هو أصله أولى. وجه رواية كتاب الزكاة أن
وجوب الزكاة في عروض التجارة باعتبار ماليتها
دون أعيانها, والتقويم لمعرفة مقدار المالية
والنقدان في ذلك سيان فكان الخيار إلى صاحب
المال يقومه بأيهما شاء. ألا ترى أن في
السوائم عند الكثرة وهي ما إذا بلغت مائتين
الخيار إلى صاحب المال إن شاء أدى أربع حقاق
وإن شاء خمس بنات لبون؟ فكذا هذا. وجه قول أبي
حنيفة أن الدراهم والدنانير وإن كانا في
الثمنية والتقويم بهما سواء, لكنا رجحنا
أحدهما بمرجح وهو النظر للفقراء, والأخذ
بالاحتياط أولى ألا ترى أنه لو كان بالتقويم
بأحدهما يتم النصاب وبالآخر لا فإنه يقوم بما
يتم به النصاب نظرا للفقراء واحتياطا؟ كذا
هذا. ومشايخنا حملوا رواية كتاب الزكاة على ما
إذا كان لا يتفاوت النفع في حق الفقراء
بالتقويم بأيهما كان جمعا بين الروايتين.
وكيفما كان ينبغي أن يقوم بأدنى ما ينطلق عليه
اسم الدراهم أو الدنانير وهي التي يكون الغالب
فيها الذهب والفضة, وعلى هذا إذا كان مع عروض
التجارة ذهب وفضة فإنه يضمها إلى العروض
ويقومه جملة؛ لأن معنى التجارة يشمل الكل لكن
عند أبي حنيفة يضم باعتبار القيمة إن شاء قوم
العروض وضمها إلى الذهب والفضة, وإن شاء قوم
الذهب والفضة وضم قيمتهما إلى قيمة أعيان
التجارة. وعندهما يضم باعتبار الأجزاء فتقوم
العروض فيضم قيمتها إلى ما عنده من الذهب
والفضة فإن بلغت الجملة نصابا تجب الزكاة وإلا
فلا. ولا يقوم الذهب والفضة عندهما أصلا في
باب الزكاة على ما مر.
"فصل": وأما صفة هذا النصاب فهي أن يكون معدا للتجارة وهو أن يمسكها
للتجارة وذلك بنية التجارة مقارنة لعمل
التجارة لما ذكرنا فيما تقدم بخلاف الذهب
والفضة فإنه لا يحتاج فيهما إلى نية التجارة؛
لأنها معدة للتجارة بأصل الخلقة فلا حاجة إلى
إعداد العبد ويوجد الإعداد منه دلالة على ما
مر.
"فصل": وأما مقدار الواجب من هذا النصاب فما هو مقدار الواجب من نصاب
الذهب والفضة وهو ربع العشر؛ لأن نصاب مال
التجارة مقدر بقيمته من الذهب والفضة فكان
الواجب فيه ما هو الواجب في الذهب والفضة وهو
ربع العشر, ولقول النبي: صلى الله عليه وسلم
"هاتوا ربع
عشور أموالكم" من غير
فصل.
ج / 2 ص -22-
فإن
أدى القيمة يؤدي خمسة دراهم في الزيادة
والنقصان جميعا؛ لأنه تبين أنها هي الواجبة
يوم الحول. وعند أبي يوسف ومحمد إن أدى من
عينها يؤدي خمسة أقفزة في الزيادة والنقصان
جميعا, كما قال أبو حنيفة: وإن أدى من القيمة
يؤدي في النقصان درهمين ونصفا وفي الزيادة
عشرة دراهم؛ لأن الواجب الأصلي عندهما هو ربع
عشر العين وإنما له ولاية النقل إلى القيمة
يوم الأداء فيعتبر قيمتها يوم الأداء, والصحيح
أن هذا مذهب جميع أصحابنا؛ لأن المذهب عندهم
أنه إذا هلك النصاب بعد الحول تسقط الزكاة
سواء كان من السوائم أو من أموال التجارة. ولو
كان الواجب أحدهما غير عين عند أبي حنيفة
لتعينت القيمة عند هلاك العين على ما هو الأصل
في التخيير بين شيئين إذا هلك أحدهما أنه
يتعين الآخر. وكذا لو وهب النصاب من الفقير
ولم تحضره النية أصلا سقطت عنه الزكاة, ولو لم
يكن الواجب في النصاب عينا لما سقطت كما إذا
وهب منه غير النصاب. وكذا إذا باع نصاب الزكاة
من السوائم والساعي حاضر إن شاء أخذ من
المشتري وإن شاء أخذ من البائع, ولولا أن
الواجب ربع عشر العين لما ملك الأخذ من غير
المشتري, فدل أن مذهب جميع أصحابنا هذا وهو أن
الواجب ربع عشر العين إلا عند أبي حنيفة
الواجب عند الحول ربع عشر العين من حيث إنه
مال لا من حيث إنه عين, وعندهما الواجب ربع
عشر العين من حيث الصورة والمعنى جميعا لكن
لمن عليه حق النقل من العين إلى القيمة وقت
الأداء ومسائل الجامع مبنية على هذا الأصل على
ما نذكر, وقال الشافعي: الواجب من قدر الزكاة
بعد الحول في الذمة لا في النصاب, وعلى هذا
ينبني ما إذا هلك مال الزكاة بعد الحول وبعد
التمكن من الأداء أنه تسقط عنه الزكاة عندنا,
وعنده لا تسقط وإذا هلك قبل التمكن من الأداء
لا تجب عندنا وللشافعي قولان: في قول لا تجب
أصلا, وفي قول تجب ثم تسقط لا إلى ضمان ولا
خلاف في أن صدقة الفطر لا تسقط بهلاك النصاب,
وعلى هذا الخلاف العشر والخراج. وجه قول
الشافعي أن هذا حق وجب في ذمته وتقرر بالتمكن
من الأداء فلا يسقط بهلاك النصاب كما في ديون
العباد وصدقة الفطر, وكما في الحج فإنه إذا
كان موسرا وقت خروج القافلة من بلده ثم هلك
ماله لا يسقط الحج عنه وإنما قلنا: إنه وجب في
ذمته؛ لأن الشرع أضاف الإيجاب إلى مال لا
بعينه. قال النبي صلى الله عليه وسلم
"في مائتي
درهم خمسة دراهم, وفي أربعين شاة شاة"
أوجب خمسة وشاة لا بعينها. والواجب إذا لم يكن
عينا كان في الذمة كما في صدقة الفطر ونحوها,
ولأن غاية الأمر أن قدر الزكاة أمانة في يده
لكنه مطالب شرعا بالأداء بعد التمكن منه ومن
منع الحق عن المستحق بعد طلبه يضمن كما في
سائر الأمانات والخلاف ثابت فيما إذا طلبه
الفقير أو طالبه الساعي بالأداء فلم يؤد حتى
هلك النصاب. ولنا أن المالك إما أن يؤاخذ بأصل
الواجب أو بضمانه لا وجه للأول؛ لأن محله
النصاب والحق لا يبقى بعد فوات محله كالعبد
الجاني, أو المديون إذا هلك, والشقص الذي فيه
الشفعة إذا صار بحرا. والدليل على أن محل أصل
الواجب هو النصاب قوله تعالى
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً}, وقول النبي صلى الله عليه وسلم
"خذ من الذهب الذهب, ومن الفضة الفضة, ومن الإبل الإبل" الحديث. وكلمة من تبعيض فيقتضي أن يكون الواجب بعض النصاب. وقوله
صلى الله عليه وسلم
"في مائتي
درهم خمسة دراهم, وفي أربعين شاة شاة"
جعل الواجب مظروفا في النصاب؛ لأن في للظرف,
ولأن الزكاة عرف وجوبها على طريق اليسر وطيبة
النفس بأدائها ولهذا اختص وجوبها بالمال
النامي الفاضل عن الحاجة الأصلية وشرط لها
الحول وكمال النصاب. ومعنى اليسر في كون
الواجب في النصاب يبقى ببقائه ويهلك بهلاكه,
ولا سبيل إلى الثاني؛ لأن وجوب الضمان يستدعي
تفويت ملك أو يد كما في سائر الضمانات, وهو
بالتأخير عن أول أوقات الإمكان لم يفوت على
الفقير ملكا ولا يدا فلا يضمن بخلاف صدقة
الفطر والحج؛ لأن محل الواجب هناك ذمته لا
ماله وذمته باقية بعد هلاك المال. وأما قوله:
إنه منع حق الفقير بعد طلبه فنقول: إن هذا
الفقير ما تعين مستحقا لهذا الحق فإن له أن
يصرفه إلى فقير آخر, وإن طالبه الساعي فامتنع
من الأداء حتى هلك المال قال أهل العراق من
أصحابنا: إنه يضمن؛ لأن الساعي متعين للأخذ
فيلزمه الأداء عند طلبه فيصير بالامتناع مفوتا
فيضمن. ومشايخنا بما وراء النهر قالوا: إنه لا
يضمن. وهو الأصح فإنه ذكر في كتاب الزكاة إذا
حبس السائمة بعد ما وجبت الزكاة فيها حتى
ج / 2 ص -23-
تويت
لم يضمنها ومعلوم أنه لم يرد بهذا الحبس أن
يمنعها العلف والماء؛ لأن ذلك استهلاك لها ولو
استهلكها يصير ضامنا لزكاتها وإنما أراد به
حبسها بعد طلب الساعي لها. والوجه فيه أنه ما
فوت بهذا الحبس ملكا ولا يدا على أحد فلا يصير
ضامنا, وله رأي في اختيار محل الأداء إن شاء
من السائمة وإن شاء من غيرها فإنما حبس
السائمة ليؤدي من محل آخر فلا يصير ضامنا, هذا
إذا هلك كل النصاب فإن هلك بعضه دون بعض فعليه
في الباقي حصته من الزكاة إذا لم يكن في المال
فضل على النصاب بلا خلاف؛ لأن البعض معتبر
بالكل, ثم إذا هلك الكل سقط جميع الزكاة فإذا
هلك البعض يجب أن يسقط بقدر هذا إذا لم يكن في
المال عفو, فأما إذا اجتمع فيه النصاب والعفو
ثم هلك البعض فعلى قول أبي حنيفة وأبي يوسف:
يصرف الهلاك إلى العفو أولا كأنه لم يكن في
ملكه إلا النصاب. وعند محمد وزفر يصرف الهلاك
إلى الكل شائعا حتى إذا كان له تسعة من الإبل
فحال عليها الحول ثم هلك منها أربعة فعليه في
الباقي شاة كاملة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف,
وعند محمد وزفر عليه في الباقي خمسة أتساع
شاة. والأصل عند أبي حنيفة وأبي يوسف أن
الوجوب يتعلق بالنصاب دون العفو, وعند محمد
وزفر رحمهما الله يتعلق بهما جميعا واحتجا
بقول النبي صلى الله عليه وسلم
"في خمس من الإبل شاة إلى تسع"
أخبر أن الوجوب يتعلق بالكل, ولأن سبب الوجوب
هو المال النامي, والعفو مال نام. ومع هذا لا
تجب بسببه زيادة على أن الوجوب في الكل نظيره
إذا قضى القاضي بحق بشهادة ثلاثة نفر كان
قضاؤه بشهادة الكل, وإن كان لا حاجة إلى
القضاء إلى الثالث, وإذا ثبت أن الوجوب في
الكل فما هلك يهلك بزكاته وما بقي يبقى بزكاته
كالمال المشترك. واحتج أبو حنيفة وأبو يوسف
بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عمرو
بن حزم
"في خمس من الإبل السائمة شاة وليس في الزيادة شيء حتى تكون عشرا" وقال في
حديثه أيضا
"في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض وليس في الزيادة شيء إلى خمس
وثلاثين" وهذا نص
على أن الواجب في النصاب دون الوقص ولأن الوقص
والعفو تبع للنصاب؛ لأن النصاب باسمه وحكمه
يستغني عن الوقص والوقص باسمه وحكمه لا يستغني
عن النصاب. والمال إذا اشتمل على أصل وتبع
فإذا هلك منه شيء يصرف الهلاك إلى التبع دون
الأصل كمال المضاربة إذا كان فيه ربح فهلك شيء
منه يصرف الهلاك إلى الربح دون رأس المال كذا
هذا. وعلى هذا إذا حال الحول على ثمانين شاة
ثم هلك أربعون منها وبقي أربعون فعليه في
الأربعين الباقية شاة كاملة في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف رحمهما الله؛ لأن الهلاك يصرف إلى
العفو أولا عندهما فجعل كأن الغنم أربعون من
الابتداء. وفي قول محمد وزفر: عليه في الباقي
نصف شاة؛ لأن الواجب في الكل عندهما وقد هلك
النصف فيسقط الواجب بقدره, ولو هلك منها عشرون
وبقي ستون فعليه في الباقي شاة عند أبي حنيفة
وأبي يوسف, وعند محمد وزفر ثلاثة أرباع شاة
لما قلنا وعلى هذا مسائل في الجامع, ثم اختلف
أصحابنا فيما بينهم فعند أبي حنيفة الواجب في
الدراهم والدنانير وأموال التجارة جزء من
النصاب من حيث المعنى لا من حيث الصورة, وعند
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله الواجب هو الجزء
منه صورة ومعنى لكن يجوز إقامة غيره مقامه من
حيث المعنى ويبطل اعتبار الصورة بإذن صاحب
الحق وهو الله تعالى. وأما في زكاة السوائم
فقد اختلف مشايخنا على قول أبي حنيفة قال
بعضهم: الواجب هناك أيضا جزء من النصاب من حيث
المعنى وذكر المنصوص عليه من خلاف جنس النصاب
للتقدير, وقال بعضهم: الواجب هو المنصوص عليه
لا جزء من النصاب لكن من حيث المعنى, وعندهما
الواجب هو المنصوص عليه صورة ومعنى, لكن يجوز
إقامة غيره مقامه من حيث المعنى دون الصورة
على ما ذكرنا وينبني على هذا الأصل مسائل
الجامع إذا كان لرجل مائتا قفيز حنطة للتجارة
تساوي مائتي درهم ولا مال له غير ذلك وحال
عليها الحول فإن أدى من عينها يؤدي خمسة أقفزة
بلا خلاف؛ لأنها هي ربع عشر النصاب وهو الواجب
على ما مر, ولو أراد أن يؤدي القيمة جاز عندنا
خلافا للشافعي, لكن عند أبي حنيفة في الزيادة
والنقصان جميعا يؤدي قيمتها يوم الحول وهي
خمسة دراهم, وعندهما في الفصلين جميعا يؤدي
قيمتها يوم الأداء في النقصان درهمين ونصفا
وفي الزيادة عشرة هما يقولان الواجب جزء من
النصاب وغير
ج / 2 ص -24-
المنصوص عليه حق لله تعالى غير أن الشرع أثبت
له ولاية أداء القيمة إما تيسيرا عليه وإما
نقلا للحق. والتيسير له في الأداء دون الواجب.
وكذا الحاجة إلى نقل حق الله تعالى إلى مطلق
المال وقت الأداء إلى الفقير فبقي الواجب إلى
وقت الأداء في الذمة عين المنصوص عليه وجزء
النصاب, ثم عند الأداء ينقل ذلك إلى القيمة
فتعتبر القيمة يوم النقل كما في ولد المغرور
أنه يضمن المغرور قيمته للمالك يوم التضمين؛
لأن الولد في حقه, وإن علق حر الأصل ففي حق
المستحق جعل مملوكا له لحصوله عن مملوكته
وإنما ينقل عنه حقه إلى القيمة يوم الخصومة
فكذا ههنا وأبو حنيفة يقول: الواجب هو الجزء
من النصاب, غير أن وجوبه من حيث إنه مطلق
المال لا من حيث إنه جزء من النصاب بدليل أنه
يجوز أداء الشاة عن خمس من الإبل وإن لم يكن
جزءا منها, والتعلق بكونه جزء للتيسير لا
للتحقيق؛ لأن الأداء منه أيسر في الأغلب حتى
أن الأداء من غير الجزء لو كان أيسر مال إليه
وعند ميله إليه يتبين أنه هو الواجب؛ لأنه هو
مطلق المال وهذا هو الواجب على طريق
الاستحقاق. وكذا المنصوص عليه معلول بمطلق
المال, والتعلق به للتيسير بدليل جواز أداء
الواحد من الخمس, والناقة الكوماء عن بنت مخاض
فكان الواجب عند الحول ربع العشر من حيث إنه
مال, والمنصوص عليه من حيث إنه مال فوجب
اعتبار قيمته يوم الوجوب ولا يعتبر التغير
بسبب نقصان السعر؛ لأنه لا عبرة به لإسقاط
الزكاة الواجبة احتياطا لحق الفقراء. وأما في
السوائم اختلف المشايخ على قول أبي حنيفة قال
بعضهم: يعتبر قيمتها يوم الوجوب كما في مال
التجارة؛ لأن الواجب جزء من النصاب من حيث إنه
مال في جميع أموال الزكاة, وقال بعضهم يوم
الأداء كما قالا؛ لأن الواجب ثمة هو المنصوص
عليه صورة ومعنى ولكن يجوز إقامة غيره مقامه
والله أعلم. وكذلك الجواب في مال الزكاة إذا
كان جارية تساوي مائتين في جميع ما ذكرنا من
تغير السعر إلى زيادة أو نقصان وللمسألة فروع
تعرف في كتاب الزكاة من الجامع هذا إذا هلك
النصاب بعد الحول
فأما إذا تصرف فيه المالك فهل يجوز تصرفه؟
عندنا يجوز وعند الشافعي لا, وهذا بناء على
أصلنا أن التصرف في مال الزكاة بعد وجوبها
جائز عندنا حتى لو باع نصاب الزكاة جاز البيع
في الكل عندنا. وأما عند الشافعي فلا يجوز في
قدر الزكاة قولا واحدا. وله في الزيادة على
قدر الزكاة قولان. وجه قوله أن الواجب جزء من
النصاب لما ذكرنا من الدلائل فلا يخلو إما أن
يكون وجوبه حقا للعبد كما يقول أو حقا لله
تعالى كما يقولون وكل ذلك يمنع من التصرف فيه,
ولنا أن الزكاة اسم للفعل وهو إخراج المال إلى
الله وقبل الإخراج لا حق في المال حتى يمنع
نفاذ البيع فيه فينفذ كالعبد إذا جنى جناية
فباعه المولى فينفذ بيعه؛ لأن الواجب فيه هو
فعل الدفع فكان المحل خاليا عن الحق قبل الفعل
فنفذ البيع فيه كذا هذا. وإذا جاز التصرف في
النصاب بعد وجوب الزكاة فيه عندنا فإذا تصرف
المالك فيه ينظر إن كان استبدالا بمثله لا
يضمن الزكاة وينتقل الواجب إليه يبقى ببقائه
ويسقط بهلاكه, وإن كان استهلاكا يضمن الزكاة
ويصير دينا في ذمته. بيان ذلك إذا حال الحول
على مال التجارة ووجبت فيه الزكاة فأخرجه
المالك عن ملكه بالدراهم والدنانير أو بعرض
التجارة فباعه بمثل قيمته لا يضمن الزكاة؛
لأنه ما أتلف الواجب بل نقله من محل إلى محل
مثله إذ المعتبر في مال التجارة هو المعنى وهو
المالية لا الصورة فكان الأول قائما معنى
فيبقى الواجب ببقائه ويسقط بهلاكه. وكذا لو
باعه وحابى بما يتغابن الناس في مثله؛ لأن ذلك
مما لا يمكن التحرز عنه فجعل عفوا ولهذا جعل
عفوا في بيع الأب والوصي وإن حابى بما لا
يتغابن الناس في مثله يضمن قدر زكاة المحاباة
ويكون دينا في ذمته وزكاة ما بقي يتحول إلى
العين يبقى ببقائها ويسقط بهلاكها. ولو أخرج
مال الزكاة عن ملكه بغير عوض أصلا بالهبة
والصدقة من غير الفقير والوصية, أو بعوض ليس
بمال بأن تزوج عليه امرأة, أو صالح به من دم
العمد, أو اختلعت به المرأة يضمن الزكاة في
ذلك كله؛ لأن إخراج المال بغير عوض إتلاف له.
وكذا بعوض ليس بمال. وكذا لو أخرجه بعوض هو
مال لكنه ليس بمال الزكاة بأن باعه بعبد
الخدمة أو ثياب البذلة سواء بقي العوض في يده
أو هلك؛ لأنه أبطل المعنى الذي صار المال به
مال الزكاة فكان استهلاكه في حق الزكاة. وكذا
لو استأجر به عينا من الأعيان؛ لأن المنافع,
وإن كانت مالا في نفسها لكنها ليست بمال
الزكاة؛ لأنه لا بقاء لها وكذا لو صرف مال
الزكاة إلى حوائجه بالأكل والشرب واللبس لوجود
حقيقة الاستهلاك
ج / 2 ص -25-
وكذا
إذا باع مال التجارة بالسوائم على أن يتركها
سائمة يضمن الزكاة؛ لأن زكاة مال التجارة خلاف
زكاة السائمة فيكون استهلاكا. ولو كان مال
الزكاة سائمة فباعها بخلاف جنسها من الحيوان
والعروض والأثمان أو بجنسها يضمن ويصير قدر
الزكاة دينا في ذمته لا يسقط بهلاك ذلك العوض؛
لما ذكرنا أن وجوب الزكاة في السوائم يتعلق
بالصورة والمعنى فبيعها يكون استهلاكا لها لا
استبدالا, ولو كان مال الزكاة دراهم أو دنانير
فأقرضها بعد الحول فثوى المال عنده ذكر في
العيون عن محمد أنه لا زكاة عليه؛ لأنه لم
يوجد منه الإتلاف. وكذا لو كان مال الزكاة
ثوبا فأعاره فهلك لما قلنا وقالوا في عبد
التجارة إذا قتله عبد خطأ فدفع به أن الثاني
للتجارة؛ لأنه عوض عن الأول قائم مقامه كأنه
هو, ولو قتله عمدا وصالحه المولى من الدم على
عبد أو غيره لم يكن للتجارة؛ لأن الثاني ليس
بعوض عن الأول بل هو عوض عن القصاص والقصاص
ليس بمال. وقالوا فيمن اشترى عصيرا للتجارة
فصار خمرا ثم صار خلا: إنه للتجارة؛ لأن
العارض هو التخمر وأثر التخمر في زوال صفة
التقوم ولا غير, وقد عادت الصفة بالتخلل فصار
مالا متقوما كما كان وكذلك قالوا في الشاة إذا
ماتت فدبغ جلدها أن جلدها يكون للتجارة لما
قلنا. ولو باع السائمة بعد وجوب الزكاة فيها
فإن كان المصدق حاضرا ينظر إليها فهو بالخيار
إن شاء أخذ قيمة الواجب من البائع وتم البيع
في الكل, وإن شاء أخذ الواجب من العين
المشتراة, ويبطل البيع في القدر المأخوذ. وإن
لم يكن حاضرا وقت البيع فحضر بعد البيع
والتفرق عن المجلس فإنه لا يأخذ من المشتري
ولكنه يأخذ قيمة الواجب من البائع. وإنما كان
كذلك؛ لأن بيع السائمة بعد وجوب الزكاة فيها
استهلاك لها لما بينا إلا أن معنى الاستهلاك
بإزالة الملك قبل الافتراق عن المجلس ثبت
بالاجتهاد إذ المسألة اجتهادية مختلفة بين
الصحابة رضي الله عنهم فللساعي أن يأخذ بأي
القولين أفضى اجتهاده إليه فإن أفضى اجتهاده
إلى زوال الملك بنفس البيع أخذ قيمة الواجب
منه لحصول الاستهلاك وتم البيع في الكل إذ لم
يستحق شيء من المبيع. وإن أفضى اجتهاده إلى
عدم الزوال أخذ الواجب من غير المشتري كما قبل
البيع ويبطل البيع في القدر المأخوذ كأنه
استحق هذا القدر من المبيع فأما بعد الافتراق
فقد تأكد زوال الملك لخروجه عن محل الاجتهاد
فتأكد الاستهلاك فصار الواجب دينا في ذمته فهو
الفرق. وهل يشترط نقل الماشية من موضعها مع
افتراق العاقدين بأنفسهما؟ لم يشترط ذلك في
ظاهر الرواية وشرطه الكرخي وقال إن حضر المصدق
قبل النقل فله الخيار. وكذا روى ابن سماعة عن
محمد ولو باع طعاما وجب فيه العشر فالمصدق
بالخيار إن شاء أخذ من البائع وإن شاء أخذ من
المشتري سواء حضر قبل الافتراق أو بعده بخلاف
الزكاة. ووجه الفرق أن تعلق العشر بالعين آكد
من تعلق الزكاة بها ألا ترى أن العشر لا يعتبر
فيه المالك بخلاف الزكاة؟ ولو مات من عليه
العشر قبل أدائه من غير وصية يؤخذ من تركته
بخلاف الزكاة والله أعلم. وهذا الذي ذكرنا أن
الواجب أداء جزء من النصاب من حيث المعنى أو
من حيث الصورة. والمعنى مذهب أصحابنا رحمهم
الله فأما عند الشافعي فالواجب أداء عين
المنصوص عليه, ويبنى عليه أن دفع القيم
والأبدال في باب الزكاة, والعشر, والخراج,
وصدقة الفطر, والنذور, والكفارات جائز عندنا,
وعنده لا يجوز إلا أداء المنصوص عليه. واحتج
بقول النبي: صلى الله عليه وسلم
"في الخمس من الإبل السائمة شاة", وقوله:
"في أربعين شاة شاة". وكل ذلك
بيان لمجمل كتاب الله تعالى
{وَآتُوا
الزَّكَاةَ} إذ ليس فيه بيان الزكاة فبينه النبي صلى الله عليه وسلم والتحق
البيان بمجمل الكتاب فصار كأن الله تعالى قال
"وآتوا الزكاة من كل أربعين شاة شاة وفي خمس
من الإبل شاة" فصارت الشاة واجبة للأداء
بالنص. ولا يجوز الاشتغال بالتعليل؛ لأنه يبطل
حكم النص, ولهذا لا يجوز إقامة السجود على
الخد والذقن مقام السجود على الجبهة والأنف,
والتعليل فيه بمعنى الخضوع لما ذكرنا كذا هذا,
وصار كالهدايا والضحايا. وجواز أداء البعير عن
خمس من الإبل عندي باعتبار النص وهو قوله: صلى
الله عليه وسلم
"خذ من الإبل الإبل" إلا
أن عند قلة الإبل أوجب من خلاف الجنس تيسيرا
على أرباب الأموال فإذا سمحت نفسه بأداء بعير
من الخمس فقد ترك هذا التيسير فجاز بالنص لا
بالتعليل. ولنا في المسألة طريقان أحدهما طريق
أبي حنيفة والثاني طريق أبي يوسف ومحمد أما
طريق أبي حنيفة فهو أن الواجب أداء جزء من
النصاب من حيث المعنى وهو المالية
ج / 2 ص -26-
وأداء
القيمة مثل أداء الجزء من النصاب من حيث إنه
مال. وبيان كون الواجب أداء جزء من النصاب ما
ذكرنا في مسألة التفريط. والدليل على أن الجزء
من النصاب واجب من حيث إنه مال أن تعلق الواجب
بالجزء من النصاب للتيسير ليبقى الواجب ببقائه
ويسقط بهلاكه. ومعنى التيسير إنما يتحقق أن لو
تعين الجزء من النصاب للوجوب من حيث هو مال,
إذ لو تعلق الوجوب بغير الجزء لبقيت الشركة في
النصاب للفقراء وفيه من العسر والمشقة ما لا
يخفى خصوصا إذا كان النصاب من نفائس الأموال
نحو الجواري الحسان والأفراس الفارهة للتجارة
ونحوها ولا كذلك إذا كان التعلق به من حيث هو
مال؛ لأنه حينئذ كان الاختيار إلى رب المال
فإن رأى الجزء إليه أيسر أدى الجزء, وإن رأى
أداء غيره أيسر مال إليه فيحصل معنى اليسر,
وبه تبين أن ذكر الشاة في الحديث لتقدير
المالية لا لتعلق الحكم به وقد روي عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم
"أنه رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء فغضب على المصدق وقال: ألم أنهكم عن
أخذ كرائم أموال الناس؟ فقال: أخذتها ببعيرين
من إبل الصدقة" وفي رواية
"ارتجعتها فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم". وأخذ البعير ببعيرين يكون باعتبار القيمة فدل على صحة مذهبنا.
وأما طريق أبي يوسف ومحمد فهو أن الواجب عين
ما ورد به النص وهو أداء ربع العشر في مال
التجارة وأداء المنصوص عليه في السوائم صورة
ومعنى غير معقول المعنى بل هو تعبد محض حتى
أنه سبحانه وتعالى لو أمرنا بإتلافه حقا له أو
سبيه لفعلنا ولم نعدل عن المنصوص عليه إلى
غيره غير أن الله تعالى لما أمر بصرفه إلى
عباده المحتاجين كفاية لهم وكفايتهم متعلقة
بمطلق المال صار وجوب الصرف إليهم معقول
المعنى وهو الكفاية التي تحصل بمطلق المال
فصار معلولا بمطلق المال, وكان أمره عز وجل
أرباب الأموال بالصرف إلى الفقير إعلاما له
أنه أذن لهم بنقل حقه الثابت في المنصوص عليه
إلى مطلق المال, كمن له على رجل حنطة ولرجل
آخر على صاحب الدين دراهم فأمر من له الحنطة
من عليه الحنطة بأن يقضي دين الدراهم من الذي
له عليه وهو الحنطة كان ذلك إذنا منه إياه
بنقل حقه إلى الدراهم بأن يستبدل الحنطة
بالدراهم وجعل المأمور بالأداء كأنه أدى عين
الحق إلى من له الحق ثم استبدل ذلك وصرف إلى
الآخر ما أمر بالصرف إليه فصار ما وصل إلى
الفقير معلولا بمطلق المال سواء كان المنصوص
عليه أو غيره جزءا من النصاب أو غيره. وأداء
القيمة أداء مال مطلق مقدر بقيمة المنصوص عليه
بنية الزكاة فيجزئه, كما لو أدى واحدا من خمس
من الإبل بخلاف السجود على الخد والذقن؛ لأن
معنى القربة فاتت أصلا, ولهذا لا ينتقل به ولا
يصار إليه عند العجز وما ليس بقربة لا يقوم
مقام القربة وبخلاف الهدايا والضحايا؛ لأن
الواجب فيها إراقة الدم حتى لو هلك بعد الذبح
قبل التصدق لا يلزمه شيء. وإراقة الدم ليس
بمال فلا يقوم المال مقامه والله أعلم.
"فصل":
وأما
السوائم من الإبل والبقر والغنم أما نصاب
الإبل فليس فيما دون خمس من الإبل زكاة, وفي
الخمس شاة, وفي العشر شاتان, وفي خمسة عشر
ثلاث شياه, وفي عشرين أربع شياه, وفي خمس
وعشرين بنت مخاض, وفي ست وثلاثين بنت لبون,
وفي ست وأربعين حقة, وفي إحدى وستين جذعة, وهي
أقصى سن لها مدخل في الزكاة. والأصل فيه ما
روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب
كتابا إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه فكتبه
أبو بكر لأنس وكان فيه وفي أربع وعشرين فما
دونها الغنم في كل خمس ذود شاة فإذا كانت خمسا
وعشرين إلى خمس وثلاثين ففيها بنت مخاض, فإذا
كانت ستا وثلاثين إلى خمس وأربعين ففيها بنت
لبون, فإذا كانت ستا وأربعين إلى ستين ففيها
حقة, فإذا كانت إحدى وستين إلى خمس وسبعين
ففيها جذعة, فإذا كانت ستا وسبعين إلى تسعين
ففيها بنتا لبون, فإذا كانت إحدى وتسعين إلى
مائة وعشرين ففيها حقتان". ولا خلاف في هذه
الجملة إلا ما روي عن علي رضي الله عنه أنه
قال:
"في خمس وعشرين
خمس شياه, وفي ست وعشرين بنت مخاض"
وهذه الرواية لا تكاد تثبت عن علي رضي الله
عنه؛ لأنها مخالفة للأحاديث المشهورة منها ما
روينا من كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
الذي كتبه لأبي بكر الصديق رضي الله عنه,
ومنها كتابه الذي كتبه لعمرو بن حزم وغير ذلك
من الأحاديث المشهورة, ولأنها مخالفة لأصول
الزكوات في السوائم؛ لأن فيها من موالاة بين
واجبين لا وقص بينهما والأصل فيها أن يكون بين
الفريضتين وقص
ج / 2 ص -27-
وهذا
دليل عدم الثبوت. قد حكي عن سفيان الثوري أنه
قال: كان علي رضي الله عنه أفقه من أن يقول
مثل هذا إنما هو غلط وقع من رجال علي رضي الله
عنه أراد بذلك أن الراوي يجوز أن يكون سمعه
يقول في ست وعشرين بنت مخاض, وفي خمس وعشرين
خمس من الغنم قيمة بنت مخاض فجمع بينهما.
واختلف العلماء في الزيادة على مائة وعشرين
فقال أصحابنا: إذا زادت الإبل على هذا العدد
تستأنف الفريضة ويدار الحساب على الخمسينان في
النصاب وعلى الحقاق في الواجب, لكن بشرط عود
ما قبله من الواجبات والأوقاص بقدر ما يدخل
فيه. وبيان ذلك إذا زادت الإبل على مائة
وعشرين فلا شيء في الزيادة حتى تبلغ خمسا
فيكون فيها شاة وحقتان, وفي العشر شاتان
وحقتان, وفي خمسة عشر ثلاث شياه وحقتان, وفي
عشرين أربع شياه وحقتان, وفي خمس وعشرين بنت
مخاض وحقتان إلى مائة وخمسين ففيها ثلاث حقاق
في كل خمسين حقة, ثم يستأنف الفريضة فلا شيء
في الزيادة حتى تبلغ خمسا فيكون فيها شاة
وثلاث حقاق, وفي العشر شاتان وثلاث حقاق, وفي
خمس عشرة ثلاث شياه وثلاث حقاق, وفي عشرين
أربع شياه وثلاث حقاق. فإذا بلغت مائة وخمسا
وسبعين ففيها بنت مخاض وثلاث حقاق فإذا بلغت
مائة وستة وثمانين ففيها بنت لبون وثلاث حقاق
إلى مائة وستة وتسعين ففيها أربع حقاق إلى
مائتين, فإن شاء أدى منها أربع حقاق من كل
خمسين حقة, وإن شاء أدى خمس بنات لبون من كل
أربعين بنت لبون ثم يستأنف الفريضة أبدا في كل
خمسين كما استؤنفت من مائة وخمسين إلى مائتين
فيدخل فيها بنت مخاض وبنت لبون وحقة مع
الشياه. هذا قول أصحابنا. وقال مالك: إذا زادت
الإبل على مائة وعشرين واحدة لا تجب في
الزيادة شيء إلى تسعة بل يجعل تسعة عفوا حتى
تبلغ مائة وثلاثين. وكذا إذا بلغت مائة
وثلاثين فلا شيء في الزيادة إلى تسعة وثلاثين
ويجعل كل تسعة عفوا وتجب في كل أربعين بنت
لبون وفي كل خمسين حقة فيدار النصاب على
الخمسينات والأربعينات, والواجب على الحقاق
وبنات لبون فيجب في مائة وثلاثين حقة وبنتا
لبون؛ لأنها مرة خمسون ومرتين أربعون, وفي
مائة وأربعين حقتان وبنت لبون, وفي مائة
وخمسين ثلاث حقاق, وفي مائة وستين أربع بنات
لبون, وفي مائة وسبعين حقة وثلاث بنات لبون,
وفي مائة وثمانين حقتان وبنتا لبون, وفي مائة
وتسعين ثلاث حقاق وبنت لبون إلى مائتين فإن
شاء أدى من المائتين أربع حقاق, وإن شاء خمس
بنات لبون. وقال الشافعي مثل قول مالك: إنه
يدار الحساب على الخمسينات والأربعينات في
النصب, وعلى الحقاق وبنات اللبون في الواجب.
وإنما خالفه في فصل واحد وهو أنه قال: إذا
زادت الإبل على مائة وعشرين واحدة ففيها ثلاث
بنات لبون احتجا بما روي عن عبد الله بن عمر
رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كتب كتاب الصدقات وقرنه بقراب سيفه ولم يخرجه
إلى عماله حتى قبض, ثم عمل به أبو بكر وعمر
حتى قبضا وكان فيه
"إذا زادت الإبل على مائة وعشرين ففي كل أربعين بنت لبون, وفي كل خمسين
حقة" غير أن
مالكا قال: لفظ الزيادة إنما تتناول زيادة
يمكن اعتبار المنصوص عليه فيها وذلك لا يكون
فيما دون العشرة والشافعي قال: إن النبي صلى
الله عليه وسلم علق هذا الحكم بنفس الزيادة
وذلك يحصل بزيادة الواحدة فعندهما يوجب في كل
أربعين بنت لبون. وهذه الواحدة لتعيين الواجب
بها فلا يكون لها حظ من الواجب, ثم أعدل
الأسنان بنت لبون والحقة, فإن أدناها بنت مخاض
وأعلاها الجذعة فالأعدل هو المتوسط. ولنا ما
روي عن قيس بن سعد أنه قال: قلت لأبي بكر بن
عمرو بن حزم أخرج إلي كتاب الصدقات الذي كتبه
رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم
فأخرج كتابا في ورقة وفيه
"فإذا زادت الإبل على مائة وعشرين استؤنفت الفريضة فما كان أقل من خمس
وعشرين ففيها الغنم في كل خمس ذود شاة". وروي هذا المذهب عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما, وهذا باب لا
يعرف بالاجتهاد فيدل على سماعهما من رسول الله
صلى الله عليه وسلم حتى روي عن علي رضي الله
عنه أنه قال: ما عندنا شيء نقرأه إلا كتاب
الله عز وجل وهذه الصحيفة فيها أسنان الإبل
أخذتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا
يجوز أن نخا لفها وروي أنه أنفذها إلى عثمان
فقال له: مر سعاتك فليعملوا بها, فقال: لا
حاجة لنا فيها معنا مثلها, وما هو خير منها
فقد وافق عليا رضي الله عنهما. ولأن وجوب
الحقتين في مائة وعشرين
ج / 2 ص -28-
ثابت
باتفاق الأخبار وإجماع الأمة فلا يجوز إسقاطه
إلا بمثله. وبعد مائة وعشرين اختلفت الآثار
فلا يجوز إسقاط ذلك الواجب عند اختلاف الآثار
بل يعمل بحديث عمرو بن حزم ويحمل حديث ابن عمر
رضي الله عنهما على الزيادة الكثيرة حتى تبلغ
مائتين وبه نقول: إن في كل أربعين بنت لبون
وفي كل خمسين حقة. وأما قوله: إن الواجب في كل
مال من جنسه فنعم إذا احتمل ذلك فلم قلتم: إن
الزيادة تحتمل الواجب من الجنس فإن الزيادة لا
يمكن إلحاقها بالمائة والعشرين لبقاء الحقتين
فيها كما كانت, ومع بقاء الحقتين فيها على
حالهما لا يمكن البناء فلا تكون الزيادة مع
بقاء الحقتين بعد محتملة للإيجاب من جنسه,
فلهذا صرنا إلى إيجاب القيمة فيها كما في
الابتداء حتى أنه لما كان أمكن البناء مع بقاء
الحقتين بعد مائة وخمسة وأربعين بنينا فنقلنا
من بنات المخاض إلى الحقة إذا بلغت مائة
وخمسين فلأنها ثلاث مرات خمسين فيوجب من كل
خمسين حقة والله أعلم.
"فصل": وأما نصاب البقر فليس في أقل من ثلاثين بقرا زكاة, وفي كل ثلاثين
منها تبيع أو تبيعة ولا شيء في الزيادة إلى
تسع وثلاثين فإذا بلغت أربعين ففيها مسنة وهذا
مما لا خلاف فيه بين الأمة, والأصل فيه ما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
لمعاذ حين بعثه إلى اليمن
"في كل ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة وفي كل أربعين مسنة". فأما إذا زادت على الأربعين فقد اختلفت الرواية فيه ذكر في كتاب
الزكاة وما زاد على الأربعين ففي الزيادة
بحساب ذلك ولم يفسر هذا الكلام, وذكر في كتاب
اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى إذا كان له
إحدى وأربعين بقرة قال أبو حنيفة: عليه مسنة
وربع عشر مسنة, أو ثلث عشر تبيع. وهذا يدل على
أنه لا نصاب عنده في الزيادة على الأربعين,
وأنه تجب فيه الزكاة قل أو كثر بحساب ذلك.
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يجب في
الزيادة شيء حتى تبلغ خمسين فإذا بلغت خمسين
ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع. وروى أسد
بن عمرو عن أبي حنيفة أنه قال: ليس في الزيادة
شيء حتى تكون ستين فإذا كانت ستين ففيها
تبيعان أو تبيعتان. وهو قول أبي يوسف ومحمد
والشافعي, فإذا زاد على الستين يدار الحساب
على الثلاثينات والأربعينات في النصب وعلى
الأتبعة والمسنات في الواجب, ويجعل تسعة
بينهما عفوا بلا خلاف فيجب في كل ثلاثين تبيع
أو تبيعة, وفي كل أربعين مسنة فإذا كانت سبعين
ففيها مسنة وتبيع, وفي ثمانين مسنتان, وفي
تسعين ثلاثة أتبعة, وفي مائة مسنة وتبيعان,
وفي مائة وعشرة مسنتان وتبيع, وفي مائة وعشرين
ثلاث مسنات وأربعة أتبعة فإنها ثلاث مرات
أربعين وأربع مرات ثلاثين. وعلى هذا الاعتبار
يدار الحساب. وجه رواية الأصل أن إثبات الوقص
والنصاب بالرأي لا سبيل إليه وإنما طريق
معرفته النص ولا نص فيما بين الأربعين إلى
الستين فلا سبيل إلى إخلاء مال الزكاة عن
الزكاة, فأوجبنا فيما زاد على الأربعين بحساب
ما سبق. وجه رواية الحسن أن الأوقاص في البقر
تسع تسع بدليل ما قبل الأربعين وما بعد
الستين, فكذلك فيما بين ذلك؛ لأنه ملحق بما
قبله أو بما بعده فتجعل التسعة عفوا فإذا بلغت
خمسين ففيها مسنة وربع مسنة أو ثلث تبيع؛ لأن
الزيادة عشرة وهي ثلث وثلاثين وربع أربعين.
وجه رواية أسد بن عمرو وهي أعدل الروايات ما
روي في حديث معاذ رضي الله عنه أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال له
"لا تأخذ من أوقاص البقر شيئا" وفسر معاذ الوقص بما بين الأربعين إلى الستين حتى قيل له: ما تقول
فيما بين الأربعين إلى الستين؟ فقال: تلك
الأوقاص لا شيء فيها ولأن مبنى زكاة السائمة
على أنه لا يجب فيها الأشقاص دفعا للضرر عن
أرباب الأموال؛ ولهذا وجب في الإبل عند قلة
العدد من خلاف الجنس تحرزا عن إيجاب الشقص,
فكذلك في زكاة البقر لا يجوز إيجاب الشقص
والله أعلم.
"فصل": وأما نصاب الغنم فليس في أقل من أربعين من الغنم زكاة, فإذا كانت
أربعين ففيها شاة إلى مائة وعشرين, فإذا كانت
مائة وإحدى وعشرين ففيها شاتان إلى مائتين,
فإذا زادت واحدة ففيها ثلاث شياه إلى
أربعمائة, فإذا كانت أربعمائة ففيها أربع شياه
ثم في كل مائة شاة, وهذا قول عامة العلماء.
وقال الحسن بن حي إذا زادت على ثلاثمائة واحدة
ففيها أربع شياه وفي أربعمائة خمس شياه
والصحيح قول العامة؛ لما روي في
ج / 2 ص -29-
حديث
أنس أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه كتب له
كتاب الصدقات الذي كتبه له رسول الله صلى الله
عليه وسلم وفيه
"وفي أربعين من
الغنم شاة, وفي مائة وواحدة وعشرين شاتان, وفي
مائتين وواحدة ثلاث شياه إلى أربعمائة ففيها
أربع شياه". وطريق
معرفة النصب التوقيف دون الرأي والاجتهاد
والله أعلم هذا الذي ذكرنا إذا كانت السوائم
لواحد, فأما إذا كانت مشتركة بين اثنين فقد
اختلف فيه. قال أصحابنا: إنه يعتبر في حال
الشركة ما يعتبر في حال الانفراد وهو كمال
النصاب في حق كل واحد منهما فإن كان نصيب كل
واحد منهما يبلغ نصابا تجب الزكاة وإلا فلا.
وقال الشافعي: إذا كانت أسباب الإسامة متحدة
وهو أن يكون الراعي والمرعى والماء والمراح
والكلب واحدا, والشريكان من أهل وجوب الزكاة
عليهما يجعل مالهما كمال واحد, وتجب عليهما
الزكاة وإن كان كل واحد منهما لو انفرد لا تجب
عليه. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"لا يجمع بين متفرق ولا يفرق بين مجتمع خشية الصدقة, وما كان بين
خليطين فإنهما يتراجعان بالسوية"
فقد اعتبر النبي صلى الله عليه وسلم الجمع
والتفريق حيث نهى عن جمع المتفرق وتفريق
المجتمع, وفي اعتبار حال الجمع بحال الانفراد
في اشتراط النصاب في حق كل واحد من الشريكين
إبطال معنى الجمع وتفريق المجتمع. "ولنا" ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"ليس في سائمة المرء المسلم إذا كانت أقل من
أربعين صدقة" نفى وجوب الزكاة في أقل من أربعين مطلقا عن حال الشركة والانفراد,
فدل أن كمال النصاب في حق كل واحد منهما شرط
الوجوب. وأما الحديث فقوله: صلى الله عليه
وسلم
"لا يجمع بين
متفرق" ودليلنا أن المراد منه التفرق في الملك لا في المكان؛ لإجماعنا على
أن النصاب الواحد إذا كان في مكانين تجب
الزكاة فيه فكان المراد منه التفرق في الملك,
ومعناه إذا كان الملك متفرقا لا يجمع فيجعل
كأنه لواحد لأجل الصدقة كخمس من الإبل بين
اثنين أو ثلاثين من البقر أو أربعين من الغنم
حال عليهما الحول وأراد المصدق أن يأخذ منها
الصدقة ويجمع بين الملكين ويجعلهما كملك واحد
ليس له ذلك. وكثمانين من الغنم بين اثنين حال
عليهما الحول أنه يجب فيها شاتان على كل واحد
منهما شاة. ولو أرادا أن يجمعا بين الملكين
فيجعلاهما ملكا واحدا خشية الصدقة فيعطيا
المصدق شاة واحدة ليس لهما ذلك لتفرق ملكيهما
فلا يملكان الجمع لأجل الزكاة. وقوله "ولا
يفرق بين مجتمع" أي في الملك كرجل له ثمانون
من الغنم في مرعتين مختلفتين أنه يجب عليه شاة
واحدة. ولو أراد المصدق أن يفرق المجتمع
فيجعلها كأنها لرجلين فيأخذ منها شاتين ليس له
ذلك؛ لأن الملك مجتمع فلا يملك تفريقه. وكذا
لو كان له أربعون من الغنم في مرعتين مختلفتين
تجب عليه الزكاة؛ لأن الملك مجتمع فلا يجعل
كالمتفرقين في الملك خشية الصدقة, أو يحتمل ما
قلنا فيحمل عليه عملا بالدليلين بقدر الإمكان.
وبيان هذه الجملة إذا كان خمس من الإبل بين
اثنين حال عليهما الحول لا زكاة فيها على
أحدهما عندنا؛ لأن نصابه ناقص وعنده يجب
عليهما شاة. ولو كانت الإبل عشرا فعلى كل واحد
منهما شاة بلا خلاف لكمال نصاب كل واحد منهما.
وكذا لو كانت خمسة عشر عندنا وعنده ثلاث شياه,
ولو كانت عشرين فعلى كل واحد منهما شاتان؛ لأن
نصاب كل واحد منهما كامل, ولو كانت خمسا
وعشرين فكذلك عندنا وعنده يجب عليهما بنت
مخاض, ولو كان النصاب ثلاثين من البقر فلا
زكاة فيه عندنا وعنده يجب فيها تبيع عليهما,
ولو كانت ستين ففيها تبيعان على كل واحد منهما
تبيع بلا خلاف. وكذلك أربعون من الغنم بين
اثنين لا شيء عليهما عندنا وعنده شاة واحدة
عليهما, ولو كانت ثمانين فعلى كل واحد منهما
شاة عندنا وعنده عليهما شاة واحدة, ولو كان
بينه وبين رجل شاة وبينه وبين رجل آخر تمام
ثمانين وذلك تسعة وسبعون شاة ذكر القدوري في
شرحه مختصر الكرخي أن على قول أبي يوسف عليه
الزكاة, وعلى قول زفر لا زكاة عليه. وذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن على قول أبي
حنيفة ومحمد وزفر لا زكاة عليه بخلاف ما إذا
كان الثمانون بينه وبين رجل واحد, وفي قول أبي
يوسف: عليه الزكاة كما إذا كان الثمانون بينه
وبين رجل واحد. وجه قول من قال بالوجوب أن
الزكاة تجب عند كمال النصاب, وفي ملكه نصاب
كامل فتجب فيه الزكاة كما لو كانت مشتركة بينه
وبين رجل واحد. وجه قول من قال لا يجب أنه لو
قسم لا يصيبه نصاب كامل؛ لأنه لا يملك من شاة
ج / 2 ص -30-
واحدة
إلا نصفها فلا يكمل النصاب فلا تجب الزكاة.
وكذلك ستون من البقر أو عشر من الإبل إذا كانت
مشتركة على الوجه الذي وصفنا فهو على ما ذكرنا
من الاختلاف, وكل جواب عرفته في السوائم
المشتركة فهو الجواب في الذهب والفضة وأموال
التجارة وقد ذكرنا فيما تقدم وذكر الطحاوي,
وكذلك الزروع وهذا محمول على مذهب أبي يوسف
ومحمد؛ لأن النصاب عندهما شرط لوجوب العشر
وذلك خمسة أوسق فأما على مذهب أبي حنيفة لا
يستقيم؛ لأن النصاب ليس بشرط لوجوب العشر بل
يجب في القليل والكثير, ثم إذا حضر المصدق بعد
تمام الحول على المال المشترك بينهما فإنه
يأخذ الصدقة منه إذا وجد فيه واجبا على
الاختلاف ولا ينتظر القسمة؛ لأن اشتراكهما على
علمهما يوجب الزكاة في المال المشترك. وإن
المصدق لا يتميز له المال فيكون إذن من كل
واحد منهما بأخذ الزكاة من ماله دلالة, ثم إذا
أخذ ينظر إن كان المأخوذ حصة كل واحد منهما لا
غير بأن كان المال بينهما على السوية فلا
تراجع بينهما؛ لأن ذلك القدر كان واجبا على كل
واحد منهما بالسوية, وإن كانت الشركة بينهما
على التفاوت فأخذ من أحدهما زيادة لأجل صاحبه
فإنه يرجع على صاحبه بذلك القدر. وبيان ذلك
إذا كان ثمانون من الغنم بين رجلين فأخذ
المصدق منها شاتين فلا تراجع ههنا؛ لأن الواجب
على كل واحد منهما بالسوية وهو شاة فلم يأخذ
من كل واحد منهما إلا قدر الواجب عليه فليس له
أن يرجع بشيء ولو كانت الثمانون بينهما أثلاثا
يجب فيها شاة واحدة على صاحب الثلثين لكمال
نصابه وزيادة ولا شيء على صاحب الثلث لنقصان
نصابه فإذا حضر المصدق وأخذ من عرضها شاة
واحدة يرجع صاحب الثلث على صاحب الثلثين بثلث
قيمة الشاة؛ لأن كل شاة بينهما أثلاثا فكانت
الشاة المأخوذة بينهما أثلاثا فقد أخذ المصدق
من نصيب صاحب الثلث ثلث شاة لأجل صاحب الثلثين
فكان له أن يرجع بقيمة الثلث. وكذلك إذا كان
مائة وعشرون من الغنم بين رجلين لأحدهما
ثلثاها وللآخر ثلثها ووجب على كل واحد منهما
شاة فجاء المصدق وأخذ من عرضها شاتين كان
لصاحب الثلثين أن يرجع على صاحب الثلث بقيمة
ثلث شاة؛ لأن كل شاة بينهما أثلاثا ثلثاها
لصاحب الثمانين. والثلث لصاحب الأربعين فكانت
الشاتان المأخوذتان بينهما أثلاثا لصاحب
الثلثين شاة وثلث شاة ولصاحب الثلث ثلثا شاة
والواجب عليه شاة كاملة فأخذ المصدق من نصيب
صاحب الثلثين شاة وثلث شاة ومن نصيب صاحب
الثلث ثلثي شاة فقد صار آخذا من نصيب صاحب
الثلثين ثلث شاة لأجل زكاة صاحب الثلث, فيرجع
صاحب الثلثين على صاحب الثلث بقيمة ثلث شاة
وهذا والله أعلم معنى قوله صلى الله عليه وسلم
"وما كان بين
الخليطين فإنهما يتراجعان بالسوية".
"فصل": وأما صفة نصاب السائمة فله صفات منها أن يكون معدا للإسامة وهو أن
يسيمها للدر والنسل لما ذكرنا أن مال الزكاة
هو المال النامي وهو المعد للاستنماء, والنماء
في الحيوان بالإسامة إذ بها يحصل النسل فيزداد
المال فإن أسيمت للحمل أو الركوب أو اللحم فلا
زكاة فيها ولو أسيمت للبيع والتجارة ففيها
زكاة مال التجارة لا زكاة السائمة, ثم السائمة
هي الراعية التي تكتفي بالرعي عن العلف
ويمونها ذلك ولا تحتاج إلى أن تعلف, فإن كانت
تسام في بعض السنة وتعلف وتمان في البعض يعتبر
فيه الغالب؛ لأن للأكثر حكم الكل. ألا ترى أن
أهل اللغة لا يمنعون من إطلاق اسم السائمة على
ما تعلف زمانا قليلا من السنة؟ ولأن وجوب
الزكاة فيها لحصول معنى النماء وقلة المؤنة؛
لأن عند ذلك يتيسر الأداء فيحصل الأداء عن طيب
نفس وهذا المعنى يحصل إذا أسيمت في أكثر
السنة. ومنها أن يكون الجنس فيه واحدا من
الإبل والبقر والغنم سواء اتفق النوع والصفة
أو اختلفا, فتجب الزكاة عند كمال النصاب من كل
جنس من السوائم, وسواء كانت كلها ذكورا أو
إناثا أو مختلطة, وسواء كانت من نوع واحد أو
أنواع مختلفة كالعراب والبخاتى في الإبل,
والجواميس في البقر, والضأن والمعز في الغنم؛
لأن الشرع ورد بنصابها باسم الإبل والبقر
والغنم فاسم الجنس يتناول جميع الأنواع بأي
صفة كانت كاسم الحيوان وغير ذلك. وسواء كان
متولدا من الأهلي أو من أهلي ووحشي بعد أن كان
الأم أهليا كالمتولد من الشاة والظبي إذا كان
أمه شاة والمتولد من البقر الأهلي والوحشي إذا
كان أمه أهلية فتجب فيه الزكاة ويكمل به
النصاب عندنا وعند الشافعي
ج / 2 ص -31-
لا
زكاة فيه. وجه قوله أن الشرع ورد باسم الشاة
بقوله "في أربعين شاة شاة", وهذا وإن كان شاة
بالنسبة إلى الأم فليس بشاة بالنسبة إلى الفحل
فلا يكون شاة على الإطلاق فلا يتناوله النص.
"ولنا" أن جانب الأم راجح بدليل أن الولد يتبع
الأم في الرق والحرية, ولما نذكر في كتاب
العتاق إن شاء الله تعالى ومنها السن وهو أن
تكون كلها مسان أو بعضها فإن كان كلها صغارا
فصلانا أو حملانا أو عجاجيل فلا زكاة فيها
وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وكان أبو حنيفة
يقول أولا: يجب فيها ما يجب في الكبار وبه أخذ
زفر ومالك ثم رجع وقال: يجب فيها واحدة منها
وبه أخذ أبو يوسف والشافعي, ثم رجع وقال: لا
يجب فيها شيء واستقر عليه وبه أخذ محمد.
واختلفت الرواية عن أبي يوسف في زكاة الفصلان,
في رواية قال: لا زكاة فيها حتى تبلغ عددا لو
كانت كبارا تجب فيها واحدة منها وهو خمسة
وعشرون, وفي رواية قال: في الخمس خمس فصيل,
وفي العشر خمس فصيل, وفي خمسة عشر ثلاثة أخماس
فصيل, وفي عشرين أربعة أخماس فصيل, وفي خمس
وعشرين واحدة منها, وفي رواية قال: في الخمس
ينظر إلى قيمة شاة وسط وإلى قيمة خمس فصيل
فيجب أقلهما, وفي العشر ينظر إلى قيمة شاتين
وإلى قيمة خمسي فصيل فيجب أقلهما, وفي خمسة
عشر ينظر إلى قيمة ثلاث شياه وإلى قيمة ثلاثة
أخماس فصيل فيجب أقلهما, وفي عشرين ينظر إلى
قيمة أربعة شياه وإلى قيمة أربعة أخماس فصيل
فيجب أقلهما, وفي خمس وعشرين يجب واحدة منها,
وعلى رواياته كلها قال: لا تجب في الزيادة على
خمس وعشرين شيء حتى تبلغ العدد الذي لو كانت
كبارا يجب فيها اثنان وهو ستة وسبعون, ثم لا
يجب فيها شيء حتى تبلغ العدد الذي لو كانت
كبارا يجب فيها ثلاثة وهو خمسة وأربعون. واحتج
زفر بعموم قول النبي: صلى الله عليه وسلم
"في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض", وقوله
"في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة"
من غير فصل بين الكبار والصغار. وبه تبين أن
المراد من الواجب في قوله:
"في خمس من الإبل شاة", وفي قوله
"في أربعين شاة شاة" هو الكبيرة
لا الصغيرة ولأبي يوسف أنه لا بد من الإيجاب
في الصغار لعموم قوله صلى الله عليه وسلم
"في خمس من الإبل شاة, وفي أربعين شاة شاة" لكن لا سبيل إلى إيجاب المسنة لقول النبي صلى الله عليه وسلم
للسعاة:
"إياكم وكرائم
أموال الناس", وقوله:
"لا تأخذوا من حزرات الأموال ولكن خذوا من حواشيها" وأخذ الكبار من الصغار أخذ من كرائم الأموال وحزراتها وإنه منهي؛
ولأن مبنى الزكاة على النظر من الجانبين جانب
الملاك وجانب الفقراء ألا ترى أن الواجب هو
الوسط؟ وما كان ذلك الأمر إلا مراعاته
الجانبين, وفي إيجاب المسنة إضرار بالملاك؛
لأن قيمتها قد تزيد على قيمة النصاب وفيه
إجحاف بأرباب الأموال وفي نفي الوجوب رأسا
إضرار بالفقراء فكان العدل في إيجاب واحدة,
منها وقد روي عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه
أنه قال: لو منعوني عناقا مما كانوا يؤدونه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم,
والعناق هي الأنثى الصغيرة من أولاد المعز,
فدل أن أخذ الصغار زكاة كان أمرا ظاهرا في زمن
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأبي حنيفة
ومحمد أن تنصيب النصاب بالرأي ممتنع, وإنما
يعرف بالنص, والنص إنما ورد باسم الإبل والبقر
والغنم, وهذه الأسامي لا تتناول الفصلان
والحملان والعجاجيل فلم يثبت كونها نصابا وعن
أبي بن كعب أنه قال وكان مصدق رسول الله صلى
الله عليه وسلم: في عهدي أن لا آخذ من راضع
اللبن شيئا. وأما قول الصديق: رضي الله عنه
"لو منعوني عناقا" فقد روي عنه أنه قال: لو
منعوني عقالا وهو صدقة عام أو الحبل الذي يعقل
به الصدقة. فتعارضت الرواية فيه فلم يكن حجة,
ولئن ثبت فهو كلام تمثيل لا تحقيق أي: لو وجبت
هذه ومنعوها لقاتلتهم. وأما صورة هذه المسألة
فقد تكلم المشايخ فيها؛ لأنها مشكلة إذ الزكاة
لا تجب قبل تمام الحول وبعد تمامه لا يبقى اسم
الفصيل والحمل والعجول بل تصير مسنة. قال
بعضهم: الخلاف في أن الحول هل ينعقد عليها وهي
صغارا؟ ويعتبر انعقاد الحول عليها إذا كبرت
وزالت صفة الصغر عنها. وقال بعضهم: الخلاف
فيما إذا كان له نصاب من النوق فمضى عليها ستة
أشهر أو أكثر فولدت أولادا ثم ماتت الأمهات
وتم الحول على الأولاد وهي صغار هل تجب الزكاة
في الأولاد أم لا؟ وعلى هذا الاختلاف إذا كان
له مسنات فاستفاد في خلال الحول صغارا ثم هلكت
المسنات وبقي المستفاد أنه هل تجب الزكاة في
المستفاد؟ فهو على ما ذكرنا, وإلى هذا أشار
محمد رحمه الله تعالى في الكتاب فيمن كان له
أربعون حملا وواحدة مسنة
ج / 2 ص -32-
فهلكت
المسنة وتم الحول على الحملان أنه لا يجب شيء
عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف تجب واحدة
منها, وعند زفر تجب مسنة, هذا إذا كان الكل
صغارا فأما إذا اجتمعت الصغار والكبار وكان
واحد منهما كبيرا فإن الصغار تعد ويجب فيها ما
يجب في الكبار وهو المسنة بلا خلاف؛ لما روي
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"وتعد صغارها وكبارها". وروي أن الناس شكوا إلى عمر عامله وقالوا: إنه يعد علينا السخلة
ولا يأخذها منا, فقال عمر: أليس يترك لكم
الربى والماخض والأكيلة وفحل الغنم؟ ثم قال:
عدها ولو راح بها الراعي على كفه ولا تأخذها
منهم, ولأنها إذا كانت مختلطة بالكبار أو كان
فيها كبير دخلت تحت اسم الإبل والبقر والغنم
فتدخل تحت عموم النصوص فيجب فيها ما يجب في
الكبار, ولأنه إذا كان فيها مسنة كانت تبعا
للمسنة فيعتبر الأصل دون التبع, فإن كان واحد
منها مسنة فهلكت المسنة بعد الحول سقطت الزكاة
عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف تجب في
الصغار وزكاتها بقدرها حتى لو كانت حملانا يجب
عليه تسعة وثلاثون جزءا من أربعين جزءا من
الحمل؛ لأن عندهما وجوب الزكاة في الصغار لأجل
الكبار تبعا لها فكانت أصلا في الزكاة فهلاكها
كهلاك الجميع, وعنده الصغار أصل في النصاب.
والواجب واحد منها, وإنما الفصل على الحمل
الواحد باعتبار المسنة فهلاكها يسقط الفصل لا
أصل الواجب. ولو هلكت الحملان وبقيت المسنة
يؤخذ قسطها من الزكاة وذلك جزءا من أربعين
جزءا من المسنة؛ لأن المسنة كانت سبب زكاة
نفسها وزكاة تسعة وثلاثين سواها؛ لأن كل
الفريضة كانت فيها لكن أعطى الصغار حكم الكبار
تبعا لها فصارت الصغار كأنها كبار فإذا هلكت
الحملان هلكت بقسطها من الفريضة وبقيت المسنة
بقسطها من الفريضة, وهو ما ذكرنا, ثم الأصل
حال اختلاط الصغار بالكبار أنه تجب الزكاة في
الصغار تبعا للكبار إذا كان العدد الواجب في
الكبار موجودا في الصغار في قولهم جميعا فإذا
لم يكن عدد الواجب في الكبار كله موجودا في
الصغار فإنها تجب بقدر الموجود على أصل أبي
حنيفة ومحمد بيان ذلك إذا كان له مسنتان ومائة
وتسعة عشر حملا يجب فيها مسنتان بلا خلاف؛ لأن
عدد الواجب موجود فيه. وإن كان له مسنة واحدة
ومائة وعشرون حملا أخذت تلك المسنة لا غير في
قول أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف تؤخذ
المسنة وحمل وكذلك ستون من العجاجيل فيها تبيع
عند أبي حنيفة ومحمد يؤخذ التبيع لا غير, وعند
أبي يوسف يؤخذ التبيع وعجول وكذلك ستة وسبعون
من الفصلان فيها بنت لبون أنها تؤخذ فحسب في
قولهما, وعند أبي يوسف تؤخذ بنت لبون وفصيل؛
لأن الوجوب لا يتعلق بالصغار أصلا عندهما
وعنده يتعلق بها والله أعلم.
"فصل": وأما مقدار الواجب في السوائم فقد ذكرنا في بيان مقدار نصاب
السوائم من الإبل والبقر والغنم وهو الأسنان
المعروفة من بنت المخاض وبنت اللبون, والحقة
والجذعة, والتبيع, والمسنة, والشاة ولا بد من
معرفة معاني هذه الأسماء فبنت المخاض هي التي
تمت لها سنة ودخلت في الثانية سميت بذلك؛ لأن
أمها صارت حاملا بولد آخر بعدها, والماخض اسم
للحامل من النوق وبنت اللبون هي التي تمت لها
سنتان ودخلت في الثالثة سميت بذلك؛ لأن أمها
حملت بعدها وولدت فصارت ذات لبن واللبون هي
ذات اللبن. والحقة هي التي تمت لها ثلاث سنين
وطعنت في الرابعة سميت بذلك إما لاستحقاقها
الحمل والركوب أو لاستحقاقها الضراب. والجذعة
هي التي تمت لها أربع سنين وطعنت في الخامسة
ولا اشتقاق لاسمها, والذكور منها ابن مخاض
وابن لبون وحق وجذع ووراء هذه أسنان من الإبل
من الثني والسديس والبازل لكن لا مدخل لها في
باب الزكاة فلا معنى لذكر معانيها في كتب
الفقه والتبيع الذي تم له حول ودخل في الثاني
والأنثى منه التبيعة. والمسنة التي تمت لها
سنتان وطعنت في الثالثة والذكر منه المسن.
وأما الشاة فذكر في الأصل عن أبي حنيفة أنه لا
يجوز إلا الثني فصاعدا والثني من الشاة هي
التي دخلت في السنة الثانية, وروى الحسن عن
أبي حنيفة أنه يجوز الجذع من الضأن والثني من
المعز وهو قول أبي يوسف ومحمد والشافعي وما
ذكره الطحاوي يقتضي أن يجوز أخذ الجذع من
الضأن والثني من المعز؛ لأنه قال: ولا يؤخذ في
الصدقة إلا ما يجوز في الأضحية والجذع من
الضأن يجوز في الأضحية. وقول الطحاوي يؤيد
رواية الحسن, والجذع
ج / 2 ص -33-
من
الغنم الذي أتى عليه ستة أشهر وقيل الذي أتى
عليه أكثر السنة ولا خلاف في أنه لا يجوز من
المعز إلا الثني. وجه رواية الحسن ما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إنما حقنا في الجذعة والثنية" ولأن الجذع يجوز في الأضاحي فلأن يجوز في الزكاة أولى؛ لأن الأضحية
أكثر شروطا من الزكاة فالجواز هناك يدل على
الجواز ههنا من طريق الأولى. وجه ظاهر الرواية
ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: لا يجزئ
في الزكاة إلا الثني من المعز فصاعدا ولم يرو
عن غيره من الصحابة خلافه فيكون إجماعا من
الصحابة مع أن هذا ما باب لا يدرك بالاجتهاد,
فالظاهر أنه قال ذلك سماعا من رسول الله صلى
الله عليه وسلم والله أعلم.
"فصل": وأما صفة الواجب في السوائم فالواجب فيها صفات لا بد من معرفتها
منها الأنوثة في الواجب في الإبل من جنسها من
بنت المخاض وبنت اللبون والحقة والجذعة ولا
يجوز الذكور منها وهو ابن المخاض وابن اللبون
والحق والجذع إلا بطريق القيمة؛ لأن الواجب
فيها إنما عرف بالنص والنص ورد فيها بالإناث
فلا يجوز الذكور إلا بالتقويم؛ لأن دفع القيم
في باب الزكاة جائز عندنا. وأما في البقر
فيجوز فيها الذكر والأنثى لورود النص بذلك وهو
قول النبي صلى الله عليه وسلم
"وفي ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة". وكذا في الإبل فيما دون خمس وعشرين؛ لأن النص ورد باسم الشاة
وإنها تقع على الذكر والأنثى. وكذا في الغنم
عندنا يجوز في زكاتها الذكر والأنثى, وقال
الشافعي: لا يجوز الذكر إلا إذا كانت كلها
ذكورا. وهذا فاسد؛ لأن الشرع ورد فيها باسم
الشاة. قال النبي: صلى الله عليه وسلم
"في أربعين شاة شاة" واسم الشاة يقع على الذكر والأنثى في اللغة, ومنها أن يكون وسطا
فليس للساعي أن يأخذ الجيد ولا الرديء إلا من
طريق التقويم برضا صاحب المال؛ لما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال للسعاة
"إياكم وحزرات أموال الناس وخذوا من أوساطها". وروي أنه قال للساعي
"إياك وكرائم أموال الناس, وخذ من حواشيها,
واتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين الله
حجاب" وفي الخبر
المعروف "أنه رأى في إبل الصدقة ناقة كوماء
فغضب على الساعي وقال: ألم أنهكم عن أخذ كرائم
أموال الناس؟ حتى قال الساعي: أخذتها ببعيرين
يا رسول الله". ولأن مبنى الزكاة على مراعاة
الجانبين وذلك في أخذ الوسط لما في أخذ الخيار
من الإضرار بأرباب الأموال وفي أخذ الأرذال من
الإضرار بالفقراء فكان نظر الجانبين في أخذ
الوسط والوسط هو أن يكون أدون من الأرفع,
وأرفع من الأدون كذا فسره محمد في المنتقى.
ولا يؤخذ في الصدقة الربى بضم الراء, ولا
الماخض, ولا الأكيلة, ولا فحل الغنم قال محمد:
الربى التي تربي ولدها, والأكيلة التي تسمن
للأكل, والماخض التي في بطنها ولد, ومن الناس
من طعن في تفسير محمد الربى والأكيلة وزعم أن
الربى المرباة والأكيلة المأكولة وطعنه مردود
عليه, وكان من حقه تقليد محمد إذ هو كما كان
إماما في الشريعة كان إماما في اللغة واجب
التقليد فيها كتقليد نقلة اللغة كأبي عبيد,
والأصمعي, والخليل, والكسائي, والفراء وغيرهم
وقد قلده أبو عبيد القاسم بن سلام مع جلالة
قدره واحتج بقوله, وسأل أبو العباس ثعلب عن
الغزالة فقال: هي عين الشمس, ثم قال: أما ترى
أن محمد بن الحسن قال لغلامه يوما: انظر هل
دلكت الغزالة يعني الشمس ؟, وكان ثعلب يقول:
محمد بن الحسن عندنا من أقران سيبويه, وكان
قوله حجة في اللغة فكان على الطاعن تقليده
فيها, كيف؟ وقد ذكر صاحب الديوان ومجمل اللغة
ما يوافق قوله في الربى قال صاحب الديوان:
الربى التي وضعت حديثا أي: هي قريبة العهد
بالولادة, وقال صاحب المجمل: الربى الشاة التي
تحبس في البيت للبن فهي مربية لا مرباة.
والأكيلة وإن فسرت في بعض كتب اللغة بما قاله
الطاعن لكن تفسير محمد أولى وأوفق للأصول؛ لأن
الأصل أن المفعول إذا ذكر بلفظ فعيل يستوي فيه
الذكر والأنثى ولا يدخل فيه هاء التأنيث يقال:
امرأة قتيل وجريح من غير هاء التأنيث فلو كانت
الأكيلة المأكولة لما أدخل فيها الهاء على
اعتبار الأصل, ولما أدخل الهاء دل أنها ليست
باسم المأكولة بل لما أعد للأكل كالأضحية أنها
اسم لما أعد للتضحية والله أعلم. وسواء كان
النصاب من نوع واحد أو من نوعين كالضأن والمعز
والبقر والجواميس والعراب والبخت أن المصدق
يأخذ منها واحدة وسطا على التفسير الذي ذكرناه
وقال الشافعي في أحد قوليه: يأخذ من الغالب
وقال في القول الآخر: إنه يجمع بين قيمة شاة
من الضأن وشاة من المعز وينظر في
ج / 2 ص -34-
نصف
القيمتين فيأخذ شاة بقيمة ذلك من أي النوعين
كانت وهو غير سديد لما روينا عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه "نهى عن أخذ كرائم أموال
الناس وحزراتها" وأمر بأخذ أوساطها من غير فصل
بين ما إذا كان النصاب من نوع واحد أو نوعين.
ولو كان له خمس من الإبل كلها بنات مخاض أو
كلها بنات لبون أو حقاق أو جذاع ففيها شاة
وسط؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"في خمس من
الإبل شاة" وإن كانت عجافا فإن كان فيها بنت مخاض وسط أو أعلى سنا منها ففيها
أيضا شاة وسط. وكذلك إن كانت خمسا وعشرين
ففيها بنت مخاض وسط أنه يجب فيها بنت مخاض
وتؤخذ تلك لقوله صلى الله عليه وسلم
"في خمس وعشرين من الإبل بنت مخاض" وإن كانت جيدة لا يأخذ المصدق الجيدة ولكن يأخذ قيمة بنت مخاض وسط,
وإن أخذ الجيدة يرد الفضل, وإن كانت كلها
عجافا ليس فيها بنت مخاض ولا ما يساوي قيمتها
قيمة بنت مخاض بل قيمتها دون قيمة بنت مخاض
أوساط ففيها شاة بقدرها. وطريق معرفة ذلك أن
تجعل بنت مخاض وسطا حكما في الباب فينظر إلى
قيمتها وإلى قيمة أفضلها من النصاب إن كانت
قيمة بنت مخاض وسط مثلا مائة درهم, وقيمة
أفضلها خمسين تجب شاة قيمتها قيمة نصف شاة.
وكذلك لو كان التفاوت أكثر من النصف أو أقل
فكذلك يجب على قدره وهي من مسائل الزيادات
تعرف هناك ثم إذا وجب الوسط في النصاب فلم
يوجد الوسط ووجد سن أفضل منه أو دونه قال محمد
في الأصل: إن المصدق بالخيار إن شاء أخذ قيمة
الواجب وإن شاء أخذ الأدون وأخذ تمام قيمة
الواجب من الدراهم, وقيل ينبغي أن يكون الخيار
لصاحب السائمة إن شاء دفع القيمة وإن شاء دفع
الأفضل واسترد الفضل من الدراهم وإن شاء دفع
الأدون ودفع الفضل من الدراهم؛ لأن دفع القيمة
في باب الزكاة جائز عندنا والخيار في ذلك
لصاحب المال دون المصدق, وإنما يكون الخيار
للمصدق في فصل واحد وهو ما إذا أراد صاحب
المال أن يدفع بعض العين لأجل الواجب فالمصدق
بالخيار بين أنه لا يأخذ وبين أنه يأخذ بأن
كان الواجب بنت لبون فأراد صاحب المال أن يدفع
بعض الحقة بطريق القيمة, أو كان الواجب حقة
فأراد أن يدفع بعض الجذعة بطريق القيمة
فالمصدق بالخيار إن شاء قبل وإن شاء لم يقبل
لما فيه من تشقيص العين والشقص في الأعيان
عيب, فكان له أن لا يقبل فأما فيما سوى ذلك
فلا خيار له وليس له أن يمتنع من القبول والله
أعلم.
"فصل": وأما حكم الخيل فجملة الكلام فيه أن الخيل لا تخلو إما أن تكون
علوفة أو سائمة, فإن كانت علوفة بأن كانت تعلف
للركوب, أو للحمل, أو للجهاد في سبيل الله فلا
زكاة فيها؛ لأنها مشغولة بالحاجة ومال الزكاة
هو المال النامي الفاضل عن الحاجة لما بينا
فيما تقدم وإن كانت تعلف للتجارة ففيها الزكاة
بالإجماع لكونها مالا ناميا فاضلا عن الحاجة؛
لأن الإعداد للتجارة دليل النماء والفضل عن
الحاجة, وإن كانت سائمة فإن كانت تسام للركوب
والحمل أو للجهاد والغزو فلا زكاة فيها لما
بينا, وإن كانت تسام للتجارة ففيها الزكاة بلا
خلاف وإن كانت تسام للدر والنسل فإن كانت
مختلطة ذكورا وإناثا فقد قال أبو حنيفة: تجب
الزكاة فيها قولا واحدا وصاحبها بالخيار إن
شاء أدى من كل فرس دينارا, وإن شاء قومها وأدى
من كل مائتي درهم خمسة دراهم. وإن كانت إناثا
منفردة ففيها روايتان عنه ذكرهما الطحاوي وإن
كانت ذكورا منفردة ففيها روايتان عنه أيضا
ذكرهما الطحاوي في الآثار, وقال أبو يوسف
ومحمد: لا زكاة فيها كيفما كانت, وبه أخذ
الشافعي احتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال
"عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق إلا أن في
الرقيق صدقة الفطر". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ليس على المسلم في عبده ولا في فرسه صدقة", وكل ذلك نص في الباب, ولأن زكاة السائمة لا بد لها من نصاب مقدر
كالإبل والبقر والغنم, والشرع لم يرد بتقدير
النصاب في السائمة منها فلا يجب فيها زكاة
السائمة كالحمير. ولأبي حنيفة ما روي عن جابر
عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"في كل فرس
سائمة دينار, وليس في الرابطة شيء". وروي
أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة بن الجراح
رضي الله عنه في صدقة الخيل أن خير أربابها
فإن شاءوا أدوا من كل فرس دينارا وإلا قومها
وخذ من كل مائتي درهم خمسة دراهم. وروي
ج / 2 ص -35-
عن
السائب بن يزيد رضي الله عنه "أن عمر رضي الله
عنه لما بعث العلاء بن الحضرمي إلى البحرين
أمره أن يأخذ من كل فرس شاتين أو عشرة دراهم",
ولأنها مال نام فاضل عن الحاجة الأصلية فتجب
فيها الزكاة كما لو كانت للتجارة. وأما قول
النبي صلى الله عليه وسلم
"عفوت لكم عن صدقة الخيل
والرقيق" فالمراد منها الخيل المعدة للركوب والغزو لا للإسامة بدليل أنه فرق
بين الخيل وبين الرقيق والمراد منها عبيد
الخدمة ألا ترى أنه أوجب فيها صدقة الفطر؟
وصدقة الفطر إنما تجب في عبيد الخدمة أو يحتمل
ما ذكرنا فيحمل عليه عملا بالدليلين بقدر
الإمكان وهو الجواب عن تعلقهم بالحديث الآخر.
وأما إذا كان الكل إناثا أو ذكورا فوجه رواية
الوجوب الاعتبار بسائر السوائم من الإبل
والبقر والغنم أنه تجب الزكاة فيها وإن كان
كلها إناثا أو ذكورا كذا ههنا والصحيح أنه لا
زكاة فيها لما ذكرنا أن مال الزكاة هو المال
النامي ولا نماء فيها بالدر والنسل ولا لزيادة
اللحم؛ لأن لحمها غير مأكول عنده بخلاف الإبل
والبقر والغنم؛ لأن لحمها مأكول فكان زيادة
اللحم فيها بالسمن بمنزلة الزيادة بالدر
والنسل والله أعلم. وأما البغال والحمير فلا
شيء فيها وإن كانت سائمة؛ لأن المقصود منها
الحمل والركوب عادة لا الدر والنسل لكنها قد
تسام في غير وقت الحاجة لدفع مؤنة العلف. وإن
كانت للتجارة تجب الزكاة فيها
"فصل": وأما بيان من له المطالبة بأداء الواجب في السوائم والأموال
الظاهرة فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان من
له ولاية الأخذ, وفي بيان شرائط ثبوت ولاية
الآخذ, وفي بيان القدر المأخوذ أما الأول فمال
الزكاة نوعان ظاهر وهو المواشي والمال الذي
يمر به التاجر على العاشر, وباطن وهو الذهب
والفضة وأموال التجارة في مواضعها أما الظاهر
فللإمام ونوابه وهم المصدقون من السعاة
والعشار ولاية الأخذ, والساعي هو الذي يسعى في
القبائل ليأخذ صدقة المواشي في أماكنها,
والعاشر هو الذي يأخذ الصدقة من التاجر الذي
يمر عليه, والمصدق اسم جنس والدليل على أن
للإمام ولاية الأخذ في المواشي والأموال
الظاهرة الكتاب والسنة والإجماع وإشارة
الكتاب. أما الكتاب فقوله تعالى
{خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} والآية نزلت في الزكاة, عليه عامة أهل التأويل, أمر الله عز وجل
نبيه بأخذ الزكاة فدل أن للإمام المطالبة بذلك
والأخذ. قال الله تعالى:
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} فقد
بين الله تعالى ذلك بيانا شافيا حيث جعل
للعاملين عليها حقا, فلو لم يكن للإمام أن
يطالب أرباب الأموال بصدقات الأنعام في
أماكنها وكان أداؤها إلى أرباب الأموال لم يكن
لذكر العاملين وجه. وأما السنة "فإن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يبعث المصدقين إلى
أحياء العرب والبلدان والآفاق لأخذ الصدقات من
الأنعام والمواشي في أماكنها" وعلى ذلك فعل
الأئمة من بعده من الخلفاء الراشدين أبي بكر
وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم حتى قال
الصديق رضي الله عنه لما امتنعت العرب عن أداء
الزكاة: والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاربتهم
عليه وظهر العمال بذلك من بعدهم إلى يومنا
هذا. وكذا المال الباطن إذا مر به التاجر على
العاشر كان له أن يأخذ في الجملة؛ لأنه لما
سافر به وأخرجه من العمران صار ظاهرا والتحق
بالسوائم, وهذا؛ لأن الإمام إنما كان له
المطالبة بزكاة المواشي في أماكنها لمكان
الحماية؛ لأن المواشي في البراري لا تصير
محفوظة إلا بحفظ السلطان وحمايته, وهذا المعنى
موجود في مال يمر به التاجر على العاشر, فكان
كالسوائم, وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم
فإن عمر رضي الله عنه نصب العشار وقال لهم:
خذوا من المسلم ربع العشر, ومن الذمي نصف
العشر, ومن الحربي العشر وكان ذلك بمحضر من
الصحابة رضي الله عنهم ولم ينقل أنه أنكر عليه
واحد منهم فكان إجماعا. وروي عن عمر بن عبد
العزيز أنه كتب إلى عماله بذلك وقال: أخبرني
بهذا من سمعه من رسول الله صلى الله عليه
وسلم. وأما المال الباطن الذي يكون في المصر
فقد قال عامة مشايخنا: إن رسول الله صلى الله
عليه وسلم طالب بزكاته, وأبو بكر وعمر طالبا,
وعثمان طالب زمانا ولما كثرت أموال الناس ورأى
أن في تتبعها حرجا على الأمة وفي تفتيشها ضررا
بأرباب الأموال فوض الأداء إلى أربابها. وذكر
إمام الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي
السمرقندي رحمه الله وقال: لم يبلغنا أن النبي
صلى الله عليه وسلم بعث في مطالبة
ج / 2 ص -36-
المسلمين بزكاة الورق وأموال التجارة ولكن
الناس كانوا يعطون ذلك, ومنهم من كان يحمل إلى
الأئمة فيقبلون منه ذلك, ولا يسألون أحدا عن
مبلغ ماله ولا يطالبونه بذلك إلا ما كان من
توجيه عمر رضي الله عنه العشار إلى الأطراف,
وكان ذلك منه عندنا والله أعلم عمن بعد داره
وشق عليه أن يحمل صدقته إليه, وقد جعل في كل
طرف من الأطراف عاشر التجار أهل الحرب والذمة
وأمر أن يأخذوا من تجار المسلمين ما يدفعونه
إليه. وكان ذلك من عمر تخفيفا على المسلمين
إلا أن على الإمام مطالبة أرباب الأموال العين
وأموال التجارة بأداء الزكاة إليهم سوى
المواشي والأنعام وأن مطالبة ذلك إلى الأئمة
إلا أن يأتي أحدهم إلى الإمام بشيء من ذلك
فيقبله ولا يتعدى عما جرت به العادة والسنة
إلى غيره. وأما سلاطين زماننا الذين إذا أخذوا
الصدقات والعشور والخراج لا يضعونها مواضعها
فهل تسقط هذه الحقوق عن أربابها؟ اختلف
المشايخ فيه ذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني
أنه يسقط ذلك كله وإن كانوا لا يضعونها في
أهلها؛ لأن حق الأخذ لهم فيسقط عنا بأخذهم, ثم
إنهم إن لم يضعوها مواضعها فالوبال عليهم.
وقال الشيخ أبو بكر بن سعيد: إن الخراج يسقط
ولا أسقط الصدقات؛ لأن الخراج يصرف إلى
المقاتلة وهم يصرفون إلى المقاتلة ويقاتلون
العدو ألا ترى أنه لو ظهر العدو فإنهم يقاتلون
ويذبون عن حريم المسلمين؟ فأما الزكوات
والصدقات فإنهم لا يضعونها في أهلها. وقال أبو
بكر الإسكاف: إن جميع ذلك يسقط ويعطي ثانيا؛
لأنهم لا يضعونها مواضعها. ولو نوى صاحب المال
وقت الدفع أنه يدفع إليهم ذلك عن زكاة ماله
قيل: يجوز؛ لأنهم فقراء في الحقيقة ألا ترى
أنهم لو أدوا ما عليهم من التبعات والمظالم
صاروا فقراء؟. وروي عن أبي مطيع البلخي أنه
قال: تجوز الصدقة لعلي بن عيسى بن هامان وكان
والي خراسان وإنما قال ذلك لما ذكرنا. وحكي أن
أميرا ببلخ سأل واحدا من الفقهاء عن كفارة
يمين لزمته فأمره بالصيام فبكى الأمير وعرف
أنه يقول: لو أديت ما عليك من التبعات
والمظلمة لم يبق لك شيء, وقيل: إن السلطان لو
أخذ مالا من رجل بغير حق مصادرة فنوى صاحب
المال وقت الدفع أن يكون ذلك عن زكاة ماله
وعشر أرضه يجوز ذلك والله أعلم.
"فصل": وأما شرط ولاية الآخذ فأنواع: منها وجود الحماية من الإمام حتى لو
ظهر أهل البغي على مدينة من مدائن أهل العدل
أو قرية من قراهم وغلبوا عليها فأخذوا صدقات
سوائمهم وعشور أراضيهم وخراجها ثم ظهر عليهم
عليهم العدل لا يأخذ منهم ثانيا: لأن حق الأخذ
للإمام لأجل الحفظ والحماية, ولم يوجد إلا
أنهم يفتون فيما بينهم وبين ربهم أن يؤدوا
الزكاة والعشور ثانيا, وسكت محمد عن ذكر
الخراج, واختلف مشايخنا قال بعضهم: عليهم أن
يعيدوا الخراج كالزكاة والعشور, وقال بعضهم:
ليس عليهم الإعادة؛ لأن الخراج يصرف إلى
المقاتلة وأهل البغي يقاتلون العدو ويذبون عن
حريم الإسلام. ومنها وجوب الزكاة؛ لأن المأخوذ
زكاة والزكاة في عرف الشرع اسم للواجب فلا بد
من تقديم الوجوب فتراعى له شرائط الوجوب وهي
ما ذكرنا من الملك المطلق, وكمال النصاب وكونه
معدا للنماء, وحولان الحول, وعدم الدين
المطالب به من جهة العباد, وأهلية الوجوب,
ونحو ذلك. ومنها ظهور المال وحضور المالك حتى
لو حضر المالك ولم يظهر ماله لا يطالب بزكاته؛
لأنه إذا لم يظهر ماله لا يدخل تحت حماية
السلطان وكذا إذا ظهر المال ولم يحضر المالك
ولا المأذون من جهة المالك كالمستبضع ونحوه لا
يطالب بزكاته. وبيان هذه الجملة إذا جاء
الساعي إلى صاحب المواشي في أماكنها يريد أخذ
الصدقة فقال ليست هي مالي أو قال: لم يحل
عليها الحول أو قال: علي دين يحيط بقيمتها
فالقول قوله؛ لأنه ينكر وجوب الزكاة, ويستحلف؛
لأنه تعلق به حق العبد وهو مطالبة الساعي
فيكون القول قوله مع يمينه. ولو قال: أديت إلى
مصدق آخر فإن لم يكن في تلك السنة مصدق آخر لا
يصدق؛ لظهور كذبه بيقين. وإن كان في تلك السنة
مصدق آخر يصدق مع اليمين سواء أتى بخط وبراءة
أو لم يأت به في ظاهر الرواية. وروى الحسن عن
أبي حنيفة أنه لا يصدق ما لم يأت بالبراءة.
وجه هذه الرواية أن خبره يحتمل الصدق والكذب
فلا بد من مرجح والبراءة أمارة رجحان الصدق.
وجه ظاهر الرواية أن الرجحان ثابت بدون
البراءة؛ لأنه أمين إذ له أن يدفع إلى المصدق
فقد أخبر عن الدفع إلى من جعل له الدفع إليه
فكان كالمودع إذا قال دفعت
ج / 2 ص -37-
الوديعة إلى المودع, والبراءة ليست بعلامة
صادقة؛ لأن الخط يشبه الخط وعلى هذا إذا أتى
بالبراءة على خلاف اسم ذلك المصدق أنه يقبل
قوله مع يمينه على جواب ظاهر الرواية؛ لأن
البراءة ليست بشرط فكان الإتيان بها والعدم
بمنزلة واحدة, وعلى رواية الحسن لا يقبل؛ لأن
البراءة شرط فلا تقبل بدونها. ولو قال: أديت
زكاتها إلى الفقراء لا يصدق وتؤخذ منه عندنا,
وعند الشافعي لا تؤخذ. وجه قوله أن المصدق لا
يأخذ الصدقة لنفسه بل ليوصلها إلى مستحقيها
وهو الفقير وقد أوصل بنفسه, ولنا أن حق الأخذ
للسلطان فهو بقوله: أديت بنفسي أراد إبطال حق
السلطان فلا يملك ذلك, وكذلك العشر على هذا
الخلاف, وكذا الجواب فيمن مر على العاشر
بالسوائم أو بالدراهم أو الدنانير أو بأموال
التجارة في جميع ما وصفنا إلا في قوله: أديت
زكاتها بنفسي إلى الفقراء فيما سوى السوائم
أنه يقبل قوله ولا يؤخذ ثانيا؛ لأن أداء زكاة
الأموال الباطنة مفوض إلى أربابها إذا كانوا
يتجرون بها في المصر فلم يتضمن الدفع بنفسه
إبطال حق أحد. ولو مر على العاشر بمائة درهم
وأخبر العاشر أن له مائة أخرى قد حال عليها
الحول لم يأخذ منه زكاة هذه المائة التي مر
بها؛ لأن حق الأخذ لمكان الحماية وما دون
النصاب قليل لا يحتاج إلى الحماية والقدر الذي
في بيته لم يدخل تحت الحماية فلا يؤخذ من
أحدهما شيء. ولو مر عليه بالعروض فقال: هذه
ليست للتجارة, أو قال: هذه بضاعة, أو قال: أنا
أجير فيها فالقول قوله مع اليمين؛ لأنه أمين
ولم يوجد ظاهر يكذبه. وجميع ما ذكرنا أنه يصدق
فيه المسلم يصدق فيه الذمي لقول النبي: صلى
الله عليه وسلم "إذا قبلوا عقد الذمة فأعلمهم أن لهم ما للمسلمين وعليهم ما على
المسلمين" ولأن الذمي
لا يفارق المسلم في هذا الباب إلا في قدر
المأخوذ وهو أنه يؤخذ منه ضعف ما يؤخذ من
المسلم كما في التغلبي؛ لأنه يؤخذ منه بسبب
الحماية وباسم الصدقة وإن لم تكن صدقة حقيقية.
ولا يصدق الحربي في شيء من ذلك ويؤخذ منه
العشر إلا في جوار يقول: هن أمهات أولادي, أو
في غلمان يقول: هم أولادي؛ لأن الأخذ منه
لمكان الحماية والعصمة لما في يده وقد وجدت
فلا يمنع شيء من ذلك من الأخذ وإنما قبل قوله
في الاستيلاد والنسب؛ لأن الاستيلاد والنسب
كما يثبت في دار الإسلام يثبت في دار الحرب.
وعلل محمد رحمه الله فقال: الحربي لا يخلو إما
أن يكون صادقا وإما أن يكون كاذبا, فإن كان
صادقا فقد صدق وإن كان كاذبا فقد صارت بإقراره
في الحال أم ولد له ولا عشر في أم الولد. ولو
قال: هم مدبرون لا يلتفت إلى قوله؛ لأن
التدبير لا يصح في دار الحرب ولو مر على عاشر
بمال وقال: هو عندي بضاعة, أو قال: أنا أجير
فيه فالقول قوله ولا يعشره ولو قال: هو عندي
مضاربة فالقول قوله أيضا وهل يعشره؟ كان أبو
حنيفة أولا يقول: يعشره, ثم رجع وقال: لا
يعشره, وهو قول أبي يوسف ومحمد. ولو مر العبد
المأذون بمال من كسبه وتجارته وليس عليه دين
واستجمع شرائط وجوب الزكاة فيه فإن كان معه
مولاه عشره بالإجماع, وإن لم يكن معه مولاه
فكذلك يعشره في قول أبي حنيفة وفي قولهما لا
يعشره, وقال أبو يوسف: لا أعلم أنه رجع في
العبد أم لا, وقيل: إن الصحيح أن رجوعه في
المضارب رجوع في العبد المأذون. وجه قوله
الأول في المضارب أن المضارب بمنزلة المالك؛
لأنه يملك التصرف في المال, ولهذا يجوز بيعه
من رب المال. وجه قوله الأخير وهو قولهما أن
الملك شرط الوجوب ولا ملك له فيه ورب المال لم
يأمره بأداء الزكاة؛ لأنه لم يأذن له بعقد
المضاربة إلا بالتصرف في المال وقد خرج الجواب
عن قوله: إنه بمنزلة المالك؛ لأنا نقول نعم
لكن في ولاية التصرف في المال لا في أداء
الزكاة كالمستبضع, والعبد المأذون في معنى
المضارب في هذا المعنى. ولأنه لم يؤمر إلا
بالتصرف فكان الصحيح هو الرجوع. ولا يؤخذ من
المسلم إذا مر على العاشر في السنة إلا مرة
واحدة؛ لأن المأخوذ منه زكاة والزكاة لا تجب
في السنة إلا مرة واحدة. وكذلك الذمي؛ لأنه
بقبول عقد الذمة صار له ما للمسلمين وعليه ما
على المسلمين؛ ولأن العاشر يأخذ منه باسم
الصدقة وإن لم تكن صدقة حقيقة كالتغلبي فلا
يؤخذ منه في الحول إلا مرة واحدة, وكذلك
الحربي إلا إذا عشره فرجع إلى دار الحرب ثم
خرج أنه يعشره ثانيا وإن خرج من يومه ذلك؛ لأن
الأخذ من أهل الحرب لمكان حماية ما في أيديهم
من ألأموال, وما دام هو في دار الإسلام
فالحماية متحدة ما دام الحول باقيا فيتحد حق
الأخذ. وعند دخوله دار الحرب ورجوعه إلى دار
الإسلام تتجدد الحماية فيتجدد حق الأخذ وإذا
مر الحربي على العاشر فلم يعلم حتى عاد إلى
دار الحرب ثم رجع ثانيا
ج / 2 ص -38-
إنما
يأخذ منها بطريق الزكاة؛ ولأن ولاية الأخذ
بسبب الحماية, وهذه الأشياء لا تفتقر إلى
الحماية؛ لأن أحدا لا يقصدها؛ ولأنها تهلك في
يد العاشر في المفازة فلا يكون أخذها مفيدا.
وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه تجب
الزكاة على صاحبها بالإجماع وإنما الخلاف في
أنه هل للعاشر حق الأخذ؟ وذكر الكرخي أنه لا
شيء فيه في قول أبي حنيفة وهذا الإطلاق يدل
على أن الوجوب مختلف فيه والله أعلم. ولا يعشر
مال الصبي والمجنون؛ لأنهما ليسا من أهل وجوب
الزكاة عليهما عندهما. ولو مر صبي وامرأة من
بني تغلب على العاشر فليس على الصبي شيء وعلى
المرأة ما على الرجل؛ لأن المأخوذ من بني تغلب
يسلك به مسلك الصدقات لا يفارقها إلا في
التضعيف. والصدقة لا تؤخذ من الصبي وتؤخذ من
المرأة. ولو مر على عاشر الخراج في أرض غلبوا
عليها فعشره, ثم مر على عاشر أهل العدل يعشره
ثانيا؛ لأنه بالمرور على عاشرهم ضيع حق سلطان
أهل العدل وحق فقراء أهل العدل بعد دخوله تحت
حماية سلطان أهل العدل فيضمن. ولو مر ذمي على
العاشر بخمر للتجارة أو خنازير يأخذ عشر ثمن
الخمر ولا يعشر الخنازير في ظاهر الرواية.
وروي عن أبي يوسف أنه يعشرهما وهو قول زفر
وعند الشافعي لا يعشرهما. وجه قول الشافعي أن
الخمر والخنزير ليسا بمال أصلا والعشر إنما
يؤخذ من المال. وجه قول زفر أنهما مالان
متقومان في حق أهل الذمة فالخمر عندهم كالخل
عندنا والخنزير عندهم كالشاة عندنا ولهذا كانا
مضمونين على المسلم بالإتلاف. وجه ظاهر
الرواية وهو الفرق بين الخمر والخنزير من
وجهين أحدهما أن الخمر من ذوات الأمثال,
والقيمة فيما له مثل من جنسه لا يقوم مقامه
فلا يكون أخذ قيمة الخمر كأخذ عين الخمر
والخنزير من ذوات القيم لا من ذوات الأمثال
والقيمة فيما لا مثل له يقوم مقامه فكان أخذ
قيمته كأخذ عينه وذا لا يجوز للمسلم. والثاني
أن الأخذ حق للعاشر بسبب الحماية وللمسلم
ولاية حماية الخمر في الجملة ألا ترى أنه إذا
ورث الخمر فله ولاية حمايتها عن غيره بالغصب؟
ولو غصبها غاصب له أن يخاصمه ويستردها منه
للتخليل فله ولاية حماية خمر غيره عند وجود
سبب ثبوت الولاية وهو ولاية السلطنة. وليس
للمسلم ولاية حماية الخنزير رأسا حتى لو أسلم
وله خنازير ليس له أن يحميها بل يسيبها فلا
يكون له ولاية حماية خنزير غيره.
"فصل": وأما القدر المأخوذ مما يمر به التاجر على العاشر فالمار لا يخلو
إما إن كان مسلما أو ذميا أو حربيا فإن كان
مسلما يأخذ منه في أموال التجارة ربع العشر؛
لأن المأخوذ منه زكاة فيؤخذ على قدر الواجب من
الزكاة في أموال التجارة وهو ربع العشر ويوضع
موضع الزكاة ويسقط عن ماله زكاة تلك السنة,
وإن كان ذميا يؤخذ منه نصف العشر ويؤخذ على
شرائط الزكاة لكن يوضع موضع الجزية والخراج
ولا تسقط عنه جزية رأسه في تلك السنة غير
نصارى بني تغلب؛ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم
من الجزية على الصدقة المضاعفة فإذا أخذ
العاشر منهم ذلك سقطت الجزية عنهم, وإن كان
حربيا يأخذ منه ما يأخذونه من المسلمين فإن
علم أنهم يأخذون منا ربع العشر أخذ منهم ذلك
القدر وإن كان نصفا فنصف وإن كان عشرا فعشر؛
لأن ذلك أدعى لهم إلى المخالطة بدار الإسلام
فيروا محاسن الإسلام فيدعوهم ذلك إلى الإسلام
فإن كان لا يعلم ذلك يأخذ منه العشر, وأصله ما
روينا عن عمر رضي الله عنه أنه كتب إلى العشار
في الأطراف أن خذوا من المسلم ربع العشر ومن
الذمي نصف العشر ومن الحربي
ج / 2 ص -39-
العشر
وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم ولم
يخالفه أحد منهم فيكون إجماعا منهم على ذلك.
وروي أنه قال: خذوا منهم ما يأخذون من تجارنا
فقيل له: إن لم نعلم ما يأخذون من تجارنا؟
فقال: خذوا منهم العشر وما يؤخذ منهم فهو في
معنى الجزية والمؤنة توضع مواضع الجزية وتصرف
إلى مصارفها.
"فصل": وأما ركن الزكاة فركن الزكاة هو إخراج جزء من النصاب إلى الله
تعالى, وتسليم ذلك إليه يقطع المالك يده عنه
بتمليكه من الفقير وتسليمه إليه أو إلى يد من
هو نائب عنه وهو المصدق والملك للفقير يثبت من
الله تعالى وصاحب المال نائب عن الله تعالى في
التمليك والتسليم إلى الفقير والدليل على ذلك
قوله تعالى:
{أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ
عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ}, وقول النبي صلى الله عليه وسلم
"الصدقة تقع في يد الرحمن قبل أن تقع في كف الفقير" وقد أمر الله تعالى الملاك بإيتاء الزكاة لقوله عزو جل:
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} والإيتاء هو التمليك؛ ولذا سمى الله تعالى الزكاة صدقة بقوله عز
وجل
{إِنَّمَا
الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} والتصدق تمليك فيصير المالك مخرجا قدر الزكاة إلى الله تعالى
بمقتضى التمليك سابقا عليه؛ ولأن الزكاة عبادة
على أصلنا والعبادة إخلاص العمل بكليته لله
تعالى وذلك فيما قلنا: إن عند التسليم إلى
الفقير تنقطع نسبة قدر الزكاة عنه بالكلية
وتصير خالصة لله تعالى ويكون معنى القربة في
الإخراج إلى الله تعالى بإبطال ملكه عنه لا في
التمليك من الفقير بل التمليك من الله تعالى
في الحقيقة وصاحب المال نائب عن الله تعالى
غير أن عند أبي حنيفة الركن هو إخراج جزء من
النصاب من حيث المعنى دون الصورة وعندهما صورة
ومعنى لكن يجوز إقامة الغير مقامه من حيث
المعنى. ويبطل اعتبار الصورة بإذن صاحب الحق
وهو الله تعالى على ما بينا فيما تقدم, وبينا
اختلاف المشايخ في السوائم على قول أبي حنيفة
وعلى هذا يخرج صرف الزكاة إلى وجوه البر من
بناء المساجد, والرباطات والسقايات, وإصلاح
القناطر, وتكفين الموتى ودفنهم أنه لا يجوز؛
لأنه لم يوجد التمليك أصلا. وكذلك إذا اشترى
بالزكاة طعاما فأطعم الفقراء غداء وعشاء ولم
يدفع عين الطعام إليهم لا يجوز لعدم التمليك.
وكذا لو قضى دين ميت فقير بنية الزكاة؛ لأنه
لم يوجد التمليك من الفقير لعدم قبضه, ولو قضى
دين حي فقير إن قضى بغير أمره لم يجز؛ لأنه لم
يوجد التمليك من الفقير لعدم قبضه وإن كان
بأمره يجوز عن الزكاة لوجود التمليك من
الفقير؛ لأنه لما أمره به صار وكيلا عنه في
القبض فصار كأن الفقير قبض الصدقة بنفسه وملكه
من الغريم. ولو أعتق عبده بنية الزكاة لا يجوز
لانعدام التمليك إذ الإعتاق ليس بتمليك بل هو
إسقاط الملك. وكذا لو اشترى بقدر الزكاة عبدا
فأعتقه لا يجوز عن الزكاة عند عامة العلماء
وقال مالك: يجوز وبه تأول قوله تعالى
{وَفِي الرِّقَابِ} وهو أن يشتري بالزكاة عبدا فيعتقه, ولنا أن الواجب هو التمليك,
والإعتاق إزالة الملك فلم يأت بالواجب والمراد
من قوله تعالى
{وَفِي الرِّقَابِ} إعانة المكاتبين بالزكاة لما نذكره ولو دفع زكاته إلى الإمام أو
إلى عامل الصدقة يجوز؛ لأنه نائب عن الفقير في
القبض فكان قبضه كقبض الفقير. وكذا لو دفع
زكاة ماله إلى صبي فقير أو مجنون فقير وقبض له
وليه أبوه أو جده أو وصيهما جاز؛ لأن الولي
يملك قبض الصدقة عنه. وكذا لو قبض عنه بعض
أقاربه وليس ثمة أقرب منه وهو في عياله يجوز,
وكذا الأجنبي الذي هو في عياله؛ لأنه في معنى
الولي في قبض الصدقة لكونه نفعا محضا ألا ترى
أنه يملك قبض الهبة له ؟, وكذا الملتقط إذا
قبض الصدقة عن اللقيط؛ لأنه يملك القبض له فقد
وجد تمليك الصدقة من الفقير, وذكر في العيون
عن أبي يوسف أن من عال يتيما فجعل يكسوه
ويطعمه وينوي به عن زكاة ماله يجوز وقال محمد:
ما كان من كسوة يجوز وفي الطعام لا يجوز إلا
ما دفع إليه, وقيل: لا خلاف بينهما في
الحقيقة؛ لأن مراد أبي يوسف ليس هو الإطعام
على طريق الإباحة بل على وجه التمليك, ثم إن
كان اليتيم عاقلا يدفع إليه وإن لم يكن عاقلا
يقبض عنه بطريق النيابة ثم يكسوه ويطعمه؛ لأن
قبض الولي كقبضه لو كان عاقلا ولا يجوز قبض
الأجنبي للفقير البالغ العاقل إلا بتوكيله؛
لأنه لا ولاية له عليه فلا بد من أمره كما في
قبض الهبة. وعلى هذا أيضا يخرج الدفع إلى عبده
ومدبره وأم ولده أنه لا يجوز لعدم التمليك إذ
هم لا يملكون شيئا فكان الدفع إليهم دفعا إلى
نفسه, ولا يدفع إلى مكاتبه؛ لأنه عبد ما بقي
عليه درهم ولأن كسبه متردد
ج / 2 ص -40-
بين أن
يكون له أو لمولاه لجواز أن يعجز نفسه ولا
يدفع إلى والده وإن علا ولا إلى ولده وإن سفل؛
لأنه ينتفع بملكه فكان الدفع إليه دفعا إلى
نفسه من وجه فلا يقع تمليكا مطلقا؛ لهذا لا
تقبل شهادة أحدهما لصاحبه ولا يدفع أحد
الزوجين زكاته إلى الآخر وقال أبو يوسف ومحمد
تدفع الزوجة زكاتها إلى زوجها احتجا بما روي
"أن امرأة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الصدقة
على زوجها عبد الله فقال النبي صلى الله عليه
وسلم:
لك أجران أجر الصدقة وأجر الصلة"
ولأبي حنيفة أن أحد الزوجين ينتفع بمال صاحبه
كما ينتفع بمال نفسه عرفا وعادة فلا يتكامل
معنى التمليك, ولهذا لم يجز للزوج أن يدفع إلى
زوجته كذا الزوجة وتخرج هذه المسائل على أصل
آخر سنذكره والله أعلم.
"فصل": وأما شرائط الركن فأنواع بعضها يرجع إلى المؤدي وبعضها يرجع إلى
المؤدى وبعضها يرجع إلى المؤدى إليه أما. الذي
يرجع إلى المؤدي فنية الزكاة والكلام في النية
في موضعين في بيان أن النية شرط جواز أداء
الزكاة وفي بيان وقت نية الأداء, أما الأول
فالدليل عليه قوله: صلى الله عليه وسلم
"لا عمل لمن لا نية له" وقوله
"إنما الأعمال بالنيات"؛ ولأن
الزكاة عبادة مقصودة فلا تتأدى بدون النية
كالصوم والصلاة. ولو تصدق بجميع ماله على فقير
ولم ينو الزكاة أجزأه عن الزكاة استحسانا
والقياس أن لا يجوز. وجه القياس ما ذكرنا أن
الزكاة عبادة مقصودة فلا بد لها من النية. وجه
الاستحسان أن النية وجدت دلالة؛ لأن الظاهر أن
من عليه الزكاة لا يتصدق بجميع ماله ويغفل عن
نية الزكاة فكانت النية موجودة دلالة, وعلى
هذا إذا وهب جميع النصاب من الفقير أو نوى
تطوعا. وروي عن أبي يوسف أنه إن نوى أن يتصدق
بجميع ماله فتصدق شيئا فشيئا أجزأه عن الزكاة
لما قلنا وإن لم ينو أن يتصدق بجميع ماله فجعل
يتصدق حتى أتى عليه ضمن الزكاة؛ لأن الزكاة
بقيت واجبة عليه بعدما تصدق ببعض المال فلا
تسقط بالتصدق بالباقي. ولو تصدق ببعض ماله من
غير نية الزكاة حتى لم يجزئه عن زكاة الكل فهل
يجزئه عن زكاة القدر الذي تصدق به؟ قال أبو
يوسف: لا يجزئه وعليه أن يزكي الجميع, وقال:
محمد يجزئه عن زكاة ما تصدق به ويزكي ما بقي
حتى أنه لو أدى خمسة من مائتين لا ينوي الزكاة
أو نوى تطوعا لا تسقط عنه زكاة الخمسة في قول
أبي يوسف وعليه زكاة الكل, وعند محمد تسقط عنه
زكاة الخمسة وهو ثمن درهم ولا يسقط عنه زكاة
الباقي. وكذا لو أدى مائة لا ينوي الزكاة ونوى
تطوعا لا تسقط زكاة المائة وعليه أن يزكي الكل
عند أبي يوسف, وعند محمد يسقط عنه زكاة ما
تصدق وهو درهمان ونصف ولا يسقط عنه زكاة
الباقي كذا ذكر القدوري الخلاف في شرحه مختصر
الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه
يسقط عنه زكاة القدر المؤدى ولم يذكر الخلاف.
وجه قول محمد اعتبار البعض بالكل وهو أنه لو
تصدق بالكل لجاز عن زكاة الكل فإذا تصدق
بالبعض يجوز عن زكاته؛ لأن الواجب شائع في
جميع النصاب ولأبي يوسف أن سقوط الزكاة بغير
نية لزوال ملكه على وجه القربة عن المال الذي
فيه الزكاة ولم يوجد ذلك في التصدق بالبعض ولو
تصدق بخمسة ينوي بجميعها الزكاة والتطوع كانت
من الزكاة في قول أبي يوسف. وقال محمد: هي من
التطوع. وجه قول محمد أن النيتين تعارضتا فلم
يصح التعيين للتعارض فالتحق بالعدم فبقي
التصدق بنية مطلقة فيقع عن التطوع؛ لأنه أدنى
والأدنى متيقن به. وجه قول أبي يوسف أن عند
تعارض الجهتين يعمل بالأقوى وهو الفرض كما في
تعارض الدليلين أنه يعمل بأقواهما, ولأن
التعيين يعتبر في الزكاة لا في التطوع؛ لأن
التطوع لا يحتاج إلى التعيين ألا ترى أن إطلاق
الصدقة يقع عليه فلغا تعيينه وبقيت الزكاة
متعينة؟ فيقع عن الزكاة. والمعتبر في الدفع
نية الآمر حتى لو دفع خمسة إلى رجل وأمره أن
يدفعها إلى الفقير عن زكاة ماله فدفع ولم
تحضره النية عند الدفع جاز؛ لأن النية إنما
تعتبر من المؤدي والمؤدي هو الآمر في الحقيقة
وإنما المأمور نائب عنه في الأداء ولهذا لو
وكل ذميا بأداء الزكاة جاز؛ لأن المؤدي في
الحقيقة هو المسلم, وذكر في الفتاوى عن الحسن
بن زياد في رجل أعطى رجلا دراهم ليتصدق بها
تطوعا ثم نوى الآمر أن يكون ذلك من زكاة ماله
ثم تصدق المأمور جاز عن زكاة مال الآمر. وكذا
ج / 2 ص -41-
لو
قال: تصدق بها عن كفارة يميني ثم نوى الآمر عن
زكاة ماله جاز؛ لما ذكرنا أن الآمر هو المؤدي
من حيث المعنى وإنما المأمور نائب عنه ولو
قال: إن دخلت هذه الدار فلله علي أن أتصدق
بهذه المائة درهم, ثم نوى وقت الدخول عن زكاة
ماله لا تكون زكاة؛ لأن عند الدخول وجب عليه
التصدق بالنذر المتقدم أو اليمين المتقدمة
وذلك لا يحتمل الرجوع فيه بخلاف الأول ولو
تصدق عن غيره بغير أمره فإن تصدق بمال نفسه
جازت الصدقة عن نفسه ولا تجوز عن غيره وإن
أجازه ورضي به أما عدم الجواز عن غيره فلعدم
التمليك منه إذ لا ملك له في المؤدى ولا يملكه
بالإجازة فلا تقع الصدقة عنه وتقع عن المتصدق؛
لأن التصدق وجد نفاذا عليه, وإن تصدق بمال
المتصدق عنه وقف على إجازته فإن أجاز والمال
قائم جاز عن الزكاة وإن كان المال هالكا جاز
عن التطوع ولم يجز عن الزكاة؛ لأنه لما تصدق
عنه بغير أمره وهلك المال صار بدله دينا في
ذمته فلو جاز ذلك عن الزكاة كان أداء الدين عن
الغير وأنه لا يجوز والله أعلم. وأما وقت
النية فقد ذكر الطحاوي ولا تجزئ الزكاة عمن
أخرجها إلا بنية مخالطة لإخراجه إياها كما قال
في باب الصلاة وهذا إشارة إلى أنها لا تجزئ
إلا بنية مقارنة للأداء وعن محمد بن سلمة أنه
قال: إن كان وقت التصدق بحال لو سئل عن ماذا
يتصدق؟ أمكنه الجواب من غير فكرة فإن ذلك يكون
نية منه وتجزئه كما قال في نية الصلاة والصحيح
أن النية تعتبر في أحد الوقتين إما عند الدفع
وإما عند التمييز هكذا روى هشام عن محمد في
رجل نوى أن ما يتصدق به إلى آخر السنة فهو عن
زكاة ماله فجعل يتصدق إلى آخر السنة ولا تحضره
النية قال: لا تجزئه وإن ميز زكاة ماله فصرها
في كمه وقال: هذه من الزكاة فجعل يتصدق ولا
تحضره النية قال: أرجو أن تجزئه عن الزكاة؛
لأن في الأول لم توجد النية في الوقتين وفي
الثاني وجد في أحدهما وهو وقت التمييز وإنما
لم تشترط في وقت الدفع عينا؛ لأن دفع الزكاة
قد يقع دفعة واحدة وقد يقع متفرقا, وفي اشتراط
النية عند كل دفع مع تفريق الدفع حرج والحرج
مدفوع والله أعلم.
"فصل": وأما الذي يرجع إلى المؤدي فمنها أن يكون مالا متقوما على الإطلاق
سواء كان منصوصا عليه أو لا من جنس المال الذي
وجبت فيه الزكاة أو من غير جنسه. والأصل أن كل
مال يجوز التصدق به تطوعا يجوز أداء الزكاة
منه وما لا فلا وهذا عندنا, وعند الشافعي لا
يجوز الأداء المنصوص عليه وقد مضت المسألة غير
أن المؤدى يعتبر فيه القدر والصفة في بعض
الأموال وفي بعضها القدر دون الصفة وفي بعضها
الصفة دون القدر وفي بعض هذه الجملة اتفاق وفي
بعضها اختلاف. وجملة الكلام فيه أن مال الزكاة
لا يخلو إما أن يكون عينا وإما أن يكون دينا,
والعين لا يخلو إما أن تكون مما لا يجري فيه
الربا كالحيوان والعروض وإما أن يكون مما يجري
فيه الربا كالمكيل والموزون. فإن كان مما لا
يجري فيه الربا فإن كان من السوائم فإن أدى
المنصوص عليه من الشاة وبنت المخاض ونحو ذلك
يراعى فيه صفة الواجب وهو أن يكون وسطا فلا
يجوز الرديء إلا على طريق التقويم فبقدر قيمته
وعليه التكميل؛ لأنه لم يؤد الواجب ولو أدى
الجيد جاز؛ لأنه أدى الواجب وزيادة. وإن أدى
القيمة أدى قيمة الوسط فإن أدى قيمة الرديء لم
يجز إلا بقدر قيمته وعليه التكميل. ولو أدى
شاة واحدة سمينة عن شاتين وسطين تعدل قيمتها
قيمة شاتين وسطين جاز؛ لأن الحيوان ليس من
أموال الربا والجودة في غير أموال الربا
متقومة ألا ترى أنه يجوز بيع شاة بشاتين؟
فبقدر الوسط يقع عن نفسه وبقدر قيمة الجودة
يقع عن شاة أخرى وإن كان من عروض التجارة فإن
أدى من النصاب ربع عشره يجوز كيفما كان
النصاب؛ لأنه أدى الواجب بكماله وإن أدى من
غير النصاب فإن كان من جنسه يراعى فيه صفة
الواجب من الجيد والوسط والرديء ولو أدى
الرديء مكان الجيد والوسط لا يجوز إلا على
طريق التقويم بقدره وعليه التكميل؛ لأن العروض
ليست من أموال الربا حتى يجوز بيع ثوب بثوبين
فكانت الجودة فيها متقومة؛ ولهذا لو أدى ثوبا
جيدا عن ثوبين رديئين يجوز, وإن كان من خلاف
جنسه يراعى فيه قيمة الواجب حتى لو أدى أنقص
منه لا يجوز إلا بقدره وإن كان مال الزكاة مما
يجري فيه الربا من الكيلي والوزني فإن أدى ربع
عشر النصاب يجوز كيفما كان؛ لأنه أدى ما وجب
عليه وإن أدى من غير النصاب فلا يخلو إما أن
كان من جنس النصاب وإما أن كان من خلاف جنسه
فإن كان المؤدى من خلاف جنسه بأن أدى الذهب عن
الفضة أو
ج / 2 ص -42-
الحنطة
عن الشعير يراعى قيمة الواجب بالإجماع حتى لو
أدى أنقص منها لا يسقط عنه كل الواجب بل يجب
عليه التكميل؛ لأن الجودة في أموال الربا
متقومة عند مقابلتها بخلاف جنسها وإن كان
المؤدى من جنس النصاب فقد اختلف فيه على ثلاثة
أقوال قال أبو حنيفة وأبو يوسف: إن المعتبر هو
القدر لا القيمة, وقال زفر: المعتبر هو القيمة
لا القدر, وقال محمد: المعتبر ما هو أنفع
للفقراء فإن كان اعتبار القدر أنفع فالمعتبر
هو القدر كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف وإن كان
اعتبار القيمة أنفع فالمعتبر هو القيمة كما
قال زفر. وبيان هذا في مسائل, إذا كان له
مائتان قفيز حنطة جيدة للتجارة قيمتها مائتا
درهم فحال عليها الحول فلم يؤد منها وأدى خمسة
أقفزة رديئة يجوز أن تسقط عنه الزكاة في قول
أبي حنيفة وأبي يوسف ويعتبر القدر لا قيمة
الجودة وعند محمد وزفر عليه أن يؤدي الفضل إلى
تمام قيمة الواجب اعتبارا في حق الفقراء
للقيمة عند زفر واعتبارا للأنفع عند محمد
والصحيح اعتبار أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن
الجودة في الأموال الربوية لا قيمة لها عند
مقابلتها بجنسها؛ لقول النبي صلى الله عليه
وسلم
"جيدها ورديئها سواء" إلا أن محمدا يقول: إن الجودة متقومة حقيقة وإنما سقط اعتبار
تقومها شرعا لجريان الربا, والربا اسم لمال
يستحق بالبيع ولم يوجد والجواب أن المسقط
لاعتبار الجودة وهو النص مطلق فيقتضي سقوط
تقومها مطلقا إلا فيما قيد بدليل, ولو كان
النصاب حنطة رديئة للتجارة قيمتها مائتا درهم
فأدى أربعة أقفزة جيدة عن خمسة أقفزة رديئة لا
يجوز إلا عن أربعة أقفزة منها, وعليه أن يؤدي
قفيزا آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد
اعتبارا للقدر دون القيمة عندهما واعتبارا
للأنفع للفقراء عند محمد, وعند زفر لا يجب
عليه شيء آخر اعتبارا للقيمة عنده, وعلى هذا
إذا كان له مائتا درهم جيدة حال عليها الحول
فأدى خمسة زيوفا جاز عند أبي حنيفة وأبي يوسف؛
لوجود القدر ولا يجوز عند محمد وزفر لعدم
القيمة والأنفع, ولو أدى أربعة دراهم جيدة عن
خمسة رديئة لا يجوز إلا عن أربعة دراهم وعليه
درهم آخر عند أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد. وأما
عند أبي حنيفة وأبي يوسف فلاعتبار القدر
والقدر ناقص. وأما عند محمد فلاعتبار الأنفع
للفقراء والقدر ههنا أنفع لهم, وعلى أصل زفر
يجوز لاعتبار القيمة ولو كان له قلب فضة أو
إناء مصنوع من فضة جيدة وزنه مائتا درهم
وقيمته لجودته وصياغته ثلاثمائة فإن أدى من
النصاب أدى ربع عشره, وإن أدى من الجنس من غير
النصاب يؤدي خمسة دراهم زكاة المائتين عند أبي
حنيفة وأبي يوسف وعند محمد وزفر يؤدي زكاة
ثلاثمائة درهم بناء على الأصل الذي ذكرنا, وإن
أدى من غير جنسة يؤدي زكاة ثلاثمائة وذلك سبعة
دراهم ونصف بالإجماع؛ لأن قيمة الجودة تظهر
عند المقابلة بخلاف الجنس, ولو أدى عنها خمسة
زيوفا قيمتها أربعة دراهم جيدة جاز وسقطت عنه
الزكاة عند أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد
وزفر عليه أن يؤدي الفضل إلى تمام قيمة الواجب
وعلى هذا النذر إذا أوجب على نفسه صدقة قفيز
حنطة جيدة فأدى قفيزا رديئا يخرج عن النذر في
قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد وزفر عليه
أداء الفضل ولو أوجب على نفسه صدقة قفيز حنطة
رديئة فتصدق بنصف قفيز حنطة جيدة تبلغ قيمته
قيمة قفيز حنطة رديئة لا يجوز إلا على النصف
وعليه أن يتصدق بنصف آخر في قول أصحابنا
الثلاثة, وفي قول زفر لا شيء عليه غيره وهذا
والزكاة سواء والأصل ما ذكرنا. ولو أوجب على
نفسه صدقة بشاتين فتصدق مكانهما بشاة واحدة
تبلغ قيمتها قيمة شاتين جاز ويخرج عن النذر
كما في الزكاة وهذا بخلاف ما إذا أوجب على
نفسه أن يهدي شاتين فأهدى مكانهما شاة تبلغ
قيمتها قيمة شاتين إنه لا يجوز إلا عن واحدة
منهما وعليه شاة أخرى؛ لأن القربة هناك في نفس
الإراقة لا في التمليك, وإراقة دم واحد لا
يقوم مقام إراقة دمين. وكذا لو أوجب على نفسه
عتق رقبتين فأعتق رقبة تبلغ قيمتها قيمة
رقبتين لم يجز؛ لأن الرقبة ثمة ليس في التمليك
بل في إزالة الرق, وإزالة رق واحد لا يقوم
مقام إزالة رقين ولهذا لم يجز إعتاق رقبة
واحدة وإن كانت سمينة إلا عن كفارة واحدة
والله أعلم. وإن كان مال الزكاة دينا فجملة
الكلام فيه أداء العين عن العين جائز بأن كان
له مائتا درهم عين فحال عليها الحول فأدى خمسة
منها؛ لأنه أداء الكامل عن الكامل فقد أدى ما
وجب عليه فيخرج عن الواجب. وكذا إذا أدى العين
عن الدين بأن كان له مائتا درهم دين فحال
عليها الحول ووجبت فيها الزكاة
ج / 2 ص -43-
فأدى
خمسة عينا عن الدين؛ لأنه أداء الكامل عن
الناقص؛ لأن العين مال بنفسه ومالية الدين
لاعتبار تعينه في العاقبة. وكذا العين قابل
للتمليك من جميع الناس والدين لا يقبل التمليك
لغير من عليه الدين, وأداء الدين عن العين لا
يجوز بأن كان له على فقير خمسة دراهم وله
مائتا درهم عين حال عليها الحول فتصدق بالخمسة
على الفقير ناويا عن زكاة المائتين؛ لأنه أداء
الناقص عن الكامل فلا يخرج عما عليه, والحيلة
في الجواز أن يتصدق عليه بخمسة دراهم عين ينوي
عن زكاة المائتين ثم يأخذها منه قضاء عن دينه
فيجوز ويحل له ذلك. وأما أداء الدين عن الدين
فإن كان عن دين يصير عينا لا يجوز بأن كان له
على فقير خمسة دراهم دين وله على رجل آخر
مائتا درهم فحال عليها الحول فتصدق بهذه
الخمسة على من عليه ناويا عن زكاة المائتين؛
لأن المائتين تصير عينا بالاستيفاء فتبين في
الآخرة أن هذا أداء الدين عن العين وأنه لا
يجوز لما بينا. وإن كان عن دين لا يصير عينا
يجوز بأن كان له على فقير مائتا درهم دين فحال
عليها الحول فوهب منه المائتين ينوي عن
الزكاة؛ لأن هذا دين لا ينقلب عينا فلا يظهر
في الآخرة أن هذا أداء الدين عن العين فلا
يظهر أنه أداء الناقص عن الكامل فيجوز هذا إذا
كان من عليه الدين فقيرا فوهب المائتين له أو
تصدق بها عليه فأما إذا كان غنيا فوهب أو تصدق
فلا شك أنه سقط عنه الدين لكن هل يجوز وتسقط
عنه الزكاة أم لا يجوز وتكون زكاتها دينا
عليه؟ ذكر في الجامع أنه لا يجوز ويكون قدر
الزكاة مضمونا عليه وذكر في نوادر الزكاة أنه
يجوز وجه رواية الجامع ظاهر؛ لأنه دفع الزكاة
إلى الغني مع العلم بحاله أو من غير تحر وهذا
لا يجوز بالإجماع وجه رواية النوادر أن الجواز
ليس على معنى سقوط الواجب بل على امتناع
الوجوب؛ لأن الوجوب باعتبار ماليته وماليته
باعتبار صيرورته عينا في العاقبة فإذا لم يصر
تبين أنه لم يكن مالا والزكاة لا تجب فيما ليس
بمال والله أعلم.
"فصل": وأما الذي يرجع إلى المؤدى إليه فأنواع: منها أن يكون فقيرا فلا
يجوز صرف الزكاة إلى الغني إلا أن يكون عاملا
عليها لقوله تعالى
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ
وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ
قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ
وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ} جعل الله تعالى الصدقات للأصناف المذكورين بحرف اللام وأنه
للاختصاص فيقتضي اختصاصهم باستحقاقها فلو جاز
صرفها إلى غيرهم لبطل الاختصاص وهذا لا يجوز
والآية خرجت لبيان مواضع الصدقات ومصارفها
ومستحقيها وهم وإن اختلفت أساميهم فسبب
الاستحقاق في الكل واحد وهو الحاجة إلا
العاملين عليها فإنهم مع غناهم يستحقون
العمالة؛ لأن السبب في حقهم العمالة لما نذكر
ثم لا بد من بيان معاني هذه الأسماء. أما
الفقراء والمساكين فلا خلاف في أن كل واحد
منهما جنس على حدة وهو الصحيح لما نذكر,
واختلف أهل التأويل واللغة في معنى الفقير
والمسكين وفي أن أيهما أشد حاجة وأسوأ حالا
قال الحسن: الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي
يسأل وهكذا ذكره الزهري. وكذا روى أبو يوسف عن
أبي حنيفة وهو المروي عن ابن عباس رضي الله
عنهما وهذا يدل على أن المسكين أحوج وقال
قتادة: الفقير الذي به زمانة وله حاجة
والمسكين المحتاج الذي لا زمانة به, وهذا يدل
على أن الفقير أحوج وقيل: الفقير الذي يملك
شيئا يقوته والمسكين الذي لا شيء له سمي
مسكينا لما أسكنته حاجته عن التحرك فلا يقدر
يبرح عن مكانه, وهذا أشبه الأقاويل. قال الله
تعالى:
{أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ} قيل في التفسير: أي استتر بالتراب وحفر الأرض إلى عانته وقال
الشاعر:
أما الفقير الذي كانت حلوبته
وفق العيال فلم يترك له سبد
سماه فقيرا مع أن له
حلوبة هي وفق العيال والأصل أن الفقير
والمسكين كل واحد منهما اسم ينبئ عن الحاجة
إلا أن حاجة المسكين أشد وعلى هذا يخرج قول من
يقول: الفقير الذي لا يسأل والمسكين الذي
يسأل؛ لأن من شأن الفقير المسلم أنه يتحمل ما
كانت له حيلة ويتعفف ولا يخرج فيسأل وله حيلة
فسؤاله يدل على شدة حاله. وما روى أبو هريرة
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال
"ليس المسكين
الطواف الذي يطوف على الناس ترده اللقمة
واللقمتان والتمرة والتمرتان قيل: فما المسكين
يا رسول الله؟ قال: الذي لا يجد ما يغنيه ولا
يفطن به فيتصدق عليه
ج / 2 ص -44-
ولا يقوم
فيسأل الناس" فهو محمول على أن الذي يسأل وإن كان عندكم مسكينا فإن الذي لا يسأل
ولا يفطن به أشد مسكنة من هذا وعلى هذا يحمل
ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: ليس
المسكين الذي لا مال له ولكن المسكين الذي لا
مكسب له أي: الذي لا مال له وإن كان مسكينا
فالذي لا مال له ولا مكسب له أشد مسكنة منه
وكأنه قال: الذي لا مال له ولا مكسب فهو فقير,
والمسكين الذي لا مال له ولا مكسب. وما قاله
بعض مشايخنا: أن الفقراء والمساكين جنس واحد
في الزكاة بلا خلاف بين أصحابنا بدليل جواز
صرفها إلى جنس واحد وإنما الخلاف بعد في
كونهما جنسا واحدا أو جنسين في الوصايا اختلاف
بين أصحابنا غير سديد بل لا خلاف بين أصحابنا
في أنهما جنسان مختلفان فيهما جميعا لما ذكرنا
والدليل عليه أن الله تعالى عطف البعض على
البعض, والعطف دليل المغايرة في الأصل وإنما
جاز صرف الزكاة إلى صنف واحد لمعنى آخر وذلك
المعنى لا يوجد في الوصية وهو دفع الحاجة وذا
يحصل بالصرف إلى صنف واحد والوصية ما شرعت
لدفع حاجة الموصى له فإنها تجوز للفقير
والغني, وقد يكون للموصي أغراض كثيرة لا يوقف
عليها فلا يمكن تعليل نص كلامه فتجري على ظاهر
لفظه من غير اعتبار المعنى بخلاف الزكاة فإنا
عقلنا المعنى فيها وهو دفع الحاجة وإزالة
المسكنة وجميع الأصناف في هذا المعنى جنس واحد
لذلك افترقا لا لما قالوه والله أعلم. وأما
العاملون عليها فهم الذين نصبهم الإمام لجباية
الصدقات. واختلف فيما يعطون قال أصحابنا:
يعطيهم الإمام كفايتهم منها, وقال الشافعي:
يعطيهم الثمن. وجه قوله أن الله تعالى قسم
الصدقات على الأصناف الثمانية منهم العاملون
عليها فكان لهم منها الثمن, ولنا أن ما يستحقه
العامل إنما يستحقه بطريق العمالة لا بطريق
الزكاة بدليل أنه يعطى وإن كان غنيا بالإجماع,
ولو كان ذلك صدقة لما حلت للغني, وبدليل أنه
لو حمل زكاته بنفسه إلى الإمام لا يستحق
العامل منها شيئا ولهذا قال أصحابنا: إن حق
العامل فيما في يده من الصدقات حتى لو هلك ما
في يده سقط حقه كنفقة المضارب أنها تكون في
مال المضاربة حتى لو هلك مال المضاربة سقطت
نفقته كذا هذا دل أنه إنما يستحق بعمله لكن
على سبيل الكفاية له ولأعوانه لا على سبيل
الأجرة؛ لأن الأجرة مجهولة أما عندنا فظاهر؛
لأن قدر الكفاية له ولأعوانه غير معلوم. وكذا
عنده؛ لأن قدر ما يجتمع من الصدقات بجبايته
مجهول فكان ثمنه مجهولا لا محالة, وجهالة أحد
البدلين يمنع جواز الإجارة فجهالة البدلين
جميعا أولى, فدل أن الاستحقاق ليس على سبيل
الأجرة بل على طريق الكفاية له ولأعوانه
لاشتغاله بالعمل لأصحاب المواشي فكانت كفايته
في مالهم. وأما قوله: إن الله تعالى قسم
الصدقات على الأصناف المذكورين في الآية
فممنوع أنه قسم بل بين فيها مواضع الصدقات
ومصارفها لما نذكر, ولو كان العامل هاشميا لا
يحل له عندنا, وعند الشافعي يحل واحتج بما روي
"أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عليا
رضي الله عنه إلى اليمن مصدقا وفرض له" ولو لم
يحل للهاشمي لما فرض له, ولأن العمالة أجرة
العمل بدليل أنها تحل للغني فيستوي فيها
الهاشمي وغيره. ولنا ما روي "أن نوفل بن
الحارث بعث ابنيه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم ليستعملهما على الصدقة فقال صلى الله
عليه وسلم:
لا تحل لكم الصدقة ولا غسالة الناس"؛ ولأن المال المجبى صدقة ولما حصل في يد الإمام حصلت الصدقة مؤداة
حتى لو هلك المال في يده تسقط الزكاة عن
صاحبها وإذا حصلت صدقة والصدقة مطهرة لصاحبها
فتمكن الخبث في المال فلا يباح للهاشمي لشرفه
صيانة له عن تناول الخبث تعظيما لرسول الله
صلى الله عليه وسلم أو نقول للعمالة شبهة
الصدقة وإنها من أوساخ الناس فيجب صيانة
الهاشمي عن ذلك كرامة له وتعظيما للرسول صلى
الله عليه وسلم وهذا المعنى لا يوجد في الغني
وقد فرغ نفسه لهذا العمل فيحتاج إلى الكفاية
والغنى لا يمنع من تناولها عند الحاجة كابن
السبيل أنه يباح له وإن كان غنيا ملكا فكذا
هذا, وقوله إن الذي يعطي للعامل أجرة عمله
ممنوع وقد بينا فساده. وأما حديث علي رضي الله
عنه فلا حجة فيه؛ لأن فيه أنه فرض له وليس فيه
بيان المفروض أنه من الصدقات أو من غيرها
فيحتمل أنه فرض له من بيت المال؛ لأنه كان
قاضيا والله أعلم. وأما المؤلفة قلوبهم فقد
قيل: إنهم كانوا قوما من رؤساء قريش وصناديد
العرب مثل أبي سفيان بن حرب وصفوان بن أمية
والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن الفزاري
والعباس بن مرادس السلمي ومالك بن عوف
ج / 2 ص -45-
النصري
وحكيم بن حزام وغيرهم ولهم شوكة وقوة وأتباع
كثيرة بعضهم أسلم حقيقة وبعضهم أسلم ظاهرا لا
حقيقة. وكان من المنافقين وبعضهم كان من
المسالمين فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم
يعطيهم من الصدقات تطييبا لقلوب المسلمين منهم
وتقريرا لهم على الإسلام وتحريضا لأتباعهم على
اتباعهم وتأليفا لمن لم يحسن إسلامه, وقد حسن
إسلام عامتهم إلا من شاء الله تعالى لحسن
معاملة النبي صلى الله عليه وسلم معهم وجميل
سيرته حتى روي عن صفوان بن أمية قال: أعطاني
رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنه لأبغض
الناس إلي فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الخلق
إلي. واختلف في سهامهم بعد وفاة رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال عامة العلماء إنه انتسخ
سهمهم وذهب ولم يعطوا شيئا بعد النبي صلى الله
عليه وسلم ولا يعطى الآن لمثل حالهم وهو أحد
قولي الشافعي وقال بعضهم وهو أحد قول الشافعي
رضي الله عنه إن حقهم بقي وقد أعطي من بقي من
أولئك الذين أخذوا في عهد النبي صلى الله عليه
وسلم والآن يعطى لمن حدث إسلامه من الكفرة
تطييبا لقلبه وتقريرا له على الإسلام, وتعطي
الرؤساء من أهل الحرب إذا كانت لهم غلبة يخاف
على المسلمين من شرهم؛ لأن المعنى الذي له كان
يعطي النبي صلى الله عليه وسلم أولئك موجود في
هؤلاء والصحيح قول العامة لإجماع الصحابة على
ذلك فإن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ما أعطيا
المؤلفة قلوبهم شيئا من الصدقات ولم ينكر
عليهما أحد من الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي
أنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم
جاءوا إلى أبي بكر واستبدلوا الخط منه لسهامهم
فبدل لهم الخط, ثم جاءوا إلى عمر رضي الله عنه
وأخبروه بذلك فأخذ الخط من أيديهم ومزقه وقال
إن رسول الله: صلى الله عليه وسلم كان يعطيكم
ليؤلفكم على الإسلام فأما اليوم فقد أعز الله
دينه فإن ثبتم على الإسلام وإلا فليس بيننا
وبينكم إلا السيف فانصرفوا إلى أبي بكر
فأخبروه بما صنع عمر رضي الله عنهما وقالوا:
أنت الخليفة أم هو؟ فقال: إن شاء الله هو ولم
ينكر أبو بكر قوله وفعله وبلغ ذلك الصحابة فلم
ينكروا فيكون إجماعا منهم على ذلك؛ ولأنه ثبت
باتفاق الأمة أن النبي صلى الله عليه وسلم
إنما كان يعطيهم ليتألفهم على الإسلام ولهذا
سماهم الله المؤلفة قلوبهم والإسلام يومئذ في
ضعف وأهله في قلة وأولئك كثير ذو قوة وعدد
واليوم بحمد الله عز الإسلام وكثر أهله واشتدت
دعائمه ورسخ بنيانه وصار أهل الشرك أذلاء,
والحكم متى ثبت معقولا بمعنى خاص ينتهي بذهاب
ذلك المعنى. ونظيره ما كان عاهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم كثيرا من المشركين لحاجته إلى
معاهدتهم ومداراتهم لقلة أهل الإسلام وضعفهم
فلما أعز الله الإسلام وكثر أهله أمر رسول
الله صلى الله عليه وسلم أن يرد إلى أهل
العهود عهودهم وأن يحارب المشركين جميعا بقوله
عز وجل
{بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى
الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} إلى قوله:
{فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ}.
وأما قوله تعالى:
{وَفِي
الرِّقَابِ} فقد قال بعض أهل التأويل: معناه وفي عتق الرقاب ويجوز إعتاق الرقبة
بنية الزكاة وهو قول مالك, وقال عامة أهل
التأويل: الرقاب المكاتبون قوله تعالى
{وَفِي
الرِّقَابِ} أي: وفي فك الرقاب وهو أن يعطى المكاتب شيئا من الصدقة يستعين به
على كتابته؛ لما روي "أن رجلا جاء إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم وقال علمني عملا
يدخلني الجنة فقال صلى الله عليه وسلم: أعتق
النسمة وفك الرقبة, فقال الرجل: أوليسا سواء؟
قال: لا عتق النسمة أن تنفرد بعتقها وفك
الرقبة أن تعين في عتقها" وإنما جاز دفع
الزكاة إلى المكاتب ليؤدي بدل كتابته فيعتق.
ولا يجوز ابتداء الإعتاق بنية الزكاة لوجهين:
أحدهما ما ذكرنا أن الواجب إيتاء الزكاة
والإيتاء هو التمليك والدفع إلى المكاتب تمليك
فأما الإعتاق فليس بتمليك, والثاني ما أشار
إليه سعيد بن جبير فقال: لا يعتق من الزكاة
مخافة جر الولاء ومعنى هذا الكلام أن الإعتاق
يوجب الولاء للمعتق فكان حقه فيه باقيا ولم
ينقطع من كل وجه فلا يتحقق الإخلاص فلا يكون
عبادة والزكاة عبادة فلا تتأدى بما ليس بعبادة
فأما الذي يدفع إلى المكاتب فينقطع عنه حق
المؤدي من كل وجه ولا يرجع إليه بذلك نفع
فيتحقق الإخلاص. وأما قوله تعالى:
{وَالْغَارِمِينَ} قيل: الغارم الذي عليه الدين أكثر من المال الذي في يده أو مثله أو
أقل منه لكن ما وراءه ليس بنصاب. وأما قوله
تعالى:
{وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ} عبارة عن جميع القرب فيدخل فيه كل من سعى في طاعة الله وسبيل
الخيرات إذا كان محتاجا وقال
ج / 2 ص -46-
أبو
يوسف المراد منه فقراء الغزاة؛ لأن سبيل الله
إذا أطلق في عرف الشرع يراد به ذلك, وقال
محمد: المراد منه الحاج المنقطع لما روي "أن
رجلا جعل بعيرا له في سبيل الله فأمره النبي
صلى الله عليه وسلم أن يحمل عليه الحاج", وقال
الشافعي: يجوز دفع الزكاة إلى الغازي وإن كان
غنيا. وأما عندنا فلا يجوز إلا عند اعتبار
حدوث الحاجة, واحتج بما روي عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله أو ابن السبيل أو رجل له جار
مسكين تصدق عليه فأعطاها له",
وعن عطاء بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال
"لا تحل الصدقة إلا لخمس العامل عليها, ورجل اشتراها, وغارم, وغاز في
سبيل الله, وفقير تصدق عليه فأهداها إلى غني" نفى حل الصدقة للأغنياء واستثنى الغازي منهم والاستثناء من النفي
إثبات فيقتضي حل الصدقة للغازي الغني ولنا قول
النبي: صلى الله عليه وسلم
"لا تحل الصدقة لغني" وقوله صلى الله عليه وسلم
"أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردها في فقرائكم" جعل الناس قسمين قسما يؤخذ منهم وقسما يصرف إليهم فلو جاز صرف
الصدقة إلى الغني لبطلت القسمة وهذا لا يجوز.
وأما استثناء الغازي فمحمول على حال حدوث
الحاجة وسماه غنيا على اعتبار ما كان قبل حدوث
الحاجة وهو أن يكون غنيا ثم تحدث له الحاجة
بأن كان له دار يسكنها ومتاع يمتهنه وثياب
يلبسها وله مع ذلك فضل مائتي درهم حتى لا تحل
له الصدقة ثم يعزم على الخروج في سفر غزو
فيحتاج إلى آلات سفره وسلاح يستعمله في غزوه
ومركب يغزو عليه وخادم يستعين بخدمته على ما
لم يكن محتاجا إليه في حال إقامته فيجوز أن
يعطى من الصدقات ما يستعين به في حاجته التي
تحدث له في سفره وهو في مقامه غني بما يملكه؛
لأنه غير محتاج في حال إقامته فيحتاج في حال
سفره فيحمل قوله
"لا تحل الصدقة لغني إلا لغاز في سبيل الله" على من كان غنيا في حال مقامه فيعطى بعض ما يحتاج إليه لسفره لما
أحدث السفر له من الحاجة إلا أنه يعطى حين
يعطى وهو غني وكذا تسمية الغارم غنيا في
الحديث على اعتبار ما كان قبل حلول الغرم به
وقد حدثت له الحاجة بسبب الغرم وهذا؛ لأن
الغني اسم لمن يستغنى عما يملكه وإنما كان
كذلك قبل حدوث الحاجة فأما بعده فلا. وأما
قوله تعالى
{وَابْنَ السَّبِيلِ} فهو
الغريب المنقطع عن ماله وإن كان غنيا في وطنه؛
لأنه فقير في الحال وقد روينا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تحل
الصدقة لغني إلا في سبيل الله وابن السبيل"
الحديث, ولو صرف إلى واحد من هؤلاء الأصناف
يجوز عند أصحابنا, وعند الشافعي لا يجوز إلا
أن يصرف إلى ثلاثة من كل صنف واحتج بقوله
تعالى
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} إلى آخر الأصناف أخبر الله تعالى أن الصدقات للأصناف المذكورين في
الآية على الشركة فيجب إيصال كل صدقة إلى كل
صنف إلا أن الاستيعاب غير ممكن فيصرف إلى
ثلاثة من كل صنف إذ الثلاثة أدنى الجمع الصحيح
ولنا السنة المشهورة وإجماع الصحابة وعمل
الأئمة إلى يومنا هذا والاستدلال أما السنة
فقول النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه
إلى اليمن
"فإن أجابوك لذلك فأعلمهم أن الله تعالى فرض
عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم وترد في فقرائهم" ولم يذكر
الأصناف الأخر, وعن أبي سعيد الخدري رضي الله
عنه أنه قال "بعث علي رضي الله عنه وهو باليمن
إلى النبي صلى الله عليه وسلم مذهبة في ترابها
فقسمها النبي صلى الله عليه وسلم بين الأقرع
بن حابس وبين زيد الخيل وبين عيينة بن حصن
وعلقمة بن علاثة فغضبت قريش والأنصار وقالوا:
تعطي صناديد أهل نجد؟ فقال النبي: صلى الله
عليه وسلم
إنما أتألفهم"
ولو كان كل صدقة مقسومة على الثمانية بطريق
الاستحقاق لما دفع النبي صلى الله عليه وسلم
المذهبة إلى المؤلفة قلوبهم دون غيرهم. وأما
إجماع الصحابة فإنه روي عن عمر رضي الله عنه
أنه كان إذا جمع صدقات المواشي من البقر
والغنم نظر منها ما كان منيحة اللبن فيعطيها
لأهل بيت واحد على قدر ما يكفيهم, وكان يعطي
العشرة للبيت الواحد ثم يقول عطية تكفي خير من
عطية لا تكفي أو كلام نحو هذا. وروي عن علي
رضي الله عنه أنه أتى بصدقة فبعثها إلى أهل
بيت واحد وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال:
هؤلاء أهلها ففي أي صنف وضعتها أجزأك, وكذا
روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال كذلك.
وأما عمل الأئمة فإنه لم يذكر عن أحد من
الأئمة أنه تكلف طلب هؤلاء الأصناف فقسمها
بينهم مع ما أنه لو تكلف الإمام أن يظفر
بهؤلاء الثمانية ما قدر على
ج / 2 ص -47-
ذلك,
وكذلك لم يذكر عن أحد من أرباب الأموال أنه
فرق صدقة واحدة على هؤلاء. ولو كان الواجب هو
القسمة على السوية بينهم لا يحتمل أن يقسموها
كذلك ويضيعوا حقوقهم. وأما الاستدلال فهو أن
الله تعالى أمر بصرف الصدقات إلى هؤلاء بأسامي
منبئة عن الحاجة فعلم أنه إنما أمر بالصرف
إليهم لدفع حاجتهم والحاجة في الكل واحدة وإن
اختلفت الأسامي. وأما الآية ففيها بيان مواضع
الصدقات ومصارفها ومستحقيها؛ لأن اللام
للاختصاص وهو أنهم المختصون بهذا الحق دون
غيرهم لا للتسوية لغة إنما الصيغة للشركة
والتسوية لغة حرف بين ألا ترى أنه إذا قيل:
الخلافة لبني العباس والسدانة لبني عبد الدار
والسقاية لبني هاشم يراد به أنهم المختصون
بذلك؟ لا حق فيها لغيرهم؛ لأنها بينهم بالحصص
بالسوية. ولو قيل الخلافة بين بني العباس
والسدانة بين بني عبد الدار والسقاية بين بني
هاشم كان خطأ؛ ولهذا قال أصحابنا فيمن قال:
مالي لفلان وللموتى أنه كله لفلان, ولو قال:
مالي بين فلان وبين الموتى كان لفلان نصفه,
ولو كان الأمر على ما قاله الشافعي أن الصدقة
تقسم بين الأصناف الثمانية على السوية لقال:
إنما الصدقات بين الفقراء الآية, فإن قيل أليس
أن من قال: ثلث مالي لفلان وفلان أنه يقسم
بينهما بالسوية كما إذا قال: ثلث مالي بين
فلان وفلان, والجواب أن الاشتراك هناك ليس
موجب الصيغة إذ الصيغة لا توجب الاشتراك
والتسوية بينهما بل موجب الصيغة ما قلنا, إلا
أن في باب الوصية لما جعل الثلث حقا لهما دون
غيرهما وهو شيء معلوم لا يزيد بعد الموت ولا
يتوهم له عدد وليس أحدهما بأولى من الآخر فقسم
بينهما على السواء نظرا لهما جميعا فأما
الصدقات فليست بأموال متعينة لا تحتمل الزيادة
والمدد حتى يحرم البعض بصرفها إلى البعض بل
يردف بعضها بعضا, وإذا فني مال يجيء مال آخر
وإذا مضت سنة تجيء سنة أخرى بمال جديد ولا
انقطاع للصدقات إلى يوم القيامة, فإذا صرف
الإمام صدقة يأخذها من قوم إلى صنف منهم لم
يثبت الحرمان للباقين بل يحمل إليه صدقة أخرى
فيصرف إلى فريق آخر فلا ضرورة إلى الشركة
والتسوية في كل مال يحمل إلى الإمام من
الصدقات والله أعلم. وكما لا يجوز صرف الزكاة
إلى الغني لا يجوز صرف جميع الصدقات المفروضة
والواجبة إليه كالعشور والكفارات والنذور
وصدقة الفطر لعموم قوله تعالى
{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم
"لا تحل الصدقة لغني" ولأن الصدقة مال تمكن فيه الخبث لكونه غسالة الناس لحصول الطهارة
لهم به من الذنوب, ولا يجوز الانتفاع بالخبيث
إلا عند الحاجة والحاجة للفقير لا للغني. وأما
صدقة التطوع فيجوز صرفها إلى الغني؛ لأنها
تجري مجرى الهبة, ولا يجوز الصرف إلى عبد
الغني ومدبره وأم ولده؛ لأن الملك في المدفوع
نفع لمولاه وهو غني فكان دفعا إلى الغني, هذا
إذا كان العبد محجورا أو كان مأذونا لكنه لم
يكن عليه دين مستغرق لرقبته؛ لأن كسبه ملك
المولى فالدفع يقع إلى المولى وهو غني فلا
يجوز ذلك. وإن كان عليه دين مستغرق لكنه غير
ظاهر في حق المولى؛ لأنه يتأخر إلى ما بعد
العتاق فكان كسبه ملك المولى وهو غني. وأما
إذا كان ظاهرا في حق المولى كدين الاستهلاك
ودين التجارة فينبغي أن يجوز على قول أبي
حنيفة؛ لأن المولى لا يملك كسب عبده المأذون
المديون دينا مستغرقا ظاهرا في حقه وعندهما لا
يجوز؛ لأنه يملك كسبه عندهما. ويجوز الدفع إلى
مكاتب الغني؛ لأن كسب المالك المكاتب ملكه من
حيث الظاهر وإنما يملكه المولى بالعجز ولم
يوجد. وأما ولد الغني فإن كان صغيرا لم يجز
الدفع إليه وإن كان فقيرا لا مال له؛ لأن
الولد الصغير يعد غنيا بغنى أبيه وإن كان
كبيرا فقيرا يجوز؛ لأنه لا يعد غنيا بمال أبيه
فكان كالأجنبي ولو دفع إلى امرأة فقيرة وزوجها
غني جاز في قول أبي حنيفة ومحمد وهو إحدى
الروايتين عن أبي يوسف. وروي عنه أنها لا تعطي
إذا قضي لها بالنفقة. وجه هذه الرواية أن نفقة
المرأة تجب على زوجها فتصير غنية بغنى الزوج
كالولد الصغير, وإنما شرط القضاء لها بالنفقة؛
لأن النفقة لا تصير دينا بدون القضاء. وجه
ظاهر الرواية أن المرأة الفقيرة لا تعد غنية
بغنى زوجها؛ لأنها لا تستحق على زوجها إلا
مقدار النفقة فلا تعد بذلك القدر غنية. وكذا
يجوز الدفع إلى فقير له ابن غني وإن كان يجب
عليه نفقته لما قلنا: إن تقدر النفقة لا يصير
غنيا فيجوز الدفع إليه. وأما صدقة الوقف فيجوز
صرفها إلى الأغنياء إن سماهم الواقف في الوقف
ذكره الكرخي في مختصره وإن لم يسمهم لا يجوز؛
لأنها صدقة واجبة. ثم لا بد من معرفة حد الغنى
فنقول الغنى أنواع
ج / 2 ص -48-
ثلاثة:
غنى تجب به الزكاة, وغنى يحرم به أخذ الصدقة
وقبولها ولا تجب به الزكاة, وغنى يحرم به
السؤال ولا يحرم به الأخذ أما الغنى الذي تجب
به الزكاة فهو أن يملك نصابا من المال النامي
الفاضل عن الحاجة الأصلية. وأما الغنى الذي
يحرم به أخذ الصدقة وقبولها فهو الذي تجب به
صدقة الفطر والأضحية وهو أن يملك من الأموال
التي لا تجب فيها الزكاة ما يفضل عن حاجته
وتبلغ قيمة الفاضل مائتي درهم من الثياب
والفرش والدور والحوانيت والدواب والخدم زيادة
على ما يحتاج إليه كل ذلك للابتذال والاستعمال
لا للتجارة والإسامة, فإذا فضل من ذلك ما يبلغ
قيمته مائتي درهم وجب عليه صدقة الفطر
والأضحية وحرم عليه أخذ الصدقة, ثم قدر الحاجة
ما ذكره الكرخي في مختصره فقال لا بأس بأن
يعطى من الزكاة من له مسكن وما يتأثث به في
منزله وخادم وفرس وسلاح وثياب البدن وكتب
العلم إن كان من أهله فإن كان له فضل عن ذلك
ما يبلغ قيمته مائتي درهم حرم عليه أخذ الصدقة
لما روي عن الحسن البصري أنه قال كانوا يعطون
الزكاة لمن يملك عشرة آلاف درهم من الفرس
والسلاح والخدم والدار. وقوله: كانوا, كناية
عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا؛
لأن هذه الأشياء من الحوائج اللازمة التي لا
بد للإنسان منها فكان وجودها وعدمها سواء.
وذكر في الفتاوى فيمن له حوانيت ودور الغلة
لكن غلتها لا تكفيه ولعياله أنه فقير ويحل له
أخذ الصدقة عند محمد وزفر, وعند أبي يوسف لا
يحل وعلى هذا إذا كان له أرض وكرم لكن غلته لا
تكفيه ولعياله, ولو كان عنده طعام للقوت يساوي
مائتي درهم فإن كان كفاية شهر تحل له الصدقة
وإن كان كفاية سنة, قال بعضهم: لا تحل, وقال
بعضهم: تحل؛ لأن ذلك مستحق الصرف إلى الكفاية
والمستحق ملحق بالعدم. وقد روي "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم ادخر لنسائه قوت سنة". ولو
كان له كسوة شتاء وهو لا يحتاج إليها في الصيف
يحل له أخذ الصدقة ذكر هذه الجملة في الفتاوى,
وهذا قول أصحابنا وقال مالك: من ملك خمسين
درهما لا يحل له أخذ الصدقة ولا يباح أن يعطى,
واحتج بما روي عن علي وعبد الله بن مسعود وسعد
بن أبي وقاص رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا تحل
الصدقة لمن له خمسون درهما أو عوضها من الذهب
وهذا نص في الباب. ولنا حديث معاذ حيث قال له
النبي: صلى الله عليه وسلم
"خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم" قسم الناس قسمين: الأغنياء, والفقراء فجعل الأغنياء يؤخذ منهم
والفقراء يرد فيهم فكل من لم تؤخذ منه يكون
مردودا فيه, وما رواه مالك محمول على حرمة
السؤال معناه لا يحل سؤال الصدقة لمن له خمسون
درهما أو عوضهما من الذهب أو يحمل ذلك على
كراهة الأخذ؛ لأن من له سداد من العيش فالتعفف
أولى؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"من استغنى
أغناه الله ومن استعف أعفه الله" وقال
الشافعي يجوز دفع الزكاة إلى رجل له مال كثير
ولا كسب له وهو يخاف الحاجة ويجوز له الأخذ
وهذا فاسد؛ لأن هذا دفع الزكاة إلى الغني ولا
سبيل إليه لما بينا وخوف حدوث الحاجة في
الثاني لا يجعله فقيرا في الحال ألا تر أنه لا
يعتبر ذلك في سقوط الوجوب حتى تجب عليه الزكاة
فكذا في جواز الأخذ ولو كان الفقير قويا
مكتسبا يحل له أخذ الصدقة عندنا وعند الشافعي
لا يحل واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم
"لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي" وفي بعض الروايات
"ولا لقوي مكتسب", ولنا ما
روي عن سلمان الفارسي أنه قال "حمل إلى رسول
الله صلى الله عليه وسلم صدقة فقال لأصحابه:
كلوا ولم يأكل"
ومعلوم أنه لا يتوهم أن أصحابه رضي الله عنهم
كانوا كلهم زمنى بل كان بعضهم قويا مكتسبا وما
رواه الشافعي محمول على حرمة الطلب والسؤال
فإن ذلك للزجر عن المسألة والحمل على الكسب,
والدليل عليه ما روي "أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال:
للرجلين اللذين سألاه إن شئتما أعطيتكما منه ولا حق فيها لغني ولا لقوي
مكتسب" ولو
كان حراما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم
ليعطيهما الحرام, ولكن قال ذلك للزجر عن
السؤال والحمل على الكسب كذا هذا. ويكره لمن
عليه الزكاة أن يعطي فقيرا مائتي درهم أو أكثر
ولو أعطى جاز وسقط عنه الزكاة في قول أصحابنا
الثلاثة, وعند زفر لا يجوز ولا يسقط. وجه قوله
أن هذا نصاب كامل فيصير غنيا بهذا المال ولا
يجوز الصرف إلى الغني ولنا أنه إنما يصير غنيا
بعد ثبوت الملك له فأما قبله فقد كان فقيرا
فالصدقة لاقت كف الفقير فجازت وهذا؛ لأن الغنى
يثبت بالملك, والقبض شرط ثبوت الملك فيقبض ثم
يملك المقبوض ثم يصير غنيا ألا ترى أنه يكره؛
لأن المنتفع به
ج / 2 ص -49-
يصير
هو الغني وذكر في الجامع الصغير وإن يغني به
إنسانا أحب إلي. ولم يرد به الإغناء المطلق؛
لأن ذلك مكروه لما بينا وإنما أراد به المقيد
وهو أنه يغنيه يوما أو أياما عن المسألة؛ لأن
الصدقة وضعت لمثل هذا الإغناء قال النبي صلى
الله عليه وسلم في صدقة الفطر
"أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم" هذا إذا أعطي مائتي درهم وليس عليه دين ولا له عيال فإن كان عليه
دين فلا بأس بأن يتصدق عليه قدر دينه وزيادة
ما دون المائتين وكذا إذا كان له عيال يحتاج
إلى نفقتهم وكسوتهم. وأما الغنى الذي يحرم به
السؤال فهو أن يكون له سداد عيش بأن كان له
قوت يومه لما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"من سأل الناس عن ظهر غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم قيل: يا رسول الله,
وما ظهر الغنى؟ قال: أن يعلم أن عنده ما
يغديهم أو ما يعشيهم" فإن لم يكن له قوت يومه ولا ما يستر به عورته يحل له أن يسأل؛ لأن
الحال حال الضرورة وقد قال الله تعالى:
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}, وترك السؤال في هذا الحال إلقاء النفس في التهلكة وإنه حرام فكان
له أن يسأل بل يجب عليه ذلك. ومنها أن يكون
مسلما فلا يجوز صرف الزكاة إلى الكافر بلا
خلاف لحديث معاذ رضي الله عنه
"خذها من أغنيائهم وردها في فقرائهم"
أمر بوضع الزكاة في فقراء من يؤخذ من أغنيائهم
وهم المسلمون فلا يجوز وضعها في غيرهم. وأما
سوى الزكاة من صدقة الفطر والكفارات والنذور
فلا شك في أن صرفها إلى فقراء المسلمين أفضل؛
لأن الصرف إليهم يقع إعانة لهم على الطاعة وهل
يجوز صرفها إلى أهل الذمة قال أبو حنيفة
ومحمد: يجوز, وقال أبو يوسف: لا يجوز وهو قول
زفر والشافعي. وجه قولهم الاعتبار بالزكاة
وبالصرف إلى الحربي ولهما قوله تعالى
{إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا
وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ
لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ
سَيِّئَاتِكُمْ}
من غير فصل بين فقير وفقير وعموم هذا النص
يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم إلا أنه خص منه
الزكاة لحديث معاذ رضي الله عنه وقوله تعالى
في الكفارات
{فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا
تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}
من غير فصل بين مسكين ومسكين إلا أنه خص منه
الحربي بدليل ولأن صرف الصدقة إلى أهل الذمة
من باب إيصال البر إليهم وما نهينا عن ذلك قال
الله تعالى
{لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي
الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ
دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا
إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ
الْمُقْسِطِينَ} وظاهر هذا النص يقتضي جواز صرف الزكاة إليهم؛ لأن أداء الزكاة بر
بهم إلا أن البر بطريق الزكاة غير مراد عرفنا
ذلك بحديث معاذ رضي الله عنه وإنما لا يجوز
صرفها إلى الحربي؛ لأن في ذلك إعانة لهم على
قتالنا وهذا لا يجوز وهذا المعنى لم يوجد في
الذمي. "ومنها" أن لا يكون من بني هاشم لما
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"يا معشر بني هاشم إن الله كره لكم غسالة
الناس وعوضكم منها بخمس الخمس من الغنيمة". وروي عنه
صلى الله عليه وسلم أنه قال
"إن الصدقة
محرمة على بني هاشم" وروي "أنه
رأى في الطريق تمرة فقال:
لولا أني أخاف
أن تكون من الصدقة لأكلتها ثم قال: إن الله
حرم عليكم يا بني هاشم غسالة أيدي الناس" والمعنى ما أشار إليه أنها من غسالة الناس فيتمكن فيها الخبث فصان
الله تعالى بني هاشم عن ذلك تشريفا لهم
وإكراما وتعظيما لرسول الله صلى الله عليه
وسلم. ومنها أن لا يكون من مواليهم لما روي عن
ابن عباس رضي الله عنه أنه قال "استعمل رسول
الله صلى الله عليه وسلم أرقم بن أبي أرقم
الزهري على الصدقات فاستتبع أبا رافع فأتى
النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقال:
يا أبا رافع إن الصدقة حرام على محمد وآل محمد وإن موالي القوم من
أنفسهم" أي: في
حرمة الصدقة لإجماعنا على أن مولى القوم ليس
منهم في جميع الأحكام ألا ترى أنه ليس بكفء
لهم؟. وكذا مولى المسلم إذا كان كافرا تؤخذ
منه الجزية ومولى التغلبي تؤخذ منه الجزية ولا
تؤخذ منه الصدقة المضاعفة فدل أن المراد منه
حرمة الصدقة خاصة وبنو هاشم الذين تحرم عليهم
الصدقات آل العباس, وآل علي, وآل جعفر, وآل
عقيل, وولد الحارث بن عبد المطلب كذا ذكره
الكرخي. ومنها أن لا تكون منافع الأملاك متصلة
بين المؤدي وبين المؤدى إليه؛ لأن ذلك يمنع
وقوع الأداء تمليكا من الفقير من كل وجه بل
يكون صرفا إلى نفسه من وجه وعلى هذا يخرج
الدفع إلى الوالدين وإن علوا والمولودين وإن
سفلوا؛ لأن أحدهما ينتفع بمال الآخر ولا يجوز
أن يدفع الرجل الزكاة إلى زوجته بالإجماع, وفي
دفع المرأة إلى زوجها اختلاف بين
ج / 2 ص -50-
أبي
حنيفة وصاحبيه ذكرناه فيما تقدم. وأما صدقة
التطوع فيجوز دفعها إلى هؤلاء والدفع إليهم
أولى؛ لأن فيه أجرين أجر الصدقة وأجر الصلة
وكونه دفعا إلى نفسه من وجه لا يمنع صدقة
التطوع. قال النبي: صلى الله عليه وسلم
"نفقة الرجل على نفسه صدقة وعلى عياله صدقة
وكل معروف صدقة" ويجوز دفع الزكاة إلى من سوى الوالدين والمولودين من الأقارب ومن
الإخوة والأخوات وغيرهم؛ لانقطاع منافع
الأملاك بينهم ولهذا تقبل شهادة البعض على
البعض والله أعلم هذا الذي ذكرناه إذا دفع
الصدقة إلى إنسان على علم منه بحاله أنه محل
الصدقة. فأما إذا لم يعلم بحاله ودفع إليه
فهذا على ثلاثة أوجه في وجه هو على الجواز حتى
يظهر خطؤه, وفي وجه على الفساد حتى يظهر صوابه
وفي وجه فيه تفصيل على الوفاق والخلاف أما
الذي هو على الجواز حتى يظهر خطؤه فهو أن يدفع
زكاة ماله إلى رجل ولم يخطر بباله وقت الدفع
ولم يشك في أمره فدفع إليه فهذا على الجواز
إلا إذا ظهر بعد الدفع أنه ليس محل الصدقة
فحينئذ لا يجوز؛ لأن الظاهر أنه صرف الصدقة
إلى محلها حيث نوى الزكاة عند الدفع والظاهر
لا يبطل إلا باليقين فإذا ظهر بيقين أنه ليس
بمحل الصدقة ظهر أنه لم يجز وتجب عليه الإعادة
وليس له أن يسترد ما دفع إليه ويقع تطوعا حتى
أنه لو خطر بباله بعد ذلك وشك فيه ولم يظهر له
شيء لا تلزمه الإعادة؛ لأن الظاهر لا يبطل
بالشك. وأما الذي هو على الفساد حتى يظهر
جوازه فهو أنه خطر بباله وشك في أمره لكنه لم
يتحر ولا طلب الدليل أو تحرى بقلبه لكنه لم
يطلب الدليل فهو على الفساد إلا إذا ظهر أنه
محل بيقين أو بغالب الرأي فحينئذ يجوز؛ لأنه
لما شك وجب عليه التحري والصرف إلى من وقع
عليه تحريه, فإذا ترك لم يوجد الصرف إلى من
أمر بالصرف إليه فيكون فاسدا إلا إذا ظهر أنه
محل فيجوز. وأما الوجه الذي فيه تفصيل على
الوفاق والخلاف فهو إن خطر بباله وشك في أمره
وتحرى ووقع تحريه على أنه محل الصدقة فدفع
إليه جاز بالإجماع وكذا إن لم يتحر ولكن سأل
عن حاله فدفع أورآه في صف الفقراء أو على زي
الفقراء فدفع فإن ظهر أنه كان محلا جاز
بالإجماع, وكذا إذا لم يظهر حاله عنده, وأما
إذا ظهر أنه لم يكن محلا بأن ظهر أنه غني أو
هاشمي أو مولى لهاشمي كافر أو والد أو مولود
أو زوجة يجوز وتسقط عنه الزكاة في قول أبي
حنيفة ومحمد ولا تلزمه الإعادة, وعند أبي يوسف
لا يجوز وتلزمه الإعادة وبه أخذ الشافعي وروى
محمد بن شجاع عن أبي حنيفة في الوالد والولد
والزوجة أنه لا يجوز كما قال أبو يوسف ولو ظهر
أنه عبده أو مدبره أو أم ولده أو مكاتبه لم
يجز وعليه الإعادة في قولهم جميعا, ولو ظهر
أنه مستسعاه لم يجز عند أبي حنيفة؛ لأنه
بمنزلة المكاتب عنده, وعندهما يجوز؛ لأنه حر
عليه دين. وجه قول أبي يوسف أن هذا مجتهد ظهر
خطؤه بيقين فبطل اجتهاده وكما لو تحرى في ثياب
أو أواني وظهر خطؤه فيها وكما لو صرف ثم ظهر
أنه عبده أو مدبره أو أم ولده أو مكاتبه ولهما
أنه صرف الصدقة إلى من أمر بالصرف إليه فيخرج
عن العهدة كما إذا صرف ولم يظهر حاله بخلافه,
ودلالة ذلك أنه مأمور بالصرف إلى من هو محل
عنده وفي ظنه واجتهاده لا على الحقيقة إذ لا
علم له بحقيقة الغنى والفقر لعدم إمكان الوقوف
على حقيقتهما وقد صرف إلى من أدى اجتهاده أنه
محل فقد أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة
بخلاف الثياب والأواني؛ لأن العلم بالثوب
الطاهر والماء الطاهر ممكن فلم يأت بالمأمور
به فلم يجز وبخلاف ما إذا ظهر أنه عبده؛ لأن
الوقوف على ذلك بأمارات تدل عليه ممكن على أن
معنى صرف الصدقة وهو التمليك هناك لا يتصور
لاستحالة تمليك الشيء من نفسه. وقوله: ظهر
خطؤه بيقين ممنوع وإنما يكون كذلك أن لو قلنا
أنه صار محل الصدقة باجتهاده فلا نقول كذلك بل
المحل المأمور بالصرف إليه شرعا حالة الاشتباه
وهو من وقع عليه التحري وعلى هذا لا يظهر خطؤه
ولهما في الصرف إلى ابنه وهو لا يعلم به
الحديث المشهور وهو ما روي "أن يزيد بن معن
دفع صدقته إلى رجل وأمره بأن يأتي المسجد ليلا
فيتصدق بها فدفعها إلى ابنه معن فلما أصبح
رآها في يده فقال له: لم أردك بها فاختصما إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
يا معن لك ما أخذت ويا يزيد لك ما نويت"
والله أعلم.
"فصل": وأما حولان الحول فليس من شرائط جواز أداء الزكاة عند عامة
العلماء, وعند مالك من شرائط الجواز فيجوز
تعجيل الزكاة عند عامة العلماء خلافا لمالك
والكلام في التعجيل في مواضع في بيان أصل
الجواز وفي بيان
ج / 2 ص -51-
شرائطه
وفي بيان حكم المعجل إذا لم يقع زكاة. أما
الأول فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وجه قول
مالك أن أداء الزكاة أداء الواجب, وأداء
الواجب ولا وجوب لا يتحقق, ولا وجوب قبل
الحول؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول",
ولنا ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
استسلف من العباس زكاة سنتين" وأدنى درجات فعل
النبي صلى الله عليه وسلم الجواز. وأما قوله
إن أداء الزكاة أداء الواجب ولا وجوب قبل
حولان الحول فالجواب عنه من وجهين أحدهما
ممنوع أنه لا وجوب قبل حولان الحول بل الوجوب
ثابت قبله لوجود سبب الوجوب وهو ملك نصاب كامل
نام أو فاضل عن الحاجة الأصلية لحصول الغنى به
ولوجوب شكر نعمة المال على ما بينا فيما تقدم.
ثم من المشايخ من قال بالوجوب توسعا وتأخير
الأداء إلى مدة الحول ترفيها وتيسيرا على
أرباب الأموال كالدين المؤجل فإذا عجل فلم
يترفه فيسقط الواجب كما في الدين المؤجل فمنهم
من قال بالوجوب لكن لا على سبيل التأكيد وإنما
يتأكد الوجوب بآخر الحول ومنهم من قال بالوجوب
في أول الحول لكن بطريق الاستناد وهو أن يجب
أولا في آخر الحول ثم يستند الوجوب إلى أوله
لاستناد سببه وهو كون النصاب حوليا فيكون
التعجيل أداء بعد الوجوب لكن بالطريق الذي
قلنا فيقع زكاة الثاني إن سلمنا أنه لا وجوب
قبل الحول لكن سبب الوجوب موجود وهو ملك
النصاب ويجوز أداء العبادة قبل الوجوب بعد
وجود سبب الوجوب كأداء الكفارة بعد الجرح قبل
الموت, وسواء عجل عن نصاب واحد, أو اثنين, أو
أكثر من ذلك مما يستفيده في السنة عند أصحابنا
الثلاثة وعند زفر لا يجوز إلا عند النصاب
الموجود حتى لو كان له مائتا درهم فعجل زكاة
الألف وذلك خمسة وعشرون ثم استفاد مالا, أو
ربح في ذلك المال حتى صار ألف درهم فتم الحول
وعنده ألفا درهم جاز عن الكل عندنا, وعند زفر
لا يجوز إلا عن المائتين. وجه قوله إن التعجيل
عما سوى المائتين تعجيل قبل وجود السبب فلا
يجوز كما لو عجل قبل ملك المائتين, ولنا أن
ملك النصاب موجود في أول الحول والمستفاد على
ملك النصاب في الحول كالموجود من ابتداء الحول
بدليل وجوب الزكاة فيه عند حولان الحول فلو لم
يجعل كالموجود في أول الحول لما وجبت الزكاة
فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" وإذا كان كذلك جعلت الألف كأنها كانت موجودة في ابتداء الحول ليصير
مؤديا بعد وجود الألف تقديرا فجاز والله أعلم.
"فصل": وأما شرائط الجواز فثلاثة: أحدهما كمال النصاب في أول الحول,
والثاني كماله في آخر الحول والثالث أن لا
ينقطع النصاب فيما بين ذلك حتى لو عجل وله في
أول الحول أقل من النصاب ثم كمل في آخره فتم
الحول والنصاب كامل لم يكن المعجل زكاة بل كان
تطوعا. وكذا لو عجل والنصاب كامل ثم هلك نصفه
مثلا فتم الحول والنصاب غير كامل لم يجز
التعجيل وإنما كان كذلك؛ لأن المعتبر كمال
النصاب في طرفي الحول؛ ولأن سبب الوجوب هو
النصاب فأحد الطرفين حال انعقاد السبب والطرف
الآخر حال الوجوب, أو حال تأكد الوجوب بالسبب
وما بين ذلك ليس بحال الانعقاد ولا حال الوجوب
إذ تأكد الوجوب بالسبب فلا معنى لاشتراط
النصاب عنده ولأن في اعتبار كمال النصاب فيما
بين ذلك حرجا؛ لأن التجار يحتاجون إلى النظر
في ذلك كل يوم وكل ساعة وفيه من الحرج ما لا
يخفى ولا حرج في مراعاة الكمال في أول الحول
وآخره وكذلك جرت عادة التجار بتعرف رءوس
أموالهم في أول الحول وآخره ولا يلتفتون إلى
ذلك في أثناء الحول إلا أنه لا بد من بقاء شيء
من النصاب وإن قل في أثناء الحول ليضم
المستفاد إليه ولأنه إذا هلك النصاب الأول كله
فقد انقطع حكم الحول فلا يمكن إبقاء المعجل
زكاة فيقع تطوعا. ولو كان له نصاب في أول
الحول فعجل زكاته وانتقص النصاب ولم يستفد
شيئا حتى حال الحول والنصاب ناقص لم يجز
التعجيل ويقع المؤدى تطوعا ولا يعتبر المعجل
في تمام النصاب عندنا, وعند الشافعي يكمل
النصاب بما عجل ويقع زكاة, وصورته إذا عجل
خمسة عن مائتين ولم يستفد شيئا حتى حال الحول
وعنده مائة وخمسة وتسعون, أو عجل شاة من
أربعين فحال عليها الحول وعنده تسعة وثلاثون
لم يجز التعجيل عندنا وعنده جائز. وجه قوله أن
المعجل وقع زكاة عن كل النصاب فيعتبر في إتمام
النصاب ولنا أن المؤدى مال أزال ملكه عنه بنية
الزكاة فلا يكمل به النصاب كما لو
ج / 2 ص -52-
هلك في
يد الإمام. ولو استفاد خمسة في آخر الحول جاز
التعجيل لوجود كمال النصاب في طرفي الحول ولو
كان له مائتا درهم فعجل زكاتها خمسة فانتقص
النصاب ثم استفاد ما يكمل به النصاب بعد الحول
في أول الحول الثاني وتم الحول الثاني والنصاب
كامل فعليه الزكاة للحول الثاني وما عجل يكون
تطوعا؛ لأنه عجل للحول الأول ولم تجب عليه
الزكاة للحول الأول لنقصان النصاب في آخر
الحول ولو كان له مائتا درهم فعجل خمسة منها
ثم تم الحول والنصاب ناقص ودخل الحول الثاني
وهو ناقص ثم تم الحول الثاني وهو كامل لا تجزي
الخمسة عن السنة الأولى ولا عن السنة الثانية؛
لأن في السنة الأولى كان النصاب ناقصا في
آخرها وفي السنة الثانية كان النصاب ناقصا في
أولها فلم تجب الزكاة في السنتين فلا يقع
المؤدى زكاة عنهما. ولو كان له مائتي درهم
فحال الحول وأدى خمسة منها حتى انتقص منها
خمسة ثم إنه عجل عن السنة الثانية خمسة حتى
انتقص منها خمسة أخرى فصار المال مائة وتسعين
فتم الحول الثاني وقد استفاد عشرة حتى حال
الحول على المائتين ذكر في الجامع أن الخمسة
التي عجل للحول الثاني جائزة طعن عيسى بن أبان
وقال ينبغي أن لا تجزئه هذه الخمسة عن السنة
الثانية؛ لأن الحول الأول لما تم وجبت الزكاة
وصارت خمسة من المائتين واجبة ووجوب الزكاة
يمنع وجوب الزكاة فانعقد الحول الثاني والنصاب
ناقص فكان تعجيل الخمسة عن السنة الثانية
تعجيلا حال نقصان النصاب فلم يجز والجواب أن
الزكاة تجب بعد تمام السنة الأولى وتمام السنة
الأولى يتعقبه الجزء الأول من السنة الثانية
والوجوب ثبت مقارنا لذلك الجزء, والنصاب كان
كاملا في ذلك الوقت ثم انتقص بعد ذلك وهو حال
وجود الجزء الثاني من السنة الثانية فكان ذلك
نقصان النصاب في أثناء الحول ولا عبرة به عند
وجود الكمال في طرفيه وقد وجد ههنا فجاز
التعجيل لوجود حال كمال النصاب.
"فصل": وأما حكم المعجل إذا لم يقع زكاة أنه إن وصل إلى يد الفقير يكون
تطوعا سواء وصل إلى يده من يد رب المال, أو من
يد الإمام, أو نائبه وهو الساعي؛ لأنه حصل أصل
القربة وإنما التوقف في صفة الفرضية, وصدقة
التطوع لا يحتمل الرجوع فيها بعد وصولها إلى
يد الفقير وإن كان المعجل في يد الإمام قائما
له أن يسترده؛ لأنه لما لم يصل إلى يد الفقير
لم يتم الصرف؛ لأن يد المصدق في الصدقة
المعجلة يد المالك من وجه لأنه مخير في دفع
المعجل إليه وإن كان يد الفقير من وجه من حيث
إنه يقبض له فلم يتم الصرف فلم تقع صدقة أصلا.
وإن هلك في يده لا يضمن عندنا وقال الشافعي:
إن استسلف الإمام بغير مسألة رب المال ولا أهل
السهمان يضمن وهذا فاسد؛ لأن الضمان إنما يجب
على الإنسان بفعله وفعله الأخذ وأنه مأذون فيه
فلا يصلح سببا لوجوب الضمان, والهلاك ليس من
صنعه بل هو محض صنع الله تعالى أعني مصنوعه.
ولو دفع الإمام المعجل إلى فقير فأيسر الفقير
قبل تمام الحول أو مات أو ارتد جاز عن الزكاة
عندنا وقال الشافعي يسترده الإمام إلا أن يكون
يساره من ذلك المال. وجه قوله أن كون المعجل
زكاة إنما يثبت عند تمام الحول وهو ليس محل
الصرف في ذلك الوقت فلا يقع زكاة إلا إذا كان
يساره من ذلك المال؛ لأنه حينئذ يكون أصلا فلا
يقطع التبع عن أصله ولنا أن الصدقة لاقت كف
الفقير فوقعت موقعها فلا تتغير بالغنى الحادث
بعد ذلك كما إذا دفعها إلى الفقير بعد حولان
الحول ثم أيسر. ولو عجل زكاة ماله ثم هلك
المال لم يرجع على الفقير عندنا وقال الشافعي
يرجع عليه إذا كان قال له إنها معجلة وهذا غير
سديد؛ لأن الصدقة وقعت في محل الصدقة وهو
الفقير بنية الزكاة فلا يحتمل الرجوع كما إذا
لم يقل إنها معجلة ولو كان له دراهم أو دنانير
أو عروض للتجارة فعجل زكاة جنس منها ثم هلك
بعض المال جاز المعجل عن الباقي؛ لأن الكل في
حكم مال واحد بدليل أنه يضم البعض إلى البعض
في تكميل النصاب فكانت نية التعيين في التعجيل
لغوا كما لو كان له ألف درهم فعجل زكاة
المائتين ثم هلك بعض المال. وهذا بخلاف
السوائم المختلفة بأن كان له خمس من الإبل
وأربعون من الغنم فعجل شاة عن خمس من الإبل ثم
هلكت الإبل أن المعجل لا يجوز عن زكاة الغنم؛
لأنهما مالان مختلفان صورة ومعنى فكان نية
التعيين صحيحة فالتعجيل عن أحدهما لا يقع عن
الآخر والله أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يسقطها بعد وجوبها فالمسقط لها بعد الوجوب أحد
الأشياء الثلاثة: منها هلاك
ج / 2 ص -53-
النصاب
بعد الحول قبل التمكن من الأداء وبعده عندنا,
وعند الشافعي لا يسقط بالهلاك بعد التمكن
والمسألة قد مضت. ومنها الردة عندنا وقال
الشافعي: الردة لا تسقط الزكاة الواجبة حتى لو
أسلم لا يجب عليه الأداء عندنا وعنده يجب. وجه
قوله أن المرتد قادر على أداء ما وجب عليه لكن
بتقديم شرطه وهو الإسلام فإذا أسلم وجب عليه
الأداء كالمحدث والجنب أنهما قادران على أداء
الصلاة لكن بواسطة الطهارة فإذا وجدت الطهارة
يجب عليها الأداء كذا هذا, ولنا قول النبي صلى
الله عليه وسلم
"الإسلام يجب ما قبله" ولأن المرتد ليس من أهل أداء العبادة فلا يكون من أهل وجوبها فتسقط
عنه بالردة وما ذكر أنه قادر على الأداء
بتقديم شرطه وهو الإسلام كلام فاسد لما فيه من
جعل الأصل تبعا لتبعه وجعل التبع أصلا لمتبوعه
على ما بينا فيما تقدم. ومنها موت من عليه
الزكاة من غير وصية عندنا, وعند الشافعي لا
تسقط وجملة الكلام فيه أن من عليه الزكاة إذا
مات قبل أدائها فلا يخلو إما أن كان, أوصى
بالأداء وإما أن كان لم يوص فإن كان لم يوص
تسقط عنه في أحكام الدنيا حتى لا تؤخذ من
تركته ولا يؤمر الوصي أو الوارث بالأداء من
تركته عندنا, وعنده تؤخذ من تركته, وعلى هذا
الخلاف إذا مات من عليه صدقة الفطر, أو النذر,
أو الكفارات, أو الصوم, أو الصلاة, أو
النفقات, أو الخراج, أو الجزية؛ لأنه لا
يستوفى من تركته عندنا, وعنده يستوفى من
تركته. وإن مات من عليه العشر فإن كان الخارج
قائما فلا يسقط بالموت في ظاهر الرواية, وروى
عبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة أنه يسقط
ولو كان استهلك الخارج حتى صار دينا في ذمته
فهو على هذا الاختلاف وإن كان, أوصى بالأداء
لا يسقط ويؤدى من ثلث ماله عندنا وعند الشافعي
من جميع ماله والكلام فيه بناء على أصلين:
أحدهما ما ذكرنا فيما تقدم وهو أن الزكاة
عبادة عندنا والعبادة لا تتأدى إلا باختيار من
عليه إما بمباشرته بنفسه, أو بأمره, أو إنابته
غيره فيقوم النائب مقامه فيصير مؤديا بيد
النائب, وإذا, أوصى فقد أناب وإذا لم يوص فلم
ينب, فلو جعل الوارث نائبا عنه شرعا من غير
إنابته لكان ذلك إنابة جبرية والجبر ينافي
العبادة إذ العبادة فعل يأتيه العبد باختياره
ولهذا قلنا إنه ليس للإمام أن يأخذ الزكاة من
صاحب المال من غير إذنه جبرا, ولو أخذ لا تسقط
عنه الزكاة, والثاني أن الزكاة وجبت بطريق
الصلة ألا ترى أنه لا يقابلها عوض مالي,
والصلات تسقط بالموت قبل التسليم والعشر مؤنة
الأرض وكما ثبت ثبت مشتركا لقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ} أضاف المخرج إلى الكل الأغنياء والفقراء جميعا فإذا ثبت مشتركا فلا
يسقط بموته وعنده الزكاة حق العبد وهو الفقير
فأشبه سائر الديون وإنها لا تسقط بموت من عليه
كذا هذا. ولو مات من عليه الزكاة في خلال
الحول ينقطع حكم الحول عندنا وعند الشافعي لا
ينقطع بل يبني الوارث عليه فإذا تم الحول أدى
الزكاة, والكلام فيه أيضا مبني على ما ذكرنا
وهو أن الزكاة عبادة عندنا فيعتبر فيه جانب
المؤدي وهو المالك وقد زال ملكه بموته فينقطع
حوله, وعنده ليست بعبادة بل هي مؤنة الملك
فيعتبر قيام نفس الملك وأنه قائم إذ الوارث
يخلف المورث في عين ما كان للمورث والله تعالى
أعلم.
"فصل": وأما زكاة الزروع والثمار وهو العشر فالكلام في هذا النوع أيضا يقع
في مواضع في. بيان فرضيته وفي بيان كيفية
الفرضية, وفي بيان سبب الفرضية, وفي بيان
شرائط الفرضية, وفي بيان القدر المفروض, وفي
بيان صفته, وفي بيان من له ولاية الأخذ, وفي
بيان وقت الفرض, وفي بيان ركنه, وفي بيان
شرائط الركن, وفي بيان ما يسقطه, وفي بيان ما
يوضع في بيت المال من الأموال, وفي بيان
مصارفها أما الأول فالدليل على فرضيته الكتاب
والسنة والإجماع والمعقول أما الكتاب فقوله
تعالى
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} قال عامة أهل التأويل: إن الحق المذكور هو العشر, أو نصف العشر فإن
قيل: إن الله تعالى أمر بإيتاء الحق يوم
الحصاد ومعلوم أن زكاة الحبوب لا تخرج يوم
الحصاد بل بعد التنقية والكيل ليظهر مقدارها
فيخرج عشرها فدل أن المراد به غير العشر
فالجواب أن المراد منه والله أعلم وآتوا حقه
الذي وجب فيه يوم حصاده بعد التنقية فكان
اليوم ظرفا للحق لا للإيتاء. على أن عند أبي
حنيفة يجب العشر في الخضراوات وإنما يخرج الحق
منها يوم الحصاد وهو القطع ولا ينتظر شيء آخر
فثبت أن الآية في العشر إلا أن مقدار
ج / 2 ص -54-
هذا
الحق غير مبين في الآية فكانت الآية مجملة في
حق المقدار ثم صارت مفسرة ببيان النبي صلى
الله عليه وسلم بقوله
"ما سقته
السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو دالية
ففيه نصف العشر" كقوله تعالى
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} أنها
مجملة في حق المقدار فبينه النبي صلى الله
عليه وسلم بقوله
"في مائتي درهم خمسة دراهم"
فصار مفسرا كذا هذا. وقوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} وفي الآية دلالة على أن للفقراء حقا في المخرج من الأرض حيث أضاف
المخرج إلى الكل فدل على أن للفقراء في ذلك
حقا كما أن للأغنياء فيدل على كون العشر حق
الفقراء ثم عرف مقدار الحق بالسنة. وأما السنة
فما روينا وهو قوله صلى الله عليه وسلم
"ما سقته
السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو دالية
ففيه نصف العشر" وأما الإجماع فلأن الأمة أجمعت على فرضية العشر. وأما المعقول فعلى
نحو ما ذكرنا في النوع الأول؛ لأن إخراج العشر
إلى الفقير من باب شكر النعمة وإقدار العاجز
وتقويته على القيام بالفرائض ومن باب تطهير
النفس عن الذنوب وتزكيتها, وكل ذلك لازم عقلا
وشرعا والله أعلم.
"فصل": وأما الكلام في كيفية فرضية هذا النوع فعلى نحو الكلام في كيفية
فرضية النوع الأول وقد مضى الكلام فيه.
"فصل": وأما سبب فرضيته فالأرض النامية بالخارج حقيقة, وسبب وجوب الخراج
للأرض النامية بالخارج حقيقة, أو تقديرا حتى
لو أصاب الخارج آفة فهلك لا يجب فيه العشر في
الأرض العشرية ولا الخراج في الأرض الخراجية
لفوات النماء حقيقة وتقديرا. ولو كانت الأرض
عشرية فتمكن من زراعتها فلم تزرع لا يجب العشر
لعدم الخارج حقيقة ولو كانت أرض خراجية يجب
الخراج لوجود الخارج تقديرا ولو كانت أرض
الخراج نزة, أو غلب عليها الماء بحيث لا
يستطاع فيها الزراعة, أو سبخة, أو لا يصل
إليها الماء فلا خراج فيه لانعدام الخارج فيه
حقيقة وتقديرا, وعلى هذا يخرج تعجيل العشر
وإنه على ثلاثة, أوجه: في وجه يجوز بلا خلاف,
وفي وجه لا يجوز بلا خلاف, وفي وجه فيه خلاف
أما الذي يجوز بلا خلاف فهو أن يعجل بعد
الزراعة وبعد النبات؛ لأنه تعجيل بعد وجود سبب
الوجوب وهو الأرض النامية بالخارج حقيقة ألا
ترى أنه لو فصله هكذا يجب العشر؟ وأما الذي لا
يجوز بلا خلاف فهو أن يعجل قبل الزراعة؛ لأنه
عجل قبل الوجوب وقبل وجود سبب الوجوب لانعدام
الأرض النامية بالخارج حقيقة لانعدام الخارج
حقيقة وأما الذي فيه خلاف فهو أن يعجل بعد
الزراعة قبل النبات, قال أبو يوسف: يجوز وقال
محمد: لا يجوز. وجه قول محمد إن سبب الوجوب لم
يوجد لانعدام الأرض النامية بالخارج لا الخارج
فكان تعجيلا قبل وجود السبب فلم يجز كما لو
عجل قبل الزراعة وجه قول أبي يوسف إن سبب
الخروج موجود وهو الزراعة فكان تعجيلا بعد
وجود السبب فيجوز. وأما تعجيل عشر الثمار فإن
عجل بعد طلوعها جاز بالإجماع وإن عجل قبل
الطلوع ذكر الكرخي أنه على الاختلاف الذي
ذكرنا في الزرع وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي أنه لا يجوز في ظاهر الرواية. وروي عن
أبي يوسف أنه يجوز وجعل الأشجار للثمار بمنزلة
الساق للحبوب وهناك يجوز التعجيل كذا ههنا
ووجه الفرق لأبي حنيفة ومحمد أن الشجر ليس
بمحل لوجوب العشر؛ لأنه حطب ألا ترى أنه لو
قطعه لا يجب العشر؟ فأما ساق الزرع فمحل بدليل
أنه لو قطع الساق قبل أن ينعقد الحب يجب
العشر. ويجوز تعجيل الخراج والجزية؛ لأن سبب
وجوب الخراج الأرض النامية بالخارج تقديرا
بالتمكن من الزراعة لا تحقيقا وقد وجد التمكن
وسبب وجوب الجزية كونه ذميا وقد وجد والله
أعلم.
"فصل": وأما شرائط الفرضية فبعضها شرط الأهلية وبعضها شرط المحلية أما.
شرط الأهلية فنوعان :. أحدهما الإسلام وأنه
شرط ابتداء هذا الحق فلا يبتدأ بهذا الحق إلا
على مسلم بلا خلاف؛ لأن فيه معنى العبادة
والكافر ليس من أهل وجوبها ابتداء فلا يبتدأ
به عليه. وكذا لا يجوز أن يتحول إليه في قول
أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يجوز حتى إن
الذمي لو اشترى أرض عشر من مسلم فعليه الخراج
عنده, وعند أبي يوسف عليه عشران
ج / 2 ص -55-
وعند
محمد عليه عشر واحد. وجه قول محمد أن الأصل أن
كل أرض ابتدأت بضرب حق عليها أن لا يتبدل الحق
بتبدل المالك كالخراج, والجامع بينهما أن كل
واحد منهما مؤنة الأرض لا تعلق له بالمالك حتى
يجب في أرض غير مملوكة فلا يختلف باختلاف
المالك, وأبو يوسف يقول: لما وجب العشر على
الكافر كما قاله محمد فالواجب على الكافر باسم
العشر يكون مضاعفا كالواجب على التغلبي ويوضع
موضع الخراج. ولأبي حنيفة أن العشر فيه معنى
العبادة والكافر ليس من أهل وجوب العبادة فلا
يجب عليه العشر كما لا تجب عليه الزكاة
المعهودة ولهذا لا تجب عليه ابتداء كذا في
حالة البقاء وإذا تعذر إيجاب العشر عليه فلا
سبيل إلى أن ينتفع الذمي بأرضه في دار الإسلام
من غير حق يضرب عليها فضربنا عليها الخراج
فالخراج الذي فيه معنى الصغار كما لو جعل داره
بستانا واختلفت الرواية عن أبي حنيفة في وقت
صيرورتها خراجية ذكر في السير الكبير أنه كما
اشترى صارت خراجية وفي رواية أخرى لا تصير
خراجية ما لم يوضع عليها الخراج وإنما يؤخذ
الخراج إذا مضت من وقت الشراء مدة يمكنه أن
يزرع فيها سواء زرع, أو لم يزرع كذا ذكر في
العيون في رجل باع أرض الخراج من رجل وقد بقي
من السنة مقدار ما يقدر المشتري على زرعها
فخراجها على المشتري, وإن لم يكن بقي ذلك
القدر فخراجها على البائع. واختلفت الرواية عن
محمد في موضع هذا العشر ذكر في السير الكبير
أنه يوضع موضع الصدقة؛ لأن قدر الواجب لما لم
يتغير عنده لا تتغير صفته أيضا. وروي عنه أنه
يوضع موضع الخراج؛ لأن مال الصدقة لا يؤخذ فيه
لكونه مالا مأخوذا من الكافر فيوضع موضع
الخراج. ولو اشترى مسلم من ذمي أرضا خراجية
فعليه الخراج ولا تنقلب عشرية؛ لأن الأصل أن
مؤنة الأرض لا تتغير بتبدل المالك إلا لضرورة
وفي حق الذمي إذا اشترى من مسلم أرض عشر
ضرورة؛ لأن الكافر ليس من أهل وجوب العشر فأما
المسلم فمن أهل وجوب الخراج في الجملة فلا
ضرورة إلى التغيير بتبدل المالك. ولو باع
المسلم من ذمي أرضا عشرية فأخذها مسلم بالشفعة
ففيها العشر؛ لأن الصفقة تحولت إلى الشفيع
كأنه باعها منه فكان انتقالا من مسلم إلى
مسلم. وكذلك لو كان البيع فاسدا فاستردها
البائع منه لفساد البيع عادت إلى العشر؛ لأن
البيع الفاسد إذا فسخ يرتفع من الأصل ويصير
كأن لم يكن فيرتفع بأحكامه ولو وجد المشتري
بها عيبا فعلى رواية السير الكبير ليس له أن
يردها بالعيب؛ لأنها صارت خراجية بنفس الشراء
فحدث فيها عيب زائد في يده وهو وضع الخراج
عليها فمنع الرد بالعيب لكنه يرجع بحصة العيب.
وعلى الرواية الأخرى له أن يردها ما لم يوضع
عليها الخراج لعدم حدوث العيب فإن ردها برضا
البائع لا تعود عشرية بل هي خراجية على حالها
عند أبي حنيفة؛ لأن الرد برضا البائع بمنزلة
بيع جديد, والأرض إذا صارت خراجية لا تنقلب
عشرية بتبدل المالك. ولو اشترى التغلبي أرضا
عشرية فعليه عشران في قول أبي حنيفة وأبي
يوسف, وعند محمد عليه عشر واحد أما محمد فقد
مر على أصله أن كل مؤنة ضربت على أرض أنها لا
تتغير بتغير حال المالك, وفقهه ما ذكرنا وهما
يقولان الأصل ما ذكره محمد لكن يجوز أن تتغير
إذا وجد المغير وقد وجد ههنا وهو قضية عمر رضي
الله عنه فإنه صالح بني تغلب على أن يؤخذ منهم
ضعف ما يؤخذ من المسلمين بمحضر من الصحابة فإن
أسلم التغلبي, أو باعها من مسلم لم يتغير
العشران عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف يتغير
إلى عشر واحد. وجه قوله إن العشرين كانا لكونه
نصرانيا تغلبيا إذ التضعيف يختص بهم وقد بطل
بالإسلام فيبطل التضعيف, ولأبي حنيفة أن
العشرين كانا خراجا على التغلبي والخراج لا
يتغير بإسلام المالك لما ذكرنا أن المسلم من
أهل وجوب الخراج في الجملة ولا يتفرع التغير
على أصل محمد؛ لأنه كان عليه عشر واحد قبل
الإسلام والبيع من المسلم فيجب عشر واحد كما
كان, وهكذا ذكر الكرخي في مختصره أن عند محمد
يجب عشر واحد, وذكر الطحاوي في التغلبي يشتري
أرض العشر من مسلم أنه يؤخذ منه عشران في
قولهم والصحيح ما ذكره الكرخي لما ذكرنا من
أصل محمد رحمه الله ولو اشترى التغلبي أرض عشر
فباعها من ذمي فعليه عشران لما ذكرنا أن
التضعيف على التغلبي بطريق الخراج والخراج لا
يتغير بتبدل المالك وروى الحسن عن أبي حنيفة
أن عليه الخراج؛ لأن التضعيف يختص بالتغلبي
والله أعلم. والثاني العلم بكونه مفروضا
ج / 2 ص -56-
ونعني
به سبب العلم في قول أصحابنا الثلاثة خلافا
لزفر, والمسألة ذكرت في كتاب الصلاة. وأما
العقل والبلوغ فليسا من شرائط أهلية وجوب
العشر حتى يجب العشر في أرض الصبي والمجنون
لعموم قول النبي صلى الله عليه وسلم
"ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو
دالية ففيه نصف العشر"؛ ولأن العشر مؤنة الأرض كالخراج ولهذا لا يجتمعان عندنا ولهذا يجوز
للإمام أن يمد يده إليه فيأخذه جبرا ويسقط عن
صاحب الأرض كما لو أدى بنفسه إلا أنه إذا أدى
بنفسه يقع عبادة فينال ثواب العبادة. وإذا
أخذها الإمام كرها لا يكون له ثواب فعل
العبادة وإنما يكون ثواب ذهاب ماله في وجه
الله تعالى بمنزلة ثواب المصائب كرها بخلاف
الزكاة فإن الإمام لا يملك الأخذ جبرا وإن أخذ
لا تسقط الزكاة عن صاحب المال؛ ولهذا لو مات
من عليه العشر والطعام قائم يؤخذ منه بخلاف
الزكاة فإنها تسقط بموت من هي عليه. وكذا ملك
الأرض ليس بشرط لوجوب العشر وإنما الشرط ملك
الخارج فيجب في الأراضي التي لا مالك لها وهي
الأراضي الموقوفة لعموم قوله تعالى
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ
طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ}
وقوله عز وجل
{وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} وقول
النبي صلى الله عليه وسلم
"ما سقته
السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو دالية
ففيه نصف العشر"؛ ولأن العشر يجب في الخارج لا في الأرض فكان ملك الأرض وعدمه
بمنزلة واحدة. ويجب في أرض المأذون والمكاتب
لما قلنا ولو آجر أرضه العشرية فعشر الخارج
على المؤاجر عنده وعندهما على المستأجر. وجه
قولهما ظاهر لما ذكرنا أن العشر يجب في الخارج
والخارج ملك المستأجر فكان العشر عليه
كالمستعير ولأبي حنيفة أن الخارج للمؤاجر
معنى؛ لأن بدله وهو الأجرة له فصار كأنه زرع
بنفسه, وفيه إشكال؛ لأن الأجر قابل للمنفعة لا
الخارج, والعشر يجب في الخارج عندهما والخارج
يسلم للمستأجر من غير عوض فيجب فيه العشر.
والجواب أن الخارج في إجارة الأرض إن كان عينا
حقيقية فله حكم المنفعة فيقابله الأجر فكان
الخارج للآجر معنى فكان العشر عليه فإن هلك
الخارج فإن كان قبل الحصاد فلا عشر على
المؤاجر ويجب الأجر على المستأجر؛ لأن الأجر
يجب بالتمكن من الانتفاع وقد تمكن منه وإن هلك
بعد الحصاد لا يسقط عن المؤاجر عشر الخارج؛
لأن العشر كان يجب عليه دينا في ذمته ولا يجب
في الخارج عنده حتى يسقط بهلاكه فلا يسقط عنه
العشر بهلاكه ولا يسقط الأجر عن المستأجر أيضا
وعند أبي يوسف ومحمد العشر في الخارج فيكون
على من حصل له الخارج ولو هلك بعد الحصاد, أو
قبله هلك بما فيه من العشر. ولو أعارها من
مسلم فزرعها فالعشر على المستعير عند أصحابنا
الثلاثة, وعند زفر على المعير وهكذا روى عبد
الله بن المبارك عن أبي حنيفة ولا خلاف في أن
الخراج على المعير. وجه قول زفر أن الإعارة
تمليك المنفعة بغير عوض فكان هبة المنفعة
فأشبه هبة الزرع, ولنا أن المنفعة حصلت
للمستعير صورة ومعنى إذ لم يحصل للمعير في
مقابلتها عوض فكان العشر على المستعير. ولو
أعارها من كافر فكذلك الجواب عندهما؛ لأن
العشر عندهما في الخارج على كل حال. وعن أبي
حنيفة فيه روايتان في رواية العشر في الخارج,
وفي رواية على رب المال ولو دفعها مزارعة فإما
على مذهبهما فالمزارعة جائزة والعشر يجب في
الخارج والخارج بينهما فيجب العشر عليهما.
وأما على مذهب أبي حنيفة فالمزارعة فاسدة ولو
كان يجيزها كان يجب على مذهبه جميع العشر على
رب الأرض إلا أن في حصته جميع العشر يجب في
عينه وفي حصة المزارع يكون دينا في ذمته. ولو
غصب غاصب أرضا عشرية فزرعها فإن لم تنقصها
الزراعة فالعشر على الغاصب في الخارج لا على
رب الأرض؛ لأنه لم تسلم له منفعة كما في
العارية وإن نقصتها الزراعة فعلى الغاصب نقصان
الأرض كأنه آجرها منه وعشر الخارج على رب
الأرض عند أبي حنيفة وعندهما في الخارج. ولو
كانت الأرض خراجية في الوجوه كلها فخراجها على
رب الأرض بالإجماع إلا في الغصب إذا لم تنقصها
الزراعة فخراجها على الغاصب وإن نقصتها فعلى
رب الأرض كأنه آجرها منه وقال محمد: انظر إلى
نقصان الأرض وإلى الخراج فإن كان ضمان النقصان
أكثر من الخراج فالخراج على رب الأرض يأخذ من
الغاصب النقصان فيؤدي الخراج منه وإن كان ضمان
النقصان أقل من الخراج على الغاصب وسقط عنه
ضمان النقصان. ولو باع الأرض العشرية وفيها
زرع
ج / 2 ص -57-
قد
أدرك مع زرعها أو باع الزرع خاصة فعشره على
البائع دون المشتري؛ لأنه باعه بعد وجوب العشر
وتقرره بالإدراك. ولو باعها والزرع بقل فإن
قصله المشتري للحال فعشره على البائع أيضا
لتقرر الوجوب في البقل بالقصل. وإن تركه حتى
أدرك فعشره على المشتري في قول أبي حنيفة
ومحمد لتحول الوجوب من الساق إلى الحب. وروي
عن أبي يوسف أنه قال: عشر قدر البقل على
البائع وعشر الزيادة على المشتري. وكذلك حكم
الثمار على هذا التفصيل. وكذا عدم الدين ليس
بشرط لوجوب العشر؛ لأن الدين لا يمنع وجوب
العشر في ظاهر الرواية بخلاف الزكاة المعهودة
وقد مضى الفرق فيما تقدم.
"فصل": وأما شرائط المحلية فأنواع منها أن تكون الأرض عشرية فإن كانت
خراجية يجب فيها الخراج ولا يجب في الخارج
منها العشر فالعشر مع الخراج لا يجتمعان في
أرض واحدة عندنا. وقال الشافعي: يجتمعان فيجب
في الخارج من أرض الخراج العشر حتى قال بوجوب
العشر في الخارج من أرض السواد. وجه قوله
أنهما حقان مختلفان ذاتا ومحلا وسببا فلا
يتدافعان أما اختلافهما ذاتا فلا شك فيه. وأما
المحل فلأن الخراج يجب في الذمة والعشر يجب في
الخارج. وأما السبب فلأن سبب وجوب الخراج
الأرض النامية وسبب وجوب العشر الخارج حتى لا
يجب بدونه والخراج يجب بدون الخارج وإذا ثبت
اختلافهما ذاتا ومحلا وسببا فوجوب أحدهما لا
يمنع وجوب الآخر, ولنا ما روي عن ابن مسعود عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا يجتمع عشر وخراج في أرض مسلم"; ولأن أحدا من أئمة العدل وولاة الجور لم يأخذ من أرض السواد عشرا
إلى يومنا هذا فالقول بوجوب العشر فيها يخالف
الإجماع فيكون باطلا; ولأن سبب وجوبهما واحد
وهو الأرض النامية فلا يجتمعان في أرض واحدة
كما لا يجتمع زكاتان في مال واحد وهي زكاة
السائمة والتجارة. والدليل على أن سبب وجوبهما
الأرض النامية أنهما يضافان إلى الأرض, يقال:
خراج الأرض وعشر الأرض, والإضافة تدل على
السببية فثبت أن سبب الوجوب فيهما هو الأرض
النامية إلا أنه إذا لم يزرعها وعطلها يجب
الخراج; لأن انعدام النماء كان لتقصير من قبله
فيجعل موجودا تقديرا حتى لو كان الفوات لا
بتقصيره بأن هلك لا يجب وإنما لا يجب العشر
بدون الخارج حقيقة; لأنه متعين ببعض الخارج
فلا يمكن إيجابه بدون الخارج وعلى هذا قال
أصحابنا فيمن اشترى أرض عشر للتجارة أو اشترى
أرض خراج للتجارة أن فيها العشر, أو الخراج
ولا تجب زكاة التجارة مع أحدهما هو الرواية
المشهورة عنهم. وروي عن محمد أنه يجب العشر
والزكاة, أو الخراج والزكاة. وجه هذه الرواية
أن زكاة التجارة تجب في الأرض والعشر يجب في
الزرع وأنهما مالان مختلفان فلم يجتمع الحقان
في مال واحد. وجه ظاهر الرواية أن سبب الوجوب
في الكل واحد وهو الأرض ألا ترى أنه يضاف الكل
إليها؟ يقال: عشر الأرض وخراج الأرض وزكاة
الأرض وكل واحد من ذلك حق الله تعالى, وحقوق
الله تعالى المتعلقة بالأموال النامية لا يجب
فيها حقان منها بسبب مال واحد كزكاة السائمة
مع التجارة. وإذا ثبت أنه لا سبيل إلى اجتماع
العشر والزكاة واجتماع الخراج والزكاة فإيجاب
العشر, أو الخراج أولى; لأنهما أعم وجوبا ألا
ترى أنهما لا يسقطان بعذر الصبا والجنون,
والزكاة تسقط به فكان إيجابهما أولى. وإذا عرف
أن كون الأرض عشرية من شرائط وجوب العشر لا بد
من بيان الأرض العشرية. وجملة الكلام فيه أن
الأراضي نوعان: عشرية وخراجية, أما العشرية
فمنها أرض العرب كلها قال محمد رحمه الله:
وأرض العرب من العذيب إلى مكة وعدن أبين إلى
أقصى حجر باليمن بمهرة وذكر الكرخي هي أرض
الحجاز وتهامة واليمن ومكة والطائف والبرية
وإنما كانت هذه أرض عشر; لأن رسول الله صلى
الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين بعده لم
يأخذوا من أرض العرب خراجا فدل أنها عشرية إذ
الأرض لا تخلو عن إحدى المؤنتين; ولأن الخراج
يشبه الفيء فلا يثبت في أرض العرب كما لم يثبت
في رقابهم والله أعلم ومنها الأرض التي أسلم
عليها أهلها طوعا ومنها الأرض التي فتحت عنوة
وقهرا وقسمت بين الغانمين المسلمين؛ لأن
الأراضي لا تخلو عن مؤنة إما العشر وإما
الخراج, والابتداء بالعشر في أرض المسلم أولى؛
لأن في العشر معنى العبادة وفي الخراج معنى
الصغار ومنها دار المسلم إذا اتخذها بستانا
لما قلنا وهذا إذا كان يسقي بماء العشر
ج / 2 ص -58-
فإن
كان يسقي بماء الخراج فهو خراجي. وأما ما
أحياه المسلم من الأرض الميتة بإذن الإمام
فقال أبو يوسف: إن كانت من حيز أرض العشر فهي
عشرية وإن كانت من حيز أرض الخراج فهي خراجية
وقال محمد: إن أحياها بماء السماء, أو ببئر
استنبطها, أو بماء الأنهار العظام التي لا
تملك مثل دجلة والفرات فهي أرض عشر, وإن شق
لها نهرا من أنهار الأعاجم مثل نهر الملك ونهر
يزدجرد فهي أرض خراج. وجه قول محمد إن الخراج
لا يبتدأ بأرض المسلم لما فيه من معنى الصغار
كالفيء إلا إذا التزمه فإذا استنبط عينا, أو
حفر بئرا, أو أحياها بماء الأنهار العظام فلم
يلتزم الخراج فلا يوضع عليه وإذا أحياها بماء
الأنهار المملوكة فقد التزم الخراج؛ لأن حكم
الفيء يتعلق بهذه الأنهار فصار كأنه اشترى أرض
الخراج ولأبي يوسف أن حيز الشيء في حكم ذلك
الشيء؛ لأنه من توابعه كحريم الدار من توابع
الدار حتى يجوز الانتفاع به, ولهذا لا يجوز
إحياء ما في حيز القرية لكونه من توابع القرية
فكان حقا لأهل القرية. وقياس قول أبي يوسف أن
تكون البصرة خراجية؛ لأنها من حيز أرض الخراج
وإن أحياها المسلمون إلا أنه ترك القياس
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم حيث وضعوا عليه
العشر. وأما الخراجية فمنها الأراضي التي فتحت
عنوة وقهرا فمن الإمام عليهم وتركها في يد
أربابها فإنه يضع على جماعتهم الجزية إذا لم
يسلموا وعلى أراضيهم الخراج أسلموا, أو لم
يسلموا, وأرض السواد كلها أرض خراج واحد
السواد من العذيب إلى عقبة حلوان ومن العلث
إلى عبادان؛ لأن عمر رضي الله عنه لما فتح تلك
البلاد ضرب عليها الخراج بمحضر من الصحابة رضي
الله عنهم فأنفذ عليها حذيفة بن اليمان وعثمان
بن حنيف فمسحاها ووضعا عليه الخراج؛ ولأن
الحاجة إلى ابتداء الإيجاب على الكافر,
والابتداء بالخراج الذي فيه معنى الصغار على
الكافر أولى من العشر الذي فيه معنى العبادة
والكافر ليس بأهل لها وكان القياس أن تكون مكة
خراجية؛ لأنها فتحت عنوة وقهرا وتركت على
أهلها ولم تقسم لكنا تركنا القياس بفعل النبي
صلى الله عليه وسلم حيث لم يضع عليها الخراج
فصارت مكة مخصوصة بذلك تعظيما للحرم. وكذا إذا
من عليهم وصالحهم من جماجمهم وأراضيهم على
وظيفة معلومة من الدراهم, أو الدنانير, أو نحو
ذلك فهي خراجية لما روي "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم صالح نصارى بني نجران من جزية
رءوسهم وخراج أراضيهم على ألفي حلة" وفي رواية
"على ألفي ومائتي حلة" تؤخذ منهم في وقتين لكل
سنة نصفها في رجب ونصفها في المحرم. وكذا إذا
أجلاهم ونقل إليها قوما آخرين من أهل الذمة؛
لأنهم قاموا مقام الأولين. ومنها أرض نصارى
بني تغلب؛ لأن عمر رضي الله عنه صالحهم على أن
يأخذ من أراضيهم العشر مضاعفا وذلك خراج في
الحقيقة حتى لا يتغير بتغيير حال المالك
كالخراجي ومنها الأرض الميتة التي أحياها
المسلم وهي تسقى بماء الخراج وماء الخراج هو
ماء الأنهار الصغار التي حفرتها الأعاجم مثل
نهر الملك ونهر يزدجرد وغير ذلك مما يدخل تحت
الأيدي, وماء العيون والقنوات المستنبطة من
مال بيت المال وماء العشر هو ماء السماء
والآبار والعيون والأنهار العظام التي لا تدخل
تحت الأيدي كسيحون وجيحون ودجلة والفرات
ونحوها إذ لا سبيل إلى إثبات اليد عليها
وإدخالها تحت الحماية وروي عن أبي يوسف أن
مياه هذه الأنهار خراجية لإمكان إثبات اليد
عليها وإدخالها تحت الحماية في الجملة بشد
السفن بعضها على بعض حتى تصير شبه القنطرة.
ومنها أرض الموات التي أحياها ذمي وأرض
الغنيمة التي رضخها الإمام لذمي كان يقاتل مع
المسلمين, ودار الذمي التي اتخذها بستانا, أو
كرما لما ذكرنا أن عند الحاجة إلى ابتداء ضرب
المؤنة على أرض الكافر الخراج أولى لما بينا.
ومنها أي من شرائط المحلية وجود الخارج حتى أن
الأرض لو لم تخرج شيئا لم يجب العشر؛ لأن
الواجب جزء من الخارج وإيجاب جزء من الخارج
ولا خارج محال ومنها أن يكون الخارج من الأرض
مما يقصد بزراعته نماء الأرض وتستغل الأرض به
عادة فلا عشر في الحطب والحشيش والقصب
الفارسي؛ لأن هذه الأشياء لا تستنمى بها الأرض
ولا تستغل بها عادة؛ لأن الأرض لا تنمو بها بل
تفسد فلم تكن نماء الأرض حتى قالوا في الأرض:
إذا اتخذها مقصبة وفي شجره الخلاف, التي تقطع
في كل ثلاث سنين, أو أربع سنين أنه يجب فيها
العشر؛ لأن ذلك غلة وافرة ويجب في قصب السكر
وقصب الذريرة؛ لأنه يطلب بهما نماء الأرض فوجد
شرط الوجوب فيجب فأما كون
ج / 2 ص -59-
الخارج
مما له ثمرة باقية فليس بشرط لوجوب العشر بل
يجب سواء كان الخارج له ثمرة باقية, أو ليس له
ثمرة باقية وهي الخضراوات كالبقول والرطاب
والخيار والقثاء والبصل والثوم ونحوها في قول
أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يجب إلا في
الحبوب وما له ثمرة باقية واحتجا بما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"ليس في الخضراوات صدقة" وهذا نص ولأبي حنيفة قوله تعالى{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ} وأحق ما تتناوله هذه الآية الخضراوات؛ لأنها هي المخرجة من الأرض
حقيقة. وأما الحبوب فإنها غير مخرجة من الأرض
حقيقة بل من المخرج من الأرض, ولا يقال المراد
من قوله تعالى
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أي من الأصل الذي أخرجنا لكم كما في قوله تعالى
{قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْآتِكُمْ} أي أنزلنا الأصل الذي يكون منه اللباس وهو الماء لا عين اللباس إذ
اللباس كما هو غير منزل من السماء, وكقوله
تعالى
{خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ} أي خلق أصلكم وهو آدم عليه السلام كذا هذا؛ لأنا نقول الحقيقة ما
قلنا والأصل اعتبار الحقيقة ولا يجوز العدول
عنها إلا بدليل قام دليل العدول هناك فيجب
العمل بالحقيقة فيما وراءه ولأن فيما قاله أبو
حنيفة عملا بحقيقة الإضافة؛ لأن الإخراج من
الأرض والإنبات محض صنع الله تعالى لا صنع
للعبد فيه. ألا ترى إلى قوله تعالى
{وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى
فَلَوْلا تَذَكَّرُونَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا
تَحْرُثُونَ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ
نَحْنُ الزَّارِعُونَ}؟ فأما بعد الإخراج والإنبات فللعبد فيه صنع من السقي والحفظ ونحو
ذلك فكان الحمل على النبات عملا بحقيقة
الإضافة أولى من الحمل على الحبوب وقوله تعالى
{وَآتُوا
حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
والحصاد القطع وأحق ما يحمل الحق عليه
الخضراوات؛ لأنها هي التي يجب إيتاء الحق منها
يوم القطع. وأما الحبوب فيتأخر الإيتاء فيها
إلى وقت التنقية وقول النبي صلى الله عليه
وسلم
"ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو دالية ففيه نصف العشر" من غير فصل
بين الحبوب والخضراوات؛ ولأن سبب الوجوب هو
الأرض النامية بالخارج والنماء بالخضر أبلغ؛
لأن ريعها, أوفر. وأما الحديث فغريب فلا يجوز
تخصيص الكتاب والخبر المشهور بمثله, أو يحمل
على الزكاة, أو يحمل قوله "ليس في الخضراوات
صدقة" على أنه ليس فيها صدقة تؤخذ بل أربابها
هم الذين يؤدونها بأنفسهم فكان هذا نفي ولاية
الأخذ للإمام وبه نقول والله أعلم. وكذا
النصاب ليس بشرط لوجوب العشر فيجب العشر في
كثير الخارج وقليله ولا يشترط فيه النصاب عند
أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يجب فيما
دون خمسة, أوسق إذا كان مما يدخل تحت الكيل
كالحنطة والشعير والذرة والأرز ونحوها, والوسق
ستون صاعا بصاع النبي صلى الله عليه وسلم
والصاع ثمانية أرطال جملتها نصف من وهو أربعة
أمنان فيكون جملته ألفا ومائتي من, وقال أبو
يوسف: الصاع خمسة أرطال وثلث رطل واحتجا في
المسألة بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
أنه قال: "ليس فيما دون خمسة, أوسق صدقة"
ولأبي حنيفة عموم قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا
كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ
الْأَرْضِ} وقوله عز وجل
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
وقول النبي صلى الله عليه وسلم
"ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو
دالية ففيه نصف العشر" من غير فصل بين القليل والكثير؛ لأن سبب الوجوب وهي الأرض النامية
بالخارج لا يوجب التفصيل بين القليل والكثير.
وأما الحديث فالجواب عن التعلق به من وجهين
أحدهما أنه من الآحاد فلا يقبل في معارضة
الكتاب والخبر المشهور فإن قيل ما تلوتم من
الكتاب ورويتم من السنة يقتضيان الوجوب من غير
التعرض لمقدار الموجب منه وما روينا يقتضي
المقدار فكان بيانا لمقدار ما يجب فيه العشر,
والبيان بخبر الواحد جائز كبيان المجمل
والمتشابه فالجواب أنه لا يمكن حمله على
البيان؛ لأن ما تمسكنا به عام يتناول ما يدخل
تحت الوسق وما لا يدخل وما رويتم من خبر
المقدار خاص فيما يدخل تحت الوسق فلا يصلح
بيانا للقدر الذي يجب فيه العشر؛ لأن من شأن
البيان أن يكون شاملا لجميع ما يقتضي البيان
وهذا ليس كذلك على ما بينا فعلم أنه لم يرد
مورد البيان. والثاني أن المراد من الصدقة
الزكاة؛ لأن مطلق اسم الصدقة لا ينصرف إلا إلى
الزكاة المعهودة ونحن به نقول أن ما دون خمسة,
أوسق من طعام, أو تمر للتجارة لا يجب فيه
الزكاة ما لم يبلغ قيمتها مائتي درهم, أو
يحتمل الزكاة فيحمل عليها عملا بالدلائل بقدر
الإمكان, ثم نذكر فروع مذهب أبي يوسف ومحمد في
فصلي الخلاف وما فيه
ج / 2 ص -60-
من
الخلاف بينهما في ذلك والوفاق فنقول عندهما
يجب العشر في العنب؛ لأن المجفف منه يبقى من
سنة إلى سنة وهو الزبيب فيخرص العنب جافا, فإن
بلغ مقدار ما يجيء من الزبيب خمسة, أوسق يجب
في عنبه العشر, أو نصف العشر وإلا فلا شيء
فيه. وروي عن محمد أن العنب إذا كان رقيقا
يصلح للماء ولا يجيء منه الزبيب فلا شيء فيه
وإن كثر؛ لأن الوجوب فيه باعتبار حال الجفاف.
وكذا قال أبو يوسف في سائر الثمار إذا كان
يجيء منها ما يبقى من سنة إلى سنة بالتجفيف
أنه يخرص ذلك جافا فإن بلغ نصابا وجب وإلا فلا
كالتين والإجاص والكمثرى والخوخ ونحو ذلك؛
لأنها إذا جففت تبقى من سنة إلى سنة فكانت
كالزبيب وقال محمد: لا عشر في التين والإجاص
والكمثرى والخوخ والتفاح والمشمش والنبق
والتوت والموز والخروب؛ لأنها إن كان ينتفع
بها بعضها بالتجفيف وبعضها بالتشقيق والتجفيف
فالانتفاع بها بهذا الطريق ليس بغالب ولا يفعل
ذلك عادة ويجب العشر في الجوز واللوز والفستق؛
لأنها تبقى من السنة إلى السنة ويغلب الانتفاع
بالجاف منها فأشبهت الزبيب. وروي عن محمد أن
في البصل العشر؛ لأنه يبقى من سنة إلى السنة
ويدخل في الكيل ولا عشر في الآس والورد
والوسمة؛ لأنها من الرياحين ولا يعم الانتفاع
بها. وأما الحناء فقال أبو يوسف: فيه العشر
وقال محمد: لا عشر فيه؛ لأنه من الرياحين
فأشبه الآس والورد, ولأبي يوسف أنه يدخل تحت
الكيل وينتفع به منفعة عامة بخلاف الآس
والعصفر والكتان إذا بلغ القرطم والحب خمسة,
أوسق وجب فيه العشر؛ لأن المقصود من زراعتها
الحب, والحب يدخل تحت الوسق فيعتبر فيه الأوسق
فإذا بلغ ذلك يجب العشر, ويجب في العصفر
والكتان أيضا على طريق التبع وقالا في بزر
القنب إذا بلغ خمسة أوسق ففيه العشر؛ لأنه
يبقى ويقصد بالزراعة, والانتفاع به عام ولا
شيء في القنب؛ لأنه لحاء الشجر فأشبه لحاء
سائر الأشجار ولا عشر فيه فكذا فيه. وقالا في
حب الصنوبر إذا بلغ الأوسق ففيه العشر؛ لأنه
يقبل الادخار ولا شيء في خشبه كما لا شيء في
خشب سائر الشجر, ويجب في الكرويا والكزبرة
والكمون والخردل لما قلنا ولا يجب في السعتر
والشونيز والحلبة؛ لأنها من جملة الأدوية فلا
يعم الانتفاع بها, وقصب السكر إذا كان مما
يتخذ منه السكر فإذا بلغ ما يخرج منه خمسة
أفراق وجب فيه العشر كذا قال محمد: لأنه يبقى
وينتفع به انتفاعا عاما, ولا شيء في البلوط؛
لأنه لا يعم المنفعة به, ولا عشر في بزر
البطيخ والقثاء والخيار والرطبة وكل بزر لا
يصلح للزراعة بلا خلاف بينهما؛ لأنه لا يقصد
بزراعتها نفسها بل ما يتولد منها وذا لا عشر
فيه عندهما. ومما يتفرع على أصلهما ما إذا
أخرجت الأرض أجناسا مختلفة كالحنطة والشعير
والعدس كل صنف منها لا يبلغ النصاب وهو خمسة
أوسق أنه يعطى كل صنف حكم نفسه, أو يضم البعض
إلى البعض في تكميل النصاب وهو خمسة أوسق روى
محمد عن أبي يوسف أنه لا يضم البعض إلى البعض
بل يعتبر كل جنس بانفراده ولم يرو عنه ما إذا
أخرجت نوعين من جنس وروى الحسن بن زياد وابن
أبي مالك عنه أن كل نوعين لا يجوز بيع أحدهما
بالآخر متفاضلا كالحنطة البيضاء والحمراء,
ونحو ذلك يضم أحدهما إلى الآخر سواء خرجا من
أرض واحدة, أو أراض مختلفة ويكمل به النصاب,
وإن كانا مما يجوز بيع أحدهما بالآخر متفاضلا
كالحنطة والشعير لا يضم, وإن خرجا من أرض
واحدة وتعين كل صنف منها بانفراده ما لم يبلغ
خمسة أوسق لا شيء فيه وهو قول محمد وروى ابن
سماعة عنه أن الغلتين إن كانتا تدركان في وقت
واحد تضم إحداهما إلى الأخرى وإن اختلفت
أجناسهما, وإن كانتا لا تدركان في وقت واحد لا
تضم وجه رواية اعتبار الإدراك أن الحق يجب في
المنفعة وإن كانتا تدركان في مكان واحد كانت
منفعتهما واحدة فلا يعتبر فيه اختلاف جنس
الخارج كعروض التجارة في باب الزكاة. وإذا كان
إدراكهما في, أوقات مختلفة فقد اختلفت
منفعتهما فكانا كالأجناس المختلفة. وجه رواية
اعتبار التفاضل وهو قول محمد أنه لا عبرة
لاختلاف النوع فيما لا يجوز فيه التفاضل إذا
كان الجنس متحدا كالدراهم السود والبيض في باب
الزكاة يضم أحدهما إلى الآخر في تكميل النصاب
وإن كان النوع مختلفا. فأما فيما لا يجري فيه
التفاضل فاختلاف الجنس معتبر في المنع من الضم
كالإبل مع البقر في باب الزكاة وهو رواية محمد
عن أبي يوسف. وقال أبو يوسف: يوسف إذا كان
لرجل أراضي مختلفة في رساتيق مختلفة والعامل
واحد ضم الخارج من بعضها إلى بعض
ج / 2 ص -61-
وكمل
الأوسق به, وإن اختلف العامل لم يكن لأحد
العاملين مطالبة حتى يبلغ ما خرج من الأرض
التي في عمله خمسة أوسق, وقال محمد: إذا اتفق
المالك ضم الخارج بعضه إلى بعض وإن اختلفت
الأرضون والعمال وهذا لا يحقق الخلاف؛ لأن كل
واحد منهما أجاب في غير ما أجاب به الآخر؛ لأن
جواب أبي يوسف في سقوط المطالبة عن المالك ولم
يتعرض لوجوب الحق على المالك فيما بينه وبين
الله تعالى وهو فيما بينه وبين الله تعالى
مخاطب بالأداء لاجتماع النصاب في ملكه وإنه
سقطت المطالبة عنه وجواب محمد في وجوب الحق
ولم يتعرض لمطالبة العامل فلم يتحقق الخلاف
بينهما ومما يتفرع على قولهما الأرض المشتركة
إذا أخرجت خمسة أوسق أنه لا عشر فيها حتى تبلغ
حصة كل واحد منهما خمسة أوسق. وروى الحسن عن
أبي يوسف أن فيها العشر. وجه هذه الرواية أن
المالك ليس بشرط لوجوب العشر بدليل أنه يجب في
الأرض الموقوفة وأرض المكاتب وأرض المأذون
وإنما الشرط كمال النصاب وهو خمسة أوسق وقد
وجد والصحيح هو الأول؛ لأن النصاب عندهما شرط
الوجوب فيعتبر كماله في حق كل واحد منهما كما
في مال الزكاة على ما بينا هذا الذي ذكرنا من
اعتبار الأوسق عندهما فيما يدخل تحت الكيل
وأما ما لا يدخل تحت الكيل كالقطن والزعفران
فقد اختلفا فيما بينهما. قال أبو يوسف: يعتبر
فيه القيمة وهو أن يبلغ قيمة الخارج قيمة خمسة
أوسق من أدنى ما يدخل تحت الوسق من الحبوب,
وقال محمد: يعتبر خمسة أمثال أعلى ما يقدر به
ذلك الشيء فالقطن يعتبر بالأحمال فإذا بلغ
خمسة أحمال يجب وإلا فلا ويعتبر كل حمل
ثلثمائة من فتكون جملته ألفا وخمسمائة من,
والزعفران يعتبر بالأمنان فإذا بلغ خمسة أمنان
يجب وإلا فلا, وكذلك في السكر يعتبر خمسة
أمنان. وجه قول محمد أن التقدير بالوسق في
الموسوقات لكون الوسق أقصى ما يقدر به في بابه
وأقصى ما يقدر به في غير الموسوق ما ذكرنا
فوجب التقدير به ولأبي يوسف أن الأصل هو
اعتبار الوسق؛ لأن النص ورد به غير أنه إن
أمكن اعتباره صورة ومعنى يعتبر وإن لم يمكن
يجب اعتباره معنى وهو قيمة الموسوق. وأما
العسل فقد ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي
عن أبي يوسف أنه اعتبر فيه قيمة خمسة أوسق فإن
بلغ ذلك يجب فيه العشر وإلا فلا بناء على أصله
من اعتبار قيمة الأوسق فيما لا يدخل تحت
الكيل, وما روي عنه أنه يعتبر فيه خمسة أوسق
فإنما أراد به قدر خمسة أوسق؛ لأن العسل لا
يكال. وروي عنه أنه قدر ذلك بعشرة أرطال وروي
أنه اعتبر خمس قرب كل قربة خمسون منا فيكون
جملته مائتين وخمسون منا, ومحمد اعتبر فيه
خمسة أفراق كل فرق ستة وثلاثون رطلا فيكون
ثمانية عشر منا فتكون جملته تسعين منا بناء
على أصله من اعتبار خمسة أمثال أعلى ما يقدر
به كل شيء. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي
أن أبا يوسف اعتبر في نصاب العسل عشرة أرطال,
ومحمد اعتبر خمسة أفراق في رواية وخمس قرب في
رواية وخمسة أمنان في رواية, ثم وجوب العشر في
العسل مذهب أصحابنا رحمهم الله وقال الشافعي:
لا عشر فيه وزعم أن ما روي في وجوب العشر في
العسل لم يثبت. وجه قوله أن سبب الوجوب وهو
الأرض النامية بالخارج لم يوجد؛ لأنه ليس من
نماء الأرض بل هو متولد من حيوان فلم تكن
الأرض نامية بها, ونحن نقول إن لم يثبت عندك
وجوب العشر في العسل فقد ثبت عندنا ألا ترى
إلى ما روي "أن أبا سيارة جاء إلى النبي صلى
الله عليه وسلم فقال: إن لي نحلا, فقال النبي
صلى الله عليه وسلم:
أد عشرها فقال أبو سيارة احمها لي يا رسول الله فحماها له ؟" وروى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده "أن بطنا من فهر كانوا يؤدون إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم من نخل لهم
العشر من كل عشر قرب قربة وكان يحمى لهم
واديين فلما كان عمر رضي الله عنه استعمل على
ما هناك سفيان بن عبد الله الثقفي فأبوا أن
يؤدوا إليه شيئا وقالوا: إنما كان شيئا نؤديه
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكتب ذلك
سفيان إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه عمر رضي
الله عنه إنما النخل ذباب غيث يسوقه الله
تعالى رزقا إلى من يشاء فإن أدوا إليك ما
كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فاحم له واديهم وإلا فخل بين الناس
وبينها فأدوا إليه" وعن أبي هريرة رضي الله
عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل
اليمن أن يؤخذ من العسل العشر" وعن عمر رضي
الله عنه أنه كان يأخذ عن العسل العشر من كل
عشر قرب قربة وكذا روي عن ابن عباس رضي الله
عنهما أنه كان
ج / 2 ص -62-
يفعل
ذلك حين كان واليا بالبصرة وأما قوله ليس من
نماء الأرض فنقول هو ملحق بنمائها لاعتبار
الناس إعداد الأرض لها ولأنه يتولد من أنوار
الشجر فكان كالثمر ثم إنما يجب العشر في العسل
إذا كان في أرض العشر فأما إذا كان في أرض
الخراج فلا شيء فيه لما ذكرنا أن وجوب العشر
فيه لكونه بمنزلة الثمر لتولده من أزهار الشجر
ولا شيء في ثمار أرض الخراج ولأن أرض الخراج
يجب فيها الخراج فلو وجب العشر في العسل
لاجتمع العشر والخراج في أرض واحدة ولا
يجتمعان عندنا, ويجب العشر في قليله وكثيره في
قول أبي حنيفة؛ لأنه ملحق بالنماء ويجري مجرى
الثمار, والنصاب ليس بشرط في ذلك عنده,
وعندهما شرط وقد ذكرنا اختلاف الرواية عنهما
في ذلك وما يوجد في الجبال من العسل والفواكه
فقد روى محمد عن أبي حنيفة أن فيه العشر, وروى
أصحاب الإملاء عن أبي يوسف أنه لا شيء فيه.
وجه قول أبي يوسف أن هذا مباح غير مملوك فلا
يجب فيه العشر كالحطب والحشيش ولأبي حنيفة
عمومات العشر إلا أن ملك الخارج شرط ولما أخذه
فقد ملكه فصار كما لو كان في أرضه. والحول ليس
بشرط لوجوب العشر حتى لو أخرجت الأرض في السنة
مرارا يجب العشر في كل مرة؛ لأن نصوص العشر
مطلقة عن شرط الحول ولأن العشر في الخارج
حقيقة فيتكرر الوجوب بتكرر الخارج. وكذلك خراج
المقاسمة؛ لأنه في الخارج فأما خراج الوظيفة
فلا يجب في السنة إلا مرة واحدة؛ لأن ذلك ليس
في الخارج بل في الذمة عرف ذلك بتوظيف عمر رضي
الله عنه وما وظف في السنة إلا مرة واحدة.
"فصل": وأما بيان مقدار الواجب فالكلام في هذا الفصل في موضعين: أحدهما في
بيان قدر الواجب من العشر, والثاني في بيان
قدر الواجب من الخراج أما الأول فما سقي بماء
السماء, أو سقي سيحا ففيه عشر كامل, وما سقي
بغرب, أو دالية, أو سانية ففيه نصف العشر,
والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"ما سقته السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو دالية, أو سانية ففيه نصف
العشر" وعن
أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"فيما سقته السماء, أو العين, أو كان بعلا
العشر, وما سقي بالرشاء ففيه نصف العشر" ولأن العشر وجب مؤنة الأرض فيختلف الواجب بقلة المؤنة وكثرتها ولو
سقي الزرع في بعض السنة سيحا وفي بعضها بآلة
يعتبر في ذلك الغالب؛ لأن للأكثر حكم الكل كما
في السوم في باب الزكاة على ما مر ولا يحتسب
لصاحب الأرض ما أنفق على الغلة من سقي, أو
عمارة, أو أجر الحافظ, أو أجر العمال, أو نفقة
البقر؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"ما سقته
السماء ففيه العشر وما سقي بغرب, أو دالية, أو
سانية ففيه نصف العشر"
أوجب العشر ونصف العشر مطلقا عن احتساب هذه المؤن ولأن النبي صلى
الله عليه وسلم أوجب الحق على التفاوت لتفاوت
المؤن ولو رفعت المؤن لارتفع التفاوت. وأما
الثاني وهو بيان قدر الواجب من الخراج فالخراج
نوعان خراج وظيفة وخراج مقاسمة أما خراج
الوظيفة فما وظفه عمر رضي الله عنه ففي كل
جريب أرض بيضاء تصلح للزراعة قفيز مما يزرع
فيها ودرهم القفيز صاع والدرهم وزن سبعة,
والجريب أرض طولها ستون ذراعا وعرضها ستون
ذراعا بذراع كسرى يزيد على ذراع العامة بقصبة
وفي جريب الرطبة خمسة دراهم وفي جريب الكرم
عشرة دراهم هكذا وظفه عمر بمحضر من الصحابة
ولم ينكر عليه أحد ومثله يكون إجماعا. وأما
جريب الأرض التي فيها أشجار مثمرة بحيث لا
يمكن زراعتها لم يذكر في ظاهر الرواية. وروي
عن أبي يوسف أنه قال: إذا كانت النخيل ملتفة
جعلت عليها الخراج بقدر ما تطيق ولا أزيد على
جريب الكرم عشرة دراهم وفي جريب الأرض التي
يتخذ فيها الزعفران قدر ما تطيق فينظر إلى
غلتها فإن كانت تبلغ غلة الأرض المزروعة يؤخذ
منها قدر خراج الأرض المزروعة وإن كانت تبلغ
غلة الرطبة يؤخذ منها قدر خراج أرض الرطبة
هكذا؛ لأن مبنى الخراج على الطاقة ألا ترى أن
حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف رضي الله
عنهما لما مسحا سواد العراق بأمر عمر رضي الله
عنه ووضعا على كل جريب يصلح للزراعة قفيزا
ودرهما, وعلى كل جريب يصلح للرطبة خمسة دراهم,
وعلى كل جريب يصلح للكرم عشرة دراهم فقال لهما
عمر: رضي الله عنه لعلكما حملتما ما لا تطيق
فقالا: بل حملنا ما تطيق ولو زدنا لأطاقت؟ فدل
الحديث على أن مبنى
ج / 2 ص -63-
الخراج
على الطاقة فيقدر بها فيما وراء الأشياء
الثلاثة المذكورة في الخبر فيوضع على أرض
الزعفران والبستان في أرض الخراج بقدر ما تطيق
وقالوا: نهاية الطاقة قدر نصف الخارج لا يزاد
عليه, وقالوا فيمن له أرض زعفران فزرع مكانه
الحبوب من غير عذر: إنه يؤخذ منه خراج
الزعفران؛ لأنه قصر حيث لم يزرع الزعفران مع
القدرة عليه فصار كأنه عطل الأرض فلم يزرع
فيها شيئا ولو فعل ذلك يؤخذ منه خراج الزعفران
كذا هذا. وكذا إذا قطع كرمه من غير عذر وزرع
فيه الحبوب أنه يؤخذ منه خراج الكرم لما قلنا,
وإن أخرجت أرض الخراج قدر الخراج لا غير يؤخذ
نصف الخراج وإن أخرجت مثلي الخراج فصاعدا يؤخذ
جميع الخراج الموظف عليها, وإن كانت لا تطيق
قدر خراجها الموضوع عليها ينقض ويؤخذ منها قدر
ما تطيق بلا خلاف. واختلف فيما إذا كانت تطيق
أكثر من الموضوع أنه هل تزاد أم لا؟ قال أبو
يوسف: لا تزاد, وقال محمد: تزاد. وجه قول محمد
أن مبنى الخراج على الطاقة على ما بينا فتجوز
الزيادة على القدر الموظف إذا كانت تطيقه
ولأبي يوسف أن معنى الطاقة إنما يعتبر فيها
وراء المنصوص والمجمع عليه, والقدر الموضوع من
الخراج الموظف منصوص ومجمع عليه على ما بينا
فلا تجوز الزيادة عليه بالقياس. وأما خراج
المقاسمة فهو أن يفتح الإمام بلدة فيمن على
أهلها ويجعل على أراضيهم خراج مقاسمة وهو أن
يؤخذ منهم نصف الخارج, أو ثلثه, أو ربعه وإنه
جائز لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
هكذا فعل لما فتح خيبر ويكون حكم هذا الخراج
حكم العشر ويكون ذلك في الخارج كالعشر إلا أنه
يوضع موضع الخراج؛ لأنه خراج في الحقيقة والله
أعلم.
"فصل": وأما صفة الواجب فالواجب جزء من الخارج؛ لأنه عشر الخارج, أو نصف
عشره وذلك جزؤه إلا أنه واجب من حيث إنه مال
لا من حيث إنه جزء عندنا حتى يجوز أداء قيمته
عندنا وعند الشافعي الواجب عين الجزء ولا يجوز
غيره وهي مسألة دفع القيم وقد مرت فيما تقدم.
"فصل": وأما وقت الوجوب فوقت الوجوب وقت خروج الزرع وظهور الثمر عند أبي
حنيفة, وعند أبي يوسف وقت الإدراك, وعند محمد
وقت التنقية والجذاذ فإنه قال: إذا كان الثمر
قد حصد في الحظيرة وذري البر وكان خمسة أوسق
ثم ذهب بعضه كان في الذي بقي منه العشر فهذا
يدل على أن وقت الوجوب عنده هو وقت التصفية في
الزرع ووقت الجذاذ في الثمر, هو يقول: تلك
الحال هي حال تناهي عظم الحب والثمر
واستحكامها فكانت هي حال الوجوب, وأبو يوسف
يحتج بقوله تعالى
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} ويوم حصاده هو يوم إدراكه فكان هو وقت الوجوب. ولأبي حنيفة قوله
تعالى
{أَنْفِقُوا
مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا
أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} أمر الله تعالى بالإنفاق مما أخرجه من الأرض فدل أن الوجوب متعلق
بالخروج ولأنه كما خرج حصل مشتركا كالمال
المشترك لقوله تعالى
{وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ} جعل الخارج للكل فيدخل فيه الأغنياء والفقراء وإذا عرفت وقت الوجوب
على اختلافهم فيه ففائدة هذا الاختلاف على قول
أبي حنيفة لا تظهر إلا في الاستهلاك فما كان
منه بعد الوجوب يضمن عشره وما كان قبل الوجوب
لا يضمن. وأما عند أبي يوسف ومحمد فتظهر ثمرة
الاختلاف في الاستهلاك وفي الهلاك أيضا في حق
تكميل النصاب بالهالك فما هلك بعد الوجوب
يعتبر الهالك مع الباقي في تكميل النصاب وما
هلك قبل الوجوب لا يعتبر. وبيان هذه الجملة
إذا أتلف إنسان الزرع أو الثمر قبل الإدراك
حتى ضمن أخذ صاحب المال من المتلف ضمان المتلف
وأدى عشره, وإن أتلف البعض دون البعض أدى قدر
عشر المتلف من ضمانه وما بقي فعشره في الخارج,
وإن أتلفه صاحبه, أو أكله يضمن عشره ويكون
دينا في ذمته, وإن أتلف البعض دون البعض قدر
عشر ما أتلف ويكون دينا في ذمته وعشر الباقي
يكون في الخارج, وهذا على أصل أبي حنيفة؛ لأن
الإتلاف حصل بعد الوجوب لثبوت الوجوب بالخروج
والظهور فكان الحق مضمونا عليه كما لو أتلف
مال الزكاة بعد حولان الحول. وأما على قولهما
فلا يضمن عشر المتلف؛ لأن الإتلاف حصل قبل وقت
وجوب الحق ولو هلك بنفسه فلا عشر في الهالك
بلا خلاف سواء هلك كله, أو بعضه؛ لأن العشر لا
يضمن
ج / 2 ص -64-
بالهلاك سواء كان قبل الوجوب, أو بعده ويكون
عشر الباقي فيه قل, أو كثر في قول أبي حنيفة؛
لأن النصاب عنده ليس بشرط. وكذلك عندهما إن
كان الباقي نصابا وهو خمسة أوسق وإن لم يكن
نصابا لا يعتبر قدر الهالك في تكميل النصاب في
الباقي عندهما بل إن بلغ الباقي بنفسه نصابا
يكون فيه العشر وإلا فلا هذا إذا هلك قبل
الإدراك, أو استهلك فأما بعد الإدراك والتنقية
والجذاذ, أو بعد الإدراك قبل التنقية والجذاذ,
فإن هلك سقط الواجب بلا خلاف بين أصحابنا
كالزكاة تسقط إذا هلك النصاب, وعند الشافعي لا
تسقط, وقد ذكرنا المسألة وإن هلك بعضه سقط
الواجب بقدره وبقي عشر الباقي فيه, قليلا كان,
أو كثيرا عند أبي حنيفة؛ لأن النصاب ليس بشرط
عنده, وعندهما يكمل نصاب الباقي بالهالك,
ويحتسب به في تمام الخمسة الأوسق. وروي عن أبي
يوسف أنه لا يعتبر الهالك في تمام الأوسق بل
يعتبر التمام في الباقي, فإن كان في نفسه
نصابا يكون فيه العشر وإلا فلا, وإن استهلك:
فإن استهلكه المالك ضمن عشره ويكون دينا في
ذمته, وإن استهلك بعضه فقدر عشر المستهلك يكون
دينا في ذمته, وعشر الباقي في الخارج, وإن
استهلكه غير المالك أخذ الضمان منه وأدى عشره؛
لأنه هلك إلى خلف وهو الضمان فكان قائما معنى
وإن استهلك بعضه أخذ ضمانه وأدى عشر القدر
المستهلك وعشر الباقي منه لما قلنا, وإن أكل
صاحب المال من الثمر, أو أطعم غيره يضمن عشره
ويكون دينا في ذمته, وعشر ما بقي يكون فيه.
وهذا على قول أبي حنيفة رحمه الله وروي عن أبي
يوسف أن ما أكل, أو أطعم بالمعروف لا يضمن
عشره لكن يعتد به في تكميل النصاب وهو الأوسق
فإذا بلغ الكل نصابا أدى عشر ما بقي, احتج أبو
يوسف بما روي عن سهل بن أبي خيثمة عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا خرصتم فجذوا
ودعوا الثلث فإن لم تدعوا الثلث فالربع" وروي
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان بعث أبا
خيثمة خارصا فجاء رجل فقال: يا رسول الله, إن
أبا خيثمة زاد علي, فقال له رسول الله صلى
الله عليه وسلم:
إن ابن
عمك يزعم أنك قد زدت عليه, فقال: يا رسول
الله, لقد تركت له قدر عرية أهله وما يطعم
المساكين وما يصيب الريح, فقال صلى الله عليه
وسلم فقد زادك ابن عمك وأنصفك" وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
"خففوا في الخرص فإن في المال العرية والوصية" والمراد من العرية الصدقة أمر بالتخفيف في الخرص وبين المعنى وهو
أن في المال عرية ووصية فلو ضمن عشر ما تصدق,
أو أكل هو وأهله لم يتحقق التخفيف ولأنه لو
ضمن ذلك لامتنع من الأكل خوفا من العشر وفيه
حرج إلا أنه يعتد بذلك في تكميل النصاب؛ لأن
نفي وجوب الضمان عنه تخفيفا عليه نظرا له وفي
عدم الاعتداد به في تمام الأوسق ضرر به
وبالفقراء وهذا لا يجوز ولأبي حنيفة النصوص
المقتضية لوجوب العشر في كل خارج من غير فصل
بين المأكول والباقي. فإن قيل أليس الله تعالى
قال
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} أمر بإيتاء الحق يوم الحصاد فلا يجب الحق فيما أخذ منه قبل الحصاد
يدل عليه قرينة الآية وهي قوله تعالى
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} وهذا يدل على أن قدر المأكول أفضل إذ لو لم يكن أفضل لم يكن لقوله
{كُلُوا مِنْ
ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}
فائدة؛ لأن كل أحد يعلم أن الثمرة تؤكل ولا
تصلح لغير الأكل فالجواب أن الآية لازمة له؛
لأن الحصاد هو القطع فيقتضي أن كل ما قطع وأخذ
منه شيء لزمه إخراج عشره من غير فصل بين ما
إذا كان المقطوع مأكولا أوباقيا على أنا نقول
بموجب الآية أنه يجب إيتاء حقه يوم حصاده لكن
ما حقه يوم حصاده أداء العشر عن الباقي فحسب
أم عن الباقي والمأكول؟ والآية لا تتعرض لشيء
من ذلك فكان تمسكا بالمسكوت وإنه لا يصح وأما
قوله لا بد وأن يكون لقوله تعالى
{كُلُوا
مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ}
فائدة, فنقول يحتمل أن يكون له فائدة سوى ما
قلتم وهو إباحة الانتفاع ردا لاعتقاد الكفرة
تحريم الانتفاع بهذه الأشياء بجعلها للأصنام
فرد ذلك عليهم بقوله عز وجل
{كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ} أي انتفعوا بها ولا تضيعوها بالصرف إلى الأصنام ولذلك قال
{وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ}. وأما الأحاديث فقد قيل أنها وردت قبل حديث العشر ونصف العشر فصارت
منسوخة به والله أعلم.
"فصل": وأما بيان ركن هذا النوع وشرائط الركن, أما ركنه فهو التمليك؛
لقوله تعالى
{وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ
ج / 2 ص -65-
حَصَادِهِ} والإيتاء هو التمليك لقوله تعالى
{وَآتُوا الزَّكَاةَ} فلا تتأدى بطعام الإباحة وبما ليس بتمليك رأسا من بناء المساجد
ونحو ذلك مما ذكرنا في النوع الأول وبما ليس
بتمليك من كل وجه وقد مر بيان ذلك كله. وأما
شرائط الركن فإننا ذكرناها في النوع الأول مما
يرجع بعضها إلى المؤدي وبعضها إلى المؤدى
وبعضها إلى المؤدى إليه فلا معنى للإعادة
والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان ما يسقط بعد الوجوب فمنها هلاك الخارج من غير صنعه؛ لأن
الواجب في الخارج فإذا هلك يهلك بما فيه كهلاك
نصاب الزكاة بعد الحول وهذا عندنا, وعند
الشافعي لا يسقط وهو على الاختلاف في الزكاة
وقد مرت المسألة, وإن هلك البعض يسقط الواجب
بقدره ويؤدى عشر الباقي قل الباقي, أو كثر في
قول أبي حنيفة, وعندهما يعتبر قدر الهالك مع
الباقي في تكميل قدر النصاب إن بلغ نصابا يؤدى
وإلا فلا, وفي رواية عن أبي يوسف يعتبر كمال
النصاب في الباقي بنفسه من غير ضم قدر الهالك
إليه على ما مر وإن استهلك, فإن استهلكه غير
المالك أخذ الضمان منه وأدى عشره وإن استهلك
بعضه أدى عشر القدر المستهلك من الضمان وإن
استهلكه المالك, أو استهلك البعض بأن أكله ضمن
عشر الهالك وصار دينا في ذمته في قول أبي
حنيفة خلافا لأبي يوسف وقد ذكرنا المسألة.
ومنها الردة عندنا؛ لأن في العشر معنى العبادة
والكافر ليس من أهل العبادة, وعند الشافعي لا
يسقط كالزكاة ومنها موت المالك من غير وصية
إذا كان استهلك الخارج عندنا خلافا للشافعي
كما في الزكاة وإن كان الخارج قائما بعينه
يؤدى العشر منه في ظاهر الرواية, وفي رواية عن
أبي يوسف يسقط بخلاف الزكاة وقد مضى الفرق
فيما تقدم والله تعالى أعلم.
"فصل": هذا الذي ذكرنا حكم الخارج من الأرض وأما حكم المستخرج من الأرض
فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في. بيان ما
فيه الخمس من المستخرج من الأرض وما لا خمس
فيه, والثاني في بيان من يجوز صرف الخمس إليه
ومن له ولاية أخذ الخمس. أما الأول فالمستخرج
من الأرض نوعان: أحدهما يسمى كنزا وهو المال
الذي دفنه بنو آدم في الأرض, والثاني يسمى
معدنا وهو المال الذي خلقه الله تعالى في
الأرض يوم خلق الأرض, والركاز اسم يقع على كل
واحد منهما إلا أن حقيقته للمعدن واستعماله
للكنز مجازا. أما الكنز فلا يخلو إما أن وجد
في دار الإسلام, أو دار الحرب, وكل ذلك لا
يخلو إما أن يكون في أرض مملوكة, أو في أرض
غير مملوكة, ولا يخلو إما أن يكون به علامة
الإسلام كالمصحف والدراهم المكتوب عليها لا
إله إلا الله محمد رسول الله, أو غير ذلك من
علامات الإسلام, أو علامات الجاهلية من
الدراهم المنقوش عليها الصنم, أو الصليب ونحو
ذلك, أو لا علامة به أصلا فإن وجد في دار
الإسلام في أرض غير مملوكة كالجبال والمفاوز
وغيرها فإن كان به علامة الإسلام فهو بمنزلة
اللقطة يصنع به ما يصنع باللقطة يعرف ذلك في
كتاب اللقطة؛ لأنه إذا كان به علامة الإسلام
كان مال المسلمين ومال المسلمين لا يغنم إلا
أنه مال لا يعرف مالكه فيكون بمنزلة اللقطة,
وإن كان به علامة الجاهلية ففيه الخمس وأربعة
أخماسه للواجد بلا خلاف كالمعدن على ما بين,
وإن لم يكن به علامة الإسلام ولا علامة
الجاهلية فقد قيل إن في زماننا يكون حكمه حكم
اللقطة أيضا ولا يكون له حكم الغنيمة؛ لأن عهد
الإسلام قد طال فالظاهر أنه لا يكون من مال
الكفرة بل من مال المسلمين لم يعرف مالكه
فيعطى له حكم اللقطة, وقيل حكمه حكم الغنيمة؛
لأن الكنوز غالبا بوضع الكفرة وإن كان به
علامة الجاهلية يجب فيه الخمس؛ لما روي أنه
"سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكنز
فقال:
فيه وفي
الركاز الخمس"
ولأنه في معنى الغنيمة؛ لأنه استولى عليه على طريق القهر وهو على
حكم ملك الكفرة فكان غنيمة فيجب فيه الخمس
وأربعة أخماسه للواجد؛ لأنه أخذه بقوة نفسه
وسواء كان الواجد حرا, أو عبدا مسلما, أو ذميا
كبيرا, أو صغيرا؛ لأن ما روينا من الحديث لا
يفصل بين واجد وواجد ولأن هذا المال بمنزلة
الغنيمة. ألا ترى أنه وجب فيه الخمس؟ والعبد
والصبي والذي من أهل الغنيمة إلا إذا كان ذلك
بإذن الإمام وقاطعه على شيء فله أن يفي بشرطه
لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"المسلمون عند شروطهم" ولأنه إذا قاطعه على شيء
ج / 2 ص -66-
فقد
جعل المشروط أجرة لعمله فيستحقه بهذا الطريق,
وإن وجد في أرض مملوكة يجب فيه الخمس بلا خلاف
لما روينا من الحديث ولأنه مال الكفرة استولى
عليه على طريق القهر فيخمس. واختلف في الأربعة
الأخماس قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: هي
لصاحب الخطة إن كان حيا وإن كان ميتا فلورثته
إن عرفوا, وإن كان لا يعرف صاحب الخطة ولا
ورثته تكون لأقصى مالك للأرض, أو لورثته, وقال
أبو يوسف: أربعة أخماسه للواجد. وجه قوله إن
هذا غنيمة ما وصلت إليها يد الغانمين وإنما
وصلت إليه يد الواجد لا غير فيكون غنيمة يوجب
الخمس, واختصاصه بإثبات اليد عليه يوجب
اختصاصه به وهو تفسير الملك كما لو وجده في
أرض غير مملوكة, ولهما أن صاحب الخطة ملك
الأرض بما فيها؛ لأنه إنما ملكها بتمليك
الإمام والإمام إنما ملك الأرض بما وجد منه
ومن سائر الغانمين من الاستيلاء والاستيلاء
كما ورد على ظاهر الأرض ورد على ما فيها فملك
ما فيها وبالبيع لا يزول ما فيها لأن البيع
يوجب زوال ما ورد عليه البيع, والبيع ورد على
ظاهر الأرض لا على ما فيها وإذا لم يكن ما
فيها تبعا لها فبقي على ملك صاحب الخطة وكان
أربعة أخماسه له وصار هذا كمن اصطاد سمكة كانت
ابتلعت لؤلؤة, أو اصطاد طائرا كان قد ابتلع
جوهرة أنه يملك الكل, ولو باع السمكة, أو
الطائر لا تزول اللؤلؤة والجوهرة عن ملكه
لورود العقد على السمكة والطير دون اللؤلؤة
والجوهرة كذا هذا فإن قيل: كيف يملك صاحب
الخطة ما في الأرض بتمليك الإمام إياه الأرض؟
والإمام لو فعل ذلك لكان جورا في القسمة
والإمام لا يملك الجور في القسمة فثبت أن
الإمام ما ملكه إلا الأرض فبقي الكنز غير
مملوك لصاحب الخطة فالجواب عنه من وجهين:
أحدهما أن الإمام ما ملكه إلا رقبة الأرض على
ما ذكرتم لكنه لما ملك الأرض بتمليك الإمام
فقد تفرد بالاستيلاء على ما في الأرض وقد خرج
الجواب عن وجوب الخمس؛ لأنه ما ملك ما في
الأرض بتمليك الإمام حتى يسقط الخمس وإنما
ملكه بتفرده بالاستيلاء عليه فيجب عليه الخمس
كما لو وجده في أرض غير مملوكة, والثاني أن
مراعاة المساواة في هذه الجهة في القسمة مما
يتعذر فيسقط اعتبارها دفعا للحرج هذا إذا وجد
الكنز في دار الإسلام. فأما إذا وجده في دار
الحرب فإن وجده في أرض ليست بمملوكة لأحد فهو
للواجد ولا خمس فيه؛ لأنه مال أخذه لا على
طريق القهر والغلبة لانعدام غلبة أهل الإسلام
على ذلك الموضع فلم يكن غنيمة فلا خمس فيه
ويكون الكل له؛ لأنه مباح استولى عليه بنفسه
فيملكه كالحطب والحشيش, وسواء دخل بأمان, أو
بغير أمان؛ لأن حكم الأمان يظهر في المملوك لا
في المباح وإن وجده في أرض مملوكة لبعضهم, فإن
كان دخل بأمان رده إلى صاحب الأرض؛ لأنه إذا
دخل بأمان لا يحل له أن يأخذ شيئا من أموالهم
بغير رضاهم لما في ذلك من الغدر والخيانة في
الأمانة فإن لم يرده إلى صاحب الأرض يصير ملكا
له لكن لا يطيب له لتمكن خبث الخيانة فيه
فسبيله التصدق به, فلو باعه يجوز بيعه لقيام
الملك لكن لا يطيب للمشتري بخلاف بيع المشترى
شراء فاسدا والفرق بينهما يذكر في كتاب البيوع
إن شاء الله تعالى وإن كان دخل بغير أمان حل
له ولا خمس فيه. أما الحل فلأن له أن يأخذ ما
ظفر به من أموالهم من غير رضاهم. وأما عدم
وجوب الخمس فلأنه غير مأخوذ على سبيل القهر
والغلبة فلم يكن غنيمة فلا يجب فيه الخمس حتى
لو دخل جماعة ممتنعون في دار الحرب فظفروا
بشيء من كنوزهم يجب فيه الخمس ولكونه غنيمة
لحصول الأخذ على طريق القهر والغلبة وإن وجده
في أرض مملوكة لأحد, أو في دار نفسه ففيه
الخمس بلا خلاف بخلاف المعدن عند أبي حنيفة؛
لأن الكنز ليس من أجزاء الأرض ولهذا لم تكن
أربعة أخماسه لمالك الرقبة بالإجماع فلو وجد
فيه المؤنة وهو الخمس لم يصر الجزء مخالفا
للكل بخلاف المعدن على ما نذكر. وأما أربعة
أخماسه فقد اختلف أصحابنا في ذلك عند أبي
حنيفة ومحمد هي للمختط له, وعند أبي يوسف
للواجد؛ لأنه مباح سبقت يده إليه, ولهما أن
هذا مال مباح سبقت إليه يد الخصوص وهي يد
المختط يصير ملكا له كالمعدن إلا أن المعدن
انتقل بالبيع إلى المشتري؛ لأنه من أجزاء
الأرض والكنز لم ينتقل إليه؛ لأنه ليس من
أجزاء المبيع والتمليك فإن استولى عليه
بالاستيلاء فيبقى على ملكه كمن اصطاد سمكة في
بطنها درة ملك السمكة والدرة لثبوت اليد
عليهما فلو باع السمكة بعد ذلك لم تدخل الدرة
في البيع كذا ههنا والمختط له من
ج / 2 ص -67-
خصه
الإمام بتمليك البقعة منه فإن لم يعرف المختط
له يصرف إلى أقصى مالك له يعرف في الإسلام
وكذا ذكر الشيخ الإمام الزاهد السرخسي رحمه
الله هذا إذا وجد الكنز في دار الإسلام. وأما
المعدن فالخارج منه في الأصل نوعان: مستجسد
ومائع, والمستجسد منه نوعان أيضا: نوع يذوب
بالإذابة وينطبع بالحلية كالذهب والفضة
والحديد والرصاص والنحاس ونحو ذلك, ونوع لا
يذوب بالإذابة كالياقوت والبلور والعقيق
والزمرد والفيروزج والكحل والمغرة والزرنيخ
والجص والنورة ونحوها, والمائع نوع آخر كالنفط
والقار ونحو ذلك وكل ذلك لا يخلو إما أن وجده
في دار الإسلام, أو في دار الحرب في أرض
مملوكة, أو غير مملوكة فإن وجد في دار الإسلام
في أرض غير مملوكة فالموجود مما يذوب بالإذابة
وينطبع بالحلية يجب فيه الخمس سواء كان ذلك من
الذهب, والفضة, أو غيرهما مما يذوب بالإذابة
وسواء كان قليلا, أو كثيرا فأربعة أخماسه
للواجد كائنا من كان إلا الحربي المستأمن فإنه
يسترد منه الكل إلا إذا قاطعه الإمام فإن له
أن يفي بشرطه وهذا قول أصحابنا رحمهم الله
وقال الشافعي: في معادن الذهب, والفضة ربع
العشر كما في الزكاة حتى شرط فيه النصاب فلم
يوجب فيما دون المائتين, وشرط بعض أصحابه
الحول أيضا. وأما غير الذهب, والفضة فلا خمس
فيه. وأما عندنا فالواجب خمس الغنيمة في الكل
لا يشترط في شيء منه شرائط الزكاة ويجوز دفعه
إلى الوالدين, والمولودين الفقراء كما في
الغنائم. ويجوز للواجد أن يصرف إلى نفسه إذا
كان محتاجا ولا تغنيه الأربعة الأخماس احتج
الشافعي بما روي أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم
"بلال بن الحارث المعادن القليلة وكان يأخذ منها ربع العشر" ولأنها من نماء الأرض وريعها فكان ينبغي أن يجب فيها العشر إلا أنه
اكتفى بربع العشر لكثرة المؤنة في استخراجها
ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
أنه قال
"وفي الركاز الخمس" وهو
اسم للمعدن حقيقة وإنما يطلق على الكنز مجازا
لدلائل: أحدها أنه مأخوذ من الركز وهو الإثبات
وما في المعدن هو المثبت في الأرض لا الكنز؛
لأنه وضع مجاورا للأرض, والثاني أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم سئل عما يوجد من الكنز
العادي, فقال: فيه
"وفي الركاز الخمس" عطف الركاز على الكنز, والشيء لا يعطف على نفسه هو الأصل فدل أن
المراد منه المعدن, والثالث ما روي أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما قال "المعدن جبار,
والقليب جبار, وفي الركاز الخمس قيل: وما
الركاز يا رسول الله؟ فقال:
هو المال الذي
خلقه الله تعالى في الأرض يوم خلق السموات,
والأرض"
فدل على أنه اسم للمعدن حقيقة فقد, أوجب النبي
صلى الله عليه وسلم الخمس في المعدن من غير
فصل بين الذهب, والفضة وغيرهما فدل أن الواجب
هو الخمس في الكل؛ ولأن المعادن كانت في أيدي
الكفرة وقد زالت أيديهم ولم تثبت يد المسلمين
على هذه المواضع؛ لأنهم لم يقصدوا الاستيلاء
على الجبال, والمفاوز فبقي ما تحتها على حكم
ملك الكفرة وقد استولى عليه على طريق القهر
بقوة نفسه فيجب فيه الخمس ويكون أربعة أخماسه
له كما في الكنز ولا حجة له في حديث بلال بن
الحارث؛ لأنه يحتمل أنه إنما لم يأخذ منه ما
زاد على ربع العشر لما علم من حاجته وذلك جائز
عندنا على ما نذكره فيحمل عليه عملا
بالدليلين. وأما ما لا يذوب بالإذابة فلا خمس
فيه ويكون كله للواجد؛ لأن الزرنيخ, والجص,
والنورة ونحوها من أجزاء الأرض فكان كالتراب,
والياقوت, والفصوص من جنس الأحجار إلا أنها
أحجار مضيئة ولا خمس في الحجر. وأما المائع
كالقير, والنفط فلا شيء فيه ويكون للواجد؛
لأنه ماء وأنه مما لا يقصد بالاستيلاء فلم يكن
في يد الكفار حتى يكون من الغنائم فلا يجب فيه
الخمس. وأما الزئبق ففيه الخمس في قول أبي
حنيفة الآخر وكان يقول أولا: لا خمس فيه وهو
قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال: فيه الخمس
فإن أبا يوسف قال سألت أبا حنيفة عن الزئبق
فقال: لا خمس فيه فلم أزل به حتى قال: فيه
الخمس وكنت أظن أنه مثل الرصاص, والحديد ثم
بلغني بعد ذلك أنه ليس كذلك وهو بمنزلة القير,
والنفط. وجه قول أبي حنيفة الأول أنه شيء لا
ينطبع بنفسه فأشبه الماء. وجه قوله الآخر وهو
قول محمد إنه ينطبع مع غيره إن كان لا ينطبع
بنفسه فأشبه الفضة؛ لأنها لا تنطبع بنفسها لكن
لما كانت تنطبع مع شيء آخر يخالطها من نحاس,
أو آنك وجب فيها الخمس كذا هذا إذا وجد المعدن
في دار الإسلام في أرض غير مملوكة فأما إذا
وجده في أرض مملوكة, أو دار, أو منزل, أو
حانوت فلا خلاف في أن الأربعة
ج / 2 ص -68-
الأخماس لصاحب الملك وحده, أو غيره؛ لأن
المعدن من توابع الأرض؛ لأنه من أجزائها خلق
فيها ومنها. ألا ترى أنه يدخل في البيع من غير
تسمية؟ فإذا ملكها المختط له بتمليك الإمام
ملكها بجميع أجزائها فتنتقل عنه إلى غيره
بالبيع بتوابعها أيضا بخلاف الكنز على ما مر
واختلف في وجوب الخمس قال أبو حنيفة لا خمس
فيه في الدار وفي الأرض عنه روايتان ذكر في
كتاب الزكاة أنه لا خمس فيه وذكر في الصرف أنه
يجب فيه الخمس وكذا ذكر في الجامع الصغير وقال
أبو يوسف ومحمد: يجب فيه الخمس في الأرض,
والدار جميعا إذا كان الموجود مما يذوب
بالإذابة واحتجا بقول النبي صلى الله عليه
وسلم
"وفي الركاز الخمس" من غير فصل, والركاز اسم للمعدن حقيقة لما ذكرنا ولأن الإمام ملك
الأرض من ملكه متعلقا بهذا الخمس؛ لأنه حق
الفقراء فلا يملك إبطال حقهم. وجه قول أبي
حنيفة إن المعدن جزء من أجزاء الأرض فيملك
بملك الأرض, والإمام ملكه مطلقا عن الحق
فيملكه المختط له كذلك وللإمام هذه الولاية.
ألا ترى أنه لو جعل الكل للغانمين الأربعة
الأخماس مع الخمس إذا علم أن حاجتهم لا تندفع
بالأربعة الأخماس جاز؟ وإذا ملكه المختط له
مطلقا عن حق متعلق به فينتقل إلى غيره كذلك.
وجه الفرق بين الدار, والأرض على الرواية
الأخرى أن تمليك الإمام الدار جعل مطلقا عن
الحقوق. ألا ترى أنه لا يجب فيها العشر ولا
الخراج؟ بخلاف الأرض فإن تمليكها وجد متعلقا
بها العشر, أو الخراج فجاز أن يجب الخمس,
والحديث محمول على ما إذا وجده في أرض غير
مملوكة توفيقا بين الدليلين, هذا إذا وجده في
دار الإسلام فأما إذا وجده في دار الحرب فإن
وجده في أرض غير مملوكة فهو له ولا خمس فيه
لما مر, وإن وجده في ملك بعضهم فإن دخل بأمان
رد على صاحب الملك لما بينا, وإن دخل بغير
أمان فهو له ولا خمس فيه كما في الكنز على ما
بينا هذا الذي ذكرنا في حكم المستخرج من
الأرض. فأما المستخرج من البحر كاللؤلؤ
والمرجان والعنبر وكل حلية تستخرج من البحر
فلا شيء فيه في قول أبي حنيفة ومحمد وهو
للواجد, وعند أبي يوسف فيه الخمس واحتج بما
روي أن عامل عمر رضي الله عنه كتب إليه في
لؤلؤة وجدت, ما فيها قال: فيها الخمس وروي عنه
أيضا أنه أخذ الخمس من العنبر ولأن العشر يجب
في المستخرج من المعدن فكذا في المستخرج من
البحر؛ لأن المعنى بجمعهما وهو كون ذلك مالا
منتزعا من أيدي الكفار بالقهر إذ الدنيا كلها
برها وبحرها كانت تحت أيديهم انتزعناها من
أيديهم فكان ذلك غنيمة فيجب فيه الخمس كسائر
الغنائم, ولهما ما روي عن ابن عباس رضي الله
عنه أنه سئل عن العنبر فقال: هو شيء دسره
البحر لا خمس فيه, ولأن يد الكفرة لم تثبت على
باطن البحار التي يستخرج منها اللؤلؤ, والعنبر
فلم يكن المستخرج منها مأخوذا من أيدي الكفرة
على سبيل القهر فلا يكون غنيمة فلا يكون فيه
الخمس وعلى هذا قال أصحابنا: إنه إن استخرج من
البحر ذهبا أو فضة فلا شيء فيه لما قلنا. وقيل
في العنبر: إنه مائع نبع فأشبه القير, وقيل:
إنه روث فأشبه سائر الأرواث, وما روي عن عمر
في اللؤلؤ, والعنبر محمول على لؤلؤ وعنبر وجد
في خزائن ملوك الكفرة فكان مالا مغنوما فأوجب
فيه الخمس. وأما الثاني وهو بيان من يجوز صرف
الخمس إليه, ومن له ولاية الأخذ, وبيان مصارف
الخمس موضعه كتاب السير ويجوز صرفه إلى
الوالدين, والمولودين إذا كانوا فقراء بخلاف
الزكاة, والعشر ويجوز أن يصرفه إلى نفسه إذا
كان محتاجا لا تغنيه الأربعة الأخماس بأن كان
دون المائتين فأما إذا بلغ مائتين لا يجوز له
تناول الخمس, وما روي عن علي رضي الله عنه أنه
ترك الخمس للواجد محمول على ما إذا كان
محتاجا. ولو تصدق بالخمس بنفسه على الفقراء
ولم يدفعها إلى السلطان جاز ولا يؤخذ منه
ثانيا بخلاف زكاة السوائم, والعشر والله أعلم.
"فصل": وأما ما يوضع في بيت المال من الأموال فأربعة أنواع: أحدها زكاة
السوائم, والعشور وما أخذه العشار من تجار
المسلمين إذا مروا عليهم, والثاني خمس
الغنائم, والمعادن, والركاز, والثالث خراج
الأراضي وجزية الرءوس وما صولح عليه بنو نجران
من الحلل وبنو تغلب من الصدقة المضاعفة وما
أخذه العشار من تجار أهل الذمة والمستأمنين من
أهل الحرب, والرابع ما أخذ من تركة الميت الذي
مات ولم يترك وارثا أصلا, أو ترك زوجا, أو
زوجة. وأما مصارف هذه الأنواع, فأما مصرف
النوع الأول
ج / 2 ص -69-
فقد
ذكرناه. وأما النوع الثاني وهو خمس الغنائم
والمعادن والركاز فنذكر مصرفه في كتاب السير,
وأما مصرف النوع الثالث من الخراج وأخواته
فعمارة الدين, وإصلاح مصالح المسلمين وهو رزق
الولاة, والقضاة وأهل الفتوى من العلماء,
والمقاتلة, ورصد الطرق, وعمارة المساجد,
والرباطات, والقناطر, والجسور, وسد الثغور,
وإصلاح الأنهار التي لا ملك لأحد فيها. وأما
النوع الرابع فيصرف إلى دواء الفقراء, والمرضى
وعلاجهم, وإلى أكفان الموتى الذين لا مال لهم,
وإلى نفقة اللقيط وعقل جنايته, وإلى نفقة من
هو عاجز عن الكسب وليس له من تجب عليه نفقته
ونحو ذلك وعلى الإمام صرف هذه الحقوق إلى
مستحقيها والله أعلم.
"فصل": وأما الزكاة الواجبة وهي زكاة الرأس فهي صدقة الفطر, والكلام فيها
يقع في مواضع في. بيان وجوبها, وفي بيان كيفية
الوجوب, وفي بيان من تجب عليه, وفي بيان من
تجب عنه, وفي بيان جنس الواجب وقدره وصفته,
وفي بيان وقت الوجوب, وفي بيان وقت الأداء,
وفي بيان ركنها, وفي بيان شرائط الركن, وهي
شرائط جواز الأداء وفي بيان مكان الأداء وفي
بيان ما يسقطها بعد الوجوب. أما الأول فالدليل
على وجوبها ما روي عن ثعلبة بن صعير العذري
أنه قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وقال: في خطبته
"أدوا عن كل حر
وعبد صغير وكبير نصف صاع من بر, أو صاعا من
تمر, أو صاعا من شعير" أمر بالأداء ومطلق الأمر للوجوب وإنما سمينا هذا النوع واجبا لا
فرضا؛ لأن الفرض اسم لما ثبت لزومه بدليل
مقطوع به, ولزوم هذا النوع من الزكاة لم يثبت
بدليل مقطوع به بل بدليل فيه شبهة العدم وهو
خبر الواحد وما روي في الباب عن عبد الله بن
عمر رضي الله عنه أنه قال "فرض رسول الله صلى
الله عليه وسلم صدقة الفطر على الذكر,
والأنثى, والحر, والعبد صاعا من تمر, أو صاعا
من شعير" فالمراد من قوله فرض أي قدر أداء
الفطر, والفرض في اللغة التقدير قال الله
تعالى
{فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي قدرتم, ويقال: فرض القاضي النفقة بمعنى قدرها فكان في الحديث
تقدير الواجب بالمذكور لا الإيجاب قطعا والله
تعالى أعلم.
"فصل": وأما كيفية وجوبها فقد اختلف أصحابنا فيه, قال بعضهم: إنما يجب
وجوبا مضيقا في يوم الفطر عينا, وقال بعضهم:
يجب وجوبا موسعا في العمر كالزكاة, والنذور,
والكفارات ونحوها وهذا هو الصحيح؛ لأن الآمر
بأدائها مطلق عن الوقت فلا يتضيق الوجوب إلا
في آخر العمر كالأمر بالزكاة وسائر الأوامر
المطلقة عن الوقت.
ج / 2 ص -70-
لهما
مال ويخرجها الولي من مالهما وقال محمد وزفر:
لا فطرة عليهما حتى لو أدى الأب أو الوصي من
مالهما لا يضمنان عند أبي حنيفة وأبي يوسف,
وعند محمد وزفر يضمنان. وجه قولهما إنها
عبادة, والعبادات لا تجب على الصبيان,
والمجانين كالصوم, والصلاة, والزكاة ولأبي
حنيفة وأبي يوسف أنها ليست بعبادة محضة بل
فيها معنى المؤنة فأشبهت العشر, وكذلك وجود
الصوم في شهر رمضان ليس بشرط لوجوب الفطرة حتى
أن من أفطر لكبر, أو مرض, أو سفر يلزمه صدقة
الفطر؛ لأن الأمر بأدائها مطلق عن هذا الشرط
ولأنها تجب على من لا يوجد منه الصوم وهو
الصغير.
"فصل": وأما بيان من تجب عليه فيشتمل على بيان سبب وجوب الفطرة على
الإنسان عن غيره, وبيان شرط الوجوب أما شرطه
فهو أن يكون من عليه الواجب عن غيره من أهل
الوجوب على نفسه. وأما السبب فرأس يلزمه مؤنته
ويلي عليه ولاية كاملة لأن الرأس الذي يمونه
ويلي عليه ولاية كاملة تكون في معنى رأسه في
الذب, والنصرة فكما يجب عليه زكاة رأسه يجب
عليه زكاة ما هو في معنى رأسه فيجب عليه أن
يخرج صدقة الفطر عن مماليكه الذين هم لغير
التجارة لوجود السبب وهو لزوم المؤنة وكمال
الولاية مع وجود شرطه وهو ما ذكرنا. وقال صلى
الله عليه وسلم
"أدوا عن كل حر وعبد" وسواء كانوا مسلمين, أو كفارا عندنا, وقال الشافعي لا تؤدى إلا عن
مسلم. وجه قوله إن الوجوب على العبد وإنما
المولى يتحمل عنه؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم أمرنا بالأداء عن العبد, والأداء عنه
ينبئ عن التحمل فثبت أن الوجوب على العبد فلا
بد من أهلية الوجوب في حقه, والكافر ليس من
أهل الوجوب فلم يجب عليه ولا يتحمل عنه
المولى؛ لأن التحمل بعد الوجوب, فأما المسلم
فمن أهل الوجوب فتجب عليه الزكاة إلا أنه ليس
من أهل الأداء لعدم الملك فيتحمل عنه المولى,
ولنا أنه وجد سبب وجوب الأداء عنه وشرطه وهو
ما ذكرنا فيجب الأداء عنه, وقوله: "الوجوب على
العبد وإنما المولى يتحمل عنه أداء الواجب
فاسد؛ لأن الوجوب على العبد يستدعي أهلية
الوجوب في حقه وهو ليس من أهل الوجوب؛ لأن
الوجوب هو وجوب الأداء, والأداء بالملك ولا
ملك له فلا وجوب عليه فلا يتصور التحمل, وقوله
المأمور به هو الأداء عنه بالنص مسلم لكن لم
قلتم إن الأداء عنه يقتضي أن يكون بطريق
التحمل بل هو أمر بالأداء بسببه وهو رأسه الذي
يمونه ويلي عليه ولاية كاملة فكان في الحديث
بيان سببية وجوب الأداء عمن يؤدي عنه لا
الأداء بطريق التحمل فتعتبر أهلية وجوب الأداء
في حق المولى وقد وجدت روي عن ابن عباس رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"أدوا صدقة
الفطر عن كل حر وعبد صغير, أو كبير يهودي, أو
نصراني, أو مجوسي نصف صاع من بر, أو صاعا من
تمر, أو شعير" وهذا نص في
الباب, ويخرج عن مدبريه وأمهات, أولاده لعموم
قوله صلى الله عليه وسلم
"أدوا عن كل حر وعبد" وهؤلاء عبيد لقيام الرق, والملك فيهم. ألا ترى أن له أن يستخدمهم
ويستمتع بالمدبرة وأم الولد؟ ولا يجوز ذلك في
غير الملك, ولا يجب عليه أن يخرج عن مكاتبه
ولا عن رقيق مكاتبه؛ لأنه لا يلزمه نفقتهم وفي
ولايته عليهم قصور ولا يجب على المكاتب أن
يخرج فطرته عن نفسه ولا عن رقيقه عند عامة
العلماء وقال مالك: يجب عليه؛ لأن المكاتب
مالك؛ لأنه يملك اكتسابه فكان في اكتسابه
كالحر فتجب عليه كما تجب على الحر ولنا أنه لا
ملك له حقيقة؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم على
لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والعبد
مملوك فلا يكون مالكا ضرورة. وأما معتق البعض
فهو بمنزلة المكاتب عند أبي حنيفة وعندهما هو
حر عليه دين وإن كان غنيا بأن كان له مال فضلا
عن دينه مائتي درهم فصاعدا فإنه يخرج صدقة
الفطر عن نفسه وعن رقيقه وإلا فلا. ويخرج عن
عبده المؤاجر, الوديعة, والعارية, وعبده
المديون المستغرق بالدين, وعبده الذي في رقبته
جناية لعموم النص ولوجود سبب الوجوب وشرطه وهو
ما ذكرنا ويخرج عن عبد الرهن لما ذكرنا وهذا
إذا كان للراهن وفاء فإن لم يكن له وفاء فلا
صدقة عليه عنه؛ لأنه فقير بخلاف عبده المديون
دينا مستغرقا؛ لأن الصدقة تجب على المولى ولا
دين على المولى. وأما عبد عبده المأذون فإن
كان على المولى دين فلا يخرج في قول أبي
حنيفة؛ لأن المولى لا يملك كسب عبده المأذون
المديون وعندهما يخرج؛ لأنه يملكه وإن لم يكن
عليه دين فلا يخرج بلا خلاف بين أصحابنا؛ لأنه
عبد التجارة ولا فطرة في عبد التجارة عندنا,
ولا يخرج عن عبده الآبق ولا عن المغصوب
ج / 2 ص -71-
المجحود ولا عن عبده المأسور؛ لأنه خارج عن
يده وتصرفه فأشبه المكاتب قال أبو يوسف: ليس
في رقيق الأخماس ورقيق القوام الذين يقومون
على مرافق العوام مثل زمزم وما أشبهها, ورقيق
الفيء صدقة الفطر لعدم الولاية لأحد عليهم إذ
هم ليس لهم مالك معين وكذلك السبي ورقيق
الغنيمة, والأسرى قبل القسمة على أصله لما
قلنا. وأما العبد الموصى برقبته لإنسان
وبخدمته لآخر فصدقة فطره على صاحب الرقبة
لقوله صلى الله عليه وسلم
"أدوا عن كل حر وعبد" والعبد اسم للذات المملوكة وأنه لصاحب الرقبة, وحق صاحب الخدمة
متعلق بالمنافع فكان كالمستعير, والمستأجر ولا
يخرج عن عبيد التجارة عندنا, وعند الشافعي
يخرج. وجه قوله إن وجوب الزكاة لا ينافي وجوب
صدقة الفطر؛ لأن سبب وجوب كل واحد منهما مختلف
ولنا أن الجمع بين زكاة المال وبين زكاة الرأس
يكون ثنى في الصدقة وقال النبي صلى الله عليه
وسلم
"لا ثنى في الصدقة"
والعبد المشترك بينه وبين غيره ليس على أحدهما
صدقة فطره عندنا, وقال الشافعي: تجب الفطرة
عليهما بناء على أصله الذي ذكرنا أن الوجوب
على العبد وإنما المولى يتحمل عنه بالملك
فيتقدر بقدر الملك. وأما عندنا فالوجوب على
المولى بسبب الوجوب وهو رأس يلزمه مؤنته ويلي
عليه ولاية كاملة وليس لكل واحد منهما ولاية
كاملة. ألا ترى أنه لا يملك كل واحد منهما
تزويجه فلم يوجد السبب؟ وإن كان عدد من العبيد
بين رجلين فلا فطرة عليهما في قول أبي حنيفة
وأبي يوسف, وقال محمد: إن كان بحال لو قسموا
أصاب كل واحد منهما عبد كامل تجب على كل واحد
منهما صدقة فطره بناء على أن الرقيق لا يقسم
قسمة جمع عند أبي حنيفة فلا يملك كل واحد
منهما عبدا كاملا, وعند محمد يقسم الرقيق قسمة
جمع فيملك كل واحد منهما عبدا تاما من حيث
المعنى كأنه انفرد به فيجب على كل واحد منهما
كالزكاة في السوائم المشتركة, وأبو يوسف وافق
أبا حنيفة في هذا وإن كان يرى قسمة الرقيق
لنقصان الولاية إذ ليس لكل واحد منهما ولاية
كاملة وكمال الولاية بعض أوصاف السبب, ولو كان
بين رجلين جارية فجاءت بولد فادعياه معا حتى
ثبت نسب الولد منهما وصارت الجارية أم ولدهما
فلا فطرة على واحد منهما عن الجارية بلا خلاف
بين أصحابنا؛ لأنها جارية مشتركة بينهما, وأما
الولد فقال أبو يوسف: يجب على كل واحد منهما
صدقة فطره تامة, وقال محمد: تجب عليهما صدقة
واحدة. وجه قوله إن الذي وجب عليه واحد,
والشخص الواحد لا تجب عنه إلا فطرة واحدة
كسائر الأشخاص, ولأبي يوسف أن الولد ابن تام
في حق واحد منهما بدليل أنه يرث من كل واحد
منهما ميراث ابن كامل فيجب على كل واحد منهما
عنه صدقة تامة. ولو اشترى عبدا بشرط الخيار
للبائع أو للمشتري أو لهما جميعا أو شرط
أحدهما الخيار لغيره فمر يوم الفطر في مدة
الخيار فصدقة الفطر موقوفة إن تم البيع بمضي
مدة الخيار, أو بالإجازة فعلى المشتري؛ لأنه
ملكه من وقت البيع وإن فسخ فعلى البائع؛ لأنه
تبين أن المبيع لم يزل عن ملكه وعند زفر إن
كان الخيار للبائع, أو لهما جميعا, أو شرط
البائع الخيار لغيره فصدقة الفطر على البائع
تم البيع, أو انفسخ, وإن كان الخيار للمشتري
فعلى المشتري تم البيع, أو انفسخ, ولو اشتراه
بعقد ثان فمر يوم الفطر قبل القبض فصدقة فطره
على المشتري إن قبضه؛ لأن الملك ثبت للمشتري
بنفس الشراء وقد تقرر بالقبض وإن مات قبل
القبض فلا يجب على واحد منهما أما جانب البائع
فظاهر؛ لأن العبد قد خرج عن ملكه بالبيع. ووقت
الوجوب هو وقت طلوع الفجر من يوم الفطر كان
الملك للمشتري. وأما جانب المشتري فلأن ملكه
قد انفسخ قبل تمامه وجعل كأنه لم يكن من
الأصل. ولو رده المشتري على البائع بخيار
رؤية, أو عيب إن رده قبل القبض فعلى البائع؛
لأن الرد قبل القبض فسخ من الأصل وإن رده بعد
القبض فعلى المشتري؛ لأنه بمنزلة بيع جديد وإن
اشتراه شراء فاسدا فمر يوم الفطر فإن كان مر
وهو عند البائع فعلى البائع؛ لأن البيع الفاسد
لا يفيد الملك للمشتري قبل القبض فمر عليه يوم
الفطر وهو على ملك البائع فكان صدقة فطره
عليه. وإن كان في يد المشتري وقت طلوع الفجر
فصدقة فطره موقوفة لاحتمال الرد فإن رده فعلى
البائع؛ لأن الرد في العقد الفاسد فسخ من
الأصل وإن تصرف فيه المشتري حتى وجبت عليه
قيمته فعلى المشتري؛ لأنه تقرر ملكه عليه.
ويخرج عن, أولاده الصغار وإذا كانوا فقراء
لقوله صلى الله عليه وسلم
"أدوا عن كل صغير وكبير" ولأن نفقتهم واجبة على الأب
ج / 2 ص -72-
وولاية
الأب عليهم تامة, وهل يخرج الجد عن ابن ابنه
الفقير الصغير حال عدم الأب أو حال كونه
فقيرا؟ ذكر محمد في الأصل أنه لا يخرج, وروى
الحسن عن أبي حنيفة أنه يخرج. وجه رواية الحسن
أن الجد عند عدم الأب قائم مقام الأب فكانت
ولايته حال عدم الأب كولاية الأب. وجه رواية
الأصل أن ولاية الجد ليست بولاية تامة مطلقة
بل هي قاصرة. ألا ترى أنها لا تثبت إلا بشرط
عدم الأب؟ فأشبهت ولاية الوصي, والوصي لا يجب
عليه الإخراج فكذا الجد. وأما الكبار العقلاء
فلا يخرج عنهم عندنا وإن كانوا في عياله بأن
كانوا فقراء زمنى, وقال الشافعي: عليه فطرتهم
واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"أدوا عن كل حر
وعبد صغير, أو كبير ممن تمونون" فإذا
كانوا في عياله يمونهم فعليه فطرتهم. ولنا أن
أحد شطري السبب وهو الولاية منعدم, والحديث
محمول على جواز الأداء عنهم لا على الوجوب.
ولا يلزمه أن يخرج عن أبويه وإن كانا في عياله
لعدم الولاية عليهما, ولا يخرج عن الحمل
لانعدام كمال الولاية ولأنه لا يعلم حياته ولا
يلزم الزوج صدقة فطر زوجته عندنا, وقال
الشافعي: يلزمه؛ لأنها تجب مؤنة الزوج وولايته
فوجد سبب الوجوب. "ولنا" أن شرط تمام السبب
كمال الولاية وولاية الزوج عليها ليست بكاملة
فلم يتم السبب وليس في شيء من الحيوان سوى
الرقيق صدقة الفطر إما؛ لأن وجوبها عرف
بالتوقيف وأنه لم يرد فيما سوى الرقيق من
الحيوانات, أو؛ لأنها وجبت طهرة للصائم عن
الرفث ومعنى الطهرة لا يتقرر في سائر
الحيوانات فلا تجب عنها والله أعلم.
"فصل": وأما بيان جنس الواجب وقدره وصفته أما جنسه وقدره فهو نصف صاع من
حنطة, أو صاع من شعير, أو صاع من تمر وهذا
عندنا. وقال الشافعي: من الحنطة صاع. واحتج
بما روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه
قال: كنت أؤدي على عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم صاعا من بر, ولنا ما روينا من حديث
ثعلبة بن صغير العذري أنه قال خطبنا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فقال "أدوا عن كل حر وعبد نصف صاع من بر, أو صاعا من تمر, أو صاعا من شعير" وذكر إمام
الهدى الشيخ أبو منصور الماتريدي أن عشرة من
الصحابة رضي الله عنهم منهم أبو بكر وعمر
وعثمان وعلي رضي الله عنهم رووا عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم في صدقة الفطر نصف صاع من
بر واحتج بروايتهم. وأما حديث أبي سعيد فليس
فيه دليل الوجوب بل هو حكاية عن فعله فيدل على
الجواز وبه نقول فيكون الواجب نصف صاع وما زاد
يكون تطوعا على أن المروي من لفظ أبي سعيد رضي
الله عنه أنه قال "كنت أخرج على عهد رسول الله
صلى الله عليه وسلم صاعا من طعام, صاعا من
تمر, صاعا من شعير" وليس فيه ذكر البر فيجعل
قوله صاعا من تمر صاعا من شعير تفسيرا لقوله
"صاعا من طعام" ودقيق الحنطة وسويقها كالحنطة,
ودقيق الشعير وسويقه كالشعير عندنا, وعند
الشافعي لا يجزئ بناء على أصله من اعتبار
المنصوص عليه, وعندنا المنصوص عليه معلول
بكونه مالا متقوما على الإطلاق لما نذكر وذكر
المنصوص عليه للتيسير؛ لأنهم كانوا يتبايعون
بذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
على أن الدقيق منصوص عليه لما روي عن أبي
هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال
"أدوا قبل الخروج زكاة الفطر فإن على كل مسلم مدا من قمح, أو دقيق" وروي عن
أبي يوسف أنه قال: الدقيق أحب إلي من الحنطة,
والدراهم أحب إلي من الدقيق, والحنطة؛ لأن ذلك
أقرب إلى دفع حاجة الفقير واختلفت الرواية عن
أبي حنيفة في الزبيب ذكر في الجامع الصغير نصف
صاع وروى الحسن وأسد بن عمرو عن أبي حنيفة
صاعا من زبيب. وهو قول أبي يوسف ومحمد وجه هذه
الرواية ما روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال
كنا نخرج زكاة الفطر على عهد رسول الله صلى
الله عليه وسلم صاعا من تمر, أو صاعا من زبيب
وكان طعامنا الشعير ولأن الزبيب لا يكون مثل
الحنطة في التغذي بل يكون أنقص منها كالشعير,
والتمر فكان التقدير فيه بالصاع كما في
الشعير, والتمر. وجه رواية الجامع أن قيمة
الزبيب تزيد على قيمة الحنطة في العادة ثم
اكتفي من الحنطة بنصف صاع فمن الزبيب أولى.
ويمكن التوفيق بين القولين بأن يجعل الواجب
فيه بطريق القيمة فكانت قيمته في عصر أبي
حنيفة مثل قيمة الحنطة وفي عصرهما كانت قيمته
مثل قيمة الشعير, والتمر وعلى هذا أيضا يحمل
اختلاف الروايتين عن أبي حنيفة. وأما الأقط
ج / 2 ص -73-
فتعتبر
فيه القيمة لا يجزئ إلا باعتبار القيمة, وقال
مالك: يجوز أن يخرج صاعا من أقط وهذا غير
سديد؛ لأنه غير منصوص عليه من وجه يوثق به
وجواز ما ليس بمنصوص عليه لا يكون إلا باعتبار
القيمة كسائر الأعيان التي لم يقع التنصيص
عليها من النبي صلى الله عليه وسلم وقال
الشافعي: لا أحب أن يخرج الأقط فإن أخرج صاعا
من أقط لم يتبين لي أن عليه الإعادة, والصاع
ثمانية أرطال بالعراقي عند أبي حنيفة ومحمد,
وعند أبي يوسف خمسة أرطال وثلث رطل بالعراقي
وهو قول الشافعي. وجه قوله إن صاع المدينة
خمسة أرطال وثلث رطل ونقلوا ذلك عن رسول الله
صلى الله عليه وسلم خلفا عن سلف ولهما ما روي
عن أنس رضي الله عنه أنه قال "كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم يتوضأ بالمد, والمد رطلان
ويغتسل بالصاع, والصاع ثمانية أرطال" وهذا نص
ولأن هذا صاع عمر رضي الله عنه. ونقل أهل
المدينة لم يصح؛ لأن مالكا من فقهائهم يقول:
صاع المدينة ثبت بتحري عبد الملك بن مروان فلم
يصح النقل وقد ثبت أن صاع عمر رضي الله عنه
ثمانية أرطال فالعمل بصاع عمر أولى من العمل
بصاع عبد الملك, ثم المعتبر أن يكون ثمانية
أرطال وزنا وكيلا وروى الحسن عن أبي حنيفة
وزنا وروي عن محمد كيلا حتى لو وزن وأدى جاز
عند أبي حنيفة وعند محمد لا يجوز قال الطحاوي:
الصاع ثمانية أرطال فيما يستوي كيله ووزنه وهو
العدس, والماش, والزبيب, وإذا كان الصاع يسع
ثمانية أرطال من العدس, والماش فهو الصاع الذي
يكال به الشعير, والتمر. وجه ما ذكره الطحاوي
أن من الأشياء بما لا يختلف كيله ووزنه
كالعدس, والماش وما سواهما يختلف منها ما يكون
وزنه أكثر من كيله كالشعير ومنها ما يكون كيله
أكثر من وزنه كالملح فيجب تقدير المكاييل بما
لا يختلف وزنه وكيله كالعدس, والماش فإذا كان
المكيال يسع ثمانية أرطال من ذلك فهو الصاع
الذي يكال به الشعير, والتمر. وجه قول محمد إن
النص ورد باسم الصاع وأنه مكيال لا يختلف وزن
ما يدخل فيه خفة وثقلا فوجب اعتبار الكيل
المنصوص عليه. وجه قول أبي حنيفة إن الناس إذا
اختلفوا في صاع يقدرونه بالوزن فدل أن المعتبر
هو الوزن وأما صفة الواجب فهو أن وجوب المنصوص
عليه من حيث إنه مال متقوم على الإطلاق لا من
حيث إنه عين فيجوز أن يعطي عن جميع ذلك القيمة
دراهم, أو دنانير, أو فلوسا, أو عروضا, أو ما
شاء وهذا عندنا. وقال الشافعي: لا يجوز إخراج
القيمة وهو على الاختلاف في الزكاة. وجه قوله
إن النص ورد بوجوب أشياء مخصوصة, وفي تجويز
القيمة يعتبر حكم النص وهذا لا يجوز ولنا أن
الواجب في الحقيقة إغناء الفقير لقوله صلى
الله عليه وسلم
"أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم"
والإغناء يحصل بالقيمة بل أتم وأوفر؛ لأنها
أقرب إلى دفع الحاجة وبه تبين أن النص معلول
بالإغناء وأنه ليس في تجويز القيمة يعتبر حكم
النص في الحقيقة. والله الموفق. ولا يجوز أداء
المنصوص عليه بعضه عن بعض باعتبار القيمة سواء
كان الذي أدى عنه من جنسه, أو من خلاف جنسه
بعد أن كان منصوصا عليه, فكما لا يجوز إخراج
الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة بأن أدى نصف
صاع من حنطة جيدة عن صاع من حنطة وسط لا يجوز
إخراج غير الحنطة عن الحنطة باعتبار القيمة
بأن أدى نصف صاع من تمر تبلغ قيمته قيمة نصف
صاع من الحنطة عن الحنطة بل يقع عن نفسه وعليه
تكميل الباقي وإنما كان كذلك؛ لأن القيمة لا
تعتبر في المنصوص عليه وإنما تعتبر في غيره
وهذا يؤيد قول من يقول من أهل الأصول إن الحكم
في المنصوص عليه يثبت بعين النص لا بمعنى النص
وإنما يعتبر المعنى لإثبات الحكم في غير
المنصوص عليه وهو مذهب مشايخ العراق وأما
التخريج على قول من يقول إن الحكم في المنصوص
عليه يثبت بالمعنى أيضا وهو قول مشايخنا
بسمرقند وأما في الجنس فظاهر؛ لأن بعض الجنس
المنصوص عليه إنما يقوم مقام كله باعتبار
القيمة وهي الجودة, والجودة في أموال الربا لا
قيمة لها شرعا عند مقابلتها بجنسها لقول النبي
صلى الله عليه وسلم
"جيدها ورديئها سواء" أسقط اعتبار الجودة, , والساقط شرعا ملحق بالساقط حقيقة. وأما في
خلاف الجنس فوجه التخريج أن الواجب في ذمته في
صدقة الفطر عند هجوم وقت الوجوب أحد شيئين إما
عين المنصوص عليه وإما القيمة ومن عليه
بالخيار إن شاء أخرج العين وإن شاء أخرج
القيمة ولأيهما اختار تبين أنه هو الواجب من
الأصل فإذا أدى بعض عين المنصوص عليه تعين
واجبا
ج / 2 ص -74-
من
الأصل فيلزمه تكميله وهذا التخريج في صدقة
الفطر صحيح؛ لأن الواجب ههنا في الذمة. ألا
ترى أنه لا يسقط بهلاك النصاب بخلاف الزكاة
فإن الواجب هناك في النصاب؛ لأنه ربع العشر
وهو جزء من النصاب حتى يسقط بهلاك النصاب
لفوات محل الوجوب.
"فصل": وأما وقت وجوب صدقة الفطر فقد اختلف فيه, قال أصحابنا: هو وقت طلوع
الفجر الثاني من يوم الفطر, وقال الشافعي: هو
وقت غروب الشمس من آخر يوم من رمضان حتى لو
ملك عبدا, أو ولد له ولد, أو كان كافرا فأسلم,
أو كان فقيرا فاستغنى إن كان ذلك قبل طلوع
الشمس تجب عليه الفطرة, وإن كان بعده لا تجب
عليه وكذا من مات قبل طلوع الفجر لم تجب فطرته
وإن مات بعده وجبت, وعند الشافعي إن كان ذلك
قبل غروب الشمس تجب عليه وإن كان بعده لا تجب
وكذا إن مات قبله لم تجب وإن مات بعده وجبت.
وجه قوله إن سبب وجوب هذه الصدقة هو الفطر؛
لأنها تضاف إليه, والإضافة تدل على السببية
كإضافة الصلوات إلى, أوقاتها وإضافة الصوم إلى
الشهر ونحو ذلك, وكما غربت الشمس من آخر يوم
من رمضان جاء وقت الفطر فوجبت الصدقة, ولنا ما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"صومكم يوم تصومون وفطركم يوم تفطرون"
أي وقت فطركم يوم تفطرون خص وقت الفطر بيوم
الفطر حيث أضافه إلى اليوم, والإضافة للاختصاص
فيقتضي اختصاص الوقت بالفطر يظهر باليوم وإلا
فالليالي كلها في حق الفطر سواء فلا يظهر
الاختصاص وبه تبين أن المراد من قوله صدقة
الفطر أي صدقة يوم الفطر فكانت الصدقة مضافة
إلى يوم الفطر فكان سببا لوجوبها. ولو عجل
الصدقة على يوم الفطر لم يذكر في ظاهر الرواية
وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يجوز التعجيل سنة
وسنتين وعن خلف بن أيوب أنه يجوز تعجيلها إذا
دخل رمضان ولا يجوز قبله, وذكر الكرخي في
مختصره أنه يجوز التعجيل بيوم, أو يومين. وقال
الحسن بن زياد: لا يجوز تعجيلها أصلا. وجه
قوله إن وقت وجوب هذا الحق هو يوم الفطر فكان
التعجيل أداء الواجب قبل وجوبه وإنه ممتنع
كتعجيل الأضحية قبل يوم النحر. وجه قول خلف
هذه فطرة عن الصوم فلا يجوز تقديمها على وقت
الصوم, وما ذكره الكرخي من اليوم, أو اليومين
فقد قيل إنه ما أراد به الشرط فإن أراد به
الشرط فوجهه أن وجوبها لإغناء الفقير في يوم
الفطر وهذا المقصود يحصل بالتعجيل بيوم, أو
يومين؛ لأن الظاهر أن المتعجل يبقى إلى يوم
الفطر فيحصل الإغناء يوم الفطر وما زاد على
ذلك لا يبقى فلا يحصل المقصود, والصحيح أنه
يجوز التعجيل مطلقا وذكر السنة, والسنتين, في
رواية الحسن ليس على التقدير بل هو بيان
لاستكثار المدة أي يجوز وإن كثرت المدة كما في
قوله تعالى
{إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ
لَهُمْ}
ووجهه أن الوجوب إن لم يثبت فقد وجد سبب
الوجوب وهو رأس يمونه ويلي عليه, والتعجيل بعد
وجود السبب جائز كتعجيل الزكاة, والعشور
وكفارة القتل والله أعلم.
"فصل": وأما وقت أدائها فجميع العمر عند عامة أصحابنا ولا تسقط بالتأخير
عن يوم الفطر, وقال الحسن بن زياد: وقت أدائها
يوم الفطر من أوله إلى آخره وإذا لم يؤدها حتى
مضى اليوم سقطت. وجه قول الحسن إن هذا حق
معروف بيوم الفطر فيختص أداؤه به كالأضحية.
وجه قول العامة إن الأمر بأدائها مطلق عن
الوقت فيجب في مطلق الوقت غير عين وإنما يتعين
بتعيينه فعلا, أو بآخر العمر كالأمر بالزكاة,
والعشر, والكفارات وغير ذلك وفي أي وقت أدى
كان مؤديا لا قاضيا كما في سائر الواجبات
الموسعة, غير أن المستحب أن يخرج قبل الخروج
إلى المصلى؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم
كذا كان يفعل ولقوله صلى الله عليه وسلم
"أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم" فإذا أخرج قبل الخروج إلى المصلى استغنى المسكين عن السؤال في يومه
ذلك فيصلي فارغ القلب مطمئن النفس. |