بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 2 ص -75-         "كتاب الصوم"
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان أنواع الصيام, وصفة كل نوع, وفي بيان شرائطها, وفي بيان أركانها, ويتضمن بيان ما يفسدها وفي بيان حكمها إذا فسدت, وفي بيان حكم الصوم المؤقت إذا فات عن وقته, وفي بيان ما يسن وما يستحب للصائم وما يكره له أن يفعله, أما الأول: فالصوم في القسمة الأولى وينقسم إلى: لغوي, وشرعي, أما اللغوي: فهو الإمساك المطلق, وهو الإمساك عن أي شيء كان فيسمى الممسك عن الكلام وهو الصامت صائما, قال الله تعالى {إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْماً} أي صمتا ويسمى الفرس الممسك عن العلف صائما قال الشاعر:

خيل صيام وخيل غير صائمة                   تحت العجاج وأخرى تعلك اللجما

أي: ممسكة عن العلف, وغير ممسكة. وأما الشرعي: فهو الإمساك عن أشياء مخصوصة وهي: الأكل, والشرب, والجماع, بشرائط مخصوصة نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى ثم الشرعي ينقسم إلى: فرض, وواجب, وتطوع, والفرض ينقسم إلى: عين, ودين, فالعين: ما له وقت معين, إما بتعيين الله تعالى كصوم رمضان, وصوم التطوع خارج رمضان, لأن خارج رمضان متعين للنفل شرعا, وإما بتعيين العبد كالصوم المنذور به في وقت بعينه, والدليل على فرضية صوم شهر رمضان: الكتاب, والسنة, والإجماع, والمعقول, أما الكتاب: فقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} وقوله {كُتِبَ عَلَيْكُمُ} أي: فرض, وقوله تعالى {فمن شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وأما السنة: فقول النبي صلى الله عليه وسلم "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وأن محمدا رسول الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان, وحج البيت من استطاع إليه سبيلا" وقوله صلى الله عليه وسلم عام حجة الوداع: "أيها الناس اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم وصوموا شهركم وحجوا بيت ربكم وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم" وأما الإجماع: فإن الأمة أجمعت على فرضية شهر رمضان, لا يجحدها إلا كافر. وأما المعقول فمن وجوه أحدها: أن الصوم وسيلة إلى شكر النعمة إذ هو كف النفس عن الأكل, والشرب, والجماع, وإنها

"فصل": وأما مكان الأداء وهو الموضع الذي يستحب فيه إخراج الفطرة روي عن محمد أنه يؤدي زكاة المال حيث المال ويؤدي صدقة الفطر عن نفسه وعبيده حيث هو وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع وقال يؤدي صدقة الفطر عن نفسه حيث هو وعن عبيده حيث هم حكى الحاكم رجوعه وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف وأما زكاة المال فحيث المال في الروايات كلها ويكره إخراجها إلى أهل غير ذلك الموضع إلا رواية عن أبي حنيفة أنه لا بأس أن يخرجها إلى قرابته من أهل الحاجة ويبعثها إليهم. وجه قول أبي يوسف أن صدقة الفطر أحد نوعي الزكاة ثم زكاة المال تؤدى حيث المال فكذا زكاة الرأس ووجه الفرق لمحمد واضح وهو أن صدقة الفطر تتعلق بذمة المؤدي لا بماله بدليل أنه لو هلك ماله لا تسقط الصدقة. وأما زكاة المال فإنها تتعلق بالمال. ألا ترى أنه لو هلك النصاب تسقط؟ فإذا تعلقت الصدقة بذمة المؤدي اعتبر مكان المؤدي ولما تعلقت الزكاة بالمال اعتبر مكان المال. وروي عن أبي يوسف في الصدقة أنه يؤدى عن العبد الحي حيث هو وعن الميت حيث المولى؛ لأن الوجوب في العبد الحي عنه فيعتبر مكانه وفي الميت لا فيعتبر مكان المولى.

"فصل": وأما بيان ما يسقطها بعد الوجوب فما يسقط زكاة المال يسقطها إلا هلاك المال فإنها لا تسقط به بخلاف زكاة المال, والفرق أن صدقة الفطر تتعلق بالذمة وذمته قائمة بعد هلاك المال فكان الواجب قائما, والزكاة تتعلق بالمال فتسقط بهلاكه والله أعلم.

 

ج / 2 ص -76-         من أجل النعم وأعلاها, والامتناع عنها زمانا معتبرا يعرف قدرها, إذ النعم مجهولة فإذا فقدت عرفت, فيحمله ذلك على قضاء حقها بالشكر, وشكر النعم فرض عقلا, وشرعا, وإليه أشار الرب تعالى في قوله في آية الصيام {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ}, والثاني: أنه وسيلة إلى التقوى لأنه إذا انقادت نفسه للامتناع عن الحلال طمعا في مرضات الله تعالى, وخوفا من أليم عقابه فأولى أن تنقاد للامتناع عن الحرام, فكان الصوم سببا للاتقاء عن محارم الله تعالى, وإنه فرض وإليه وقعت الإشارة بقوله تعالى في آخر آية الصوم {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}, والثالث: أن في الصوم قهر الطبع, وكسر الشهوة, لأن النفس إذا شبعت تمنت الشهوات, وإذا جاعت امتنعت عما تهوى, ولذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من خشي منكم الباءة فليصم فإن الصوم له وجاء" فكان الصوم ذريعة إلى الامتناع عن المعاصي وإنه فرض. وأما صوم الدين: فما ليس له وقت معين, كصوم قضاء رمضان, وصوم كفارة القتل, والظهار, واليمين, والإفطار, وصوم المتعة, وصوم فدية الحلق, وصوم جزاء الصيد, وصوم النذر المطلق عن الوقت, وصوم اليمين بأن قال والله لأصومن شهرا, ثم بعض هذه الصيامات المفروضة من العين, والدين متتابع وبعضها غير متتابع, بل صاحبها فيه بالخيار إن شاء تابع, وإن شاء فرق, أما المتتابع: فصوم رمضان, وصوم كفارة القتل, والظهار, والإفطار, وصوم كفارة اليمين عندنا, أما صوم كفارة القتل, والظهار: فلأن التتابع منصوص عليه, قال الله تعالى في كفارة القتل: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} وقال عز وجل في كفارة الظهار: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا}. وأما صوم كفارة اليمين: فقد قرأ ابن مسعود رضي الله عنه "فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام متتابعات". وعند الشافعي: التتابع فيه ليس بشرط, وموضع المسألة كتاب الكفارات, وقال صلى الله عليه وسلم في كفارة الإفطار بالجماع في حديث الأعرابي: صم شهرين متتابعين. وأما صوم شهر رمضان: فلأن الله تعالى أمر بصوم الشهر بقوله عز وجل {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}, والشهر متتابع لتتابع أيامه, فيكون صومه متتابعا ضرورة, وكذلك الصوم المنذور به في وقت بعينه, بأن قال لله علي أن أصوم شهر رجب, يكون متتابعا لما ذكرنا في صوم شهر رمضان. وأما غير المتتابع: فصوم قضاء رمضان, وصوم المتعة, وصوم كفارة الحلق, وصوم جزاء الصيد, وصوم النذر المطلق, وصوم اليمين, لأن الصوم في هذه المواضع ذكر مطلقا عن صفة التتابع, قال الله تعالى في قضاء رمضان: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي: فأفطر فليصم عدة من أيام أخر, وقال عز وجل في صوم المتعة: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} وقال عز وجل في كفارة الحلق: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وقال سبحانه وتعالى في جزاء الصيد: {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ} ذكر الله تعالى الصيام في هذه الأبواب مطلقا عن شرط التتابع. وكذا الناذر, والحالف في النذر المطلق, واليمين المطلقة, ذكر الصوم مطلقا عن شرط التتابع, وقال بعضهم في صوم قضاء رمضان: إنه يشترط فيه التتابع, لا يجوز إلا متتابعا, واحتجوا بقراءة أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قرأ الآية "فعدة من أيام أخر متتابعات" فيزاد على القراءة المعروفة وصف التتابع بقراءته كما زيد وصف التتابع على القراءة المعروفة في صوم كفارة اليمين بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولأن القضاء يكون على حسب الأداء, والأداء وجب متتابعا فكذا القضاء. "ولنا" ما روي عن جماعة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من نحو علي, وعبد الله بن عباس, وأبي سعيد الخدري وأبي هريرة, وعائشة وغيرهم رضي الله عنهم أنهم قالوا: إن شاء تابع وإن شاء فرق غير أن عليا رضي الله عنه قال: إنه يتابع لكنه إن فرق جاز وهذا منه إشارة إلى أن التتابع أفضل ولو كان التتابع شرطا لما احتمل الخفاء على هؤلاء الصحابة ولما احتمل مخالفتهم إياه في ذلك لو عرفوه. وبهذا الإجماع تبين أن قراءة أبي بن كعب لو ثبتت فهي على الندب, والاستحباب دون الاشتراط, إذ لو كانت ثابتة وصارت كالمتلو وكان المراد بها الاشتراط لما احتمل الخلاف من هؤلاء رضي الله عنهم, بخلاف ذكر التتابع في صوم كفارة اليمين, في حرف ابن مسعود رضي الله عنه لأنه لم يخالفه أحد من الصحابة في ذلك, فصار كالمتلو في حق العمل به. وأما قوله: إن القضاء يجب على حسب الأداء, والأداء وجب متتابعا, فنقول: التتابع في الأداء ما وجب

 

ج / 2 ص -77-         لمكان الصوم, ليقال: أينما كان الصوم كان التتابع شرطا, وإنما وجب لأجل الوقت لأنه وجب عليهم صوم شهر معين ولا يتمكن من أداء الصوم في الشهر كله إلا بصفة التتابع, فكان لزوم التتابع لضرورة تحصيل الصوم في هذا الوقت. وهذا هو الأصل: أن كل صوم يؤمر فيه بالتتابع لأجل الفعل وهو الصوم ويكون التتابع شرطا فيه حيث دار الفعل, وكل صوم يؤمر فيه بالتتابع لأجل الوقت ففوت ذلك الوقت يسقط التتابع وإن بقي الفعل واجب القضاء, فإن من قال: لله علي صوم شعبان يلزمه أن يصوم شعبان متتابعا, لكنه إن فات شيء منه يقضي إن شاء متتابعا, وإن شاء متفرقا, لأن التتابع ههنا لمكان الوقت, فيسقط بسقوطه, وبمثله لو قال: لله علي أن أصوم شهرا متتابعا, يلزمه أن يصوم متتابعا, لا يخرج عن نذره إلا به, ولو أفطر يوما في وسط الشهر يلزمه الاستقبال لأن التتابع ذكر للصوم فكان الشرط هو وصل الصوم بعينه فلا يسقط عنه أبدا, وعلى هذا صوم كفارة القتل, والظهار, واليمين, لأنه لما وجب لعين الصوم لا يسقط أبدا إلا بالأداء متتابعا, والفقه في ذلك ظاهر, وهو أنه إذا وجب التتابع لأجل نفس الصوم فما لم يؤده على وصفه لا يخرج عن عهدة الواجب وإذا وجب لضرورة قضاء حق الوقت, أو شرط التتابع لوجب الاستقبال, فيقع جميع الصوم في غير ذلك الوقت الذي أمر بمراعاة حقه بالصوم فيه, ولو لم يجب لوقع عامة الصوم فيه, وبعضه في غيره, فكان أقرب إلى قضاء حق الوقت, والدليل على أن التتابع في صوم شهر رمضان لما قلنا من قضاء حق الوقت: أنه لو أفطر في بعضه لا يلزمه الاستقبال ولو كان التتابع شرطا للصوم لوجب كما في الصوم المنذور به بصفة التتابع, وكما في صوم كفارة الظهار, واليمين, والقتل, وكذا لو أفطر أياما من شهر رمضان بسبب المرض ثم برئ في الشهر وصام الباقي لا يجب عليه وصل الباقي بشهر رمضان حتى إذا مضى يوم الفطر يجب عليه أن يصوم عن القضاء متصلا بيوم الفطر, كما في صوم كفارة القتل, والإفطار, إذا أفطرت المرأة بسبب الحيض الذي لا يتصور خلو شهر عنه, إنها كما طهرت يجب عليها أن تصل, وتتابع, حتى لو تركت يجب عليها الاستقبال, وههنا ليس كذلك بل يثبت له الخيار بين أن يصوم شوالا متصلا وبين أن يصوم شهرا آخر. فدل أن التتابع لم يكن واجبا لأجل الصوم بل لأجل الوقت, فيسقط بفوات الوقت والله أعلم وأما الصوم الواجب: فصوم التطوع بعد الشروع فيه, وصوم قضائه عند الإفساد, وصوم الاعتكاف عندنا, أما مسألة وجوب الصوم بالشروع ووجوب القضاء بالإفساد: فقد مضت في كتاب الصلاة. وأما وجوب صوم الاعتكاف: فنذكره في الاعتكاف, وأما التطوع: فهو صوم النفل خارج رمضان قبل الشروع, فهذه جملة أقسام الصيام والله أعلم.
"فصل": وأما شرائطها فنوعان: نوع يعم الصيامات كلها: وهو شرط جواز الأداء, ونوع يخص البعض دون البعض: وهو شرط الوجوب, أما الشرائط العامة فبعضها يرجع إلى الصائم وهو شرط أهلية الأداء, وبعضها يرجع إلى وقت الصوم: وهو شرط المحلية, أما الذي يرجع إلى وقت الصوم فنوعان: نوع يرجع إلى أصل الوقت, ونوع يرجع إلى وصفه من الخصوص, والعموم, أما الذي يرجع إلى أصل الوقت: فهو بياض النهار وذلك من حين يطلع الفجر الثاني إلى غروب الشمس, فلا يجوز الصوم في الليل لأن الله تعالى أباح الجماع, والأكل, والشرب في الليالي إلى طلوع الفجر, ثم أمر بالصوم إلى الليل بقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي: حتى يتبين لكم بياض النهار من سواد الليل. هكذا روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الخيط الأبيض, والأسود هما: بياض النهار, وظلمة الليل" ثم أتموا الصيام إلى الليل فكان هذا تعيينا: لليالي الفطر, والنهار للصوم, فكان محل الصوم هو اليوم لا الليل, ولأن الحكمة التي لها شرع الصوم وهو ما ذكرنا: من التقوى, وتعريف قدر النعم, الحامل على شكرها لا يحصل بالصوم في الليل لان ذلك لا يحصل إلا بفعل شاق على البدن مخالف للعادة وهوى النفس ولا يتحقق ذلك بالإمساك في حالة النوم فلا يكون الليل محلا للصوم. وأما الذي يرجع إلى وصفه من الخصوص, والعموم فنقول وبالله التوفيق: أما صوم التطوع: فالأيام كلها محل له عندنا, وهو رواية محمد عن أبي حنيفة, ويجوز

 

ج / 2 ص -78-         صوم التطوع خارج رمضان في الأيام كلها لقول النبي: صلى الله عليه وسلم "كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به" وقوله: "من صام من كل شهر ثلاثة أيام: الثالث عشر, والرابع عشر, والخامس عشر, فكأنما صام السنة كلها" فقد جعل السنة كلها محلا للصوم على العموم. وقوله "من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر كله" جعل الدهر كله محلا للصوم عن غير فصل, وقوله "الصائم المتطوع أمير نفسه, إن شاء صام, وإن شاء لم يصم" ولأن المعاني التي لها كان الصوم حسنا وعبادة وهي ما ذكرنا موجودة في سائر الأيام فكانت الأيام كلها محلا للصوم, إلا أنه يكره الصوم في بعضها, ويستحب في البعض. أما الصيام في الأيام المكروهة فمنها: صوم يومي العيد, وأيام التشريق. وعند الشافعي: لا يجوز الصوم في هذه الأيام وهو رواية أبي يوسف وعبد الله بن المبارك عن أبي حنيفة, واحتج بالنهي الوارد عن الصوم فيها وهو ما روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا لا تصوموا في هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وبعال" والنهي للتحريم ولأنه عين هذه الأيام لأضداد الصوم فلا تبقى محلا للصوم, والجواب أن ما ذكرنا من النصوص, والمعقول يقتضي جواز الصوم في هذه الأيام, فيحمل النهي على الكراهة, ويحمل التعيين على الندب, والاستحباب, توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان, وعندنا يكره الصوم في هذه الأيام, والمستحب هو الإفطار. ومنها إتباع رمضان بست من شوال كذا قال أبو يوسف: كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صوما خوفا أن يلحق ذلك بالفرضية, وكذا روي عن مالك أنه قال: أكره أن يتبع رمضان بست من شوال, وما رأيت أحدا من أهل الفقه, والعلم يصومها ولم يبلغنا عن أحد من السلف, وإن أهل العلم يكرهون ذلك ويخافون بدعته, وأن يلحق أهل الجفاء برمضان ما ليس منه, والإتباع المكروه هو: أن يصوم يوم الفطر, ويصوم بعده خمسة أيام. فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام: فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة. ومنها صوم يوم الشك بنية رمضان, أو بنية مترددة, أما بنية رمضان فلقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يصام اليوم الذي يشك فيه من رمضان إلا تطوعا" وعن عمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم أنهم كانوا ينهون عن صوم اليوم الذي يشك فيه من رمضان ولأنه يريد أن يزيد في رمضان. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: لأن أفطر يوما من رمضان ثم أقضيه أحب إلي أن أزيد فيه ما ليس منه وأما النية المترددة: بأن نوى أن يكون صومه عن رمضان إن كان اليوم من رمضان, وإن لم يكن يكون تطوعا فلأن النية المترددة لا تكون نية حقيقة لأن النية تعيين للعمل, والتردد يمنع التعيين. وأما صوم يوم الشك بنية التطوع: فلا يكره عندنا ويكره عند الشافعي, واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" ولنا ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يصام اليوم الذي يشك فيه من رمضان إلا تطوعا" استثنى التطوع, والمستثنى يخالف حكمه حكم المستثنى منه. وأما الحديث: فالمراد منه صوم يوم الشك عن رمضان لأن المروي أن النبي صلى الله عليه وسلم "نهى عن صوم يوم الشك عن رمضان وقال: من صام يوم الشك فقد عصى أبا القاسم" أي: صام عن رمضان واختلف المشايخ في أن الأفضل أن يصوم فيه تطوعا, أو يفطر, أو ينتظر قال بعضهم: الأفضل أن يصوم لما روي عن عائشة وعلي رضي الله عنهما أنهما كانا يصومان يوم الشك بنية التطوع ويقولان لأن نصوم يوما من شعبان أحب إلينا من أن نفطر يوما من رمضان, فقد صاما ونبها على المعنى, وهو أنه يحتمل أن يكون هذا اليوم من رمضان ويحتمل أن يكون من شعبان, فلو صام لدار الصوم بين أن يكون من رمضان, وبين أن يكون من شعبان, ولو أفطر لدار الفطر بين أن يكون في رمضان وبين أن يكون في شعبان, فكان الاحتياط في الصوم, وقال بعضهم: الإفطار أفضل, وبه كان يفتي محمد بن سلمة وكان يضع كوزا له بين يديه يوم الشك, فإذا جاءه مستفت عن صوم يوم الشك أفتاه بالإفطار وشرب من الكوز بين يدي المستفتي, وإنما كان يفعل كذلك لأنه لو أفتى بالصوم لاعتاده الناس فيخاف أن يلحق بالفريضة, وقال بعضهم: يصام سرا ولا يفتى به العوام لئلا يظنه الجهال زيادة على صوم رمضان. هكذا روي عن أبي يوسف أنه استفتي عن صوم يوم الشك فأفتى بالفطر ثم قال للمستفتي: تعال فلما دنا منه أخبره سرا فقال: إني صائم. وقال بعضهم ينتظر فلا يصوم ولا يفطر فإن تبين

 

ج / 2 ص -79-         قبل الزوال, أنه من رمضان عزم على الصوم, وإن لم يتبين أفطر لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أصبحوا يوم الشك مفطرين متلومين أي: غير آكلين ولا عازمين على الصوم, إلا إذا كان صائما قبل ذلك" فوصل يوم الشك به. ومنها أن يستقبل الشهر بيوم, أو يومين بأن تعمد ذلك, فإن وافق ذلك صوما كان يصومه قبل ذلك فلا بأس به لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تتقدموا الشهر بيوم ولا بيومين إلا أن يوافق ذلك صوما كان يصومه أحدكم" ولأن استقبال الشهر بيوم, أو بيومين يوهم الزيادة على الشهر ولا كذلك إذا وافق صوما كان يصومه قبل ذلك لأنه لم يستقبل الشهر وليس فيه وهم الزيادة. وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصل شعبان برمضان" ومنها صوم الوصال, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صام من صام الدهر" وروي أنه "نهى عن صوم الوصال" فسر أبو يوسف ومحمد رحمهما الله الوصال بصوم يومين لا يفطر بينهما, لأن الفطر بينهما يحصل بوجود زمان الفطر, وهو الليل, قال النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم أكل, أو لم يأكل" وقيل في تفسير الوصال: أن يصوم كل يوم من السنة دون ليلته, ومعنى الكراهة فيه: أن ذلك يضعفه عن أداء الفرائض, والواجبات ويقعده عن الكسب الذي لا بد منه, ولهذا روي أنه "لما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال وقيل له: إنك تواصل يا رسول الله, قال: إني لست كأحدكم, إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني" أشار إلى المخصص وهو اختصاصه بفضل قوة النبوة, وقال بعض الفقهاء: من صام سائر الأيام وأفطر يوم الفطر, والأضحى وأيام التشريق لا يدخل تحت نهي صوم الوصال, ورد عليه أبو يوسف فقال: ليس هذا عندي, كما قال والله أعلم هذا قد صام الدهر كأنه أشار إلى أن النهي عن صوم الدهر ليس لمكان صوم هذه الأيام بل لما يضعفه عن الفرائض, والواجبات ويقعده عن الكسب ويؤدي إلى التبتل المنهي عنه والله أعلم. وأما صوم يوم عرفة: ففي حق غير الحاج مستحب, لكثرة الأحاديث الواردة بالندب إلى صومه, ولأن له فضيلة على غيره من الأيام, وكذلك في حق الحاج إن كان لا يضعفه عن الوقوف, والدعاء لما فيه من الجمع بين القربتين وإن كان يضعفه عن ذلك يكره لأن فضيلة صوم هذا اليوم مما يمكن استدراكها في غير هذه السنة, ويستدرك عادة, فأما فضيلة الوقوف, والدعاء فيه لا يستدرك في حق عامة الناس عادة إلا في العمر مرة واحدة, فكان إحرازها أولىوكره بعضهم صوم يوم الجمعة بانفراده, وكذا يوم الاثنين, والخميس, وقال عامتهم: إنه مستحب لأن هذه الأيام من الأيام الفاضلة فكان تعظيمها بالصوم مستحبا, ويكره صوم يوم السبت بانفراده, لأنه تشبه باليهود, وكذا صوم يوم النيروز, والمهرجان, لأنه تشبه بالمجوس, وكذا صوم الصمت وهو أن يمسك عن الطعام, والكلام جميعا, لأن "النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك" ولأنه تشبه بالمجوس, وكره بعضهم صوم يوم عاشوراء وحده لمكان التشبه باليهود, ولم يكرهه عامتهم, لأنه من الأيام الفاضلة, فيستحب استدراك فضيلتها بالصوم. وأما صوم يوم وإفطار يوم: فهو مستحب, وهو صوم سيدنا داود عليه الصلاة والسلام كان يصوم يوما ويفطر يوما, ولأنه أشق على البدن, إذ الطبع ألوف, وقال: صلى الله عليه وسلم "خير الأعمال أحمزها" أي: أشقها على البدن, وكذا صوم الأيام البيض لكثرة الأحاديث فيه, منها ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من صام ثلاثة أيام من كل شهر الثالث عشر, والرابع عشر, والخامس عشر فكأنما صام السنة كلها" "وأما صوم الدين: فالأيام كلها محل له ويجوز في جميع الأيام إلا ستة أيام يومي الفطر, والأضحى, وأيام التشريق, ويوم الشك" أما ما سوى صوم يوم الشك فلورد النهي عنه, والنهي وإن كان عن غيره, أو لغيره فلا شك أن ذلك الغير يوجد بوجود الصوم في هذه الأيام, فأوجب ذلك نقصانا فيه, والواجب في ذمته صوم كامل فلا يتأدى بالناقص, وبهذا تبين بطلان أحد قولي الشافعي في صوم المتعة, إنه يجوز في هذه الأيام لأن النهي عن الصوم في هذه الأيام عام يتناول الصيامات كلها, فيوجب ذلك نقصانا فيه, والواجب في ذمته كامل فلا ينوب الناقص عنه. وأما يوم الشك فلأنه يحتمل أن يكون من رمضان ويحتمل أن يكون من شعبان فإن كان من شعبان يكون قضاء, وإن كان من رمضان لا يكون قضاء, فلا يكون قضاء مع الشك وهل يصح النذر بصوم يومي

 

ج / 2 ص -80-         العيد وأيام التشريق؟ روى محمد عن أبي حنيفة: أنه يصح نذره لكن الأفضل أن يفطر فيها ويصوم في أيام أخر, ولو صام في هذه الأيام يكون مسيئا, لكنه يخرج عنه النذر لأنه, أوجب ناقصا وأداه ناقصا, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنه لا يصح نذره ولا يلزمه شيء, وهكذا روى ابن المبارك عن أبي حنيفة, وهو قول زفر, والشافعي, والمسألة مبنية على جواز صوم هذه الأيام وعدم جوازه, وقد مرت فيما تقدم, ولو شرع في صوم هذه الأيام ثم أفسده لا يلزمه القضاء في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يلزمه. وجه قولهما: إن الشروع في التطوع سبب الوجوب كالنذر فإذا وجب المضي فيه وجب القضاء بالإفساد, كما لو شرع في التطوع في سائر الأيام ثم أفسده, ولأبي حنيفة: أن الشروع ليس سبب الوجوب وضعا, وإنما الوجوب يثبت ضرورة صيانة للمؤدى عن البطلان, والمؤدى ههنا لا يجب صيانته لمكان النهي, فلا يجب المضي فيه, فلا يضمن بالإفساد, ولو شرع في الصلاة في أوقات مكروهة فأفسدها ففيه روايتان عن أبي حنيفة في رواية: لا قضاء عليه كما في الصوم وفي رواية: عليه القضاء بخلاف الصوم, وقد ذكرنا وجوه الفرق في كتاب الصلاة,. وأما صوم رمضان: فوقته شهر رمضان لا يجوز في غيره, فيقع الكلام فيه في موضعين أحدهما: في بيان وقت صوم رمضان, والثاني في بيان ما يعرف به وقته, أما الأول: فوقت صوم رمضان شهر رمضان, لقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أي: فليصم في الشهر, وقول النبي صلى الله عليه وسلم "وصوموا شهركم" أي: في شهركم لأن الشهر لا يصام وإنما يصام فيه. وأما الثاني: وهو بيان ما يعرف به وقته, فإن كانت السماء مصحية يعرف برؤية الهلال, وإن كانت متغيمة يعرف بإكمال شعبان ثلاثين يوما, لقول النبي صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته فإن غم عليكم فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صوموا" وكذلك إن غم على الناس هلال شوال أكملوا عدة رمضان ثلاثين يوما, لأن الأصل بقاء الشهر وكماله, فلا يترك هذا الأصل إلا بيقين على الأصل المعهود, أن ما ثبت بيقين لا يزول إلا بيقين مثله, فإن كانت السماء مصحية ورأى الناس الهلال صاموا وإن شهد واحد برؤية الهلال لا تقبل شهادته ما لم تشهد جماعة يقع العلم للقاضي بشهادتهم, في ظاهر الرواية ولم يقدر في ذلك تقديرا وروي عن أبي يوسف أنه قدر عدد الجماعة بعدد القسامة خمسين رجلا, وعن خلف بن أيوب أنه قال: خمسمائة, ببلخ قليل وقال بعضهم: ينبغي أن يكون من كل مسجد جماعة واحد, أو اثنان, وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله تعالى: أنه يقبل فيه شهادة الواحد العدل وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله تعالى, وقال في قول آخر: تقبل فيه شهادة اثنين. وجه رواية الحسن رحمه الله تعالى أن هذا من باب الإخبار لا من باب الشهادة, بدليل أنه تقبل شهادة الواحد إذا كان بالسماء علة ولو كان شهادة لما قبل, لأن العدد شرط في الشهادات وإذا كان إخبارا لا شهادة فالعدد ليس بشرط في الإخبار عن الديانات وإنما تشترط العدالة فقط, كما في رواية الإخبار عن طهارة الماء ونجاسته ونحو ذلك, وجه ظاهر الرواية أن خبر الواحد العدل إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر وههنا الظاهر يكذبه لأن تفرده بالرؤية مع مساواة جماعة لا يحصون إياه في الأسباب الموصلة إلى الرؤية وارتفاع الموانع دليل كذبه, أو غلطه في الرؤية, وليس كذلك إذا كان بالسماء علة, لأن ذلك يمنع التساوي في الرؤية لجواز أن قطعة من الغيم انشقت فظهر الهلال فرآه واحد ثم استتر بالغيم من ساعته قبل أن يراه غيره, وسواء كان هذا الرجل من المصر, أو من خارج المصر, وشهد برؤية الهلال أنه لا تقبل شهادته في ظاهر الرواية. وذكر الطحاوي أنه تقبل, وجه رواية الطحاوي أن المطالع تختلف بالمصر وخارج المصر في الظهور, والخفاء لصفاء الهواء خارج المصر فتختلف الرؤية, وجه ظاهر الرواية أن المطالع لا تختلف إلا عند المسافة البعيدة الفاحشة, وعلى هذا الرجل الذي أخبر أن يصوم لأن عنده أن هذا اليوم من رمضان, والإنسان يؤاخذ بما عنده فإن شهد فرد الإمام شهادته ثم أفطر يقضي لأنه أفسد صوم رمضان في زعمه فيعامل بما عنده, وهل تلزمه الكفارة؟ قال أصحابنا: لا تلزمه, وقال الشافعي: تلزمه إذا أفطر بالجماع, وإن أفطر قبل أن يرد الإمام شهادته فلا رواية عن أصحابنا في وجوب الكفارة, واختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: تجب, وقال بعضهم: لا تجب, وجه قول الشافعي: إنه أفطر في يوم علم أنه من رمضان لوجود دليل العلم في حقه وهو الرؤية وعدم علم غيره لا يقدح في علمه

 

ج / 2 ص -81-         فيؤاخذ بعلمه, فيوجب عليه الكفارة, ولهذا, أوجب عليه الصوم. "ولنا" أنه أفطر في يوم هو من شعبان, وإفطار يوم هو من شعبان لا يوجب الكفارة, وإنما قلنا ذلك لأن كونه من رمضان إنما يعرف بالرؤية إذا كانت السماء مصحية ولم تثبت رؤيته لما ذكرنا: أن تفرده بالرؤية مع مساواة عامة الناس إياه في التفقد مع سلامة الآلات دليل عدم الرؤية, وإذا لم تثبت الرؤية لم يثبت كون اليوم من رمضان, فيبقى من شعبان, والكفارة لا تجب بالإفطار في يوم هو من شعبان بالإجماع, وأما وجوب الصوم عليه فممنوع, فإن المحققين من مشايخنا قالوا: لا رواية في وجوب الصوم عليه وإنما الرواية أنه يصوم وهو محمول على الندب احتياطا, وقال الحسن البصري: إنه لا يصوم إلا مع الإمام, ولو صام هذا الرجل وأكمل ثلاثين يوما ولم ير هلال شوال فإنه لا يفطر إلا مع الإمام, وإن زاد صومه على ثلاثين لأنا إنما أمرناه بالصوم احتياطا, , والاحتياط ههنا أن لا يفطر لاحتمال أن ما رآه لم يكن هلالا بل كان خيالا فلا يفطر مع الشك, ولأنه لو أفطر للحقه التهمة لمخالفته الجماعة, فالاحتياط أن لا يفطر وإن كانت السماء متغيمة تقبل شهادة الواحد بلا خلاف بين أصحابنا, سواء كان حرا, أو عبدا, رجلا, أو امرأة, غير محدود في قذف, أو محدودا تائبا, بعد أن كان مسلما عاقلا بالغا عدلا. وقال الشافعي في أحد قوليه: لا تقبل إلا شهادة رجلين عدلين اعتبارا بسائر الشهادات. "ولنا" ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه "أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أبصرت الهلال, فقال: أتشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟, قال: نعم, قال: قم يا بلال فأذن في الناس فليصوموا غدا" فقد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة الواحد على هلال رمضان ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة, ولأن هذا ليس بشهادة بل هو إخبار, بدليل أن حكمه يلزم الشاهد وهو الصوم وحكم الشهادة لا يلزم الشاهد, والإنسان لا يتهم في إيجاب شيء على نفسه, فدل أنه ليس بشهادة بل هو إخبار, والعدد ليس بشرط في الإخبار, إلا أنه إخبار في باب الدين فيشترط فيه الإسلام, والعقل, والبلوغ, والعدالة كما في رواية الإخبار وذكر الطحاوي في مختصره: أنه يقبل قول الواحد عدلا كان, أو غير عدل, وهذا خلاف ظاهر الرواية, إلا أنه يريد به العدالة الحقيقية, فيستقيم لأن الإخبار لا تشترط فيه العدالة الحقيقية بل يكتفى فيه بالعدالة الظاهرة, والعبد, والمرأة من أهل الإخبار ألا ترى أنه صحت روايتهما ؟. وكذا المحدود في القذف فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبلوا إخبار أبي بكرة وكان محدودا في قذف, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أن شهادته برؤية الهلال لا تقبل, , والصحيح أنها تقبل, وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة, لما ذكرنا أن هذا خبر وليس بشهادة, وخبره مقبول, وتقبل شهادة واحد عدل على شهادة واحد عدل في هلال رمضان بخلاف الشهادة على الشهادة في سائر الأحكام, أنها لا تقبل ما لم يشهد على شهادة رجل واحد رجلان, أو رجل وامرأتان لما ذكرنا أن هذا من باب الإخبار لا من باب الشهادة, ويجوز إخبار رجل عدل عن رجل عدل كما في رواية الأخبار, ولو رد الإمام شهادة الواحد لتهمة الفسق فإنه يصوم ذلك اليوم لأن عنده أن ذلك اليوم من رمضان فيؤاخذ بما عنده, ولو أفطر بالجماع هل تلزمه الكفارة؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا وأما هلال شوال فإن كانت السماء مصحية فلا يقبل فيه إلا شهادة جماعة يحصل العلم للقاضي بخبرهم كما في هلال رمضان, كذا ذكر محمد في نوادر الصوم. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يقبل فيه شهادة رجلين, أو رجل وامرأتين سواء كان بالسماء علة, أو لم يكن, كما روي عن أبي حنيفة في هلال رمضان أنه تقبل فيه شهادة الواحد العدل سواء كان في السماء علة, أو لم يكن, وإن كان بالسماء علة فلا تقبل فيه إلا شهادة رجلين, أو رجل وامرأتين مسلمين, حرين, عاقلين, بالغين, غير محدودين, في قذف كما في الشهادة في الحقوق, والأموال, لما روي عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا: "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة رجل واحد على رؤية هلال رمضان, وكان لا يجيز الإفطار إلا بشهادة رجلين" ولأن هذا من باب الشهادة. ألا ترى أنه لا يلزم الشاهد شيء بهذه الشهادة بل له فيها نفع وهو إسقاط الصوم عن نفسه, فكان متهما, فيشترط فيه العدد نفيا للتهمة بخلاف هلال رمضان هناك لا تهمة إذ الإنسان لا يتهم في الإضرار بنفسه بالتزام الصوم, فإن غم على الناس هلال شوال فإن صاموا رمضان بشهادة شاهدين أفطروا

 

ج / 2 ص -82-         بتمام العدة ثلاثين يوما بلا خلاف, لأن قولهما في الفطر يقبل وإن صاموا بشهادة شاهد واحد, فروى الحسن عن أبي حنيفة أنهم لا يفطرون على شهادته برؤية هلال رمضان عند كمال العدد, وإن وجب عليهم الصوم بشهادته فثبتت الرمضانية بشهادته في حق الصوم, لا في حق الفطر, لأنه لا شهادة له في الشرع على الفطر. ألا ترى أنه لو شهد وحده مقصودا لا تقبل, بخلاف ما إذا صاموا بشهادة شاهدين لأن لهما شهادة على الصوم, والفطر جميعا. ألا ترى لو شهدا برؤية الهلال تقبل شهادتهما لأن وجوب الصوم عليهم بشهادته من طريق الاحتياط, , والاحتياط ههنا في أن لا يفطروا بخلاف ما إذا صاموا بشهادة شاهدين, لأن الوجوب هناك ثبت بدليل مطلق, فيظهر في الصوم, والفطر جميعا. وروى ابن سماعة عن محمد: أنهم يفطرون عند تمام العدد, فأورد ابن سماعة على محمد إشكالا فقال: إذا قبلت شهادة الواحد في الصوم تفطر على شهادته ومتى أفطرت عند كمال العدد على شهادته فقد أفطرت بقول الواحد, وهذا لا يجوز لاحتمال أن هذا اليوم من رمضان؟ فأجاب محمد رحمه الله فقال: لا أتهم المسلم أن يتعجل يوما مكان يوم, ومعناه أن الظاهر أنه إن كان صادقا في شهادته فالصوم وقع في أول الشهر فيختم بكمال العدد, وقيل فيه بجواب آخر, وهو أن جواز الفطر عند كمال العدد لم يثبت بشهادته مقصودا بل بمقتضى الشهادة. وقد يثبت بمقتضى الشيء ما لا يثبت به مقصودا كالميراث بحكم النسب الثابت أنه يظهر بشهادة القابلة بالولادة وإن كان لا يظهر بشهادتها مقصودا, والاستشهاد على مذهبهما لا على مذهب أبي حنيفة لأن شهادة القابلة بالولادة لا تقبل في حق الميراث عنده. "وأما" هلال ذي الحجة فإن كانت السماء مصحية فلا يقبل فيه إلا ما يقبل في هلال رمضان, وهلال شوال وهو ما ذكرنا وإن كان بالسماء علة فقد قال أصحابنا: إنه يقبل فيه شهادة الواحد, وذكر الكرخي أنه لا يقبل فيه إلا شهادة رجلين, أو رجل وامرأتين كما في هلال شوال لأنه يتعلق بهذه الشهادة حكم شرعي وهو وجوب الأضحية على الناس فيشترط فيه العدد, والصحيح: هو الأول لأن هذا ليس من باب الشهادة بل من باب الإخبار. ألا ترى أن الأضحية تجب على الشاهد ثم تتعدى إلى غيره فكان من باب الخبر ولا يشترط فيه العدد. ولو رأوا يوم الشك الهلال بعد الزوال أو قبله فهو لليلة المستقبلة في قول أبي حنيفة ومحمد ولا يكون ذلك اليوم من رمضان, وقال أبو يوسف: إن كان بعد الزوال فكذلك وإن كان قبل الزوال فهو لليلة الماضية ويكون ذلك اليوم من رمضان, والمسألة مختلفة بين الصحابة. وروي عن عمر وابن مسعود وابن عمر وأنس مثل قولهما. وروي عن عمر رضي الله عنه رواية أخرى مثل قوله وهو قول علي وعائشة رضي الله عنهما. وعلى هذا الخلاف هلال شوال إذا رأوه يوم الشك وهو يوم الثلاثين من رمضان قبل الزوال أو بعده فهو لليلة المستقبلة عندهما, ويكون اليوم من رمضان, وعنده إن رأوه قبل الزوال يكون لليلة الماضية ويكون اليوم يوم الفطر, والأصل عندهما أنه لا يعتبر في رؤية الهلال قبل الزوال ولا بعده وإنما العبرة لرؤيته قبل غروب الشمس, وعنده يعتبر وجه قول أبي يوسف إن الهلال لا يرى قبل الزوال عادة, إلا أن يكون لليلتين, وهذا يوجب كون اليوم من رمضان في هلال رمضان, وكونه يوم الفطر في هلال شوال, ولهما قول النبي صلى الله عليه وسلم "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته" أمر بالصوم, والفطر بعد الرؤية, وفيما قاله أبو يوسف يتقدم وجوب الصوم, والفطر على الرؤية وهذا خلاف النص, ولو أن أهل مصر لم يروا الهلال فأكملوا شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا وفيهم رجل صام يوم الشك بنية رمضان ثم رأوا هلال شوال عشية التاسع, والعشرين من رمضان فصام أهل المصر تسعة وعشرين يوما وصام ذلك الرجل ثلاثين يوما فأهل المصر قد أصابوا وأحسنوا وأساء ذلك الرجل وأخطأ لأنه خالف السنة إذ السنة أن يصام رمضان لرؤية الهلال إذا كانت السماء مصحية, أو بعد شعبان ثلاثين يوما كما نطق به الحديث. وقد عمل أهل المصر بذلك وخالف الرجل فقد أصاب أهل المصر وأخطأ الرجل ولا قضاء على أهل المصر لأن الشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين يوما, لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الشهر هكذا وهكذا وأشار إلى جميع أصابع يديه ثم قال: الشهر هكذا وهكذا ثلاثا وحبس إبهامه في المرة الثالثة" فثبت أن الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين وقد روي عن أنس رضي الله تعالى عنه أنه قال: "صمنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم

 

ج / 2 ص -83-         تسعة وعشرين يوما أكثر مما صمنا ثلاثين يوما" ولو صام أهل بلد ثلاثين يوما وصام أهل بلد آخر تسعة وعشرين يوما فإن كان صوم أهل ذلك البلد برؤية الهلال وثبت ذلك عند قاضيهم, أو عدوا شعبان ثلاثين يوما ثم صاموا رمضان فعلى أهل البلد الآخر قضاء يوم لأنهم أفطروا يوما من رمضان لثبوت الرمضانية برؤية أهل ذلك البلد, وعدم رؤية أهل البلد لا يقدح في رؤية أولئك, إذ العدم لا يعارض الوجود, وإن كان صوم أهل ذلك البلد بغير رؤية هلال رمضان أو لم تثبت الرؤية عند قاضيهم ولا عدوا شعبان ثلاثين يوما فقد أساءوا حيث تقدموا رمضان بصوم يوم. وليس على أهل البلد الآخر قضاؤه لما ذكرنا أن الشهر قد يكون ثلاثين وقد يكون تسعة وعشرين, هذا إذا كانت المسافة بين البلدين قريبة لا تختلف فيها المطالع, فأما إذا كانت بعيدة فلا يلزم أحد البلدين حكم الآخر لأن مطالع البلاد عند المسافة الفاحشة تختلف فيعتبر في أهل كل بلد مطالع بلدهم دون البلد الآخر. وحكي عن أبي عبد الله بن أبي موسى الضرير أنه استفتي في أهل إسكندرية أن الشمس تغرب بها ومن على منارتها يرى الشمس بعد ذلك بزمان كثير. فقال: يحل لأهل البلد الفطر ولا يحل لمن على رأس المنارة إذا كان يرى غروب الشمس لأن مغرب الشمس يختلف كما يختلف مطلعها فيعتبر في أهل كل موضع مغربه ولو صام أهل مصر تسعة وعشرين وأفطروا للرؤية وفيهم مريض لم يصم فإن علم ما صام أهل مصره فعليه قضاء تسعة وعشرين يوما لأن القضاء على قدر الفائت, والفائت هذا القدر فعليه قضاء هذا القدر وإن لم يعلم هذا الرجل ما صنع أهل مصره, صام ثلاثين يوما لأن الأصل في الشهر ثلاثون يوما, والنقصان عارض فإذا لم يعلم عمل بالأصل, وقالوا فيمن أفطر شهرا لعذر ثلاثين يوما ثم قضى شهرا بالهلال فكان تسعة وعشرين يوما, إن عليه قضاء يوم آخر لأن المعتبر عدد الأيام التي أفطر فيها دون الهلال لأن القضاء على قدر الفائت, والفائت ثلاثون يوما فيقضي يوما آخر تكملة الثلاثين. وأما الذي يرجع إلى الصائم فمنها: الإسلام فإنه شرط جواز الأداء بلا خلاف, وفي كونه شرط الوجوب خلاف سنذكره في موضعه, ومنها الطهارة عن الحيض, والنفاس فإنها شرط صحة الأداء بإجماع الصحابة رضي الله عنهم وفي كونها شرط الوجوب خلاف نذكره في موضعه, فأما البلوغ: فليس من شرائط صحة الأداء فيصح أداء الصوم من الصبي العاقل ويثاب عليه لكنه من شرائط الوجوب لما نذكره. وكذا العقل, والإفاقة ليسا من شرائط صحة الأداء حتى لو نوى الصوم من الليل ثم جن في النهار أو أغمي عليه يصح صومه في ذلك اليوم ولا يصح صومه في اليوم الثاني, لا لعدم أهلية الأداء بل لعدم النية لأن النية من المجنون, والمغمى عليه لا تتصور, وفي كونهما من شرائط الوجوب كلام نذكره في موضعه, ومنها النية, والكلام في هذا الشرط يقع في ثلاث مواضع أحدها: في بيان أصله, والثاني: في بيان كيفيته, والثالث: في بيان وقته. أما الأول: فأصل النية شرط جواز الصيامات كلها في قول أصحابنا الثلاثة, وقال زفر: صوم رمضان في حق المقيم جائز بدون النية, واحتج بقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} أمر بصوم الشهر مطلقا عن شرط النية, والصوم هو الإمساك. وقد أتى به فيخرج عن العهدة, ولأن النية إنما تشترط للتعيين, والحاجة إلى التعيين عند المزاحمة, ولا مزاحمة لأن الوقت لا يحتمل إلا صوما واحدا في حق المقيم وهو صوم رمضان فلا حاجة إلى التعيين بالنية, ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا عمل لمن لا نية له" وقوله "الأعمال بالنيات ولكل امرئ ما نوى" ولأن صوم رمضان عبادة, والعبادة اسم لفعل يأتيه العبد باختياره خالصا لله تعالى بأمره, والاختيار, والإخلاص لا يتحققان بدون النية. وأما الآية: فمطلق اسم الصوم ينصرف إلى الصوم الشرعي, والإمساك لا يصير شرعا بدون النية, لما بينا, وأما قوله: إن النية شرط للتعيين وزمان رمضان متعين لصوم رمضان فلا حاجة إلى النية, فنقول لا حاجة إلى النية لتعيين الوصف, لكن تقع الحاجة إلى النية لتعيين الأصل, بيانه أن أصل الإمساك متردد بين أن يكون عادة, أو حمية, وبين أن يكون لله تعالى, بل الأصل أن يكون فعل كل فاعل لنفسه ما لم يجعله لغيره فلا بد من النية ليصير لله تعالى, ثم إذا صار أصل الإمساك لله تعالى في هذا الوقت بأصل النية, والوقت متعين لفرضه يقع عن الفرض من غير الحاجة إلى تعيين الوصف. وأما الثاني في كيفية النية: فإن كان الصوم عينا وهو صوم

 

ج / 2 ص -84-         رمضان, وصوم النفل خارج رمضان, والمنذور به في وقت بعينه يجوز بنية مطلقة عندنا. وقال الشافعي: صوم النفل يجوز بنية مطلقة, فأما الصوم الواجب: فلا يجوز إلا بنية معينة. وجه قوله إن هذا صوم مفروض فلا يتأدى إلا بنية الفرض كصوم القضاء, والكفارات, والنذور المطلقة, وهذا لأن الفرضية صفة زائدة على أصل الصوم يتعلق بها زيادة الثواب, فلا بد من زيادة النية وهي نية الفرض ولنا قوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}. وهذا قد شهد الشهر وصامه فيخرج عن العهدة, ولأن النية لو شرطت إنما تشترط إما ليصير الإمساك لله تعالى, وإما للتمييز بين نوع ونوع, ولا وجه للأول لأن مطلق النية كان لصيرورة الإمساك لله تعالى, لأنه يكفي لقطع التردد ولقول النبي: صلى الله عليه وسلم "ولكل امرئ ما نوى" وقد نوى أن يكون إمساكه لله تعالى, فلو لم يقع لله تعالى لا يكون له ما نوى, وهذا خلاف النص ولا وجه للثاني لأن مشروع الوقت واحد لا يتنوع فلا حاجة إلى التمييز بتعيين النية بخلاف صوم القضاء, والنذر, والكفارة, لأن مشروع الوقت وهو خارج رمضان متنوع فوقعت الحاجة إلى التعيين بالنية فهو الفرق, وقوله: هذا صوم مفروض مسلم ولكن لم لا تتأدى نية الفرض بدون نية الفرض, وقوله: "الفرضية صفة للصوم زائدة عليه فتفتقر إلى نية زائدة" ممنوع أنها صفة زائدة على الصوم لأن الصوم صفة, والصفة لا تحتمل صفة زائدة عليها قائمة بها بل هو وصف إضافي فيسمى الصوم مفروضا وفريضة لدخوله تحت فرض الله تعالى لا لفرضية قامت به, وإذا لم يكن صفة قائمة بالصوم لا يشترط له نية الفرض وزيادة الثواب لفضيلة الوقت لا لزيادة صفة العمل والله أعلم ولو صام رمضان بنية النفل أو صام المنذور بعينه بنية النفل يقع صومه عن رمضان وعن المنذور عندنا, وعند الشافعي: لا يقع وكذا لو صام رمضان بنية واجب آخر من القضاء, والكفارات, والنذور يقع عن رمضان عندنا وعنده لا يقع هو يقول: لما نوى النفل فقد أعرض عن الفرض, والمعرض عن فعل لا يكون آتيا به, ونحن نقول: إنه نوى الأصل, والوصف, والوقت قابل للأصل غير قابل للوصف فبطلت نية الوصف وبقيت نية الأصل, وإنها كافية لصيرورة الإمساك لله تعالى على ما بينا في المسألة الأولى ولو نوى في النذر المعين واجبا آخر يقع عما نوى بالإجماع بخلاف صوم رمضان, وجه الفرق أن كل واحد من الوقتين وإن تعين لصومه إلا أن أحدهما وهو شهر رمضان معين بتعيين من له الولاية على الإطلاق وهو الله تعالى فثبت التعيين على الإطلاق فيظهر في حق فسخ سائر الصيامات, والآخر تعين بتعيين من له ولاية قاصرة وهو العبد فيظهر تعيينه فيما عينه له وهو صوم التطوع دون الواجبات التي هي حق الله تعالى في هذه الأوقات, فبقيت الأوقات محلا لها فإذا نواها صح هذا الذي ذكرنا في حق المقيم, فأما المسافر: فإن صام رمضان بمطلق النية فكذلك يقع صومه عن رمضان بلا خلاف بين أصحابنا, وإن صام بنية واجب آخر يقع عما نوى في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يقع عن رمضان وإن صام بنية التطوع فعندهما يقع عن رمضان, وعن أبي حنيفة فيه روايتان, روى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقع عن التطوع. وروى الحسن عنه: أنه يقع عن رمضان, قال القدوري: الرواية الأولى هي الأصح, وجه قولهما أن الصوم واجب على المسافر وهو العزيمة, والإفطار له رخصة فإذا اختار العزيمة وترك الرخصة صار هو, والمقيم سواء فيقع صومه عن رمضان كالمقيم ولأبي حنيفة أن الصوم وإن وجب عليه لكن رخص له في الإفطار نظرا له, فلأن يرخص له إسقاط ما في ذمته, والنظر له فيه أكثر أولى. وأما إذا نوى التطوع فوجه رواية أبي يوسف عن أبي حنيفة أن الصوم غير واجب على المسافر في رمضان بدليل أنه يباح له الفطر فأشبه خارج رمضان ولو نوى التطوع خارج رمضان يقع عن التطوع كله كذا في رمضان, وجه رواية الحسن عنه أن صوم التطوع لا يفتقر إلى تعيين نية المتطوع بل نية الصوم فيه كافية فتلغو نية التعيين ويبقى أصل النية فيصير صائما في رمضان بنية مطلقة فيقع عن رمضان. وأما قوله: إن الصوم غير واجب على المسافر في رمضان فممنوع بل هو واجب إلا أنه يترخص فيه, فإذا لم يترخص ولم ينو واجبا آخر بقي صوم رمضان واجبا عليه فيقع صومه عنه. وأما المريض الذي رخص له في الإفطار: فإن صام بنية مطلقة يقع صومه عن رمضان بلا خلاف, وإن صام بنية التطوع فعامة مشايخنا قالوا: إنه يقع صومه عن رمضان لأنه لما قدر على الصوم صار كالصحيح,

 

ج / 2 ص -85-         والكرخي سوى بين المريض, والمسافر, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة: أنه يقع عن التطوع ويشترط لكل يوم من رمضان نية على حدة عند عامة العلماء وقال مالك: يجوز صوم الشهر بنية واحدة, وجه قوله: إن الواجب صوم الشهر لقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}, والشهر اسم لزمان واحد فكان الصوم من أوله إلى آخره عبادة واحدة كالصلاة, والحج, فيتأدى بنية واحدة ولنا أن صوم كل يوم عبادة على حدة غير متعلقة باليوم الآخر بدليل أن ما يفسد أحدهما لا يفسد الآخر, فيشترط لكل يوم منه نية على حدة. وقوله الشهر اسم لزمان واحد ممنوع بل هو اسم لأزمنة مختلفة بعضها محل للصوم وبعضها ليس بوقت له وهو الليالي, فقد تخلل بين كل يومين ما ليس بوقت لهما فصار صوم كل يومين عبادتين مختلفتين كصلاتين ونحو ذلك, وإن كان الصوم دينا وهو صوم القضاء, والكفارات, والنذور المطلقة لا يجوز إلا بتعيين النية حتى لو صام بنية مطلق الصوم لا يقع عما عليه لأن زمان خارج رمضان متعين للنفل شرعا عند بعض مشايخنا, والمطلق ينصرف إلى ما تعين له الوقت, وعند بعضهم هو وقت للصيامات كلها على الإبهام فلا بد من تعيين الوقت للبعض بالنية لتتعين له, لكنه عند الإطلاق ينصرف إلى التطوع لأنه أدنى, والأدنى متيقن به فيقع الإمساك عنه ولو نوى بصومه قضاء رمضان, والتطوع كان عن القضاء في قول أبي يوسف, وقال محمد: يكون عن التطوع, وجه قوله إنه عين الوقت لجهتين مختلفتين متنافيتين فسقطتا للتعارض وبقي أصل النية وهو نية الصوم فيكون عن التطوع, ولأبي يوسف أن نية التعيين في التطوع لغو فلغت وبقي أصل النية فصار كأنه نوى قضاء رمضان, والصوم ولو كان كذلك يقع عن القضاء كذا هذا فإن نوى قضاء رمضان وكفارة الظهار قال أبو يوسف: يكون عن القضاء استحسانا, , والقياس أن يكون عن التطوع, وهو قول محمد, وجه القياس على نحو ما ذكرنا في المسألة الأولى أن جهتي التعيين تعارضتا للتنافي فسقطتا بحكم التعارض فبقي نية مطلق الصوم فيكون تطوعا, وجه الاستحسان أن الترجيح لتعيين جهة القضاء, لأنه خلف عن صوم رمضان وخلف الشيء يقوم مقامه كأنه هو, وصوم رمضان أقوى الصيامات حتى تندفع به نية سائر الصيامات, ولأنه بدل صوم وجب بإيجاب الله تعالى ابتداء, وصوم كفارة الظهار وجب بسبب وجد من جهة العبد, فكان القضاء أقوى فلا يزاحمه الأضعف. وروى ابن سماعة عن محمد فيمن نذر صوم يوم بعينه فصامه ينوي النذر وكفارة اليمين: فهو عن النذر لتعارض النيتين فتساقطا وبقي نية الصوم مطلقا فيقع عن النذر المعين والله أعلم. وأما الثالث وهو وقت النية: فالأفضل في الصيامات كلها أن ينوي وقت طلوع الفجر إن أمكنه ذلك, أو من الليل, لأن النية عند طلوع الفجر تقارن أول جزء من العبادة حقيقة ومن الليل تقارنه تقديرا, وإن نوى بعد طلوع الفجر فإن كان الصوم دينا لا يجوز بالإجماع, وإن كان عينا وهو صوم رمضان وصوم التطوع خارج رمضان, والمنذور المعين يجوز, وقال زفر: إن كان مسافرا لا يجوز صومه عن رمضان بنية من النهار, وقال الشافعي: لا يجوز بنية من النهار إلا التطوع, وقال مالك: لا يجوز التطوع أيضا, ولا يجوز صوم التطوع بنية من النهار بعد الزوال عندنا وللشافعي فيه قولان أما الكلام مع مالك فوجه قوله إن التطوع تبع للفرض ثم لا يجوز صوم الفرض بنية من النهار, فكذا التطوع, ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح لا ينوي الصوم ثم يبدو له فيصوم" وعن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدخل على أهله فيقول: هل عندكم من غداء؟ فإن قالوا: لا, قال: فإني صائم" وصوم التطوع بنية من النهار قبل الزوال مروي عن علي وابن مسعود وابن عباس وأبي طلحة. وأما الكلام فيما بعد الزوال: فبناء على أن صوم النفل عندنا غير متجزئ كصوم الفرض, وعند الشافعي في أحد قوليه متجزئ حتى قال: يصير صائما من حين نوى لكن بشرط الإمساك في أول النهار, وحجته ما روينا عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما مطلقا من غير فصل بين ما قبل الزوال وبعده. وأما عندنا فالصوم لا يتجزأ فرضا كان, أو نفلا ويصير صائما من أول النهار لكن بالنية الموجودة وقت الركن وهو الإمساك وقت الغداء المتعارف لما نذكر, فإذا نوى بعد الزوال فقد خلا بعض الركن عن الشرط, فلا يصير صائما شرعا, والحديثان محمولان على ما قبل الزوال بدليل ما ذكرنا. وأما الكلام مع

 

ج / 2 ص -86-         الشافعي في صوم رمضان فهو يحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا صيام لمن لم يعزم الصوم من الليل" ولأن الإمساك من أول النهار إلى آخره ركن فلا بد له من النية ليصير لله تعالى. وقد انعدمت في أول النهار فلم يقع الإمساك في أول النهار لله تعالى لفقد شرطه, فكذا الباقي لأن صوم الفرض لا يتجزأ ولهذا لا يجوز صوم القضاء, والكفارات, والنذور المطلقة بنية من النهار. وكذا صوم رمضان ولنا قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} أباح للمؤمنين الأكل, والشرب, والجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر, وأمر بالصيام عنها بعد طلوع الفجر متأخرا عنه لأن كلمة "ثم" للتعقيب مع التراخي فكان هذا أمرا بالصوم متراخيا عن أول النهار, والأمر بالصوم أمر بالنية إذ لا صحة للصوم شرعا بدون النية, فكان أمرا بالصوم بنية متأخرة عن أول النهار وقد أتى به فقد أتى بالمأمور به فيخرج عن العهدة, وفيه دلالة أن الإمساك في أول النهار يقع صوما وجدت فيه النية, أو لم توجد لأن إتمام الشيء يقتضي سابقية وجود بعض منه ولأنه صام رمضان في وقت متعين شرعا لصوم رمضان لوجود ركن الصوم مع شرائطه التي ترجع إلى الأهلية, والمحلية, ولا كلام في سائر الشرائط وإنما الكلام في النية ووقتها وقت وجود الركن, وهو الإمساك وقت الغداء المتعارف, والإمساك في أول النهار شرط وليس بركن لأن ركن العبادة ما يكون شاقا على البدن مخالفا للعادة وهوى النفس وذلك هو الإمساك وقت الغداء المتعارف, فأما الإمساك في أول النهار: فمعتاد فلا يكون ركنا بل يكون شرطا لأنه وسيلة إلى تحقيق معنى الركن إلا أنه لا يعرف كونه وسيلة للحال لجواز أن لا ينوي وقت الركن فإذا نوى ظهر كونه وسيلة من حين وجوده, والنية تشترط لصيرورة الإمساك الذي هو ركن عبادة لا لما يصير عبادة بطريق الوسيلة على ما قررنا في الخلافيات, وأما الحديث: فهو من الآحاد فلا يصلح ناسخا للكتاب لكنه يصلح مكملا له فيحمل على نفي الكمال كقوله: "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" ليكون عملا بالدليلين بقدر الإمكان. وأما صيام القضاء, والنذور, والكفارات: فما صامها في وقت متعين لها شرعا لأن خارج رمضان متعين للنفل موضوع له شرعا إلا أن يعينه لغيره, فإذا لم ينو من الليل صوما آخر بقي الوقت متعينا للتطوع شرعا, فلا يملك تغييره, فأما ههنا فالوقت متعين لصوم رمضان وقد صامه لوجود ركن الصوم وشرائطه على ما بينا, وأما الكلام مع زفر في المسافر إذا صام رمضان بنية من النهار فوجه قوله: أن الصوم غير واجب على المسافر في رمضان حتما. ألا ترى أن له أن يفطر, والوقت غير متعين لصوم رمضان في حقه, فإن له أن يصوم عن واجب آخر فأشبه صوم القضاء خارج رمضان وذا لا يتأدى بنية من النهار كذا هذا. ولنا أن الصوم واجب على المسافر في رمضان وهو العزيمة في حقه إلا أن له أن يترخص بالإفطار, وله أن يصوم عن واجب آخر عند أبي حنيفة بطريق الرخصة, والتيسير أيضا لما فيه من إسقاط الفرض عن ذمته على ما بينا فيما تقدم, فإذا لم يفطر ولم ينو واجبا آخر بقي صوم رمضان واجبا عليه, وقد صامه فيخرج عن العهدة كالمقيم سواء. ويتصل بهذين الفصلين وهما بيان كيفية النية ووقت النية مسألة الأسير في يد العدو إذا اشتبه عليه شهر رمضان فتحرى وصام شهرا عن رمضان, وجملة الكلام فيه: أنه إذا صام شهرا عن رمضان لا يخلو إما أن وافق شهر رمضان, أو لم يوافق بأن تقدم, أو تأخر فإن وافق جاز وهذا لا يشكل لأنه أدى ما عليه, وإن تقدم لم يجز لأنه أدى الواجب قبل وجوبه وقبل وجود سبب وجوبه, وإن تأخر فإن وافق شوال يجوز لكن يراعى فيه موافقة الشهرين في عدد الأيام وتعيين النية ووجودها من الليل. وأما موافقة العدد فلأن صوم شهر آخر بعده يكون قضاء, والقضاء يكون على قدر الفائت, والشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة وعشرين يوما, وأما تعيين النية ووجودها من الليل فلأن صوم القضاء لا يجوز بمطلق النية ولا بنية من النهار لما ذكرنا فيما تقدم. وهل تشترط نية القضاء؟ ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي: أنه لا يشترط, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي: أنه يشترط, والصحيح ما ذكره القدوري لأنه نوى ما عليه من صوم رمضان وعليه القضاء, فكان ذلك منه تعيين نية القضاء وبيان هذه الجملة أنه إذا وافق صومه شهر شوال ينظر إن كان رمضان كاملا وشوال كاملا قضى يوما واحدا لأجل يوم الفطر لأن صوم القضاء لا يجوز فيه وإن كان رمضان كاملا

 

ج / 2 ص -87-         وشوال ناقصا قضى يومين يوما لأجل يوم الفطر ويوما لأجل النقصان لأن القضاء يكون على قدر الفائت وإن كان رمضان ناقصا وشوال كاملا لا شيء عليه, لأنه أكمل عدد الفائت, وإن وافق صومه هلال ذي الحجة فإن كان رمضان كاملا وذو الحجة كاملا قضى أربعة أيام يوما لأجل يوم النحر وثلاثة أيام لأجل أيام التشريق, لأن القضاء لا يجوز في هذه الأيام وإن كان رمضان كاملا وذو الحجة ناقصا قضى خمسة أيام يوما للنقصان وأربعة أيام ليوم النحر وأيام التشريق وإن كان رمضان ناقصا وذو الحجة كاملا قضى ثلاثة أيام لأن الفائت ليس إلا هذا القدر وإن وافق صومه شهرا آخر سوى هذين الشهرين فإن كان الشهران كاملين, أو ناقصين, أو كان رمضان ناقصا, والشهر الآخر كاملا فلا شيء عليه, وإن كان رمضان كاملا, والشهر الآخر ناقصا قضى يوما واحدا لأن الفائت يوم واحد, ولو صام بالتحري سنين كثيرة ثم تبين أنه صام في كل سنة قبل شهر رمضان فهل يجوز صومه في السنة الثانية عن الأولى وفي الثالثة عن الثانية وفي الرابعة عن الثالثة هكذا قال بعضهم: يجوز لأنه في كل سنة من الثانية, والثالثة, والرابعة صام صوم رمضان الذي عليه وليس عليه إلا القضاء فيقع قضاء عن الأول. وقال بعضهم: لا يجوز وعليه قضاء الرمضانات لأنه صام في كل سنة عن رمضان قبل دخول رمضان, وفصل الفقيه أبو جعفر الهندواني رحمه الله في ذلك تفصيلا فقال: إن صام في السنة الثانية عن الواجب عليه إلا أنه ظن أنه من رمضان يجوز. وكذا في الثالثة, والرابعة لأنه صام عن الواجب عليه, والواجب عليه قضاء صوم رمضان الأول دون الثاني ولا يكون عليه إلا قضاء رمضان الأخير خاصة لأنه ما قضاه فعليه قضاؤه, وإن صام في السنة الثانية عن الثالثة وفي السنة الثالثة عن الرابعة لم يجز وعليه قضاء الرمضانات كلها, أما عدم الجواز عن الرمضان الأول فلأنه ما نوى عنه, وتعيين النية في القضاء شرط ولا يجوز عن الثاني لأنه صام قبله متقدما عليه. وكذا الثالث, والرابع, وضرب له مثلا: وهو رجل اقتدى بالإمام على ظن أنه زيد فإذا هو عمرو صح اقتداؤه به, ولو اقتدى بزيد فإذا هو عمرو لم يصح اقتداؤه به لأنه في الأول نوى الاقتداء بالإمام إلا أنه ظن أن الإمام زيد فأخطأ في ظنه, فهذا لا يقدح في صحة اقتدائه بالإمام, وفي الثاني نوى الاقتداء بزيد فإذا لم يكن زيدا تبين أنه ما اقتدى بأحد كذلك ههنا إذا نوى في صوم كل سنة عن الواجب عليه تعلقت نيته بالواجب عليه لا بالأول, والثاني إلا أنه ظن أنه الثاني فأخطأ في ظنه فيقع عن الواجب عليه لا عما ظن والله أعلموأما الشرائط التي تخص بعض الصيامات دون بعض وهي: شرائط الوجوب. فمنها: الإسلام فلا يجب الصوم على الكافر في حق أحكام الدنيا بلا خلاف حتى لا يخاطب بالقضاء بعد الإسلام. وأما في حق أحكام الآخرة: فكذلك عندنا وعند الشافعي يجب, ولقب المسألة أن الكفار غير مخاطبين بشرائع هي عبادات عندنا خلافا له وهي تعرف في أصول الفقه, وعلى هذا يخرج الكافر إذا أسلم في بعض شهر رمضان أنه لا يلزمه قضاء ما مضى لأن الواجب لم يثبت فيما مضى فلم يتصور قضاء الواجب, وهذا التخريج على قول من يشترط لوجوب القضاء سابقة وجوب الأداء من مشايخنا. وأما على قول من لا يشترط ذلك منهم فإنما لا يلزمه قضاء ما مضى لمكان الحرج إذ لو لزمه ذلك للزمه قضاء جميع ما مضى من الرمضانات في حال الكفر لأن البعض ليس بأولى من البعض, وفيه من الحرج ما لا يخفى. وكذا إذا أسلم في يوم من رمضان قبل الزوال لا يلزمه صوم ذلك اليوم حتى لا يلزمه قضاؤه. وقال مالك: يلزمه وإنه غير سديد لأنه لم يكن من أهل الوجوب في أول اليوم, أو لما في وجوب القضاء من الحرج على ما بينا. ومنها البلوغ: فلا يجب صوم رمضان على الصبي وإن كان عاقلا حتى لا يلزمه القضاء بعد البلوغ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "رفع القلم عن ثلاث: عن الصبي حتى يحتلم, وعن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى يستيقظ" ولأن الصبي لضعف بنيته وقصور عقله واشتغاله باللهو, واللعب يشق عليه تفهم الخطاب وأداء الصوم فأسقط الشرع عنه العبادات نظرا له فإذا لم يجب عليه الصوم في حال الصبا لا يلزمه القضاء لما بينا أنه لا يلزمه لمكان الحرج لأن مدة الصبا مديدة فكان في إيجاب القضاء عليه بعد البلوغ حرج. وكذا إذا بلغ في يوم من رمضان قبل الزوال لا يجزئه صوم ذلك اليوم وإن نوى وليس عليه قضاؤه إذ لم يجب عليه في أول اليوم لعدم أهلية الوجوب فيه, والصوم لا يتجزأ وجوبا وجوازا ولما فيه من الحرج

 

ج / 2 ص -88-         على ما ذكرنا. وروي عن أبي يوسف في الصبي يبلغ قبل الزوال, أو أسلم الكافر أن عليهما القضاء, ووجهه أنهما أدركا وقت النية فصارا كأنهما أدركا من الليل, والصحيح جواب ظاهر الرواية لما ذكرنا أن الصوم لا يتجزأ وجوبا فإذا لم يجب عليهما البعض لم يجب الباقي, أو لما في إيجاب القضاء من الحرج. وأما العقل فهل هو من شرائط الوجوب وكذا الإفاقة, واليقظة؟ قال عامة مشايخنا: إنها ليست من شرائط الوجوب, ويجب صوم رمضان على المجنون والمغمى عليه والنائم لكن أصل الوجوب لا وجوب الأداء بناء على أن عندهم الوجوب نوعان: أحدهما أصل الوجوب وهو اشتغال الذمة بالواجب وأنه ثبت بالأسباب لا بالخطاب, ولا تشترط القدرة لثبوته بل ثبت جبرا من الله تعالى شاء العبد, أو أبى, والثاني: وجوب الأداء وهو إسقاط ما في الذمة وتفريغها من الواجب, وأنه ثبت بالخطاب وتشترط له القدرة على فهم الخطاب وعلى أداء ما تناوله الخطاب, لأن الخطاب لا يتوجه إلى العاجز عن فهم الخطاب ولا إلى العاجز عن فعل ما تناوله الخطاب, والمجنون لعدم عقله, أو لاستتاره, والمغمى عليه, والنائم لعجزهما عن استعمال عقلهما عاجزون عن فهم الخطاب وعن أداء ما تناوله الخطاب, فلا يثبت وجوب الأداء في حقهم ويثبت أصل الوجوب في حقهم, لأنه لا يعتمد القدرة بل يثبت جبرا. وتقرير هذا الأصل معروف في أصول الفقه, وفي الخلافيات, وقال أهل التحقيق من مشايخنا بما وراء النهر: إن الوجوب في الحقيقة نوع واحد وهو وجوب الأداء فكل من كان من أهل الأداء كان من أهل الوجوب ومن لا فلا وهو اختيار أستاذي الشيخ الأجل الزاهد علاء الدين رئيس أهل السنة محمد بن أحمد السمرقندي رضي الله عنه لأن الوجوب المعقول هو وجوب الفعل كوجوب الصوم, والصلاة وسائر العبادات, فمن لم يكن من أهل أداء الفعل الواجب وهو القادر على فهم الخطاب, والقادر على فعل ما يتناوله الخطاب لا يكون من أهل الوجوب ضرورة, والمجنون, والمغمى عليه, والنائم عاجزون عن فعل الخطاب بالصوم وعن أدائه إذ الصوم الشرعي هو الإمساك لله تعالى ولن يكون ذلك بدون النية, وهؤلاء ليسوا من أهل النية, فلم يكونوا من أهل الأداء فلم يكونوا من أهل الوجوب, والذي دعا الأولين إلى القول بالوجوب في حق هؤلاء ما انعقد الإجماع عليه من وجوب القضاء على المغمى عليه, والنائم بعد الإفاقة, والانتباه بعد مضي بعض الشهر, أو كله, وما قد صح من مذهب أصحابنا رحمهم الله في المجنون إذا أفاق في بعض شهر رمضان أنه يجب عليه قضاء ما مضى من الشهر, فقالوا: إن وجوب القضاء يستدعي فوات الواجب المؤقت عن وقته مع القدرة عليه وانتفاء الحرج, فلا بد من الوجوب في الوقت ثم فواته حتى يمكن إيجاب القضاء فاضطرهم ذلك إلى إثبات الوجوب في حال الجنون, والإغماء, والنوم, وقال الآخرون: إن وجوب القضاء لا يستدعي سابقية الوجوب لا محالة, وإنما يستدعي فوت العبادة عن وقتها, والقدرة على القضاء من غير حرج, ولذلك اختلفت طرقهم في المسألة, وهذا الذي ذكرنا في المجنون إذا أفاق في بعض شهر رمضان أنه يلزمه قضاء ما مضى جواب الاستحسان, والقياس أن لا يلزمه وهو قول زفر, والشافعي. وأما المجنون جنونا مستوعبا بأن جن قبل دخول شهر رمضان وأفاق بعد مضيه فلا قضاء عليه عند عامة العلماء, وعند مالك يقضي, وجه القياس أن القضاء هو تسليم مثل الواجب ولا وجوب على المجنون لأن الوجوب بالخطاب ولا خطاب عليه لانعدام القدرتين, ولهذا لم يجب القضاء في الجنون المستوعب شهرا, وجه قول أصحابنا. أما من قال بالوجوب في حال الجنون يقول: فاته الواجب عن وقته وقدر على قضائه من غير حرج فيلزمه قضاؤه قياسا على النائم, والمغمى عليه ودليل الوجوب لهم وجود سبب الوجوب وهو الشهر إذ الصوم يضاف إليه مطلقا, يقال صوم الشهر, والإضافة دليل السببية, وهو قادر على القضاء من غير حرج. وفي إيجاب القضاء عند الاستيعاب حرج. وأما من أبى القول بالوجوب في حال الجنون يقول: هذا شخص فاته صوم شهر رمضان وقدر على قضائه من غير حرج فيلزمه قضاؤه قياسا على النائم, والمغمى عليه, ومعنى قولنا فاته صوم شهر رمضان أي: لم يصم شهر رمضان, وقولنا من غير حرج فلأنه لا حرج في قضاء نصف الشهر, وتأثيرها من وجهين أحدهما: أن الصوم عبادة, والأصل في العبادات وجوبها على الدوام بشرط الإمكان وانتفاء الحرج لما ذكرنا في

 

ج / 2 ص -89-         الخلافيات إلا أن الشرع عين شهر رمضان من السنة في حق القادر على الصوم فبقي الوقت المطلق في حق العاجز عنه وقتا له, والثاني: أنه لما فاته صوم شهر رمضان فقد فاته الثواب المتعلق به فيحتاج إلى استدراكه بالصوم في عدة من أيام أخر ليقوم الصوم فيها مقام الفائت فينجبر الفوات بالقدر الممكن, فإذا قدر على قضائه من غير حرج أمكن القول بالوجوب عليه فيجب كما في المغمى عليه, والنائم بخلاف الجنون المستوعب فإن هناك في إيجاب القضاء حرجا لأن الجنون المستوعب قلما يزول بخلاف الإغماء, والنوم إذا استوعب لأن استيعابه نادر, والنادر ملحق بالعدم بخلاف الجنون فإن استيعابه ليس بنادر, ويستوي الجواب في وجوب قضاء ما مضى عند أصحابنا في الجنون العارض ما إذا أفاق في وسط الشهر, أو في أوله حتى لو جن قبل الشهر ثم أفاق في آخر يوم منه يلزمه قضاء جميع الشهر, ولو جن في أول يوم من رمضان فلم يفق إلا بعد مضي الشهر يلزمه قضاء كل الشهر إلا قضاء اليوم الذي جن فيه إن كان نوى الصوم في الليل وإن كان لم ينو قضى جميع الشهر, ولو جن في طرفي الشهر وأفاق في وسطه فعليه قضاء الطرفين. وأما المجنون الأصلي وهو الذي بلغ مجنونا ثم أفاق في بعض الشهر فقد روي عن محمد أنه فرق بينهما فقال: لا يقضي ما مضى من الشهر. وروي عن أبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه سوى بينهما, وقال: يقضي ما مضى من الشهر, وهكذا روى هشام عن أبي يوسف في صبي له عشر سنين جن فلم يزل مجنونا حتى أتى عليه ثلاثون سنة, أو أكثر ثم صح في آخر يوم من شهر رمضان, فالقياس أنه لا يجب عليه قضاء ما مضى لكن استحسن أن يقضي ما مضى في هذا الشهر, وجه قول محمد أن زمان الإفاقة في حيز زمان ابتداء التكليف فأشبه الصغير إذا بلغ في بعض الشهر بخلاف الجنون العارض فإن هناك زمان التكليف سبق الجنون إلا أنه عجز عن الأداء بعارض فأشبه المريض العاجز عن أداء الصوم إذا صح. وجه رواية عن أبي حنيفة وأبي يوسف ما ذكرنا من الطريقين في الجنون العارض ولو أفاق المجنون جنونا عارضا في نهار رمضان قبل الزوال فنوى الصوم أجزأه عن رمضان, والجنون الأصلي على الاختلاف الذي ذكرنا, ويجوز في الإغماء, والنوم بلا خلاف بين أصحابنا. وعلى هذا الطهارة من الحيض, والنفاس إنها شرط الوجوب عند أهل التحقيق من مشايخنا إذ الصوم الشرعي لا يتحقق من الحائض, والنفساء فتعذر القول بوجوب الصوم عليهما في وقت الحيض والنفاس إلا أنه يجب عليهما قضاء الصوم لفوات صوم رمضان عليهما ولقدرتهما على القضاء في عدة من أيام أخر من غير حرج, وليس عليهما قضاء الصلوات لما فيه من الحرج لأن وجوبها يتكرر في كل يوم خمس مرات, ولا يلزم الحائض في السنة إلا قضاء عشرة أيام ولا حرج في ذلك, وعلى قول عامة المشايخ ليس بشرط, وأصل الوجوب ثابت في حالة الحيض, والنفاس, وإنما تشترط الطهارة لأهلية الأداء, والأصل فيه ما روي "أن امرأة سألت عائشة رضي الله عنها فقالت: لم تقضي الحائض الصوم ولا تقضي الصلاة؟ فقالت عائشة رضي الله عنها للسائلة: أحرورية أنت؟ هكذا كن النساء يفعلن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم" أشارت إلى أن ذلك ثبت تعبدا محضا. والظاهر أن فتواها بلغت الصحابة ولم ينقل أنه أنكر عليها منكر فيكون إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم, ولو طهرتا بعد طلوع الفجر قبل الزوال لا يجزيهما صوم ذلك اليوم لا عن فرض ولا عن نفل, لعدم وجوب الصوم عليهما, ووجوده في أول اليوم فلا يجب ولا يوجد في الباقي لعدم التجزي, وعليهما قضاؤه مع الأيام الأخر لما ذكرنا, وإن طهرتا قبل طلوع الفجر ينظر إن كان الحيض عشرة أيام, والنفاس أربعين يوما فعليهما قضاء صلاة العشاء, ويجزيهما صومهما من الغد عن رمضان إذا نوتا قبل طلوع الفجر لخروجهما عن الحيض, والنفاس بمجرد انقطاع الدم, فتقع الحاجة إلى النية لا غير, وإن كان الحيض دون العشرة, والنفاس دون الأربعين فإن بقي من الليل مقدار ما يسع للاغتسال ومقدار ما يسع النية بعد الاغتسال فكذلك, وإن بقي من الليل دون ذلك لا يلزمهما قضاء صلاة العشاء ولا يجزيهما صومهما من الغد, وعليهما قضاء ذلك اليوم كما لو طهرتا بعد طلوع الفجر لأن مدة الاغتسال فيما دون العشرة, والأربعين من الحيض بإجماع الصحابة رضي الله عنهم. ولو أسلم الكافر قبل طلوع الفجر بمقدار ما يمكنه النية فعليه صوم الغد وإلا فلا,

 

ج / 2 ص -90-         وكذلك الصبي إذا بلغ, وكذلك المجنون جنونا أصليا على قول محمد لأنه بمنزلة الصبا عنده.

 

"فصل": وأما ركنه: فالإمساك عن الأكل, والشرب, والجماع لأن الله تعالى أباح الأكل, والشرب, والجماع في ليالي رمضان لقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ} إلى قوله {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أي: حتى يتبين لكم ضوء النهار من ظلمة الليل من الفجر, ثم أمر بالإمساك عن هذه الأشياء في النهار بقوله عز وجل {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} فدل أن ركن الصوم ما قلنا فلا يوجد الصوم بدونه. وعلى هذا الأصل ينبني بيان ما يفسد الصوم وينقضه لأن انتقاض الشيء عند فوات ركنه أمر ضروري, وذلك بالأكل, والشرب, والجماع سواء كان صورة ومعنى, أو صورة لا معنى, أو معنى لا صورة وسواء كان بغير عذر, أو بعذر وسواء كان عمدا, أو خطأ طوعا, أو كرها بعد أن كان ذاكرا لصومه لا ناسيا ولا في معنى الناسي, , والقياس أن يفسد, وإن كان ناسيا وهو قول مالك لوجود ضد الركن حتى قال أبو حنيفة: لولا قول الناس لقلت يقضي أي: لولا قول الناس إن أبا حنيفة خالف الأمر لقلت: يقضي لكنا تركنا القياس بالنص وهو ما روي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه فإن الله عز وجل أطعمه وسقاه" حكم ببقاء صومه وعلل بانقطاع نسبة فعله عنه بإضافته إلى الله تعالى لوقوعه من غير قصده. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: لا قضاء على الناسي للأثر المروي عن النبي صلى الله عليه وسلم والقياس أن يقضي ذلك ولكن اتباع الأثر أولى إذا كان صحيحا, وحديث صححه أبو حنيفة لا يبقى لأحد فيه مطعن. وكذا انتقده أبو يوسف حيث قال: وليس حديثا شاذا نجترئ على رده, وكان من صيارفة الحديث. وروي عن علي وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم مثل مذهبنا ولأن النسيان في باب الصوم مما يغلب وجوده ولا يمكن دفعه إلا بحرج فجعل عذرا دفعا للحرج. وعن عطاء, والثوري أنهما فرقا بين الأكل, والشرب وبين الجماع ناسيا, فقالا: يفسد صومه في الجماع ولا يفسد في الأكل, والشرب لأن القياس يقتضي الفساد في الكل لفوات ركن الصوم في الكل, إلا أنا تركنا القياس بالخبر, وأنه ورد في الأكل, والشرب فبقي الجماع على أصل القياس, وإنا نقول: نعم الحديث ورد في الأكل, والشرب لكنه معلول بمعنى يوجد في الكل, وهو أنه فعل مضاف إلى الله تعالى على طريق التمحيص بقوله "فإنما أطعمه الله وسقاه" قطع إضافته عن العبد لوقوعه فيه من غير قصده واختياره, وهذا المعنى يوجد في الكل, , والعلة إذا كانت منصوصا عليها كان الحكم منصوصا عليه ويتعمم الحكم بمعموم العلة وكذا معنى الحرج يوجد في الكل. ولو أكل فقيل له: إنك صائم وهو لا يتذكر أنه صائم ثم علم بعد ذلك فعليه القضاء في قول أبي يوسف, وعند زفر, والحسن بن زياد لا قضاء عليه. وجه قولهما أنه لما تذكر أنه كان صائما تبين أنه أكل ناسيا فلم يفسد صومه, ولأبي يوسف أنه أكل متعمدا لأن عنده أنه ليس بصائم فيبطل صومه. ولو دخل الذباب حلقه لم يفطره لأنه لا يمكنه الاحتراز عنه فأشبه الناسي ولو أخذه فأكله فطره لأنه تعمد أكله وإن لم يكن مأكولا كما لو أكل التراب. ولو دخل الغبار أو الدخان أو الرائحة في حلقة لم يفطره, لما قلنا. وكذا لو ابتلع البلل الذي بقي بعد المضمضة في فمه مع البزاق أو ابتلع البزاق الذي اجتمع في فمه لما ذكرنا, ولو بقي بين أسنانه شيء فابتلعه ذكر في الجامع الصغير أنه لا يفسد صومه, وإن أدخله حلقه متعمدا, روي عن أبي يوسف أنه إن تعمد عليه القضاء ولا كفارة عليه ووفق ابن أبي مالك فقال: إن كان مقدار الحمصة, أو أكثر يفسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة كما قال أبو يوسف رحمه الله تعالى, وقول أبي يوسف محمول عليه, وإن كان دون الحمصة لا يفسد صومه, كما لو ذكر في الجامع الصغير, والمذكور فيه محمول عليه وهو الأصح ووجهه أن ما دون الحمصة يسير يبقى بين الأسنان عادة, فلا يمكن التحرز عنه بمنزلة الريق, فيشبه الناسي ولا كذلك قدر الحمصة فإن بقاءه بين الأسنان غير معتاد فيمكن الاحتراز عنه فلا يلحق بالناسي. وقال زفر: عليه القضاء, والكفارة, وجه قوله إنه أكل ما هو مأكول في نفسه إلا أنه متغير فأشبه اللحم المنتن ولنا أنه أكل ما لا يؤكل عادة إذ لا يقصد به الغذاء ولا الدواء. فإن تثاءب فرفع رأسه إلى السماء فوقع في حلقه قطرة مطر أو ماء صب في ميزاب فطره

 

ج / 2 ص -91-         لأن الاحتراز عنه ممكن. وقد وصل الماء إلى جوفه. ولو أكره على الأكل أو الشرب فأكل أو شرب بنفسه مكرها وهو ذاكر لصومه فسد صومه بلا خلاف عندنا, وعند زفر, والشافعي: لا يفسد, وجه قولهما إن هذا أعذر من الناسي لأن الناسي وجد منه الفعل حقيقة وإنما انقطعت نسبته عنه شرعا بالنص, وهذا لم يوجد منه الفعل أصلا, فكان أعذر من الناسي, ثم لم يفسد صوم الناسي فهذا أولى. ولنا أن معنى الركن قد فات لوصول المغذي إلى جوفه بسبب لا يغلب وجوده, ويمكن التحرز عنه في الجملة فلا يبقى الصوم, كما لو أكل, أو شرب بنفسه مكرها وهذا لأن المقصود من الصوم معناه وهو كونه وسيلة إلى الشكر, والتقوى وقهر الطبع الباعث على الفساد على ما بينا, ولا يحصل شيء من ذلك إذا وصل الغذاء إلى جوفه. وكذا النائمة الصائمة جامعها زوجها ولم تنتبه أو المجنونة جامعها زوجها فسد صومها عندنا خلافا لزفر, , والكلام فيه على نحو ما ذكرنا. ولو تمضمض أو استنشق فسبق الماء حلقه ودخل جوفه فإن لم يكن ذاكرا لصومه لا يفسد صومه لأنه لو شرب لم يفسد, فهذا أولى وإن كان ذاكرا فسد صومه عندنا. وقال ابن أبي ليلى: إن كان وضوءه للصلاة المكتوبة لم يفسد وإن كان للتطوع فسد, وقال الشافعي: لا يفسد أيهما كان, وقال بعضهم: إن تمضمض ثلاث مرات فسبق الماء حلقه لم يفسد, وإن زاد على الثلاث فسد, وجه قول ابن أبي ليلى أن الوضوء للصلاة المكتوبة فرض, فكأن المضمضة, والاستنشاق من ضرورات إكمال الفرض, فكان الخطأ فيهما عذرا بخلاف صلاة التطوع, وجه قول من فرق بين الثلاث وما زاد عليه أن السنة فيهما, والثلاث فكان الخطأ فيهما من ضرورات إقامة السنة فكان عفوا. وأما الزيادة على الثلاث فمن باب الاعتداء على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم "فمن زاد, أو نقص فقد تعدى وظلم" فلم يعذر فيه, والكلام مع الشافعي على نحو ما ذكرنا في الإكراه يؤيد ما ذكرنا أن الماء لا يسبق الحلق في المضمضة, والاستنشاق عادة إلا عند المبالغة فيهما, والمبالغة مكروهة في حق الصائم, قال النبي صلى الله عليه وسلم للقيط بن صبرة "بالغ في المضمضة, والاستنشاق إلا أن تكون صائما" فكان في المبالغة متعديا فلم يعذر بخلاف الناسي. ولو احتلم في نهار رمضان فأنزل لم يفطره, لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء, والحجامة, والاحتلام" ولأنه لا صنع له فيه فيكون كالناسي. ولو نظر إلى امرأة وتفكر فأنزل لم يفطره, وقال مالك: إن تتابع نظره فطره لأن التتابع في النظر كالمباشرة. ولنا أنه لم يوجد الجماع لا صورة ولا معنى لعدم الاستمتاع بالنساء فأشبه الاحتلام بخلاف المباشرة. ولو كان يأكل أو يشرب ناسيا ثم تذكر فألقى اللقمة أو قطع الماء, أو كان يتسحر فطلع الفجر وهو يشرب الماء فقطعه, أو يأكل فألقى اللقمة فصومه تام لعدم الأكل, والشرب بعد التذكر, والطلوع. ولو كان يجامع امرأته في النهار ناسيا لصومه فتذكر فنزع من ساعته, أو كان يجامع في الليل فطلع الفجر وهو مخالط فنزع من ساعته فصومه تام. وقال زفر: فسد صومه وعليه القضاء, وجه قوله إن جزءا من الجماع حصل بعد طلوع الفجر, والتذكر, وإنه يكفي لفساد الصوم لوجود المضادة له, وإن قل ولنا أن الموجود منه بعد الطلوع, والتذكر هو النزع, والنزع ترك الجماع وترك الشيء لا يكون محصلا له بل يكون اشتغالا بضده, فلم يوجد منه الجماع بعد الطلوع, والتذكر رأسا, فلا يفسد صومه, ولهذا لم يفسد في الأكل, والشرب كذا في الجماع, وهذا إذا نزع بعد ما تذكر, أو بعد ما طلع الفجر, فأما إذا لم ينزع وبقي فعليه القضاء ولا كفارة عليه في ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف أنه فرق بين الطلوع, والتذكر فقال: في الطلوع عليه الكفارة, وفي التذكر لا كفارة عليه. وقال الشافعي: عليه القضاء, والكفارة فيهما جميعا. وجه قوله إنه وجد الجماع في نهار رمضان متعمدا لوجوده بعد طلوع الفجر, والتذكر فيوجب القضاء, والكفارة, وجه رواية أبي يوسف وهو الفرق بين الطلوع, والتذكر أن في الطلوع ابتداء الجماع كان عمدا, والجماع جماع واحد بابتدائه وانتهائه, والجماع العمد يوجب الكفارة. وأما في التذكر: فابتداء الجماع كان ناسيا وجماع الناسي لا يوجب فساد الصوم فضلا عن وجوب الكفارة, وجه ظاهر الرواية أن الكفارة إنما تجب بإفساد الصوم وإفساد الصوم يكون بعد وجوده, وبقاؤه في الجماع يمنع وجود الصوم فإذا امتنع وجوده استحال الإفساد فلا تجب الكفارة, ووجوب القضاء لانعدام صومه اليوم لا لإفساده بعد وجوده, ولأن هذا جماع لم يتعلق بابتدائه وجوب الكفارة فلا يتعلق بالبقاء عليه لأن الكل فعل واحد

 

ج / 2 ص -92-         وله شبهة الاتحاد وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة لما نذكره. ولو أصبح جنبا في رمضان فصومه تام عند عامة الصحابة مثل علي وابن مسعود وزيد بن ثابت وأبي الدرداء وأبي ذر وابن عباس وابن عمر ومعاذ بن جبل رضي الله تعالى عنهم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لا صوم له واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أصبح جنبا فلا صوم له" قاله محمد ورب الكعبة قاله راوي الحديث وأكده بالقسم, ولعامة الصحابة قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ} إلى قوله {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} أحل الله عز وجل الجماع في ليالي رمضان إلى طلوع الفجر, وإذا كان الجماع في آخر الليل يبقي الرجل جنبا بعد طلوع الفجر لا محالة فدل أن الجنابة لا تضر الصوم. وأما حديث أبي هريرة فقد ردته عائشة وأم سلمة فقالت عائشة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من غير احتلام ثم يتم صومه ذلك من رمضان" وقالت أم سلمة "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنبا من قراف" أي: جماع مع أنه خبر واحد ورد مخالفا للكتاب. ولو نوى الصائم الفطر ولم يحدث شيئا آخر سوى النية فصومه تام, وقال الشافعي: بطل صومه. وجه قوله إن الصوم لا بد له من النية وقد نقض نية الصوم بنية ضده وهو الإفطار فبطل صومه لبطلان شرطه, ولنا أن مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع ما لم يتصل به الفعل لقول النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا, أو يفعلوا" ونية الإفطار لم يتصل بها الفعل وبه تبين أنه ما نقض نية الصوم بنية الفطر لأن نية الصوم نية اتصل بها الفعل فلا تبطل بنية لم يتصل بها الفعل, على أن النية شرط انعقاد الصوم لا شرط بقائه منعقدا ألا ترى أنه يبقى مع النوم, والنسيان, والغفلة ؟. ولو ذرعه القيء لم يفطره سواء كان أقل من ملء الفم, أو كان ملء الفم, لقول النبي صلى الله عليه وسلم "ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء, والحجامة, والاحتلام" وقوله "من قاء فلا قضاء عليه" ولأن ذرع القيء مما لا يمكن التحرز عنه بل يأتيه على وجه لا يمكنه دفعه فأشبه الناسي ولأن الأصل أن لا يفسد الصوم بالقيء سواء ذرعه, أو تقيأ لأن فساد الصوم متعلق بالدخول شرعا, قال النبي صلى الله عليه وسلم "الفطر مما يدخل, والوضوء مما يخرج" علق كل جنس الفطر بكل ما يدخل, ولو حصل لا بالدخول لم يكن كل جنس الفطر معلقا بكل ما يدخل لأن الفطر الذي يحصل بما يخرج لا يكون ذلك الفطر حاصلا بما يدخل, وهذا خلاف النص, إلا أنا عرفنا الفساد بالاستقاء بنص آخر وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم "ومن استقاء فعليه القضاء" فبقي الحكم في الذرع على الأصل, ولأنه لا صنع له في الذرع وهو سبق القيء بل يحصل بغير قصده واختياره, والإنسان لا يؤاخذ بما لا صنع له فيه, فلهذا لا يؤاخذ الناسي بفساد الصوم, فكذا هذا لأن هذا في معناه بل أولى لأنه لا صنع له فيه أصلا بخلاف الناسي على ما مر, فإن عاد إلى جوفه فإن كان أقل من ملء الفم لا يفسد بلا خلاف, وإن كان ملء الفم فذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن في قول أبي يوسف يفسد, وفي قول محمد لا يفسد, وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي الاختلاف على العكس فقال في قول أبي يوسف: لا يفسد وفي قول محمد يفسد, وجه قول من قال يفسد أنه وجد المفسد وهو الدخول في الجوف لأن القيء ملء الفم له حكم الخروج بدليل انتقاض الطهارة, والطهارة لا تنتقض إلا بخروج النجاسة فإذا عاد فقد وجد الدخول فيدخل تحت قول النبي صلى الله عليه وسلم "والفطر مما يدخل" وجه قول من قال لا يفسد أن العود ليس صنعه بل هو صنع الله تعالى على طريق التمحض يعني به مصنوعه لا صنع للعبد فيه رأسا, فأشبه ذرع القيء, وإنه غير مفسد كذا عود القيء فإن أعاده فإن كان ملء الفم فسد صومه بالاتفاق لوجود الإدخال متعمدا لما ذكرنا أن للقيء ملء الفم حكم الخروج حتى يوجب انتقاض الطهارة, فإذا أعاده فقد أدخله في الجوف عن قصد, فيوجب فساد الصوم وإن كان أقل من ملء الفم ففي قول أبي يوسف لا يفسد وفي قول محمد يفسد, وجه قول محمد أنه وجد الدخول إلى الجوف بصنعه فيفسد ولأبي يوسف أن الدخول إنما يكون بعد الخروج, وقليل القيء ليس له حكم الخروج بدليل عدم انتقاض الطهارة به فلم يوجد الدخول فلا يفسد, هذا الذي ذكرنا كله إذا ذرعه القيء فأما إذا استقاء فإن كان ملء الفم يفسد صومه بلا خلاف لقول النبي صلى الله عليه

 

ج / 2 ص -93-         وسلم "ومن استقاء فعليه القضاء" وإن كان أقل من ملء الفم لا يفسد في قول أبي يوسف, وعند محمد يفسد واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم "ومن استقاء فعليه القضاء مطلقا" من غير فصل بين القليل, والكثير. وجه قول أبي يوسف ما ذكرنا أن الأصل أن لا يفسد الصوم إلا بالدخول بالنص الذي روينا, ولم يوجد ههنا فلا يفسد, والحديث محمول على الكثير توفيقا بين الدليلين بقدر الإمكان, ثم كثير المستقاء لا يتفرع عليه العود, والإعادة لأن الصوم قد فسد بالاستقاء وكذا قليله في قول محمد لأن عنده فسد الصوم بنفس الاستقاء, وإن كان قليلا, وأما على قول أبي يوسف فإن عاد لا يفسد, وإن أعاده ففيه عن أبي يوسف روايتان في رواية: يفسد, وفي رواية: لا يفسد. وما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن المخارق الأصلية كالأنف والأذن والدبر بأن استعط أو احتقن أو أقطر في أذنه فوصل إلى الجوف أو إلى الدماغ فسد صومه, أما إذا وصل إلى الجوف فلا شك فيه لوجود الأكل من حيث الصورة. وكذا إذا وصل إلى الدماغ لأنه له منفذ إلى الجوف فكان بمنزلة زاوية من زوايا الجوف. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قال للقيط بن صبرة: بالغ في المضمضة, والاستنشاق إلا أن تكون صائما" ومعلوم أن استثناءه حالة الصوم للاحتراز عن فساد الصوم وإلا لم يكن للاستثناء معنى, ولو وصل إلى الرأس ثم خرج لا يفسد بأن استعط بالليل ثم خرج بالنهار لأنه لما خرج علم أنه لم يصل إلى الجوف, أو لم يستقر فيه. وأما ما وصل إلى الجوف أو إلى الدماغ عن غير المخارق الأصلية بأن داوى الجائفة, والآمة, فإن داواها بدواء يابس لا يفسد لأنه لم يصل إلى الجوف ولا إلى الدماغ ولو علم أنه وصل يفسد في قول أبي حنيفة, وإن داواها بدواء رطب يفسد عند أبي حنيفة وعندهما لا يفسد هما اعتبرا المخارق الأصلية لأن الوصول إلى الجوف من المخارق الأصلية متيقن به ومن غيرها مشكوك فيه, فلا نحكم بالفساد مع الشك ولأبي حنيفة إن الدواء إذا كان رطبا فالظاهر هو الوصول لوجود المنفذ إلى الجوف فيبنى الحكم على الظاهر. وأما الإقطار في الإحليل فلا يفسد في قول أبي حنيفة, وعندهما يفسد, قيل: إن الاختلاف بينهم بناء على أمر خفي وهو كيفية خروج البول من الإحليل فعندهما أن خروجه منه لأن له منفذا فإذا قطر فيه يصل إلى الجوف كالإقطار في الأذن, وعند أبي حنيفة أن خروج البول منه من طريق الترشح كترشح الماء من الخزف الجديد فلا يصل بالإقطار فيه إلى الجوف, والظاهر أن البول يخرج منه خروج الشيء من منفذه كما قالا وروى الحسن عن أبي حنيفة مثل قولهما, وعلى هذه الرواية اعتمد أستاذي رحمه الله وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي وقول محمد مع أبي حنيفة. وأما الإقطار في قبل المرأة فقد قال مشايخنا: إنه يفسد صومها بالإجماع, لأن لمثانتها منفذا فيصل إلى الجوف كالإقطار في الأذن. ولو طعن برمح فوصل إلى جوفه أو إلى دماغه فإن أخرجه مع النصل لم يفسد وإن بقي النصل فيه يفسد. وكذا قالوا فيمن ابتلع لحما مربوطا على خيط ثم انتزعه من ساعته؟ إنه لا يفسد وإن تركه فسد وكذا روي عن محمد في الصائم إذا أدخل خشبة في المقعدة؟ إنه لا يفسد صومه إلا إذا غاب طرف الخشبة وهذا يدل على أن استقرار الداخل في الجوف شرط فساد الصوم, ولو أدخل أصبعه في دبره قال بعضهم: يفسد صومه, وقال بعضهم: لا يفسد, وهو قول الفقيه أبي الليث لأن الأصبع ليست بآلة الجماع فصارت كالخشب. ولو اكتحل الصائم لم يفسد وإن وجد طعمه في حلقه عند عامة العلماء. وقال ابن أبي ليلى يفسد, وجه قوله إنه لما وجد طعمه في حلقه فقد وصل إلى جوفه. "ولنا" ما روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال: "خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان وعيناه مملوءتان كحلا كحلتهما أم سلمة" ولأنه لا منفذ من العين إلى الجوف ولا إلى الدماغ وما وجد من طعمه فذاك أثره لا عينه, وأنه لا يفسد كالغبار, والدخان. وكذا لو دهن رأسه أو أعضاءه فتشرب فيه أنه لا يضره لأنه وصل إليه الأثر لا العين. ولو أكل حصاة أو نواة أو خشبا أو حشيشا أو نحو ذلك مما لا يؤكل عادة ولا يحصل به قوام البدن يفسد صومه لوجود الأكل صورة. ولو جامع امرأته فيما دون الفرج فأنزل أو باشرها أو قبلها أو لمسها بشهوة فأنزل يفسد صومه, وعليه القضاء ولا كفارة عليه. وكذا إذا فعل ذلك فأنزلت المرأة لوجود الجماع من حيث المعنى وهو قضاء الشهوة بفعله وهو المس بخلاف النظر فإنه ليس بجماع أصلا لأنه ليس بقضاء للشهوة بل هو سبب لحصول الشهوة على ما نطق به الحديث "إياكم, والنظرة فإنها تزرع في القلب

 

ج / 2 ص -94-         الشهوة" ولو عالج ذكره فأمنى اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: لا يفسد, وقال بعضهم: يفسد وهو قول محمد بن سلمة, والفقيه أبي الليث لوجود قضاء الشهوة بفعله فكان جماعا من حيث المعنى. وعن محمد فيمن أولج ذكره في امرأته قبل الصبح ثم خشي الصبح فانتزع منها فأمنى بعد الصبح أنه لا يفسد صومه وهو بمنزلة الاحتلام. ولو جامع بهيمة فأنزل فسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة عليه لأنه وإن وجد الجماع صورة ومعنى وهو قضاء الشهوة لكن على سبيل القصور لسعة المحل, ولو جامعها ولم ينزل لا يفسد. ولو حاضت المرأة ونفست بعد طلوع الفجر فسد صومها لأن الحيض, والنفاس منافيان للصوم لمنافاتهما أهلية الصوم شرعا بخلاف القياس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما بينا فيما تقدم بخلاف ما إذا جن إنسان بعد طلوع الفجر, أو أغمي عليه. وقد كان نوى من الليل إن صومه ذلك اليوم جائز لما ذكرنا أن الجنون, والإغماء لا ينافيان أهلية الأداء وإنما ينافيان النية بخلاف الحيض, والنفاس والله أعلم.

"فصل": وأما حكم فساد الصوم: ففساد الصوم يتعلق به أحكام بعضها يعم الصيامات كلها, وبعضها يخص البعض دون البعض, أما الذي يعم الكل: فالإثم إذا أفسد بغير عذر لأنه أبطل عمله من غير عذر وإبطال العمل من غير عذر حرام, لقوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} وقال الشافعي: كذلك إلا في صوم التطوع بناء على أن الشروع في التطوع موجب للإتمام عندنا, وعنده ليس بموجب, والمسألة ذكرناها في كتاب الصلاة, وإن كان بعذر لا يأثم وإذا اختلف الحكم بالعذر فلا بد من معرفة. الأعذار المسقطة للإثم, والمؤاخذة فنبينها بتوفيق الله تعالى فنقول: هي المرض, والسفر, والإكراه, والحبل, والرضاع, والجوع, والعطش, وكبر السن, لكن بعضها مرخص, وبعضها مبيح مطلق لا موجب, كما فيه خوف زيادة ضرر دون خوف الهلاك, فهو مرخص وما فيه خوف الهلاك فهو مبيح مطلق بل موجب فنذكر جملة ذلك فنقول: أما المرض فالمرخص منه هو الذي يخاف أن يزداد بالصوم وإليه وقعت الإشارة في الجامع الصغير. فإنه قال في رجل خاف إن لم يفطر أن تزداد عيناه وجعا, أو حماه شدة أفطر, وذكر الكرخي في مختصره: أن المرض الذي يبيح الإفطار هو ما يخاف منه الموت, أو زيادة العلة كائنا ما كانت العلة. وروي عن أبي حنيفة أنه إن كان بحال يباح له أداء صلاة الفرض قاعدا فلا بأس بأن يفطر, والمبيح المطلق بل الموجب هو الذي يخاف منه الهلاك لأن فيه إلقاء النفس إلى التهلكة لا لإقامة حق الله تعالى وهو الوجوب, والوجوب لا يبقى في هذه الحالة, وإنه حرام فكان الإفطار مباحا بل واجبا وأما السفر فالمرخص منه هو مطلق السفر المقدر, والأصل فيهما قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي: فمن كان منكم مريضا, أو على سفر فأفطر بعذر المرض, والسفر فعدة من أيام أخر, دل أن المرض, والسفر سببا الرخصة ثم السفر, والمرض وإن أطلق ذكرهما في الآية فالمراد منهما المقيد لأن مطلق السفر ليس بسبب الرخصة لأن حقيقة السفر هو الخروج عن الوطن, أو الظهور, وذا يحصل بالخروج إلى الضيعة ولا تتعلق به الرخصة فعلم أن المرخص سفر مقدر بتقدير معلوم وهو الخروج عن الوطن على قصد مسيرة ثلاثة أيام فصاعدا عندنا, وعند الشافعي يوم وليلة, وقد مضى الكلام في تقديره في كتاب الصلاة, وكذا مطلق المرض ليس بسبب للرخصة لأن الرخصة بسبب المرض, والسفر لمعنى المشقة بالصوم تيسيرا لهما وتخفيفا عليهما على ما قال الله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} ومن الأمراض ما ينفعه الصوم ويخفه ويكون الصوم على المريض أسهل من الأكل, بل الأكل يضره ويشتد عليه, ومن التعبد الترخص بما يسهل على المريض تحصيله, والتضييق بما يشتد عليه, وفي الآية دلالة وجوب القضاء على من أفطر بغير عذر لأنه لما وجب القضاء على المريض, والمسافر مع أنهما أفطرا بسبب العذر المبيح للإفطار فلأن يجب على غير ذي العذر أولى, وسواء كان السفر سفر طاعة, أو مباحا, أو معصية عندنا, وعند الشافعي سفر المعصية لا يفيد الرخصة, , والمسألة مضت في كتاب الصلاة والله أعلم وسواء سافر قبل دخول شهر رمضان, أو بعده أن له أن يترخص فيفطر عند عامة الصحابة, وعن علي وابن عباس رضي الله عنهما أنه إذا أهل في المصر ثم سافر لا يجوز له أن يفطر, وجه قولهما أنه لما استهل في الحضر

 

ج / 2 ص -95-         لزمه صوم الإقامة, وهو صوم الشهر حتما فهو بالسفر يريد إسقاطه عن نفسه فلا يملك ذلك كاليوم الذي سافر فيه, إنه لا يجوز له أن يفطر فيه لما بينا, كذا هذا ولعامة الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} جعل الله مطلق السفر سبب الرخصة, ولأن السفر إنما كان سبب الرخصة لمكان المشقة وإنها توجد في الحالين فتثبت الرخصة في الحالين جميعا. وأما وجه قولهما إن بالإهلال في الحضر لزمه صوم الإقامة, فنقول: نعم إذا أقام, أما إذا سافر يلزمه صوم السفر, وهو أن يكون فيه رخصة الإفطار لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ} فكان ما قلناه عملا بالآيتين. فكان أولى بخلاف اليوم الذي سافر فيه لأنه كان مقيما في أول اليوم فدخل تحت خطاب المقيمين في ذلك اليوم فلزمه إتمامه حتما. فأما اليوم الثاني, والثالث فهو مسافر فلا يدخل تحت خطاب المقيمين, ولأن من المشايخ من قال: إن الجزء الأول من كل يوم سبب لوجوب صوم ذلك اليوم, وهو كان مقيما في أول الجزء فكان الجزء الأول سببا لوجوب صوم الإقامة. وأما في اليوم الثاني, والثالث فهو مسافر فيه فكان الجزء الأول في حقه سببا لوجوب صوم السفر فيثبت الوجوب مع رخصة الإفطار ولو لم يترخص المسافر وصام رمضان جاز صومه وليس عليه القضاء في عدة أيام أخر, وقال بعض الناس: لا يجوز صومه في رمضان ولا يعتد به ويلزمه القضاء, وحكى القدوري فيه اختلافا بين الصحابة فقال: يجوز صومه في قول أصحابنا وهو قول علي وابن عباس وعائشة وعثمان بن أبي العاص الثقفي رضي الله عنهم وعند عمر وابن عمر وأبي هريرة رضي الله عنهم لا يجوز, وحجة هذا القول ظاهر قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أمر المسافر بالصوم في أيام أخر مطلقا, سواء صام في رمضان, أو لم يصم إذ الإفطار غير مذكور في الآية, فكان هذا من الله تعالى جعل وقت الصوم في حق المسافر أياما أخر وإذا صام في رمضان فقد صام قبل وقته فلا يعتد به في منع لزوم القضاء. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من صام في السفر فقد عصى أبا القاسم" والمعصية مضادة للعبادة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الصائم في السفر كالمفطر في الحضر" فقد حقق له حكم الإفطار "ولنا" ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صام في السفر وروي أنه أفطر" كذا روي عن الصحابة أنهم صاموا في السفر وروي أنهم أفطروا حتى روي أن عليا رضي الله عنه أهل هلال رمضان وهو يسير إلى نهروان فأصبح صائما, ولأن الله تعالى جعل المرض, والسفر من الأعذار المرخصة للإفطار تيسيرا وتخفيفا على أربابها وتوسيعا عليهم, قال الله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} فلو تحتم عليهم الصوم في غير السفر ولا يجوز في السفر لكان فيه تعسير وتضييق عليهم, وهذا يضاد موضوع الرخصة وينافي معنى التيسير فيؤدي إلى التناقض في وضع الشرع, تعالى الله عن ذلك, ولأن السفر لما كان سبب الرخصة فلو وجب القضاء مع وجود الأداء لصار ما هو سبب الرخصة سبب زيادة فرض لم يكن في حق غير صاحب العذر وهو القضاء مع وجود الأداء فيتناقض, ولأن جواز الصوم للمسافر في رمضان مجمع عليه فإن التابعين أجمعوا عليه بعد وقوع الاختلاف فيه بين الصحابة رضي الله عنهم, والخلاف في العصر الأول لا يمنع انعقاد الإجماع في العصر الثاني, بل الإجماع المتأخر يرفع الخلاف المتقدم عندنا على ما عرف في أصول الفقه وبه تبين أن الإفطار مضمر في الآية, وعليه إجماع أهل التفسير وتقديرها: فمن كان منكم مريضا, أو على سفر فأفطر فعدة من أيام أخر. وعلى ذلك يجري ذكر الرخص على أنه ذكر الحظر في القرآن؛ قال الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ} إلى قوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي: من اضطر فأكل لأنه لا إثم يلحقه بنفس الاضطرار وقال تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: فإن أحصرتم فأحللتم فما استيسر من الهدي لأنه معلوم أنه على النسك من الحج ما لم يوجد الإحلال وقال الله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ} أي: فمن كان منكم مريضا, أو به أذى من رأسه فحلق ودفع الأذى عن رأسه ففدية من صيام, ونظائره كثيرة في القرآن, والحديثان محمولان على ما إذا كان الصوم يجهده ويضعفه فإذا لم يفطر في السفر في هذه الحالة صار كالذي أفطر في الحضر لأنه يجب عليه الإفطار في هذه الحالة لما في الصوم

 

ج / 2 ص -96-         في هذه الحالة من إلقاء النفس إلى التهلكة, وأنه حرام, ثم الصوم في السفر أفضل من الإفطار عندنا, إذا لم يجهده الصوم ولم يضعفه. وقال الشافعي: الإفطار أفضل بناء على أن الصوم في السفر عندنا عزيمة, والإفطار رخصة وعند الشافعي على العكس من ذلك, وذكر القدوري في المسألة اختلاف الصحابة فقال: روي عن حذيفة وعائشة وعروة بن الزبير مثل مذهبنا وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما مثل مذهبه واحتج بما روينا من الحديثين في المسألة الأولى, ولنا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} إلى قوله تعالى {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ}, والاستدلال بالآية من وجوه أحدها: أنه أخبر أن الصيام مكتوب على المؤمنين عاما أي: مفروض إذ الكتابة هي الفرض لغة, والثاني: أنه أمر بالقضاء عند الإفطار بقوله عز وجل {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}, والأمر بالقضاء عند الإفطار دليل الفرضية من وجهين أحدهما: أن القضاء لا يجب في الآداب وإنما يجب في الفرائض, والثاني: أن القضاء بدل عن الأداء فيدل على وجوب الأصل, والثالث: أن الله تعالى من علينا بإباحة الإفطار بعذر المرض والسفر بقوله تعالى {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} أي: يريد الإذن لكم بالإفطار للعذر ولو لم يكن الصوم فرضا لم يكن للامتنان بإباحة الفطر معنى لأن الفطر مباح في صوم النفل بالامتناع عنه, والرابع: أنه قال {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ} شرط إكمال العدة في القضاء وهو دليل لزوم حفظ المتروك لئلا يدخل التقصير في القضاء, وإنما يكون ذلك في الفرائض. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كانت له حمولة تأوي إلى شبع فليصم رمضان حيث أدركه" أمر المسافر بصوم رمضان إذا لم يجهده الصوم فثبت بهذه الدلائل أن صوم رمضان فرض على المسافر إلا أنه رخص له الإفطار وأثر الرخصة في سقوط المأثم لا في سقوط الوجوب, فكان وجوب الصوم عليه هو الحكم الأصلي وهو معنى العزيمة. وروي عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المسافر إن أفطر فرخصة وإن يصم فهو أفضل" وهذا نص في الباب لا يحتمل التأويل وما ذكرنا من الدلائل في هذه المسألة حجة في المسألة الأولى لأنها تدل على وجوب الصوم على المسافر في رمضان, وما لا يعتد به لا يجب, والجواب عن تعلقه بالحديثين ما ذكرناه في المسألة الأولى أنهما يحملان على حال خوف التلف على نفسه لو صام عملا بالدلائل أجمع بقدر الإمكان وهذا الذي ذكرنا من وجوب الصوم على المسافر في رمضان قول عامة مشايخنا وعند بعضهم لا وجوب على المسافر في رمضان, والإفطار مباح مطلق لأنه ثبت رخصة وتيسيرا عليه. ومعنى الرخصة وهو التيسير, والسهولة في الإباحة المطلقة أكمل لما فيه من سقوط الحظر, والمؤاخذة جميعا, إلا أنه إذا ترك الترخص واشتغل بالعزيمة يعود حكم العزيمة, لكن مع هذا؛ الصوم في حقه أفضل من الإفطار لما روينا من حديث أنس رضي الله عنه وأما المبيح المطلق من السفر فما فيه خوف الهلاك بسبب الصوم, والإفطار في مثله واجب فضلا عن الإباحة لما ذكرنا في المرض. وأما الإكراه على إفطار صوم شهر رمضان بالقتل في حق الصحيح المقيم فمرخص, والصوم أفضل حتى لو امتنع من الإفطار حتى قتل يثاب عليه لأن الوجوب ثابت حالة الإكراه, وأثر الرخصة في الإكراه في سقوط المأثم بالترك لا في سقوط الوجوب بل بقي الوجوب ثابتا, والترك حراما وإذا كان الصوم واجبا حالة الإكراه, والإفطار حراما كان حق الله تعالى قائما, فهو بالامتناع بذل نفسه لإقامة حق الله تعالى طلبا لمرضاته فكان مجاهدا في دينه فيثاب عليه. وأما في حق المريض, والمسافر فالإكراه مبيح مطلق في حقهما بل موجب, والأفضل هو الإفطار بل يجب عليه ذلك ولا يسعه أن لا يفطر حتى لو امتنع من ذلك فقتل يأثم, ووجه الفرق: أن في الصحيح المقيم الوجوب كان ثابتا قبل الإكراه من غير رخصة الترك أصلا فإذا جاء بالإكراه وأنه من أسباب الرخصة فكان أثره في إثبات رخصة الترك لا في إسقاط الوجوب فكان الوجوب قائما فكان حق الله تعالى قائما فكان بالامتناع باذلا نفسه لإقامة حق الله تعالى فكان أفضل كما في الإكراه على إجراء كلمة الكفر, والإكراه على إتلاف مال الغير فأما في المريض, والمسافر فالوجوب مع رخصة الترك كان ثابتا قبل الإكراه فلا بد وأن يكون للإكراه أثر آخر لم يكن ثابتا قبله, وليس ذلك إلا إسقاط الوجوب رأسا وإثبات الإباحة المطلقة فنزل منزلة الإكراه على أكل الميتة وهناك يباح له

 

ج / 2 ص -97-         الأكل بل يجب عليه كذا هنا والله أعلم. وأما حبل المرأة وإرضاعها: إذا خافتا الضرر بولدهما فمرخص لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}. وقد بينا أنه ليس المراد عين المرض, فإن المريض الذي لا يضره الصوم ليس له أن يفطر فكان ذكر المرض كناية عن أمر يضر الصوم معه. وقد وجد ههنا فيدخلان تحت رخصة الإفطار. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يفطر المريض, والحبلى إذا خافت أن تضع ولدها, والمرضع إذا خافت الفساد على ولدها" وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله وضع عن المسافر شطر الصلاة وعن الحبلى, والمرضع الصيام" وعليهما القضاء ولا فدية عليهما عندنا. وقال الشافعي: عليهما القضاء, والفدية لكل يوم مد من حنطة, والمسألة مختلفة بين الصحابة, والتابعين فروي عن علي من الصحابة, والحسن من التابعين أنهما يقضيان ولا يفديان وبه أخذ أصحابنا. وروي عن ابن عمر من الصحابة ومجاهد من التابعين إنهما يقضيان ويفديان وبه أخذ الشافعي احتج بقوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}, والحامل, والمرضع يطيقان الصوم فدخلتا تحت الآية فتجب عليهما الفدية, ولنا قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} الآية, أوجب على المريض القضاء فمن ضم إليه الفدية فقد زاد على النص فلا يجوز إلا بدليل, ولأنه لما لم يوجب غيره دل أنه كل حكم لحادثة لأن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز وقد ذكرنا أن المراد من المرض المذكور ليس صورة المرض بل معناه. وقد وجد في الحامل, والمرضع إذا خافتا على ولدهما فيدخلان تحت الآية, فكان تقدير قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً} فمن كان منكم به معنى يضره الصوم أو على سفر فعدة من أيام أخر, وأما قوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ} فقد قيل في بعض وجوه التأويل إن لا مضمرة في الآية معناه "وعلى الذين لا يطيقونه, وإنه جائز في اللغة, قال الله تعالى: {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: لا تضلوا في بعض القراءات وعلى الذين يطوقونه ولا يطيقونه على أنه لا حجة له في الآية لأن فيها شرع الفداء مع الصوم على سبيل التخيير دون الجمع بقوله تعالى {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ} وقد نسخ ذلك بوجوب صوم شهر رمضان حتما بقوله تعالى {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وعنده يجب الصوم, والفداء جميعا دل أنه لا حجة له فيها ولأن الفدية لو وجبت إنما تجب جبرا للفائت, ومعنى الجبر يحصل بالقضاء, ولهذا لم تجب على المريض, والمسافر. وأما الجوع والعطش الشديد الذي يخاف منه الهلاك: فمبيح مطلق بمنزلة المرض الذي يخاف منه الهلاك بسبب الصوم, لما ذكرنا وكذا كبر السن حتى يباح للشيخ الفاني أن يفطر في شهر رمضان لأنه عاجز عن الصوم وعليه الفدية عند عامة العلماء. وقال مالك: لا فدية عليه, وجه قوله أن الله تعالى, أوجب الفدية على المطيق للصوم بقوله تعالى {وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} وهو لا يطيق الصوم فلا تلزمه الفدية, وما قاله مالك خلاف إجماع السلف, فإن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أوجبوا الفدية على الشيخ الفاني, فكان ذلك إجماعا منهم على أن المراد من الآية الشيخ الفاني إما على إضمار حرف لا في الآية على ما بينا, وإما على إضمار كانوا أي: وعلى الذين كانوا يطيقونه" أي: الصوم ثم عجزوا عنه فدية طعام مسكين والله أعلم ولأن الصوم لما فاته مست الحاجة إلى الجابر وتعذر جبره بالصوم فيجبر بالفدية, وتجعل الفدية مثلا للصوم شرعا في هذه الحالة للضرورة كالقيمة في ضمان المتلفات, ومقدار الفدية مقدار صدقة الفطر, وهو أن يطعم عن كل يوم مسكينا مقدار ما يطعم في صدقة الفطر. وقد ذكرنا ذلك في صدقة الفطر وذكرنا الاختلاف فيه. ثم هذه الأعذار كما ترخص, أو تبيح الفطر في شهر رمضان ترخص, أو تبيح في المنذور في وقت بعينه, حتى لو جاء وقت الصوم وهو مريض مرضا لا يستطيع معه الصوم, أو يستطيع مع ضرر أفطر وقضى. وأما الذي يخص البعض دون البعض. فأما صوم رمضان فيتعلق بفساده حكمان أحدهما: وجوب القضاء, والثاني: وجوب الكفارة, أما وجوب القضاء: فإنه يثبت بمطلق الإفساد سواء كان صورة ومعنى, أو صورة لا معنى, أو معنى لا صورة, وسواء كان عمدا, أو خطأ, وسواء كان بعذر, أو بغير عذر, لأن القضاء يجب جبرا للفائت فيستدعي فوات الصوم لا غير, والفوات يحصل بمطلق الإفساد فتقع الحاجة إلى الجبر بالقضاء, ليقوم مقام الفائت فينجبر الفوات معنى. وأما وجوب الكفارة فيتعلق بإفساد مخصوص وهو الإفطار الكامل بوجود الأكل أو الشرب أو الجماع صورة ومعنى متعمدا من غير عذر

 

ج / 2 ص -98-         مبيح ولا مرخص ولا شبهة الإباحة, ونعني بصورة الأكل, والشرب ومعناهما: إيصال ما يقصد به التغذي أو التداوي إلى جوفه من الفم لأن به يحصل قضاء شهوة البطن على سبيل الكمال. ونعني بصورة الجماع ومعناه: إيلاج الفرج في القبل لأن كمال قضاء شهوة الفرج لا يحصل إلا به, ولا خلاف في وجوب الكفارة على الرجل بالجماع, والأصل فيه حديث الأعرابي وهو ما روي: "أن أعرابيا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله, هلكت, وأهلكت, فقال: ماذا صنعت؟ قال: واقعت امرأتي في نهار رمضان متعمدا وأنا صائم فقال: أعتق رقبة وفي بعض الروايات قال له: من غير عذر ولا سفر؟ قال: نعم, فقال: أعتق رقبة" وأما المرأة فكذلك يجب عليها عندنا إذا كانت مطاوعة, وللشافعي قولان في قول: لا يجب عليها أصلا, وفي قول: يجب عليها ويتحملها الرجل. وجه قوله الأول إن وجوب الكفارة عرف نصا بخلاف القياس لما نذكر, والنص ورد في الرجل دون المرأة. وكذا ورد بالوجوب بالوطء وأنه لا يتصور من المرأة فإنها موطوءة وليست بواطئة فبقي الحكم فيها على أصل القياس, ووجه قوله الثاني أن الكفارة إنما وجبت عليها بسبب فعل الرجل, فوجب عليه التحمل كثمن ماء الاغتسال, ولنا أن النص وإن ورد في الرجل لكنه معلول بمعنى يوجد فيهما, وهو إفساد صوم رمضان بإفطار كامل حرام محض متعمدا فتجب الكفارة عليها بدلالة النص وبه تبين أنه لا سبيل إلى التحمل لأن الكفارة إنما وجبت عليها بفعلها وهو إفساد الصوم, ويجب مع الكفارة القضاء عند عامة العلماء. وقال الأوزاعي: إن كفر بالصوم فلا قضاء عليه, وزعم أن الصومين يتداخلان وهذا غير سديد لأن صوم الشهرين يجب تكفيرا زجرا عن جناية الإفساد, أو رفعا لذنب الإفساد, وصوم القضاء يجب جبرا للفائت, فكل واحد منهما شرع لغير ما شرع له الآخر, فلا يسقط صوم القضاء بصوم شهرين, كما لا يسقط بالإعتاق. وقد روي عن أبي هريرة أن "النبي صلى الله عليه وسلم أمر الذي واقع امرأته أن يصوم يوما" ولو جامع في الموضع المكروه فعليه الكفارة في قول أبي يوسف ومحمد, لأنه يجب به الحد فلأن تجب به الكفارة أولى. وعن أبي حنيفة روايتان: روى الحسن عنه أنه لا كفارة عليه, وروى أبو يوسف عنه إذا توارت الحشفة وجب الغسل أنزل, أو لم ينزل, وعليه القضاء, والكفارة, وجه رواية الحسن أنه لا يتعلق به وجوب الحد, فلا يتعلق به وجوب الكفارة, والجامع أن كل واحد منهما شرع للزجر, والحاجة إلى الزجر فيما يغلب وجوده وهذا يندر, ولأن المحل مكروه فأشبه وطء الميتة. وجه رواية أبي يوسف: أن وجوب الكفارة يعتمد إفساد الصوم بإفطار كامل وقد وجد لوجود الجماع صورة ومعنى. ولو أكل أو شرب ما يصلح به البدن, أما على وجه التغذي أو التداوي متعمدا فعليه القضاء, والكفارة عندنا. وقال الشافعي: لا كفارة عليه. وجه قوله إن وجوب الكفارة ثبت معدولا به عن القياس لأن وجوبها لرفع الذنب, والتوبة كافية لرفع الذنب, ولأن الكفارة من باب المقادير, والقياس لا يهتدي إلى تعيين المقادير, وإنما عرف وجوبها بالنص, والنص ورد في الجماع, والأكل, والشرب ليسا في معناه لأن الجماع أشد حرمة منهما حتى يتعلق به وجوب الحد دونهما, فالنص الوارد في الجماع لا يكون واردا في الأكل, والشرب فيقتصر على مورد النص. ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أفطر في رمضان متعمدا فعليه ما على المظاهر" وعلى المظاهر الكفارة بنص الكتاب, فكذا على المفطر متعمدا. ولنا أيضا الاستدلال بالمواقعة, , والقياس عليها, أما الاستدلال بها فهو أن الكفارة في المواقعة وجبت لكونها إفسادا لصوم رمضان من غير عذر ولا سفر على ما نطق به الحديث, والأكل, والشرب إفساد لصوم رمضان متعمدا من غير عذر ولا سفر فكان إيجاب الكفارة هناك إيجابا ههنا دلالة, والدليل على أن الوجوب في المواقعة لما ذكرنا وجهان أحدهما: مجمل, والآخر: مفسر, أما المجمل: فالاستدلال بحديث الأعرابي, ووجهه ما ذكرناه في الخلافيات. وأما المفسر: فلأن إفساد صوم رمضان ذنب ورفع الذنب واجب عقلا وشرعا لكونه قبيحا, والكفارة تصلح رافعة له لأنها حسنة. وقد جاء الشرع بكون الحسنات من التوبة, والإيمان, والأعمال الصالحات رافعة للسيئات, إلا أن الذنوب مختلفة المقادير. وكذا الروافع لها لا يعلم مقاديرها إلا الشارع للأحكام وهو الله تعالى فمتى ورد

 

ج / 2 ص -99-         الشرع في ذنب خاص بإيجاب رافع خاص ووجد مثل ذلك الذنب في موضع آخر كان ذلك إيجابا لذلك الرافع فيه, ويكون الحكم فيه ثابتا بالنص لا بالتعليل, والقياس والله أعلم وجه القياس على المواقعة فهو أن الكفارة هناك وجبت للزجر عن إفساد صوم رمضان صيانة له في الوقت الشريف, لأنها تصلح زاجرة, والحاجة مست إلى الزاجر. أما الصلاحية فلأن من تأمل أنه لو أفطر يوما من رمضان لزمه إعتاق رقبة, فإن لم يجد فصيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا لامتنع منه. وأما الحاجة إلى الزجر فلوجود الداعي الطبيعي إلى الأكل, والشرب, والجماع, وهو شهوة الأكل, والشرب, والجماع, وهذا في الأكل, والشرب أكثر لأن الجوع, والعطش يقلل الشهوة, فكانت الحاجة إلى الزجر عن الأكل, والشرب أكثر, فكان شرع الزاجر هناك شرعا ههنا من طريق الأولى, وعلى هذه الطريقة يمنع عدم جواز إيجاب الكفارة بالقياس لأن الدلائل المقتضية لكون القياس حجة لا تفصل بين الكفارة وغيرها. ولو أكل ما لا يتغذى به ولا يتداوى: كالحصاة, والنواة, والتراب, وغيرها فعليه القضاء ولا كفارة عليه عند عامة العلماء. وقال مالك: عليه الكفارة لأنه وجد الإفطار من غير عذر, ولنا أن هذا إفطار صورة لا معنى لأن معنى الصوم وهو: الكف عن الأكل, والشرب الذي هو وسيلة إلى العواقب الحميدة قائم, وإنما الفائت صورة الصوم إلا أنا ألحقنا الصورة بالحقيقة وحكمنا بفساد الصوم احتياطا, ولو بلع جوزة صحيحة يابسة, أو لوزة يابسة فعليه القضاء ولا كفارة عليه لوجود الأكل صورة لا معنى, لأنه لا يعتاد أكله على هذا الوجه فأشبه أكل الحصا. ولو مضغ الجوزة أو اللوزة اليابسة حتى يصل المضغ إلى جوفها حتى ابتلعه فعليه القضاء والكفارة, كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف لأنه أكل لبها إلا أنه ضم إليها ما لا يؤكل عادة, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي: أنه لو أكل لوزة صغيرة فعليه القضاء, والكفارة. وقوله في اللوزة محمول على اللوزة الرطبة لأنها مأكولة كلها كالخوخة, ولو أكل جوزة رطبة فعليه القضاء ولا كفارة عليه لأنه لا يؤكل عادة ولا يحصل به التغذي, والتداوي. ولو أكل عجينا أو دقيقا فعليه القضاء ولا كفارة عليه, لأنه لا يقصد بهما التغذي ولا التداوي, فلا يفوت معنى الصوم, وذكر في الفتاوى رواية عن محمد أنه فرق بين الدقيق, والعجين فقال: في الدقيق القضاء, والكفارة وفي العجين القضاء دون الكفارة. ولو قضم حنطة فعليه القضاء والكفارة, كذا روى الحسن عن أبي حنيفة لأن هذا مما يقصد بالأكل. ولو ابتلع إهليلجة, روى ابن رستم عن محمد أن عليه القضاء ولا كفارة لأنه لا يتداوى بها على هذه الصفة. وروى هشام عنه أن عليه الكفارة قال الكرخي: وهذا أقيس عندي, لأنه يتداوى بها على هذه الصفة, وهكذا روى ابن سماعة عن محمد. وكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن عليه الكفارة. ولو أكل طينا فعليه القضاء ولا كفارة لما قلنا, إلا أن يكون أرمنيا, فعليه القضاء, والكفارة. وكذا روى ابن رستم عن محمد قال محمد: لأنه بمنزلة الغاريقون أي: يتداوى به, قال ابن رستم: فقلت له هذا الطين الذي يقلى يأكله الناس؟ قال لا أدري ما هذا فكأنه لم يعلم أنه يتداوى به, أو لا. ولو أكل ورق الشجر فإن كان مما يؤكل عادة فعليه القضاء والكفارة, وإن كان مما لا يؤكل فعليه القضاء ولا كفارة عليه. ولو أكل مسكا أو غالية أو زعفران فعليه القضاء والكفارة, لأن هذا يؤكل ويتداوى به. وروي عن محمد فيمن تناول سمسمة؟ قال: فطرته. ولم يذكر أن عليه الكفارة, أو لا, واختلف المشايخ فيه, قال محمد بن مقاتل الرازي: عليه القضاء, والكفارة. وقال أبو القاسم الصفار: عليه القضاء ولا كفارة عليه. وقد ذكرنا أن السمسمة لو كانت بين أسنانه فابتلعها أنه لا يفسد لأنه لا يمكن التحرز عنه. وروي عن أبي يوسف فيمن امتص سكرة بفيه في رمضان متعمدا حتى دخل الماء حلقه عليه القضاء, والكفارة لأن السكر هكذا يؤكل. ولو مص إهليلجة فدخل الماء حلقه؟ قال: لا يفسد صومه ذكره في الفتاوى. ولو خرج من بين أسنانه دم فدخل حلقه أو ابتلعه فإن كانت الغلبة للدم فسد صومه وعليه القضاء ولا كفارة عليه, وإن كانت الغلبة للبزاق فلا شيء عليه, وإن كانا سواء فالقياس أن لا يفسد, وفي الاستحسان يفسد احتياطا, ولو أخرج البزاق من فيه ثم ابتلعه فعليه القضاء ولا كفارة عليه. وكذا إذا ابتلع بزاق غيره لأن هذا مما يعاف منه حتى لو ابتلع لعاب حبيبه, أو صديقه ذكر الشيخ الإمام الزاهد شمس الأئمة الحلواني أن عليه القضاء, والكفارة لأن الحبيب لا يعاف ريق حبيبه, أو صديقه. ولو أكل

 

ج / 2 ص -100-       لحما قديدا فعليه القضاء والكفارة لأنه يؤكل في الجملة. ولو أكل شحما قديدا؟ اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: لا كفارة عليه لأنه لا يؤكل. وقال الفقيه أبو الليث: إن عليه القضاء, والكفارة كما في اللحم, لأنه يؤكل في الجملة كاللحم القديد. ولو أكل ميتة فإن كانت قد أنتنت ودودت فعليه القضاء ولا كفارة عليه, وإن كانت غير ذلك فعليه القضاء, والكفارة. ولو أولج ولم ينزل فعليه القضاء والكفارة لوجود الجماع صورة ومعنى, إذ الجماع: هو الإيلاج, فأما الإنزال: ففراغ من الجماع فلا يعتبر ولو أنزل فيما دون الفرج فعليه القضاء ولا كفارة عليه لقصور في الجماع لوجوده معنى لا صورة, وكذلك إذا وطئ بهيمة فأنزل لقصور في قضاء الشهوة لسعة المحل ونبوة الطمع. ولو أخذ لقمة من الخبز ليأكلها وهو ناس فلما مضغها تذكر أنه صائم فابتلعها وهو ذاكر ذكر في عيون المسائل أن في هذه المسألة أربعة أقوال للمتأخرين قال بعضهم: لا كفارة عليه. وقال بعضهم: عليه الكفارة. وقال بعضهم: إن ابتلعها قبل أن يخرجها فلا كفارة عليه فإن أخرجها من فيه ثم أعادها فابتلعها فعليه الكفارة. وقال بعضهم: إن ابتلعها قبل أن يخرجها فعليه الكفارة وإن أخرجها من فيه ثم أعادها فلا كفارة عليه قال الفقيه أبو الليث: هذا القول أصح لأنه لما أخرجها صار بحال يعاف منها وما دامت في فيه فإنه يتلذذ بها. ولو تسحر على ظن أن الفجر لم يطلع فإذا هو طالع أو أفطر على ظن أن الشمس قد غربت فإذا هي لم تغرب فعليه القضاء ولا كفارة لأنه لم يفطر متعمدا بل خاطئا ألا ترى أنه لا إثم عليه. ولو أصبح صائما في سفره ثم أفطر متعمدا فلا كفارة عليه لأن السبب المبيح من حيث الصورة قائم وهو السفر فأورث شبهة وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة والأصل فيه أن الشبهة إذا استندت إلى صورة دليل فإن لم يكن دليلا في الحقيقة بل من حيث الظاهر اعتبرت في منع وجوب الكفارة وإلا فلا. وقد وجدت ههنا, وهي صورة السفر لأنه مرخص أو مبيح في الجملة. ولو أكل أو شرب أو جامع ناسيا أو ذرعه القيء فظن أن ذلك يفطر فأكل بعد ذلك متعمدا, فعليه القضاء ولا كفارة عليه, لأن الشبهة ههنا استندت إلى ما هو دليل في الظاهر لوجود المضاد للصوم في الظاهر وهو الأكل والشرب والجماع حتى قال مالك بفساد الصوم بالأكل ناسيا, وقال أبو حنيفة: لولا قول الناس لقلت له يقضي. وكذا القيء لأنه لا يخلو عن عود بعضه من الفم إلى الجوف, فكانت الشبهة في موضع الاشتباه فاعتبرت, قال محمد: إلا أن يكون بلغه, أي: بلغه الخبر أن أكل الناسي والقيء لا يفطران, فتجب الكفارة لأنه ظن في غير موضع الاشتباه فلا يعتبر, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه سواء بلغه الخبر وعلم أن صومه لم يفسد أو لم يبلغه ولم يعلم. فإن احتجم فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا, إن استفتى فقيها فأفتاه بأنه قد أفطر فلا كفارة عليه لأن العامي يلزمه تقليد العالم فكانت الشبهة مستندة إلى صورة دليل, وإن بلغه خبر الحجامة وهو المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أفطر الحاجم والمحجوم"؟ روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا كفارة عليه لأن ظاهر الحديث واجب العمل به في الأصل فأورث شبهة. وروي عن أبي يوسف أنه تجب عليه الكفارة لأن الواجب على العامي الاستفتاء من المفتي لا العمل بظواهر الأحاديث, لأن الحديث قد يكون منسوخا وقد يكون ظاهره متروكا, فلا يصير ذلك شبهة, وإن لم يستفت فقيها ولا بلغه الخبر فعليه القضاء والكفارة لأن الحجامة لا تنافي ركن الصوم في الظاهر وهو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع, فلم تكن هذه الشبهة مستندة إلى دليل أصلا. ولو لمس امرأة بشهوة أو قبلها أو ضاجعها ولم ينزل فظن أن ذلك يفطره فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه الكفارة لأن ذلك لا ينافي ركن الصوم في الظاهر, فكان ظنه في غير موضعه فكان ملحقا بالعدم إلا إذا تأول حديثا أو استفتى فقيها فأفطر على ذلك فلا كفارة عليه, وإن أخطأ الفقيه ولم يثبت الحديث لأن ظاهر الحديث والفتوى يصير شبهة. ولو اغتاب إنسانا فظن أن ذلك يفطره ثم أكل بعد ذلك متعمدا فعليه الكفارة, وإن استفتى فقيها أو تأول حديثا لأنه لا يعتد بفتوى الفقيه ولا بتأويله الحديث ههنا لأن ذلك مما لا يشتبه على من له سمة من الفقه وهو لا يخفى على أحد أنه ليس المراد من المروي "الغيبة تفطر الصائم" حقيقة الإفطار فلم يصر ذلك شبهة. وكذا لو دهن شاربه فظن أن ذلك يفطر فأكل بعد ذلك متعمدا فعليه الكفارة وإن استفتى فقيها أو تأول حديثا لما قلنا والله أعلم. ولو أفطر وهو مقيم فوجبت عليه الكفارة ثم سافر في يومه ذلك

 

 

ج / 2 ص -101-       لم تسقط عنه الكفارة, ولو مرض في يومه ذلك مرضا يرخص الإفطار أو يبيحه تسقط عنه الكفارة, ووجه الفرق أن في المرض معنى يوجب تغيير الطبيعة عن الصحة إلى الفساد, وذلك المعنى يحدث في الباطن ثم يظهر أثره في الظاهر, فلما مرض في ذلك اليوم علم أنه كان موجودا وقت الإفطار لكنه لم يظهر أثره في الظاهر فكان المرخص أو المبيح موجودا وقت الإفطار, فمنع انعقاد الإفطار موجبا للكفارة, أو وجود أصله أورث شبهة في الوجوب وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة, وهذا المعنى لا يتحقق في السفر لأنه اسم للخروج والانتقال من مكان إلى مكان, وإنه يوجد مقصورا على حال وجوده فلم يكن المرخص أو المبيح موجودا وقت الإفطار فلا يؤثر في وجوبها, وكذلك إذا أفطرت المرأة ثم حاضت في ذلك اليوم أو نفست سقطت عنها الكفارة لأن الحيض دم مجتمع في الرحم يخرج شيئا فشيئا فكان موجودا وقت الإفطار لكنه لم يبرز فمنع وجوب الكفارة. ولو سافر في ذلك اليوم مكرها لا تسقط عنه الكفارة عند أبي يوسف, وعند زفر تسقط, والصحيح قول أبي يوسف لما ذكرنا أن المرخص أو المبيح وجد مقصورا على الحال فلا يؤثر في الماضي. ولو جرح نفسه فمرض مرضا شديدا مرخصا للإفطار أو مبيحا؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يسقط. وقال بعضهم: لا يسقط. وهو الصحيح لأن المرض هنا حدث من الجرح وإنها وجدت مقصورة على الحال فكان المرض مقصورا على حال حدوثه فلا يؤثر في الزمان الماضي والله أعلم. ومن أصبح في رمضان لا ينوي الصوم فأكل أو شرب أو جامع عليه قضاء ذلك اليوم ولا كفارة عليه عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر عليه الكفارة بناء على أن صوم رمضان يتأدى بدون النية عنده فوجد إفساد صوم رمضان بشرائطه, وعندنا لا يتأدى فلم يوجد الصوم فاستحال الإفساد. وروي عن أبي يوسف إن أكل قبل الزوال فعليه القضاء والكفارة وإن أكل بعد الزوال فلا كفارة عليه, كذا ذكر القدوري الخلاف بين أبي حنيفة ومحمد وبين أبي يوسف في شرحه مختصر الكرخي, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي الخلاف بين أبي حنيفة وبين صاحبيه. وجه قول من فصل بين ما قبل الزوال أو بعده: أن الإمساك قبل الزوال كان بفرض أن يصير صوما قبل الأكل والشرب والجماع لجواز أن ينوي فإذا أكل فقد أبطل الفرضية وأخرجه من أن يصير صوما فكان إفسادا للصوم معنى بخلاف ما بعد الزوال لأن الأكل بعد الزوال لم يقع إبطالا للفرضية لبطلانها قبل الأكل, وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن أصبح لا ينوي صوما ثم نوى قبل الزوال ثم جامع في بقية يومه؟ فلا كفارة عليه. وروي عن أبي يوسف أن عليه الكفارة, وجه قوله أن صوم رمضان يتأدى بنية من النهار قبل الزوال عند أصحابنا فكانت النية من النهار والليل سواء, وجه ظاهر الرواية أنه لو جامع في أول النهار لا كفارة عليه, فكذا إذا جامع في آخره لأن اليوم في كونه محلا للصوم ولا يتجزأ أو يوجب ذلك شبهة في آخر اليوم وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة, وذكر في المنتقى فيمن أصبح ينوي الفطر ثم عزم على الصوم ثم أكل متعمدا أنه لا كفارة عليه عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف عليه الكفارة, والكلام من الجانبين على نحو ما ذكرنا. ولو جامع في رمضان متعمدا مرارا بأن جامع في يوم ثم جامع في اليوم الثاني ثم في الثالث ولم يكفر فعليه لجميع ذلك كله كفارة واحدة عندنا, وعند الشافعي عليه لكل يوم كفارة, ولو جامع في يوم ثم كفر ثم جامع في يوم آخر فعليه كفارة أخرى في ظاهر الرواية, وروى زفر عن أبي حنيفة أنه ليس عليه كفارة أخرى, ولو جامع في رمضانين ولم يكفر للأول فعليه لكل جماع كفارة في ظاهر الرواية. وذكر محمد في الكيسانيات أن عليه كفارة واحدة وكذا حكى الطحاوي عن أبي حنيفة, وجه قول الشافعي أنه تكرر سبب وجوب الكفارة وهو الجماع عنده, وإفساد الصوم عندنا, والحكم يتكرر بتكرر سببه وهو الأصل إلا في موضع فيه ضرورة كما في العقوبات البدنية وهي الحدود لما في التكرر من خوف الهلاك ولم يوجد ههنا فيتكرر الوجوب ولهذا تكرر في سائر الكفارات وهي كفارة القتل, واليمين, والظهار. ولنا حديث "الأعرابي أنه لما قال: واقعت امرأتي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بإعتاق رقبة واحدة بقوله أعتق رقبة" وإن كان قوله واقعت يحتمل المرة والتكرار ولم يستفسر فدل أن الحكم لا يختلف بالمرة والتكرار ولأن معنى الزجر لازم في هذه الكفارة أعني كفارة الإفطار بدليل اختصاص وجوبها بالعمد المخصوص في الجناية الخالصة الخالية عن

 

ج / 2 ص -102-       الشبهة بخلاف سائر الكفارات, والزجر يحصل بكفارة واحدة بخلاف ما إذا جامع فكفر ثم جامع لأنه لما جامع بعد ما كفر علم أن الزجر لم يحصل بالأول. ولو أفطر في يوم فأعتق ثم أفطر في اليوم الثاني فأعتق ثم أفطر في اليوم الثالث فأعتق ثم استحقت الرقبة الأولى فلا شيء عليه لأن الثانية تجزئ عن الأولى. وكذا لو استحقت الثانية لأن الثالثة تجزئ عن الثانية ولو استحقت الثالثة فعليه إعتاق رقبة واحدة لأن ما تقدم لا يجزئ عما تأخر, ولو استحقت الثانية أيضا فعليه إعتاق رقبة واحدة لليوم الثاني والثالث, ولو استحقت الأولى أيضا فعليه كفارة واحدة, لأن الإعتاق بالاستحقاق يلتحق بالعدم, وجعل كأنه لم يكن وقد أفطر في ثلاثة أيام ولم يكفر لشيء منها فتكفيه كفارة واحدة, ولو استحقت الأولى والثالثة دون الثانية أعتق رقبة واحدة لليوم الثالث, لأن الثانية أجزأت عن الأولى, والأصل في هذا الجنس أن الإعتاق الثاني يجزئ عما قبله, ولا يجزئ عما بعده. وأما صيام غير رمضان فلا يتعلق بإفساد شيء منه وجوب الكفارة, لأن وجوب الكفارة بإفساد صوم رمضان عرف بالتوقيف, وأنه صوم شريف في وقت شريف لا يوازيهما غيرهما من الصيام والأوقات في الشرف والحرمة, فلا يلحق به في وجوب الكفارة. وأما وجوب القضاء فأما الصيام المفروض: فإن كان الصوم متتابعا كصوم الكفارة والمنذور متتابعا فعليه الاستقبال لفوات الشرائط وهو التتابع, ولو لم يكن متتابعا كصوم قضاء رمضان والنذر المطلق عن الوقت والنذر في وقت بعينه فحكمه أن لا يعتد به عما عليه ويلحق بالعدم, وعليه ما كان قبل ذلك في قضاء رمضان والنذر المطلق وفي المنذور في وقت بعينه, عليه قضاء ما فسد. وأما صوم التطوع: فعليه قضاؤه عندنا خلافا للشافعي وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "أصبحت أنا وحفصة صائمتين متطوعتين فأهدي إلينا حيس فأكلنا منه فسألت حفصة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: اقضيا يوما مكانه" والكلام في وجوب القضاء مبني على الكلام في وجوب المضي, وقد ذكرناه في كتاب الصلاة. واختلف أصحابنا في الصوم المظنون إذا أفسده بأن شرع في صوم أو صلاة على ظن أنه عليه ثم تبين أنه ليس عليه فأفطر متعمدا؟ قال أصحابنا الثلاثة: لا قضاء عليه لكن الأفضل أن يمضي فيه. وقال زفر: عليه القضاء. وحكى الطحاوي عن أبي حنيفة فيمن شرع في صلاة يظن أنها عليه مثل قول زفر وعلى هذا الخلاف إذا شرع في صوم الكفارة ثم أيسر في خلاله فأفطر متعمدا. وجه قول زفر أنه لما تبين أنه ليس عليه تبين أنه شرع في النفل ولهذا ندب إلى المضي فيه, والشروع في النفل ملزم على أصل أصحابنا, فيلزمه المضي فيه ويلزمه القضاء إذا أفسد, كما لو شرع في النفل ابتداء ولهذا كان الشروع في الحج المظنون ملزما كذا الصوم ولنا أنه شرع مسقطا لا موجبا فلا يجب عليه المضي, ودليل ذلك أنه قصد بالشروع إسقاط ما في ذمته فإذا تبين أنه ليس في ذمته شيء من ذلك لم يصح قصدا, والشروع في العبادة لا يصح من غير قصد إلا أنه استحب له أن يمضي فيه لشروعه في العبادة في زعمه وتشبهه بالشارع في العبادة فيثاب عليه كما يثاب المتشبه بالصائمين بإمساك بقية يومه إذا أفطر بعذر, والاشتباه مما يكثر وجوده في باب الصوم, فلو أوجبنا عليه القضاء لوقع في الحرج بخلاف الحج, فإن وقوع الشك والاشتباه في باب الحج نادر غاية الندرة, فكان ملحقا بالعدم فلا يكون في إيجاب القضاء عليه حرج والله أعلم.

"فصل": وأما حكم الصوم المؤقت إذا فات عن وقته فالصوم المؤقت نوعان: صوم رمضان والمنذور في وقت بعينه. أما صوم رمضان فيتعلق بفواته أحكام ثلاثة: وجوب إمساك بقية اليوم تشبها بالصائمين في حال ووجوب القضاء في حال ووجوب الفداء في حال. أما وجوب الإمساك تشبها بالصائمين فكل من كان له عذر في صوم رمضان في أول النهار مانع من الوجوب أو مبيح للفطر ثم زال عذره وصار بحال لو كان عليه في أول النهار لوجب عليه الصوم ولا يباح له الفطر كالصبي إذا بلغ في بعض النهار وأسلم الكافر وأفاق المجنون وطهرت الحائض وقدم المسافر مع قيام الأهلية يجب عليه إمساك بقية اليوم. وكذا من وجب عليه الصوم في أول النهار لوجود سبب الوجوب والأهلية ثم تعذر عليه المضي فيه بأن أفطر متعمدا أو أصبح يوم الشك مفطرا ثم تبين أنه من رمضان أو تسحر على

 

ج / 2 ص -103-       ظن أن الفجر لم يطلع ثم تبين له أنه طلع فإنه يجب عليه الإمساك في بقية اليوم تشبها بالصائمين. وهذا عندنا, وأما عند الشافعي فكل من وجب عليه الصوم في أول النهار ثم تعذر عليه المضي مع قيام الأهلية يجب عليه إمساك بقية اليوم تشبها ومن لا فلا, فعلى قوله لا يجب الإمساك على الصبي إذا بلغ في بعض النهار, والكافر إذا أسلم, والمجنون إذا أفاق, والحائض إذا طهرت, والمسافر إذا قدم مصره, لأنه لم يجب عليهم الصوم في أول النهار, وجه قوله أن الإمساك تشبها يجب خلفا عن الصوم, والصوم لم يجب فلم يجب الإمساك خلفا ولهذا لو قال: لله علي أن أصوم اليوم الذي يقدم فيه فلان فقدم بعد ما أكل الناذر فيه أنه لا يجب الإمساك كذا ههنا ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال في يوم عاشوراء: إلا من أكل فلا يأكلن بقية يومه" وصوم عاشوراء كان فرضا يومئذ, ولأن زمان رمضان وقت شريف فيجب تعظيم هذا الوقت بالقدر الممكن, فإذا عجز عن تعظيمه بتحقيق الصوم فيه يجب تعظيمه بالتشبه بالصائمين قضاء لحقه بالقدر الممكن إذا كان أهلا للتشبه ونفيا لتعريض نفسه للتهمة, وفي حق هذا المعنى الوجوب في أول النهار وعدم الوجوب سواء. وقوله التشبه وجب خلفا عن الصوم ممنوع بل يجب قضاء لحرمة الوقت بقدر الإمكان لا خلفا, بخلاف مسألة النذر لأن الوقت لا يستحق التعظيم حتى يجب قضاء حقه بإمساك بقية اليوم, وههنا بخلافه. وأما وجوب القضاء فالكلام في قضاء صوم رمضان يقع في مواضع في بيان أصل وجوب القضاء, وفي بيان شرائط وجوب القضاء, وفي بيان وقت وجوبه, وكيفية الوجوب, وفي بيان شرائط جوازه, أما أصل الوجوب فلقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فأفطر فعدة من أيام أخر, ولأن الأصل في العبادة المؤقتة إذا فاتت عن وقتها أن تقضى لما ذكرنا في كتاب الصلاة, وسواء فاته صوم رمضان بعذر أو بغير عذر لأنه لما وجب على المعذور فلأن يجب على المقصر أولى, ولأن المعنى يجمعهما وهو الحاجة إلى جبر الفائت بل حاجة غير المعذور أشد. وأما بيان شرائط وجوبه فمنها القدرة على القضاء حتى لو فاته صوم رمضان بعذر المرض أو السفر ولم يزل مريضا أو مسافرا حتى مات لقي الله ولا قضاء عليه, لأنه مات قبل وجوب القضاء عليه, لكنه إن أوصى بأن يطعم عنه صحت وصيته وإن لم يجب عليه, ويطعم عنه من ثلث ماله لأن صحة الوصية لا تتوقف على الوجوب كما لو أوصى بثلث ماله للفقراء أنه يصح, وإن لم يجب عليه شيء كذا هذا فإن برئ المريض أو قدم المسافر وأدرك من الوقت بقدر ما فاته يلزمه قضاء جميع ما أدرك, لأنه قدر على القضاء لزوال العذر, فإن لم يصم حتى أدركه الموت فعليه أن يوصي بالفدية وهي أن يطعم عنه لكل يوم مسكينا لأن القضاء قد وجب عليه ثم عجز عنه بعد وجوبه بتقصير منه فيتحول الوجوب إلى بدله وهو الفدية. والأصل فيه ما روى أبو مالك الأشجعي "أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل أدركه رمضان وهو شديد المرض لا يطيق الصوم فمات هل يقضى عنه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن مات قبل أن يطيق الصيام فلا يقضى عنه, وإن مات وهو مريض وقد أطاق الصيام في مرضه ذلك فليقض عنه" والمراد منه القضاء بالفدية لا بالصوم لما روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يصومن أحد عن أحد ولا يصلين أحد عن أحد" ولأن ما لا يحتمل النيابة حالة الحياة لا يحتمل بعد الموت كالصلاة. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم مفسرا أنه قال "من مات وعليه قضاء رمضان أطعم عنه وليه" وهو محمول على ما إذا أوصى أو على الندب إلى غير ذلك وإذا أوصى بذلك يعتبر من الثلث وإن لم يوص فتبرع به الورثة جاز وإن لم يتبرعوا لم يلزمهم, وتسقط في حق أحكام الدنيا عندنا. وعند الشافعي يلزمهم من جميع المال سواء أوصى به أو لم يوص. والاختلاف فيه كالاختلاف في الزكاة, والصحيح قولنا لأن الصوم عبادة والفدية بدل عنها, والأصل لا يتأدى بطريق النيابة فكذا البدل والبدل لا يخالف الأصل والأصل فيه أنه لا يجوز أداء العبادة عن غيره بغير أمره, لأنه يكون جبرا والجبر ينافي معنى العبادة على ما بينا في كتاب الزكاة هذا إذا أدرك من الوقت بقدر ما فاته فمات قبل أن يقضي, فأما إذا أدرك بقدر ما يقضي فيه البعض دون البعض بأن صح المريض أياما ثم مات ذكر في الأصل أنه يلزمه القضاء بقدر ما صح, ولم يذكر الخلاف حتى لو مات

 

ج / 2 ص -104-       لا يجب عليه أن يوصي بالإطعام لجميع الشهر بل لذلك القدر الذي لم يصمه وإن صامه فلا وصية عليه رأسا. وذكر الطحاوي هذه المسألة على الاختلاف فقال في قول أبي حنيفة: يلزمه قضاء الجميع إذا صح يوما واحدا حتى يلزمه الوصية بالإطعام لجميع الشهر إن لم يصم ذلك اليوم, وإن صامه لم يلزمه شيء بالإجماع, وعند محمد يلزمه بقدر ما أدرك وما ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أن ما ذكره محمد في الأصل قول جميع أصحابنا, وما أثبته الطحاوي من الاختلاف في المسألة غلط, وإنما ذلك في مسألة النذر, وهي أن المريض إذا قال: لله علي أن أصوم شهرا. فإن مات قبل أن يصح لا يلزمه شيء, وإن صح يوما واحدا يلزمه أن يوصي بالإطعام لجميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد لا يلزمه إلا مقدار ما يصح على ما ذكره القدوري. وإن كان مسألة القضاء على الاتفاق على ما ذكره القدوري فوجه هذا القول ظاهر لأن القدرة على الفعل شرط وجوب الفعل إذ لو لم يكن لكان الإيجاب تكليف ما لا يحتمله الوسع, وأنه محال عقلا وموضوع شرعا ولم يقدر إلا على صوم بعض الأيام فلا يلزمه إلا ذلك القدر, فإن صام ذلك القدر فقد أتى بما عليه فلا يلزمه شيء آخر, وإن لم يصم فقد قصر فيما وجب عليه فيلزمه أن يوصي بالفدية لذلك القدر لا غير إذ لم يجب عليه من الصوم إلا ذلك القدر, وإن كانت المسألتان على الاختلاف على ما ذكره الطحاوي فوجه قول محمد في المسألتين ما ذكرنا وهو لا يحتاج إلى الفرق بينهما, لأن قوله فيهما واحد وهو أنه لا يلزمه من صوم القضاء والصوم المنذور به إلا قدر أيام الصحة حتى لا يلزمه الوصية بالإطعام فيهما إلا لذلك القدر. وأما وجه قولهما فهو أن قدر ما يقدر عليه من الصوم يصلح له الأيام كلها على طريق البدل, لأن كل يوم صالح للصوم فيجعل كأنه قدر على الكل فإذا لم يصم لزمته الوصية بالفدية للكل, وإذا صام فيما قدر وصار قدر ما صام مستحقا للوقت فلم يبق صالحا لوقت آخر فلم يكن القول بوجوب الكل على البدل فلا يلزمه الوصية بالفدية للكل, ومنها أن لا يكون في القضاء حرج لأن الحرج منفي بنص الكتاب. وأما وجوب الأداء في الوقت فهل هو شرط وجوب القضاء خارج الوقت؟ فقد ذكرنا اختلاف المشايخ في ذلك وخرجنا ما يتصل به من المسائل على القولين ما فيه اتفاق, وما فيه اختلاف. وأما وقت وجوبه فوقت أدائه. وقد ذكرناه وهو سائر الأيام خارج رمضان سوى الأيام الستة لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أمر بالقضاء مطلقا عن وقت معين فلا يجوز تقييده ببعض الأوقات إلا بدليل. والكلام في كيفية وجوب القضاء أنه على الفور أو على التراخي كالكلام في كيفية الوجوب في الأمر المطلق عن الوقت أصلا, كالأمر بالكفارات والنذور المطلقة ونحوها, وذلك على التراخي عند عامة مشايخنا, ومعنى التراخي عندهم أنه يجب في مطلق الوقت غير عين, وخيار التعيين إلى المكلف ففي أي وقت شرع فيه تعين ذلك الوقت للوجوب, وإن لم يشرع يتضيق الوجوب عليه في آخر عمره في زمان يتمكن فيه من الأداء قبل موته. وحكى الكرخي عن أصحابنا أنه على الفور, والصحيح هو الأول, وعند عامة أصحاب الحديث الأمر المطلق يقتضي الوجوب على الفور على ما عرف في أصول الفقه وفي الحج اختلاف بين أصحابنا نذكره في كتاب الحج إن شاء الله تعالى. وحكى القدوري عن الكرخي أنه كان يقول في قضاء رمضان: إنه مؤقت بما بين رمضانين. وهذا غير سديد بل المذهب عند أصحابنا أن وجوب القضاء لا يتوقت لما ذكرنا أن الأمر بالقضاء مطلق عن تعيين بعض الأوقات دون بعض, فيجري على إطلاقه. ولهذا قال أصحابنا: إنه لا يكره لمن عليه قضاء رمضان أن يتطوع, ولو كان الوجوب على الفور لكره له التطوع قبل القضاء لأنه يكون تأخيرا للواجب عن وقته المضيق, وإنه مكروه, وعلى هذا قال أصحابنا: إنه إذا أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان آخر فلا فدية عليه. وقال الشافعي: عليه الفدية كأنه قال بالوجوب على الفور مع رخصة التأخير إلى رمضان آخر, وهذا غير سديد لما ذكرنا أنه لا دلالة في الأمر على تعيين الوقت, فالتعيين يكون تحكما على الدليل والقول بالفدية باطل لأنها لا تجب خلفا عن الصوم عند العجز عن تحصيله عجزا لا ترجى معه القدرة عادة كما في حق الشيخ الفاني, ولم يوجد العجز لأنه قادر على القضاء فلا معنى لإيجاب الفدية. وأما شرائط جواز القضاء فما هو شرط جواز أداء صوم رمضان فهو شرط جواز قضائه إلا الوقت وتعيين النية من الليل, فإنه يجوز القضاء

 

ج / 2 ص -105-       في جميع الأوقات إلا الأوقات المستثناة, ولا يجوز إلا بنية معينة من الليل بخلاف الأداء, ووجه الفرق ما ذكرنا والله الموفق. وأما وجوب الفداء: فشرطه العجز عن القضاء عجزا لا ترجى معه القدرة في جميع عمره فلا يجب إلا على الشيخ الفاني, ولا فداء على المريض والمسافر ولا على الحامل والمرضع وكل من يفطر لعذر ترجى معه القدرة لفقد شرطه وهو العجز المستدام, وهذا لأن الفداء خلف عن القضاء, والقدرة على الأصل تمنع المصير إلى الخلف كما في سائر الأخلاف مع أصولها, ولهذا قلنا: إن الشيخ الفاني إذا فدى ثم قدر على الصوم بطل الفداء. وأما الصوم المنذور في وقت بعينه: فهو كصوم رمضان في وجوب القضاء إذا فات عن وقته وقدر على القضاء, وإن فات بعضه يلزمه قضاء ما فاته لا غير, ولا يلزمه الاستقبال كصوم رمضان بخلاف ما إذا أوجب على نفسه صوم شهر متتابعا فأفطر يوما أنه يلزمه الاستقبال, والفرق بينهما قد تقدم, ولو مات قبل ممر الوقت فلا قضاء عليه لأن الإيجاب مضاف إلى زمان متعين فإذا مات قبله لم يجب عليه, فلا يلزمه شيء, كما لو مات قبل دخول رمضان وكذلك إذا أدرك الوقت وهو مريض ثم مات قبل أن يبرأ فلا قضاء عليه فإن برئ قبل الموت فعليه القضاء كما في صوم رمضان, ولو نذر وهو صحيح وصام بعض الشهر وهو صحيح ثم مرض فمات قبل تمام الشهر يلزمه أن يوصي بالفدية لما بقي من الشهر, ولو نذر وهو مريض ثم مات قبل أن يصح لا يلزمه شيء بلا خلاف, ولو صح يوما يلزمه أن يوصي بالفدية لجميع الشهر في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد بقدر ما صح. وقد ذكرنا المسألة والله أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يسن وما يستحب للصائم وما يكره له أن يفعله فنقول: يسن للصائم السحور لما روي عن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن فصلا بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور" ولأنه يستعان به على صيام النهار, وإليه أشار النبي صلى الله عليه وسلم في الندب إلى السحور فقال: "استعينوا بقائلة النهار على قيام الليل وبأكل السحور على صيام النهار" والسنة فيها هو التأخير لأن معنى الاستعانة فيه أبلغ. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث من سنن المرسلين: تأخير السحور, وتعجيل الإفطار, ووضع اليمين على الشمال تحت السرة في الصلاة" وفي رواية قال: "ثلاث من أخلاق المرسلين". ولو شك في طلوع الفجر فالمستحب له أن لا يأكل هكذا روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أنه قال: إذا شك في الفجر فأحب إلي أن يدع الأكل لأنه يحتمل أن الفجر قد طلع فيكون الأكل إفسادا للصوم فيتحرز عنه. والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لوابصة بن معبد: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولو أكل وهو شاك لا يحكم عليه بوجوب القضاء عليه لأن فساد الصوم مشكوك فيه لوقوع الشك في طلوع الفجر مع أن الأصل هو بقاء الليل فلا يثبت النهار بالشك. وهل يكره الأكل مع الشك؟ روى هشام عن أبي يوسف أنه يكره. وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يكره والصحيح قول أبي يوسف, وهكذا روى الحسن عن أبي حنيفة أنه إذا شك فلا يأكل وإن أكل فقد أساء لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ألا إن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه فمن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه". والذي يأكل مع الشك في طلوع الفجر يحوم حول الحمى فيوشك أن يقع فيه فكان بالأكل معرضا صومه للفساد فيكره له ذلك. وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه لو ظهر على أمارة الطلوع من ضرب الدبداب والأذان يكره, وإلا فلا, ولا تعويل على ذلك لأنه مما يتقدم ويتأخر هذا إذا تسحر وهو شاك في طلوع الفجر, فأما إذا تسحر وأكبر رأيه أن الفجر طالع فذكر في الأصل وقال: إن الأحب إلينا أن يقضي, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يقضي, وذكر القدوري أن الصحيح أنه لا قضاء عليه, وجه رواية الأصل أنه على يقين من الليل فلا يبطل إلا بيقين مثله. وجه رواية الحسن أن غالب الرأي دليل واجب العمل به بل هو في حق وجوب العمل في الأحكام بمنزلة اليقين. وعلى رواية الحسن اعتمد شيخنا رحمه الله. ويسن تعجيل الإفطار إذا غربت الشمس هكذا روي عن أبي حنيفة أنه قال: وتعجيل الإفطار إذا غربت الشمس أحب إلينا لما روينا من الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "ثلاث من سنن المرسلين" وذكر من جملتها تعجيل الإفطار. وروي عن النبي صلى الله

 

ج / 2 ص -106-       عليه وسلم أنه قال: "لا تزال أمتي بخير ما لم ينتظروا للإفطار طلوع النجوم" ولتأخير يؤدي إليه, ولو شك في غروب الشمس لا ينبغي له أن يفطر لجواز أن الشمس لم تغرب فكان الإفطار إفسادا للصوم, ولو أفطر وهو شاك في غروب الشمس ولم يتبين الحال بعد ذلك أنها غربت أم لا لم يذكره في الأصل ولا القدوري في شرحه مختصر الكرخي, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي: أنه يلزمه القضاء, فرق بينه وبين التسحر. ووجه الفرق أن هناك الليل أصل فلا يثبت النهار بالشك فلا يبطل المتيقن به بالمشكوك فيه, وههنا النهار أصل فلا يثبت الليل بالشك, فكان الإفطار حاصلا فيما له حكم النهار, فيجب قضاؤه, ويجوز أن يكون ما ذكره القاضي جواب الاستحسان احتياطا. فأما في الحكم المار وهو القياس أن لا يحكم بوجوب القضاء لأن وجوب القضاء حكم حادث لا يثبت إلا بسبب حادث وهو إفساد الصوم وفي وجوده شك وعلى هذا يحمل اختلاف الروايتين في مسألة التسحر بأن تسحر وأكبر رأيه أن الفجر طالع ولو أفطر وأكبر رأيه أن الشمس قد غربت فلا قضاء عليه لما ذكرنا أن غالب الرأي حجة موجبة للعمل به, وأنه في الأحكام بمنزلة اليقين, وإن كان غالب رأيه أنها لم تغرب فلا شك في وجوب القضاء عليه لأنه انضاف إلى غلبة الظن حكم الأصل وهو بقاء النهار فوقع إفطاره في النهار فيلزمه القضاء, واختلف المشايخ في وجوب الكفارة قال بعضهم: تجب لما ذكرنا أن غالب الرأي نزل منزلة اليقين في وجوب العمل, كيف وقد انضم إليه شهادة الأصل وهو بقاء النهار, وقال بعضهم: لا تجب وهو الصحيح لأن احتمال الغروب قائم فكانت الشبهة ثابتة وهذه الكفارة لا تجب مع الشبهة والله أعلم. ولا بأس أن يكتحل الصائم بالإثمد وغيره, ولو فعل لا يفطره, وإن وجد طعمه في حلقه عند عامة العلماء لما روينا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اكتحل وهو صائم" ولما ذكرنا أنه ليس للعين منفذ إلى الجوف, وإن وجد في حلقه فهو أثره لا عينه, ولا بأس أن يدهن لما قلنا, وكره أبو حنيفة أن يمضغ الصائم العلك لأنه لا يؤمن أن ينفصل شيء منه فيدخل حلقه, فكان المضغ تعريضا لصومه للفساد فيكره ولو فعل لا يفسد صومه لأنه لا يعلم وصول شيء منه إلى الجوف, وقيل هذا إذا كان معجونا, فأما إذا لم يكن يفطره لأنه يتفتت فيصل شيء منه إلى جوفه ظاهرا أو غالبا, ويكره للمرأة أن تمضغ لصبيتها طعاما وهي صائمة لأنه لا يؤمن أن يصل شيء منه إلى جوفها إلا إذا كان لا بد لها من ذلك فلا يكره للضرورة, ويكره للصائم أن يذوق العسل أو السمن أو الزيت ونحو ذلك بلسانه ليعرف أنه جيد أو رديء, وإن لم يدخل حلقه ذلك وكذا يكره للمرأة أن تذوق المرقة لتعرف طعمها لأنه يخاف وصول شيء منه إلى الحلق فتفطر. ولا بأس للصائم أن يستاك سواء كان السواك يابسا أو رطبا مبلولا أو غير مبلول, وقال أبو يوسف: إذا كان مبلولا يكره. وقال الشافعي: يكره السواك في آخر النهار كيفما كان. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" والاستياك يزيل الخلوف فيكره, وجه قول أبي يوسف أن الاستياك بالمبلول من السواك إدخال الماء في الفم من غير حاجة فيكره, ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير خلال الصائم السواك" والحديث حجة على أبي يوسف والشافعي لأنه وصف الاستياك بالخيرية مطلقا من غير فصل بين المبلول وغير المبلول, وبين أن يكون في أول النهار وآخره, لأن المقصود منه تطهير الفم, فيستوي فيه المبلول وغيره أول النهار وآخره, كالمضمضة وأما الحديث: فالمراد منه تفخيم شأن الصائم والترغيب في الصوم والتنبيه على كونه محبوبا لله تعالى ومرضيه, ونحن به نقول أو يحمل على أنهم كانوا يتحرجون عن الكلام مع الصائم لتغير فمه بالصوم فمنعهم عن ذلك ودعاهم إلى الكلام. ولا بأس للصائم أن يقبل ويباشر إذا أمن على نفسه ما سوى ذلك. أما القبلة فلما روي أن عمر رضي الله عنه "سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم فقال: أرأيت لو تمضمضت بماء ثم مججته أكان يضرك؟ قال: لا, قال: فصم إذا". وفي رواية أخرى "عن عمر رضي الله عنه أنه قال: هششت إلى أهلي ثم أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت: إني عملت اليوم عملا عظيما إني قبلت وأنا صائم فقال: أرأيت لو تمضمضت بماء أكان يضرك؟ قلت: لا, قال: فصم إذا". وعن عائشة أنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبل

 

ج / 2 ص -107-       وهو صائم". وروي "أن شابا وشيخا سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القبلة للصائم, فنهى الشاب ورخص للشيخ وقال: الشيخ أملك لإربه وأنا أملككم لإربي" وفي رواية "الشيخ يملك نفسه" وأما المباشرة فلما روي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يباشر وهو صائم وكان أملككم لإربه" وروي عن أبي حنيفة أنه كره المباشرة ووجه هذه الرواية أن عند المباشرة لا يؤمن على ما سوى ذلك ظاهرا وغالبا بخلاف القبلة وفي حديث عائشة رضي الله عنها إشارة إلى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان مخصوصا بذلك حيث قالت وكان أملككم لإربه. قال أبو يوسف: ويكره للصائم أن يتمضمض لغير الوضوء لأنه يحتمل أن يسبق الماء إلى حلقه ولا ضرورة فيه. وإن كان للوضوء لا يكره لأنه محتاج إليه لإقامة السنة. وأما الاستنشاق والاغتسال وصب الماء على الرأس والتلفف بالثوب المبلول فقد قال أبو حنيفة: أنه يكره, وقال أبو يوسف: لا يكره, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صب على رأسه ماء من شدة الحر وهو صائم" وعن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يبل الثوب ويتلفف به وهو صائم ولأنه ليس فيه إلا دفع أذى الحر فلا يكره, كما لو استظل, ولأبي حنيفة أن فيه إظهار الضجر من العبادة والامتناع عن تحمل مشقتها, وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على حال مخصوصة وهي حال خوف الإفطار من شدة الحر. وكذا فعل ابن عمر رضي الله عنه محمول مثل هذه الحالة ولا كلام فيه. ولا تكره الحجامة للصائم لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" وعن أنس رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم". ولو احتجم لا يفطره عند عامة العلماء, وعند أصحاب الحديث يفطره, واحتجوا بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر على معقل بن يسار وهو يحتجم في رمضان فقال: أفطر الحاجم والمحجوم" ولنا ما روي عن ابن عباس وأنس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم" ولو كان الاحتجام يفطر لما فعله. وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث لا يفطرن الصائم: القيء, والحجامة, والاحتلام" وأما ما روي من الحديث فقد قيل: إنه كان ذلك في الابتداء ثم رخص بعد ذلك. والثاني: أنه ليس في الحديث إثبات الفطر بالحجامة فيحتمل أنه كان منهما ما يوجب الفطر وهو ذهاب ثواب الصوم كما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر برجل يحجم رجلا وهما يغتابان فقال: "أفطر الحاجم والمحجوم" أي: بسبب الغيبة منهما على ما روي "الغيبة تفطر الصائم" ولأن الحجامة ليست إلا إخراج شيء من الدم والفطر مما يدخل والوضوء مما يخرج كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم. وليس للمرأة التي لها زوج أن تصوم تطوعا إلا بإذن زوجها, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تصوم صوم تطوع إلا بإذن زوجها" ولأن له حق الاستمتاع بها ولا يمكنه ذلك في حال الصوم, وله أن يمنعها إن كان يضره, لما ذكرنا أنه لا يمكنه استيفاء حقه مع الصوم فكان له منعها. فإن كان صيامها لا يضره بأن كان صائما أو مريضا لا يقدر على الجماع فليس له أن يمنعها, لأن المنع كان لاستيفاء حقه فإذا لم يقدر على الاستمتاع فلا معنى للمنع وليس لعبد ولا أمة ولا مدبر ولا مدبرة وأم ولد أن تصوم بغير إذن المولى؛ لأن منافعه مملوكة للمولى إلا في القدر المستثنى وهو الفرائض فلا يملك صرفها إلى التطوع, وسواء كان ذلك يضر المولى أو لا يضره, بخلاف المرأة لأن المنع ههنا لمكان الملك فلا يقف على الضرر. وللزوج أن يفطر المرأة إذا صامت بغير إذنه, وكذا للمولى, وتقضي المرأة إذا أذن لها زوجها أو بانت منه, ويقضي العبد إذا أذن له المولى أو أعتق لأن الشروع في التطوع قد صح منها إلا أنهما منعا في المضي فيه لحق الزوج والمولى, فإذا أفطرا لزمهما القضاء. وأما الأجير الذي استأجره الرجل ليخدمه فلا يصوم تطوعا إلا بإذنه, لأن صومه يضر المستأجر أما لو كان لا يضره فله أن يصوم بغير إذنه لأن حقه في منافعه بقدر ما تتأدى به الخدمة, والخدمة حاصلة له من غير خلل, بخلاف العبد فإن له أن يمنعه وإن كان لا يضره صومه لأن المانع هناك ملك الرأس وأنه يظهر في حق جميع المنافع سوى القدر المستثنى, وههنا المانع ملك بعض المنافع وهو قدر ما تتأدى به الخدمة, وذلك القدر حاصل من غير خلل فلا يملك منعه. وأما بنت الرجل وأمه وأخته فلها أن تتطوع بغير

 

ج / 2 ص -108-       إذنه لأنه لا حق له في منافعها, فلا يملك منعها كما لا يملك منع الأجنبية. ولو أراد المسافر دخول مصره أو مصرا آخر ينوي فيه الإقامة يكره له أن يفطر في ذلك اليوم, وإن كان مسافرا في أوله لأنه اجتمع المحرم للفطر وهو الإقامة والمرخص والمبيح وهو السفر في يوم واحد فكان الترجيح للمحرم احتياطا فإن كان أكبر رأيه أن لا يتفق دخوله المصر حتى تغيب الشمس فلا بأس بالفطر فيه ولا بأس بقضاء رمضان في عشر ذي الحجة وهو مذهب عمر وعامة الصحابة رضي الله عنهم إلا شيئا حكي عن علي أنه قال: يكره فيها لما روي "عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن قضاء رمضان في العشر" الصحيح قول العامة لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} مطلقا من غير فصل ولأنها وقت يستحب فيها الصوم فكان القضاء فيها أولى من القضاء في غيرها, وما روي من الحديث غريب في حد الأحاديث, فلا يجوز تقييد مطلق الكتاب وتخصيصه بمثله أو نحمله على الندب في حق من اعتاد التنفل بالصوم في هذه الأيام, فالأفضل في حقه أن يقضي في غيرها لئلا تفوته فضيلة صوم هذه الأيام ويقضي صوم رمضان في وقت آخر والله أعلم بالصواب.