بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الاعتكاف"
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع في بيان صفة الاعتكاف وفي بيان شرائط صحته وفي بيان ركنه ويتضمن بيان محظورات الاعتكاف وما يفسده وما لا يفسده وفي بيان حكمه إذا فسد وفي بيان حكمه إذا فات عن وقته المعين له أما الأول فالاعتكاف في الأصل سنة وإنما يصير واجبا بأحد أمرين, أحدهما: قول وهو النذر المطلق, بأن يقول: لله علي أن أعتكف يوما أو شهرا أو نحو ذلك, أو علقه بشرط, بأن يقول: إن شفى الله مريضي, أو إن قدم فلان فلله علي أن أعتكف شهرا أو نحو ذلك. والثاني فعل, وهو الشروع؛ لأن الشروع في التطوع ملزم عندنا كالنذر, والدليل على أنه في الأصل سنة, مواظبة النبي صلى الله عليه وسلم فإنه روي عن عائشة وأبي هريرة رضي الله عنهما أنهما قالا: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله تعالى" وعن الزهري أنه قال: عجبا للناس تركوا الاعتكاف وقد "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الشيء ويتركه ولم يترك الاعتكاف منذ دخل المدينة إلى أن مات". ومواظبة النبي صلى الله عليه وسلم عليه دليل كونه سنة في الأصل ولأن الاعتكاف تقرب إلى الله تعالى بمجاورة بيته والإعراض عن الدنيا والإقبال على خدمته لطلب الرحمة وطمع المغفرة حتى قال عطاء الخراساني مثل المعتكف مثل الذي ألقى نفسه بين يدي الله تعالى يقول: لا أبرح حتى يغفر لي؛ ولأنه عبادة لما فيه من إظهار العبودية لله تعالى بملازمة الأماكن المنسوبة إليه. والعزيمة في العبادات القيام بها بقدر الإمكان وانتفاء الحرج, وإنما رخص تركها في بعض الأوقات فكان الاشتغال بالاعتكاف اشتغالا بالعزيمة حتى لو نذر به يلتحق بالعزائم الموظفة التي لا رخصة في تركها والله أعلم.
"فصل": وأما شرائط صحته فنوعان: نوع يرجع إلى المعتكف, ونوع يرجع إلى المعتكف فيه. أما ما يرجع إلى المعتكف فمنها: الإسلام والعقل والطهارة عن الجنابة والحيض والنفاس, وإنها شرط الجواز في نوعي الاعتكاف الواجب والتطوع جميعا؛ لأن الكافر ليس من أهل العبادة. وكذا المجنون؛ لأن العبادة لا تؤدى إلا بالنية وهو ليس من أهل النية. والجنب والحائض والنفساء ممنوعون عن المسجد وهذه العبادة لا تؤدى إلا في المسجد وأما البلوغ فليس بشرط لصحة الاعتكاف فيصح من الصبي العاقل؛ لأنه من أهل العبادة, كما يصح منه صوم التطوع. ولا تشترط الذكورة والحرية فيصح من المرأة والعبد بإذن المولى والزوج, إن كان لها زوج؛ لأنهما من أهل العبادة, وإنما المانع حق الزوج والمولى, فإذا وجد الإذن فقد زال المانع ولو نذر المملوك اعتكافا فللمولى أن يمنعه عنه, فإذا أعتق قضاه, وكذلك المرأة إذا نذرت فلزوجها أن يمنعها فإذا بانت قضت؛ لأن للزوج ملك المنفعة فيها, وللولي ملك الذات والمنفعة في المملوك, وفي الاعتكاف تأخير

 

ج / 2 ص -109-       حقهما في استيفاء المنفعة فكان لهما المنع ما داما في ملك الزوج والمولى فإذا بانت المرأة وأعتق المملوك؛ لزمهما قضاؤه, ولأن النذر منهما قد صح لوجوده من الأهل لكنهما منعا لحق المولى والزوج, فإذا سقط حقهما بالعتق والبينونة فقد زال المانع فيلزمهما القضاء وأما المكاتب فليس للولي أن يمنعه من الاعتكاف الواجب والتطوع؛ لأن المولى لا يملك منافع مكاتبه؛ فكان كالحر في حق منافعه. وإذا أذن الرجل لزوجته بالاعتكاف؛ لم يكن له أن يرجع عنه؛ لأنه لما أذن لها بالاعتكاف فقد ملكها منافع الاستمتاع بها في زمان الاعتكاف, وهي من أهل الملك, فلا يملك الرجوع عن ذلك والنهي عنه بخلاف المملوك إذا أذن له مولاه بالاعتكاف أنه يملك الرجوع عنه؛ لأن هناك ما ملكه المولى منافعه؛ لأنه ليس من أهل الملك وإنما أعاره منافعه, وللمعير أن يرجع في العارية متى شاء, إلا أنه يكره له الرجوع؛ لأنه خلف في الوعد وغرور فيكره له ذلك. ومنها: النية لأن العبادة لا تصح بدون النية. ومنها: الصوم فإنه شرط لصحة الاعتكاف الواجب بلا خلاف بين أصحابنا, وعند الشافعي ليس بشرط, ويصح الاعتكاف بدون الصوم والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم وروي عن ابن عباس وعائشة وإحدى الروايتين عن علي رضي الله عنهم مثل مذهبنا. وروي عن علي وعبد الله بن مسعود مثل مذهبه. وجه قوله أن الاعتكاف ليس إلا اللبث والإقامة, وذا لا يفتقر إلى الصوم, ولأن الصوم عبادة مقصودة بنفسه فلا يصلح شرطا لغيره؛ لأن شرط الشيء تبع له وفيه جعل المتبوع تبعا وأنه قلب الحقيقة ولهذا لم يشترط لاعتكاف التطوع. وكذا يصح الشروع في الاعتكاف الواجب بدونه بأن قال لله علي أن أعتكف شهر رجب فكما رأى الهلال يجب عليه الدخول في الاعتكاف ولا صوم في ذلك الوقت. ولو كان شرطا؛ لما جاز بدونه فضلا عن الوجوب إذ الشروع في العبادة بدون شرطها لا يصح والدليل عليه أنه لو قال لله علي أن أعتكف شهر رمضان فصام رمضان واعتكف خرج عن عهدة النذر وإن لم يجب عليه الصوم بالاعتكاف. ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا اعتكاف إلا بصوم" ولأن الصوم هو الإمساك عن الأكل والشرب والجماع ثم أحد ركني الصوم وهو الإمساك عن الجماع شرط صحة الاعتكاف, فكذا الركن الآخر وهو الإمساك عن الأكل والشرب لاستواء كل واحد منهما في كونه ركنا للصوم. فإذا كان أحد الركنين شرطا كان الآخر كذلك, ولأن معنى هذه العبادة وهو ما ذكرنا من الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة بملازمة بيت الله تعالى لا يتحقق بدون ترك قضاء الشهوتين إلا بقدر الضرورة وهي ضرورة القوام وذلك بالأكل والشرب في الليالي, ولا ضرورة في الجماع. وقوله الاعتكاف ليس إلا اللبث والمقام مسلم لكن هذا لا يمنع أن يكون الإمساك عن الأكل والشرب شرطا لصحته, كما لم يمنع أن يكون الإمساك عن الأكل والشرب والجماع شرطا لصحته, والنية وكذا كون الصوم عبادة مقصودة بنفسه لا ينافي أن يكون شرطا لغيره. ألا ترى أن قراءة القرآن عبادة مقصودة بنفسه ثم جعل شرطا لجواز الصلاة حالة الاختيار كذا ههنا وأما اعتكاف التطوع فقد روى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا يصح بدون الصوم ومن مشايخنا من اعتمد على هذه الرواية وأما على ظاهر الرواية فلأن في الاعتكاف التطوع عن أصحابنا روايتين: في رواية مقدر بيوم, وفي رواية غير مقدر أصلا, وهو رواية الأصل. فإذا لم يكن مقدرا والصوم عبادة مقدرة بيوم؛ فلا يصلح شرطا لما ليس بمقدر, بخلاف الاعتكاف الواجب فإنه مقدر بيوم لا يجوز الخروج عنه قبل تمامه؛ فجاز أن يكون الصوم شرطا لصحته. وأما إذا قال: لله علي أن أعتكف شهر رجب؛ فإنما أوجب عليه الدخول في الاعتكاف في الليل؛ لأن الليالي دخلت في الاعتكاف المضاف إلى الشهر لضرورة اسم الشهر إذ هو اسم للأيام, والليالي دخلت تبعا لا أصلا ومقصودا؛ فلا يشترط لها ما يشترط للأصل, كما إذا قال: لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام؛ أنه يدخل فيه الليالي ويكون أول دخوله فيه من الليل؛ لما قلنا, كذا هذا. وأما النذر باعتكاف شهر رمضان فإنما يصح لوجود شرطه وهو الصوم في زمان الاعتكاف. وإن لم يكن لزومه بالتزام الاعتكاف لأن ذلك أفضل وأما اعتكاف التطوع فالصوم ليس بشرط لجوازه في ظاهر الرواية وإنما الشرط أحد ركني الصوم عينا وهو الإمساك عن الجماع لقوله تعالى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي

 

ج / 2 ص -110-       الْمَسَاجِدِ} فأما الإمساك عن الأكل والشرب فليس بشرط وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه شرط واختلاف الرواية فيه مبني على اختلاف الرواية في اعتكاف التطوع أنه مقدر بيوم أو غير مقدر ذكر محمد في الأصل أنه غير مقدر ويستوي فيه القليل والكثير ولو ساعة. وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه مقدر بيوم, فلما لم يكن مقدرا على رواية الأصل؛ لم يكن الصوم شرطا له؛ لأن الصوم مقدر بيوم إذ صوم بعض اليوم ليس بمشروع فلا يصلح شرطا لما ليس مقدرا. ولما كان مقدرا بيوم على رواية الحسن فالصوم يصلح أن يكون شرطا له والكلام فيه يأتي في موضعه. وعلى هذا يخرج ما إذا قال: لله علي أن أعتكف يوما أنه يصح نذره وعليه أن يعتكف يوما واحدا بصوم والتعيين إليه فإذا أراد أن يؤدي يدخل المسجد قبل طلوع الفجر فيطلع الفجر وهو فيه فيعتكف يومه ذلك ويخرج منه بعد غروب الشمس؛ لأن اليوم اسم لبياض النهار, وهو من طلوع الفجر إلى غروب الشمس فيجب أن يدخل المسجد قبل طلوع الفجر حتى يقع اعتكافه في جميع اليوم وإنما كان التعيين إليه؛ لأنه لم يعين اليوم في النذر. ولو قال: لله علي أن أعتكف ليلة؛ لم يصح ولم يلزمه شيء عندنا؛ لأن الصوم شرط صحة الاعتكاف, فالليل ليس بمحل للصوم ولم يوجد منه ما يوجب دخوله في الاعتكاف تبعا؛ فالنذر لم يصادف محله. وعند الشافعي يصح؛ لأن الصوم عنده ليس بشرط لصحة الاعتكاف. وروي عن أبي يوسف أنه إن نوى ليلة بيومها؛ لزمه ذلك ولم يذكر محمد هذا التفصيل في الأصل. فإما أن يوفق بين الروايتين فيحمل المذكور في الأصل على ما إذا لم تكن له نية, وإما أن يكون في المسألة روايتان. وجه ما روي عن أبي يوسف: اعتبار الفرد بالجمع وهو أن ذكر الليالي بلفظ الجمع يكون ذكرا للأيام كذا ذكر الليلة الواحدة يكون ذكرا ليوم واحد. والجواب أن هذا إثبات اللغة بالقياس ولا سبيل إليه؛ فلو قال: لله علي أن أعتكف ليلا ونهارا؛ لزمه أن يعتكف ليلا ونهارا وإن لم يكن الليل محلا للصوم؛ لأن الليل يدخل فيه تبعا ولا يشترط للتبع ما يشترط للأصل ولو نذر اعتكاف يوم قد أكل فيه؛ لم يصح ولم يلزمه شيء؛ لأن الاعتكاف الواجب لا يصح بدون الصوم ولا يصح الصوم في يوم قد أكل فيه, وإذا لم يصح الصوم؛ لم يصح الاعتكاف. ولو قال: لله علي أن أعتكف يومين ولا نية له؛ يلزمه اعتكاف يومين بليلتيهما وتعيين ذلك إليه فإذا أراد أن يؤدي؛ يدخل المسجد قبل غروب الشمس فيمكث تلك الليلة ويومها, ثم الليلة الثانية ويومها إلى أن تغرب الشمس ثم يخرج من المسجد وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف الليلة الأولى لا تدخل في نذره وإنما تدخل الليلة المتخللة بين اليومين. فعلى قوله يدخل قبل طلوع الفجر وروي عن ابن سماعة أن المستحب له أن يدخل قبل غروب الشمس, ولو دخل قبل طلوع الفجر جاز وجه قوله أن اليوم في الحقيقة اسم لبياض النهار إلا أن الليلة المتخللة تدخل لضرورة حصول التتابع والدوام ولا ضرورة في دخول الليلة الأولى, بخلاف ما إذا ذكر الأيام بلفظ الجمع حيث يدخل ما بإزائها من الليالي؛ لأن الدخول هناك للعرف والعادة كقول الرجل: كنا عند فلان ثلاثة أيام ويريد به ثلاثة أيام وما بإزائها من الليالي, ومثل هذا العرف لم يوجد في التثنية ولهما أن هذا العرف أيضا ثابت في التثنية كما في الجمع؛ يقول الرجل: كنا عند فلان يومين ويريد به يومين وما بإزائهما من الليالي. ويلزمه اعتكاف يومين متتابعين لكن تعيين اليومين إليه؛ لأنه لم يعين في النذر, ولو نوى يومين خاصة دون ليلتيهما؛ صحت نيته ويلزمه اعتكاف يومين بغير ليلة؛ لأنه نوى حقيقة كلامه وهو بالخيار: إن شاء تابع وإن شاء فرق؛ لأنه ليس في لفظه ما يدل على التتابع واليومان متفرقان لتخلل الليلة بينهما؛ فصار الاعتكاف ههنا كالصوم فيدخل في كل يوم المسجد قبل طلوع الفجر ويخرج منه بعد غروب الشمس وكذا لو قال: لله علي أن أعتكف ثلاثة أيام أو أكثر من ذلك ولا نية له؛ أنه يلزمه الأيام مع لياليهن وتعيينها إليه, لكن يلزمه مراعاة صفة التتابع. وإن نوى الأيام دون الليالي صحت نيته؛ لما قلنا ويلزمه اعتكاف ثلاثة أيام بغير ليلة وله خيار التفريق؛ لأن القربة تعلقت بالأيام. والأيام متفرقة؛ فلا يلزمه التتابع إلا بالشرط كما في الصوم ويدخل كل يوم قبل طلوع الفجر إلى غروب الشمس ثم يخرج. ولو قال: لله علي أن أعتكف ليلتين ولا نية له؛ يلزمه اعتكاف ليلتين مع يوميهما, وكذلك لو قال: ثلاث ليال أو أكثر من ذلك من الليالي ويلزمه متتابعا لكن التعيين إليه لما قلنا ويدخل المسجد قبل

 

ج / 2 ص -111-       غروب الشمس. ولو نوى الليل دون النهار؛ صحت نيته؛ لأنه نوى حقيقة كلامه ولا يلزمه شيء؛ لأن الليل ليس وقتا للصوم. والأصل في هذا أن الأيام إذا ذكرت بلفظ الجمع يدخل ما بإزائها من الليالي. وكذا الليالي إذا ذكرت بلفظ الجمع يدخل ما بإزائها من الأيام؛ لقوله تعالى في قصة زكريا عليه السلام {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} وقال عز وجل في موضع آخر {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} والقصة قصة واحدة, فلما عبر في موضع باسم الأيام وفي موضع باسم الليالي؛ دل أن المراد من كل واحد منهما: هو وما بإزاء صاحبه, حتى أن في الموضع الذي لم تكن الأيام فيه على عدد الليالي أفرد كل واحد منهما بالذكر قال الله تعالى {سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً} وللآيتين حكم الجماعة ههنا لجريان العرف فيه كما في اسم الجمع على ما بينا ولو قال: لله علي أن أعتكف ثلاثين يوما ولا نية له؛ فهو على الأيام والليالي متتابعا لكن التعيين إليه. ولو قال: نويت النهار دون الليل؛ صحت نيته؛ لأنه عنى به حقيقة كلامه دون ما نقل عنه بالعرف والعرف أيضا باستعمال هذه الحقيقة باق فتصح نيته. ثم هو بالخيار: إن شاء تابع, وإن شاء فرق؛ لأن اللفظ مطلق عن قيد التتابع وكذا ذات الأيام لا تقتضي التتابع لتخلل ما ليس بمحل للاعتكاف بين كل يومين. ولو قال: عنيت الليالي دون النهار؛ لم يعمل بنيته ولزمه الليل والنهار؛ لأنه لما نص على الأيام, فإذا قال: نويت بها الليالي دون الأيام؛ فقد نوى ما لا يحتمله كلامه؛ فلا يقبل قوله. ولو قال: لله علي أن أعتكف ثلاثين ليلة وقال: عنيت به الليالي دون النهار لا يلزمه شيء؛ لأنه عنى به حقيقة كلامه والليالي في اللغة: اسم للزمان الذي كانت الشمس فيه غائبة إلا أنها عند الإطلاق تتناول ما بإزائها من الأيام بالعرف فإذا عنى به حقيقة كلامه والعرف أيضا باستعمال هذه الحقيقة باق؛ صحت نيته لمصادفتها محلها. ولو قال: لله علي أن أعتكف شهرا يلزمه اعتكاف شهر, أي شهر كان, متتابعا في النهار والليالي جميعا, سواء ذكر التتابع أو لا. وتعيين ذلك الشهر إليه, فيدخل المسجد قبل غروب الشمس فتغرب الشمس وهو فيه فيعتكف ثلاثين ليلة وثلاثين يوما ثم يخرج بعد استكمالها بعد غروب الشمس, بخلاف ما إذا قال: لله علي أن أصوم شهرا ولم يعين, ولم يذكر التتابع ولا نواه؛ أنه لا يلزمه التتابع بل هو بالخيار: إن شاء تابع, وإن شاء فرق. وهذا الذي ذكرنا من لزوم التتابع في هذه المسائل مذهب أصحابنا الثلاثة, وقال زفر: لا يلزمه التتابع في شيء من ذلك إلا بذكر التتابع أو بالنية, وهو بالخيار: إن شاء تابع وإن شاء فرق. وجه قوله أن اللفظ مطلق عن قيد التتابع ولم ينو التتابع أيضا فيجرى على إطلاقه كما في الصوم. ولنا: الفرق بينهما ووجه الفرق أن الاعتكاف عبادة دائمة ومبناها على الاتصال؛ لأنه لبث وإقامة, والليالي قابلة للبث؛ فلا بد من التتابع. وإن كان اللفظ مطلقا عن قيد التتابع لكن في لفظه ما يقتضيه وفي ذاته ما يوجبه بخلاف ما إذا نذر أن يصوم شهرا ولزمه أن يصوم شهرا غير معين؛ أنه إذا عين شهرا؛ له أن يفرق؛ لأنه أوجب مطلقا عن قيد التتابع وليس مبنى حصوله على التتابع بل على التفريق؛ لأن بين كل عبادتين منه وقتا لا يصلح لها وهو الليل؛ فلم يوجد فيه قيد التتابع ولا اقتضاء لفظه وتعيينه؛ فبقي له الخيار ولهذا لم يلزم التتابع فيما لم يتقيد بالتتابع من الصيام المذكور في الكتاب كذا هذا. ولو نوى في قوله: لله علي أن أعتكف شهرا النهار دون الليل؛ لم تصح نيته ويلزمه الاعتكاف شهرا بالأيام والليالي جميعا؛ لأن الشهر اسم لزمان مقدر بثلاثين يوما وليلة مركب من شيئين مختلفين كل واحد منهما أصل في نفسه كالبلق, فإذا أراد أحدهما؛ فقد أراد بالاسم ما لم يوضع له ولا احتمله فبطل, كمن ذكر البلق وعنى به البياض دون السواد فلم تصادف النية محلها فلغت. وهذا بخلاف اسم الخاتم فإنه اسم للحلقة بطريق الأصالة, والفص كالتابع لها؛ لأنه مركب فيها زينة لها؛ فكان كالوصف لها فجاز أن يذكر الخاتم ويراد به الحلقة. فأما ههنا فكل واحد من الزمانين أصل فلم ينطلق الاسم على أحدهما بخلاف ما إذا قال: لله علي أن أصوم شهرا حيث انصرف إلى النهار دون الليالي؛ لأن هناك أيضا لا نقول: إن اسم الشهر تناول النهار دون الليالي؛ لما ذكرنا من الاستحالة, بل تناول النهار والليالي جميعا؛ فكان مضيفا النذر بالصوم إلى الليالي والنهار جميعا معا غير أن الليالي ليست محلا لإضافة النذر بالصوم إليها فلم تصادف النية محلها فلغا ذكر الليالي والنهار محل لذلك؛ فصحت الإضافة إليها على الأصل المعهود أن التصرف المصادف لمحله يصح, والمصادف لغير محله يلغو, فأما في الاعتكاف فكل واحد منهما محل, ولو قال: لله

 

ج / 2 ص -112-       علي أن أعتكف شهرا النهار دون الليل؛ يلزمه كما التزم. وهو اعتكاف شهر بالأيام دون الليالي؛ لأنه لما قال: النهار دون الليل؛ فقد لغا ذكر الشهر بنص كلامه, كمن قال: رأيت فرسا أبلق للبياض منه دون السواد؛ وكان هو بالخيار: إن شاء تابع وإن شاء فرق؛ لأنه تلفظ بالنهار. والأصل فيه أن كل اعتكاف وجب في الأيام دون الليالي؛ فصاحبه فيه بالخيار: إن شاء تابع وإن شاء فرق. وكل اعتكاف وجب في الأيام والليالي جميعا: يلزمه اعتكاف شهر يصومه متتابعا. ولو أوجب على نفسه اعتكاف شهر بعينه بأن قال: لله علي أن أعتكف رجب؛ يلزمه أن يعتكف فيه يصومه متتابعا, وإن أفطر يوما أو يومين؛ فعليه قضاء ذلك ولا يلزمه قضاء ما صح اعتكافه فيه كما إذا أوجب على نفسه صوم رجب على ما ذكرنا في كتاب الصوم. فإن لم يعتكف في رجب حتى مضى؛ يلزمه اعتكاف شهر يصومه متتابعا؛ لأنه لما مضى رجب من غير اعتكاف؛ صار في ذمته اعتكاف شهر بغير عينه فيلزمه مراعاة صفة التتابع فيه كما إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر بغير عينه ابتداء بأن قال: لله علي أن أعتكف شهرا. ولو أوجب اعتكاف شهر بعينه فاعتكف شهرا قبله عن نذره بأن قال: لله علي أن أعتكف رجبا فاعتكف شهر ربيع الآخر؛ أجزأه عن نذره عند أبي يوسف وعند محمد رحمهما الله تعالى لا يجزئه. وهو على الاختلاف في النذر بالصوم في شهر معين فصام قبله ونذكر المسألة في كتاب النذر إن شاء الله تعالى. ولو قال: لله علي أن أعتكف شهر رمضان؛ يصح نذره ويلزمه أن يعتكف في شهر رمضان كله؛ لوجود الالتزام بالنذر فإن صام واعتكف فيه؛ خرج عن عهدة النذر لوجود شرط صحة الاعتكاف وهو الصوم وإن لم يكن لزومه بالتزامه الاعتكاف؛ لأن ذلك ليس بشرط, إنما الشرط وجوده معه كمن لزمه أداء الظهر, وهو محدث؛ يلزمه الطهارة, ولو دخل وقت الظهر وهو على الطهارة يصح أداء الظهر بها؛ لأن الشرط هو الطهارة وقد وجدت كذا هذا. ولو صام رمضان كله ولم يعتكف؛ يلزمه قضاء الاعتكاف بصوم آخر في شهر آخر متتابعا, كذا ذكر محمد في الجامع وروي عن أبي يوسف أنه لا يلزمه الاعتكاف, بل يسقط نذره وجه قوله: أن نذره انعقد غير موجب للصوم. وقد تعذر إبقاؤه كما انعقد فتسقط لعدم الفائدة في البقاء وجه قول محمد رحمه الله تعالى أن النذر بالاعتكاف في رمضان قد صح ووجب عليه الاعتكاف فيه, فإذا لم يؤد؛ بقي واجبا عليه. كما إذا نذر بالاعتكاف في شهر آخر بعينه فلم يؤده حتى مضى الشهر وإذا بقي واجبا عليه ولا يبقى واجبا عليه إلا بوجوب شرط صحة أدائه وهو الصوم فيبقى واجبا عليه بشرطه وهو الصوم وأما قوله: إن نذره ما انعقد موجبا للصوم في رمضان؛ فنعم لكن جاز أن يبقى موجبا للصوم في غير رمضان وهذا لأن وجوب الصوم لضرورة التمكن من الأداء ولا يتمكن من الأداء في غيره إلا بالصوم؛ فيجب عليه الصوم ويلزمه متتابعا؛ لأنه لزمه الاعتكاف في شهر بعينه وقد فاته فيقضيه متتابعا كما إذا أوجب اعتكاف رجب فلم يعتكف فيه؛ أنه يقضيه في شهر آخر متتابعا, كذا هذا. ولو لم يصم رمضان ولم يعتكف فيه؛ فعليه اعتكاف شهر متتابعا بصوم, وقضاء رمضان فإن قضى صوم الشهر متتابعا وقرن به الاعتكاف؛ جاز ويسقط عنه قضاء رمضان وخرج عن عهدة النذر؛ لأن الصوم الذي وجب فيه الاعتكاف باق فيقضيهما جميعا يصوم شهرا متتابعا وهذا لأن ذلك الصوم لما كان باقيا لا يستدعي وجوب الاعتكاف فيها صوما آخر؛ فبقي واجب الأداء بعين ذلك الصوم كما انعقد. ولو صام ولم يعتكف حتى دخل رمضان القابل فاعتكف قاضيا لما فاته بصوم هذا الشهر؛ لم يصح لما ذكرنا أن بقاء وجوب الاعتكاف يستدعي وجوب صوم يصير شرطا لأدائه فوجب في ذمته صوم على حدة وما وجب في الذمة من الصوم لا يتأدى بصوم الشهر ولو نذر أن يعتكف يومي العيد وأيام التشريق؛ فهو على الروايتين اللتين ذكرناهما في الصوم وأن على رواية محمد عن أبي حنيفة يصح نذره لكن يقال له: اقض في يوم آخر ويكفر اليمين إن كان أراد به اليمين, وإن اعتكف فيها؛ جاز وخرج عن عهدة النذر وكان مسيئا وعلى رواية أبي يوسف وابن المبارك عن أبي حنيفة لا يصح نذره بالاعتكاف فيها أصلا كما لا يصح نذره بالصوم فيها وإنما كان كذلك؛ لأن الصوم من لوازم الاعتكاف الواجب؛ فكان الجواب في الاعتكاف كالجواب في الصوم. والله أعلم. وأما الذي يرجع إلى المعتكف فيه: فالمسجد وإنه شرط في

 

ج / 2 ص -113-       نوعي الاعتكاف: الواجب والتطوع؛ لقوله تعالى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وصفهم بكونهم عاكفين في المساجد مع أنهم لم يباشروا الجماع في المساجد؛ لينهوا عن الجماع فيها فدل أن مكان الاعتكاف هو المسجد ويستوي فيه الاعتكاف الواجب والتطوع؛ لأن النص مطلق ثم ذكر الكرخي أنه لا يصح الاعتكاف إلا في مساجد الجماعات يريد به الرجل وقال الطحاوي: إنه يصح في كل مسجد. وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلا في مسجد تصلى فيه الصلوات كلها, واختلفت الرواية عن ابن مسعود رضي الله عنه روي عنه أنه لا يجوز إلا في المسجد الحرام ومسجد المدينة ومسجد بيت المقدس كأنه ذهب في ذلك إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام". وروي أنه قال: "لا تشد الرحال إلا لثلاثة مساجد: المسجد الحرام, ومسجدي هذا, والمسجد الأقصى" وفي رواية: ومسجد الأنبياء ولنا عموم قوله تعالى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} وعن حذيفة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "الاعتكاف في كل مسجد له إمام ومؤذن" والمروي أنه لا اعتكاف إلا في المسجد الحرام: إن ثبت فهو على التناسخ؛ لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف في مسجد المدينة فصار منسوخا بدلالة فعله؛ إذ فعل النبي صلى الله عليه وسلم يصلح ناسخا لقوله أو يحمل على بيان الأفضل كقوله "لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد" أو على المجاورة على قول من لا يكرهها. وأما الحديث الآخر إن ثبت فيحمل على الزيارة أو على بيان الأفضل فأفضل الاعتكاف أن يكون في المسجد الحرام ثم في مسجد المدينة وهو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم في المسجد الأقصى ثم في المسجد الجامع ثم في المساجد العظام التي كثر أهلها وعظم. أما المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة في مسجدي هذا تعدل ألف صلاة في غيره من المساجد ما خلا المسجد الحرام"؛ ولأن للمسجد الحرام من الفضائل ما ليس لغيره, من كون الكعبة فيه ولزوم الطواف به ثم بعده مسجد المدينة؛ لأنه مسجد أفضل الأنبياء والمرسلين صلى الله تعالى عليه وعليهم وسلم ثم مسجد بيت المقدس؛ لأنه مسجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ولإجماع المسلمين على أنه ليس بعد المسجد الحرام ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مسجد أفضل منه ثم المسجد الجامع؛ لأنه من مجمع المسلمين لإقامة الجمعة ثم بعده المساجد الكبار؛ لأنها في معنى الجوامع لكثرة أهلها. وأما المرأة فذكر في الأصل أنها لا تعتكف إلا في مسجد بيتها ولا تعتكف في مسجد جماعة وروى الحسن عن أبي حنيفة أن للمرأة أن تعتكف في مسجد الجماعة وإن شاءت اعتكفت في مسجد بيتها, ومسجد بيتها أفضل لها من مسجد حيها ومسجد حيها أفضل لها من المسجد الأعظم وهذا لا يوجب اختلاف الروايات, بل يجوز اعتكافها في مسجد الجماعة على الروايتين جميعا بلا خلاف بين أصحابنا والمذكور في الأصل محمول على نفي الفضيلة لا على نفي الجواز توفيقا بين الروايتين وهذا عندنا. وقال الشافعي: لا يجوز اعتكافها في مسجد بيتها وجه قوله أن الاعتكاف قربة خصت بالمساجد بالنص, ومسجد بيتها ليس بمسجد حقيقة بل هو اسم للمكان المعد للصلاة في حقها حتى لا يثبت له شيء من أحكام المسجد فلا يجوز إقامة هذه القربة فيه ونحن نقول: بل هذه قربة خصت بالمسجد لكن مسجد بيتها له حكم المسجد في حقها في حق الاعتكاف؛ لأن له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة لحاجتها إلى إحراز فضيلة الجماعة فأعطي له حكم مسجد الجماعة في حقها حتى كانت صلاتها في بيتها أفضل على ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صلاة المرأة في مسجد بيتها أفضل من صلاتها في مسجد دارها وصلاتها في صحن دارها أفضل من صلاتها في مسجد حيها" وإذا كان له حكم المسجد في حقها في حق الصلاة فكذلك في حق الاعتكاف؛ لأن كل واحد منهما في اختصاصه بالمسجد سواء وليس لها أن تعتكف في بيتها في غير مسجد وهو الموضع المعد للصلاة؛ لأنه ليس لغير ذلك الموضع من بيتها حكم المسجد, فلا يجوز اعتكافها فيه. والله أعلم.

"فصل": وأما ركن الاعتكاف ومحظوراته وما يفسده وما لا يفسده فركن الاعتكاف: هو اللبث والإقامة يقال: اعتكف وعكف أي: أقام وقال الله تعالى {قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ} أي: لن نزال عليه مقيمين ويقال: فلان معتكف على

 

ج / 2 ص -114-       حرام أي: مقيم عليه فسمي من أقام على العبادة في المسجد: معتكفا وعاكفا. وإذا عرف فنقول: لا يخرج المعتكف من معتكفه في الاعتكاف الواجب ليلا ولا ونهارا إلا لما لا بد له منه من الغائط والبول وحضور الجمعة؛ لأن الاعتكاف لما كان لبثا وإقامة؛ فالخروج يضاده ولا بقاء للشيء مع ما يضاده فكان إبطالا له وإبطال العبادة حرام؛ لقوله تعالى {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ} إلا أنا جوزنا له الخروج لحاجة الإنسان إذ لا بد منها وتعذر قضاؤها في المسجد فدعت الضرورة إلى الخروج ولأن في الخروج لهذه الحاجة تحقيق هذه القربة؛ لأنه لا يتمكن المرء من أداء هذه القربة إلا بالبقاء, ولا بقاء بدون القوت عادة ولا بد لذلك من الاستفراغ على ما عليه مجرى العادة فكان الخروج لها من ضرورات الاعتكاف ووسائله وما كان من وسائل الشيء؛ كان حكمه حكم ذلك الشيء فكان المعتكف في حال خروجه عن المسجد لهذه الحاجة كأنه في المسجد وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم "كان لا يخرج من معتكفه ليلا ولا نهارا إلا لحاجة الإنسان" وكذا في الخروج في الجمعة ضرورة؛ لأنها فرض عين ولا يمكن إقامتها في كل مسجد فيحتاج إلى الخروج إليها كما يحتاج إلى الخروج لحاجة الإنسان؛ فلم يكن الخروج إليها مبطلا لاعتكافه وهذا عندنا. وقال الشافعي: إذا خرج إلى الجمعة؛ بطل اعتكافه وجه قوله أن الخروج في الأصل مضاد للاعتكاف ومناف له لما ذكرنا أنه قرار وإقامة والخروج انتقال وزوال؛ فكان مبطلا له إلا فيما لا يمكن التحرز عنه كحاجة الإنسان وكان يمكنه التحرز عن الخروج إلى الجمعة بأن يعتكف في المسجد الجامع, ولنا أن إقامة الجمعة فرض؛ لقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} والأمر بالسعي إلى الجمعة أمر بالخروج من المعتكف. ولو كان الخروج إلى الجمعة مبطلا للاعتكاف؛ لما أمر به؛ لأنه يكون أمرا بإبطال الاعتكاف وإنه حرام؛ ولأن الجمعة لما كانت فرضا حقا لله تعالى عليه والاعتكاف قربة ليست هي عليه فمتى أوجبه على نفسه بالنذر؛ لم يصح نذره في إبطال ما هو حق لله تعالى عليه؛ بل كان نذره عدما في إبطال هذا الحق ولأن الاعتكاف دون الجمعة فلا يؤذن بترك الجمعة لأجله وقد خرج الجواب عن قوله: إن الاعتكاف لبث والخروج يبطله لما ذكرنا أن الخروج إلى الجمعة لا يبطله لما بينا. وأما وقت الخروج إلى الجمعة ومقدار ما يكون في المسجد الجامع فذكر الكرخي وقال: ينبغي أن يخرج إلى الجمعة عند الأذان فيكون في المسجد مقدار ما يصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا أو ستا وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: مقدار ما يصلي قبلها أربعا وبعدها أربعا. وهو على الاختلاف في سنة الجمعة بعدها أنها أربع في قول أبي حنيفة وعندهما: ستة على ما ذكرنا في كتاب الصلاة وقال محمد: إذا كان منزله بعيدا يخرج حين يرى أنه يبلغ المسجد عند النداء وهذا أمر يختلف بقرب المسجد وبعده فيخرج في أي وقت يرى أنه يدرك الصلاة والخطبة ويصلي قبل الخطبة أربع ركعات؛ لأن إباحة الخروج إلى الجمعة إباحة لها بتوابعها, وسننها من توابعها بمنزلة الأذكار المسنونة فيها ولا ينبغي أن يقيم في المسجد الجامع بعد صلاة الجمعة إلا مقدار ما يصلي بعدها أربعا أو ستا على الاختلاف ولو أقام يوما وليلة لا ينتقض اعتكافه, لكن يكره له ذلك أما عدم الانتقاض فلأن الجامع لما صلح لابتداء الاعتكاف؛ فلأن يصلح للبقاء أولى؛ لأن البقاء أسهل من الابتداء وأما الكراهة؛ فلأنه لما ابتدأ الاعتكاف في مسجد؛ فكأنه عينه للاعتكاف فيه, فيكره له التحول عنه مع إمكان الإتمام فيه ولا يخرج لعيادة مريض ولا لصلاة جنازة؛ لأنه لا ضرورة إلى الخروج؛ لأن عيادة المريض ليست من الفرائض, بل من الفضائل وصلاة الجنازة ليست بفرض عين بل فرض كفاية تسقط عنه بقيام الباقين بها؛ فلا يجوز إبطال الاعتكاف لأجلها وما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من الرخصة في عيادة المريض وصلاة الجنازة؛ فقد قال أبو يوسف: ذلك محمول عندنا على الاعتكاف الذي يتطوع به من غير إيجاب فله أن يخرج متى شاء ويجوز أن تحمل الرخصة على ما إذا كان خرج المعتكف لوجه مباح كحاجة الإنسان أو للجمعة, ثم عاد مريضا أو صلى على جنازة من غير أن كان خروجه لذلك قصدا وذلك جائز. أما المرأة إذا اعتكفت في مسجد بيتها لا تخرج منه إلى منزلها إلا لحاجة الإنسان؛ لأن ذلك في حكم المسجد لها على ما بينا. فإن خرج من المسجد الذي يعتكف فيه لعذر بأن انهدم المسجد أو أخرجه السلطان مكرها أو غير السلطان

 

ج / 2 ص -115-       فدخل مسجدا آخر غيره من ساعته؛ لم يفسد اعتكافه استحسانا والقياس أن يفسد وجه القياس أنه وجد ضد الاعتكاف وهو الخروج الذي هو ترك الإقامة فيبطل كما لو خرج عن اختيار. وجه الاستحسان أنه خرج من غير ضرورة أما عند انهدام المسجد فظاهر؛ لأنه لا يمكنه الاعتكاف فيه بعد ما انهدم؛ فكان الخروج منه أمرا لا بد منه بمنزلة الخروج لحاجة الإنسان وأما عند الإكراه؛ فلأن الإكراه من أسباب العذر في الجملة, فكان هذا القدر من الخروج ملحقا بالعدم كما إذا خرج لحاجة الإنسان وهو يمشي مشيا رفيقا. فإن خرج من المسجد لغير عذر؛ فسد اعتكافه في قول أبي حنيفة وإن كان ساعة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يفسد حتى يخرج أكثر من نصف يوم قال محمد: قول أبي حنيفة أقيس وقول أبي يوسف أوسع. وجه قولهما أن الخروج القليل عفو وإن كان بغير عذر بدليل أنه لو خرج لحاجة الإنسان وهو يمشي متأنيا؛ لم يفسد اعتكافه وما دون نصف اليوم؛ فهو قليل فكان عفوا, ولأبي حنيفة أنه ترك الاعتكاف باشتغاله بضده من غير ضرورة فيبطل اعتكافه لفوات الركن, وبطلان الشيء بفوات ركنه يستوي فيه الكثير والقليل كالأكل في باب الصوم وفي الخروج لحاجة الإنسان ضرورة. وأحوال الناس في المشي مختلفة لا يمكن ضبطها فسقط اعتبار صفة المشي وههنا لا ضرورة في الخروج وعلى هذا الخلاف إذا خرج لحاجة الإنسان ومكث بعد فراغه أنه ينتقض اعتكافه عند أبي حنيفة قل مكثه أو كثر, وعندهما لا ينتقض ما لم يكن أكثر من نصف يوم. ولو صعد المئذنة لم يفسد اعتكافه بلا خلاف وإن كان باب المئذنة خارج المسجد؛ لأن المئذنة من المسجد. ألا ترى أنه يمنع فيه كل ما يمنع في المسجد من البول ونحوه ولا يجوز بيعها فأشبه زاوية من زوايا المسجد وكذا إذا كانت داره بجنب المسجد فأخرج رأسه إلى داره لا يفسد اعتكافه؛ لأن ذلك ليس بخروج. ألا ترى أنه لو حلف لا يخرج من الدار ففعل ذلك؛ لا يحنث في يمينه وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج رأسه من المسجد فيغسل رأسه" وإن غسل رأسه في المسجد في إناء لا بأس به إذا لم يلوث المسجد بالماء المستعمل, فإن كان بحيث يتلوث المسجد يمنع منه؛ لأن تنظيف المسجد واجب لو توضأ في المسجد في إناء؛ فهو على هذا التفصيل. وأما اعتكاف التطوع فهل يفسد بالخروج لغير عذر كالخروج لعيادة المريض وتشييع الجنازة فيه روايتان: في رواية الأصل لا يفسد, وفي رواية الحسن بن زياد عن أبي حنيفة يفسد, بناء على أن اعتكاف التطوع غير مقدر على رواية الأصل فله أن يعتكف ساعة من نهار أو نصف يوم أو ما شاء من قليل أو كثير, أو يخرج فيكون معتكفا ما أقام تاركا ما خرج وعلى رواية الحسن هو مقدر بيوم كالصوم ولهذا قال: إنه لا يصح بدون الصوم كما لا يصح الاعتكاف الواجب بدون الصوم. وجه رواية الحسن أن الشروع في التطوع موجب للإتمام على أصل أصحابنا صيانة للمؤدى عن البطلان كما في صوم التطوع وصلاة التطوع, ومست الحاجة إلى صيانة المؤدى ههنا؛ لأن القدر المؤدى انعقد قربة فيحتاج إلى صيانة, وذلك بالمضي فيه إلى آخر اليوم. وجه رواية الأصل أن الاعتكاف لبث وإقامة فلا يتقدر بيوم كامل كالوقوف بعرفة وهذا لأن الأصل في كل فعل تام بنفسه في زمان: اعتباره في نفسه من غير أن يقف اعتباره على وجود غيره. وكل لبث وإقامة توجد فهو فعل تام في نفسه, فكان اعتكافا في نفسه فلا تقف صحته واعتباره على وجود أمثاله إلى آخر اليوم هذا هو الحقيقة إلا إذا جاء دليل التغيير فتجعل الأفعال المتعددة المتغايرة حقيقة متحدة حكما؛ كما في الصوم ومن ادعى التغيير ههنا يحتاج إلى الدليل وقوله: الشروع فيه موجب مسلم, لكن بقدر ما اتصل به الأداء ولما خرج فما أوجب إلا ذلك القدر؛ فلا يلزمه أكثر من ذلك. ولو جامع في حال الاعتكاف فسد اعتكافه؛ لأن الجماع من محظورات الاعتكاف لقوله تعالى {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} قيل: المباشرة كناية عن الجماع كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أن ما ذكر الله عز وجل في القرآن من المباشرة والرفث والغشيان فإنما عنى به الجماع لكن الله تعالى حيي كريم يكني بما شاء؛ دلت الآية على أن الجماع محظور في الاعتكاف؛ فإن حظر الجماع على المعتكف ليس لمكان المسجد بل لمكان الاعتكاف وإن كان ظاهر النهي عن المباشرة في حال الاعتكاف في المسجد بقوله عز وجل {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ}؛ لأن الآية الكريمة

 

ج / 2 ص -116-       نزلت في قوم كانوا يعتكفون في المساجد وكانوا يخرجون يقضون حاجتهم في الجماع ثم يغتسلون ثم يرجعون إلى معتكفهم لا أنهم كانوا يجامعون في المساجد لينهوا عن ذلك, بل المساجد في قلوبهم كانت أجل وأعظم من أن يجعلوها مكانا لوطء نسائهم فثبت أن النهي عن المباشرة في حال الاعتكاف لأجل الاعتكاف؛ فكان الجماع من محظورات الاعتكاف فيوجب فساده سواء جامع ليلا أو نهارا؛ لأن النص مطلق فكان الجماع من محظورات الاعتكاف ليلا ونهارا, وسواء كان عامدا أو ناسيا بخلاف الصوم فإن جماع الناسي لا يفسد الصوم والنسيان لم يجعل عذر في باب الاعتكاف وجعل عذرا في باب الصوم. والفرق من وجهين: أحدهما أن الأصل أن لا يكون عذرا؛ لأن فعل الناسي مقدور الامتناع عنه في الجملة إذ الوقوع فيه لا يكون إلا لنوع تقصير ولهذا كان النسيان جابر المؤاخذة عليه عندنا وإنما رفعت المؤاخذة ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم بقوله {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ولهذا لم يجعل عذرا في باب الصلاة إلا أنه جعل عذرا في باب الصوم بالنص فيقتصر عليه. والثاني: أن المحرم في الاعتكاف عين الجماع فيستوي فيه العمد والسهو. والمحرم في باب الصوم هو الإفطار لا عين الجماع, أو حرم الجماع لكونه إفطارا لا لكونه جماعا؛ فكانت حرمته لغيره وهو الإفطار, والإفطار يختلف حكمه بالعمد والنسيان ولو أكل أو شرب في النهار عامدا؛ فسد صومه وفسد اعتكافه لفساد الصوم, ولو أكل ناسيا لا يفسد اعتكافه؛ لأنه لا يفسد صومه. والأصل أن ما كان من محظورات الاعتكاف وهو مانع عنه لأجل الاعتكاف لا لأجل الصوم يختلف فيه العمد والسهو والنهار والليل كالجماع والخروج من المسجد وما كان من محظورات الصوم, وهو ما منع عنه لأجل الصوم يختلف فيه العمد والسهو والنهار والليل كالجماع والخروج من المسجد وكالأكل والشرب. والفقه ما بينا. ولو باشر فأنزل فسد اعتكافه؛ لأن المباشرة منصوص عليها في الآية وقد قيل في بعض وجوه التأويل: إن المباشرة الجماع وما دونه ولأن المباشرة مع الإنزال في معنى الجماع فيلحق به وكذا لو جامع فيما دون الفرج فأنزل؛ لما قلنا. فإن لم ينزل لا يفسد اعتكافه؛ لأنه بدون الإنزال لا يكون في معنى الجماع لكنه يكون حراما وكذا التقبيل والمعانقة واللمس أنه إن أنزل في شيء من ذلك؛ فسد اعتكافه وإلا فلا يفسد لكنه يكون حراما بخلاف الصوم فإن في باب الصوم لا تحرم الدواعي إذا كان يأمن على نفسه. والفرق على نحو ما ذكرنا أن عين الجماع في باب الاعتكاف محرم, وتحريم الشيء يكون تحريما لدواعيه؛ لأنها تفضي إليه فلو لم تحرم؛ لأدى إلى التناقض, وأما في باب الصوم فعين الجماع ليس محرما, إنما المحرم هو الإفطار أو حرم الجماع لكونه إفطارا, وهذا لا يتعدى إلى الدواعي فهو الفرق. ولو نظر فأنزل؛ لم يفسد اعتكافه لانعدام الجماع صورة ومعنى؛ فأشبه الاحتلام. والله الموفق. ولا يأتي الزوج امرأته وهي معتكفة إذا كانت اعتكفت بإذن زوجها؛ لأن اعتكافها إذا كان بإذن زوجها؛ فإنه لا يملك الرجوع عنه لما بينا فيما تقدم فلا يجوز وطؤها لما فيه من إفساد عبادتها. ويفسد الاعتكاف بالردة؛ لأن الاعتكاف قربة والكافر ليس من أهل القربة, ولهذا لم ينعقد مع الكفر فلا يبقى مع الكفر أيضا ونفس الإغماء لا يفسده بلا خلاف حتى لا ينقطع التتابع ولا يلزمه أن يستقبل الاعتكاف إذا أفاق, وإن أغمي عليه أياما أو أصابه لمم؛ فسد اعتكافه وعليه إذا برأ أن يستقبل؛ لأنه لزمه متتابعا وقد فاتت صفة التتابع فيلزمه الاستقبال كما في صوم كفارة الظهار فإن تطاول الجنون وبقي سنين ثم أفاق: هل يجب عليه أن يقضي أو يسقط عنه؟ ففيه روايتان: قياس, واستحسان نذكرهما في موضعهما إن شاء الله تعالى ولو سكر ليلا؛ لا يفسد اعتكافه عندنا, وعند الشافعي يفسد. وجه قوله أن السكران كالمجنون والجنون يفسد الاعتكاف فكذا السكر. "ولنا" أن السكر ليس إلا معنى له أثر في العقل مدة يسيرة فلا يفسد الاعتكاف ولا يقطع التتابع كالإغماء. ولو حاضت المرأة في حال الاعتكاف فسد اعتكافها؛ لأن الحيض ينافي أهلية الاعتكاف لمنافاتها الصوم ولهذا منعت من انعقاد الاعتكاف فتمنع من البقاء ولو احتلم المعتكف؛ لا يفسد اعتكافه؛ لأنه لا صنع له فيه فلم يكن جماعا ولا في معنى الجماع, ثم إن أمكنه الاغتسال في المسجد من غير أن يتلوث المسجد فلا بأس به وإلا فيخرج فيغتسل ويعود إلى المسجد. ولا بأس للمعتكف أن يبيع ويشتري ويتزوج ويراجع ويلبس ويتطيب ويدهن ويأكل ويشرب بعد غروب الشمس إلى طلوع الفجر ويتحدث ما بدا له بعد

 

ج / 2 ص -117-       أن لا يكون صائما وينام في المسجد. والمراد من البيع والشراء هو كلام الإيجاب والقبول من غير نقل الأمتعة إلى المسجد؛ لأن ذلك ممنوع عنه لأجل المسجد لما فيه من اتخاذ المسجد متجرا لا لأجل الاعتكاف وحكي عن مالك أنه لا يجوز البيع في المسجد كأنه يشير إلى ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وبيعكم وشراءكم ورفع أصواتكم وسل سيوفكم". "ولنا" عمومات البيع والشراء من الكتاب الكريم والسنة من غير فصل بين المسجد وغيره وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال لابن أخيه جعفر: هلا اشتريت خادما؟ قال: كنت معتكفا قال: وماذا عليك لو اشتريت. أشار إلى جواز الشراء في المسجد وأما الحديث فمحمول على اتخاذ المساجد متاجر كالسوق يباع فيها وتنقل الأمتعة إليها أو يحمل على الندب والاستحباب توفيقا بين الدلائل بقدر الإمكان وأما النكاح والرجعة فلأن نصوص النكاح والرجعة لا تفصل بين المسجد وغيره من نحو قوله تعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} ونحو ذلك, وقوله تعالى {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ونحو ذلك. وكذا الأكل والشرب واللبس والطيب والنوم؛ لقوله تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} وقوله تعالى {يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ} وقوله تعالى {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} وقوله عز وجل {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً} وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك في حال اعتكافه في المسجد مع أن الأكل والشرب والنوم في المسجد في حال الاعتكاف لو منع منه؛ لمنع من الاعتكاف إذ ذلك أمر لا بد منه. وأما التكلم بما لا مأثم فيه فلقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً} قيل في بعض وجوه التأويل: أي صدقا وصوابا لا كذبا ولا فحشا. وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتحدث مع أصحابه ونسائه رضي الله عنهم وهو معتكف في المسجد. فأما التكلم بما فيه مأثم فإنه لا يجوز في غير المسجد ففي المسجد أولى. وله أن يحرم في اعتكافه بحج أو عمرة وإذا فعل لزمه الإحرام وأقام في اعتكافه إلى أن يفرغ منه ثم يمضي في إحرامه إلا أن يخاف فوت الحج فيدع الاعتكاف ويحج ثم يستقبل الاعتكاف. أما صحة الإحرام في حال الاعتكاف؛ فلأنه لا تنافي بينهما. ألا ترى أن الاعتكاف ينعقد مع الإحرام فيبقى معه أيضا, وإذا صح إحرامه فإنه يتم الاعتكاف ثم يشتغل بأفعال الحج؛ لأنه يمكنه الجمع بينهما. وأما إذا خاف فوت الحج فإنه يدع الاعتكاف؛ لأن الحج يفوت والاعتكاف لا يفوت فكان الاشتغال بالذي يفوت أولى ولأن الحج آكد وأهم من الاعتكاف فالاشتغال به أولى وإذا ترك الاعتكاف يقضيه بعد الفراغ من الحج. والله أعلم.

"فصل": وأما بيان حكمه إذا فسد فالذي فسد لا يخلو: إما أن يكون واجبا وأعني به المنذور, وإما أن يكون تطوعا فإن كان واجبا يقضي إذا قدر على القضاء إلا الردة خاصة؛ لأنه إذا فسد التحق بالعدم فصار فائتا معنى فيحتاج إلى القضاء جبرا للفوات ويقضي بالصوم؛ لأنه فاته مع الصوم فيقضيه مع الصوم غير أن المنذور به إن كان اعتكاف شهر بعينه يقضي قدر ما فسد لا غير ولا يلزمه الاستقبال كالصوم المنذور به في شهر بعينه إذا أفطر يوما أنه يقضي ذلك اليوم ولا يلزمه الاستئناف كما في صوم رمضان؛ لما ذكرنا في كتاب الصوم. وإذا كان اعتكاف شهر بغير عينه؛ يلزمه الاستقبال؛ لأنه يلزمه متتابعا فيراعي فيه صفة التتابع وسواء فسد بصنعه من غير عذر كالخروج والجماع والأكل والشرب في النهار إلا الردة, أو فسد بصنعه لعذر كما إذا مرض فاحتاج إلى الخروج فخرج أو بغير صنعه رأسا كالحيض والجنون والإغماء الطويل؛ لأن القضاء يجب جبرا للفائت والحاجة إلى الجبر متحققة في الأحوال كلها إلا أن سقوط القضاء في الردة عرف بالنص وهو قوله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الإسلام يجب ما قبله" والقياس في الجنون الطويل أن يسقط القضاء كما في صوم رمضان إلا أن في الاستحسان يقضي؛ لأن سقوط القضاء في صوم رمضان إنما كان لدفع الحرج؛ لأن الجنون إذا طال قلما يزول فيتكرر عليه صوم رمضان فيحرج في قضائه وهذا المعنى لا يتحقق في الاعتكاف. وأما اعتكاف التطوع إذا قطعه قبل تمام اليوم فلا شيء عليه في رواية الأصل وفي رواية الحسن يقضي بناء على أن اعتكاف التطوع غير معتد في رواية محمد عن أبي حنيفة وفي رواية الحسن عنه مقدر بيوم وقد ذكرنا الوجه للروايتين فيما تقدم. وأما حكمه إذا

 

ج / 2 ص -118-       فات عن وقته المعين له بأن نذر اعتكاف شهر بعينه أنه إذا فات بعضه قضاه لا غير ولا يلزمه الاستقبال كما في الصوم وإن فاته كله قضى الكل متتابعا؛ لأنه لما لم يعتكف حتى مضى الوقت صار الاعتكاف دينا في ذمته فصار كأنه أنشأ النذر باعتكاف شهر بعينه فإن قدر على قضائه فلم يقضه حتى أيس من حياته؛ يجب عليه أن يوصي بالفدية لكل يوم طعام مسكين لأجل الصوم لا لأجل الاعتكاف كما في قضاء رمضان والصوم المنذور في وقت بعينه. وإن قدر على البعض دون البعض فلم يعتكف فكذلك إن كان صحيحا وقت النذر فإن كان مريضا وقت النذر فذهب الوقت وهو مريض حتى مات؛ فلا شيء عليه وإن صح يوما؛ فهو على الاختلاف الذي ذكرناه في الصوم المنذور في وقت بعينه وإذا نذر اعتكاف شهر بغير عينه؛ فجميع العمر وقته كما في النذر بالصوم في وقت بغير عينه وفي أي وقت أدى؛ كان مؤديا لا قاضيا؛ لأن الإيجاب حصل مطلقا عن الوقت وإنما يقتضى عليه الوجوب إذا أيس من حياته وعند ذلك يجب عليه أن يوصي بالفدية كما في قضاء رمضان والصوم المنذور المطلق. فإن لم يوص حتى مات؛ سقط عنه في أحكام الدنيا عندنا حتى لا تؤخذ من تركته ولا يجب على الورثة الفدية إلا أن يتبرعوا به. وعند الشافعي لا تسقط وتؤخذ من تركته وتعتبر من جميع المال والمسألة مضت في كتاب الزكاة والله الموفق.