بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الحج"
الكتاب يشتمل على فصلين: فصل في الحج, وفصل في العمرة أما فصل الحج: فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان فرضية الحج وفي بيان كيفية فرضه, وفي بيان شرائط الفرضية وفي بيان أركان الحج, وفي بيان واجباته, وفي بيان سننه, وفي بيان الترتيب في أفعاله من الفرائض, والواجبات, والسنن, وفي بيان شرائط أركانه, وفي بيان ما يفسده وبيان حكمه إذا فسد, وفي بيان ما يفوت الحج بعد الشروع فيه وفي بيان حكمه إذا فات عن عمره أصلا, ورأسا أما الأول: فالحج فريضة ثبتت فرضيته بالكتاب, والسنة, وإجماع الأمة والمعقول. أما الكتاب: فقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}, في الآية دليل وجوب الحج من وجهين: أحدهما أنه قال {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}, وعلى: كلمة إيجاب والثاني أنه قال تعالى: {وَمَنْ كَفَرَ} قيل في التأويل: ومن كفر بوجوب الحج حتى روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أي ومن كفر بالحج فلم ير حجه برا, ولا تركه مأثما وقوله تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي: ادع الناس ونادهم إلى حج البيت, وقيل: أي أعلم الناس أن الله فرض عليهم الحج, دليله قوله تعالى: {يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلا". وقوله صلى الله عليه وسلم: "اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم, وصوموا شهركم, وحجوا بيت ربكم, وأدوا زكاة أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم". وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من مات ولم يحج حجة الإسلام من غير أن يمنعه سلطان جائر, أو مرض حابس, أو عدو ظاهر, فليمت إن شاء يهوديا, وإن شاء نصرانيا, أو مجوسيا". وروي أنه قال: "من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج, فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا". وأما الإجماع: فلأن الأمة أجمعت على فرضيته. وأما المعقول: فهو أن العبادات وجبت لحق العبودية, أو لحق شكر النعمة إذ كل ذلك لازم في المعقول وفي الحج إظهار العبودية, وشكر النعمة, أما إظهار العبودية؛ فلأن إظهار العبودية هو إظهار التذلل للمعبود, وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في حال إحرامه يظهر الشعث, ويرفض أسباب التزين, والارتفاق, ويتصور بصورة عبد سخط عليه مولاه, فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه, ومرحمته إياه, وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه فوقف بين يديه متضرعا حامدا له مثنيا عليه مستغفرا لزلاته مستقيلا لعثراته, وبالطواف حول البيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه بمنزلة عبد معتكف على باب مولاه لائذ بجنابه. وأما شكر النعمة؛ فلأن العبادات بعضها بدنية, وبعضها مالية, والحج عبادة لا تقوم إلا بالبدن, والمال؛ ولهذا لا يجب إلا عند وجود المال وصحة البدن, فكان فيه شكر النعمتين, وشكر النعمة ليس إلا استعمالها

 

ج / 2 ص -119-       في طاعة المنعم, وشكر النعمة واجب عقلا, وشرعا, والله أعلم.
"فصل": وأما كيفية فرضه فمنها: أنه فرض عين لا فرض كفاية فيجب على كل من استجمع شرائط الوجوب عينا لا يسقط بإقامة البعض عن الباقين بخلاف الجهاد فإنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين؛ لأن الإيجاب تناول كل واحد من آحاد الناس عينا, والأصل أن الإنسان لا يخرج عن عهدة ما عليه إلا بأدائه بنفسه إلا إذا حصل المقصود منه بأداء غيره, كالجهاد, ونحوه, وذلك لا يتحقق في الحج. ومنها: أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة بخلاف الصلاة, والصوم, والزكاة, فإن الصلاة تجب في كل يوم, وليلة خمس مرات, والزكاة, والصوم يجبان في كل سنة مرة واحدة؛ لأن الأمر المطلق بالفعل لا يقتضي التكرار لما عرف في "أصول الفقه", والتكرار في باب الصلاة, والزكاة, والصوم ثبت بدليل زائد لا بمطلق الأمر, ولما روي أنه "لما نزلت آية الحج سأل الأقرع بن حابس رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل عام أو مرة واحدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
مرة واحدة, وفي رواية قال: لما نزلت آية الحج ألعامنا هذا يا رسول الله أم للأبد؟ فقال: للأبد" ولأنه عبادة لا تتأدى إلا بكلفة عظيمة, ومشقة شديدة بخلاف سائر العبادات فلو, وجب في كل عام؛ لأدى إلى الحرج, وأنه منفي شرعا, ولأنه إذا لم يمكن أداؤه إلا بحرج لا يؤدى فيلحق المأثم, والعقاب إلى هذا أشار النبي صلى الله عليه وسلم "لما سأله الأقرع بن حابس, وقال: ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال عليه الصلاة والسلام: للأبد, ولو قلت في كل عام لوجب, ولو وجب ثم تركتم لضللتم" واختلف في وجوبه على الفور, والتراخي, ذكر الكرخي: أنه على الفور حتى يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان, وهي السنة الأولى عند استجماع شرائط الوجوب, وذكر أبو سهل الزجاجي الخلاف في المسألة بين أبي يوسف, ومحمد فقال في قول أبي يوسف: يجب على الفور, وفي قول محمد: على التراخي, وهو قول الشافعي. وروي عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف. وروي عنه مثل قول محمد, وجه قول محمد: أن الله تعالى فرض الحج في وقت مطلقا؛ لأن قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} مطلق عن الوقت ثم بين, وقت الحج بقوله "عز وجل": {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي: وقت الحج أشهر معلومات فصار المفروض هو الحج في أشهر الحج مطلقا من العمر فتقييده بالفور تقييد المطلق, ولا يجوز إلا بدليل. وروي أن فتح مكة كان لسنة ثمان من الهجرة, وحج رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة العشر, ولو كان وجوبه على الفور لما احتمل التأخير منه, والدليل عليه: أنه لو أدى في السنة الثانية أو الثالثة يكون مؤديا لا قاضيا, ولو كان, واجبا على الفور. وقد فات الفور فقد فات وقته فينبغي أن يكون قاضيا لا مؤديا كما لو فاتت صلاة الظهر عن وقتها, وصوم رمضان عن وقته. ولهما أن الأمر بالحج في وقته مطلق يحتمل الفور, ويحتمل التراخي, والحمل على الفور أحوط؛ لأنه إذا حمل عليه يأتي بالفعل على الفور ظاهرا وغالبا خوفا من الإثم بالتأخير, فإن أريد به الفور فقد أتى بما أمر به فأمن الضرر, وإن أريد به التراخي لا يضره الفعل على الفور بل ينفعه؛ لمسارعته إلى الخير, ولو حمل على التراخي ربما لا يأتي به على الفور, بل يؤخر إلى السنة الثانية, والثالثة فتلحقه المضرة إن أريد به الفور, وإن كان لا يلحقه إن أريد به التراخي, فكان الحمل على الفور حملا على أحوط الوجهين فكان أولى, وهذا قول إمام الهدى الشيخ أبي منصور الماتريدي في كل أمر مطلق عن الوقت أنه يحمل على الفور لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين أن المراد منه الفور أو التراخي بل يعتقد أن ما أراد الله تعالى به من الفور, والتراخي فهو حق, وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من ملك زادا, وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فلا عليه أن يموت يهوديا أو نصرانيا" ألحق الوعيد بمن أخر الحج عن أول أوقات الإمكان؛ لأنه قال: من ملك كذا فلم يحج, والفاء للتعقيب بلا فصل أي لم يحج عقيب ملك الزاد, والراحلة بلا فصل, وأما طريق عامة المشايخ فإن للحج وقتا معينا من السنة يفوت عن تلك السنة بفوات ذلك الوقت, فلو أخره عن السنة الأولى. وقد يعيش إلى السنة الثانية. وقد لا يعيش فكان التأخير عن السنة الأولى تفويتا له للحال؛ لأنه لا يمكنه الأداء للحال إلى أن يجيء, وقت الحج من السنة الثانية, وفي إدراكه السنة الثانية شك, فلا يرتفع الفوات الثابت للحال بالشك, والتفويت

 

ج / 2 ص -120-       حرام. وأما قوله: إن الوجوب في الوقت ثبت مطلقا عن الفور فمسلم لكن المطلق يحتمل الفور, ويحتمل التراخي, والحمل على الفور أولى لما بينا, ويجوز تقييد المطلق عند قيام الدليل, وأما تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عن أول أوقات الإمكان فقد قيل إنه كان لعذر له, ولا كلام في حال العذر يدل على أنه لا خلاف في أن التعجيل أفضل, والرسول صلى الله عليه وسلم: لا يترك الأفضل إلا لعذر على أن المانع من التأخير هو احتمال الفوات, ولم يكن في تأخيره ذلك فوات لعلمه من طريق الوحي أنه يحج قبل موته قال الله تعالى: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}. والثنيا للتيمن, والتبرك أو لما أن الله تعالى خاطب الجماعة. وقد علم أن بعضهم يموت قبل الدخول, وأما قوله لو أدى في السنة الثانية كان مؤديا لا قاضيا فإنما كان كذلك؛ لأن أثر الوجوب على الفور عملا في احتمال الإثم بالتأخير عن أول الوقت في الإمكان لا في إخراج السنة الثانية, والثالثة من أن يكون, وقتا للواجب كما في باب الصلاة, وهذا؛ لأن وجوب التعجيل إنما كان تحرزا عن الفوات فإذا عاش إلى السنة الثانية, والثالثة فقد زال احتمال الفوات فحصل الأداء في وقته كما في باب الصلاة, والله أعلم.

"فصل": وأما شرائط فرضيته فنوعان: نوع يعم الرجال, والنساء ونوع يخص النساء أما الذي يعم الرجال, والنساء فمنها: البلوغ, ومنها العقل فلا حج على الصبي, والمجنون؛ لأنه لا خطاب عليهما فلا يلزمهما الحج حتى لو حجا, ثم بلغ الصبي, وأفاق المجنون فعليهما حجة الإسلام, وما فعله الصبي قبل البلوغ يكون تطوعا. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام". ومنها الإسلام في حق أحكام الدنيا بالإجماع حتى لو حج الكافر ثم أسلم يجب عليه حجة الإسلام, ولا يعتد بما حج في حال الكفر. وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما أعرابي حج, ولو عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا هاجر" يعني أنه إذا حج قبل الإسلام ثم أسلم, ولأن الحج عبادة, والكافر ليس من أهل العبادة. وكذا لا حج على الكافر في حق أحكام الآخرة عندنا حتى لا يؤاخذ بالترك وعند الشافعي ليس بشرط ويجب على الكافر حتى يؤاخذ بتركه في الآخرة وأصل المسألة أن الكفار لا يخاطبون بشرائع هي: عبادات عندنا, وعنده يخاطبون بذلك, وهذا يعرف في أصول الفقه, ولا حجة له في قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}؛ لأن المراد منه المؤمنون بدليل سياق الآية, وهو قوله: {وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ}, وبدليل عقلي يشمل الحج, وغيره من العبادات, وهو أن الحج عبادة, والكافر ليس من أهل أداء العبادة, ولا سبيل إلى الإيجاب لقدرته على الأداء بتقديم الإسلام لما فيه من جعل المتبوع تبعا, والتبع متبوعا, وأنه قلب الحقيقة على ما بينا في "كتاب الزكاة" وتخصيص العام بدليل عقلي جائز. ومنها الحرية فلا حج على المملوك لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما عبد حج عشر حجج فعليه حجة الإسلام إذا أعتق", ولأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج بقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}, ولا استطاعة بدون ملك الزاد, والراحلة لما نذكر إن شاء الله تعالى, ولا ملك للعبد؛ لأنه مملوك فلا يكون مالكا بالإذن فلم يوجد شرط الوجوب, وسواء أذن له المولى بالحج أو لا؛ لأنه لا يصير مالكا إلا بالإذن فلم يجب الحج عليه فيكون ما حج في حال الرق تطوعا, ولأن ما روينا من الحديث لا يفصل بين الإذن, وعدم الإذن, فلا يقع حجه عن حجة الإسلام بحال بخلاف الفقير لأنه لا يجب الحج عليه في الابتداء ثم إذا حج بالسؤال من الناس يجوز ذلك عن حجة الإسلام حتى لو أيسر لا يلزمه حجة أخرى؛ لأن الاستطاعة بملك الزاد, والراحلة, ومنافع البدن شرط الوجوب؛ لأن الحج يقام بالمال, والبدن جميعا, والعبد لا يملك شيئا من ذلك فلم يجب عليه ابتداء, وانتهاء, والفقير يملك منافع نفسه إذ لا ملك لأحد فيها إلا أنه ليس له ملك الزاد, والراحلة وإنه شرط ابتداء الوجوب, فامتنع الوجوب في الابتداء فإذا بلغ مكة, وهو يملك منافع بدنه فقد قدر على الحج بالمشي, وقليل زاد فوجب عليه الحج, فإذا أدى وقع عن حجة الإسلام, فأما العبد فمنافع بدنه ملك مولاه ابتداء, وانتهاء ما دام عبدا فلا يكون قادرا على الحج ابتداء, وانتهاء فلم يجب عليه, ولهذا قلنا: إن الفقير إذا حضر القتال يضرب له بسهم كامل كسائر من فرض عليه القتال, وإن كان لا يجب

 

ج / 2 ص -121-       عليه الجهاد ابتداء, والعبد إذا شهد الوقعة لا يضرب له بسهم الحر بل يرضخ له, وما افترقا إلا لما ذكرنا, وهذا بخلاف العبد إذا شهد الجمعة, وصلى أنه يقع فرضا, وإن كان لا تجب عليه الجمعة في الابتداء؛ لأن منافع العبد مملوكة للمولى, والعبد محجور عن التصرف في ملك مولاه نظرا للمولى إلا قدر ما استثني عن ملكه من الصلوات الخمس, فإنه مبقى فيها على أصل الحرية لحكمة الله تعالى في ذلك, وليس في ذلك كبير ضرر بالمولى؛ لأنها تتأدى بمنافع البدن في ساعات قليلة, فيكون فيه نفع العبد من غير ضرر بالمولى, فإذا حضر الجمعة, وفاتت المنافع بسبب السعي فيعد ذلك الظهر, والجمعة سواء, فنظر المالك في جواز الجمعة إذ لو لم يجز له ذلك يجب عليه أداء الظهر ثانيا فيزيد الضرر في حق المولى بخلاف الحج, والجهاد فإنهما لا يؤديان إلا بالمال, والنفس في مدة طويلة, وفيه ضرر بالمولى بفوات ماله, وتعطيل كثير من منافع العبد فلم يجعل مبقى على أصل الحرية في حق هاتين العبادتين, ولو قلنا بالجواز عن الفرض إذا وجد من العبد يتبادر العبيد إلى الأداء لكون الحج عبادة مرغوبة. وكذا الجهاد فيؤدي إلى الإضرار بالمولى, فالشرع حجر عليهم, وسد هذا الباب نظرا بالمولى حتى لا يجب إلا بملك الزاد, والراحلة, وملك منافع البدن. ولو أحرم الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فإن مضى على إحرامه, يكون حجه تطوعا عندنا, وعند الشافعي: يكون عن حجة الإسلام إذا وقف بعرفة, وهو بالغ, وهذا بناء على أن من عليه حجة الإسلام إذا نوى النفل يقع عن النفل عندنا, وعنده يقع عن الفرض, والمسألة تأتي في موضعها إن شاء الله تعالى, ولو جدد الإحرام بأن لبى أو نوى حجة الإسلام, ووقف بعرفة وطاف طواف الزيارة يكون عن حجة الإسلام بلا خلاف. وكذا المجنون إذا أفاق, والكافر إذا أسلم قبل الوقوف بعرفة فجدد الإحرام, ولو أحرم العبد ثم عتق فأحرم بحجة الإسلام بعد العتق لا يكون ذلك عن حجة الإسلام بخلاف الصبي, والمجنون, والكافر, والفرق أن إحرام الكافر, والمجنون لم ينعقد أصلا لعدم الأهلية, وإحرام الصبي العاقل وقع صحيحا, لكنه غير لازم لكونه غير مخاطب فكان محتملا للانتقاض فإذا جدد الإحرام بحجة الإسلام انتقض فأما إحرام العبد, فإنه وقع لازما لكونه أهلا للخطاب فانعقد إحرامه تطوعا فلا يصح إحرامه الثاني إلا بفسخ الأول, وإنه لا يحتمل الانفساخ. ومنها صحة البدن فلا حج على المريض والزمن, والمقعد, والمفلوج, والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه, والمحبوس, والممنوع من قبل السلطان الجائر عن الخروج إلى الحج؛ لأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج, والمراد منها استطاعة التكليف, وهي سلامة الأسباب, والآلات, ومن جملة الأسباب سلامة البدن عن الآفات المانعة عن القيام بما لا بد منه في سفر الحج؛ لأن الحج عبادة بدنية, فلا بد من سلامة البدن, ولا سلامة مع المانع, وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل: {مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أن السبيل أن يصح بدن العبد, ويكون له ثمن زاد, وراحلة من غير أن يحجب, ولأن القرب, والعبادات, وجبت بحق الشكر لما أنعم الله على المكلف فإذا منع السبب الذي هو النعمة, وهو سلامة البدن أو المال كيف يكلف بالشكر, ولا نعمة. وأما الأعمى فقد ذكر في الأصل عن أبي حنيفة: أنه لا حج عليه بنفسه, وإن وجد زادا, وراحلة, وقائدا, وإنما يجب في ماله إذا كان له مال, وروى الحسن عن أبي حنيفة في الأعمى, والمقعد والزمن أن عليهم الحج بأنفسهم, وقال أبو يوسف, ومحمد: يجب على الأعمى الحج بنفسه إذا وجد زادا, وراحلة, ومن يكفيه مؤنة سفره في خدمته, ولا يجب على الزمن, والمقعد, والمقطوع. وجه قولهما ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الاستطاعة, فقال: هي الزاد, والراحلة" فسر صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد, والراحلة, وللأعمى هذه الاستطاعة فيجب عليه الحج, ولأن الأعمى يجب عليه الحج بنفسه إلا أنه لا يهتدي إلى الطريق بنفسه, ويهتدي بالقائد فيجب عليه بخلاف الزمن, والمقعد, ومقطوع اليد, والرجل؛ لأن هؤلاء لا يقدرون على الأداء بأنفسهم, وجه رواية الحسن في الزمن, والمقعد: أنهما يقدران بغيرهما إن كانا لا يقدران بأنفسهما, والقدرة بالغير كافية لوجوب الحج كالقدرة بالزاد, والراحلة. وكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الاستطاعة: بالزاد, والراحلة, وقد وجدا, وجه رواية الأصل لأبي حنيفة أن الأعمى لا يقدر على أداء الحج بنفسه؛ لأنه لا يهتدي إلى الطريق بنفسه, ولا يقدر على ما لا بد منه في الطريق

 

ج / 2 ص -122-       بنفسه من الركوب, والنزول, وغير ذلك. وكذا الزمن, والمقعد فلم يكونا قادرين على الأداء بأنفسهم بل بقدرة غير مختار, والقادر بقدرة غير مختار لا يكون قادرا على الإطلاق؛ لأن فعل المختار يتعلق باختياره, فلم تثبت الاستطاعة على الإطلاق, ولهذا لم يجب الحج على الشيخ الكبير الذي لا يستمسك على الراحلة, وإن كان ثمة غيره يمسكه لما قلنا كذا هذا, وإنما فسر النبي صلى الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد, والراحلة لكونهما من الأسباب الموصلة إلى الحج لا لاقتصار الاستطاعة عليهما. "ألا ترى": أنه إذا كان بينه, وبين مكة بحر زاخر لا سفينة ثمة, أو عدو حائل يحول بينه, وبين الوصول إلى البيت لا يجب عليه الحج مع وجود الزاد, والراحلة فثبت أن تخصيص الزاد, والراحلة ليس لاقتصار الشرط عليهما بل للتنبيه على أسباب الإمكان, فكل ما كان من أسباب الإمكان يدخل تحت تفسير الاستطاعة معنى, ولأن في إيجاب الحج على الأعمى والزمن, والمقعد, والمفلوج, والمريض, والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة بأنفسهم حرجا بينا, ومشقة شديدة. وقد قال الله "عز وجل": {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ومنها ملك الزاد, والراحلة في حق النائي عن مكة, والكلام فيه في موضعين: أحدهما في بيان أنه من شرائط الوجوب, والثاني في تفسير الزاد, والراحلة أما الأول, فقد قال عامة العلماء: إنه شرط فلا يجب الحج بإباحة الزاد, والراحلة سواء كانت الإباحة ممن له منة على المباح له, أو كانت ممن لا منة له عليه كالأب, وقال الشافعي يجب الحج بإباحة الزاد, والراحلة إذا كانت الإباحة ممن لا منة له على المباح له, كالوالد بذل الزاد, والراحلة لابنه, وله في الأجنبي قولان, ولو, وهبه إنسان مالا يحج به لا يجب على الموهوب له القبول عندنا, وللشافعي فيه قولان, وقال مالك: الراحلة ليست بشرط لوجوب الحج أصلا لا ملكا ولا إباحة, وملك الزاد شرط حتى لو كان صحيح البدن, وهو يقدر على المشي يجب عليه الحج, وإن لم يكن له راحلة, أما الكلام مع مالك فهو احتج بظاهر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}, ومن كان صحيح البدن قادرا على المشي, وله زاد, فقد استطاع إليه سبيلا فيلزمه فرض الحج. "ولنا" أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة: بالزاد, والراحلة جميعا فلا تثبت الاستطاعة بأحدهما, وبه تبين أن القدرة على المشي لا تكفي لاستطاعة الحج ثم شرط الراحلة إنما يراعى لوجوب الحج في حق من نأى عن مكة فأما أهل مكة, ومن حولهم فإن الحج يجب على القوي منهم القادر على المشي من غير راحلة؛ لأنه لا حرج يلحقه في المشي إلى الحج كما لا يلحقه الحرج في المشي إلى الجمعة. وأما الكلام مع الشافعي فوجه قوله: أن الاستطاعة المذكورة هي القدرة من حيث سلامة الأسباب, والآلات, والقدرة تثبت بالإباحة فلا معنى لاشتراط الملك إذ الملك لا يشترط لعينه بل للقدرة على استعمال الزاد, والراحلة أكلا, وركوبا, ولذا ثبتت بالإباحة, ولهذا استوى الملك, والإباحة في "باب الطهارة" في المنع من جواز التيمم كذا ههنا. "ولنا" أن استطاعة الأسباب, والآلات لا تثبت بالإباحة؛ لأن الإباحة لا تكون لازمة. ألا ترى: أن للمبيح أن يمنع المباح له عن التصرف في المباح, ومع قيام ولاية المنع لا تثبت القدرة المطلقة فلا يكون مستطيعا على الإطلاق فلم يوجد شرط الوجوب فلا يجب بخلاف مسألة الطهارة؛ لأن شرط جواز التيمم عدم الماء بقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً}, والعدم لا يثبت مع البذل, والإباحة. وأما تفسير الزاد, والراحلة فهو أن يملك من المال مقدار ما يبلغه إلى مكة ذاهبا, وجائيا راكبا لا ماشيا بنفقة وسط لا إسراف فيها, ولا تقتير فاضلا عن مسكنه, وخادمه, وفرسه, وسلاحه, وثيابه, وأثاثه, ونفقة عياله, وخدمه, وكسوتهم, وقضاء ديونه. وروي عن أبي يوسف أنه قال: ونفقة شهر بعد انصرافه أيضا, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فسر الراحلة فقال: إذا كان عنده ما يفضل عما ذكرنا ما يكتري به شق محمل, أو زاملة, أو رأس راحلة, وينفق ذاهبا, وجائيا, فعليه الحج, وإن لم يكفه ذلك إلا أن يمشي أو يكتري عقبة, فليس عليه الحج ماشيا, ولا راكبا عقبة, وإنما اعتبرنا الفضل على ما ذكرنا من الحوائج؛ لأنها من الحوائج اللازمة التي لا بد منها فكان المستحق بها ملحقا بالعدم, وما ذكره بعض أصحابنا في تقدير نفقة العيال سنة, والبعض شهرا, فليس بتقدير لازم بل هو على حسب اختلاف المسافة في القرب, والبعد؛ لأن قدر النفقة يختلف باختلاف المسافة فيعتبر في ذلك قدر ما يذهب, ويعود إلى منزله, وإنما لا يجب

 

ج / 2 ص -123-       عليه الحج إذا لم يكف ماله إلا للعقبة؛ لأن المفروض هو الحج راكبا لا ماشيا, والراكب عقبة لا يركب في كل الطريق بل يركب في البعض, ويمشي في البعض, وذكر ابن شجاع أنه إذا كانت له دار لا يسكنها, ولا يؤاجرها, ومتاع لا يمتهنه, وعبد لا يستخدمه, وجب عليه أن يبيعه, ويحج به, وحرم عليه أخذ الزكاة إذا بلغ نصابا؛ لأنه إذا كان كذلك كان فاضلا عن حاجته كسائر الأموال, وكان مستطيعا فيلزمه فرض الحج فإن أمكنه بيع منزله, وأن يشتري بثمنه منزلا دونه, ويحج بالفضل فهو أفضل لكن لا يجب عليه؛ لأنه محتاج إلى سكناه فلا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه كما لا يجب عليه بيع المنزل, والاقتصار على السكنى, وذكر الكرخي أن أبا يوسف قال إذا لم يكن له مسكن, ولا خادم, ولا قوت عياله, وعنده دراهم تبلغه إلى الحج لا ينبغي أن يجعل ذلك في غير الحج فإن فعل أثم؛ لأنه مستطيع لملك الدراهم فلا يعذر في الترك, ولا يتضرر بترك شراء المسكن, والخادم بخلاف بيع المسكن, والخادم, فإنه يتضرر ببيعهما, وقوله: "ولا قوت عياله" مؤول وتأويله: ولا قوت عياله ما يزيد على مقدار الذهاب, والرجوع. فأما المقدار المحتاج إليه من وقت الذهاب إلى وقت الرجوع فذلك مقدم على الحج لما بينا. "ومنها" أمن الطريق, وإنه من شرائط الوجوب عند بعض أصحابنا بمنزلة الزاد, والراحلة, وهكذا روى ابن شجاع عن أبي حنيفة وقال بعضهم: إنه من شرائط الأداء لا من شرائط الوجوب, وفائدة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الوصية إذا خاف الفوت فمن قال إنه من شرائط الأداء يقول إنه تجب الوصية إذا خاف الفوت, ومن قال إنه شرط الوجوب يقول: لا تجب الوصية؛ لأن الحج لم يجب عليه, ولم يصر دينا في ذمته فلا تلزمه الوصية, وجه قول من قال: إنه شرط الأداء لا شرط الوجوب ما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة بالزاد, والراحلة, ولم يذكر أمن الطريق, وجه قول من قال إنه شرط الوجوب, وهو الصحيح: أن الله تعالى شرط الاستطاعة, ولا استطاعة بدون أمن الطريق كما لا استطاعة بدون الزاد, والراحلة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين الاستطاعة بالزاد, والراحلة بيان كفاية ليستدل بالمنصوص عليه على غيره لاستوائهما في المعنى, وهو إمكان الوصول إلى البيت. ألا ترى أنه كما لم يذكر أمن الطريق لم يذكر صحة الجوارح, وزوال سائر الموانع الحسية, وذلك شرط الوجوب على أن الممنوع عن الوصول إلى البيت لا زاد له, ولا راحلة معه فكان شرط الزاد, والراحلة شرطا لأمن الطريق ضرورة. "وأما". الذي يخص النساء فشرطان: أحدهما أن يكون معها زوجها أو محرم لها فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها الحج. وهذا عندنا, وعند الشافعي هذا ليس بشرط, ويلزمها الحج, والخروج من غير زوج, ولا محرم إذا كان معها نساء في الرفقة ثقات, واحتج بظاهر قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}. وخطاب الناس يتناول الذكور, والإناث بلا خلاف فإذا كان لها زاد, وراحلة كانت مستطيعة, وإذا كان معها نساء ثقات يؤمن الفساد عليها, فيلزمها فرض الحج. "ولنا" ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ألا "لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم", وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا ومعها محرم أو زوج" ولأنها إذا لم يكن معها زوج, ولا محرم لا يؤمن عليها إذ النساء لحم على وضم إلا ما ذب عنه, ولهذا لا يجوز لها الخروج وحدها. والخوف عند اجتماعهن أكثر, ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية, وإن كان معها امرأة أخرى, والآية لا تتناول النساء حال عدم الزوج, والمحرم معها؛ لأن المرأة لا تقدر على الركوب, والنزول بنفسها فتحتاج إلى من يركبها, وينزلها, ولا يجوز ذلك لغير الزوج, والمحرم فلم تكن مستطيعة في هذه الحالة فلا يتناولها النص فإن امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج لا يجبران على الخروج, ولو امتنع من الخروج لإرادة زاد, وراحلة هل يلزمها ذلك؟ ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه يلزمها ذلك, ويجب عليها الحج بنفسها, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه لا يلزمها ذلك, ولا يجب الحج عليها وجه ما ذكره القدوري أن المحرم أو الزوج من ضرورات حجها بمنزلة الزاد, والراحلة إذ لا يمكنها الحج بدونه كما لا يمكنها الحج بدون الزاد, والراحلة, ولا يمكن إلزام ذلك الزوج أو المحرم من مال نفسه فيلزمها ذلك له كما يلزمها الزاد, والراحلة لنفسها, وجه ما ذكره القاضي أن هذا من شرائط وجوب الحج عليها, ولا يجب على الإنسان تحصيل شرط

 

ج / 2 ص -124-       الوجوب بل إن وجد الشرط وجب, وإلا فلا. ألا ترى: أن الفقير لا يلزمه تحصيل الزاد, والراحلة فيجب عليه الحج, ولهذا قالوا في المرأة التي لا زوج لها, ولا محرم: إنه لا يجب عليها أن تتزوج بمن يحج بها كذا هذا, ولو كان معها محرم فلها أن تخرج مع المحرم في الحجة الفريضة من غير إذن زوجها عندنا. وعند الشافعي ليس لها أن تخرج بغير إذن زوجها, وجه قوله أن في الخروج تفويت حقه المستحق عليها وهو: الاستمتاع بها فلا تملك ذلك من غير رضاه. "ولنا": أنها إذا وجدت محرما فقد استطاعت إلى حج البيت سبيلا؛ لأنها قدرت على الركوب, والنزول وأمنت المخاوف؛ لأن المحرم يصونها, وأما قوله: "إن حق الزوج في الاستمتاع يفوت بالخروج إلى الحج ", فنقول: منافعها مستثناة عن ملك الزوج في الفرائض كما في الصلوات الخمس, وصوم رمضان, ونحو ذلك حتى لو أرادت الخروج إلى حجة التطوع فللزوج أن يمنعها كما في صلاة التطوع, وصوم التطوع, وسواء كانت المرأة شابة أو عجوزا فإنها لا تخرج إلا بزوج أو محرم؛ لأن ما روينا من الحديث لا يفصل بين الشابة, والعجوز. وكذا المعنى لا يوجب الفصل بينهما لما ذكرنا من حاجة المرأة إلى من يركبها, وينزلها بل حاجة العجوز إلى ذلك أشد؛ لأنها أعجز. وكذا يخاف عليها من الرجال. وكذا لا يؤمن عليها من أن يطلع عليها الرجال حال ركوبها, ونزولها فتحتاج إلى الزوج أو إلى المحرم ليصونها عن ذلك, والله أعلم. ثم صفة المحرم أن يكون ممن لا يجوز له نكاحها على التأبيد إما بالقرابة, أو الرضاع, أو الصهرية؛ لأن الحرمة المؤبدة تزيل التهمة في الخلوة, ولهذا قالوا: إن المحرم إذا لم يكن مأمونا عليه لم يجز لها أن تسافر معه, وسواء كان المحرم حرا أو عبدا؛ لأن الرق لا ينافي المحرمية, وسواء كان مسلما أو ذميا أو مشركا؛ لأن الذمي, والمشرك يحفظان محارمهما إلا أن يكون مجوسيا؛ لأنه يعتقد إباحة نكاحها فلا تسافر معه؛ لأنه لا يؤمن عليها كالأجنبي, وقالوا في الصبي الذي لم يحتلم, والمجنون الذي لم يفق: إنهما ليسا بمحرمين في السفر؛ لأنه لا يتأتى منهما حفظها, وقالوا في الصبية التي لا يشتهى مثلها: إنها تسافر بغير محرم؛ لأنه يؤمن عليها فإذا بلغت حد الشهوة لا تسافر بغير محرم؛ لأنها صارت بحيث لا يؤمن عليها ثم المحرم أو الزوج إنما يشترط إذا كان بين المرأة, وبين مكة ثلاثة أيام فصاعدا, فإن كان أقل من ذلك حجت بغير محرم؛ لأن المحرم يشترط للسفر, وما دون ثلاثة أيام ليس بسفر فلا يشترط فيه المحرم كما لا يشترط للخروج من محلة إلى محلة, ثم الزوج أو المحرم شرط الوجوب أم شرط الجواز فقد اختلف أصحابنا فيه كما اختلفوا في أمن الطريق, والصحيح أنه شرط الوجوب لما ذكرنا في أمن الطريق, والله أعلم. والثاني: أن لا تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله تعالى نهى المعتدات بقوله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ}. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه رد المعتدات من ذي الحليفة. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه ردهن من الجحفة. ولأن الحج يمكن أداؤه في وقت آخر فأما العدة فإنها إنما يجب قضاؤها في هذا الوقت خاصة فكان الجمع بين الأمرين أولى, وإن لزمتها بعد الخروج إلى السفر, وهي مسافرة فإن كان الطلاق رجعيا لا يفارقها زوجها؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية, والأفضل أن يراجعها, وإن كانت بائنا, أو كانت معتدة عن وفاة, فإن كان إلى منزلها أقل من مدة سفر, وإلى مكة مدة سفر فإنها تعود إلى منزلها؛ لأنه ليس فيه إنشاء سفر فصار كأنها في بلدها, وإن كان إلى مكة أقل من مدة سفر, وإلى منزلها مدة سفر مضت إلى مكة؛ لأنها لا تحتاج إلى المحرم في أقل من مدة السفر, وإن كان من الجانبين أقل من مدة السفر فهي بالخيار إن شاءت مضت, وإن شاءت رجعت إلى منزلها فإن كان من الجانبين مدة سفر فإن كانت في المصر, فليس لها أن تخرج حتى تنقضي عدتها في قول أبي حنيفة, وإن وجدت محرما, وعند أبي يوسف, ومحمد لها أن تخرج إذا وجدت محرما, وليس لها أن تخرج بلا محرم بلا خلاف, وإن كان ذلك في المفازة أو في بعض القرى بحيث لا تأمن على نفسها, ومالها فلها أن تمضي فتدخل موضع الأمن ثم لا تخرج منه في قول أبي حنيفة سواء وجدت محرما أو لا, وعندهما: تخرج إذا وجدت محرما, وهذه من مسائل "كتاب الطلاق" ونذكرها بدلائلها في فصول العدة إن شاء الله تعالى. ثم من لم يجب عليه الحج بنفسه لعذر كالمريض, ونحوه, وله مال يلزمه أن يحج رجلا عنه, ويجزئه عن حجة الإسلام إذا وجد شرائط جواز الإحجاج على ما نذكره, ولو تكلف واحد ممن له عذر فحج بنفسه أجزأه عن حجة الإسلام إذا كان

 

ج / 2 ص -125-       عاقلا بالغا حرا؛ لأنه من أهل الفرض إلا أنه لم يجب عليه؛ لأنه لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بحرج, فإذا تحمل الحرج, وقع موقعه كالفقير إذا حج, والعبد إذا حضر الجمعة فأداها؛ ولأنه إذا وصل إلى مكة صار كأهل مكة فيلزمه الحج بخلاف العبد, والصبي, والمجنون فإن العبد, والصبي ليسا من أهل فرض الحج, والمجنون ليس من أهل العبادة أصلا, والله أعلم. ثم ما ذكرنا من الشرائط لوجوب الحج من الزاد, والراحلة, وغير ذلك يعتبر, وجودها, وقت خروج أهل بلده حتى لو ملك الزاد, والراحلة في أول السنة قبل أشهر الحج, وقبل أن يخرج أهل بلده إلى مكة فهو في سعة من صرف ذلك إلى حيث أحب؛ لأنه لا يلزمه التأهب للحج قبل خروج أهل بلده؛ لأنه لم يجب عليه الحج قبله, ومن لا حج عليه لا يلزمه التأهب للحج فكان بسبيل من التصرف في ماله كيف شاء, وإذا صرف ماله ثم خرج أهل بلده لا يجب عليه الحج فأما إذا جاء, وقت الخروج, والمال في يده فليس له أن يصرفه إلى غيره على قول من يقول بالوجوب على الفور؛ لأنه إذا جاء وقت خروج أهل بلده فقد وجب عليه الحج لوجود الاستطاعة فيلزمه التأهب للحج, فلا يجوز له صرفه إلى غيره كالمسافر إذا كان معه ماء للطهارة. وقد قرب الوقت لا يجوز له استهلاكه في غير الطهارة, فإن صرفه إلى غير الحج أثم, وعليه الحج, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما ركن الحج فشيئان: أحدهما. الوقوف بعرفة وهو الركن الأصلي للحج, والثاني طواف الزيارة. أما الوقوف بعرفة فالكلام فيه يقع في مواضع في. بيان أنه ركن, وفي بيان مكانه, وفي بيان زمانه, وفي بيان مقداره, وفي بيان سننه, وفي بيان حكمه إذا فات عن وقته أما الأول فالدليل عليه قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} فسر النبي صلى الله عليه وسلم الحج بقوله: "الحج عرفة" أي الحج الوقوف بعرفة إذ الحج فعل, وعرفة مكان فلا يكون حجا فكان الوقوف مضمرا فيه فكان تقديره: الحج الوقوف بعرفة. والمجمل إذا التحق به التفسير يصير مفسرا من الأصل فيصير كأنه تعالى قال: ولله على الناس حج البيت, والحج الوقوف بعرفة. فظاهره يقتضي أن يكون هو الركن لا غير إلا أنه زيد عليه طواف الزيارة بدليل ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم في سياق التفسير: "من وقف بعرفة فقد تم حجه" جعل الوقوف بعرفة اسما للحج فدل أنه ركن, فإن قيل هذا يدل على أن الوقوف بعرفة واجب, وليس بفرض فضلا عن أن يكون ركنا؛ لأنه علق تمام الحج به, والواجب هو الذي يتعلق بوجوده التمام لا الفرض, فالجواب أن المراد من قوله: تم حجه ليس هو التمام الذي هو ضد النقصان بل خروجه عن احتمال الفساد فقوله: "فقد تم حجه" أي: خرج من أن يكون محتملا للفساد بعد ذلك لوجود المفسد حتى لو جامع بعد ذلك لا يفسد حجه لكن تلزمه الفدية على ما نذكر إن شاء الله تعالى, وهذا؛ لأن الله تعالى فرض الحج بقوله: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الحج: بالوقوف بعرفة فصار الوقوف بعرفة فرضا, وهو ركن فلو حمل التمام المذكور في الحديث على التمام الذي هو ضد النقصان لم يكن فرضا؛ لأنه يوجد الحج بدونه فيتناقض, فحمل التمام المذكور على خروجه عن احتمال الفساد عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض, وقوله عز وجل: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قيل: إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات, ويقولون نحن أهل حرم الله لا نفيض كغيرنا ممن قصدنا فأنزل الله عز وجل الآية الكريمة يأمرهم بالوقوف بعرفات, والإفاضة من حيث أفاض الناس, والناس كانوا يفيضون من عرفات, وإفاضتهم منها لا تكون إلا بعد حصولهم فيها فكان الأمر بالإفاضة منها أمرا بالوقوف بها ضرورة. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كانت قريش ومن كان على دينها يقفون بالمزدلفة, ولا يقفون بعرفات فأنزل الله عز وجل قوله: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. وكذا الأمة أجمعت على كون الوقوف ركنا في الحج. وأما مكان الوقوف فعرفات كلها موقف لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة". ولما روينا من الحديث, وهو قوله صلى الله عليه وسلم: "الحج عرفة". فمن وقف بعرفة فقد تم حجه مطلقا من غير تعيين موضع دون موضع إلا أنه لا ينبغي أن يقف في بطن عرنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك, وأخبر أنه وادي الشيطان. وأما زمانه فزمان الوقوف من حين تزول الشمس من يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم

 

ج / 2 ص -126-       النحر حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه, وعدم وقوفه سواء؛ لأنه فرض مؤقت فلا يتأدى في غير وقته كسائر الفرائض المؤقتة إلا في حال الضرورة, وهي حال الاشتباه استحسانا على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وكذا الوقوف قبل الزوال لم يجز ما لم يقف بعد الزوال, كذا من لم يدرك عرفة بنهار ولا بليل فقد فاته الحج, والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم: وقف بعرفة بعد الزوال, وقال: "خذوا عني مناسككم" فكان بيانا لأول الوقت, وقال صلى الله عليه وسلم: "من أدرك عرفة فقد أدرك الحج, ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج" وهذا بيان آخر الوقت فدل أن الوقت يبقى ببقاء الليل, ويفوت بفواته, وهذا الذي ذكرنا قول عامة العلماء. وقال مالك: وقت الوقوف هو الليل فمن لم يقف في جزء من الليل لم يجز وقوفه, واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج" علق إدراك الحج بإدراك عرفة بليل فدل أن الوقوف بجزء من الليل هو وقت الركن. ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وقف معنا هذا الموقف, وصلى معنا هذه الصلاة, وكان وقف قبل ذلك بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه, وقضى تفثه". أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تمام الحج بالوقوف ساعة من ليل أو نهار, فدل أن ذلك هو وقت الوقوف غير عين, وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال: "من وقف بعرفة فقد تم حجه" مطلقا عن الزمان إلا أن زمان ما قبل الزوال, وبعد انفجار الصبح من يوم النحر ليس بمراد بدليل فبقي ما بعد الزوال إلى انفجار الصبح مرادا, ولأن هذا نوع نسك فلا يختص بالليل كسائر أنواع المناسك, ولا حجة له في الحديث؛ لأن فيه: من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج, وليس فيه أن من لم يدركها بليل ماذا حكمه فكان متعلقا بالمسكوت فلا يصح, ولو اشتبه على الناس هلال ذي الحجة فوقفوا بعرفة بعد أن أكملوا عدة ذي القعدة ثلاثين يوما ثم شهد الشهود أنهم رأوا الهلال يوم كذا, وتبين أن ذلك اليوم كان يوم النحر فوقوفهم صحيح, وحجتهم تامة استحسانا, والقياس: أن لا يصح, وجه القياس أنهم, وقفوا في غير وقت الوقوف فلا يجوز كما لو تبين أنهم, وقفوا يوم التروية, وأي فرق بين التقديم, والتأخير, والاستحسان ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "صومكم يوم تصومون, وأضحاكم يوم تضحون, وعرفتكم يوم تعرفون". وروي: "وحجكم يوم تحجون". فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم وقت الوقوف أو الحج, وقت تقف أو تحج فيه الناس, والمعنى فيه من وجهين: أحدهما ما قال بعض مشايخنا: أن هذه شهادة قامت على النفي, وهي نفي جواز الحج, والشهادة على النفي باطلة, والثاني أن شهادتهم جائزة مقبولة لكن وقوفهم جائز أيضا؛ لأن هذا النوع من الاشتباه مما يغلب, ولا يمكن التحرز عنه فلو لم نحكم بالجواز لوقع الناس في الحرج بخلاف ما إذا تبين أن ذلك اليوم كان يوم التروية؛ لأن ذلك نادر غاية الندرة فكان ملحقا بالعدم, ولأنهم بهذا التأخير بنوا على دليل ظاهر واجب العمل به, وهو وجوب إكمال العدة إذا كان بالسماء علة فعذروا في الخطأ بخلاف التقديم فإنه خطأ غير مبني على دليل رأسا فلم يعذروا فيه, نظيره إذا اشتبهت القبلة فتحرى, وصلى إلى جهة ثم تبين أنه أخطأ جهة القبلة جازت صلاته, ولو لم يتحر, وصلى ثم تبين أنه أخطأ لم يجز لما قلنا, كذا هذا, وهل يجوز وقوف الشهود؟ روى هشام عن محمد أنه يجوز وقوفهم, وحجهم أيضا. وقد قال محمد إذا شهد عند الإمام شاهدان عشية يوم عرفة برؤية الهلال, فإن كان الإمام لم يمكنه الوقوف في بقية الليل مع الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة, ووقف من الغد بعد الزوال؛ لأنهم, وإن شهدوا عشية عرفة لكن لما تعذر على الجماعة الوقوف في الوقت, وهو ما بقي من الليل صاروا كأنهم شهدوا بعد الوقت فإن كان الإمام يمكنه الوقوف قبل طلوع الفجر مع الناس أو أكثرهم بأن كان يدرك الوقوف عامة الناس إلا أنه لا يدركه ضعفة الناس, جاز وقوفه فإن لم يقف فات حجه؛ لأنه ترك الوقوف في وقته مع علمه به, والقدرة عليه, قال محمد: فإن اشتبه على الناس فوقف الإمام, والناس يوم النحر. وقد كان من رأى الهلال وقف يوم عرفة لم يجزه وقوفه, وكان عليه أن يعيد الوقوف مع الإمام؛ لأن يوم النحر صار يوم الحج في حق الجماعة, ووقت الوقوف لا يجوز أن يختلف فلا يعتد بما فعله بانفراده. وكذا إذا أخر الإمام الوقوف لمعنى يسوغ فيه الاجتهاد لم يجز وقوف من وقف قبله, فإن شهد شاهدان عند الإمام بهلال ذي الحجة فرد شهادتهما؛ لأنه

 

ج / 2 ص -127-       لا علة بالسماء, فوقف بشهادتهما قوم قبل الإمام لم يجز وقوفهم؛ لأن الإمام أخر الوقوف بسبب يجوز العمل عليه في الشرع, فصار كما لو أخر بالاشتباه, والله تعالى أعلم. وأما قدره فنبين القدر المفروض, والواجب أما القدر المفروض من الوقوف: فهو كينونته بعرفة في ساعة من هذا الوقت فمتى حصل إتيانها في ساعة من هذا الوقت تأدى فرض الوقوف سواء كان عالما بها, أو جاهلا نائما, أو يقظان مفيقا أو مغمى عليه, وقف بها أو مر, وهو يمشي أو على الدابة أو محمولا؛ لأنه أتى بالقدر المفروض, وهو حصوله كائنا بها, والأصل فيه ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من وقف بعرفة فقد تم حجه". والمشي, والسير لا يخلو عن وقفة, وسواء نوى الوقوف أو لم ينو بخلاف الطواف, وسنذكر الفرق في "فصل الطواف" إن شاء الله وسواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا أو نفساء؛ لأن الطهارة ليست بشرط لجواز الوقوف؛ لأن حديث الوقوف مطلق عن شرط الطهارة, ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت: افعلي ما يفعله الحاج غير أنك لا تطوفي بالبيت", ولأنه نسك غير متعلق بالبيت فلا تشترط له الطهارة كرمي الجمار, وسواء كان قد صلى الصلاتين أو لم يصل لإطلاق الحديث, ولأن الصلاتين, وهما: الظهر, والعصر لا تعلق لهما بالوقوف فلا يكون تركهما مانعا من الوقوف, والله أعلم. وأما القدر الواجب من الوقوف: فمن حين تزول الشمس إلى أن تغرب فهذا القدر من الوقوف واجب عندنا. وعند الشافعي: ليس بواجب بل هو سنة. بناء على أنه لا فرق بين الفرض, والواجب, فإذا لم يكن فرضا لم يكن واجبا, ونحن نفرق بين الفرض, والواجب كفرق ما بين السماء, والأرض وهو أن الفرض اسم لما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به, والواجب اسم لما ثبت وجوبه بدليل فيه شبهة العدم على ما عرف في أصول الفقه, وأصل الوقوف ثبت بدليل مقطوع به, وهو: النص المفسر من الكتاب, والسنة المتواترة, والمشهورة, والإجماع على ما ذكرنا فأما الوقوف إلى جزء من الليل: فلم يقم عليه دليل قاطع بل مع شبهة العدم أعني: خبر الواحد, وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج". أو غير ذلك من الآحاد التي لا تثبت بمثلها الفرائض فضلا عن الأركان, وإذا عرف أن الوقوف من حين زوال الشمس إلى غروبها واجب, فإن دفع منها قبل غروب الشمس فإن جاوز عرفة بعد الغروب فلا شيء عليه؛ لأنه ما ترك الواجب, وإن جاوزها قبل الغروب فعليه دم عندنا لتركه الواجب فيجب عليه الدم كما لو ترك غيره من الواجبات. وعند الشافعي لا دم عليه؛ لأنه لم يترك الواجب إذ الوقوف المقدر ليس بواجب عنده, ولو عاد إلى عرفة قبل غروب الشمس, وقبل أن يدفع الإمام ثم دفع منها بعد الغروب مع الإمام سقط عنه الدم عندنا لأنه استدرك المتروك. وعند زفر لا يسقط, وهو على الاختلاف في مجاوزة الميقات بغير إحرام, والكلام فيه على نحو الكلام في تلك المسألة, وسنذكرها إن شاء الله في موضعها, وإن عاد قبل غروب الشمس بعد ما خرج الإمام من عرفة ذكر الكرخي أنه يسقط عنه الدم أيضا. وكذا روى ابن شجاع عن أبي حنيفة أن الدم يسقط عنه أيضا؛ لأنه استدرك المتروك إذ المتروك هو الدفع بعد الغروب. وقد استدركه, وذكر في الأصل أنه لا يسقط عنه الدم قال مشايخنا: اختلاف الرواية لمكان الاختلاف فيما لأجله يجب الدم فعلى رواية الأصل الدم يجب لأجل دفعه قبل الإمام, ولم يستدرك ذلك, وعلى رواية ابن شجاع يجب لأجل دفعه قبل غروب الشمس. وقد استدركه بالعود, والقدوري اعتمد على هذه الرواية, وقال: هي الصحيحة, والمذكور في الأصل مضطرب, ولو عاد إلى عرفة بعد الغروب لا يسقط عنه الدم بلا خلاف؛ لأنه لما غربت الشمس عليه قبل العود فقد تقرر عليه الدم الواجب فلا يحتمل السقوط بالعود, والله الموفق. وأما بيان حكمه إذا فات فحكمه أنه يفوت الحج في تلك السنة, ولا يمكن استدراكه فيها؛ لأن ركن الشيء ذاته, وبقاء الشيء مع فوات ذاته محال.

"فصل": وأما طواف الزيارة فالكلام فيه في مواضع في. بيان أنه ركن وفي بيان ركنه, وفي بيان شرائطه, وواجباته, وسننه, وفي بيان مكانه, وفي بيان زمانه, وفي بيان مقداره, وفي بيان حكمه إذا فات عن أيام النحر أما الأول فالدليل على أنه ركن قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} والمراد منه طواف الزيارة بالإجماع, ولأنه تعالى أمر الكل بالطواف

 

ج / 2 ص -128-       فيقتضي الوجوب على الكل, وطواف اللقاء لا يجب أصلا, وطواف الصدر لا يجب على الكل؛ لأنه لا يجب على أهل مكة فيتعين طواف الزيارة مرادا بالآية, وقوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}, والحج في اللغة هو: القصد, وفي عرف الشرع هو: زيارة البيت, والزيارة هي القصد إلى الشيء للتقرب قال الشاعر:

ألم تعلمي يا أم سعد بأنما                       تخاطأني ريب الزمان لأكثرا

وأشهد من عوف حلولا كثيرة                      يحجون بيت الزبرقان المزعفرا

وقوله: "يحجون" أي يقصدون ذلك البيت للتقرب فكان حج البيت هو القصد إليه للتقرب به, وإنما يقصد البيت للتقرب بالطواف به فكان الطواف به ركنا, والمراد به طواف الزيارة لما بينا, ولهذا يسمى في عرف الشرع: طواف الركن فكان ركنا. وكذا الأمة أجمعت على كونه ركنا, ويجب على أهل الحرم, وغيرهم لعموم قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وقوله عز وجل: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}

"فصل": وأما ركنه فحصوله كائنا حول البيت سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره, وسواء كان عاجزا عن الطواف بنفسه فطاف به غيره بأمره أو بغير أمره أو كان قادرا على الطواف بنفسه فحمله غيره بأمره أو بغير أمره غير أنه إن كان عاجزا أجزأه, ولا شيء عليه, وإن كان قادرا أجزأه, ولكن يلزمه الدم, أما الجواز فلأن الفرض حصوله كائنا حول البيت. وقد حصل. وأما لزوم الدم فلتركه الواجب, وهو الشيء بنفسه مع القدرة عليه فدخله نقص فيجب جبره بالدم كما إذا طاف راكبا أو زحفا, وهو قادر على المشي, وإذا كان عاجزا عن المشي لا يلزمه شيء؛ لأنه لم يترك الواجب إذ لا وجوب مع العجز, ويجوز ذلك عن الحامل, والمحمول جميعا لما ذكرنا أن الفرض حصوله كائنا حول البيت وقد حصل كل واحد منهما كائنا حول البيت غير أن أحدهما حصل كائنا بفعل نفسه, والآخر بفعل غيره, فإن قيل: إن مشي الحامل فعل, والفعل الواحد كيف يقع عن شخصين؟ فالجواب من وجهين أحدهما أن المفروض ليس هو الفعل في الباب بل حصول الشخص حول البيت بمنزلة الوقوف بعرفة أن المفروض منه حصوله كائنا بعرفة لا فعل الوقوف على ما بينا فيما تقدم, والثاني أن مشي الواحد جاز أن يقع عن اثنين في باب الحج كالبعير الواحد إذا ركبه اثنان فطافا عليه. وكذا يجوز في الشرع أن يجعل فعل واحد حقيقة كفعلين معنى كالأب الوصي إذا باع مال نفسه من الصغير أو اشترى مال الصغير لنفسه, ونحو ذلك كذا ههنا.

"فصل": وأما شرطه وواجباته فشرطه النية, وهو أصل النية دون التعيين حتى لو لم ينو أصلا بأن طاف هاربا من سبع أو طالبا لغريم لم يجز. فرق أصحابنا بين الطواف, وبين الوقوف: أن الوقوف يصح من غير نية الوقوف عند الوقوف, والطواف لا يصح من غير نية الطواف عند الطواف كذا ذكره القدوري في شرحه مختصر الكرخي, وأشار القاضي في شرحه مختصر الطحاوي إلى أن نية الطواف عند الطواف ليست بشرط أصلا, وأن نية الحج عند الإحرام كافية, ولا يحتاج إلى نية مفردة كما في سائر أفعال الحج, وكما في أفعال الصلاة. ووجه الفرق على ما ذكره القدوري أن الوقوف ركن يقع في حال قيام نفس الإحرام لانعدام ما يضاده فلا يحتاج إلى نية مفردة بل تكفيه النية السابقة, وهي نية الحج كالركوع, والسجود في باب الصلاة؛ لأنه لا يحتاج إلى إفرادهما بالنية لاشتمال نية الصلاة عليهما كذا الوقوف, فأما الطواف فلا يؤتى به في حال قيام نفس الإحرام لوجود ما يضاده؛ لأنه تحليل؛ لأنه يقع به التحليل, ولا إحرام حال وجود التحليل؛ لأن الشيء حال وجوده موجود, ووجوده يمنع الإحرام من الوجود فلا تشتمل عليه نية الحج فتقع الحاجة إلى الإفراد بالنية كالتسليم في باب الصلاة إذ التسليم تحليل أو نقول إن الوقوف يوجد في حال قيام الإحرام المطلق لبقائه في حق جميع الأحكام فيتناوله نية الحج فلا يحتاج إلى نية على حدة, ولا كذلك الطواف. فإنه يوجد حال زوال الإحرام من وجه لوقوع التحلل قبله من وجه بالحلق أو التقصير. ألا ترى أنه يحل له كل شيء إلا النساء فوقعت الحاجة إلى نية على حدة فأما تعيين النية حال وجوده في وقته فلا حاجة إليه حتى لو نفر في النفر الأول فطاف, وهو لا يعين طوافا يقع عن طواف الزيارة لا عن الصدر؛ لأن أيام النحر متعينة لطواف الزيارة

 

ج / 2 ص -129-       فلا حاجة إلى تعيين النية كما لو صام رمضان بمطلق لنية أنه يقع عن رمضان لكون الوقت متعينا لصومه كذا هذا. وكذا لو نوى تطوعا يقع عن طواف الزيارة كما لو صام رمضان بنية التطوع, وكذلك كل طواف واجب, أو سنة يقع في وقته من طواف اللقاء, وطواف الصدر, فإنما يقع عما يستحقه الوقت, وهو الذي انعقد عليه الإحرام دون غيره سواء عين ذلك بالنية, أو لم يعين فيقع عن الأول, وإن نوى الثاني لا يعمل بنيته في تقديمه على الأول حتى إن المحرم إذا قدم مكة, وطاف لا يعين شيئا, أو نوى التطوع, فإن كان محرما بعمرة يقع طوافه للعمرة, وإن كان محرما بحجة يقع طوافه للقدوم؛ لأن عقد الإحرام انعقد عليه, وكذلك القارن إذا طاف لا يعين شيئا, أو نوى التطوع كان ذلك للعمرة, فإن طاف طوافا آخر قبل أن يسعى لا يعين شيئا, أو نوى تطوعا كان ذلك للحج, والله أعلم. فأما الطهارة عن الحدث, والجنابة, والحيض, والنفاس فليست بشرط لجواز الطواف, وليست بفرض عندنا بل واجبة حتى يجوز الطواف بدونها. وعند الشافعي فرض لا يصح الطواف بدونها. واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام". وإذا كان صلاة فالصلاة لا جواز لها بدون الطهارة, ولنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة, ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب بخبر الواحد فيحمل على التشبيه كما في قوله تعالى: {وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: كأمهاتهم ومعناه الطواف كالصلاة إما في الثواب أو في أصل الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه عملا بالكتاب, والسنة أو نقول: الطواف يشبه الصلاة, وليس بصلاة حقيقة فمن حيث إنه ليس بصلاة حقيقة لا تفترض له الطهارة, ومن حيث إنه يشبه الصلاة تجب له الطهارة عملا بالدليلين بالقدر الممكن, وإن كانت الطهارة من واجبات الطواف فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة تجب عليه الإعادة؛ لأن الإعادة جبر له بجنسه, وجبر الشيء بجنسه أولى؛ لأن معنى الجبر, وهو التلافي فيه أتم ثم إن أعاد في أيام النحر فلا شيء عليه, وإن أخره عنها فعليه دم في قول أبي حنيفة, والمسألة تأتي إن شاء الله تعالى في موضعها, وإن لم يعد, ورجع إلى أهله فعليه الدم غير أنه إن كان محدثا فعليه شاة, وإن كان جنبا فعليه بدنة؛ لأن الحدث يوجب نقصانا يسيرا فتكفيه الشاة لجبره كما لو ترك شوطا فأما الجنابة فإنها توجب نقصانا متفاحشا؛ لأنها أكبر الحدثين فيجب لها أعظم الجابرين. وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال البدنة: "تجب في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف جنبا, والثاني إذا جامع بعد الوقوف ". وإذا لم تكن الطهارة من شرائط الجواز فإذا طاف, وهو محدث أو جنب, وقع موقعه حتى لو جامع بعده لا يلزمه شيء؛ لأن الوطء لم يصادف الإحرام لحصول التحلل بالطواف هذا إذا طاف بعد أن حلق أو قصر ثم جامع فأما إذا طاف, ولم يكن حلق, ولا قصر ثم جامع فعليه دم؛ لأنه إذا لم يحلق, ولم يقصر فالإحرام باق, والوطء إذا صادف الإحرام يوجب الكفارة إلا أنه يلزمه الشاة لا البدنة؛ لأن الركن صار مؤدى فارتفعت الحرمة المطلقة فلم يبق الوطء جنابة محضة بل خف معنى الجنابة فيه فيكفيه أخف الجابرين. فأما الطهارة عن النجس فليست من شرائط الجواز بالإجماع فلا يفترض تحصيلها, ولا تجب أيضا لكنه سنة حتى لو طاف, وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم جاز, ولا يلزمه شيء إلا أنه يكره. وأما ستر العورة فهو مثل الطهارة عن الحدث, والجنابة أي إنه ليس بشرط الجواز, وليس بفرض لكنه, واجب عندنا حتى لو طاف عريانا فعليه الإعادة ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله فعليه الدم. وعند الشافعي شرط الجواز كالطهارة عن الحدث, والجنابة, وحجته ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام" وستر العورة من شرائط جواز الصلاة, وحجتنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف مطلقا عن شرط الستر فيجرى على إطلاقه, والجواب عن تعلقه بالحديث على نحو ما ذكرنا في الطهارة والفرق بين ستر العورة, وبين الطهارة عن النجاسة أن المنع من الطواف مع الثوب النجس ليس لأجل الطواف بل لأجل المسجد, وهو صيانته عن إدخال النجاسة فيه, وصيانته عن تلويثه فلا يوجب ذلك نقصانا في الطواف فلا حاجة إلى الجبر. فأما المنع من الطواف عريانا فلأجل الطواف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف عريانا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يطوفن بعد

 

ج / 2 ص -130-       عامي هذا مشرك, ولا عريان" وإذا كان النهي لمكان الطواف تمكن فيه النقص فيجب جبره بالدم لكن بالشاة لا بالبدنة؛ لأن النقص فيه كالنقص بالحدث لا كالنقص بالجنابة قال محمد: ومن طاف تطوعا على شيء من هذه الوجوه فأحب إلينا إن كان بمكة أن يعيد الطواف, وإن كان قد رجع إلى أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف, وعلى ثوبه نجاسة؛ لأن التطوع يصير واجبا بالشروع فيه إلا أنه دون الواجب ابتداء بإيجاب الله تعالى فكان النقص فيه أقل فيجبر بالصدقة, ومحاذاة المرأة الرجل في الطواف لا تفسد عليه طوافه؛ لأن المحاذاة إنما عرفت مفسدة في الشرع على خلاف القياس في صلاة مطلقة مشتركة, والطواف ليس بصلاة حقيقة, ولا اشتراك أيضا, والموالاة في الطواف ليست بشرط حتى لو خرج الطائف من طوافه لصلاة جنازة أو مكتوبة أو لتجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه, ولا يلزمه الاستئناف لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا عن شرط الموالاة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "خرج من الطواف, ودخل السقاية فاستسقى فسقى فشرب ثم عاد, وبنى على طوافه", والله تعالى أعلم. فأما الطهارة عن النجس فليست من شرائط الجواز بالإجماع فلا يفترض تحصيلها, ولا تجب أيضا لكنه سنة حتى لو طاف, وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم جاز, ولا يلزمه شيء إلا أنه يكره. وأما ستر العورة فهو مثل الطهارة عن الحدث, والجنابة أي إنه ليس بشرط الجواز, وليس بفرض لكنه, واجب عندنا حتى لو طاف عريانا فعليه الإعادة ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله فعليه الدم. وعند الشافعي شرط الجواز كالطهارة عن الحدث, والجنابة, وحجته ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام" وستر العورة من شرائط جواز الصلاة, وحجتنا قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف مطلقا عن شرط الستر فيجرى على إطلاقه, والجواب عن تعلقه بالحديث على نحو ما ذكرنا في الطهارة والفرق بين ستر العورة, وبين الطهارة عن النجاسة أن المنع من الطواف مع الثوب النجس ليس لأجل الطواف بل لأجل المسجد, وهو صيانته عن إدخال النجاسة فيه, وصيانته عن تلويثه فلا يوجب ذلك نقصانا في الطواف فلا حاجة إلى الجبر. فأما المنع من الطواف عريانا فلأجل الطواف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن الطواف عريانا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يطوفن بعد عامي هذا مشرك ولا عريان" وإذا كان النهي لمكان الطواف تمكن فيه النقص فيجب جبره بالدم لكن بالشاة لا بالبدنة؛ لأن النقص فيه كالنقص بالحدث لا كالنقص بالجنابة قال محمد: ومن طاف تطوعا على شيء من هذه الوجوه فأحب إلينا إن كان بمكة أن يعيد الطواف, وإن كان قد رجع إلى أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف, وعلى ثوبه نجاسة؛ لأن التطوع يصير واجبا بالشروع فيه إلا أنه دون الواجب ابتداء بإيجاب الله تعالى فكان النقص فيه أقل فيجبر بالصدقة, ومحاذاة المرأة الرجل في الطواف لا تفسد عليه طوافه؛ لأن المحاذاة إنما عرفت مفسدة في الشرع على خلاف القياس في صلاة مطلقة مشتركة, والطواف ليس بصلاة حقيقة, ولا اشتراك أيضا, والموالاة في الطواف ليست بشرط حتى لو خرج الطائف من طوافه لصلاة جنازة أو مكتوبة أو لتجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه, ولا يلزمه الاستئناف لقوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا عن شرط الموالاة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "خرج من الطواف, ودخل السقاية فاستسقى فسقى فشرب ثم عاد, وبنى على طوافه", والله تعالى أعلم. ومن واجبات الطواف أن يطوف ماشيا لا راكبا إلا من عذر حتى لو طاف راكبا من غير عذر فعليه الإعادة ما دام بمكة, وإن عاد إلى أهله يلزمه الدم, وهذا عندنا وعند الشافعي: ليس بواجب فإذا طاف راكبا من غير عذر لا شيء عليه, واحتج بما روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه طاف راكبا". "ولنا" قوله تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والراكب ليس بطائف حقيقة فأوجب ذلك نقصا فيه فوجب جبره بالدم. وأما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد روي أن ذلك كان لعذر كذا روي عن عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك كان بعد ما أسن, وبدن, ويحتمل أنه فعل ذلك لعذر آخر, وهو التعليم كذا روي عن جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا ليراه الناس فيسألوه, ويتعلموا منه, وهذا عذر, وعلى هذا أيضا يخرج ما إذا طاف زحفا أنه إن كان عاجزا عن المشي أجزأه, ولا شيء عليه؛ لأن التكليف بقدر الوسع, وإن كان قادرا عليه الإعادة إن كان بمكة, والدم إن كان رجع إلى أهله؛ لأن الطواف مشيا, واجب عليه, ولو أوجب على نفسه أن يطوف بالبيت زحفا, وهو قادر على المشي عليه أن يطوف ماشيا؛ لأنه نذر إيقاع العبادة على وجه غير مشروع فلغت الجهة, وبقي النذر بأصل العبادة كما إذا نذر أن يطوف للحج على غير طهارة فإن طاف زحفا أعاد إن كان بمكة, وإن رجع إلى أهله فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب كذا ذكر في الأصل, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه إذا طاف زحفا أجزأه؛ لأنه أدى ما أوجب على نفسه فيجزئه كمن نذر أن يصلي ركعتين في الأرض المغصوبة أو يصوم يوم النحر أنه يجب عليه أن يصلي في موضع آخر ويصوم يوما آخر, ولو صلى في الأرض المغصوبة, وصام يوم النحر أجزأه, وخرج عن عهدة النذر كذا هذا, وعلى هذا أيضا يخرج ما إذا طاف محمولا أنه إن كان لعذر جاز, ولا شيء عليه, وإن كان لغير عذر جاز, ويلزمه الدم؛ لأن الطواف ماشيا, واجب عند القدرة على المشي, وترك الواجب من غير عذر يوجب الدم. فأما الابتداء من الحجر الأسود فليس بشرط من شرائط جوازه بل هو سنة في ظاهر الرواية حتى لو افتتح من غير عذر أجزأه مع الكراهة لقوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا عن شرط الابتداء بالحجر الأسود إلا أنه لو لم يبدأ يكره؛ لأنه ترك السنة, وذكر محمد رحمه الله في الرقيات إذا افتتح الطواف من غير الحجر لم يعتد بذلك الشوط إلا أن يصير إلى الحجر فيبدأ منه الطواف فهذا يدل على أن الافتتاح منه شرط الجواز, وبه أخذ الشافعي, والدليل على أن الافتتاح من الحجر إما على وجه السنة أو الفرض ما روي أن إبراهيم صلى الله عليه وسلم لما انتهى في البناء إلى مكان الحجر قال لإسماعيل عليه الصلاة والسلام ائتني بحجر أجعله علامة لابتداء الطواف فخرج, وجاء بحجر فقال ائتني بغيره فأتاه بحجر آخر فقال ائتني بغيره فأتاه بثالث فألقاه, وقال جاءني بحجر من أغناني عن حجرك فرأى الحجر الأسود في موضعه. وأما الابتداء من يمين الحجر لا من يساره فليس من شرائط الجواز بلا خلاف بين أصحابنا حتى يجوز الطواف منكوسا بأن افتتح الطواف عن يسار الحجر, ويعتد به, وعند الشافعي هو من شرائط الجواز لا يجوز بدونه, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم افتتح الطواف من يمين الحجر لا من يساره", وذلك تعليم منه صلى الله عليه وسلم مناسك الحج. وقد قال عليه

 

ج / 2 ص -131-       الصلاة والسلام "خذوا عني مناسككم" فتجب البداية بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم ولنا قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا من غير شرط البداية باليمين أو باليسار. وفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على الوجوب, وبه نقول إنه واجب كذا ذكره الإمام القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه تجب عليه الإعادة ما دام بمكة, وإن رجع إلى أهله يجب عليه الدم. وكذا ذكر في الأصل, ووجهه أنه ترك الواجب, وهو قادر على استدراكه بجنسه فيجب عليه ذلك تلافيا للتقصير بأبلغ الوجوه, وإذا رجع إلى أهله فقد عجز عن استدراكه الفائت بجنسه فيستدركه بخلاف جنسه جبرا للفائت بالقدر الممكن على ما هو الأصل في ضمان الفوائت في الشرع, وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي ما يدل على أنه سنة فإنه قال أجزأه الطواف, ويكره, وهذا أمارة السنة. وأما سننه فنذكرها عند بيان سنن الحج, ولا رمل في هذا الطواف إذا كان الطواف طواف اللقاء, وسعى عقيبه, وإن كان لم يطف طواف اللقاء أو كان قد طاف لكنه لم يسع عقيبه فإنه يرمل في طواف الزيارة, والأصل فيه أن الرمل سنة طواف عقيبه سعي, وكل طواف يكون بعده سعي يكون فيه رمل, وإلا فلا لما نذكر إن شاء الله عند بيان سنن الحج, والترتيب بين أفعاله. ويكره إنشاد الشعر, والتحدث في الطواف لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الطواف بالبيت صلاة فأقلوا فيه الكلام". وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم "فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير", ولأن ذلك يشغله عن الدعاء, ويكره أن يرفع صوته بالقرآن؛ لأنه يتأذى به غيره لما يشغله ذلك عن الدعاء, ولا بأس بأن يقرأ القرآن في نفسه, وقال مالك يكره, وإنه غير سديد؛ لأن قراءة القرآن مندوب إليها في جميع الأحوال إلا في حال الجنابة, والحيض, ولم يوجد. ومن المشايخ من قال التسبيح أولى؛ لأن محمدا رحمه الله ذكر لفظة "لا بأس" وهذه اللفظة إنما تستعمل في الرخص, ولا بأس أن يطوف, وعليه خفاه أو نعلاه إذا كانا طاهرتين لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه طاف مع نعليه", ولأنه تجوز الصلاة مع الخفين, والنعلين مع أن حكم الصلاة أضيق فلأن يجوز الطواف أولى, ولا يرمل في هذا الطواف إذا كان طاف طواف اللقاء, وسعى عقيبه, وإن كان لم يطف طواف اللقاء أو كان قد طاف لكنه لم يسع عقيبه فإنه يرمل في طواف الزيارة, والأصل فيه أن الرمل سنة طواف عقيبه سعي, فكل طواف بعد سعي يكون فيه رمل, وإلا فلا لما نذكر عند بيان سنن الحج, والترتيب في أفعاله إن شاء الله تعالى وأما سننه فنذكرها عند بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما مكان الطواف فمكانه حول البيت لقوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والطواف بالبيت هو الطواف حوله فيجوز الطواف في المسجد الحرام قريبا من البيت أو بعيدا عنه بعد أن يكون في المسجد حتى لو طاف من, وراء زمزم قريبا من حائط المسجد أجزأه لوجود الطواف بالبيت لحصوله حول البيت, ولو طاف حول المسجد, وبينه وبين البيت حيطان المسجد لم يجز؛ لأن حيطان المسجد حاجزة فلم يطف بالبيت لعدم الطواف حوله بل طاف بالمسجد لوجود الطواف حوله لا حول البيت, ولأنه لو جاز الطواف حول المسجد مع حيلولة حيطان المسجد لجاز حول مكة, والحرم, وذا لا يجوز كذا هذا. ويطوف من خارج الحطيم؛ لأن الحطيم من البيت على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه روي عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها "إن قومك قصرت بهم النفقة فقصروا البيت عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة والسلام وإن الحطيم من البيت, ولولا حدثان عهدهم بالجاهلية لرددته إلى قواعد إبراهيم, ولجعلت له بابين بابا شرقيا, وبابا غربيا" وروي "أن رجلا نذر أن يصلي في البيت ركعتين فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يصلي في الحطيم ركعتين". وروي "أن عائشة رضي الله عنها نذرت بذلك فأمرها النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي في الحطيم ركعتين" فإن قيل إذا كان الحطيم من البيت فلم لا يجوز التوجه إليه في الصلاة. فالجواب أن كون الحطيم من البيت ثبت بخبر الواحد, ووجوب التوجه إلى البيت ثبت بنص الكتاب العزيز, وهو قوله تعالى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}, ولا يجوز ترك العمل بنص الكتاب بالآحاد, وليس في الطواف من, وراء الحطيم عملا بخبر الواحد ترك العمل بنص الكتاب العزيز, وهو قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا

 

ج / 2 ص -132-       بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بل فيه عمل بهما جميعا ولو طاف في داخل الحجر فعليه أن يعيد؛ لأن الحطيم لما كان من البيت فإذا طاف في داخل الحطيم فقد ترك الطواف ببعض البيت, والمفروض هو الطواف بكل البيت لقوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والأفضل أن يعيد الطواف كله مراعاة للترتيب فإن أعاد على الحجر خاصة أجزأه؛ لأن المتروك هو لا غير فاستدركه, ولو لم يعد حتى عاد إلى أهله يجب عليه الدم؛ لأن الحطيم ربع البيت فقد ترك من طوافه ربعه.

"فصل": وأما زمان هذا الطواف, وهو, وقته فأوله حين يطلع الفجر الثاني من يوم النحر بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يجوز قبله, وقال الشافعي أول, وقته منتصف ليلة النحر, وهذا غير سديد؛ لأن ليلة النحر, وقت ركن آخر, وهو الوقوف بعرفة فلا يكون, وقتا للطواف؛ لأن الوقت الواحد لا يكون وقتا لركنين, وليس لآخره زمان معين موقت به فرضا بل جميع الأيام, والليالي, وقته فرضا بلا خلاف بين أصحابنا لكنه موقت بأيام النحر وجوبا في قول أبي حنيفة حتى لو أخره عنها فعليه دم عنده, وفي قول أبي يوسف, ومحمد غير موقت أصلا, ولو أخره عن أيام النحر لا شيء عليه, وبه أخذ الشافعي, واحتجوا بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يرمي فقال ارم, ولا حرج", وما سئل يومئذ عن أفعال الحج قدم شيء منها أو أخر إلا قال افعل, ولا حرج. فهذا ينفي توقيت آخره, وينفي وجوب الدم بالتأخير, ولأنه لو توقت آخره لسقط بمضي آخره كالوقوف بعرفة فلما لم يسقط دل أنه لم يتوقت, ولأبي حنيفة أن التأخير بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر بدليل أن من جاوز الميقات بغير إحرام ثم أحرم يلزمه دم, ولو لم يوجد منه إلا تأخير الشك, وكذا تأخير الواجب في باب الصلاة بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر, وهو سجدتا السهو فكان الفقه في ذلك أن أداء الواجب كما هو, واجب فمراعاة محل الواجب, واجب فكان التأخير تركا للمراعاة الواجبة, وهي مراعاته في محله, والترك تركا لواجبين أحدهما أداء الواجب في نفسه, والثاني مراعاته في محله فإذا ترك هذا الواجب يجب جبره بالدم وإذا توقت هذا الطواف بأيام النحر وجوبا عنده فإذا أخره عنها فقد ترك الواجب فأوجب ذلك نقصانا فيجب جبره بالدم, ولما لم يتوقت عندهما ففي أي وقت فعله فقد فعله في وقته فلا يتمكن فيه نقص فلا يلزمه شيء, ولا حجة لهما في الحديث؛ لأن فيه نفي الحرج, وهو نفي الإثم, وانتفاء الإثم لا ينفي وجوب الكفارة كما لو حلق رأسه لأذى فيه: أنه لا يأثم, وعليه الدم كذا ههنا, وقولهما إنه لا يسقط بمضي آخر الوقت مسلم, لكن هذا لا يمنع كونه موقتا, وواجبا في الوقت كالصلوات المكتوبات أنها لا تسقط بخروج أوقاتها, وإن كانت موقتة حتى تقضى كذا هذا, والأفضل هو الطواف في أول أيام النحر لقوله صلى الله عليه وسلم "أيام النحر ثلاثة أولها أفضلها" وقد روي "أنه صلى الله عليه وسلم طاف في أول أيام النحر", ومعلوم أنه كان يأتي بالعبادات في أفضل أوقاتها, ولأن هذا الطواف يقع به تمام التحلل, وهو التحلل من النساء فكان في تعجيله صيانة نفسه عن الوقوع في الجماع, ولزوم البدنة فكان أولى.

"فصل": وأما مقداره فالمقدار المفروض منه هو أكثر الأشواط, وهو ثلاثة أشواط, وأكثر الشوط الرابع, فأما الإكمال فواجب, وليس بفرض حتى لو جامع بعد الإتيان بأكثر الطواف قبل الإتمام لا يلزمه البدنة, وإنما تلزمه الشاة, وهذا عندنا, وقال الشافعي الفرض هو سبعة أشواط لا يتحلل بما دونها, وجه قوله أن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي, والاجتهاد, وإنما تعرف بالتوقيف "ورسول الله صلى الله عليه وسلم طاف سبعة أشواط" فلا يعتد بما دونها, ولنا قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والأمر المطلق لا يقتضي التكرار إلا أن الزيادة على المرة الواحدة إلى أكثر الأشواط ثبت بدليل آخر, وهو الإجماع, ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط, ولأنه أتى بأكثر الطواف, والأكثر يقوم مقام الكل فيما يقع به التحلل في باب الحج كالذبح إذا لم يستوف قطع العروق الأربعة, وإنما كان المفروض هذا القدر فإذا أتى به فقد أتى بالقدر المفروض فيقع به التحلل فلا يلزمه البدنة بالجماع بعد ذلك؛ لأن ما زاد عليه إلى تمام السبعة فهو واجب, وليس بفرض فيجب بتركه الشاة دون البدنة كرمي الجمار, والله تعالى أعلم

 

ج / 2 ص -133-       "فصل": وأما حكمه إذا فات عن أيام النحر فهو أنه لا يسقط بل يجب أن يأتي به؛ لأن سائر الأوقات, وقته بخلاف الوقوف بعرفة أنه إذا فات عن, وقته يسقط؛ لأنه موقت بوقت مخصوص ثم إن كان بمكة يأتي به بإحرامه الأول؛ لأنه قائم؛ إذ التحلل بالطواف, ولم يوجد, وعليه لتأخيره عن أيام النحر دم عند أبي حنيفة, وإن كان رجع إلى أهله فعليه أن يرجع إلى مكة بإحرامه الأول, ولا يحتاج إلى إحرام جديد, وهو محرم عن النساء إلى أن يعود فيطوف, وعليه للتأخير دم عند أبي حنيفة. ولا يجزئ عن هذا الطواف بدنة؛ لأنه ركن, وأركان الحج لا يجزئ عنها البدل, ولا يقوم غيرها مقامها بل يجب الإتيان بعينها كالوقوف بعرفة. وكذا لو كان طاف ثلاثة أشواط فهو والذي لم يطف سواء؛ لأن الأقل لا يقوم مقام الكل, وإن كان طاف جنبا أو على غير وضوء أو طاف أربعة أشواط ثم رجع إلى أهله, أما إذا طاف جنبا فعليه أن يعود إلى مكة لا محالة هو العزيمة, وبإحرام جديد حتى يعيد الطواف, أما وجوب العود بطريق العزيمة فلتفاحش النقصان بالجنابة فيؤمر بالعود كما لو ترك أكثر الأشواط. وأما تجديد الإحرام فلأنه حصل التحلل بالطواف مع الجنابة على أصل أصحابنا, والطهارة عن الحدث, والجنابة ليست بشرط لجواز الطواف فإذا حصل التحلل صار حلالا, والحلال لا يجوز له دخول مكة بغير إحرام, فإن لم يعد إلى مكة لكنه بعث بدنة جاز لما ذكرنا أن البدنة تجبر النقص بالجنابة؛ لأن العزيمة هو العود؛ لأن النقصان فاحش فكان العود أجبر له؛ لأنه جبر بالجنس. وأما إذا طاف محدثا أو طاف أربعة أشواط فإن, عاد وطاف جاز؛ لأنه جبر النقص بجنسه, وإن بعث شاة جاز أيضا؛ لأن النقص يسير فينجبر بالشاة, والأفضل أن يبعث بالشاة؛ لأن الشاة تجبر النقص, وتنفع الفقراء, وتدفع عنه مشقة الرجوع, وإن كان بمكة فالرجوع أفضل؛ لأنه جبر الشيء بجنسه فكان أولى, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما, واجبات الحج فخمسة :. السعي بين الصفا والمروة, والوقوف بمزدلفة, ورمي الجمار, والحلق أو التقصير, وطواف الصدر, أما السعي فالكلام فيه يقع في مواضع: في. بيان صفته, وفي بيان قدره, وفي بيان ركنه, وفي بيان شرائط جوازه, وفي بيان سننه, وفي بيان, وقته, وفي بيان حكمه إذا تأخر عن, وقته. أما الأول فقد قال أصحابنا: إنه واجب, وقال الشافعي: إنه فرض حتى لو ترك الحاج خطوة منه, وأتى أقصى بلاد المسلمين يؤمر بأن يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه, ويخطو تلك الخطوة, وقال بعض الناس: ليس بفرض ولا, واجب, واحتج هؤلاء بقوله عز وجل {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}, وكلمة لا جناح لا تستعمل في الفرائض, والواجبات, ويدل عليه قراءة أبي فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما, واحتج الشافعي بما روي عن صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال "إن الله تعالى كتب عليكم السعي بين الصفا, والمروة" أي فرض عليكم؛ إذ الكتابة عبارة عن الفرض كما في قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} و {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}, وغير ذلك, ولنا قوله عز وجل {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}, وحج البيت هو زيارة البيت لما ذكرنا فيما تقدم, فظاهره يقتضي أن يكون طواف الزيارة هو الركن لا غير, إلا أنه زيد عليه الوقوف بعرفة بدليل, فمن ادعى زيارة السعي فعليه الدليل وقول النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" فظاهره يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة كل الركن إلا أنه زيد عليه طواف الزيارة فمن ادعى زيادة السعي فعليه الدليل, وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي, وفيه إشارة إلى أنه, واجب, وليس بفرض؛ لأنها, وصفت الحج بدونه بالنقصان لا بالفساد, وفوت الواجب هو الذي يوجب النقصان, فأما فوت الفرض فيوجب الفساد, والبطلان, ولأن الفرضية إنما ثبتت بدليل مقطوع به, ولا يوجد ذلك في محل الاجتهاد إذا كان الخلاف بين أهل الديانة. وأما الآية فليس المراد منها رفع الجناح على الطواف بهما مطلقا بل على الطواف بهما لمكان الأصنام التي كانت هنالك, لما قيل إنه كان بالصفا صنم, وبالمروة صنم, وقيل كان بين الصفا, والمروة أصنام فتحرجوا عن الصعود عليهما, والسعي بينهما احترازا عن التشبه بعبادة الأصنام, والتشبه بأفعال الجاهلية فرفع الله عنهم الجناح بالطواف بهما أو بينهما مع كون الأصنام هنالك. وأما قراءة أبي رضي الله عنه فيحتمل أن تكون "لا" صلة زائدة, معناه لا جناح عليه أن يطوف بينهما؛ لأن "لا" قد

 

ج / 2 ص -134-       تزاد في الكلام صلة كقوله تعالى {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} معناه أن تسجد فكان كالقراءة المشهورة في المعنى. وأما الحديث فلا يصح تعلق الشافعي به على زعمه؛ لأنه قال: روت صفية بنت فلان فكانت مجهولة لا ندري من هي, والعجب منه أنه يأبى مرة قبول المراسيل لتوهم الغلط, ويحتج بقول امرأة لا تعرف, ولا يذكر اسمها على أنه إن ثبت فلا حجة له فيه؛ لأن الكنية قد تذكر, ويراد بها الحكم قال الله تعالى {وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ} أي في حكم الله, وقال عز وجل كتب الله عليكم أي حكم الله عليكم فإن أريد بها الأول تكون حجة, وإن أريد بها الثاني لا تكون حجة؛ لأن حكم الله تعالى لا يقتصر على الفرضية, بل الوجوب, والانتداب والإباحة من حكم الله تعالى فلا يكون حجة مع الاحتمال أو نحملها على الوجوب دون الفرضية توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض, وإذا كان, واجبا فإن تركه لعذر فلا شيء عليه, وإن تركه لغير عذر لزمه دم؛ لأن هذا حكم ترك الواجب في هذا الباب أصله طواف الصدر, وأصل ذلك ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت الطواف", ورخص للحائض, بخلاف الأركان فإنها لا تسقط بالعذر؛ لأن ركن الشيء ذاته فإذا لم يأت به فلم يوجد الشيء أصلا كأركان الصلاة بخلاف الواجب, ولو ترك أربعة أشواط بغير عذر فعليه دم, والأصل أن كل ما وجب في جميعه دم يجب في أكثره دم, أصله طواف الصدر, ورمي الجمار, ولو ترك ثلاثة أشواط أطعم لكل شوط نصف صاع من بر مسكينا إلا أن يبلغه ذلك دما فله الخيار, والأصل في ذلك أن كل ما يكون في جميعه دم يكون في أقله صدقة لما نذكر إن شاء الله تعالى, ولو ترك الصعود على الصفا والمروة يكره له ذلك, ولا شيء عليه؛ لأن الصعود عليهما سنة فيكره تركه, ولكن لو ترك لا شيء عليه كما لو ترك الرمل في الطواف.

"فصل": وأما قدره فسبعة أشواط لإجماع الأمة, ولفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعد من الصفا إلى المروة شوطا, ومن المروة إلى الصفا شوطا آخر, كذا ذكر في الأصل, وقال الطحاوي: من الصفا إلى المروة, ومن المروة إلى الصفا شوط واحد, والصحيح ما ذكر في الأصل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "طاف بينهما سبعة أشواط", ولو كان كما ذكره الطحاوي لكان أربعة عشر شوطا, والدليل على أن المذهب ما قلنا أن محمدا رحمه الله ذكر في الأصل فقال يبتدئ بالصفا, ويختم بالمروة, وعلى ما ذكره الطحاوي يقع الختم بالصفا لا بالمروة فدل أن مذهب أصحابنا ما ذكرنا.

"فصل": وأما ركنه فكينونته بين الصفا, والمروة, سواء كان بفعل نفسه أو بفعل غيره عند عجزه عن السعي بنفسه بأن كان مغمى عليه أو مريضا فسعى به محمولا أو سعى راكبا لحصوله كائنا بين الصفا, والمروة, وإن كان قادرا على المشي بنفسه فحمل أو ركب يلزمه الدم؛ لأن السعي بنفسه عند القدرة على المشي, واجب فإذا تركه فقد ترك الواجب من غير عذر فيلزمه الدم كما لو ترك المشي في الطواف من غير عذر.

 

ج / 2 ص -135-       فيجب عليه أن يعود بعد ستة من الصفا إلى المروة حتى يتم سبعة. وأما الطهارة عن الجنابة, والحيض فليست بشرط فيجوز سعي الجنب, والحائض بعد أن كان طوافه بالبيت على الطهارة عن الجنابة, والحيض؛ لأن هذا نسك غير متعلق بالبيت فلا تشترط له الطهارة عن الجنابة والحيض, كالوقوف, إلا أنه يشترط أن يكون الطواف على الطهارة عن الجنابة والحيض؛ لأن السعي مرتب عليه ومن توابعه, والطواف مع الجنابة والحيض لا يعتد به حتى تجب إعادته فكذا السعي الذي هو من توابعه ومرتب عليه فإذا كان طوافه على الطهارة عن الحدثين فقد وجد شرط جوازه فجاز, وجاز سعي الجنب, والحائض تبعا له لوجود شرط جواز الأصل؛ إذ التبع لا يفرد بالشرط بل يكفيه شرط الأصل فصار الحاصل أن حصول الطواف على الطهارة عن الجنابة والحيض من شرائط جواز السعي, فإن كان طاهرا وقت الطواف جاز السعي, سواء كان طاهرا وقت السعي, أو لا, وإن لم يكن طاهرا, وقت الطواف لم يجز سعيه رأسا, سواء كان طاهرا, أو لم يكن, والله أعلم.

"فصل": وأما سننه فالرمل في بعض كل شوط, والسعي في البعض, وسنذكرها في بيان سنن الحج؛ لأنها من السنن لا من الواجبات حتى لو رمل في الكل أو سعى في الكل لا شيء عليه لكنه يكون مسيئا لتركه السنة, والله أعلم.

"فصل": وأما وقته فوقته الأصلي يوم النحر بعد طواف الزيارة لا بعد طواف اللقاء؛ لأن ذلك سنة, والسعي واجب فلا ينبغي أن يجعل الواجب تبعا للسنة ' فأما طواف الزيارة ففرض, والواجب يجوز أن يجعل تبعا للفرض إلا أنه رخص السعي بعد طواف اللقاء, وجعل ذلك, وقتا له ترفيها بالحاج, وتيسيرا له لازدحام الاشتغال له يوم النحر فأما وقته الأصلي فيوم النحر عقيب طواف الزيارة لما قلنا, والله أعلم.

 

ج / 2 ص -136-       للحج بدونه, وهذا خلاف الحديث, وظاهر الحديث يقتضي أن يكون الركن هو الوقوف بعرفة لا غير, إلا أن طواف الزيارة عرف ركنا بدليل آخر, وهو ما ذكرنا فيما تقدم, ولأن ترك الوقوف بمزدلفة جائز لعذر على ما نبين, ولو كان فرضا لما جاز تركه أصلا كسائر الفرائض فدل أنه ليس بفرض بل هو واجب إلا أنه قد يسقط وجوبه لعذر من ضعف أو مرض أو حيض أو نحو ذلك حتى لو تعجل ولم يقف: لا شيء عليه, وأما الآية فقد قيل في تأويلها: إن المراد من الذكر هو صلاة المغرب والعشاء بمزدلفة, وقيل: هو الدعاء, وفرضيتها لا تقتضي فرضية الوقوف, على أن مطلق الأمر للوجوب لا للفرضية بل الفرضية ثبتت بدليل زائد, والله أعلم.

"فصل": وأما ركنه فكينونته بمزدلفة, سواء كان بفعل نفسه, أو بفعل غيره بأن كان محمولا, وهو نائم أو مغمى عليه, أو كان على دابة لحصوله كائنا بها, وسواء علم بها أو لم يعلم لما قلنا, ولأن الفائت ليس إلا النية, وإنها ليست بشرط كما في الوقوف بعرفة, وسواء وقف أو مر مارا لحصوله كائنا بمزدلفة, وإن قل, ولا تشترط له الطهارة عن الجنابة والحيض؛ لأنه عبادة لا تتعلق بالبيت فتصح من غير طهارة كالوقوف بعرفة, ورمي الجمار, والله أعلم.

"فصل": وأما مكانه فجزء من أجزاء مزدلفة, أي جزء كان, وله أن ينزل في أي موضع شاء منها إلا أنه لا ينبغي أن ينزل في, وادي محسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم "عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة, ومزدلفة كلها موقف إلا, وادي محسر". وروي أنه قال "مزدلفة كلها موقف, وارتفعوا عن المحسر" فيكره النزول فيه, ولو, وقف به أجزأه مع الكراهة, والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام على الجبل الذي يقف عليه الإمام, وهو الجبل الذي يقال له قزح؛ لأنه روي أنه صلى الله عليه وسلم وقف عليه, وقال "خذوا عني مناسككم", ولأنه يكون أقرب إلى الإمام فيكون أفضل, والله أعلم.

 

ج / 2 ص -137-       المباح مباحا في حقه, وهذا لا يجوز, فأما القول بالوجوب عملا مع الاعتقاد مبهما أن ما أراد الله تعالى به فهو حق مما لا ضرر فيه؛ لأنه إن كان, واجبا يخرج عن العهدة بفعله, وإن لم يكن, واجبا يثاب على فعله فكان ما قلناه احترازا عن الضرر بقدر الإمكان, وإنه, واجب عقلا, وشرعا, والله أعلم.

"فصل": وأما تفسير رمي الجمار فرمي الجمار في اللغة هو القذف بالأحجار الصغار, وهي الحصى إذ الجمار جمع جمرة, والجمرة هي الحجر الصغير, وهي الحصاة, وفي عرف الشرع هو القذف بالحصى في زمان مخصوص, ومكان مخصوص, وعدد مخصوص على ما نبين إن شاء الله تعالى, وعلى هذا يخرج ما إذا قام عند الجمرة, ووضع الحصاة عندها, وضعا أنه لم يجزه لعدم الرمي, وهو القذف, وإن طرحها طرحا أجزأه لوجود الرمي إلا أنه رمي خفيف فيجزئه, وسواء رمى بنفسه أو بغيره عند عجزه عن الرمي بنفسه كالمريض الذي لا يستطيع الرمي فوضع الحصى في كفه فرمى بها أو رمى عنه غيره؛ لأن أفعال الحج تجري فيها النيابة كالطواف والوقوف بعرفة ومزدلفة, والله أعلم.

"فصل": وأما, وقت الرمي فأيام الرمي أربعة: يوم النحر, وثلاثة أيام التشريق, أما يوم النحر فأول, وقت الرمي, منه ما بعد طلوع الفجر, الثاني من يوم النحر فلا يجوز قبل طلوعه, وأول وقته المستحب ما بعد طلوع الشمس قبل الزوال, وهذا عندنا, وقال الشافعي إذا انتصف ليلة النحر دخل وقت الجمار كما قال في الوقوف بعرفة, ومزدلفة فإذا طلعت الشمس, وجب, وقال سفيان الثوري لا يجوز قبل طلوع الشمس, والصحيح قولنا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قدم ضعفة أهله ليلة المزدلفة, وقال صلى الله عليه وسلم لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين" نهى عن الرمي قبل الصبح. وروي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلطح أفخاذ أغيلمة بني عبد المطلب, وكان يقول لهم لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين". فإن قيل قد روي أنه قال لا ترموا جمرة العقبة حتى تطلع الشمس, وهذا حجة سفيان فالجواب أن ذلك محمول على بيان الوقت المستحب توفيقا بين الروايتين بقدر الإمكان, وبه نقول إن المستحب ذلك. وأما آخره فآخر النهار كذا قال أبو حنيفة إن وقت الرمي يوم النحر يمتد إلى غروب الشمس, وقال أبو يوسف يمتد إلى وقت الزوال فإذا زالت الشمس يفوت الوقت, ويكون فيما بعده قضاء, وجه قول أبي يوسف أن أوقات العبادة لا تعرف إلا بالتوقيف, والتوقيف ورد بالرمي في يوم النحر قبل الزوال فلا يكون ما بعده وقتا له أداء كما في سائر أيام النحر؛ لأنه لما جعل وقته فيها بعد الزوال لم يكن قبل الزوال وقتا له, ولأبي حنيفة الاعتبار بسائر الأيام, وهو أن في سائر الأيام ما بعد الزوال إلى غروب الشمس وقت الرمي فكذا في هذا اليوم؛ لأن هذا اليوم إنما يفارق سائر الأيام في ابتداء الرمي لا في انتهائه فكان مثل سائر الأيام في الانتهاء فكان آخره وقت الرمي كسائر الأيام, فإن لم يرم حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم الثاني أجزأه ولا شيء عليه في قول أصحابنا, وللشافعي فيه قولان, في قول: إذا غربت الشمس فقد فات الوقت وعليه الفدية, وفي قول: لا يفوت إلا في آخر أيام التشريق, والصحيح قولنا لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أذن للرعاء أن يرموا بالليل", ولا يقال إنه رخص لهم ذلك لعذر؛ لأنا نقول ما كان لهم عذر؛ لأنه كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي بالنهار فيرمي فثبت أن الإباحة كانت لعذر فيدل على الجواز مطلقا فلا يجب الدم, فإن أخر الرمي حتى طلع الفجر من اليوم الثاني رمى, وعليه دم للتأخير في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف, ومحمد لا شيء عليه, والكلام فيه يرجع إلى أن الرمي مؤقت عنده, وعندهما ليس بمؤقت, وهو قول الشافعي, وهو على الاختلاف الذي ذكرنا في طواف الزيارة في أيام النحر أنه مؤقت بها وجوبا عنده حتى يجب الدم بالتأخير عنها, وعندهم ليس بمؤقت أصلا فلا يجب بالتأخير شيء, والحجج من الجانبين, وجواب أبي حنيفة عن تعلقهما بالخبر, والمعنى ما ذكرنا في الطواف, والله أعلم.

 

ج / 2 ص -138-       الرمي في يوم النحر فكذا في اليوم الثاني والثالث؛ لأن الكل أيام النحر, وجه الرواية المشهورة ما روي عن جابر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى, ورمى في بقية الأيام بعد الزوال", وهذا باب لا يعرف بالقياس بل بالتوقيف, فإن أخر الرمي فيهما إلى الليل فرمى قبل طلوع الفجر جاز, ولا شيء عليه؛ لأن الليل وقت الرمي في أيام الرمي لما روينا من الحديث فإذا رمى في اليوم الثاني من أيام التشريق بعد الزوال فأراد أن ينفر من منى إلى مكة, وهو المراد من النفر الأول فله ذلك لقوله تعالى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} أي من نفر إلى مكة بعدما رمى يومين من أيام التشريق, وترك الرمي في اليوم الثالث فلا إثم عليه في تعجيله, والأفضل أن لا يتعجل بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق, وهو اليوم الثالث منها فيستوفي الرمي في الأيام كلها ثم ينفر, وهو المعني من النفر الثاني, وذلك معنى قوله تعالى {وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, وفي ظاهر هذه الآية الشريفة إشكال من وجهين: أحدهما أنه ذكر قوله تعالى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} في المتعجل, والمتأخر جميعا, وهذا إن كان يستقيم في حق المتعجل؛ لأنه يترخص لا يستقيم في حق المتأخر؛ لأنه أخذ بالعزيمة والأفضل, والثاني أنه قال تعالى في المتأخر {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى} قيده بالتقوى, وهذا التقييد بالمتعجل أليق؛ لأنه أخذ بالرخصة, ولم يذكر فيه هذا التقييد, والجواب عن الإشكال الأول ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية فمن تعجل في يومين غفر له, ومن تأخر غفر له وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} رجع مغفورا له, وأما قوله تعالى {لِمَنِ اتَّقَى} فهو بيان أن ما سبق من وعد المغفرة للمتعجل والمتأخر بشرط التقوى, ثم من أهل التأويل من صرف التقوى إلى الاتقاء عن قتل الصيد في الإحرام أي لمن اتقى قتل الصيد في حال الإحرام, وصرف أيضا قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي فاتقوا الله ولا تستحلوا قتل الصيد في الإحرام, ومنهم من صرف التقوى إلى الاتقاء عن المعاصي كلها في الحج, وفيما بقي من عمره, ويحتمل أن يكون المراد منه التقوى عما حظر عليه الإحرام من الرفث, والفسوق, والجدال, وغيرها, والله أعلم. وإنما يجوز له النفر في اليوم الثاني والثالث ما لم يطلع الفجر من اليوم الثاني فإذا طلع الفجر لم يجز له النفر. وأما وقت الرمي من اليوم الثالث من أيام التشريق, وهو اليوم الرابع من أيام الرمي فالوقت المستحب له بعد الزوال, ولو رمى قبل الزوال يجوز في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف, ومحمد لا يجوز, واحتجا بما روي عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى, ورمى في بقية الأيام بعد الزوال", وأوقات المناسك لا تعرف قياسا فدل أن وقته بعد الزوال, ولأن هذا يوم من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق, ولأبي حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز الرمي, والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى الله عليه وسلم إذ هو باب لا يدرك بالرأي, والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب, ولأن له أن ينفر قبل الرمي, ويترك الرمي في هذا اليوم رأسا فإذا جاز له ترك الرمي أصلا فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى, والله أعلم.

"فصل": وأما مكان الرمي ففي يوم النحر عند جمرة العقبة, وفي الأيام الأخر عند ثلاثة مواضع: عند الجمرة الأولى, والوسطى, والعقبة, ويعتبر في ذلك كله مكان وقوع الجمرة لا مكان الرمي حتى لو رماها من مكان بعيد فوقعت الحصاة عند الجمرة أجزأه, وإن لم تقع عنده لم تجزها إلا إذا, وقعت بقرب منها؛ لأن ما يقرب من ذلك المكان كان في حكمه لكونه تبعا له, والله أعلم.

"فصل": وأما الكلام في عدد الجمار وقدرها, وجنسها, ومأخذها, ومقدار ما يرمى كل يوم عند كل موضع, وكيفية الرمي, وما يسن في ذلك, وما يستحب, وما يكره فيأتي إن شاء الله تعالى في بيان سنن أفعال الحج, والله أعلم.

 

ج / 2 ص -139-       يبلغ دما. والأصل أن ما يجب في جميعه دم يجب في أقله صدقة لما نذكر إن شاء الله تعالى, وههنا لو ترك جميع الرمي إلى الغد كان عليه دم عند أبي حنيفة فإذا ترك أقله تجب عليه الصدقة إلا أن يبلغ دما لما نذكر, وإن ترك الأكثر منها فعليه دم في قول أبي حنيفة؛ لأن في جميعه دم عنده فكذا في أكثره, وعند أبي يوسف, ومحمد لا يجب في جميعه دم فكذا في أكثره, فإن ترك رمي أحد الجمار الثلاث من اليوم الثاني فعليه صدقة؛ لأنه ترك أقل, وظيفة اليوم, وهو رمي سبع حصيات فكان صدقة إلى أن يصير المتروك أكثر من نصف الوظيفة؛ لأن وظيفة كل يوم ثلاث جمار فكان رمي جمرة منها أقلها. ولو ترك الكل, وهو الجمار الثلاث فيه للزمه عنده دم فيجب في أقلها الصدقة بخلاف اليوم الأول, وهو يوم النحر إذا ترك الجمرة فيه, وهو سبع حصيات أنه يلزمه دم عنده؛ لأن سبع حصيات كل, وظيفة اليوم الأول فكان تركه بمنزلة ترك كل, وظيفة اليوم الثاني والثالث, وذلك أحد وعشرون حصاة, وترك ثلاث حصيات فيه بمنزلة ترك جمرة تامة من اليوم الثاني والثالث, وهي سبع حصيات, فإن ترك الرمي كله في سائر الأيام إلى آخر أيام الرمي, وهو اليوم الرابع فإنه يرميها فيه على الترتيب, وعليه دم عنده, وعندهما لا دم عليه لما بينا أن الرمي مؤقت عنده, وعندهما ليس بمؤقت ثم على قوله لا يلزمه إلا دم واحد, وإن كان ترك وظيفة يوم واحد بانفراده يوجب دما واحدا, ومع ذلك لا يجب عليه لتأخير الكل إلا دم واحد؛ لأن جنس الجناية واحد, حظرها إحرام واحد من جهة غير متقومة فيكفيها دم واحد كما لو حلق المحرم ربع رأسه أنه يجب عليه دم واحد, ولو حلق جميع رأسه يلزمه دم واحد أيضا. وكذا لو طيب عضوا واحدا أو طيب أعضاءه كلها أو لبس ثوبا واحدا أو لبس ثيابا كثيرة لا يلزمه في ذلك كله إلا دم واحد كذا ههنا, بخلاف ما إذا قتل صيودا أنه يجب عليه لكل صيد جزاؤه على حدة؛ لأن الجهة هناك متقومة, فإن ترك الكل حتى غربت الشمس من آخر أيام التشريق, وهو آخر أيام الرمي يسقط عنه الرمي, وعليه دم واحد في قولهم جميعا. أما سقوط الرمي فلأن الرمي عبادة مؤقتة, والأصل في العبادات المؤقتة إذا فات وقتها أن تسقط, وإنما القضاء في بعض العبادات المؤقتة يجب بدليل مبتدأ, ثم إنما وجب هناك لمعنى لا يوجد ههنا, وهو أن القضاء صرف ما له إلى ما عليه فيستدعي أن يكون جنس الفائت مشروعا في وقت القضاء فيمكنه صرف ما له إلى ما عليه, وهذا لا يوجد في الرمي؛ لأنه ليس في غير هذه الأيام رمي مشروع على هيئة مخصوصة ليصرف ما له إلى ما عليه فتعذر القضاء فسقط ضرورة, ونظير هذا إذا فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في غيرها أنه يقضيها بلا تكبير؛ لأنه ليس في وقت القضاء تكبير مشروع ليصرف ما له إلى ما عليه فسقط أصلا كذا هذا. وأما وجوب الدم فلتركه الواجب عن وقته, أما عند أبي حنيفة فظاهر؛ لأن رمي كل يوم مؤقت, وعندهما إن لم يكن مؤقتا فهو مؤقت بأيام الرمي فقد ترك الواجب عن وقته فإن ترك الترتيب في اليوم الثاني فبدأ بجمرة العقبة فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي المسجد ثم ذكر ذلك في يومه فإنه ينبغي أن يعيد الوسطى وجمرة العقبة, وإن لم يعد أجزأه, ولا يعيد الجمرة الأولى, أما إعادة الوسطى وجمرة العقبة فلتركه الترتيب, فإنه مسنون؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم رتب فإذا ترك المسنون تستحب الإعادة, ولا يعيد الأولى؛ لأنه إذا أعاد الوسطى والعقبة صارت هي الأولى, وإن لم يعد الوسطى والعقبة أجزأه؛ لأن الرميات مما يجوز أن ينفرد بعضها من بعض بدليل أن يوم النحر يرمى فيه جمرة العقبة, ولا يرمى غيرها من الجمار, وفيما جاز أن ينفرد البعض من البعض لا يشترط فيه الترتيب كالوضوء, بخلاف ترتيب السعي على الطواف أنه شرط؛ لأن السعي لا يجوز أن ينفرد عن الطواف بحال, فإن رمى كل جمرة بثلاث حصيات ثم ذكر ذلك فإنه يبدأ فيرمي الأولى بأربع حصيات حتى يتم ذلك؛ لأن رمي تلك الجمرة غير مرتب على غيره فيجب عليه أن يتم ذلك بأربع حصيات ثم يعيد الوسطى بسبع حصيات؛ لأن قدر ما فعل حصل قبل الأولى فيعيد مراعاة للترتيب. ألا ترى أنه لو فعل الكل يعيد فإذا رمى الثلاث أولى أن يعيد, وكذلك جمرة العقبة, فإن كان قد رمى كل واحدة بأربع حصيات فإنه يرمي كل واحدة بثلاث, ثلاث لأن الأربع أكثر الرمي فيقوم مقام الكل فصار كأنه رتب الثاني

 

ج / 2 ص -140-       على رمي كامل. وكذا الثالث, وإن استقبل رميها فهو أفضل ليكون الرمي في الثلاث البواقي على الوجه المسنون, وهو الترتيب, ولو نقص حصاة لا يدري من أيتهن نقصها أعاد على كل واحد منهن حصاة إسقاطا للواجب عن نفسه بيقين كمن ترك صلاة واحدة من الصلوات الخمس لا يدري أيتها هي: أنه يعيد خمس صلوات ليخرج عن العهدة بيقين كذا هذا, والله أعلم.

"فصل": وأما الحلق أو التقصير فالكلام فيه يقع في. وجوبه, وفي بيان مقدار الواجب, وفي بيان زمانه, ومكانه, وفي بيان حكمه إذا وجد, وفي بيان حكم تأخره عن وقته, وفعله في غير مكانه. أما الأول فالحلق أو التقصير واجب عندنا إذا كان على رأسه شعر لا يتحلل بدونه, وعند الشافعي ليس بواجب, ويتحلل من الحج بالرمي, ومن العمرة بالسعي, احتج عما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله عنه خطب بعرفة, وعلمهم أمر الحج فقال لهم: إذا جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على الحاج إلا النساء, والطيب حتى يطوف بالبيت, ولنا قوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن التفث حلاق الشعر, ولبس الثياب, وما يتبع ذلك, وهو قول أهل التأويل إنه حلق الرأس, وقص الأظافر, والشارب, ولأن التفث في اللغة الوسخ يقال: امرأة تفثة إذا كانت خبيثة الرائحة وقوله تعالى {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} قيل في بعض وجوه التأويل: إن قوله لتدخلن خبر بصيغته, ومعناه الأمر أي ادخلوا المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين فيقتضي وجوب الدخول بصفة الحلق أو التقصير؛ لأن مطلق الأمر لوجوب العمل, والاستثناء على هذا التأويل يرجع إلى قوله: {آمِنِينَ} أي إن شاء الله أن تأمنوا تدخلوا, وإن شاء لا تأمنوا لا تدخلونه, وإن كانت الآية على الإخبار والوعد على ما يقتضيه ظاهر الصيغة فلا بد, وأن يكون المخبر به على ما أخبر, وهو دخولهم محلقين ومقصرين, وذلك متعلق باختيارهم. وقد يوجد وقد لا يوجد فلا بد من الدخول ليكون الوجوب حاملا لهم على التحصيل فيوجد المخبر به ظاهرا, وغالبا فالاستثناء على هذا التأويل يكون على طريق التيمن والتبرك باسم الله تعالى, أو يرجع إلى دخول بعضهم دون بعض لجواز أن يموت البعض أو يمنع بمانع فيحمل عليه لئلا يؤدي إلى الخلف في الخبر, وقوله {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} أي: بعضكم محلقين, وبعضكم مقصرين لإجماعنا على أنه لا يجمع بين الحلق, والتقصير فدل أن الحلق أو التقصير, واجب, لكن الحلق أفضل؛ لأنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "دعا للمحلقين ثلاثا, وللمقصرين مرة واحدة فقال: اللهم اغفر للمحلقين, فقيل له: والمقصرين, فقال: اللهم اغفر للمحلقين, فقيل له: والمقصرين, فقال: اللهم اغفر للمحلقين, والمقصرين, ولأن في الحلق تقصيرا وزيادة, ولا حلق في التقصير أصلا, فكان الحلق أفضل. وأما حديث عمر رضي الله عنه فيضمر فيه الحلق أو التقصير, معناه فمن رمى الجمرة, وحلق أو قصر فقد حل, ويجب حمله على هذا ليكون موافقا للكتاب, هذا إذا كان على رأسه شعر, فأما إذا لم يكن: أجرى الموسى على رأسه لما روي عن ابن عمر أنه قال: من جاء يوم النحر ولم يكن على رأسه شعر أجرى الموسى على رأسه, والقدوري رواه مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا عجز عن تحقيق الحلق فلم يعجز عن التشبه بالحالقين. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من تشبه بقوم فهو منهم", فإن حلق رأسه بالنورة أجزأه والموسى أفضل, أما الجواز فلحصول المقصود, وهو إزالة الشعر. وأما أفضلية الحلق بالموسى فلقوله تعالى {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} وإطلاق اسم الحلق يقع على الحلق بالموسى. وكذا "النبي صلى الله عليه وسلم حلق بالموسى, وكان يختار من الأعمال أفضلها", وهذا إذا لم يكن محصرا, فأما المحصر فلا حلق عليه في قول أبي حنيفة, ومحمد, وفي قول أبي يوسف: عليه الحلق, وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى في بيان أحكام الإحصار. ولو وجب عليه الحلق, والتقصير فغسل رأسه بالخطمي مقام الحلق, لا يقوم مقامه, وعليه الدم لغسل رأسه بالخطمي في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف, ومحمد لا دم عليه, ذكر الطحاوي الخلاف, وقال الجصاص: لا أعرف فيه خلافا, والصحيح أنه يلزمه الدم؛ لأن الحلق أو التقصير, واجب لما ذكرنا فلا يقع التحلل إلا بأحدهما, ولم

 

ج / 2 ص -141-       يوجد فكان إحرامه باقيا فإذا غسل رأسه بالخطمي فقد أزال التفث في حال قيام الإحرام فيلزمه الدم, والله أعلم. ولا حلق على المرأة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليس على النساء حلق, وإنما عليهن تقصير", وروت عائشة رضي الله عنها أن "النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تحلق رأسها", ولأن الحلق في النساء مثلة, ولهذا لم تفعله واحدة من نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكنها تقصر فتأخذ من أطراف شعرها قدر أنملة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سئل فقيل له: كم تقصر المرأة ؟, فقال: مثل هذه, وأشار إلى أنملته, وليس على الحاج إذا حلق أن يأخذ من لحيته شيئا, وقال الشافعي إذا حلق ينبغي أن يأخذ من لحيته شيئا لله تعالى, وهذا ليس بشيء؛ لأن الواجب حلق الرأس بالنص الذي تلونا, ولأن حلق اللحية من باب المثلة؛ لأن الله تعالى زين الرجال باللحى, والنساء بالذوائب على ما روي في الحديث "إن لله تعالى ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى, والنساء بالذوائب", ولأن ذلك تشبه بالنصارى فيكره.

"فصل": وأما مقدار الواجب, فأما الحلق فالأفضل حلق جميع الرأس لقوله عز وجل {مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ}, والرأس اسم للجميع. وكذا روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق جميع رأسه" فإنه روي "أنه رمى ثم ذبح ثم دعا بالحلاق فأشار إلى شقه الأيمن فحلقه, وفرق شعره بين الناس ثم أشار إلى الأيسر فحلقه وأعطاه لأم سليم". وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم "أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح" ثم الحلق والحلق المطلق يقع على حلق جميع الرأس, ولو حلق بعض الرأس, فإن حلق أقل من الربع لم يجزه, وإن حلق ربع الرأس أجزأه, ويكره. أما الجواز فلأن ربع الرأس يقوم مقام كله في القرب المتعلقة بالرأس كمسح ربع الرأس في باب الوضوء. وأما الكراهة فلأن المسنون هو حلق جميع الرأس لما ذكرنا, وترك المسنون مكروه, وأما التقصير فالتقدير فيه بالأنملة لما روينا من حديث عمر رضي الله عنه لكن أصحابنا قالوا: يجب أن يزيد في التقصير على قدر الأنملة؛ لأن الواجب هذا القدر من أطراف جميع الشعر, وأطراف جميع الشعر لا يتساوى طولها عادة بل تتفاوت فلو قصر قدر الأنملة لا يصير مستوفيا قدر الأنملة من جميع الشعر بل من بعضه فوجب أن يزيد عليه حتى يستيقن باستيفاء قدر الواجب فيخرج عن العهدة بيقين.

"فصل": وأما بيان زمانه, ومكانه فزمانه أيام النحر, ومكانه الحرم, وهذا قول أبي حنيفة إن الحلق يختص بالزمان, والمكان, وقال أبو يوسف لا يختص بالزمان, ولا بالمكان, وقال محمد يختص بالمكان لا بالزمان, وقال زفر يختص بالزمان لا بالمكان حتى لو أخر الحلق عن أيام النحر أو حلق خارج الحرم يجب عليه الدم في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف لا دم عليه فيهما جميعا, وعند محمد يجب عليه الدم في المكان, ولا يجب في الزمان, وعند زفر يجب في الزمان, ولا يجب في المكان احتج زفر بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق عام الحديبية, وأمر أصحابه بالحلق", وحديبية من الحل فلو اختص بالمكان, وهو الحرم لما جاز في غيره, ولو كان كذلك لما فعل بنفسه, ولما أمر أصحابه فدل أن الحلق لا يختص جوازه بالمكان, وهو الحرم, وهذا أيضا حجة أبي يوسف في المكان, ولأبي يوسف, ومحمد في أنه لا يختص بزمان ما روي "أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: حلقت قبل أن أذبح فقال صلى الله عليه وسلم: اذبح, ولا حرج, وجاءه آخر فقال ذبحت قبل أن أرمي, فقال: ارم, ولا حرج" فما سئل في ذلك اليوم عن تقديم نسك, وتأخيره إلا قال: افعل, ولا حرج ولأبي حنيفة "أنه صلى الله عليه وسلم حلق في أيام النحر في الحرم" فصار فعله بيانا لمطلق الكتاب, ويجب عليه بتأخيره دم عنده؛ لأن تأخير الواجب بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر لما ذكرنا في طواف الزيارة. وأما حديث الحديبية فقد ذكرنا أن الحديبية بعضها من الحل, وبعضها من الحرم فيحتمل أنهم حلقوا في الحرم فلا يكون حجة مع الاحتمال مع ما أنه روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نزل بالحديبية في الحل, وكان يصلي في الحرم" فالظاهر أنه لم يحلق في الحل, وله سبيل الحلق في الحرم, وأما الحديث الآخر فنقول بموجبه: إنه لا حرج في التأخير عن المكان والزمان, وهو الإثم لكن انتفاء الإثم لا يوجب انتفاء الكفارة كما في كفارة الحلق عند الأذى وكفارة قتل الخطأ, ولو لم يحلق حتى خرج من الحرم ثم عاد إلى الحرم

 

ج / 2 ص -142-       فحلق أو قصر فلا دم عليه لوجود الشرط على قول من يجعل المكان شرطا.

"فصل": وأما حكم الحلق فحكمه حصول التحلل, وهو صيرورته حلالا يباح له جميع ما حظر عليه الإحرام إلا النساء, وهذا قول أصحابنا, وقال مالك إلا النساء, والطيب, وقال الليث إلا النساء, والصيد, وقال الشافعي يحل له بالحلق الوطء فيما دون الفرج, والمباشرة, احتج مالك بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا حلقتم فقد حل لكم كل شيء إلا النساء, والطيب", والصحيح قولنا لما روي عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من رمى ثم ذبح ثم حلق فقد حل له كل شيء إلا النساء", والحديث حجة على الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه حل له كل شيء, واستثنى النساء فبقي الطيب والصيد داخلين تحت نص المستثنى منه, وهو إحلال ما سوى النساء, وخرج الوطء فيما دون الفرج, والمباشرة عن الإحلال بنص الاستثناء. وأما حديث عمر "فقيل: إنه لما بلغ عائشة رضي الله عنها قالت يغفر الله لهذا الشيخ لقد طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين حلق".

"فصل": وأما حكم تأخيره عن زمانه, ومكانه فوجوب الدم عند أبي حنيفة وأبو يوسف خالفه في الزمان والمكان ومحمد, وافقه في المكان لا في الزمان, وزفر, وافقه في الزمان لا في المكان على ما ذكرنا, والله أعلم.

 

ج / 2 ص -143-       لا إلى بدل" فدل أنه غير واجب عليهن إذ لو كان واجبا لما جاز تركه لا إلى بدل, وهو الدم فأما الطهارة عن الحدث, والجنابة فليست بشرط للوجوب, ويجب على المحدث والجنب؛ لأنه يمكنهما إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا, والله أعلم.

"فصل": وأما شرائط جوازه فمنها النية؛ لأنه عبادة فلا بد له من النية, فأما تعيين النية فليس بشرط حتى لو طاف بعد طواف الزيارة لا يعين شيئا أو نوى تطوعا كان للصدر؛ لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية إليه كما في صوم رمضان. ومنها أن يكون بعد طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف طوافا لا ينوي شيئا أو نوى تطوعا أو الصدر: يقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له طواف, وطواف الصدر مرتب عليه. فأما النفر على فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف للصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف آخر, فإن قيل أليس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف" فقد أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت, ولما تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به فيجب أن لا يجوز؛ إذ لم يأت بالمأمور به فالجواب أن المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة, والطواف آخر مناسكه بالبيت, وإن تشاغل بغيره. وروي عن أبي حنيفة أنه قال إذا طاف للصدر ثم أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل. وكذا الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به, والأفضل أن يعيد طاهرا, فإن لم يعد جاز, وعليه شاة إن كان جنبا؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة كما لو ترك أكثر الأشواط, وإن كان محدثا ففيه روايتان عن أبي حنيفة: في رواية عليه صدقة, وهي الرواية الصحيحة, وهو قول أبي يوسف ومحمد؛ لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين, وفي رواية عليه شاة؛ لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة, وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز, ولكن يجب عليه الدم. وكذا الطهارة عن النجاسة إلا أنه يكره, ولا شيء عليه, والفرق ما ذكرنا في طواف الزيارة, والله أعلم.

"فصل": وأما قدره, وكيفيته فمثل سائر الأطوفة, ونذكر السنن التي تتعلق به في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى.

 

ج / 2 ص -144-       له: إن أسماء قد نفست, وكانت, ولدت محمد بن أبي بكر رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه وسلم مرها فلتغتسل, ولتحرم بالحج". وكذا روي أن عائشة رضي الله عنها حاضت فأمرها بالاغتسال والإهلال بالحج, والأمر بالاغتسال في الحديثين على وجه الاستحباب دون الإيجاب؛ لأن الاغتسال عن الحيض, والنفاس لا يجب حال قيام الحيض والنفاس, وإنما كان الاغتسال أفضل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم اختاره على الوضوء لإحرامه, وكان يختار من الأعمال أفضلها. وكذا أمر به عائشة وأسماء رضي الله عنهما, ويلبس ثوبين إزارا, ورداء؛ لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثوبين إزارا, ورداء, ولأن المحرم ممنوع عن لبس المخيط, ولا بد من ستر العورة, وما يتقى به الحر والبرد, وهذه المعاني تحصل بإزار ورداء جديدين كانا أو غسيلين؛ لأن المقصود يحصل بكل, واحد منهما إلا أن الجديد أفضل؛ لأنه أنظف, وينبغي لولي من أحرم من الصبيان العقلاء أن يجرده, ويلبسه ثوبين إزارا ورداء؛ لأن الصبي في مراعاة السنن كالبالغ. , ويدهن بأي دهن شاء, ويتطيب بأي طيب شاء سواء كان طيبا تبقى عينه بعد الإحرام أو لا تبقى في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وهو قول محمد أولا, ثم رجع, وقال: يكره له أن يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الإحرام. وحكي عن محمد في سبب رجوعه أنه قال: كنت لا أرى به بأسا حتى رأيت قوما أحضروا طيبا كثيرا, ورأيت أمرا شنيعا فكرهته, وهو قول مالك, احتج محمد بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: اغسل عنك هذا الخلوف". وروي عن عمر, وعثمان رضي الله عنهما أنهما كرها ذلك, ولأنه إذا بقي عينه ينتقل من الموضع الذي طيبه إلى موضع آخر فيصير كأنه طيب ذلك الموضع ابتداء بعد الإحرام, ولأبي حنيفة, وأبي يوسف ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم, ولإحلاله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت, ولقد رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إحرامه", ومعلوم أن وبيص الطيب إنما يتبين مع بقاء عينه فدل أن الطيب كان بحيث تبقى عينه بعد الإحرام, ولأن التطيب بعد حصل مباحا في الابتداء لحصوله في غير حال الإحرام, والبقاء على التطيب لا يسمى تطيبا فلا يكره كما إذا حلق رأسه ثم أحرم. وأما حديث الأعرابي فهو محمول على ما إذا كان عليه ثوب مزعفر, والرجل يمنع من المزعفر في غير حال الإحرام ففي حال الإحرام أولى, حملناه على هذا توفيقا بين الحديثين بقدر الإمكان. وأما حديث عمر, وعثمان فقد روي عن ابن عمر, وعائشة رضي الله عنهما بخلافه فوقع التعارض فسقط الاحتجاج بقولهما, وما ذكر من معنى الانتقال إلى مكان آخر غير سديد؛ لأن اعتباره يوجب الجزاء لو انتقل, وليس كذلك بالإجماع. ولو ابتدأ الطيب بعد الإحرام فوجبت عليه الكفارة فكفر, وبقي عليه هل يلزمه كفارة أخرى ببقاء الطيب عليه, اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: يلزمه كفارة أخرى؛ لأن ابتداء الإحرام كان محظورا لوجوده في حال الإحرام فكذا البقاء عليه بخلاف المسألة الأولى, وقال بعضهم لا يلزمه كفارة أخرى؛ لأن حكم الابتداء قد سقط عنه بالكفارة, والبقاء على الطيب لا يوجب الكفارة كما في المسألة الأولى ويلبس ثوبين إزارا, ورداء؛ لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس ثوبين إزارا, ورداء, ولأن المحرم ممنوع عن لبس المخيط, ولا بد من ستر العورة, وما يتقى به الحر والبرد, وهذه المعاني تحصل بإزار ورداء جديدين كانا أو غسيلين؛ لأن المقصود يحصل بكل, واحد منهما إلا أن الجديد أفضل؛ لأنه أنظف, وينبغي لولي من أحرم من الصبيان العقلاء أن يجرده, ويلبسه ثوبين إزارا ورداء؛ لأن الصبي في مراعاة السنن كالبالغ. , ويدهن بأي دهن شاء, ويتطيب بأي طيب شاء سواء كان طيبا تبقى عينه بعد الإحرام أو لا تبقى في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وهو قول محمد أولا, ثم رجع, وقال: يكره له أن يتطيب بطيب تبقى عينه بعد الإحرام. وحكي عن محمد في سبب رجوعه أنه قال: كنت لا أرى به بأسا حتى رأيت قوما أحضروا طيبا كثيرا, ورأيت أمرا شنيعا فكرهته, وهو قول مالك, احتج محمد بما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للأعرابي: اغسل عنك هذا الخلوف". وروي عن عمر, وعثمان رضي الله عنهما أنهما كرها ذلك, ولأنه إذا بقي عينه ينتقل من الموضع الذي طيبه إلى موضع آخر فيصير كأنه طيب ذلك الموضع ابتداء بعد الإحرام, ولأبي حنيفة, وأبي يوسف ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "طيبت رسول الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم, ولإحلاله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت, ولقد رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد إحرامه", ومعلوم أن وبيص الطيب إنما يتبين مع بقاء عينه فدل أن الطيب كان بحيث تبقى عينه بعد الإحرام, ولأن التطيب بعد حصل مباحا في الابتداء لحصوله في غير حال الإحرام, والبقاء على التطيب لا يسمى تطيبا فلا يكره كما إذا حلق رأسه ثم أحرم. وأما حديث الأعرابي فهو محمول على ما إذا كان عليه ثوب مزعفر, والرجل يمنع من المزعفر في غير حال الإحرام ففي حال الإحرام أولى, حملناه على هذا توفيقا بين الحديثين بقدر الإمكان. وأما حديث عمر, وعثمان فقد روي عن ابن عمر, وعائشة رضي الله عنهما بخلافه فوقع التعارض فسقط الاحتجاج بقولهما, وما ذكر من معنى الانتقال إلى مكان آخر غير سديد؛ لأن اعتباره يوجب الجزاء لو انتقل, وليس كذلك بالإجماع. ولو ابتدأ الطيب بعد الإحرام فوجبت عليه الكفارة فكفر, وبقي عليه هل يلزمه كفارة أخرى ببقاء الطيب عليه, اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: يلزمه كفارة أخرى؛ لأن ابتداء الإحرام كان محظورا لوجوده في حال الإحرام فكذا البقاء عليه بخلاف المسألة الأولى, وقال بعضهم لا يلزمه كفارة أخرى؛ لأن حكم الابتداء قد سقط عنه بالكفارة, والبقاء على الطيب لا يوجب الكفارة كما في المسألة الأولى. , ثم يصلي ركعتين لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أتاني آت من ربي, وأنا بالعقيق, وقال لي: صل في هذا الوادي المبارك ركعتين, وقل: لبيك بعمرة وحجة"؛ وإنما يقدم العمرة على الحج في الذكر

 

ج / 2 ص -145-       لأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول كذلك ولأن العمرة تقدم على الحج في الفعل فكذلك في الذكر ثم يلبي في دبر كل صلاة, وهو الأفضل عندنا, وقال الشافعي الأفضل أن يلبي بعد ما استوى على راحلته, وقال مالك بعد ما استوى على البيداء, وإنما اختلفوا فيه لاختلاف الرواية في أول تلبية النبي صلى الله عليه وسلم, روي عن ابن عباس رضي الله عنه "أنه لبى دبر صلاته". وروي عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه لبى حين ما استوى على راحلته". وروى جابر بن عبد الله رضي الله عنه "أنه صلى الله عليه وسلم لبى حين استوى على البيداء", وأصحابنا أخذوا برواية ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنها محكمة في الدلالة على الأولية, ورواية ابن عمر وجابر رضي الله عنهما محتملة لجواز أن ابن عمر رضي الله عنه لم يشهد تلبية النبي صلى الله عليه وسلم دبر الصلاة, وإنما شهد تلبيته حال استوائه على الراحلة فظن أن ذلك أول تلبيته فروى ما رأى, وجابر لم ير تلبيته إلا عند استوائه على البيداء فظن أنه أول تلبيته فروى ما رأى. والدليل على صحة هذا التأويل ما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس كيف اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في إهلاله؟ فقال: أنا أعلم بذلك, صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة ركعتين, وأهل بالحج, وكانت ناقته مسرجة على باب المسجد, وابن عمر عندها فرآه قوم فقالوا: أهل عقيب الصلاة ثم استوى على راحلته, وأهل فكان الناس يأتونه أرسالا فأدركه قوم, فقالوا: إنما أهل حين استوى على راحلته ثم ارتفع على البيداء فأهل فأدركه قوم فقالوا إنما أهل حين ارتفع على البيداء, وأيم الله لقد أوجبه في مصلاه, ويكثر التلبية بعد ذلك في أدبار الصلوات فرائض كانت أو نوافل, وذكر الطحاوي أنه يكثر في أدبار المكتوبات دون النوافل والفوائت, وأجراها مجرى التكبير في أيام التشريق, والمذكور في ظاهر الرواية في أدبار الصلوات عاما من غير تخصيص, ولأن فضيلة التلبية عقيب الصلاة لاتصالها بالصلاة التي هي ذكر الله عز وجل إذ الصلاة من أولها إلى آخرها ذكر الله تعالى, وهذا يوجد في التلبية عقيب كل صلاة, وكلما علا شرفا, وكلما هبط واديا, وكلما لقي ركبا, وكلما استيقظ من منامه, وبالأسحار لما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا كانوا يفعلون, ويرفع صوته بالتلبية لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أفضل الحج العج, والثج", والعج هو رفع الصوت بالتلبية, والثج هو سيلان الدم, وعن خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أتاني جبريل, وأمرني أن آمر أصحابي, ومن معي أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر الحج" أمر برفع الصوت في التلبية, وأشار إلى المعنى, وهو أنها من شعائر الحج, والسبيل في أذكار هي من شعائر الحج إشهارها, وإظهارها كالأذان ونحوه, والسنة أن يأتي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهي أن يقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك لك لبيك, إن الحمد, والنعمة لك, والملك, لا شريك لك كذا روي عن ابن مسعود, وابن عمر هذه الألفاظ في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم فالسنة أن يأتي بها, ولا ينقص شيئا منها, وإن زاد عليها فهو مستحب عندنا, وعند الشافعي لا يزيد عليها كما لا ينقص منها, وهذا غير سديد؛ لأنه لو نقص منها لترك شيئا من السنة, ولو زاد عليها فقد أتى بالسنة, وزيادة. والدليل عليه ما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم كانوا يزيدون على تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم, كان ابن مسعود رضي الله تعالى عنه يزيد: لبيك عدد التراب, لبيك لبيك ذا المعارج, لبيك لبيك إله الحق لبيك, وكان ابن عمر يزيد: لبيك وسعديك, والخير كله بيديك, لبيك والرغباء إليك, ويروى: والعمل والرغباء إليك, ولأن هذا من باب الحمد لله تعالى, والثناء عليه فالزيادة عليه تكون مستحبة لا مكروهة, ثم اختلفت الرواية في تلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة, وهي قوله: لبيك, إن الحمد, والنعمة لك. ورويت بالكسر والفتح, والكسر أصح, وهكذا ذكر محمد في الأصل أن الأفضل أن يقول بالكسر, وإنما كان كذلك؛ لأن معنى الفتح فيها يكون على التفسير أو التعليل, أي ألبي بأن الحمد لك أو ألبي لأن الحمد لك, أي لأجل أن الحمد لك, وإذا كسرتها صار ما بعدها ثناء وذكرا, مبتدأ لا تفسيرا, ولا تعليلا, فكان أبلغ في الذكر, والثناء فكان أفضل. وإذا قدم مكة فلا يضره, ليلا دخلها أو نهارا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم دخلها نهارا. وروي أنه دخلها ليلا. وكذا روي عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها دخلتها ليلا. وروي أن

 

ج / 2 ص -146-       الحسن, والحسين رضي الله تعالى عنهما دخلاها ليلا, وما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه نهى عن دخول مكة ليلا فهو محمول على نهي الشفقة مخافة السرقة كذا أوله إبراهيم النخعي, ولأنه إذا دخل ليلا لا يعرف موضع النزول فلا يدري أين ينزل, وربما نزل في غير موضع النزول فيتأذى به, ويدخل المسجد الحرام. والأفضل أن يدخل من باب بني شيبة, ويقول: اللهم افتح لي أبواب رحمتك, وأعذني من الشيطان الرجيم, وإذا, وقع نظره على البيت يقول ويخفي: سبحان الله, والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر, اللهم هذا بيتك, عظمته وشرفته وكرمته فزده تعظيما وتشريفا وتكريما, ويبدأ بالحجر الأسود فإذا استقبله كبر, ورفع يديه كما يرفعهما في الصلاة, لكن حذو منكبيه لما روي عن مكحول "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد بدأ بالحجر الأسود فاستقبله, وكبر, وهلل", وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلاة أنه قال "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن, وذكر من جملتها عند استلام الحجر الأسود" ثم يرسلهما, ويستلم الحجر إن أمكنه ذلك من غير أن يؤذي أحدا, والأفضل أن يقبله لما روي أن "عمر رضي الله تعالى عنه التزمه وقبله, وقال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا" وروي أنه قال: والله "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبلك ما قبلتك", وفي رواية أخرى, قال: "لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمك ما استلمتك ثم استلمه", وعن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استقبل الحجر فاستلمه, ثم وضع شفتيه عليه فبكى طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر يبكي, فقال له: ما يبكيك؟ فقال: يا رسول الله رأيتك تبكي فبكيت لبكائك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ههنا تسكب العبرات", وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال "طاف رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير يستلم الركن بمحجن ثم يرده إلى فيه", وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ليبعثن الحجر يوم القيامة, وله عينان يبصر بهما, وأذنان يسمع بهما, ولسان ينطق به فيشهد لمن استلمه بالحق". وروي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يستلمون الحجر ثم يقبلونه فيلتزمه ويقبله إن أمكنه ذلك من غير أن يؤذي أحدا لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه قال لعمر يا أبا حفص إنك رجل قوي, وإنك تؤذي الضعيف فإذا وجدت مسلكا فاستلم, وإلا فدع وكبر وهلل", ولأن الاستلام سنة, وإيذاء المسلم حرام, وترك الحرام أولى من الإتيان بالسنة, وإذا لم يمكنه ذلك من غير أن يؤذي استقبله وكبر وهلل وحمد الله وأثنى عليه, وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي عليه في الصلاة, ولم يذكر عن أصحابنا فيه دعاء بعينه؛ لأن الدعوات لا تحصى, وعن مجاهد أنه كان يقول: إذا أتيت الركن فقل اللهم إني أسألك إجابة دعوتك, وابتغاء رضوانك, واتباع سنة نبيك, وعن عطاء رضي الله تعالى عنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بالحجر الأسود قال أعوذ برب هذا الحجر من الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب القبر", ولا يقطع التلبية عند استلام الحجر, ويقطعها في العمرة لما نذكر إن شاء الله. ثم يفتتح الطواف, وهذا الطواف يسمى طواف اللقاء وطواف التحية, وطواف أول عهد بالبيت, وإنه سنة عند عامة العلماء. وقال مالك إنه فرض, واحتج بظاهر قوله عز وجل {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية, ولنا أنه لا يجب على أهل مكة بالإجماع, ولو كان ركنا لوجب عليهم؛ لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم, كطواف الزيارة فلما لم يجب على أهل مكة دل أنه ليس بركن. والمراد من الآية طواف الزيارة لإجماع أهل التفسير, ولأنه خاطب الكل بالطواف بالبيت, وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل, فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل على أن المراد هو طواف الزيارة. وكذا سياق الآية دليل عليه؛ لأنه أمرنا بذبح الهدايا بقوله عز وجل {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ}, وأمر بقضاء التفث, وهو الحلق, والطواف بالبيت عقيب ذبح الهدي؛ لأن كلمة "ثم" للترتيب مع التعقيب فيقتضي أن يكون الحلق والطواف مرتبين على الذبح, والذبح يختص بأيام النحر, لا يجوز قبلها فكذا الحلق, والطواف, وهو طواف الزيارة, فأما طواف اللقاء فإنه يكون سابقا على أيام

 

ج / 2 ص -147-       النحر فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف الزيارة, وبه نقول: إنه ركن, وإذا افتتح الطواف يأخذ عن يمينه مما يلي الباب فيطوف بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول, ويمشي على هيئته في الأربعة الباقية, والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي الباب فطاف بالبيت سبعة أشواط". وأما الرمل فالأصل فيه أن كل طواف بعده سعي فمن سننه الاضطباع والرمل في الثلاثة الأشواط الأول منه, وكل طواف ليس بعده سعي فلا رمل فيه, وهذا قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن الرمل في الطواف ليس بسنة, وجه قوله أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما رمل, وندب أصحابه إليه لإظهار الجلد للمشركين, وإبداء القوة لهم من أنفسهم فإنه روي أنه "دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة, وكفار قريش قد صفت عند دار الندوة ينظرون إليهم ويستضعفونهم ويقولون: أوهنتهم حمى يثرب فلما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه, ورمل ثم قال رحم الله امرأ أبدى من نفسه جلدا" وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال "رحم الله امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة", وذلك المعنى قد زال فلم يبق الرمل سنة, لكنا نقول: الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لا تكاد تصح؛ لأنه قد صح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل بعد فتح مكة وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت الطواف الأول خب ثلاثا, ومشى أربعا". وكذا أصحابه رضي الله تعالى عنهم بعده رملوا. وكذا المسلمون إلى يومنا هذا فصار الرمل سنة متواترة, فإما أن يقال: إن أول الرمل كان لذلك السبب, وهو إظهار الجلادة, وإبداء القوة للكفرة, ثم زال ذلك السبب وبقيت سنة الرمل على الأصل المعهود أن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم كالبيع, والنكاح, وغيرهما, وإما أن يقال لما رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال ذلك السبب صار الرمل سنة مبتدأة فنتبع النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك, وإن كان لا نعقل معناه, وإلى هذا أشار عمر رضي الله تعالى عنه حين رمل في الطواف, وقال: ما لي أهز كتفي, وليس ههنا أحد رأيته, لكن أتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أو قال: لكن أفعل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويرمل من الحجر إلى الحجر, وهذا قول عامة العلماء. وقال سعيد بن جبير, وعطاء, ومجاهد, وطاوس رضي الله تعالى عنهم لا يرمل بين الركن اليماني, وبين الحجر الأسود, وإنما يرمل من الجانب الآخر, وجه قولهم أن الرمل في الأصل كان لإظهار الجلادة للمشركين, والمشركون إنما كانوا يطلعون على المسلمين من ذلك الجانب. فإذا صاروا إلى الركن اليماني لم يطلعوا عليهم لصيرورة البيت حائلا بينهم وبين المسلمين, ولنا ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا من الحجر إلى الحجر, والجواب عن قولهم أن الرمل كان لإظهار القوة والجلادة, إن الرمل الأول كان لذلك. وقد زال وبقي حكمه أو صار الرمل بعد ذلك سنة مبتدأة لا لما شرع له الأول بل لمعنى آخر لا نعقله. وأما الاضطباع فلما روينا "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرمل مضطبعا بردائه", وتفسير الاضطباع بالرداء هو أن يدخل الرداء من تحت إبطه الأيمن, ويرد طرفه على يساره, ويبدي منكبه الأيمن, ويغطي الأيسر, سمي اضطباعا لما فيه من الضبع, وهو العضد لما فيه من إبداء الضبعين, وهما العضدان, فإن زوحم في الرمل وقف فإذا, وجد فرجة رمل؛ لأنه ممنوع من فعله إلا على وجه السنة فيقف إلى أن يمكنه فعله على وجه السنة, ويستلم الحجر في كل شوط يفتتح به إن استطاع من غير أن يؤذي أحدا لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان كلما مر بالحجر الأسود استلمه", ولأن كل شوط طواف على حدة فكان استلام الحجر فيه مسنونا كالشوط الأول, وإن لم يستطع استقبله وكبر وهلل. وأما الركن اليماني فلم يذكر في الأصل أن استلامه سنة, ولكنه قال: إن استلمه فحسن, وإن تركه لم يضره في قول أبي حنيفة رحمه الله, وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة, وقال محمد رحمه الله يستلمه ولا يتركه, وهذا يدل على أن استلامه سنة, ولا خلاف في أن تقبيله ليس بسنة. وقال الشافعي يستلمه, ويقبل يده, وجه قول محمد ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين, ولا يتسلم غيرهما", وعن ابن عباس

 

ج / 2 ص -148-       رضي الله عنهما قال "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم الركن اليماني, ويضع خده عليه", وجه ما ذكر في الأصل وهو أنه مستحب, وليس بمسنون أنه ليس من السنة تقبيله, ولو كان مسنونا لسن تقبيله كالحجر الأسود, وعن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن اليماني, ولم يقبله", وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة. وأما الركنان الآخران, وهما العراقي, والشامي فلا يستلمهما عند عامة الصحابة رضي الله عنهم, وهو قولنا, وعن معاوية, وزيد بن ثابت, وسويد بن غفلة رضي الله عنهم أنه يستلم الأركان الأربعة, وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى معاوية, وسويدا استلما جميع الأركان فقال ابن عباس لمعاوية: إنما يستلم هذين الركنين, فقال معاوية: ليس شيء من البيت مهجورا, والصحيح قول العامة؛ لأن الاستلام إنما عرف سنة بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم ما استلم غير الركنين لما روينا عن عمر رضي الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم هذين الركنين, ولا يستلم غيرهما", ولأن الاستلام لأركان البيت, والركن الشامي والعراقي ليسا من الأركان حقيقة؛ لأن ركن الشيء ناحيته, وهما في, وسط البيت؛ لأن الحطيم من البيت, وجعل طوافه من وراء الحطيم, فلو لم يجعل طوافه من, ورائه لصار تاركا الطواف ببعض البيت إلا أنه لا يجوز التوجه إليه في الصلاة لما ذكرنا فيما تقدم. وإذا فرغ من الطواف يصلي ركعتين عند المقام أو حيث تيسر عليه من المسجد, وركعتا الطواف واجبة عندنا, وقال الشافعي: سنة بناء على أنه لا يعرف الواجب إلا الفرض, وليستا بفرض. وقد واظب عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانتا سنة, ونحن نفرق بين الفرض والواجب, ونقول الفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به, والواجب ما ثبت وجوبه بدليل غير مقطوع به, ودليل الوجوب قوله عز وجل {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} قيل في بعض وجوه التأويل: إن مقام إبراهيم ما ظهر فيه آثار قدميه الشريفين عليه الصلاة والسلام وهو حجارة كان يقوم عليها حين نزوله وركوبه من الإبل حين كان يأتي إلى زيارة هاجر, وولده إسماعيل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم باتخاذ ذلك الموضع مصلى يصلي عنده صلاة الطواف مستقبلا الكعبة على ما روي "أن النبي عليه السلام لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني ليصلي, فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ألا نتخذ مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}, ومطلق الأمر لوجوب العمل. وروي أن "النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الطواف أتى المقام, وصلى عنده ركعتين, وتلا قوله تعالى {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وروي عن عمر رضي الله عنه أنه نسي ركعتي الطواف فقضاهما بذي طوى فدل أنها, واجبة. ثم يعود إلى الحجر الأسود فيستلمه ليكون افتتاح السعي بين الصفا, والمروة باستلام الحجر كما يكون افتتاح الطواف باستلام الحجر الأسود, والأصل فيه أن كل طواف بعده سعي فإنه يعود بعد الصلاة إلى الحجر وكل طواف لا سعي بعده لا يعود إلى الحجر, كذا روي عن عمر وابن عمر, وابن مسعود رضي الله عنهم, وعن عائشة رضي الله عنها أنه لا يعود, وإن كان بعده سعي, وهو قول عمر بن عبد العزيز, والصحيح أنه يعود, لما روي عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه صلى ركعتين خلف المقام, وقرأ فيهما آيات من سورة البقرة, وقرأ فيهما {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}, ورفع صوته يسمع الناس ثم رجع إلى الركن فاستلمه", ولأن السعي مرتب على الطواف لا يجوز قبله. ويكره أن يفصل بين الطواف, وبين السعي فصار كبعض أشواط الطواف, والاستلام بين كل شوطين سنة, وهذا المعنى لا يوجد في طواف لا يكون بعده سعي؛ لأنه إذا لم يكن بعده سعي لا يوجد الملحق له بالأشواط فلا يعود إلى الحجر ثم يخرج إلى الصفا لما روى جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم الركن, وخرج إلى الصفا, فقال: نبدأ بما بدأ الله به, وتلا قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ولم يذكر في الكتاب أنه من أي باب يخرج: من باب الصفا, أو من حيث تيسر له, وما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من باب الصفا" فذلك ليس على وجه السنة عندنا, وإنما خرج منه لقربه من الصفا أو لأمر آخر, ويصعد على الصفا إلى حيث يرى الكعبة فيحول وجهه إليها ويكبر ويهلل ويحمد الله تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي صلى

 

ج / 2 ص -149-       الله عليه وسلم ويدعو الله تعالى بحوائجه ويرفع يديه, ويجعل بطون كفيه إلى السماء لما روي عن جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى على الصفا حتى بدا له البيت ثم كبر ثلاثا, وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد يحيي ويميت, وهو على كل شيء قدير, لا إله إلا الله أنجز وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, وجعل يدعو بعد ذلك" ثم يهبط نحو المروة فيمشي على هيئته حتى ينتهي إلى بطن الوادي فإذا كان عند الميل الأخضر في بطن الوادي سعى حتى يجاوز الميل الأخضر فيسعى بين الميلين الأخضرين لحديث جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الدعاء مشى نحو المروة حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي سعى, وقال في سعيه: رب اغفر وارحم وتجاوز عما تعلم, إنك أنت الأعز الأكرم" وكان عمر رضي الله عنه إذا رمل بين الصفا, والمروة قال: اللهم استعملني بسنة نبيك, وتوفني على ملته, وأعذني من عذاب القبر ثم يمشي على هيئته حتى يأتي المروة فيصعد عليها, ويقوم مستقبل القبلة فيحمد الله تعالى, ويثني عليه, ويكبر, ويهلل, ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى حوائجه فيفعل على المروة مثل ما فعل على الصفا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل, ويطوف بينهما سبعة أشواط هكذا يبدأ بالصفا, ويختم بالمروة, ويسعى في بطن الوادي في كل شوط, ويعد البداية شوطا, والعود شوطا آخر خلافا لما قاله الطحاوي إنهما يعدان جميعا شوطا واحدا, وإنه خلاف ظاهر الرواية لما بينا فيما تقدم. فإذا فرغ من السعي, فإن كان محرما بالعمرة, ولم يسق الهدي يحلق أو يقصر فيحل؛ لأن أفعال العمرة هي الطواف والسعي فإذا أتى بهما لم يبق عليه شيء من أفعال العمرة فيحتاج إلى الخروج منها بالتحلل, وذلك بالحلق أو التقصير كالتسليم في باب الصلاة, والحلق أفضل لما ذكرنا فيما تقدم فإذا حلق أو قصر حل له جميع محظورات الإحرام, وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا, وقال الشافعي يقع التحلل من العمرة بالسعي, ومن الحج بالرمي, والمسألة قد مرت في بيان, واجبات الحج. وإن كان قد ساق الهدي لا يحلق, ولا يقصر للعمرة بل يقيم حراما إلى يوم النحر: لا يحل له التحلل إلا يوم النحر عندنا, وعند الشافعي سوق الهدي لا يمنع من التحلل, ونذكر المسألة في التمتع إن شاء الله تعالى, وإن كان محرما بالحج, فإن كان مفردا به يقيم على إحرامه, ولا يتحلل؛ لأن أفعال الحج عليه باقية فلا يجوز له التحلل إلى يوم النحر, ومن الناس من قال يجوز له أن يفتتح إحرام الحج بفعل العمرة, وهو الطواف والسعي, والتحلل منها بالحلق أو التقصير لما روي عن جابر رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أهلوا بالحج مفردين فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم "أحلوا من إحرامكم بطواف البيت, وبين الصفا, والمروة, وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم التروية أهلوا بالحج" فالجواب أن ذلك كان ثم نسخ, وعن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: أشهد أن فسخ الإحرام كان خاصا للركب الذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم, وإن كان قارنا فإنه يطوف طوافين, ويسعى سعيين عندنا فيبدأ أولا بالطواف والسعي للعمرة فيطوف, ويسعى للعمرة ثم يطوف ويسعى للحج كما وصفنا, وعند الشافعي يطوف لهما جميعا طوافا واحدا, ويسعى لهما سعيا واحدا, وهذا بناء على أن القارن عندنا محرم بإحرامين بإحرام العمرة, وإحرام الحج, ولا يدخل إحرام العمرة في إحرام الحج, وعنده يحرم بإحرام واحد, ويدخل إحرام العمرة في إحرام الحج؛ لأن نفس العمرة لا تدخل في الحجة, ولأن الإحرام على أصله ركن لما نذكر فكان من أفعال الحج, والأفعال يجوز فيها التداخل كسجدة التلاوة والحدود وغيرها, ولنا ما روي عن علي, وعبد الله بن مسعود, وعمران بن حصين رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحج والعمرة, وطاف لهما طوافين, وسعى لهما سعيين", ولأن القارن محرم بالعمرة, ومحرم بالحجة حقيقة؛ لأن قوله لبيك بعمرة وحجة معناه: لبيك بعمرة ولبيك بحجة كقوله: جاءني زيد, وعمرو أن معناه جاءني زيد, وجاءني عمرو, وإذا كان محرما بكل واحد منهما يطوف, ويسعى لكل واحد منهما طوافا على حدة وسعيا على حدة. وكذا تسمية القران يدل على ما قلنا؛ إذ القران حقيقة يكون بين شيئين إذ هو ضم شيء إلى شيء, ومعنى الضم حقيقة فيما قلنا لا فيما قاله, واعتبار الحقيقة أصل في الشريعة وأما الحديث فمعناه دخل وقت العمرة في وقت الحج؛ لأن سبب ذلك أنهم كانوا يعدون العمرة في وقت الحج من أفجر الفجور ثم

 

ج / 2 ص -150-       رخص لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال "دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة" أي دخل وقت العمرة في وقت الحجة, وهو أشهر الحج, ويحتمل ما قلنا, ويحتمل ما قاله فلا يكون حجة مع الاحتمال, ولو طاف القارن طوافين متواليين, وسعى سعيين متواليين أجزأه وقد أساء, أما الجواز فلأنه أتى بوظيفة من الطوافين, والسعيين. وأما الإساءة فلتركه السنة, وهي تقديم أفعال الحج على أفعال العمرة, ولو طاف أولا بحجته, وسعى لها ثم طاف لعمرته وسعى لها فنيته لغو, وطوافه الأول وسعيه يكونان للعمرة لما مر أن أفعال العمرة تترتب على ما أوجبه إحرامه, وإحرامه أوجب تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج فلغت نيته, وإذا فرغ من أفعال العمرة لا يحلق, ولا يقصر؛ لأنه بقي محرما بإحرام الحج, وإن كان متمتعا فإذا قدم مكة فإنه يطوف, ويسعى لعمرته ثم يحرم بالحج في أشهر الحج, ويلبس الإزار, والرداء, ويلبي بالحج؛ لأن هذا ابتداء دخوله في الحج للإحرام بالحج. وله أن يحرم من جوف مكة أو من الأبطح أو من أي حرم شاء, وله أن يحرم يوم التروية عند الخروج إلى منى, وقيل يوم التروية, وكلما قدم الإحرام بالحج على يوم التروية فهو أفضل عندنا, وقال الشافعي: الأفضل أن يحرم يوم التروية, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام يوم التروية" فدل أن ذلك أفضل, ولنا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أراد الحج فليتعجل", وأدنى درجات الأمر الندب, ولأن التعجيل من باب المسارعة إلى العبادة فكان أولى, ولأنه أشق على البدن؛ لأنه إذا أحرم بالحج يحتاج إلى الاجتناب عن محظورات الإحرام "وأفضل الأعمال أحمزها" على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الحديث فإنما ندب إلى الإحرام بالحج يوم التروية لركن خاص, اختار لهم الأيسر على الأفضل. ألا ترى أنه أمرهم بفسخ إحرام الحج, وأنه لا يفسخ اليوم. وإذا أحرم المتمتع بالحج فلا يطوف بالبيت, ولا يسعى في قول أبي حنيفة, ومحمد؛ لأن طواف القدوم للحج لمن قدم مكة بإحرام الحج, والمتمتع إنما قدم مكة بإحرام العمرة لا بإحرام الحج, وإنما يحرم للحج من مكة, وطواف القدوم لا يكون بدون القدوم, وكذلك لا يطوف, ولا يسعى أيضا؛ لأن السعي بدون الطواف غير مشروع, ولأن المحل الأصلي للسعي ما بعد طواف الزيارة؛ لأن السعي واجب, وطواف الزيارة فرض, والواجب يصلح تبعا للفرض, فأما طواف القدوم فسنة. والواجب لا يتبع السنة إلا أنه رخص تقديمه على محله الأصلي عقيب طواف القدوم فصار واجبا عقيبه بطريق الرخصة, وإذا لم يوجد طواف القدوم يؤخر السعي إلى محله الأصلي فلا يجوز قبل طواف الزيارة, وروى الحسن عن أبي حنيفة أن المتمتع إذا أحرم بالحج يوم التروية أو قبله, فإن شاء طاف وسعى قبل أن يأتي إلى منى, وهو أفضل, وروى هشام عن محمد أنه إن طاف وسعى لا بأس به, ووجه ذلك أن هذا الطواف ليس بواجب بل هو سنة. وقد ورد الشرع بوجوب السعي عقيبه, وإن كان واجبا رخصة وتيسيرا في حق المفرد بالحج والقارن فكذا المتمتع, والجواب نعم إنه سنة لكنه سنة القدوم للحج لمن قدم بإحرام الحج, والمتمتع لم يقدم مكة بإحرام الحج فلا يكون سنة في حقه, وعن الحسن بن زياد أنه فرق بينهما قبل الزوال وبعده فقال: إذا أحرم يوم التروية طاف وسعى إلا أن يكون أحرم بعد الزوال, ووجهه أن بعد الزوال يلزمه الخروج إلى منى فلا يشتغل بغيره, وقبل الزوال لا يلزمه الخروج فكان له أن يطوف ويسعى, والجواب ما ذكرنا. وإذا فرغ المفرد بالحج أو القارن من السعي يقيم على إحرامه, ويطوف طواف التطوع ماشيا إلى يوم التروية؛ لأن الطواف خير موضوع كالصلاة فمن شاء استقل, ومن شاء استكثر, وطواف التطوع أفضل من صلاة التطوع للغرباء. وأما لأهل مكة فالصلاة أفضل؛ لأن الغرباء يفوتهم الطواف إذ لا يمكنهم الطواف في كل مكان, ولا تفوتهم الصلاة؛ لأنه يمكن فعلها في كل مكان, وأهل مكة لا يفوتهم الطواف, ولا الصلاة فعند الاجتماع الصلاة أفضل, وعلى هذا الغازي الحارس في دار الحرب أنه إن كان هناك من ينوب عنه في دار الحرب فصلاة التطوع أفضل له, وإن لم يكن فالحراسة أفضل. ولا يرمل في هذا الطواف بل يمشي على هيئته, ولا يسعى بعده بين الصفا, والمروة غير السعي الأول, ويصلي لكل أسبوع ركعتين في الوقت الذي لا يكره فيه التطوع, ويكره الجمع بين أسبوعين من غير صلاة بينهما عند أبي حنيفة, ومحمد سواء الصرف

 

ج / 2 ص -151-       عن شفع أو وتر, وقال أبو يوسف: لا بأس به إذا انصرف عن وتر نحو أن ينصرف عن ثلاثة أسابيع أو عن خمسة أسابيع أو عن سبعة أسابيع, واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تجمع بين الطواف ثم تصلي بعده, ثم فرق أبو يوسف بين انصرافه عن شفع أو عن وتر فقال: إذا انصرف عن أسبوعين, وذلك أربعة عشر أو أربعة أسابيع, وذلك ثمانية وعشرون يكره, ولو انصرف عن ثلاثة أو عن خمسة لا يكره؛ لأن الأول شفع, والثاني وتر, وأصل الطواف سبعة, وهي وتر, ولهما أن ترتيب الركعتين على الطواف كترتيب السعي عليه؛ لأن كل واحد منهما واجب ثم لو جمع بين أسبوعين من الطواف, وأخر السعي يكره, فكذا إذا جمع بين أسبوعين منه, وأخر الصلاة. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فيحمل أنها فعلت ذلك لضرورة وعذر, فإذا كان يوم التروية, وهو اليوم الثامن من ذي الحجة يروح مع الناس إلى منى, فيصلي بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر لما روي عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام يوم التروية فخرج به إلى منى, فصلى به الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم غدا به إلى عرفات". وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال "لما كان يوم التروية توجه النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح, ثم مكث قليلا حتى طلعت الشمس, وسار إلى عرفات", فإن دفع منها قبل طلوع الشمس جاز, والأول أفضل لما روينا فيخرج إلى عرفات على السكينة والوقار, فإذا انتهى إليها نزل بها حيث أحب إلا في بطن عرنة لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة", ويغتسل يوم عرفة, وغسل يوم عرفة سنة كغسل يوم الجمعة, والعيدين, وعند الإحرام, وذكر في الأصل إن اغتسل فحسن, وهذا يشير إلى الاستحباب, ثم غسل يوم عرفة لأجل يوم عرفة, أو لأجل الوقوف فيجوز أن يكون على الاختلاف الذي ذكرنا في غسل يوم الجمعة في كتاب الطهارة, فإذا زالت الشمس صعد الإمام المنبر فأذن المؤذنون, والإمام على المنبر في ظاهر الرواية, فإذا فرغوا من الأذان قام الإمام, وخطب خطبتين, وعن أبي يوسف ثلاث روايات. روي عنه مثل قول أبي حنيفة, ومحمد. وروي عنه أنه يؤذن المؤذن والإمام في الفسطاط ثم يخرج بعد فراغ المؤذن من الأذان, فيصعد المنبر, ويخطب, وروى الطحاوي عنه في باب خطب الحج: أن الإمام يبدأ بالخطبة قبل الأذان, فإذا مضى صدر من خطبته أذن المؤذنون, ثم يتم خطبته بعد الأذان. أما تقديم الخطبة على الصلاة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قدمها على الصلاة, ولأن المقصود من هذه الخطبة تعليم أحكام المناسك, فلا بد من تقديمها ليعلموا, ولأنه لو أخرها يتبادر القوم إلى الوقوف, ولا يستمعون, فلا يحصل المقصود من هذه الخطبة, ثم هذه الخطبة سنة, وليست بفريضة حتى لو جمع بين الظهر والعصر فصلاهما من غير خطبة أجزأه, بخلاف خطبة الجمعة؛ لأنه لا تجوز الجمعة بدونها, والفرق: أن هذه الخطبة لتعليم المناسك لا لجواز الجمع بين الصلاتين. وفرضية خطبة الجمعة لقصر الصلاة, وقيامها مقام البعض على ما قالت عائشة: رضي الله عنها إنما قصرت الجمعة لمكان الخطبة, وقصر الصلاة ترك شطرها, ولا يجوز ترك الفرض إلا لأجل الفرض, فكانت الخطبة فرضا, ولا قصر ههنا؛ لأن كل واحد من الفرضين يؤدى على الكمال والتمام فلم تكن الخطبة فرضا إلا أنه يكون مسيئا بترك الخطبة؛ لأنه ترك السنة, ولو خطب قبل الزوال أجزأه وقد أساء, أما الجواز؛ فلأن هذه الخطبة ليست من شطر الصلاة, فلا يشترط لها الوقت. وأما الإساءة فلتركه السنة؛ إذ السنة أن تكون الخطبة بعد الزوال, بخلاف خطبة يوم الجمعة فإنه إذا خطب قبل الزوال لا تجوز الجمعة؛ لأن الخطبة هناك من فرائض الجمعة. ألا ترى أنه قصرت الجمعة لمكانها, ولا يترك بعض الفرض إلا لأجل الفرض. وأما الكلام في وقت صعود الإمام على المنبر أنه يصعد قبل الأذان أو بعده فوجه رواية أبي يوسف: أن الصلاة التي تؤدى في هذا الوقت هي صلاة الظهر, والعصر فيكون الأذان فيهما قبل خروج الإمام كما في سائر الصلوات, وكما في الظهر والعصر في غير هذا المكان والزمان, وجه ظاهر الرواية: أن هذه الخطبة لما كانت متقدمة على الصلاة كان هذا الأذان للخطبة, فيكون بعد صعود الإمام على المنبر كخطبة الجمعة. وقد خرج الجواب عما قاله أبو يوسف أن

 

ج / 2 ص -152-       هذه صلاة الظهر والعصر؛ لأنا نقول: نعم لكن نقدم عليها الخطبة فيكون وقت الأذان بعد ما صعد الإمام المنبر للخطبة كما في خطبة الجمعة, فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام, وخطب خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة خفيفة كما يفصل في خطبة الجمعة, وصفة الخطبة هي أن يحمد الله تعالى, ويثني عليه ويكبر ويهلل ويعظ الناس فيأمرهم بما أمرهم الله عز وجل, وينهاهم عما نهاهم الله عنه ويعلمهم مناسك الحج؛ لأن الخطبة في الأصل وضعت لما ذكرنا من الحمد والثناء والتهليل والتكبير والوعظ والتذكير. ويزاد في هذه الخطبة تعليم معالم الحج لحاجة الحجاج إلى ذلك ليتعلموا الوقوف بعرفة والإفاضة منها والوقوف بمزدلفة, فإذا فرغ من الخطبة أقام المؤذنون فصلى الإمام بهم صلاة الظهر, ثم يقوم المؤذنون فيقيمون للعصر فيصلي بهم الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين, ولا يشتغل الإمام والقوم بالسنن والتطوع فيما بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع بينهما بعرفة يوم عرفة بأذان واحد وإقامتين, ولم يتنفل قبلهما, ولا بعدهما مع حرصه على النوافل, فإن اشتغلوا فيما بينهما بتطوع أو غيره أعادوا الأذان للعصر؛ لأن الأصل أن يؤذن لكل مكتوبة, وإنما عرف ترك الأذان بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأنه لم يشتغل فيما بين الظهر والعصر بالتطوع, ولا بغيره فبقي الأمر عند الاشتغال على الأصل. ويخفي الإمام القراءة فيهما, بخلاف الجمعة والعيدين, فإنه يجهر فيهما بالقراءة؛ لأن الجهر بالقراءة هناك من الشعائر, والسبيل في الشعائر إشهارها, وفي الجهر زيادة إشهار, فشرعت تلك الصلاة كذلك, فأما الظهر والعصر فهما على حالهما لم يتغيرا؛ لأنهما كظهر سائر الأيام, وعصر سائر الأيام, والحادث ليس إلا اجتماع الناس, واجتماعهم للوقوف لا للصلاة, وإنما اجتماعهم في حق الصلاة حصل اتفاقا ثم إن كان الإمام مقيما من أهل مكة يتم كل واحدة من الصلاتين أربعا أربعا, والقوم يتمون معه, وإن كانوا مسافرين؛ لأن المسافر إذا اقتدى بالمقيم في الوقت يلزمه الإتمام؛ لأنه بالاقتداء بالإمام صار تابعا له في هذه الصلاة, وإن كان الإمام مسافرا يصلي كل واحدة من الصلاتين ركعتين ركعتين, فإذا سلم يقول لهم: أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم سفر, ثم لجواز الجمع أعني تقديم العصر على وقتها, وأداءها في وقت الظهر شرائط: بعضها متفق عليه, وبعضها مختلف فيه, أما المتفق عليه: فهو شرطان أحدهما أن يكون أداؤها عقيب الظهر, لا يجوز تقديمها عليها؛ لأنها شرعت مرتبة على الظهر, فلا يسقط الترتيب إلا بأسباب مسقطة, ولم توجد فلا تسقط فلزم مراعاة الترتيب, والثاني: أن تكون مرتبة على ظهر جائزة استحسانا حتى لو صلى الإمام بالناس الظهر والعصر في يوم غيم, ثم استبان لهم أن الظهر وقعت قبل الزوال, والعصر بعد الزوال, فعليهم إعادة الظهر والعصر جميعا استحسانا. والقياس: أن لا يكون هذا شرطا, وليس عليه إلا إعادة الظهر, وجه القياس: الاعتبار بسائر الأيام فإنه إذا صلى العصر في سائر الأيام على ظن أنه صلى الظهر ثم تبين أنه لم يصلها يعيد الظهر خاصة, كذا ههنا, والجامع أنه صلى العصر على ظن أنه ليس عليه إلا إعادة الظهر فأشبه الناسي, والنسيان عذر مسقط للترتيب, وجه الاستحسان: أن العصر مؤداة قبل وقتها حقيقة فالأصل: أن لا يجوز أداء العبادة المؤقتة قبل وقتها, وإنما عرفنا جوازها بالنص مرتبة على ظهر جائزة, فإذا لم تجز بقي الأمر فيها على الأصل. وأما المختلف فيه فمنها أن يكون أداء الصلاتين بالجماعة عند أبي حنيفة, حتى لو صلى العصر وحده أو الظهر وحده لا تجوز العصر قبل وقتها عنده, وعند أبي يوسف ومحمد هذا ليس بشرط, ويجوز تقديمها على وقتها. وجه قولهما: أن جواز التقديم لصيانة الوقوف بعرفة؛ لأن أداء العصر في وقتها يحول بينه وبين الوقوف, وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين الوحدان, والجماعة, ولأبي حنيفة أن الجواز ثبت معدولا به عن الأصل؛ لأنها عبادة مؤقتة, والعبادات المؤقتة لا يجوز تقديمها على أوقاتها إلا أن جواز تقديم العصر على وقتها ثبت بالنص غير معقول المعنى فيراعى فيه عين ما ورد به النص, والنص ورد بجواز أداء العصر كاملا مرتبا على ظهر كامل, وهي المؤداة بالجماعة, والمؤداة لا بجماعة لا تساويها في الفضيلة, فلا يكون في معنى المنصوص عليه, وقولهما: إن الجواز ثبت لصيانة الوقوف ممنوع, ولا يجوز أن يكون معلولا به؛ لأن الصلاة لا تنافي الوقوف؛ لأنها في نفسها وقوف, والشيء لا ينافي نفسه, وإنما ثبت نصا غير معقول المعنى فيتبع فيه مورد النص, وهو ما ذكرنا, ولم يوجد, ولو أدرك

 

ج / 2 ص -153-       ركعة من كل واحدة من الصلاتين مع الإمام, بأن أدرك ركعة من الظهر ثم قام الإمام, ودخل في العصر فقام الرجل, وقضى ما فاته من الظهر, فلما فرغ من الظهر دخل في صلاة الإمام في العصر, وأدرك شيئا من كل واحدة من الصلاتين مع الإمام, جاز له تقديم العصر بلا خلاف؛ لأنه أدرك فضيلة الجماعة فتقع العصر مرتبة على ظهر كامل, ومنها أن يكون أداء الصلاتين بإمام, وهو الخليفة أو نائبه في قول أبي حنيفة, حتى لو صلى الظهر بجماعة لكن لا مع الإمام, والعصر مع الإمام لم تجز العصر عنده, وعندهما هذا ليس بشرط. , والصحيح قول أبي حنيفة لما ذكرنا أن جواز التقديم ثبت معدولا به عن الأصل مرتبا على ظهر كامل, وهي المؤداة بالجماعة مع الإمام أو نائبه, فالمؤداة بجماعة من غير إمام أو نائبه لا تكون مثلها في الفضيلة, فلا تكون في معنى مورد النص, ولو أحدث الإمام بعد ما خطب فأمر رجلا بالصلاة جاز له أن يصلي بهم الصلاتين جميعا, سواء شهد المأمور الخطبة أو لم يشهد بخلاف الجمعة؛ لأن الخطبة ليست هناك من شرائط جواز الجمعة, وههنا الخطبة ليست بشرط لجواز الجمع بين الصلاتين, والفرق ما بينا, فإن لم يأمر الإمام أحدا فتقدم واحد من عرض الناس, وصلى بهم الصلاتين جميعا لم يجز الجمع في قول أبي حنيفة؛ لأن الإمام أو نائبه شرط عنده ولم يوجد, وعندهما يجوز, وإن كان المتقدم رجلا من ذي سلطان كالقاضي, وصاحب الشرط جاز؛ لأنه نائب الإمام, فإن كان الإمام سبقه الحدث في الظهر فاستخلف رجلا, فإنه يصلي بهم الظهر والعصر؛ لأنه قائم مقام الإمام, فإن فرغ من العصر قبل أن يرجع الإمام, فإن الإمام لا يصلي العصر إلا في وقتها لأنه لما استخلف صار كواحد من المؤتمين والمؤتم إذا صلى الظهر مع الإمام ولم يصل العصر معه لا يصلي العصر إلا في وقتها كذا هذا, ومنها أن يكون محرما بالحج حال أداء الصلاتين جميعا حتى لو صلى الظهر بجماعة مع الإمام, وهو حلال من أهل مكة ثم أحرم للحج لا يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها, كذا ذكر في نوادر الصلاة. وروي عن أبي حنيفة في غير رواية الأصول أنه يجوز, وهو قول زفر, والصحيح رواية النوادر؛ لأن العصر شرعت مرتبة على ظهر كامل وهو ظهر المحرم وظهر الحلال لا يكون مثل ظهر المحرم في الفضيلة فلا يجوز ترتيب العصر على ظهر هي دون المنصوص عليه, وعلى هذا إذا صلى الظهر بجماعة مع الإمام, وهو محرم لكن بإحرام العمرة ثم أحرم بالحج, لا يجزئه العصر إلا في وقتها, وعند زفر يجوز كما في المسألة الأولى, والصحيح قولنا؛ لأن ظهر المحرم بالعمرة لا يكون مثل ظهر المحرم بالحج في الفضيلة, فلا يكون أداء العصر في معنى مورد النص, فلا تجوز إلا في وقتها, ولو نفر الناس عن الإمام فصلى وحده الصلاتين أجزأه, ودلت هذه المسألة على أن الشرط في الحقيقة هو الإمام عند أبي حنيفة لا الجماعة, فإن الصلاتين جازتا للإمام, ولا جماعة فتبنى المسائل عليه, إذ هو أقرب إلى الصيغة, ولا يلزمه على هذا ما إذا سبق الإمام الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا, وذهب الإمام ليتوضأ فصلى الخليفة الظهر والعصر, ثم جاء الإمام: أنه لا يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها؛ لأن عدم الجواز هناك ليس لعدم الجماعة بل لعدم الإمام؛ لأنه خرج عن أن يكون إماما فصار كواحد من المؤتمين, أو يقال: الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة رحمه الله تعالى لكن في حق غير الإمام لا في حق الإمام, والله تعالى الموفق, فإن مات الإمام فصلى بالناس خليفته جاز؛ لأن موت الإمام لا يوجب بطلان ولاية خلفائه كولاية السلطنة, والقضاء. فإذا فرغ الإمام من الصلاة راح إلى الموقف عقيب الصلاة, وراح الناس معه؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم راح إليه عقيب الصلاة, ويرفع الأيدي بسطا يستقبل كما يستقبل الداعي بيده ووجهه, لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو بعرفات باسطا يديه في نحره كاستطعام المسكين" فيقف الإمام, والناس إلى غروب الشمس يكبرون ويهللون, ويحمدون الله تعالى, ويثنون عليه, ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون الله تعالى حوائجهم, ويتضرعون إليه بالدعاء, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "أفضل الدعاء دعاء أهل عرفة, وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي عشية يوم عرفة: لا إله إلا الله, وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, يحيي ويميت, وهو حي لا يموت, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير". وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن أكثر دعائي ودعاء

 

ج / 2 ص -154-       الأنبياء قبل عشية يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا شريك له, له الملك, وله الحمد, يحيي ويميت, وهو على كل شيء قدير, اللهم اجعل في قلبي نورا, وفي سمعي نورا, وفي بصري نورا, اللهم اشرح لي صدري, ويسر لي أمري, وأعوذ بك من وسواس الصدور, وسيئات الأمور, وفتنة الفقر, اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل, وشر ما تهب به الرياح". وليس عن أصحابنا فيه دعاء موقت؛ لأن الإنسان يدعو بما شاء, ولأن توقيت الدعاء يذهب بالرقة؛ لأنه يجري على لسانه من غير قصده فيبعد عن الإجابة, ويلبي في موقفه ساعة بعد ساعة, ولا يقطع التلبية, وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك: إذا وقف بعرفة يقطع التلبية, والصحيح قول العامة لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى جمرة العقبة". وروي عن "عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لبى عشية يوم عرفة فقيل له: ليس هذا موضع التلبية فقال: أجهل الناس أم نسوا فوالذي بعث محمدا بالحق لقد حججت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى جمرة العقبة إلا أن يخللها أو يخلطها بتكبير وتهليل", ولأن التلبية ذكر يؤتى به في ابتداء هذه العبادة, وتكرر في أثنائها فأشبه التكبير في باب الصلاة, وكان ينبغي أن يؤتى به إلى آخر أركان هذه العبادة كالتكبير إلا أنا تركنا القياس فيما بعد رمي جمرة العقبة, أو ما يقوم مقام الرمي في القطع بالإجماع, فبقي الأمر فيما قبل ذلك على أصل القياس, وسواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو متمتعا, بخلاف المفرد بالعمرة أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر حين يأخذ في طواف العمرة؛ لأن الطواف ركن في العمرة فأشبه طواف الزيارة في الحج, وهناك يقطع التلبية قبل الطواف كذا ههنا. والأفضل أن يكون في الموقف مستقبل القبلة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خير المجالس ما استقبل به القبلة". وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "ركب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتى الموقف فاستقبل به القبلة فلم يزل واقفا, حتى غربت الشمس", فإن انحرف قليلا لم يضره؛ لأن الوقوف ليس بصلاة. وكذا لو وقف, وهو محدث أو جنب لم يضره لما مر أن الوقوف عبادة لا يتعلق بالبيت, فلا يشترط له الطهارة كرمي الجمار, والأفضل للإمام أن يقف على راحلته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف راكبا, وكلما قرب في وقوفه من الإمام فهو أفضل؛ لأن الإمام يعلم الناس, ويدعو فكلما كان أقرب كان أمكن من السماع, وعرفات كلها موقف إلا بطن عرنة, فإنه يكره الوقوف فيه لما ذكرنا في بيان مكان الوقوف فيقف إلى غروب الشمس فإذا غربت الشمس دفع الإمام, والناس معه, ولا يدفع أحد قبل غروب الشمس لا الإمام, ولا غيره لما مر أن الوقوف إلى غروب الشمس واجب. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه خطب عشية عرفة فقال: أما بعد, فإن هذا يوم الحج الأكبر, وإن الجاهلية كانت تدفع من ههنا, والشمس على رءوس الجبال مثل العمائم على رءوس الرجال فخالفوهم, وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدفع منه بعد الغروب", فإن خاف بعض القوم الزحام, أو كانت به علة فيقدم قبل الإمام قليلا, ولم يجاوز حد عرفة فلا بأس به؛ لأنه إذا لم يجاوز حد عرفة, فهو في مكان الوقوف. وقد دفع الضرر عن نفسه, وإن ثبت على مكانه حتى يدفع الإمام, فهو أفضل لقوله تعالى: {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}, وينبغي للناس أن يدفعوا, وعليهم السكينة والوقار حتى يأتوا مزدلفة لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة, وعليه السكينة حتى روي أنه كان يكبح ناقته" وروي أنه "لما دفع من عرفات فقال: أيها الناس إن البر ليس في إيجاف الخيل, ولا في أبضاع الإبل, بل على هينتكم", ولأن هذا مشي إلى الصلاة؛ لأنهم يأتون مزدلفة ليصلوا بها المغرب والعشاء. وقد قال النبي: صلى الله عليه وسلم "إذا أتيتم الصلاة فأتوها, وأنتم تمشون, ولا تأتوها وأنتم تسعون, وعليكم السكينة والوقار", فإن أبطأ الإمام بالدفع, وتبين للناس الليل دفعوا قبل الإمام لأنه إذا تبين الليل فقد جاء أوان الدفع, والإمام بالتأخير ترك السنة فلا ينبغي لهم أن يتركوها. وإذا أتى مزدلفة ينزل حيث شاء عن يمين الطريق أو عن يساره, ولا ينزل على قارعة الطريق, ولا في وادي محسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم "مزدلفة كلها موقف, إلا وادي محسر", وإنما لا ينزل على الطريق؛ لأنه يمنع الناس عن الجواز فيتأذون به, فإذا دخل وقت العشاء يؤذن المؤذن ويقيم فيصلي الإمام بهم صلاة المغرب في وقت صلاة العشاء ثم يصلي بهم صلاة العشاء بأذان واحد وإقامة واحدة في قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر: بأذان واحد وإقامتين, وقال الشافعي:

 

ج / 2 ص -155-       بأذانين وإقامة واحدة, احتج زفر بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلى المغرب, والعشاء بمزدلفة بإقامتين", ولأن هذا أحد نوعي الجمع فيعتبر بالنوع الآخر, وهو الجمع بعرفة, والجمع هناك بأذان واحد وإقامتين كذا ههنا. ولنا ما روي عن عبد الله بن عمر, وخزيمة بن ثابت رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد وإقامة واحدة", وعن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال: "صليتهما مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذان واحد وإقامة واحدة", وما احتج به زفر محمول على الأذان والإقامة, فيسمى الأذان إقامة كما يقال: سنة العمرين, ويراد به سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, وقال: صلى الله عليه وسلم "بين كل أذانين صلاة لمن شاء إلا المغرب", وأراد به الأذان والإقامة كذا ههنا, والقياس على الجمع الآخر غير سديد؛ لأن هناك الصلاة الثانية, وهي العصر تؤدى في غير وقتها فتقع الحاجة إلى إقامة أخرى للإعلام بالشروع فيها, والصلاة الثانية ههنا, وهي العشاء تؤدى في وقتها فيستغنى عن تجديد الإعلام كالوتر مع العشاء, ولا يتشاغل بينهما بتطوع ولا بغيره؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتشاغل بينهما بتطوع, ولا بغيره, فإن تطوع بينهما أو تشاغل بشيء أعاد الإقامة للعشاء؛ لأنها انقطعت عن الإعلام الأول فاحتاجت إلى إعلام آخر, فإن صلى المغرب وحده والعشاء وحده أجزأه, بخلاف الظهر والعصر بعرفة على قول أبي حنيفة: إنه لا يجوز إلا بجماعة عنده, والفرق له أن المغرب تؤدى فيما هو وقتها في الجملة إن لم يكن وقت أدائها, فكان الجمع ههنا بتأخير المغرب عن وقت أدائها, فيجوز فعلها وحده, كما لو تأخرت عنه بسبب آخر فقضاه في وقت العشاء وحده, والعصر هناك تؤدى فيما ليس وقتها أصلا ورأسا, فلا يجوز؛ إذ لا جواز للصلاة قبل وقتها, وإنما عرفنا جوازها بالشرع, وإنما ورد الشرع بها بجماعة فيتبع مورد الشرع, والأفضل أن يصليهما مع الإمام بجماعة؛ لأن الصلاة بجماعة أفضل, ولو صلى المغرب بعد غروب الشمس قبل أن يأتي مزدلفة, فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر لم تجز صلاته, وعليه إعادته ما لم يطلع الفجر في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر والحسن, وقال أبو يوسف: تجزئه وقد أساء, وعلى هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول وقتها, وجه قوله أنه أدى المغرب والعشاء في وقتيهما؛ لأنه ثبت كون هذا الوقت وقتا لهما بالكتاب العزيز, والسنن المشهورة المطلقة عن المكان على ما ذكرنا في كتاب الصلاة, فيجوز كما لو أداها في غير ليلة المزدلفة إلا أن التأخير سنة. وترك السنة لا يسلب الجواز, بل يوجب الإساءة, ولهما ما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات, وكان أسامة بن زيد رضي الله عنه رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: فلما بلغ الشعب الأيسر الذي دون المزدلفة أناخ فبال, ثم جاء فصببت عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت: الصلاة يا رسول الله فقال: الصلاة أمامك وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: المصلى أمامك فجاء مزدلفة فتوضأ فأسبغ الوضوء", فدل الحديث على اختصاص جوازها في حال الاختيار والإمكان بزمان ومكان, وهو وقت العشاء بمزدلفة, ولم يوجد فلا يجوز, ويؤمر بالإعادة في وقتها ومكانها ما دام الوقت قائما, فإن لم يعد حتى طلع الفجر أعاد إلى الجواز عندهما أيضا؛ لأن الكتاب الكريم والسنن المشهورة تقتضي الجواز؛ لأنها تقتضي كون الوقت وقتا لها, وأنها مطلقة عن المكان. وحديث أسامة رضي الله عنه يقتضي عدم الجواز, وأنه من أخبار الآحاد, ولا يجوز العمل بخبر الواحد على وجه يتضمن بطلان العمل بالكتاب والسنن المشهورة, فيجمع بينهما فيعمل بخبر الواحد فيما قبل طلوع الفجر, ويؤمر بالإعادة, ويعمل بالكتاب العزيز والسنن المشهورة فيما بعد طلوعه, فلا نأمره بالإعادة عملا بالدلائل بقدر الإمكان هذا إذا كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر, فأما إذا خشي أن يطلع الفجر قبل أن يصل إلى مزدلفة لأجل ضيق الوقت, بأن كان في آخر الليل بحيث يطلع الفجر قبل أن يأتي مزدلفة فإنه يجوز بلا خلاف, هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة؛ لأن بطلوع الفجر يفوت وقت الجمع, فكان في تقديم الصلاة صيانتها عن الفوات, فإن كان لا يخشى الفوات لأجل ضيق الوقت, ولكنه ضل عن الطريق لا يصلي, بل يؤخر إلى أن يخاف طلوع الفجر لو لم يصل, فعند ذلك يصلي لما ذكرنا, والله الموفق, ويبيت ليلة المزدلفة بمزدلفة؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بها, فإن مر بها مارا بعد طلوع الفجر من غير أن يبيت بها فلا شيء عليه, ويكون مسيئا, وإنما لا يلزمه شيء؛ لأنه

 

ج / 2 ص -156-       أتى بالركن, وهو كينونته بمزدلفة بعد طلوع الفجر, لكنه يكون مسيئا لتركه السنة, وهي البيتوتة بها فإذا طلع الفجر صلى الإمام بهم صلاة الفجر بغلس لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاة العصر بعرفة, وصلاة المغرب بجمع, وصلاة الفجر يومئذ, فإنه صلاها قبل وقتها بغلس" أي: صلاها قبل وقتها المستحب بغلس, ولأن الفائت بالتغليس فضيلة الإسفار, وأنها ممكن الاستدراك في كل يوم, فأما فضيلة الوقوف, فلا تستدرك في غير ذلك اليوم, فإذا صلى الإمام بهم وقف بالناس, ووقفوا وراءه أو معه, والأفضل أن يكون موقفهم على الجبل الذي يقال له قزح, وهو تأويل ابن عباس للمشعر الحرام أنه الجبل وما حوله, وعند عامة أهل التأويل: المشعر الحرام هو مزدلفة فيقفون إلى أن يسفر جدا يدعون الله تعالى, ويكبرون, ويهللون, ويحمدون الله تعالى, ويثنون عليه, ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ويسألون حوائجهم, ثم يدفع منها إلى منى قبل طلوع الشمس لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الجاهلية كانت تنفر من هذا المقام, والشمس على رءوس الجبال فخالفوهم" فأفاض قبل طلوع الشمس. وقد كانت الجاهلية تقول بمزدلفة: أشرق ثبير كيما نغير, وهو جبل عال تطلع عليه الشمس قبل كل موضع فخالفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فدفع قبل طلوع الشمس, وإن دفع بعد طلوع الشمس قبل أن يصلي الناس الفجر فقد أساء ولا شيء عليه, أما الإساءة فلأن السنة أن يصلي الفجر, ويقف ثم يفيض فإذا لم يفعل فقد ترك السنة فيكون مسيئا. وأما عدم لزوم شيء فلأنه وجد منه الركن, وهو الوقوف, ولو ساعة, وإذا أفاض من جمع دفع على هينته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كذا فعل. ويأخذ حصى الجمار من مزدلفة أو من الطريق لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما أن يأخذ الحصى من مزدلفة", وعليه فعل المسلمين, وهو أحد نوعي الإجماع. وإن رمى بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه. وقد أساء, وقال مالك: لا تجزئه؛ لأنها حصى مستعملة, ولنا قوله: صلى الله عليه وسلم "ارم, ولا حرج" مطلقا, وتعليل مالك لا يستقيم على أصله؛ لأن الماء المستعمل عنده طاهر وطهور حتى يجوز الوضوء به, فالحجارة المستعملة أولى, وإنما كره ذلك عندنا لما روي أنه سئل ابن عباس فقيل له: إن من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا في الجاهلية والإسلام يرمي الناس, وليس ههنا إلا هذا القدر فقال: كل حصاة تقبل فإنها ترفع, وما لا يقبل فإنه يبقى. ومثل هذا لا يعرف إلا سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكره أن يرمي بحصاة لم تقبل فيأتي منى فيرمي جمرة العقبة سبع حصيات, لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أتى منى لم يعرج على شيء حتى رمى جمرة العقبة سبع حصيات" يقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة, لما روى أسامة بن زيد, والفضل بن عباس: "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة", وكان أسامة رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة, والفضل كان رديفه من مزدلفة إلى منى. وروي أن ابن عباس سئل عن ذلك فقال: أخبرني أخي الفضل "أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى بها جمرة العقبة", وكان رديف رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسواء كان في الحج الصحيح أو في الحج الفاسد أنه يقطع التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة؛ لأن أعمالها لا تختلف, فلا يختلف وقت قطع التلبية, وسواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو متمتعا؛ لأن القارن والمتمتع كل واحد منهما محرم بالحج, فكان كالمفرد به, ولا يقطع القارن التلبية إذا أخذ في طواف العمرة؛ لأنه محرم بإحرام الحج, وإنما يقطع عند ما يقطع المفرد بالحجة؛ لأنه بعد إتيانه بالعمرة كالمفرد بالحج, فأما المحرم بالعمرة المفردة فإنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر, وأخذ في طواف العمرة, والفرق بين المحرم بالحج, وبين المحرم بالعمرة المفردة ذكرناه فيما تقدم, وقال مالك في المفرد بالعمرة: يقطع التلبية إذا رأى البيت, وهذا غير سديد؛ لأن قطع التلبية يتعلق بفعل هو نسك كالرمي في حق المحرم بالحج, ورؤية البيت ليس بنسك, فلا يقطع عندنا, فأما استلام الحجر فنسك كالرمي فيقطع عنده لا عند الرؤية. قال محمد: إن فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع التلبية حيث يأخذ في الطواف كذا هذا, والقارن إذا فاته الحج يقطع التلبية في الطواف, والثاني الذي يتحلل به من حجته؛ لأن العمرة

 

ج / 2 ص -157-       ما فاتته, إذ ليس لها وقت معين فيأتي بها فيطوف, ويسعى كما كان يفعل لو لم يفته الحج, وإنما فاته الحج فيفعل ما يفعله فائت الحج, وهو أن يتحلل بأفعال العمرة, وهي الطواف والسعي كالمقيم فيقطع التلبية إذا أخذ في طواف الحج, والمحصر يقطع التلبية إذا ذبح عنه هديه؛ لأنه إذا ذبح هديه فقد تحلل, ولا تلبية بعد التحلل, فإن حلق الحاج قبل أن يرمي جمرة العقبة يقطع التلبية؛ لأنه بالحلق تحلل من الإحرام لما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لمن حلق قبل الرمي "ارم, ولا حرج" فثبت أن التحلل من الإحرام يحصل بالحلق قبل الرمي, ولا تلبية بعد التحلل, فإن زار البيت قبل أن يرمي, ويحلق ويذبح, قطع التلبية في قول أبي حنيفة. وروي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول الشمس من يوم النحر, وعن محمد ثلاث روايات في رواية مثل قول أبي حنيفة وروى هشام عنه, وروى ابن سماعة عنه: أن من لم يرم قطع التلبية إذا غربت الشمس من يوم النحر, وروى هشام عنه رواية أخرى أنه يقطع التلبية إذا مضت أيام النحر, فظاهر روايته مع أبي حنيفة وجه قول أبي يوسف: أنه, وإن طاف فإحرامه قائم لم يتحلل بهذا الطواف إذا لم يحلق, بدليل أنه لا يباح له الطيب واللبس, فالتحق الطواف بالعدم, وصار كأنه لم يطف فلا يقطع التلبية إلا إذا زالت الشمس؛ لأن من أصله أن هذا الرمي مؤقت بالزوال, فإذا زالت الشمس يفوت وقته, ويفعل بعده قضاء, فصار فواته عن وقته بمنزلة فعله في وقته, وعند فعله في وقته يقطع التلبية. كذا عند فواته عن وقته, بخلاف ما إذا حلق قبل الرمي؛ لأنه تحلل بالحلق, وخرج عن إحرامه حتى يباح له الطيب واللبس لذلك افترقا, ولهما أن الطواف, وإن كان قبل الرمي والحلق والذبح, فقد وقع التحلل به في حق النساء, بدليل أنه لو جامع بعده لا يلزمه بدنة, فكان التحلل بالطواف كالتحلل بالحلق, فيقطع التلبية به كما يقطع بالحلق. وقد خرج الجواب عن قوله: إن إحرامه قائم بعد الطواف؛ لأنا نقول: نعم لكن في حق الطيب واللبس, لا في حق النساء فلم يكن قائما مطلقا, والتلبية لم تشرع إلا في الإحرام المطلق, ولو ذبح قبل الرمي يقطع التلبية في قول أبي حنيفة إذا كان قارنا أو متمتعا, وهو إحدى الروايتين عن محمد, وإن كان مفردا بالحج لا يقطع؛ لأن الذبح من القارن والمتمتع محلل كالحلق, ولا تلبية بعد التحلل, فأما المفرد فتحلله لا يقف على ذبحه. ألا ترى أنه ليس بواجب عليه, فلا يقطع عنده التلبية, وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يقطع التلبية, والتحلل لا يقع بالذبح على هذه الرواية عنده, وإنما يقع بالرمي أو بالحلق, ويرمي سبع حصيات مثل حصى الخزف, لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال لعبد الله بن عباس: رضي الله عنه ائتني بسبع حصيات مثل حصى الخزف فأتاه بهن فجعل يقلبهن بيده, ويقول: مثلهن بمثلهن لا تغلوا فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين". وقد قالوا: لا يزيد على ذلك لما روي عن معاذ: رضي الله عنه أنه قال "خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى, وعلمنا المناسك, وقال: ارموا سبع حصيات مثل حصى الخزف, ووضع إحدى سبابتيه على الأخرى كأنه يخذف", ولأنه لو كان أكبر من ذلك, فلا يؤمن أن يصيب غيره لازدحام الناس فيتأذى به, ويرمي من بطن الوادي, ويكبر مع كل حصاة يرميها, لما روي عن عبد الله بن مسعود: رضي الله عنه أنه رمى جمرة العقبة سبع حصيات من بطن الوادي يكبر مع كل حصاة يرميها فقيل له: إن ناسا يرمون من فوقها فقال عبد الله: رضي الله عنه هذا والذي لا إله غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. وكذا روي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان يرمي جمرة العقبة بسبع حصيات يتبع كل حصاة بتكبيرة, ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك", وعن ابنه سالم بن عبد الله أنه استبطن الوادي فرمى الجمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاة الله أكبر الله أكبر, اللهم اجعله حجا مبرورا, وذنبا مغفورا, وعملا مشكورا, وقال: حدثني أبي "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي جمرة العقبة من هذا المكان, ويقول كلما رمى بحصاة مثل ما قلت", وإن رمى من فوق العقبة أجزأه, لكن السنة ما ذكرنا. وكذا لو جعل بدل التكبير تسبيحا أو تهليلا جاز, ولا يكون مسيئا. وقد قالوا إذا رمى للعقبة يجعل الكعبة عن يساره, ومنى عن يمينه, ويقوم فيها حيث يرى موقع حصاه, لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل الكعبة عن يساره, ومنى عن يمينه, وبأي شيء رمى أجزأه حجرا كان أو طينا أو غيرهما مما هو من جنس الأرض, وهذا عندنا

 

ج / 2 ص -158-       وقال الشافعي: لا يجوز إلا بالحجر, وجه قوله أن هذا أمر يعرف بالتوقيف, والتوقيف ورد بالحصى, والحصى هي الأحجار الصغار, ولنا ما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ارم, ولا حرج". وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رمى وذبح وحلق فقد حل له كل شيء إلا النساء" مطلقا عن صفة الرمي, والرمي بالحصى من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم محمول على الأفضلية لا الجواز توفيقا بين الدلائل, لما صح من مذهب أصحابنا أن المطلق لا يحمل على المقيد بل يجري المطلق على إطلاقه, والمقيد على تقييده ما أمكن, وههنا أمكن بأن يحمل المطلق على أصل الجواز, والمقيد على الأفضلية, ولا يقف عند هذه الجمرة للدعاء بل ينصرف إلى رحله, والأصل أن كل رمي ليس بعده رمي في ذلك اليوم لا يقف عنده, وكل رمي بعده رمي في ذلك اليوم يقف عنده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف عند جمرة العقبة, ووقف عند الجمرتين ثم الرمي ماشيا أفضل أو راكبا, فقد روي عن أبي يوسف أنه فصل في ذلك تفصيلا, فإنه حكى أن إبراهيم بن الجراح دخل على أبي يوسف, وهو مريض في المرض الذي مات فيه فسأله أبو يوسف فقال: أيهما أفضل الرمي ماشيا أو راكبا؟ فقال: ماشيا فقال: أخطأت ثم قال: راكبا فقال: أخطأت, وقال: كل رمي بعده رمي فالماشي أفضل, وكل رمي لا رمي بعده فالراكب أفضل قال: فخرجت من عنده فسمعت الناعي بموته قبل أن أبلغ الباب, ذكرنا هذه الحكاية ليعلم أنه بلغ حرصه في التعليم حتى لم يسكت عنه في رمقه فيقتدى به في التحريض على التعليم, وهذا لما ذكرنا أن كل رمي بعده رمي فالسنة فيه هو الوقوف للدعاء, والماشي أمكن للوقوف والدعاء. وكل رمي لا رمي بعده فالسنة فيه هو الانصراف لا الوقوف, والراكب أمكن من الانصراف, فإن قيل أليس أنه روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه رمى راكبا, وقال: صلى الله عليه وسلم خذوا عني مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا" فالجواب: أن ذلك محمول على رمي لا رمي بعده أو على التعليم ليراه الناس فيتعلموا منه مناسك الحج, فإن رمى إحدى الجمار بسبع حصيات جميعا دفعة واحدة فهي عن واحدة, ويرمي ستة أخرى؛ لأن التوقيف ورد بتفريق الرميات فوجب اعتباره, وهذا بخلاف الاستنجاء أنه إذا استنجى بحجر واحد وأنقاه كفاه, ولا يراعى فيه العدد عندنا؛ لأن وجوب الاستنجاء ثبت معقولا بمعنى التطهير فإذا حصلت الطهارة بواحد اكتفى به, فأما الرمي فإنما وجب تعبدا محضا فيراعى فيه مورد التعبد, وأنه ورد بالتفريق فيقتصر عليه, فإن رمى أكثر من سبع حصيات لم تضره الزيادة؛ لأنه أتى بالواجب وزيادة, والسنة أن يرمي بعد طلوع الشمس من يوم النحر قبل الزوال لما روى جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر ضحى, ورمى بعد ذلك بعد الزوال", ولو رمى قبل طلوع الشمس بعد انفجار الصبح أجزأه خلافا لسفيان. والمسألة ذكرناها فيما تقدم, ولا يرمي يومئذ غيرها لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم النحر إلا جمرة العقبة" فإذا فرغ من هذا الرمي لا يقف, وينصرف إلى رحله, فإن كان منفردا بالحج يحلق أو يقصر, والحلق أفضل لما ذكرنا فيما تقدم, ولا ذبح عليه, وإن كان قارنا أو متمتعا يجب عليه أن يذبح ويحلق ويقدم الذبح على الحلق لقوله تعالى: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} رتب قضاء التفث, وهو الحلق على الذبح. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق". وروي عنه صلى الله عليه وسلم "أنه رمى ثم ذبح ثم دعا بالحلاق", فإن حلق قبل الذبح من غير إحصار فعليه لحلقه قبل الذبح دم في قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف, ومحمد, وجماعة من أهل العلم: أنه لا شيء عليه, وأجمعوا على أن المحصر إذا حلق قبل الذبح أنه تجب عليه الفدية, احتج من خالفه بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه سئل عن رجل حلق قبل أن يذبح فقال: اذبح, ولا حرج", ولو كان الترتيب واجبا لكان في تركه حرج, ولأبي حنيفة الاستدلال بالمحصر إذا حلق قبل الذبح لأذى في رأسه أنه تلزمه الفدية بالنص, فالذي يحلق رأسه بغير أذى به أولى, ولهذا قال أبو حنيفة بزيادة التغليظ في حق من حلق رأسه قبل الذبح بغير أذى حيث قال: لا يجزئه غير الدم, وصاحب الأذى مخير بين الدم والطعام والصيام كما خيره

 

ج / 2 ص -159-       الله تعالى, وهذا هو المعقول؛ لأن الضرورة سبب لتخفيف الحكم وتيسيره, فالمعقول أن يجب في حال الاختيار بذلك السبب زيادة غلظ لم يكن في حال العذر, فأما أن يسقط من الأصل في غير حالة العذر ويجب في حالة العذر فممتنع, ولا حجة لهم في الحديث؛ لأن قوله: لا حرج المراد منه الإثم لا الكفارة, وليس من ضرورة انتفاء الإثم انتفاء الكفارة. ألا ترى أن الكفارة تجب على من حلق رأسه لأذى به, ولا إثم عليه. وكذا يجب على الخاطئ فإذا حلق الحاج أو قصر حل له كل شيء حظر عليه الإحرام إلا النساء عند عامة العلماء لما ذكرنا فيما تقدم, ثم يزور البيت من يومه ذلك أو من الغد أو بعد الغد, ولا يؤخرها عنها, وأفضلها أولها, لما روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف في أول أيام النحر" فيطوف أسبوعا؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا طاف, وعليه عمل المسلمين, ولا يرمل في هذا الطواف؛ لأنه لا سعي عقيبه؛ لأنه قد طاف طواف اللقاء, وسعى عقيبه حتى لو لم يكن طاف طواف اللقاء, ولا سعي فإنه يرمل في طواف الزيارة, ويسعى بين الصفا, والمروة عقيب طواف الزيارة, ولو أخره عن أيام النحر فعليه دم في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف, ومحمد لا شيء عليه, والمسألة قد مضت, فإذا طاف طواف الزيارة كله أو أكثره حل له النساء أيضا؛ لأنه قد خرج من العبادة, وما بقي عليه شيء من أركانها, والأصل أن في الحج إحلالين: الإحلال الأول بالحلق أو بالتقصير ويحل به كل شيء إلا النساء, والإحلال الثاني بطواف الزيارة, ويحل به النساء أيضا ثم يرجع إلى منى, ولا يبيت بمكة, ولا في الطريق, هو السنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا فعل, ويكره أن يبيت في غير منى في أيام منى, فإن فعل لا شيء عليه, ويكون مسيئا؛ لأن البيتوتة بها ليست بواجبة بل هي سنة, وعند الشافعي يجب عليه الدم؛ لأنها واجبة عنده, واحتج بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وأفعاله على الوجوب في الأصل, ولنا ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أرخص للعباس أن يبيت بمكة للسقاية", ولو كان ذلك واجبا لم يكن العباس يترك الواجب لأجل السقاية, ولا كان النبي صلى الله عليه وسلم يرخص له في ذلك, وفعل النبي صلى الله عليه وسلم محمول على السنة توفيقا بين الدليلين, وإذا بات بمنى فإذا كان من الغد, وهو اليوم الأول من أيام التشريق والثاني من أيام الرمي, فإنه يرمي الجمار الثلاث بعد الزوال في ثلاث مواضع: أحدها المسمى بالجمرة الأولى, وهي التي تلي مسجد الخيف, وهو مسجد إبراهيم عليه الصلاة والسلام فيرمي عندها سبع حصيات مثل حصى الخزف, يكبر مع كل حصاة, فإذا فرغ منها يقف عندها فيكبر, ويهلل, ويحمد الله تعالى, ويثني عليه, ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل الله تعالى حوائجه, ثم يأتي الجمرة الوسطى فيفعل بها مثل ما فعل بالأولى, ويرفع يديه عند الجمرتين بسطا ثم يأتي جمرة العقبة فيفعل مثل ما فعل بالجمرتين الأولتين, إلا أنه لا يقف للدعاء بعد هذه الجمرة, بل ينصرف إلى رحله لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمى الجمار الثلاث في أيام التشريق, وابتدأ بالتي تلي مسجد الخيف, ووقف عند الجمرتين, ولم يقف عند الثالثة". وأما رفع اليدين فلقول النبي: صلى الله عليه وسلم "لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن, وذكر من جملتها, وعند المقامين عند الجمرتين" فإذا كان اليوم الثاني من أيام التشريق, وهو اليوم الثالث من أيام الرمي رمى الجمار الثلاث بعد الزوال, ففعل مثل ما فعل أمس, فإذا رمى فإن أراد أن ينفر من منى, ويدخل مكة نفر قبل غروب الشمس, ولا شيء عليه لقوله تعالى {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, وإن أقام ولم ينفر حتى غربت الشمس, يكره له أن ينفر حتى تطلع الشمس من اليوم الثالث من أيام التشريق, وهو اليوم الرابع من أيام الرمي, ويرمي الجمار الثلاث, ولو نفر قبل طلوع الفجر لا شيء عليه. وقد أساء, أما الجواز فلأنه نفر في وقت لم يجب فيه الرمي بعد, بدليل أنه لو رمى فيه عن اليوم الرابع لم يجز, فجاز فيه النفر كما لو رمى الجمار في الأيام كلها ثم نفر, وأما الإساءة فلأنه ترك السنة فإذا طلع الفجر من اليوم الثالث من أيام التشريق رمى الجمار الثلاث ثم ينفر, فإن نفر قبل الرمي فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب, وإذا أراد أن ينفر في النفر الأول أو في النفر الثاني, فإنه يحمل ثقله معه, ويكره تقديمه لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "المرء من حيث رحله". وروي: "المرء من حيث أهله", ولأنه لو فعل ذلك يشتغل قلبه بذلك, ولا يخلو من ضرر. وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يضرب على ذلك. وحكي عن إبراهيم النخعي أن عمر رضي الله عنه

 

ج / 2 ص -160-       إنما كان يضرب على تقديم الثقل مخافة السرقة, ثم يأتي الأبطح, ويسمى المحصب, وهو موضع بين منى وبين مكة فينزل به ساعة, فإنه سنة عندنا لما روي عن نافع عن عبد الله بن عمر: رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر وعثمان نزلوا بالأبطح". ثم يدخل مكة فيطوف طواف الصدر توديعا للبيت, ولهذا يسمى طواف الوداع, وأنه واجب على أهل الآفاق عندنا لما ذكرنا فيما تقدم فيطوف سبعة أشواط لا رمل فيها؛ لأنه طواف لا سعي بعده, ويصلي ركعتين ثم يرجع إلى أهله؛ لأنه لم يبق عليه شيء من الأركان والواجبات, كذا ذكر في الأصل, وذكر الطحاوي في مختصره عن أبي حنيفة أنه إذا فرغ من طواف الصدر يأتي المقام فيصلي عنده ركعتين ثم يأتي زمزم فيشرب من مائها, ويصب على وجهه ورأسه ثم يأتي الملتزم, وهو ما بين الحجر الأسود والباب, فيضع صدره وجبهته عليه, ويتشبث بأستار الكعبة, ويدعو ثم يرجع, وذكر في العيون كذلك, إلا أنه قال في آخره: ويستلم الحجر, ويكبر ثم يرجع. وروي عن أبي حنيفة أنه قال: إن دخل البيت فحسن, وإن لم يدخل لم يضره, ويقول عند رجوعه: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون, صدق الله وعده, ونصر عبده, وهزم الأحزاب وحده, والله الموفق.

"فصل": وأما شرائط أركانه فمنها الإسلام فإنه كما هو شرط الوجوب, فهو شرط جواز الأداء؛ لأن الحج عبادة, والكافر ليس من أهل أداء العبادة, ومنها العقل فلا يجوز أداء الحج من المجنون والصبي الذي لا يعقل كما لا يجب عليهما, فأما البلوغ والحرية فليسا من شرائط الجواز, فيجوز حج الصبي العاقل بإذن وليه, والعبد الكبير بإذن مولاه لكنه لا يقع عن حجة الإسلام لعدم الوجوب, ومنها الإحرام عندنا, والكلام في الإحرام يقع في مواضع في بيان أنه شرط, وفي بيان ما يصير به محرما, وفي بيان زمان الإحرام, وفي بيان مكانه, وفي بيان ما يحرم به, وفي بيان حكم المحرم إذا منع عن المضي في موجب الإحرام, وفي بيان ما يحظره الإحرام, وما لا يحظره, وفي بيان ما يجب بفعل المحظور منه. أما الأول فالإحرام شرط جواز أداء أفعال الحج عندنا, وعند الشافعي ركن, وعنى به أنه جزء من أفعال الحج, وهو على الاختلاف في تحريمه الصلاة, ويتضمن الكلام في هذا الفصل بيان زمان الإحرام أنه جميع السنة عندنا, وعنده أشهر الحج حتى يجوز الإحرام قبل أشهر الحج عندنا, لكنه يكره, وعنده لا يجوز رأسا, وينعقد إحرامه للعمرة لا للحجة عنده, وعندنا ينعقد للحجة, ووجه البناء على هذا الأصل: أن الإحرام لما كان شرطا لجواز أداء أفعال الحج عندنا جاز وجوده قبل هجوم وقت أداء الأفعال, كما تجوز الطهارة قبل دخول وقت الصلاة, ولما كان ركنا عنده لم يجز سابقا على وقته؛ لأن أداء أفعال العبادة المؤقتة قبل وقتها لا يجوز كالصلاة وغيرها, فنتكلم في المسألة بناء وابتداء. أما البناء فوجه قول الشافعي: إن الذي أحرم بالحج يؤمر بإتمامه. وكذا المحرم للصلاة يؤمر بإتمامها لا بالابتداء, فلو لم يكن الإحرام من أفعال الحج لأمر بالابتداء لا بالإتمام فدل أنه ركن في نفسه, وشرط لجواز أداء ما بقي من الأفعال, ولنا أن ركن الشيء ما يأخذ الاسم منه ثم قد يكون بمعنى واحد, كالإمساك في باب الصوم. وقد يكون معاني مختلفة, كالقيام والقراءة والركوع والسجود في باب الصلاة, والإيجاب والقبول في باب البيع, ونحو ذلك, وشرطه: ما يأخذ الاعتبار منه, كالطهارة للصلاة, والشهادة في النكاح, وغير ذلك, والحج يأخذ الاسم من الوقوف بعرفة, وطواف الزيارة لا من الإحرام قال الله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}, وحج البيت: هو زيارة البيت, وقال النبي: صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" أي: الوقوف بعرفة, ولم يطلق اسم الحج على الإحرام, وإنما به اعتبار الركنين, فكان شرطا لا ركنا, ولهذا جعله الشافعي شرطا لأداء ما بقي من الأفعال. وأما قوله: إنه يؤمر بالإتمام بعد الإحرام ممنوع, بل لا يؤمر به ما لم يؤد بعد الإحرام شيئا من أفعال الحج. وأما الابتداء فالشافعي احتج بقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج أشهر معلومات؛ إذ الحج نفسه لا يكون أشهرا؛ لأنه فعل, والأشهر أزمنة فقد عين الله أشهرا معلومة وقتا للحج, والحج في عرف الشرع اسم لجملة من الأفعال مع شرائطها: منها الإحرام, فلا يجوز تقديمه على وقته, ولنا قوله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} ظاهر الآية: يقتضي أن تكون الأشهر كلها وقتا للحج فيقتضي جواز الإحرام بأداء أفعال الحج في الأوقات

 

ج / 2 ص -161-       كلها إلا أنا عرفنا تعيين هذه الأشهر لأداء الأفعال بدليل آخر, وهو قوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} فيعمل بالنصين, فيحمل ما تلونا على الإحرام الذي هو شرط, ويحمل ما تلوتم على نفس الأعمال عملا بالنص بالقدر الممكن, ولأن الحج يختص بالمكان والزمان, ثم يجوز الإحرام من غير مكان الحج بالإجماع, فيجوز في غير زمان الحج إلا أنه يكره لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: من سنة الحج أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج, ومخالفة السنة مكروهة, ثم اختلفوا في أن الكراهة لأجل الوقت أم لغيره, منهم من قال: الكراهة ليست لأجل الوقت, بل لمخافة الوقوع في محظورات الإحرام حتى أن من أمن ذلك لا يكره له, ومنهم من قال: إن الكراهة لنفس الوقت, فإن ابن سماعة روى عن محمد أنه قال: أكره الإحرام قبل الأشهر, ويجوز إحرامه وهو لابس أو جالس في خلوق أو طيب, وهذا الإطلاق يدل على أن الكراهة لنفس الوقت, والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يصير به محرما فنقول, وبالله التوفيق: لا خلاف في أنه إذا نوى, وقرن النية بقول وفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله أنه يصير محرما بأن لبى ناويا به الحج إن أراد به الإفراد بالحج أو العمرة, إن أراد الإفراد بالعمرة, أو العمرة والحج, إن أراد القران؛ لأن التلبية من خصائص الإحرام, وسواء تكلم بلسانه ما نوى بقلبه أو لا؛ لأن النية عمل القلب لا عمل اللسان لكن يستحب أن يقول بلسانه ما نوى بقلبه فيقول: اللهم إني أريد كذا فيسره لي, وتقبله مني لما ذكرنا في بيان سنن الحج, وذكرنا التلبية المسنونة, ولو ذكر مكان التلبية التهليل أو التسبيح أو التحميد أو غير ذلك مما يقصد به تعظيم الله تعالى مقرونا بالنية يصير محرما. وهذا على أصل أبي حنيفة, ومحمد في باب الصلاة أنه يصير شارعا في الصلاة بكل ذكر هو ثناء خالص لله تعالى يراد به تعظيمه لا غير, وهو ظاهر الرواية عن أبي يوسف ههنا, وفرق بين الحج والصلاة. وروي عنه أنه لا يصير محرما إلا بلفظ التلبية كما لا يصير شارعا في الصلاة إلا بلفظ التكبير فأبو حنيفة, ومحمد مرا على أصلهما أن الذكر الموضوع لافتتاح الصلاة لا يختص بلفظ دون لفظ ففي باب الحج أولى, ووجه الفرق لأبي يوسف على ظاهر الرواية عنه: أن باب الحج أوسع من باب الصلاة, فإن أفعال الصلاة لا يقوم بعضها مقام بعض, وبعض الأفعال يقوم مقام البعض كالهدي, فإنه يقوم مقام كثير من أفعال الحج في حق المحصر, وسواء كان بالعربية أو غيرها, وهو يحسن العربية أو لا يحسنها, وهذا على أصل أبي حنيفة, وأبي يوسف في الصلاة ظاهر, وهو ظاهر الرواية عن محمد في الحج. وروي عنه أنه لا يصير محرما إلا إذا كان لا يحسن العربية كما في باب الصلاة فهما مرا على أصلهما, ومحمد على ظاهر الرواية عنه فرق بين الصلاة والحج, ووجه الفرق له على نحو ما ذكرنا لأبي يوسف في المسألة الأولى. وتجوز النيابة في التلبية عند العجز بنفسه بأمره بلا خلاف, حتى لو توجه يريد حجة الإسلام فأغمي عليه فلبى عنه أصحابه. وقد كان أمرهم بذلك, حتى لو عجز عنه بنفسه يجوز بالإجماع, فإن لم يأمرهم بذلك نصا فأهلوا عنه جاز أيضا في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز, فلا خلاف في أنه تجوز النيابة في أفعال الحج عند عجزه عنها بنفسه من الطواف والسعي والوقوف, حتى لو طيف به وسعي ووقف جاز بالإجماع, وجه قولهما قوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى}, ولم يوجد منه السعي في التلبية؛ لأن فعل غيره لا يكون فعله حقيقة, وإنما يجعل فعلا له تقديرا بأمره, ولم يوجد, بخلاف الطواف ونحوه فإن الفعل هناك ليس بشرط, بل الشرط حصوله في ذلك الموضع على ما ذكرنا وقد حصل, والشرط ههنا هو التلبية, وقول غيره لا يصير قولا له إلا بأمره ولم يوجد, ولأبي حنيفة أن الأمر ههنا موجود دلالة, وهي دلالة عقد المرافقة؛ لأن كل واحد من رفقائه المتوجهين إلى الكعبة يكون آذنا للآخر بإعانته فيما يعجز عنه من أمر الحج, فكان الأمر موجودا دلالة. وسعي الإنسان جاز أن يجعل سعيا لغيره بأمره فقلنا بموجب الآية بحمد الله تعالى, ولو قلد بدنة يريد به الإحرام بالحج أو بالعمرة أو بهما, وتوجه معها يصير محرما لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} ثم ذكر تعالى بعده {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}, والحل يكون بعد الإحرام, ولم يذكر الإحرام في الأول, وإنما ذكر التقليد بقوله عز وجل {وَلا الْقَلائِدَ} فدل أن التقليد منهم مع التوجه كان إحراما إلا أنه زيد عليه النية بدليل آخر, وعن جماعة

 

ج / 2 ص -162-       من الصحابة رضي الله عنهم منهم علي, وابن مسعود, وابن عمر, وجابر رضي الله عنهم أنهم قالوا: إذا قلد فقد أحرم. وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا قلد, وهو يريد الحج أو العمرة فقد أحرم, ولأن التقليد مع التوجه من خصائص الإحرام, فالنية اقترنت بما هو من خصائص الإحرام فأشبه التلبية, فإن قيل: أليس أنه روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل, ولبى فهذا يقتضي أنه لا يصير محرما بالتقليد, فالجواب: أن ذلك محمول على ما إذا قلد ولم يخرج معها توفيقا بين الدلائل, وبه نقول: إن بمجرد التقليد لا يصير محرما على ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث بهديه, ويقيم فلا يحرم عليه شيء", والتقليد هو تعليق القلادة على عنق البدنة من عروة مزادة أو شراك نعل من أدم أو غير ذلك من الجلود, وإن قلد ولم يتوجه ولم يبعث على يد غيره لم يصر محرما, وإن بعث على يد غيره فكذلك عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم, وعن ابن عباس: رضي الله عنه أنه يصير محرما بنفس التوجيه من غير توجه, والصحيح: قول عامة العلماء لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "إني كنت لأفتل قلائد بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيبعثها ويمكث عندنا حلالا بالمدينة, لا يجتنب ما يجتنبه المحرم", ولأن التوجيه من غير توجه ليس إلا أمر بالفعل فلا يصير به محرما, كما لو أمر غيره بالتلبية, ولو توجه بنفسه بعد ما قلد, وبعث لا يصير محرما ما لم يلحقها, ويتوجه معها فإذا لحقها, وتوجه معها, عند ذلك يصير محرما إلا في هدي المتعة, فإن هناك يصير محرما بنفس التوجه قبل أن يلحقه. والقياس أن لا يصير محرما, ثم أيضا ما لم يلحق ويتوجه معه؛ لأن السير بنفسه بدون البدنة ليس من خصائص الإحرام, ولا دليل أنه يريد الإحرام, فلا يصير به محرما إلا أنا تركنا القياس, واستحسنا في هدي المتعة لما أن للهدي فضل تأثير في البقاء على الإحرام ما ليس لغيره, بدليل أنه لو ساق الهدي لا يجوز له أن يتحلل, وإن لم يسق جاز له التحلل, فإذا كان له فضل تأثير في البقاء على الإحرام جاز أن يكون له تأثير في الابتداء. وقد قالوا: إنه يصير محرما بنفس التوجه في أثر هدي المتعة, وإن لم يلحق الهدي إذا كان في أشهر الحج, فأما في غير أشهر الحج, فلا يصير محرما حتى يلحق الهدي؛ لأن أحكام التمتع لا تثبت قبل أشهر الحج, فلا يصير هذا الهدي للمتعة قبل أشهر الحج فكان هدي التطوع, ولو جلل البدنة ونوى الحج لا يصير محرما, وإن توجه معها؛ لأن التجليل ليس من خصائص الحج؛ لأنه إنما يفعل ذلك لدفع الحر, والبرد عن البدنة أو للتزيين, ولو قلد الشاة ينوي به الحج وتوجه معها لا يصير محرما, وإن نوى الإحرام؛ لأن تقليد الغنم ليس بسنة عندنا فلم يكن من دلائل الإحرام, فضلا عن أن يكون من خصائصه, والدليل على أن الغنم لا تقلد قوله تعالى: {وَلا الْهَدْيَ وَلا الْقَلائِدَ} عطف القلائد على الهدي, والعطف يقتضي المغايرة في الأصل. واسم الهدي يقع على الغنم والإبل والبقر جميعا فهذا يدل على أن الهدي نوعان: ما يقلد, وما لا يقلد, ثم الإبل والبقر يقلدان بالإجماع فتعين أن الغنم لا تقلد, ليكون عطف القلائد على الهدي عطف الشيء على غيره فيصح, ولو أشعر بدنته, وتوجه معها لا يصير محرما؛ لأن الإشعار مكروه عند أبي حنيفة؛ لأنه مثلة, وإيلام الحيوان من غير ضرورة لحصول المقصود بالتقليد, وهو الإعلام بكون المشعر هديا لئلا يتعرض له لو ضل, والإتيان بفعل مكروه لا يصلح دليل الإحرام, واختلف المشايخ على قول أبي يوسف, ومحمد قال بعضهم: إن أشعر وتوجه معها يصير محرما عندهما؛ لأن الإشعار سنة عندهما كالتقليد فيصلح أن يكون دليل الإحرام كالتقليد, وقال بعضهم: لا يصير محرما عندهما أيضا؛ لأن الإشعار ليس بسنة عندهما, بل هو مباح فلم يكن قربة, فلا يصلح دليل الإحرام, وذكر في الجامع الصغير أن الإشعار عندهما حسن, ولم يسمه سنة؛ لأنه من حيث إنه إكمال لما شرع له التقليد, وهو إعلام المقلد بأنه هدي لما أن تمام الإعلام تحصل به سنة, ومن حيث إنه مثلة وبدعة فتردد بين السنة والبدعة فسماه حسنا, وعند الشافعي الإشعار سنة, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشعر", والجواب: أن ذلك كان في الابتداء حين كانت المثلة مشروعة, ثم لما نهي عن المثلة انتسخ بنسخ المثلة, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك قطعا لأيدي المشركين عن التعرض للهدايا لو ضلت؛ لأنهم كانوا ما يتعرضون للهدايا. والتقليد ما كان يدل دلالة تامة أنها هدي, فكان يحتاج إلى الإشعار ليعلموا أنها هدي. وقد زال هذا المعنى في زماننا فانتسخ بانتساخ المثلة, ثم الإشعار

 

ج / 2 ص -163-       هو الطعن في أسفل السنام, وذلك من قبل اليسار عند أبي يوسف, وعند الشافعي من قبل اليمين, وكل ذلك مروي "عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه كان يدخل بين بعيرين من قبل الرءوس, وكان يضرب أولا الذي عن يساره من قبل يسار سنامه, ثم يعطف على الآخر فيضربه من قبل يمينه اتفاقا للأول لا قصدا" فصار الطعن على الجانب الأيسر أصليا, والآخر اتفاقيا, بل الاعتبار الأصلي أولى, والله عز وجل أعلم هذا الذي ذكرنا في أن الإحرام لا يثبت بمجرد النية ما لم يقترن بها قول وفعل هو من خصائص الإحرام أو دلائله, ظاهر مذهب أصحابنا. وروي عن أبي يوسف أنه يصير محرما بمجرد النية, وبه أخذ الشافعي, وهذا يناقض قوله: إن الإحرام ركن؛ لأنه جعل نية الإحرام إحراما, والنية ليست بركن بل هي شرط؛ لأنها عزم على الفعل, والعزم على فعل ليس ذلك الفعل, بل هو عقد على أدائه, وهو أن تعقد قلبك عليه أنك فاعله لا محالة, قال الله تعالى: {فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ} أي: جد الأمر, وفي الحديث: "خير الأمور عوازمها" أي ما وكدت رأيك عليه, وقطعت التردد عنه, وكونه ركنا يشعر بكونه من أفعال الحج, فكان تناقضا, ثم جعل الإحرام عبارة عن مجرد النية مخالف للغة, فإن الإحرام في اللغة هو الإهلال, يقال: أحرم أي أهل بالحج, وهو موافق لمذهبنا, أي الإهلال لا بد منه إما بنفسه أو بما يقوم مقامه على ما بينا. والدليل على أن الإهلال شرط ما روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعائشة رضي الله عنها وقد رآها حزينة ما لك؟ فقالت: أنا قضيت عمرتي, وألقاني الحج عاركا, فقال النبي: صلى الله عليه وسلم ذاك شيء كتبه الله تعالى على بنات آدم حجي وقولي مثل ما يقول الناس في حجهم" فدل قوله "قولي ما يقول الناس في حجهم" على لزوم التلبية؛ لأن الناس يقولونها, وفيه إشارة إلى أن إجماع المسلمين حجة يجب اتباعها حيث أمرها باتباعهم بقوله: "قولي ما يقول الناس في حجهم ", وروينا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: لا يحرم إلا من أهل ولبى, ولم يرو عن غيرها خلافه فيكون إجماعا, ولأن مجرد النية لا عبرة به في أحكام الشرع عرفنا ذلك بالنص والمعقول, أما النص ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إن الله تعالى عفا عن أمتي ما تحدثت به أنفسهم ما لم يتكلموا أو يفعلوا". وأما المعقول فهو أن النية وضعت لتعيين جهة الفعل في العبادة, وتعيين المعدوم محال, ولو أحرم بالحج, ولم يعين حجة الإسلام, وعليه حجة الإسلام, يقع عن حجة الإسلام استحسانا. والقياس أن لا يقع عن حجة الإسلام إلا بتعيين النية, وجه القياس أن الوقت يقبل الفرض والنفل, فلا بد من التعيين بالنية بخلاف صوم رمضان أنه يتأدى بمطلق النية؛ لأن الوقت هناك لا يقبل صوما آخر فلا حاجة إلى التعيين بالنية, والاستحسان أن الظاهر من حال من عليه حجة الإسلام أنه لا يريد بإحرام الحج حجة التطوع, ويبقي نفسه في عهدة الفرض فيحمل على حجة الإسلام بدلالة حاله, فكان الإطلاق فيه تعيينا كما في صوم رمضان, ولو نوى التطوع: يقع عن التطوع؛ لأنا إنما أوقعناه عن الفرض عند إطلاق النية بدلالة حاله, والدلالة لا تعمل مع النص بخلافه, ولو لبى ينوي الإحرام, ولا نية له في حج, ولا عمرة مضى في أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا, فإن طاف شوطا كان إحرامه عن العمرة, والأصل في انعقاد الإحرام بالمجهول: ما روي "أن عليا, وأبا موسى الأشعري رضي الله عنهما لما قدما من اليمن في حجة الوداع قال لهما النبي: صلى الله عليه وسلم بماذا أهللتما؟ فقالا: بإهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم" فصار هذا أصلا في انعقاد الإحرام بالمجهول, ولأن الإحرام شرط جواز الأداء عندنا, وليس بأداء بل هو عقد على الأداء, فجاز أن ينعقد مجملا ويقف على البيان, وإذا انعقد إحرامه جاز له أن يؤدي به حجة أو عمرة, وله الخيار في ذلك, يصرفه إلى أيهما شاء ما لم يطف بالبيت شوطا واحدا, فإذا طاف بالبيت شوطا واحدا, كان إحرامه للعمرة؛ لأن الطواف ركن في العمرة, وطواف اللقاء في الحج ليس بركن, بل هو سنة فإيقاعه عن الركن أولى. وتتعين العمرة بفعله كما تتعين بقصده قال الحاكم في الأصل: وكذلك لو لم يطف حتى جامع أو أحصر كانت عمرة؛ لأن القضاء قد لزمه فيجب عليه الأقل, إذ الأقل متيقن به, وهو العمرة, والله أعلم.

"فصل": وأما بيان مكان الإحرام فمكان الإحرام هو المسمى بالميقات فنحتاج إلى بيان المواقيت, وما يتعلق بها من الأحكام فنقول: وبالله التوفيق المواقيت تختلف باختلاف الناس. والناس في حق المواقيت أصناف ثلاثة

 

ج / 2 ص -164-       صنف منهم يسمون أهل الآفاق, وهم الذين منازلهم خارج المواقيت التي وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي خمسة, كذا روي في الحديث "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقت لأهل المدينة ذا الحليفة, ولأهل الشام الجحفة, ولأهل نجد قرن, ولأهل اليمن يلملم, ولأهل العراق ذات عرق, وقال: صلى الله عليه وسلم هن لأهلهن ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة". وصنف منهم يسمون أهل الحل, وهم الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة خارج الحرم كأهل بستان بني عامر وغيرهم, وصنف منهم يسمون أهل الحرم, وهم أهل مكة, أما الصنف الأول فميقاتهم ما وقت لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يجوز لأحد منهم أن يجاوز ميقاته إذا أراد الحج أو العمرة إلا محرما؛ لأنه لما وقت لهم ذلك فلا بد وأن يكون الوقت مقيدا, وذلك إما المنع من تقديم الإحرام عليه, وإما المنع من تأخيره عنه, والأول ليس بمراد لإجماعنا على جواز تقديم الإحرام عليه فتعين الثاني, وهو المنع من تأخير الإحرام عنه. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلا سأله, وقال: إني أحرمت بعد الميقات, فقال له: ارجع إلى الميقات فلب, وإلا فلا حج لك فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول "لا يجاوز أحد الميقات إلا محرما", وكذلك لو أراد بمجاوزة هذه المواقيت دخول مكة لا يجوز له أن يجاوزها إلا محرما, سواء أراد بدخول مكة النسك من الحج أو العمرة أو التجارة أو حاجة أخرى عندنا, وقال الشافعي: إن دخلها للنسك وجب عليه الإحرام, وإن دخلها لحاجة جاز دخوله من غير إحرام, وجه قوله أنه تجوز السكنى بمكة من غير إحرام فالدخول أولى؛ لأنه دون السكنى,. ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ألا إن مكة حرام منذ خلقها الله تعالى لم تحل لأحد قبلي, ولا تحل لأحد بعدي, وإنما أحلت لي ساعة من نهار, ثم عادت حراما إلى يوم القيامة" الحديث. والاستدلال به من ثلاثة أوجه: أحدها بقوله: صلى الله عليه وسلم. ألا إن مكة حرام, والثاني بقوله: لا تحل لأحد بعدي, والثالث بقوله: ثم عادت حراما إلى يوم القيامة مطلقا من غير فصل. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يحل دخول مكة بغير إحرام", ولأن هذه بقعة شريفة لها قدر وخطر عند الله تعالى, فالدخول فيها يقتضي التزام عبادة إظهارا لشرفها على سائر البقاع, وأهل مكة بسكناهم فيها جعلوا معظمين لها بقيامهم بعمارتها وسدانتها وحفظها وحمايتها؛ لذلك أبيح لهم السكنى, وكلما قدم الإحرام على المواقيت هو أفضل. وروي عن أبي حنيفة أن ذلك أفضل إذا كان يملك نفسه أن يمنعها ما يمنع منه الإحرام, وقال الشافعي: الإحرام من الميقات أفضل بناء على أصله أن الإحرام ركن فيكون من أفعال الحج, ولو كان كما زعم لما جاز تقديمه على الميقات؛ لأن أفعال الحج لا يجوز تقديمها على أوقاتها, وتقديم الإحرام على الميقات جائز بالإجماع إذا كان في أشهر الحج, والخلاف في الأفضلية دون الجواز, ولنا قوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} وروي عن علي, وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك, وروي عن أم سلمة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أحرم من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام بحج أو عمرة غفر الله له ما تقدم من ذنبه, وما تأخر, ووجبت له الجنة" هذا إذا قصد مكة من هذه المواقيت, فأما إذا قصدها من طريق غير مسلوك فإنه يحرم إذا بلغ موضعا يحاذي ميقاتا من هذه المواقيت؛ لأنه إذا حاذى ذلك الموضع ميقاتا من المواقيت صار في حكم الذي يحاذيه في القرب من مكة, ولو كان في البحر فصار في موضع لو كان مكان البحر بر لم يكن له أن يجاوزه إلا بإحرام, فإنه يحرم. كذا قال أبو يوسف, ولو حصل في شيء من هذه المواقيت من ليس من أهلها فأراد الحج أو العمرة أو دخول مكة, فحكمه حكم أهل ذلك الميقات الذي حصل فيه لقول النبي: صلى الله عليه وسلم "هن لأهلهن, ولمن مر بهن من غير أهلهن ممن أراد الحج أو العمرة". وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من وقتنا له وقتا فهو له ولمن مر به من غير أهله ممن أراد الحج أو العمرة", ولأنه إذا مر به صار من أهله فكان حكمه في المجاوزة حكمهم, ولو جاوز ميقاتا من هذه المواقيت من غير إحرام إلى ميقات آخر جاز له؛ لأن الميقات الذي صار إليه صار ميقاتا له, لما روينا من الحديثين إلا أن المستحب أن يحرم من الميقات الأول, هكذا روي عن أبي حنيفة أنه قال في غير أهل المدينة: إذا مروا على المدينة

 

ج / 2 ص -165-       فجاوزوها إلى الجحفة فلا بأس بذلك, وأحب إلي أن يحرموا من ذي الحليفة؛ لأنهم إذا حصلوا في الميقات الأول لزمهم محافظة حرمته فيكره لهم تركها, ولو جاوز ميقاتا من المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة فجاوزه بغير إحرام ثم عاد قبل أن يحرم وأحرم من الميقات, وجاوزه محرما لا يجب عليه دم بالإجماع؛ لأنه لما عاد إلى الميقات قبل أن يحرم, وأحرم التحقت تلك المجاوزة بالعدم, وصار هذا ابتداء إحرام منه, ولو أحرم بعد ما جاوز الميقات قبل أن يعمل شيئا من أفعال الحج ثم عاد إلى الميقات, ولبى سقط عنه الدم, وإن لم يلب لا يسقط, وهذا قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف, ومحمد: يسقط لبى أو لم يلب, وقال زفر: لا يسقط لبى أو لم يلب, وجه قول زفر: أن وجوب الدم بجنايته على الميقات بمجاوزته إياه من غير إحرام, وجنايته لا تنعدم بعوده, فلا يسقط الدم الذي وجب, وجه قولهما أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرما, لا في إنشاء الإحرام منه, بدليل أنه لو أحرم من دويرة أهله, وجاوز الميقات, ولم يلب لا شيء عليه, فدل أن حق الميقات في مجاوزته إياه محرما, لا في إنشاء الإحرام منه, وبعد ما عاد إليه محرما فقد جاوزه محرما, فلا يلزمه الدم ولأبي حنيفة ما روينا عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال للذي أحرم بعد الميقات: ارجع إلى الميقات فلب, وإلا فلا حج لك أوجب التلبية من الميقات فلزم اعتبارها, ولأن الفائت بالمجاوزة هو التلبية, فلا يقع تدارك الفائت إلا بالتلبية, بخلاف ما إذا أحرم من دويرة أهله, ثم جاوز الميقات من غير إنشاء الإحرام؛ لأنه إذا أحرم من دويرة أهله صار ذلك ميقاتا له. وقد لبى منه فلا يلزمه تلبية, وإذا لم يحرم من دويرة أهله كان ميقاته المكان الذي تجب التلبية منه, وهو الميقات المعهود, وما قاله زفر إن الدم إنما وجب عليه بجنايته على الميقات مسلم, لكن لما عاد قبل دخوله في أفعال الحج فما جنى عليه, بل ترك حقه في الحال فيحتاج إلى التدارك. وقد تداركه بالعود إلى التلبية, ولو جاوز الميقات بغير إحرام فأحرم ولم يعد إلى الميقات حتى طاف شوطا أو شوطين, أو وقف بعرفة, أو كان إحرامه بالحج ثم عاد إلى الميقات: لا يسقط عنه الدم؛ لأنه لما اتصل الإحرام بأفعال الحج تأكد عليه الدم, فلا يسقط بالعود, ولو عاد إلى ميقات آخر غير الذي جاوزه قبل أن يفعل شيئا من أفعال الحج سقط عنه الدم, وعوده إلى هذا الميقات وإلى ميقات آخر سواء, وعلى قول زفر لا يسقط على ما ذكرنا. وروي عن أبي يوسف أنه فصل في ذلك تفصيلا فقال: إن كان الميقات الذي عاد إليه يحاذي الميقات الأول أو أبعد من الحرم يسقط عنه الدم, وإلا فلا, والصحيح جواب ظاهر الرواية لما ذكرنا أن كل واحد من هذه المواقيت الخمسة ميقات لأهله, ولغير أهله بالنص مطلقا عن اعتبار المحاذاة, ولو لم يعد إلى الميقات لكنه أفسد إحرامه بالجماع قبل طواف العمرة إن كان إحرامه بالعمرة أو قبل الوقوف بعرفة, إن كان إحرامه بالحج سقط عنه ذلك الدم؛ لأنه يجب عليه القضاء, وانجبر ذلك كله بالقضاء كمن سها في صلاته ثم أفسدها فقضاها أنه لا يجب عليه سجود السهو, وكذلك إذا فاته الحج فإنه يتحلل بالعمرة, وعليه قضاء الحج, وسقط عنه ذلك الدم عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر لا يسقط, ولو جاوز الميقات يريد دخول مكة أو الحرم من غير إحرام يلزمه إما حجة وإما عمرة؛ لأن مجاوزة الميقات على قصد دخول مكة أو الحرم بدون الإحرام لما كان حراما كانت المجاوزة التزاما للإحرام دلالة, كأنه قال: لله تعالى علي إحرام, ولو قال ذلك يلزمه حجة أو عمرة, كذا إذا فعل ما يدل على الالتزام كمن شرع في صلاة التطوع ثم أفسدها يلزمه قضاء ركعتين, كما إذا قال: لله تعالى علي أن أصلي ركعتين, فإن أحرم بالحج أو بالعمرة قضاء لما عليه من ذلك لمجاوزته الميقات, ولم يرجع إلى الميقات, فعليه دم؛ لأنه جنى على الميقات لمجاوزته إياه من غير إحرام, ولم يتداركه فيلزمه الدم جبرا, فإن أقام بمكة حتى تحولت السنة ثم أحرم يريد قضاء ما وجب عليه بدخوله مكة بغير إحرام, أجزأه في ذلك ميقات أهل مكة في الحج بالحرم, وفي العمرة بالحل؛ لأنه لما أقام بمكة صار في حكم أهل مكة فيجزئه إحرامه من ميقاتهم, فإن كان حين دخل مكة عاد في تلك السنة إلى الميقات فأحرم بحجة عليه من حجة الإسلام أو حجة نذر أو عمرة نذر, سقط ما وجب عليه لدخوله مكة بغير إحرام استحسانا, والقياس أن لا يسقط إلا أن ينوي ما وجب عليه لدخول مكة, وهو قول زفر, ولا خلاف في أنه إذا تحولت السنة ثم عاد إلى الميقات ثم أحرم بحجة الإسلام, أنه لا يجزئه عما لزمه إلا بتعيين النية. وجه القياس: أنه قد وجب عليه حجة أو

 

ج / 2 ص -166-       عمرة بسبب المجاوزة, فلا يسقط عنه بواجب آخر كما لو نذر بحجة أنه لا تسقط عنه بحجة الإسلام. وكذا لو فعل ذلك بعد ما تحولت السنة, وجه الاستحسان أن لزوم الحجة أو العمرة ثبت تعظيما للبقعة, والواجب عليه تعظيمها بمطلق الإحرام لا بإحرام على حدة, بدليل أنه يجوز دخولها ابتداء بإحرام حجة الإسلام, فإنه لو أحرم من الميقات ابتداء بحجة الإسلام أجزأه ذلك عن حجة الإسلام, وعن حرمة الميقات, وصار كمن دخل المسجد وأدى فرض الوقت, قام ذلك مقام تحية المسجد. وكذا لو نذر أن يعتكف شهر رمضان فصام رمضان معتكفا جاز, وقام صوم رمضان مقام الصوم الذي هو شرط الاعتكاف, بخلاف ما إذا تحولت السنة؛ لأنه لما لم يقض حق البقعة حتى تحولت السنة صار مفوتا حقها فصار ذلك دينا عليه, وصار أصلا, ومقصودا بنفسه, فلا يتأدى بغيره كمن نذر أن يعتكف شهر رمضان فلم يصم, ولم يعتكف حتى قضى شهر رمضان مع الاعتكاف جاز, فإن صام رمضان, ولم يعتكف فيه حتى دخل شهر رمضان القابل فاعتكف فيه قضاء عما عليه لا يجوز؛ لأن الصوم صار أصلا ومقصودا بنفسه كذا هذا, وكذلك لو أحرم بعمرة منذورة في السنة الثانية لم يجزه؛ لأنه يكره تأخير العمرة إلى يوم النحر, وأيام التشريق, فإذا صار إلى وقت يكره تأخير العمرة إليه صار تأخيرها كتفويتها, فإن دخل مكة بغير إحرام ثم خرج فعاد إلى أهله ثم عاد إلى مكة فدخلها بغير إحرام, وجب عليه لكل واحد من الدخولين حجة أو عمرة؛ لأن كل واحد من الدخولين سبب الوجوب. فإن أحرم بحجة الإسلام جاز عن الدخول الثاني إذا كان في سنته, ولم يجز عن الدخول الأول؛ لأن الواجب قبل الدخول الثاني صار دينا, فلا يسقط إلا بتعيين النية, هذا إذا جاوز أحد هذه المواقيت الخمسة يريد الحج أو العمرة أو دخول مكة أو الحرم بغير إحرام, فأما إذا لم يرد ذلك, وإنما أراد أن يأتي بستان بني عامر أو غيره لحاجة فلا شيء عليه؛ لأن لزوم الحج أو العمرة بالمجاوزة من غير إحرام لحرمة الميقات تعظيما للبقعة وتمييزا لها من بين سائر البقاع في الشرف والفضيلة, فيصير ملتزما للإحرام منه, فإذا لم يرد البيت لم يصر ملتزما للإحرام فلا يلزمه شيء, فإن حصل في البستان أو ما وراءه من الحل ثم بدا له أن يدخل مكة لحاجة من غير إحرام, فله ذلك؛ لأنه بوصوله إلى أهل البستان صار كواحد من أهل البستان, ولأهل البستان أن يدخلوا مكة لحاجة من غير إحرام فكذا له, وقيل: إن هذا هو الحيلة في إسقاط الإحرام عن نفسه. وروي عن أبي يوسف: أنه لا يسقط عنه الإحرام, ولا يجوز له أن يدخل مكة بغير إحرام ما لم يجاوز الميقات بنية أن يقيم بالبستان خمسة عشر يوما فصاعدا؛ لأنه لا يثبت للبستان حكم الوطن في حقه إلا بنية مدة الإقامة, وأقل مدة الإقامة خمسة عشر يوما. وأما الصنف الثاني فميقاتهم للحج أو العمرة دويرة أهلهم أو حيث شاءوا من الحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم لقوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} روينا عن علي, وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا حين سئلا عن هذه الآية: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك, فلا يجوز لهم أن يجاوزوا ميقاتهم للحج أو العمرة إلا محرمين, والحل الذي بين دويرة أهلهم وبين الحرم كشيء واحد, فيجوز إحرامهم إلى آخر أجزاء الحل كما يجوز إحرام الآفاقي من دويرة أهله إلى آخر أجزاء ميقاته, فلو جاوز أحد منهم ميقاته يريد الحج أو العمرة فدخل الحرم من غير إحرام فعليه دم, ولو عاد إلى الميقات قبل أن يحرم أو بعد ما أحرم, فهو على التفصيل والاتفاق والاختلاف الذي ذكرنا في الآفاقي إذا جاوز الميقات بغير إحرام. وكذلك الآفاقي إذا حصل في البستان, أو المكي إذا خرج إليه فأراد أن يحج أو يعتمر فحكمه حكم أهل البستان, وكذلك البستاني أو المكي إذا خرج إلى الآفاق صار حكمه حكم أهل الآفاق لا تجوز مجاوزته ميقات أهل الآفاق. وهو يريد الحج أو العمرة إلا محرما لما روينا من الحديثين, ويجوز لمن كان من أهل هذا الميقات وما بعده دخول مكة لغير الحج أو العمرة بغير إحرام عندنا, ولا يجوز ذلك في أحد قولي الشافعي, وذكر في قوله الثالث: إذا تكرر دخولهم يجب عليهم الإحرام في كل سنة مرة, والصحيح: قولنا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه "رخص للحطابين أن يدخلوا مكة بغير إحرام", وعادة الحطابين أنهم لا يتجاوزون الميقات. وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه خرج من مكة إلى قديد, فبلغه خبر فتنة بالمدينة, فرجع ودخل مكة بغير إحرام, ولأن البستان من توابع الحرم فيلحق به, ولأن مصالح أهل البستان

 

ج / 2 ص -167-       تتعلق بمكة فيحتاجون إلى الدخول في كل وقت, فلو منعوا من الدخول إلا بإحرام لوقعوا في الحرج, وأنه منفي شرعا. وأما الصنف الثالث فميقاتهم للحج: الحرم, وللعمرة: الحل فيحرم المكي من دويرة أهله للحج أو حيث شاء من الحرم, ويحرم للعمرة من الحل, وهو التنعيم أو غيره. أما الحج فلقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}, وروينا عن علي, وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك إلا أن العمرة صارت مخصوصة في حق أهل الحرم فبقي الحج مرادا في حقهم. وروي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أمر أصحابه بفسخ إحرام الحج بعمل العمرة أمرهم يوم التروية أن يحرموا بالحج من المسجد, وفسخ إحرام الحج بعمل العمرة", وإن نسخ فالإحرام من المسجد لم ينسخ. وإن شاء أحرم من الأبطح أو حيث شاء من الحرم لكن من المسجد أولى؛ لأن الإحرام عبادة, وإتيان العبادة في المسجد أولى كالصلاة. وأما العمرة فلما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الإفاضة من مكة دخل على عائشة رضي الله عنها وهي تبكي فقالت: أكل نسائك يرجعن بنسكين, وأنا أرجع بنسك واحد فأمر أخاها عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه أن يعتمر بها من التنعيم", ولأن من شأن الإحرام أن يجتمع في أفعاله الحل والحرم, فلو أحرم المكي بالعمرة من مكة, وأفعال العمرة تؤدى بمكة لم يجتمع في أفعالها الحل والحرم, بل يجتمع كل أفعالها في الحرم, وهذا خلاف عمل الإحرام في الشرع, والأفضل أن يحرم من التنعيم؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أحرم منه. وكذا أصحابه رضي الله عنهم كانوا يحرمون لعمرتهم منه, وكذلك من حصل في الحرم من غير أهله فأراد الحج أو العمرة فحكمه حكم أهل الحرم؛ لأنه صار منهم فإذا أراد أن يحرم للحج أحرم من دويرة أهله أو حيث شاء من الحرم, وإذا أراد أن يحرم بالعمرة يخرج إلى التنعيم, ويهل بالعمرة في الحل, ولو ترك المكي ميقاته فأحرم للحج من الحل وللعمرة من الحرم يجب عليه الدم, إلا إذا عاد, وجدد التلبية أو لم يجدد على التفصيل والاختلاف الذي ذكرنا في الآفاقي, ولو خرج من الحرم إلى الحل ولم يجاوز الميقات ثم أراد أن يعود إلى مكة, له أن يعود إليها من غير إحرام؛ لأن أهل مكة يحتاجون إلى الخروج إلى الحل للاحتطاب والاحتشاش والعود إليها, فلو ألزمناهم الإحرام عند كل خروج لوقعوا في الحرج.

"فصل": وأما بيان ما يحرم به, فما يحرم به في الأصل ثلاثة أنواع: الحج وحده, والعمرة وحدها, والعمرة مع الحج, وعلى حسب تنوع المحرم به يتنوع المحرمون, وهم في الأصل أنواع ثلاثة: مفرد بالحج, ومفرد بالعمرة, وجامع بينهما, فالمفرد بالحج هو الذي يحرم بالحج لا غير, والمفرد بالعمرة هو الذي يحرم بالعمرة لا غير. وأما الجامع بينهما فنوعان: قارن, ومتمتع, فلا بد من بيان معنى القارن والمتمتع في عرف الشرع, وبيان ما يجب عليهما بسبب القران والتمتع, وبيان الأفضل من أنواع ما يحرم به: أنه الإفراد أو القران أو التمتع. أما القارن في عرف الشرع, فهو اسم لآفاقي يجمع بين إحرام العمرة وإحرام الحج قبل وجود ركن العمرة, وهو الطواف كله أو أكثره, فيأتي بالعمرة أولا ثم يأتي بالحج قبل أن يحل من العمرة بالحلق أو التقصير, سواء جمع بين الإحرامين بكلام موصول أو مفصول, حتى لو أحرم بالعمرة ثم أحرم بالحج بعد ذلك قبل الطواف للعمرة أو أكثره كان قارنا لوجود معنى القران, وهو الجمع بين الإحرامين وشرطه, ولو كان إحرامه للحج بعد طواف العمرة أو أكثره لا يكون قارنا, بل يكون متمتعا لوجود معنى التمتع, وهو أن يكون إحرامه بالحج بعد وجود ركن العمرة كله وهو الطواف سبعة أشواط, أو أكثره وهو أربعة أشواط على ما نذكر في تفسير المتمتع إن شاء الله تعالى. وكذلك لو أحرم بالحجة أولا ثم بعد ذلك أحرم بالعمرة يكون قارنا لإتيانه بمعنى القران, إلا أنه يكره له ذلك؛ لأنه مخالفة السنة؛ إذ السنة تقديم إحرام العمرة على إحرام الحج. ألا ترى أنه يقدم العمرة على الحجة في الفعل فكذا في القول, ثم إذا فعل ذلك ينظر, إن أحرم بالعمرة قبل أن يطوف لحجته عليه أن يطوف أولا لعمرته ويسعى لها ثم يطوف لحجته ويسعى لها مراعاة للترتيب في الفعل, فإن لم يطف للعمرة, ومضى إلى عرفات, ووقف بها صار رافضا لعمرته؛ لأن العمرة تحتمل الارتفاض لأجل الحجة في الجملة, لما روي عن عائشة رضي الله عنها "أنها قدمت مكة معتمرة فحاضت, فقال لها النبي: صلى الله عليه وسلم ارفضي عمرتك, وأهلي

 

ج / 2 ص -168-       بالحج, واصنعي في حجتك ما يصنع الحاج", وههنا وجد دليل الارتفاض, وهو الوقوف بعرفة؛ لأنه اشتغال بالركن الأصلي للحج فيتضمن ارتفاض العمرة ضرورة, لفوات الترتيب في الفعل, وهل يرتفض بنفس التوجه إلى عرفات ؟, ذكر في الجامع الصغير أنه لا يرتفض, وذكر في كتاب المناسك فيه القياس والاستحسان, فقال: القياس أن يرتفض, وفي الاستحسان لا يرتفض, عنى به القياس على أصل أبي حنيفة في باب الصلاة فيمن صلى الظهر يوم الجمعة في منزله ثم خرج إلى الجمعة أنه يرتفض ظهره عنده, كذا ههنا ينبغي أن ترتفض عمرته بالقياس على ذلك إلا أنه استحسن وقال: لا يرتفض ما لم يقف بعرفات, وفرق بين العمرة وبين الصلاة. ووجه الفرق له أن السعي إلى الجمعة من ضرورات أداء الجمعة, وأداء الجمعة ينافي بقاء الظهر فكذا ما هو من ضروراته إذ الثابت ضرورة شيء ملحق به, وههنا التوجه إلى عرفات وإن كان من ضرورات الوقوف بها, لكن الوقوف لا ينافي بقاء العمرة صحيحة, فإن عمرة القارن والمتمتع تبقى صحيحة مع الوقوف بعرفة, وإنما الحاجة ههنا إلى مراعاة الترتيب في الأفعال, فما لم توجد أركان الحج قبل أركان العمرة لا يوجد فوات الترتيب, وذلك هو الوقوف بعرفة, فأما التوجه فليس بركن, فلا يوجب فوات الترتيب في الأفعال, وإن كان طاف للحج ثم أحرم بالعمرة فالمستحب له أن يرفض عمرته لمخالفته السنة في الفعل, إذ السنة هي تقديم أفعال العمرة على أفعال الحج, فإذا ترك التقديم فقد تحققت البدعة فيستحب له أن يرفض لكن لا يؤمر بذلك حتما؛ لأن المؤدى من أفعال الحج, وهو طواف اللقاء ليس بركن, ولو مضى عليها أجزأه؛ لأنه أتى بأصل النسك, وإنما ترك السنة بترك الترتيب في الفعل, وإنه يوجب الإساءة دون الفساد, وعليه دم القران؛ لأنه قارن لجمعه بين إحرام الحجة والعمرة, والقران جائز مشروع, ولو رفضها يقضيها؛ لأنها لزمته بالشروع فيها, وعليه دم لرفضها؛ لأن رفض العمرة فسخ للإحرام بها, وأنه أعظم من إدخال النقص في الإحرام, وذا يوجب الدم فهذا أولى, والله تعالى أعلم. وأما المتمتع في عرف الشرع: فهو اسم لآفاقي يحرم بالعمرة, ويأتي بأفعالها من الطواف والسعي, أو يأتي بأكثر ركنها. وهو الطواف أربعة أشواط أو أكثر في أشهر الحج, ثم يحرم بالحج في أشهر الحج, ويحج من عامه ذلك قبل أن يلم بأهله فيما بين ذلك إلماما صحيحا, فيحصل له النسكان في سفر واحد, سواء حل من إحرام العمرة بالحلق أو التقصير, أو لم يحل, إذا كان ساق الهدي لمتعته فإنه لا يجوز التحلل بينهما. ويحرم بالحج قبل أن يحل من إحرام العمرة, وهذا عندنا. وقال الشافعي: سوق الهدي لا يمنع من التحلل فصار المتمتع نوعين: متمتع لم يسق الهدي, ومتمتع ساق الهدي فالذي لم يسق الهدي يجوز له التحلل إذا فرغ من أفعال العمرة بلا خلاف, وإذا تحلل صار حلالا كسائر المتحللين إلى أن يحرم بالحج؛ لأنه إذا تحلل من العمرة فقد خرج منها, ولم يبق عليه شيء فيقيم بمكة حلالا أي لا يلم بأهله؛ لأن الإلمام بالأهل يفسد التمتع. وأما الذي ساق الهدي, فإنه لا يحل له التحلل إلا يوم النحر بعد الفراغ من الحج عندنا, وعند الشافعي يحل له التحلل, وسوق الهدي لا يمنع من التحلل, والصحيح قولنا لما روي عن أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم مكة أمر أصحابه أن يحلقوا إلا من كان معه الهدي", وفي حديث أسماء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كان معه هدي فليقم على إحرامه ومن لم يكن معه هدي فليحلق". وروي "أنه لما أمر أصحابه أن يحلقوا قالوا له: إنك لم تحل, فقال: إني سقت الهدي فلا أحل من إحرامي إلى يوم النحر". وقال: صلى الله عليه وسلم "لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي وتحللت كما أحلوا" فقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن الذي منعه من الحل سوق الهدي, ولأن لسوق الهدي أثرا في الإحرام حتى يصير به داخلا في الإحرام, فجاز أن يكون له أثر في حال البقاء حتى يمنع من التحلل, وسواء كان إحرامه للعمرة في أشهر الحج أو قبلها عندنا, بعد أن يأتي بأفعال العمرة أو ركنها أو بأكثر الركن في الأشهر أنه يكون متمتعا. وعند الشافعي شرط كونه متمتعا: الإحرام بالعمرة في الأشهر, حتى لو أحرم بها قبل الأشهر لا يكون متمتعا, وإن أتى بأفعالها في الأشهر, والكلام فيه بناء على أصل قد ذكرناه فيما تقدم, وهو أن الإحرام عنده ركن فكان من أفعال العمرة, فلا بد من وجود أفعال العمرة في أشهر الحج, ولم يوجد بل وجد بعضها في الأشهر. وعندنا ليس بركن, بل هو شرط فتوجد

 

ج / 2 ص -169-       أفعال العمرة في الأشهر فيكون متمتعا, وليس لأهل مكة, ولا لأهل داخل المواقيت التي بينها وبين مكة: قران ولا تمتع. وقال الشافعي: يصح قرانهم وتمتعهم. وجه قوله قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} من غير فصل بين أهل مكة وغيرهم, ولنا قوله تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} جعل التمتع لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام على الخصوص؛ لأن اللام للاختصاص ثم حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وأهل الحل الذين منازلهم داخل المواقيت الخمسة. وقال مالك: هم أهل مكة خاصة؛ لأن معنى الحضور لهم. وقال الشافعي: هم أهل مكة. ومن كان بينه وبين مكة مسافة لا تقصر فيها الصلاة؛ لأنه إذا كان كذلك كان من توابع مكة, وإلا فلا, والصحيح قولنا؛ لأن الذين هم داخل المواقيت الخمسة منازلهم من توابع مكة, بدليل أنه يحل لهم أن يدخلوا مكة لحاجة بغير إحرام, فكانوا في حكم حاضري المسجد الحرام. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: ليس لأهل مكة تمتع, ولا قران, ولأن دخول العمرة في أشهر الحج ثبت رخصة لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} قيل في بعض وجوه التأويل: أي للحج أشهر معلومات, واللام للاختصاص فيقتضي اختصاص هذه الأشهر بالحج, وذلك بأن لا يدخل فيها غيره إلا أن العمرة دخلت فيها رخصة للآفاقي ضرورة تعذر إنشاء السفر للعمرة نظرا له بإسقاط أحد السفرين, وهذا المعنى لا يوجد في حق أهل مكة. ومن بمعناهم فلم تكن العمرة مشروعة في أشهر الحج في حقهم. وكذا روي عن ذلك الصحابي أنه قال: كنا نعد العمرة في أشهر الحج من أكبر الكبائر ثم رخص, والثابت بطريق الرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة, والضرورة في حق أهل الآفاق لا في حق أهل مكة على ما بينا, فبقيت العمرة في أشهر الحج في حقهم معصية, ولأن من شرط التمتع أن تحصل العمرة والحج للمتمتع في أشهر الحج من غير أن يلم بأهله فيما بينهما. وهذا لا يتحقق في حق المكي؛ لأنه يلم بأهله فيما بينهما لا محالة فلم يوجد شرط التمتع في حقه. ولو جمع المكي بين العمرة والحج في أشهر الحج فعليه دم, لكن دم كفارة الذنب لا دم نسك, شكرا للنعمة عندنا حتى لا يباح له أن يأكل منه, ولا يقوم الصوم مقامه إذا كان معسرا, وعنده هو دم نسك, يجوز له أن يأكل منه, ويقوم الصوم مقامه إذا لم يجد الهدي. ولو أحرم الآفاقي بالعمرة قبل أشهر الحج فدخل مكة محرما بالعمرة, وهو يريد التمتع فينبغي أن يقيم محرما حتى تدخل أشهر الحج فيأتي بأفعال العمرة, ثم يحرم بالحج ويحج من عامه ذلك فيكون متمتعا, فإن أتى بأفعال العمرة أو بأكثرها قبل أشهر الحج ثم دخل أشهر الحج فأحرم بالحج وحج من عامه ذلك, لم يكن متمتعا؛ لأنه لم يتم له الحج والعمرة في أشهر الحج. ولو أحرم بعمرة أخرى بعد ما دخل أشهر الحج لم يكن متمتعا في قولهم جميعا؛ لأنه صار في حكم أهل مكة بدليل أنه صار ميقاتهم ميقاته, فلا يصح له التمتع إلا أن يعود إلى أهله ثم يعود إلى مكة محرما بالعمرة في قول أبي حنيفة, وفي قولهما: إلا أن يعود إلى أهله أو إلى موضع يكون لأهله التمتع والقران على ما نذكر. ولو أحرم من لا تمتع له من المكي ونحوه بعمرة, ثم أحرم بحجة يلزمه رفض أحدهما؛ لأن الجمع بينهما معصية, والنزوع عن المعصية لازم ثم ينظر: إن أحرم بعمرة ثم أحرم بحجة قبل أن يطوف لعمرته رأسا فإنه يرفض العمرة؛ لأنها أقل عملا, والحج أكثر عملا فكانت العمرة أخف مؤنة من الحجة فكان رفضها أيسر, ولأن المعصية حصلت بسببها؛ لأنها هي التي دخلت في وقت الحج فكانت أولى بالرفض, ويمضي على حجته, وعليه لرفض عمرته دم, وعليه قضاء العمرة لما نذكر, وإن كان طاف لعمرته جميع الطواف أو أكثره لا يرفض العمرة, بل يرفض الحج؛ لأن العمرة مؤداة, والحج غير مؤدى فكان رفض الحج امتناعا عن الأداء, ورفض العمرة إبطالا للعمل, والامتناع عن العمل دون إبطال العمرة فكان أولى, وإن كان طاف لها شوطا أو شوطين أو ثلاثة يرفض الحج في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف, ومحمد يرفض العمرة. وجه قولهما أن رفض العمرة أدنى, وأخف مؤنة, ألا ترى أنها سميت الحجة الصغرى فكانت أولى بالرفض, ولا عبرة بالقدر المؤدى منها؛ لأنه أقل, والأكثر غير مؤدى, والأقل بمقابلة الأكثر ملحق بالعدم فكأنه لم يؤد شيئا منها, والله أعلم. ولأبي حنيفة أن رفض الحجة امتناع من العمل, ورفض العمرة إبطال للعمل, والامتناع دون الإبطال فكان أولى, وبيان ذلك أنه لم يوجد للحج عمل؛ لأنه لم يوجد له إلا الإحرام, وأنه ليس من

 

ج / 2 ص -170-       الأداء في شيء؛ لأنه شرط وليس بركن عندنا على ما بينا فيما تقدم, فلا يكون رفض الحج إبطالا للعمل بل يكون امتناعا, فأما العمرة فقد أدى منها شيئا وإن قل, وكان رفضها إبطالا لذلك القدر من العمل, فكان الامتناع أولى لما قلنا, وإذا رفض الحجة عنه فعليه لرفضها دم, وقضاء حجة, وعمرة, وإذا رفض العمرة عندهما فعليه لرفضها دم وقضاء عمرة, والأصل في جنس هذه المسائل أن كل من لزمه رفض عمرة فرفضها, فعليه لرفضها دم؛ لأنه تحلل منها قبل وقت التحلل, فيلزمه الدم كالمحصر, وعليه عمرة مكانها قضاء؛ لأنها قد وجبت عليه بالشروع, فإذا أفسدها يقضيها. وكل من لزمه رفض حجة فرفضها فعليه لرفضها دم, وعليه حجة وعمرة أما لزوم الدم لرفضها فلما ذكرنا في العمرة. وأما لزوم الحجة والعمرة, فأما الحجة فلوجوبها بالشروع, وأما العمرة فلعدم إتيانه بأفعال الحجة في السنة التي أحرم فيها فصار كفائت الحج, فيلزمه العمرة كما يلزم فائت الحج, فإن أحرم بالحجة من سنته فلا عمرة عليه, وكل من لزمه رفض أحدهما فمضى فيها فعليه دم؛ لأن الجمع بينهما معصية فقد أدخل النقص في أحدهما فيلزمه دم, لكنه يكون دم كفارة لا دم متعة, حتى لا يجوز له أن يأكل منه, ولا يجزئه الصوم إن كان معسرا. ومما يتصل بهذه المسائل ما إذا أحرم بحجتين معا أو بعمرتين معا, قال أبو حنيفة وأبو يوسف: لزمتاه جميعا. وقال محمد: لا يلزمه إلا إحداهما, وبه أخذ الشافعي. وجه قول محمد أنه إذا أحرم بعبادتين لا يمكنه المضي فيهما جميعا, فلا ينعقد إحرامه بهما جميعا, كما لو أحرم بصلاتين أو صومين, بخلاف ما إذا أحرم بحجة وعمرة؛ لأن المضي فيهما ممكن فيصح إحرامه بهما كما لو نوى صوما وصلاة, ولأبي حنيفة وأبي يوسف أنه أحرم بما يقدر عليه في وقتين, فيصح إحرامه كما لو أحرم بحجة وعمرة معا, وثمرة هذا الاختلاف تظهر في وجوب الجزاء, إذا قتل صيدا عندهما يجب جزاءان لانعقاد الإحرام بهما جميعا. وعنده يجب جزاء واحد لانعقاد الإحرام بإحداهما, ثم اختلف أبو حنيفة وأبو يوسف في وقت ارتفاض إحداهما عند أبي يوسف يرتفض عقيب الإحرام بلا فصل, وعن أبي حنيفة روايتان: في الرواية المشهورة عنه يرتفض إذا قصد مكة, وفي رواية لا يرتفض حتى يبتدئ بالطواف. ولو أحرم الآفاقي بالعمرة فأداها في أشهر الحج وفرغ منها, وحل من عمرته, ثم عاد إلى أهله حلالا, ثم رجع إلى مكة وأحرم بالحج, وحج من عامه ذلك: لم يكن متمتعا حتى لا يلزمه الهدي بل يكون مفردا بعمرة, ومفردا بحجة؛ لأنه ألم بأهله بين الإحرامين إلماما صحيحا, وهذا يمنع التمتع. وقال الشافعي: لا أعرف الإلمام, ونحن نقول: إن كنت لا تعرف معناه لغة فمعناه في اللغة القرب, يقال: ألم به أي قرب منه. وإن كنت لا تعرف حكمه شرعا, فحكمه أن يمنع التمتع لما روي عن عمر, وابن عمر: رضي الله عنهما أن المتمتع إذا أقام بمكة صح تمتعه, وإن عاد إلى أهله بطل تمتعه وكذا روي عن جماعة من التابعين مثل سعيد بن المسيب, وسعيد بن جبير, وإبراهيم النخعي, وطاوس, وعطاء رضي الله عنهم أنهم قالوا كذلك, ومثل هذا لا يعرف رأيا واجتهادا, فالظاهر سماعهم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأن التمتع في حق الآفاقي ثبت رخصة ليجمع بين النسكين, ويصل أحدهما بالآخر في سفر واحد من غير أن يتخلل بينهما ما ينافي النسك, وهو الارتفاق, ولما ألم بأهله فقد حصل له مرافق الوطن فبطل الاتصال, والله تعالى أعلم. ولو رجع إلى مكة بعمرة أخرى, وحج كان متمتعا؛ لأن حكم العمرة الأولى قد سقط بإلمامه بأهله فيتعلق الحكم بالثانية, وقد جمع بينهما وبين الحجة في أشهر الحج من غير إلمام فكان متمتعا. ولو كان إلمامه بأهله بعد ما طاف لعمرته قبل أن يحلق أو يقصر, ثم حج من عامه ذلك قبل أن يحل من العمرة في أهله فهو متمتع؛ لأن العود مستحق عليه لأجل الحلق؛ لأن من جعل الحرم شرطا لجواز الحلق وهو أبو حنيفة ومحمد لا بد من العود, وعند من لم يجعله شرطا, وهو أبو يوسف كان العود مستحبا إن لم يكن مستحقا. وأما الإلمام الفاسد الذي لا يمنع صحة التمتع فهو أن يسوق الهدي, فإذا فرغ من العمرة عاد إلى وطنه فلا يبطل تمتعه في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, حتى لو عاد إلى مكة فأحرم بالحج وحج من عامه ذلك, كان متمتعا في قولهما. وعند محمد يبطل تمتعه حتى لو حج من عامه ذلك: لم يكن متمتعا. وجه قول محمد: أن المانع من صحة التمتع وهو الإلمام بالأهل قد وجد, والعود غير مستحق عليه بدليل أنه لو بدا له من التمتع جاز له ذبح الهدي ههنا, وإذا لم يستحق عليه العود

 

ج / 2 ص -171-       صار كأن لم يسق الهدي. ولو لم يسق الهدي يبطل تمتعه كذا هذا, ولهما أن العود مستحق عليه ما دام على نية التمتع فيمنع صحة الإلمام, فلا يبطل تمتعه كالقارن إذا عاد إلى أهله ثم ما ذكرنا من بطلان التمتع بالإلمام الصحيح إذا عاد إلى أهله, فأما إذا عاد إلى غير أهله بأن خرج من الميقات ولحق بموضع لأهله القران والتمتع كالبصرة مثلا أو نحوها, واتخذ هناك دارا أو لم يتخذ, توطن بها أو لم يتوطن ثم عاد إلى مكة, وحج من عامه ذلك, فهل يكون متمتعا؟ ذكر في الجامع الصغير أنه يكون متمتعا, ولم يذكر الخلاف, وذكر القاضي أيضا أنه يكون متمتعا في قولهم. وذكر الطحاوي أنه يكون متمتعا في قول أبي حنيفة, وهذا وما إذا أقام بمكة ولم يبرح منها سواء. وأما في قول أبي يوسف, ومحمد فلا يكون متمتعا, ولحوقه بموضع لأهله التمتع والقران, ولحوقه بأهله سواء. وجه قولهما أنه لما جاوز الميقات, ووصل إلى موضع لأهله التمتع والقران فقد بطل حكم السفر الأول, وخرج من أن يكون من أهل مكة لوجود إنشاء سفر آخر, فلا يكون متمتعا كما لو رجع إلى أهله, ولأبي حنيفة أن وصوله إلى موضع لأهله القران والتمتع لا يبطل السفر الأول, ما لم يعد إلى منزله؛ لأن المسافر ما دام يتردد في سفره يعد ذلك كله منه سفرا واحدا ما لم يعد إلى منزله, ولم يعد ههنا فكان السفر الأول قائما فصار كأنه لم يبرح من مكة فيكون متمتعا, ويلزمه هدي المتعة. ولو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد وحل منها, ثم أحرم بالحج وحج من عامه ذلك قبل أن يقضيها: لم يكن متمتعا؛ لأنه لا يصير متمتعا إلا بحصول العمرة والحجة, ولما أفسد العمرة فلم تحصل له العمرة والحجة فلا يكون متمتعا. ولو قضى عمرته وحج من عامه ذلك, فهذا لا يخلو من ثلاثة أوجه: فإن فرغ من عمرته الفاسدة وحل منها ورجع إلى أهله, ثم عاد إلى مكة, وقضى عمرته, وأحرم بالحج, وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا بالإجماع؛ لأنه لما لحق بأهله صار من أهل التمتع, وقد أتى به فكان متمتعا, وإذا فرغ من عمرته الفاسدة, وحل منها لكنه لم يخرج من الحرم أو خرج منه لكنه لم يجاوز الميقات حتى قضى عمرته, وأحرم بالحج, لا يكون متمتعا بالإجماع؛ لأنه لما حل من عمرته الفاسدة صار كواحد من أهل مكة, ولا تمتع لأهل مكة ويكون مسيئا وعليه لإساءته دم, وإن فرغ من عمرته الفاسدة, وحل منها, وخرج من الحرم, وجاوز الميقات حتى قضى عمرته, ولحق بموضع لأهله التمتع والقران كالبصرة وغيرها, ثم رجع إلى مكة, وقضى عمرته الفاسدة ثم أحرم بحج, وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا في قول أبي حنيفة, كأنه لم يبرح من مكة, وفي قول أبي يوسف, ومحمد يكون متمتعا كأنه لحق بأهله. وجه قولهما أنه لما حصل في موضع لأهله التمتع والقران صار من أهل ذلك الموضع, وبطل حكم ذلك السفر, ثم إذا قدم مكة كان هذا إنشاء سفر, وقد حصل له نسكان في هذا السفر, وهو عمرة وحجة فيكون متمتعا كما لو رجع إلى أهله ثم عاد إلى مكة, وقضى عمرته في أشهر الحج وأحرم بالحج, وحج من عامه ذلك أنه يكون متمتعا, كذا هذا, بخلاف ما إذا اتخذ مكة دارا؛ لأنه صار من أهل مكة, ولا تمتع لأهل مكة, ولأبي حنيفة: أن حكم السفر الأول باق؛ لأن الإنسان إذا خرج من وطنه مسافرا فهو على حكم السفر ما لم يعد إلى وطنه, وإذا كان حكم السفر الأول باقيا, فلا عبرة بقدومه البصرة, واتخاذه دارا بها, فصار كأنه أقام بمكة لم يبرح منها حتى قضى عمرته الفاسدة, وإذا كان كذلك لم يكن متمتعا, ولم يلزمه الدم؛ لأنه لما أفسد العمرة لزمه أن يقضيها من مكة, وهو أن يحرم بالعمرة من ميقات أهل مكة للعمرة, وذلك دليل إلحاقه بأهل مكة, فصارت عمرته وحجته مكيتين لصيرورة ميقاته للحج والعمرة ميقات أهل مكة, فلا يكون متمتعا لوجود الإلمام بمكة كما فرغ من عمرته, وصار كالمكي إذا خرج إلى أقرب الآفاق, وأحرم بالعمرة ثم عاد إلى مكة, وأتى بالعمرة ثم أحرم بالحج, وحج من عامه ذلك لم يكن متمتعا, كذا هذا بخلاف ما إذا رجع إلى وطنه؛ لأنه إذا رجع إلى وطنه فقد قطع حكم السفر الأول بابتداء سفر آخر فانقطع حكم كونه بمكة, فبعد ذلك إذا أتى مكة وقضى العمرة, وحج فقد حصل له النسكان في سفر واحد فصار متمتعا, هذا إذا أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد. فأما إذا أحرم بها قبل أشهر الحج ثم أفسدها وأتمها على الفساد, فإن لم يخرج من الميقات حتى دخل أشهر الحج, وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج, وحج من عامه ذلك, فإنه لا يكون متمتعا بالإجماع, وحكمه كمكي تمتع؛ لأنه صار كواحد من

 

ج / 2 ص -172-       أهل مكة لما ذكرنا, ويكون مسيئا, وعليه لإساءته دم, وإن عاد إلى أهله ثم عاد إلى مكة محرما بإحرام العمرة, وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج, وحج من عامه ذلك يكون متمتعا بالإجماع لما مر. وإن عاد إلى غير أهله, ولحق بموضع لأهله التمتع والقران, ثم عاد إلى مكة محرما بإحرام العمرة وقضى عمرته في أشهر الحج, ثم أحرم بالحج, وحج من عامه ذلك. فهذا على وجهين في قول أبي حنيفة, في وجه يكون متمتعا, وهو ما إذا رأى هلال شوال خارج الميقات ثم عاد إلى مكة محرما بإحرام العمرة, وقضى عمرته في أشهر الحج ثم أحرم بالحج, وحج من عامه ذلك, وفي وجه لا يكون متمتعا, وهو ما إذا رأى هلال شوال داخل الميقات. وعند أبي يوسف ومحمد يكون متمتعا في الوجهين جميعا, لهما أن لحوقه بذلك الموضع بمنزلة لحوقه بأهله. ولو لحق بأهله يكون متمتعا فكذا هذا. ولأبي حنيفة أن في الوجه الأول أدركته أشهر الحج, وهو من أهل التمتع؛ لأنها أدركته خارج الميقات, وفي الوجه الثاني أدركته, وهو ليس من أهل التمتع لكونه ممنوعا شرعا عن التمتع, ولا يزول المنع حتى يلحق بأهله. ولو اعتمر في أشهر الحج ثم عاد إلى أهله قبل أن يحل من عمرته, وألم بأهله وهو محرم ثم عاد إلى مكة بذلك الإحرام, وأتم عمرته ثم حج من عامه ذلك فهذا على ثلاثة أوجه, فإن كان طاف لعمرته شوطا أو شوطين أو ثلاثة أشواط ثم عاد إلى أهله وهو محرم, ثم رجع إلى مكة بذلك الإحرام, وأتم عمرته, وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا بالإجماع, وإن اعتمر, وحل من عمرته ثم عاد إلى أهله حلالا, ثم عاد إلى مكة, وحج من عامه ذلك, لا يكون متمتعا بالإجماع؛ لأن إلمامه بأهله صحيح, وأنه يمنع التمتع, وإن رجع إلى أهله بعد ما طاف أكثر طواف عمرته أو كله, ولم يحل بعد ذلك, وألم بأهله محرما ثم عاد, وأتم بقية عمرته, وحج من عامه ذلك, فإنه يكون متمتعا في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وفي قول محمد لا يكون متمتعا, وجه قوله: أنه أدى العمرة بسفرين, وأكثرها حصل في السفر الأول, وهذا يمنع التمتع, ولهما أن إلمامه بأهله لم يصح بدليل أنه يباح له العود إلى مكة بذلك الإحرام من غير أن يحتاج إلى إحرام جديد, فصار كأنه أقام بمكة وكذا لو اعتمر في أشهر الحج, ومن نيته التمتع, وساق الهدي لأجل تمتعه فلما فرغ منها عاد إلى أهله محرما ثم عاد, وحج من عامه ذلك فإنه يكون متمتعا في قولهما؛ لأن إلمامه بأهله لم يصح, فصار كأنه أقام بمكة. وعند محمد لا يكون متمتعا. ولو خرج المكي إلى الكوفة فأحرم بها للعمرة ثم دخل مكة فأحرم بها للحج لم يكن متمتعا؛ لأنه حصل له الإلمام بأهله بين الحجة والعمرة, فمنع التمتع كالكوفي إذا رجع إلى أهله, وسواء ساق الهدي أو لم يسق, يعني إذا أحرم بالعمرة بعد ما خرج إلى الكوفة, وساق الهدي لم يكن متمتعا, وسوقه الهدي لا يمنع صحة إلمامه بخلاف الكوفي؛ لأن الكوفي إنما يمنع سوق الهدي صحة إلمامه؛ لأن العود مستحق عليه. فأما المكي فلا يستحق عليه العود, فصح إلمامه مع السوق كما يصح مع عدمه. ولو خرج المكي إلى الكوفة فقرن صح قرانه؛ لأن القران يحصل بنفس الإحرام, فلا يعتبر فيه الإلمام فصار بعوده إلى مكة كالكوفي إذا قرن ثم عاد إلى الكوفة. وذكر ابن سماعة عن محمد أن قران المكي بعد خروجه إلى الكوفة إنما يصح إذا كان خروجه من مكة قبل أشهر الحج. فأما إذا دخلت عليه أشهر الحج, وهو بمكة ثم خرج إلى الكوفة فقرن لم يصح قرانه؛ لأنه حين دخول الأشهر عليه كان على صفة لا يصح له التمتع, ولا القران في هذه السنة؛ لأنه في أهله, فلا يتغير ذلك بالخروج إلى الكوفة, وفي نوادر ابن سماعة عن محمد فيمن أحرم بعمرة في رمضان, وأقام على إحرامه إلى شوال من قابل ثم طاف لعمرته في العام القابل من شوال ثم حج في ذلك العام أنه متمتع؛ لأنه باق على إحرامه, وقد أتى بأفعال العمرة والحج في أشهر الحج, فصار كأنه ابتدأ الإحرام بالعمرة في أشهر الحج, وحج من عامه ذلك. ولو فعل ذلك كان متمتعا كذا هذا, وبمثله من وجب عليه أن يتحلل من الحج بعمرة فأخر إلى العام القابل فتحلل بعمرة في شوال, وحج من عامه ذلك لا يكون متمتعا؛ لأنه ما أتى بأفعال العمرة لها, بل للتحلل عن إحرام الحج, فلم تقع هذه الأفعال معتدا بها عن العمرة فلم يكن متمتعا بخلاف الفصل الأول.

"فصل": وأما بيان ما يجب على المتمتع والقارن بسبب التمتع والقران, أما المتمتع فيجب عليه الهدي بالإجماع, والكلام في الهدي في مواضع: في تفسير الهدي, وفي بيان وجوبه, وفي بيان شرط الوجوب, وفي بيان صفة الواجب

 

ج / 2 ص -173-       وفي بيان مكان إقامته, وفي بيان زمان الإقامة أما الأول: فالهدي المذكور في آية التمتع اختلف فيه الصحابة رضي الله عنهم روي عن علي, وابن عباس, وابن مسعود رضي الله عنهم أنهم قالوا: هو شاة, وعن ابن عمر, وعائشة: رضي الله عنهم أنه بدنة أو بقرة, والحاصل: أن اسم الهدي يقع على الإبل, والبقر, والغنم لكن الشاة ههنا مرادة من الآية الكريمة بإجماع الفقهاء حتى أجمعوا على جوازها عن المتعة, والدليل عليه أيضا: ما روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الهدي فقال: صلى الله عليه وسلم أدناه شاة" إلا أن البدنة أفضل من البقرة, والبقرة أفضل من الشاة لقول النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الهدي: أدناه شاة, ففيه إشارة إلى أن أعلاه البدنة والبقرة. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "المبكر إلى الجمعة كالمهدي بدنة ثم كالمهدي بقرة ثم كالمهدي شاة". وكذا النبي صلى الله عليه وسلم ساق البدن, ومعلوم أنه كان يختار من الأعمال أفضلها, ولأن البدنة أكثر لحما وقيمة من البقرة, والبقرة أكثر لحما وقيمة من الشاة, فكان أنفع للفقراء فكان أفضل. وأما وجوبه فإنه واجب بالإجماع, وبقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: فعليه ذبح ما استيسر من الهدي كما في قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} الآية أي فحلق فعليه فدية, وقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} معناه فأفطر فليصم في عدة من أيام أخر. وأما شرط وجوبه فالقدرة عليه؛ لأن الله تعالى أوجب ما استيسر من الهدي, ولا وجوب إلا على القادر, فإن لم يقدر فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله لقوله عز وجل {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ}. معناه فمن لم يجد الهدي فصيام ثلاثة أيام في الحج, وسبعة إذا رجعتم, ولا يجوز له أن يصوم ثلاثة أيام في أشهر الحج قبل أن يحرم بالعمرة بلا خلاف, وهل يجوز له بعد ما أحرم بالعمرة في أشهر الحج قبل أن يحرم بالحج, قال أصحابنا: يجوز سواء طاف لعمرته أو لم يطف بعد أن أحرم بالعمرة. وقال الشافعي: لا يجوز حتى يحرم بالحج, كذا ذكر الفقيه أبو الليث الخلاف. وذكر إمام الهدى أبو منصور الماتريدي رحمه الله القياس: أن لا يجوز ما لم يشرع في الحج, وهو قول زفر لقوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ}, وإنما يكون في الحج بعد الشروع فيه, وذلك بالإحرام, ولأن على أصل الشافعي دم المتعة دم كفارة وجب جبرا للنقص, وما لم يحرم بالحج لا يظهر النقص, ولنا أن الإحرام بالعمرة سبب لوجود الإحرام بالحجة فكان الصوم تعجيلا بعد وجود السبب فجاز, وقبل وجود العمرة لم يوجد السبب فلم يجز, ولأن السنة في المتمتع أن يحرم بالحج عشية التروية. كذا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه بذلك, وإذا كانت السنة في حقه الإحرام بالحج عشية التروية فلا يمكنه صيام الثلاثة الأيام بعد ذلك, وإنما بقي له يوم واحد؛ لأن أيام النحر والتشريق قد نهي عن الصيام فيها, فلا بد من الحكم بجواز الصوم بعد إحرام العمرة قبل الشروع في الحج. وأما الآية فقد قيل في تأويلها: إن المراد منها وقت الحج, وهو الصحيح؛ إذ الحج لا يصلح ظرفا للصوم, والوقت يصلح ظرفا له فصار تقدير الآية الشريفة: فصيام ثلاثة أيام في وقت الحج, كما في قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي وقت الحج أشهر معلومات, وعلى هذا صارت الآية الشريفة حجة لنا عليه؛ لأن الله تعالى أوجب على المتمتع صيام ثلاثة أيام في وقت الحج, وهو أشهر الحج, وقد صام في أشهر الحج فجاز إلا أن زمان ما قبل الإحرام صار مخصوصا من النص, والأفضل أن يصوم ثلاثة أيام آخرها يوم عرفة بأن يصوم قبل التروية بيوم, ويوم التروية, ويوم عرفة؛ لأن الله تعالى جعل صيام ثلاثة أيام بدلا عن الهدي, وأفضل أوقات البدل وقت اليأس عن الأصل لما يحتمل القدرة على الأصل قبله, ولهذا كان الأفضل تأخير التيمم إلى آخر وقت الصلاة لاحتمال وجود الماء قبله, وهذه الأيام آخر وقت هذا الصوم عندنا, فإذا مضت ولم يصم فيها فقد فات الصوم وسقط عنه, وعاد الهدي, فإن لم يقدر عليه يتحلل, وعليه دمان: دم التمتع, ودم التحلل قبل الهدي. وعند الشافعي لا يفوت بمضي هذه الأيام, ثم له قولان: في قول يصومها في أيام التشريق, وفي قول يصومها بعد أيام التشريق. والصحيح قولنا لقوله تعالى {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ} أي في وقت الحج لما بينا عين وقت الحج لصوم هذه الأيام, إلا أن يوم النحر خرج من أن

 

ج / 2 ص -174-       يكون وقتا لهذا الصوم بالإجماع, وما رواه ليس وقت الحج, فلا يكون محلا لهذا الصوم, وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: المتمتع إنما يصوم قبل يوم النحر, وعن عمر رضي الله عنه أن رجلا أتاه يوم النحر, وهو متمتع لم يصم, فقال له عمر رضي الله عنه: اذبح شاة, فقال الرجل ما أجدها, فقال له عمر سل قومك, فقال: ليس ههنا منهم أحد, فقال عمر رضي الله عنه: يا مغيث أعطه عني ثمن شاة, والظاهر أنه قال ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن مثل ذلك لا يعرف رأيا واجتهادا. وأما صوم السبعة, فلا يجوز قبل الفراغ من أفعال الحج بالإجماع, وهل يجوز بعد الفراغ من أفعال الحج بمكة قبل الرجوع إلى الأهل؟ قال أصحابنا: يجوز. وقال الشافعي: لا يجوز إلا بعد الرجوع إلى الأهل إلا إذا نوى الإقامة بمكة فيصومها بمكة فيجوز, واحتج بقوله تعالى {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} أي إذا رجعتم إلى أهليكم, ولنا هذه الآية بعينها؛ لأنه قال عز وجل: {إِذَا رَجَعْتُمْ} مطلقا, فيقتضي أنه إذا رجع من منى إلى مكة, وصامها يجوز, وهكذا قال بعض أهل التأويل: إذا رجعتم من منى. وقال بعضهم: إذا فرغتم من أفعال الحج, وقيل: إذا أتى وقت الرجوع. ولو وجد الهدي قبل أن يشرع في صوم ثلاثة أيام أو في خلال الصوم أو بعد ما صام فوجده في أيام النحر قبل أن يحلق أو يقصر: يلزمه الهدي, ويسقط حكم الصوم عندنا. وقال الشافعي لا يلزمه الهدي, ولا يبطل حكم الصوم, والصحيح قولنا؛ لأن الصوم بدل عن الهدي, وقد قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل فبطل حكم البدل كما لو وجد الماء في خلال التيمم. ولو وجد الهدي في أيام الذبح أو بعد ما حلق أو قصر فحل قبل أن يصوم السبعة صح صومه, ولا يجب عليه الهدي؛ لأن المقصود من البدل, وهو التحلل قد حصل, فالقدرة على الأصل بعد ذلك لا تبطل حكم البدل كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء, واختلف أبو بكر الرازي, وأبو عبد الله الجرجاني في صوم السبعة قال الجرجاني: إنه ليس ببدل؛ بدليل أنه يجوز مع وجود الهدي بالإجماع, ولا جواز للبدل مع وجود الأصل كما في التراب مع الماء ونحو ذلك. وقال الرازي: إنه بدل؛ لأنه لا يجب إلا حال العجز عن الأصل, وجوازه حال وجود الأصل لا يخرجه عن كونه بدلا. ولو صام ثلاثة أيام, ولم يحل حتى مضت أيام الذبح ثم وجد الهدي فصومه ماض, ولا هدي عليه, كذا روى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة, ذكره الكرخي في مختصره؛ لأن الذبح يتوقت بأيام الذبح عندنا, فإذا مضت فقد حصل المقصود, وهو إباحة التحلل فكأنه تحلل ثم وجد الهدي. وأما صفة الواجب فقد اختلف فيها, قال أصحابنا: إنه دم نسك وجب شكرا لما وفق للجمع بين النسكين بسفر واحد فله أن يأكل منه, ويطعم من شاء, غنيا كان المطعم أو فقيرا ويستحب له أن يأكل الثلث, ويتصدق بالثلث, ويهدي الثلث لأقربائه وجيرانه, سواء كانوا فقراء أو أغنياء كدم الأضحية لقوله عز وجل: {فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ}. وقال الشافعي: إنه دم كفارة وجب جبرا للنقص بترك إحدى السفرتين؛ لأن الإفراد أفضل عنده لا يجوز للغني أن يأكل منه, وسبيله سبيل دماء الكفارات. وأما القارن فحكمه حكم المتمتع في وجوب الهدي عليه إن وجد, والصوم إن لم يجد, وإباحة الأكل من لحمه للغني والفقير؛ لأنه في معنى المتمتع فيما لأجله وجب الدم, وهو الجمع بين الحجة, والعمرة في سفر واحد. وقد روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قارنا فنحر البدن, وأمر عليا رضي الله عنه فأخذ من كل بدنة قطعة فطبخها, وأكل رسول الله صلى الله عليه وسلم من لحمها, وحسا من مرقهاط" وأما مكان هذا الدم فالحرم, لا يجوز في غيره لقوله تعالى: {وَالْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ}, ومحله الحرم, والمراد منه هدي المتعة لقوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} والهدي اسم لما يهدى إلى بيت الله الحرام أي يبعث, وينقل إليه. وأما زمانه فأيام النحر حتى لو ذبح قبلها لم يجز؛ لأنه دم نسك عندنا فيتوقت بأيام النحر كالأضحية. وأما بيان أفضل أنواع ما يحرم به فظاهر الرواية عن أصحابنا أن القران أفضل, ثم التمتع, ثم الإفراد, وروي عن أبي حنيفة أن الإفراد أفضل من التمتع, وبه أخذ الشافعي. وقال مالك: التمتع أفضل. وذكر محمد في كتاب الرد على أهل المدينة أن حجة كوفية, وعمرة كوفية أفضل, احتج الشافعي بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد بالحج عام حجة الوداع" فدل أن الإفراد أفضل؛ إذ هو صلى الله عليه وسلم كان يختار من الأعمال أفضلها. ولنا أن المشهور "أن النبي صلى الله عليه وسلم قرن بين الحج, والعمرة" رواه عمر وعلي وابن عباس

 

ج / 2 ص -175-       وجابر وأنس رضي الله عنهم. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتاني آت من ربي, وأنا بالعقيق, فقال: قم فصل في هذا الوادي المبارك ركعتين, وقل: لبيك بعمرة في حجة" حتى روي عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصرخ بها صراخا, ويقول: لبيك بعمرة في حجة فدل أنه صلى الله عليه وسلم كان قارنا. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "تابعوا بين الحج والعمرة فإن المتابعة بينهما تزيد في العمر, وتنفي الفقر", ولأن القران, والتمتع جمع بين عبادتين بإحرامين, فكان أفضل من إتيان عبادة واحدة بإحرام واحد, وإنما كان القران أفضل من التمتع؛ لأن القارن, حجته وعمرته آفاقيتان؛ لأنه يحرم بكل واحدة منهما من الآفاق, والمتمتع عمرته آفاقية, وحجته مكية؛ لأنه يحرم بالعمرة من الآفاق, وبالحجة من مكة. والحجة الآفاقية أفضل من الحجة المكية لقوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}, وروينا عن علي, وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك, وما كان أتم فهو أفضل. وأما ما رواه الشافعي فالمشهور ما روينا, والعمل بالمشهور أولى مع ما أن فيما روينا زيادة ليست في روايته. والزيادة برواية العدل مقبولة على أنا نجمع بين الروايتين على ما هو الأصل عند تعارض الدليلين أنه يعمل بهما بالقدر الممكن, فنقول: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قارنا لكنه كان يسمي العمرة والحجة في التلبية بهما مرة, وكان صلى الله عليه وسلم يلبي بهما لكنه كان يسمي بإحداهما مرة, إذ تسمية ما يحرم به في التلبية ليس بشرط لصحة التلبية فراوي الإفراد سمعه يسمي الحجة في التلبية فبنى الأمر على الظاهر, فظنه مفردا فروى الإفراد, وراوي القران وقف على حقيقة الحال فروى القران.

"فصل": وأما بيان حكم المحرم إذا منع عن المضي في الإحرام, وهو المسمى بالمحصر في عرف الشرع فالكلام في الإحصار في الأصل في ثلاث مواضع: في تفسير الإحصار أنه ما هو, ومم يكون, وفي بيان حكم الإحصار, وفي بيان حكم زوال الإحصار. أما الأول فالمحصر في اللغة هو الممنوع, والإحصار هو المنع, وفي عرف الشرع هو اسم لمن أحرم ثم منع عن المضي في موجب الإحرام, سواء كان المنع من العدو أو المرض أو الحبس أو الكسر أو العرج, وغيرها من الموانع من إتمام ما أحرم به حقيقة أو شرعا, وهذا قول أصحابنا. وقال الشافعي: لا إحصار إلا من العدو, ووجه قوله أن آية الإحصار, وهي قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} نزلت في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أحصروا من العدو, وفي آخر الآية الشريفة دليل عليه, وهو قوله عز وجل: {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} والأمان من العدو يكون. وروي عن ابن عباس, وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا لا حصر إلا من عدو, ولنا عموم قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ}, والإحصار هو المنع, والمنع كما يكون من العدو يكون من المرض وغيره, والعبرة بعموم اللفظ عندنا لا بخصوص السبب؛ إذ الحكم يتبع اللفظ لا السبب, وعن الكسائي, وأبي معاذ أن الإحصار من المرض, والحصر من العدو. فعلى هذا كانت الآية خاصة في الممنوع بسبب المرض. وأما قوله عز وجل {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} فالجواب عن التعلق به من وجهين: أحدهما أن الأمن كما يكون من العدو يكون من زوال المرض؛ لأنه إذا زال مرض الإنسان أمن الموت منه أو أمن زيادة المرض. وكذا بعض الأمراض قد تكون أمانا من البعض كما قال النبي: صلى الله عليه وسلم "الزكام أمان من الجذام", والثاني أن هذا يدل على أن المحصر من العدو مراد من الآية الشريفة, وهذا لا ينفي كون المحصر من المرض مرادا منها, وما روي عن ابن عباس, وابن عمر رضي الله عنهما أنه إن ثبت فلا يجوز أن ينسخ به مطلق الكتاب, كيف وإنه لا يرى نسخ الكتاب بالسنة, وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من كسر أو عرج فقد حل, وعليه الحج من قابل", وقوله حل, أي: جاز له أن يحل بغير دم؛ لأنه لم يؤذن له بذلك شرعا, وهو كقول النبي صلى الله عليه وسلم "إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم", ومعناه: أي حل له الإفطار فكذا ههنا معناه حل له أن يحل, ولأنه إنما صار محصرا من العدو, ومن خصاله التحلل لمعنى هو موجود في المرض وغيره, وهو الحاجة إلى الترفيه, والتيسير لما يلحقه من الضرر والحرج بإبقائه على الإحرام مدة مديدة. والحاجة إلى الترفيه والتيسير متحققة في المريض ونحوه, فيتحقق الإحصار, ويثبت موجبه بل أولى؛ لأنه يملك دفع

 

ج / 2 ص -176-       شر العدو عن نفسه بالقتال فيدفع الإحصار عن نفسه, ولا يمكنه دفع المرض عن نفسه فلما جعل ذلك عذرا فلأن يجعل هذا عذرا أولى, والله أعلم. وسواء كان العدو المانع كافرا أو مسلما لتحقق الإحصار منهما, وهو المنع عن المضي في موجب الإحرام فيدخل تحت عموم الآية. وكذا ما ذكرنا من المعنى الموجب لثبوت حكم الإحصار, وهو إباحة التحلل, وغيره لا يوجب الفصل بين الإحصار من المسلم ومن الكافر. ولو سرقت نفقته أو هلكت راحلته, فإن كان لا يقدر على المشي فهو محصر؛ لأنه منع من المضي في موجب الإحرام فكان محصرا كما لو منعه المرض, وإن كان يقدر على المشي, فليس بمحصر؛ لأنه قادر على المضي في موجب الإحرام فلا يجوز له التحلل, ويجب عليه المشي إلى الحج إن كان محرما بالحج, ويجوز أن لا يجب على الإنسان المشي إلى الحج ابتداء, ويجب عليه بعد الشروع فيه كالفقير الذي لا زاد له ولا راحلة, شرع في الحج أنه يجب عليه المشي, وإن كان لا يجب عليه ابتداء قبل الشروع كذا هذا. قال أبو يوسف: فإن قدر على المشي في الحال, وخاف أن يعجز جاز له التحلل؛ لأن المشي الذي لا يوصله إلى المناسك, وجوده والعدم بمنزلة واحدة فكان محصرا فيجوز له التحلل, كما لو لم يقدر على المشي أصلا, وعلى هذا يخرج المرأة إذا أحرمت ولا زوج لها ومعها محرم فمات محرمها, أو أحرمت ولا محرم معها, ولكن معها زوجها فمات زوجها أنها محصرة؛ لأنها ممنوعة شرعا من المضي في موجب الإحرام بلا زوج ولا محرم, وعلى هذا يخرج ما إذا أحرمت بحجة التطوع, ولها محرم وزوج فمنعها زوجها: أنها محصرة؛ لأن للزوج أن يمنعها من حجة التطوع كما أن له أن يمنعها عن صوم التطوع فصارت ممنوعة شرعا بمنع الزوج فصارت محصرة كالممنوع حقيقة بالعدو وغيره, وإن أحرمت ومعها محرم, وليس لها زوج فليست بمحصرة؛ لأنها غير ممنوعة عن المضي في موجب الإحرام حقيقة, وشرعا, وكذلك إذا كان لها محرم ولها زوج فأحرمت بإذن الزوج: أنها لا تكون محصرة, وتمضي في إحرامها؛ لأن الزوج أسقط حق نفسه بالإذن, وإن أحرمت وليس لها محرم, فإن لم يكن لها زوج فهي محصرة؛ لأنها ممنوعة من المضي في موجب الإحرام بغير زوج ولا محرم, وإن كان لها زوج, فإن أحرمت بغير إذنه فكذلك لأنها ممنوعة عن المضي بغير إذن الزوج, وإن أحرمت بإذنه لا تكون محصرة؛ لأنها غير ممنوعة, وإن أحرمت بحجة الإسلام, ولا محرم لها, ولا زوج فهي محصرة؛ لأنها ممنوعة عن المضي في موجب الإحرام لحق الله تعالى, وهذا المنع أقوى من منع العباد, وإن كان لها محرم وزوج, ولها استطاعة عند خروج أهل بلدها فليست بمحصرة؛ لأنه ليس للزوج أن يمنعها من الفرائض كالصلوات المكتوبة, وصوم رمضان. وإن كان لها زوج, ولا محرم معها فمنعها الزوج فهي محصرة في ظاهر الرواية؛ لأن الزوج لا يجبر على الخروج, ولا يجوز لها الخروج بنفسها, ولا يجوز للزوج أن يأذن لها بالخروج. ولو أذن لا يعمل إذنه فكانت محصرة, وهل للزوج أن يحللها روي عن أبي حنيفة: أن له أن يحللها؛ لأنها لما صارت محصرة ممنوعة عن الخروج والمضي بمنع الزوج, صار هذا كحج التطوع, وهناك للزوج أن يحللها, فكذا هذا. ولو أحرم العبد والأمة بغير إذن المولى فهو محصر؛ لأنه ممنوع عن المضي بغير إذنه, وللمولى أن يحلله, وإن كان بإذنه فللمولى أن يمنعه إلا أنه يكره له ذلك؛ لأنه خلف في الوعد, ولا يكون الحاج محصرا بعد ما وقف بعرفة, ويبقى محرما عن النساء إلى أن يطوف طواف الزيارة, وإنما قلنا: إنه لا يكون محصرا لقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} أي: فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة؛ لأنه مبني على قوله: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}, وقد تم حجه بالوقوف لقوله: صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" فمن وقف بعرفة فقد تم حجه, وبعد تمام الحج لا يتحقق الإحصار, ولأن المحصر اسم لفائت الحج, وبعد وجود الركن الأصلي, وهو الوقوف لا يتصور الفوات فلا يكون محصرا, ولكنه يبقى محرما عن النساء إلى أن يطوف طواف الزيارة؛ لأن التحلل عن النساء لا يحصل بدون طواف الزيارة, فإن منع حتى مضى أيام النحر, والتشريق, ثم خلي سبيله: يسقط عنه الوقوف بمزدلفة ورمي الجمار, وعليه دم لترك الوقوف بمزدلفة, ودم لترك الرمي؛ لأن كل واحد منهما واجب, وعليه أن يطوف طواف الزيارة, وطواف الصدر, وعليه لتأخير طواف الزيارة عن أيام النحر دم عند أبي حنيفة وكذا عليه لتأخير الحلق عن أيام النحر دم عنده. وعندهما لا شيء عليه, والمسألة مضت في

 

ج / 2 ص -177-       موضعها, ولا إحصار بعد ما قدم مكة أو الحرم إن كان لا يمنع من الطواف, ولم يذكر في الأصل أنه إن منع من الطواف, ماذا حكمه؟ وذكر الجصاص أنه إن قدر على الوقوف والطواف جميعا أو قدر على أحدهما فليس بمحصر, وإن لم يقدر على واحد منهما فهو محصر. وروي عن أبي يوسف أنه لا يكون الرجل محصرا بعد ما دخل الحرم إلا أن يكون بمكة عدو غالب يحول بينه وبين الدخول إلى مكة كما حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين دخول مكة, فإذا كان كذلك فهو محصر. وروي عن أبي يوسف أنه قال: سألت أبا حنيفة, هل على أهل مكة إحصار؟ فقال: لا, فقلت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحصر بالحديبية, فقال: كانت مكة إذ ذاك حربا, وهي اليوم دار إسلام, وليس فيها إحصار, والصحيح ما ذكره الجصاص من التفصيل أنه إن كان يقدر على الوقوف أو على الطواف لا يكون محصرا, وإن لم يقدر على واحد منهما يكون محصرا, أما إذا كان يقدر على الوقوف فلما ذكرنا. وأما إذا كان يصل إلى الطواف فلأن التحلل بالدم إنما رخص للمحصر لتعذر الطواف قائما مقامه, بدلا عنه, بمنزلة فائت الحج أنه يتحلل بعمل العمرة, وهو الطواف فإذا قدر على الطواف فقد قدر على الأصل فلا يجوز التحلل. وأما إذا لم يقدر على الوصول إلى أحدهما فلأنه في حكم المحصر في الحل فيجوز له أن يتحلل, والله عز وجل أعلم, ثم الإحصار كما يكون عن الحج يكون عن العمرة عند عامة العلماء. وقال بعضهم: لا إحصار عن العمرة. وجه قوله أن الإحصار لخوف الفوت, والعمرة لا تحتمل الفوت؛ لأن سائر الأوقات وقت لها, فلا يخاف فوتها بخلاف الحج فإنه يحتمل الفوت فيتحقق الإحصار عنه, ولنا قوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} عقيب قوله عز وجل: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} فكان المراد منه والله أعلم فإن أحصرتم عن إتمامهما فما استيسر من الهدي. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم حصروا بالحديبية فحال كفار قريش بينهم وبين البيت, وكانوا معتمرين فنحروا هديهم, وحلقوا رءوسهم, وقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عمرتهم في العام القابل حتى سميت عمرة القضاء, ولأن التحلل بالهدي في الحج لمعنى هو موجود في العمرة, وهو ما ذكرنا من التضرر بامتداد الإحرام, والله أعلم.

"فصل": وأما حكم الإحصار فالإحصار يتعلق به أحكام, لكن الأصل فيه حكمان أحدهما: جواز التحلل عن الإحصار والثاني: وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل. أما جواز التحلل فالكلام فيه في مواضع في تفسير التحلل, وفي بيان جوازه, وفي بيان ما يتحلل به, وفي بيان مكانه وفي بيان زمانه, وفي بيان حكم التحلل. أما الأول فالتحلل: هو فسخ الإحرام, والخروج منه بالطريق الموضوع له شرعا وأما دليل جوازه فقوله تعالى: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} وفيه إضمار ومعناه والله أعلم فإن أحصرتم عن إتمام الحج والعمرة, وأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما تيسر من الهدي, إذ الإحصار نفسه لا يوجب الهدي ألا ترى أن له أن لا يتحلل ويبقى محرما كما كان إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام, وهو كقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} معناه: فمن كان منكم مريضا, أو به أذى من رأسه فحلق ففدية, وإلا فكون الأذى في رأسه لا يوجب الفدية. وكذا قوله تعالى: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} معناه: فأفطر؛ فعدة من أيام أخر, وإلا فنفس المرض والسفر لا يوجب الصوم في عدة من أيام أخر. وكذا قوله: {فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} معناه: فأكل فلا إثم عليه, وإلا فنفس الاضطرار لا يوجب الإثم كذا ههنا؛ ولأن المحصر محتاج إلى التحلل؛ لأنه منع عن المضي في موجب الإحرام على وجه لا يمكنه الدفع, فلو لم يجز له التحلل لبقي محرما لا يحل له ما حظره الإحرام إلى أن يزول المانع فيمضي في موجب الإحرام, وفيه من الضرر والحرج ما لا يخفى فمست الحاجة إلى التحلل والخروج من الإحرام دفعا للضرر والحرج. وسواء كان الإحصار عن الحج, أو عن العمرة, أو عنهما عند عامة العلماء لما ذكرنا والله عز وجل أعلم. وأما بيان ما يتحلل به فالمحصر نوعان. نوع لا يتحلل إلا بالهدي, ونوع يتحلل بغير الهدي. أما الذي لا يتحلل إلا بالهدي: فكل من منع من المضي في موجب الإحرام حقيقة, أو منع منه شرعا حقا لله تعالى لا لحق العبد على ما ذكرنا, فهذا لا يتحلل

 

ج / 2 ص -178-       إلا بالهدي وهو: أن يبعث بالهدي أو بثمنه ليشتري به هديا فيذبح عنه, وما لم يذبح لا يحل. وهذا قول عامة العلماء سواء كان شرط عند الإحرام الإحلال بغير ذبح عند الإحصار, أو لم يشترط. وقال بعض الناس: المحصر يحل بغير هدي, إلا إذا كان معه هدي فيذبحه. ويحل وقيل: إنه قول مالك. وقال بعضهم: إن كان لم يشترط عند الإحرام الإحلال عند الإحصار من غير هدي لا يحل إلا بالهدي. وإن كان شرط عند الإحرام الإحلال عند الإحصار من غير هدي لا يحل إلا بالهدي احتج من قال بالتحلل من غير هدي بما روي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حل عام الحديبية عن إحصاره بغير هدي؛ لأن الهدي الذي نحره كان هديا ساقه لعمرته لا لإحصاره, فنحر هديه على النية الأولى, وحل من إحصاره بغير دم, فدل أن المحصر يحل بغير هدي يحقق ما قلنا: إنه ليس في حديث صلح الحديبية أنه نحر دمين, وإنما نحر دما واحدا. ولو كان المحصر لا يحل إلا بدم لنحر دمين, وأنه غير منقول. ولنا قوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} معناه: حتى يبلغ الهدي محله فيذبح, نهى عز وجل عن حلق الرأس قبل ذبح الهدي في محله, وهو الحرم من غير فصل بين ما إذا كان معه هدي وقت الإحصار أم لا, شرط المحصر عند الإحرام الإحلال عند الإحصار أو لم يشرط, فيجري على إطلاقه, ولأن شرع التحلل ثبت بطريق الرخصة لما فيه من فسخ الإحرام والخروج منه قبل أوانه, فكان ثبوته بطريق الضرورة, والضرورة تندفع بالتحلل بالهدي, فلا يثبت التحلل بدونه. وأما الحديث فليس فيه ما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم حل عام الحديبية عن إحصاره بغير هدي, إذ لا يتوهم على النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون حل من إحصاره بغير هدي. والله تعالى أمر المحصر أن لا يحل حتى ينحر هديه بنص الكتاب العزيز. ولكن وجه ذلك والله أعلم وهو معنى المروي في حديث صلح الحديبية أنه نحر دما واحدا أن الهدي الذي كان ساقه النبي صلى الله عليه وسلم كان هدي متعة أو قران, فلما منع عن البيت سقط عنه دم القران فجاز له أن يجعله من دم الإحصار فإن قيل: كيف قلتم: إن النبي صلى الله عليه وسلم صرف الهدي عن سبيله وأنتم تزعمون أن من باع هدية التطوع فهو مسيء لما أنه صرفه عن سبيله, فالجواب: أنه لا مشابهة بين الفصلين؛ لأن الذي باعه صرفه عن سبيل التقرب به إلى الله تعالى رأسا فأما النبي صلى الله عليه وسلم فلم يصرف الهدي عن سبيل التقرب أصلا ورأسا, بل صرفه إلى ما هو أفضل: وهو الواجب, وهو دم الإحصار ومما يدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الهدي لإحصاره ما روي أنه لم يحلق حتى نحر هديه. وقال: "أيها الناس انحروا وحلوا" والله عز وجل أعلم. وإذا لم يتحلل إلا بالهدي وأراد التحلل يجب أن يبعث الهدي, أو ثمنه ليشترى به الهدي فيذبح عنه ويجب أن يواعدهم يوما معلوما يذبح فيه؛ فيحل بعد الذبح, ولا يحل قبله, بل يحرم عليه, كما يحرم على المحرم غير المحصر, فلا يحلق رأسه, ولا يفعل شيئا من محظورات الإحرام حتى يكون اليوم الذي واعدهم فيه, ويعلم أن هديه قد ذبح لقوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} حتى لو فعل شيئا من محظورات الإحرام قبل ذبح الهدي, يجب عليه ما يجب على المحرم إذا لم يكن محصرا, وسنذكر ذلك إن شاء الله تعالى في موضعه حتى لو حلق قبل الذبح؛ تجب عليه الفدية سواء حلق لغير عذر, أو لعذر لقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} أي: فمن كان منكم مريضا أو به أذى من رأسه فحلق, ففدية من صيام, أو صدقة, أو نسك كقوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي: فأفطر فعدة من أيام أخر. وعن كعب بن عجرة قال: "في نزلت الآية, وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم مر بي والقمل يتناثر على وجهي فقال صلى الله عليه وسلم: أيؤذيك هوام رأسك؟ فقلت: نعم يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: صلى الله عليه وسلم احلق وأطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من حنطة, أو صم ثلاثة أيام, أو انسك نسيكة فنزلت الآية" والنسك جمع نسيكة, والنسيكة الذبيحة, والمراد منه الشاة لإجماع المسلمين على أن الشاة مجزئة في الفدية, وفي بعض الروايات "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب بن عجرة: انسك شاة" وإذا وجبت الفدية عليه إذا حلق رأسه لأذى بالنص, فيجب عليه إذا حلق لا لأذى بدلالة النص؛ لأن العذر سبب تخفيف الحكم في الجملة, فلما وجب في حال الضرورة؛ ففي حال الاختيار

 

ج / 2 ص -179-       أولى. ولا يجزئ دم الفدية إلا في الحرم كدم الإحصار, ودم المتعة, والقران. وأما الصدقة والصوم: فإنهما يجزيان حيث شاء. وقال الشافعي: "لا تجزئ الصدقة إلا بمكة" وجه قوله أن الهدي يختص بمكة, فكذا الصدقة, والجامع بينهما: أن أهل الحرم ينتفعون بذلك ولنا قوله تعالى {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} مطلقا عن المكان, إلا أن النسك قيد بالمكان بدليل "فمن ادعى تقييد الصدقة فعليه الدليل ". وأما قوله: إن الهدي إنما اختص بالحرم لينتفع به أهل الحرم فكذا الصدقة فنقول: هذا الاعتبار فاسد؛ لأنه لا خلاف في أنه لو ذبح الهدي في غير الحرم وتصدق بلحمه في الحرم؛ أنه لا يجوز. ولو ذبح في الحرم وتصدق به على غير أهل الحرم يجوز. والدليل على التفرقة بين الهدي والإطعام: أن من قال: لله علي أن أهدي ليس له أن يذبح إلا بمكة ولو قال: لله علي إطعام عشرة مساكين, أو لله علي عشرة دراهم صدقة, له أن يطعم, ويتصدق حيث شاء, فدل على التفرقة بينهما. ولو حل على ظن أنه ذبح عنه, ثم تبين أنه لم يذبح فهو محرم كما كان, لا يحل ما لم يذبح عنه لعدم شرط الحل وهو: ذبح الهدي وعليه لإحلاله تناول محظور إحرامه دم؛ لأنه جنى على إحرامه فيلزمه الدم كفارة لذنبه, ثم الهدي: بدنة, أو بقرة, أو شاة, وأدناه شاة لما روينا. ولأن الهدي في اللغة اسم لما يهدى أي: يبعث وينقل وفي الشرع اسم لما يهدى إلى الحرم. وكل ذلك مما يهدى إلى الحرم. والأفضل هو البدنة, ثم البقرة لما ذكرنا في المتمتع ولما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أحصر بالحديبية نحر البدن, وكان يختار من الأعمال أفضلها" وإن كان قارنا لا يحل إلا بدمين عندنا. وعند الشافعي يحل بدم واحد بناء على أصل ذكرناه فيما تقدم: إن القارن محرم بإحرامين, فلا يحل إلا بهديين, وعنده محرم بإحرام واحد ويدخل إحرام العمرة في الحجة فيكفيه دم واحد. ولو بعث القارن بهديين ولم يبين أيهما للحج, وأيهما للعمرة لم يضره؛ لأن الموجب لهما واحد, فلا يشترط فيه تعيين النية كقضاء يومين من رمضان. ولو بعث القارن بهدي واحد ليتحلل من الحج ويبقى في إحرام العمرة لم يتحلل من واحد منهما؛ لأن تحلل القارن من أحد الإحرامين متعلق بتحلله من الآخر؛ لأن الهدي بدل عن الطواف ثم لا يتحلل بأحد الطوافين عن أحد الإحرامين, فكذا بأحد الهديين. ولو كان أحرم بشيء واحد لا ينوي حجة ولا عمرة ثم أحصر يحل بهدي واحد وعليه عمرة استحسانا؛ لأن الإحرام بالمجهول صحيح لما ذكرنا فيما تقدم, وكان البيان إليه إن شاء صرفه إلى الحج, وإن شاء إلى العمرة؛ لأنه هو المجمل فكان البيان إليه كما في الطلاق وغيره, والقياس: أن لا تتعين العمرة بالإحصار لعدم التعيين قولا ولا فعلا؛ لأن ذلك أن يأخذ في عمل أحدهما, ولم يوجد إلا أنهم استحسنوا وقالوا: تتعين العمرة بالإحصار؛ لأن العمرة أقلهما, وهو متيقن. ولو كان أحرم بشيء واحد وسماه ثم نسيه وأحصر يحل بهدي واحد, وعليه حجة وعمرة أما الحل بهدي واحد؛ فلأنه محرم بإحرام واحد, وأيهما كان فإنه يقع التحلل منه بدم واحد. وأما لزوم حجة وعمرة؛ فلأنه يحتمل أنه كان قد أحرم بحجة, ويحتمل بعمرة, فإن كان إحرامه بحجة فالعمرة لا تنوب منابها, وإن كان بالعمرة فالحجة لا تنوب منابها فيلزمه أن يجمع بينهما احتياطا ليسقط الفرض عن نفسه بيقين كمن نسي صلاة من الصلوات الخمس, أنه يجب عليه إعادة خمس صلوات ليسقط الفرض عن نفسه بيقين, كذا هذا, وكذلك إن لم يحصر ووصل فعليه حجة وعمرة, ويكون عليه ما على القارن؛ لأنه جمع بين الحج, والعمرة على طريق النسك. وأما مكان ذبح الهدي فالحرم عندنا. وقال: الشافعي: له أن يذبح في الموضع الذي أحصر فيه, احتج بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نحر الهدي عام الحديبية, ولم يبلغنا أنه نحر في الحرم؛ ولأن التحلل بالهدي ثبت رخصة وتيسيرا. وذلك في الذبح في أي موضع كان ولنا قوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ولو كان كل موضع محلا له لم يكن لذكر المحل فائدة, ولأنه عز وجل قال: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي: إلى البقعة التي فيها البيت. بخلاف قوله تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أن المراد منه نفس البيت؛ لأن هناك ذكر بالبيت وههنا ذكر إلى البيت. وأما ما روي من الحديث فقد روي في رواية أخرى أنه نحر هديه عام الحديبية في الحرم, فتعارضت الروايات, فلم يصح الاحتجاج به. وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نزل الحديبية فحال المشركون بينه وبين دخول مكة فجاء

 

ج / 2 ص -180-       سهيل بن عمرو يعرض عليه الصلح وأن يسوق البدن وينحر حيث شاء, فصالحه رسول الله صلى الله عليه وسلم" ولا يحتمل أن ينحر رسول الله صلى الله عليه وسلم بدنه في الحل مع إمكان النحر في الحرم, وهو بقرب الحرم بل هو فيه. وروي عن مروان والمسور بن مخرمة قالا: "نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية في الحل وكان يصلي في الحرم" فهذا يدل على أنه كان قادرا على أن ينحر بدنه في الحرم حيث كان يصلي في الحرم, ولا يحتمل أن يترك نحر البدن في الحرم, وله سبيل النحر في الحرم؛ ولأن الحديبية مكان يجمع الحل والحرم جميعا, فلا يحتمل أن ينحر في الحل مع كونه قادرا على النحر في الحرم, ولو حل من إحرامه على ظن أنهم ذبحوا عنه في الحرم ثم ظهر أنهم ذبحوا في غير الحرم فهو على إحرامه, ولا يحل منه إلا بذبح الهدي في الحرم لفقد شرط التحلل, وهو: الذبح في الحرم, فبقي محرما كما كان وعليه لإحلاله في تناوله محظورات إحرامه دم لما قلنا. وكذلك لو بعث الهدي وواعدهم أن يذبحوا عنه في الحرم في يوم بعينه, ثم حل من إحرامه على ظن أنهم ذبحوا عنه فيه, ثم تبين أنهم لم يذبحوا, فإنه يكون محرما لما قلنا. ولو بعث هديين وهو مفرد فإنه يحل من إحرامه بذبح الأول منهما, ويكون الآخر تطوعا لوجود شرط الحل عند وجود ذبح الأول منهما. ولو كان قارنا لا يحل إلا بذبحهما ولا يحل بذبح الأول؛ لأن شرط الحل في حقه الزمان, فما لم يوجدا لا يحل. ولو أراد أن يتحلل بالهدي فلم يجد هديا يبعث, ولا ثمنه هل يحل بالصوم ويكون الصوم بدلا عنه؟ قال أبو حنيفة ومحمد: لا يحل بالصوم وليس الصوم بدلا عن هدي المحصر, وهو ظاهر قول أبي يوسف. ويقيم حراما حتى يذبح الهدي عنه في الحرم, أو يذهب إلى مكة فيحل من إحرامه بأفعال العمرة وهو: الطواف بالبيت, والسعي بين الصفا والمروة. ويحلق أو يقصر كما يفعله إذا فاته الحج, وهو: أحد قولي الشافعي. وقال عطاء بن أبي رباح في المحصر لا يجد الهدي: قوم الهدي طعاما وتصدق به على المساكين, فإن لم يكن عنده طعام صام لكل نصف صاع يوما, وهو مروي عن أبي يوسف. وقال الشافعي في قول: إن الهدي للإحصار بدلا, واختلف قوله في ماهية البدل فقال في قول: البدل هو الصوم مثل صوم المتعة, وفي قول: البدل هو الإطعام وهل يقوم الصوم مقامه؟ له فيه قولان: وجه قول من قال: إن له بدلا أن هذا دم يقع به التحلل, فجاز أن يكون له بدل كدم المتعة. ولنا قوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} أي: حتى يبلغ الهدي محله فيذبح, نهى الله عن حلق الرأس ممدودا إلى غاية ذبح الهدي. والحكم الممدود إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية, فيقتضي أن لا يتحلل ما لم يذبح الهدي, سواء صام, أو أطعم, أو لا. ولأن التحلل بالدم قبل إتمام مواجب الإحرام عرف بالنص بخلاف القياس, فلا يجوز إقامة غيره مقامه بالرأي. وأما الحلق فليس بشرط للتحلل ويحل المحصر بالذبح بدون الحلق في قول أبي حنيفة, ومحمد "وإن حلق فحسن ". وقال أبو يوسف: "أرى عليه أن يحلق, فإن لم يفعل فلا شيء عليه ", وروي عنه أنه قال: "هو واجب لا يسعه تركه ". وذكر الجصاص وقال: "إنما لا يجب الحلق عندهما إذا أحصر في الحل؛ لأن الحلق يختص بالحرم. فأما إذا أحصر في الحرم: يجب الحلق عندهما ", احتج أبو يوسف بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق عام الحديبية, وأمر أصحابه بالحلق" فدل أن الحلق واجب, ولهما قوله تعالى {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} معناه فإن أحصرتم وأردتم أن تحلوا فاذبحوا ما استيسر من الهدي جعل ذبح الهدي في حق المحصر إذا أراد الحل كل موجب الإحصار فمن أوجب الحلق فقد جعله بعض الموجب, وهذا خلاف النص؛ ولأن الحلق للتحلل عن أفعال الحج, والمحصر لا يأتي بأفعال الحج فلا حلق عليه. وأما الحديث فعلى ما ذكره الجصاص: لا حجة فيه؛ لأن الحديبية بعضها في الحل وبعضها في الحرم, فيحتمل أنه أحصر في الحرم فأمر بالحلق, وأما على جواب المذكور في الأصل فهو: محمول على الندب, والاستحباب. وأما زمان ذبح الهدي فمطلق الوقت لا يتوقت بيوم النحر, سواء كان الإحصار عن الحج, أو عن العمرة وهذا قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف, ومحمد: إن المحصر عن الحج لا يذبح عنه إلا في أيام النحر, لا يجوز في غيرها, ولا خلاف في المحصر عن العمرة أنه يذبح عنه في أي وقت كان. وجه قولهما: إن هذا الدم سبب للتحلل من إحرام الحج فيختص بزمان التحلل كالحلق بخلاف العمرة, فإن التحلل من إحرامها بالحلق لا يختص بزمان, فكذا

 

ج / 2 ص -181-       بالهدي, ولأبي حنيفة: أن التحلل من المحصر تحلل قبل أوان التحلل يباح لضرورة دفع الضرر ببقائه محرما رخصة وتيسيرا, فلا يختص بيوم النحر كالطواف الذي يتحلل به فائت الحج, إذ المحصر فائت الحج والله أعلم. وأما حكم التحلل فصيرورته حلالا يباح له تناول جميع ما حظره الإحرام لارتفاع الحاظر, فيعود حلالا كما كان قبل الإحرام. وأما الذي يتحلل به بغير ذبح الهدي فكل محصر منع عن المضي في موجب الإحرام شرعا لحق العبد, كالمرأة والعبد الممنوعين شرعا لحق الزوج, والمولى بأن أحرمت المرأة بغير إذن زوجها, أو أحرم العبد بغير إذن مولاه, فللزوج والمولى أن يحللهما في الحال من غير ذبح الهدي, فيقع الكلام في هذا في موضعين. أحدهما: في جواز هذا النوع من التحلل, والثاني: في بيان ما يتحلل به أما الجواز؛ فلأن منافع بضع المرأة حق الزوج وملكه عليها فيحتاج إلى استيفاء حقه, ولا يمكنه ذلك مع قيام الإحرام فيحتاج إلى التحلل, ولا سبيل إلى توقيفه على ذبح الهدي في الحرم لما فيه من إبطال حقه للحال فكان له أن يحللها للحال. وعلى المرأة أن تبعث الهدي, أو ثمنه إلى الحرم ليذبح عنها, لأنها تحللت بغير طواف, وعليها حجة وعمرة كما على الرجل المحصر إذا تحلل بالهدي بخلاف ما إذا أحرمت بحجة الإسلام ولا زوج لها, ولا محرم, أو كان لها زوج أو محرم فمات أنها لا تتحلل إلا بالهدي؛ لأن المنع هناك لحق الله تعالى لا لحق العبد, فكان تحللها جائزا لا حقا مستحقا عليها لأحد, ألا ترى لها أن تبقى على إحرامها ما لم تجد محرما, أو زوجا, فكان تحللها بما هو الموضوع للتحلل في الأصل وهو: ذبح الهدي فهو الفرق. وكذا العبد بمنافعه ملك المولى فيحتاج إلى تصريفه في وجوه مصالحه, ولا يمكنه ذلك مع قيام الإحرام, فيحتاج إلى التحلل في الحال لما فيه من التوقيف على ذبح الهدي في الحرم من تعطيل مصالحه فيحلله المولى للحال, وعلى العبد إذا عتق هدي الإحصار, وقضاء حجة وعمرة؛ لأن الحج وجب عليه بالشروع لكونه مخاطبا أهلا, إلا أنه تعذر عليه المضي لحق المولى, فإذا عتق زال حقه, وتجب عليه العمرة لفوات الحج في عامه ذلك. ولو كان أحرم العبد بإذن مولاه يكره للمولى أن يحلله بعد ذلك؛ لأنه رجوع عما وعد وخلف في الوعد, فيكره. ولو حلله جاز؛ لأن العبد بمنافعه ملك المولى, وروي عن أبي يوسف, وزفر أن المولى إذا أذن للعبد في الحج ليس له أن يحلله؛ لأنه لما أذن له فقد أسقط حقه بالإذن, فأشبه الحر والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن المحلل بعد الإذن قائم وهو الملك, إلا أنه يكره لما قلنا. وإذا حلله لا هدي عليه؛ لأن المولى لا يجب عليه لعبده شيء. ولو أحصر العبد بعد ما أحرم بإذن المولى ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي: أنه لا يلزم المولى إنفاذ هدي؛ لأنه لو لزمه للزمه لحق العبد ولا يجب للعبد على مولاه حق, فإن أعتقه وجب عليه أن يبعث الهدي؛ لأنه إذا أعتق صار ممن يثبت له عليه حق, فصار كالحر إذا حج عن غيره فأحصر أنه يجب على المحجوج عنه أن يبعث الهدي. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي: أن على المولى أن يذبح عنه هديا في الحرم فيحل؛ لأن هذا الدم وجب لبلية ابتلي بها العبد بإذن المولى فصار بمنزلة النفقة, والنفقة على المولى. وكذا دم الإحصار, ولهذا كان دم الإحصار في مال الميت إذا أحصر الحاج عن الميت لا عليه كذا هذا. ولو أحرم العبد, أو الأمة بإذن المولى, ثم باعهما يجوز البيع, وللمشتري أن يمنعهما ويحللهما في قول أصحابنا الثلاثة. وفي قول زفر: ليس له ذلك, وله أن يردهما بالعيب, وعلى هذا الخلاف المرأة إذا أحرمت بحجة التطوع ثم تزوجت فللزوج أن يحللها. وعند زفر ليس له ذلك, كذا حكى القاضي الخلاف في شرحه مختصر الطحاوي. وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي الخلاف بين أبي يوسف, وزفر. وجه قول زفر: أن الذي انتقل إلى المشتري هو ما كان للبائع, ولم يكن للبائع أن يحلله عنده, لما ذكرنا أنه أسقط حق نفسه بالإذن كذا المشتري. ولنا أن الإحرام لم يقع بإذن المشتري فصار كأنه أحرم في ملكه ابتداء بغير إذنه. ولو كان كذلك كان له أن يحلله, كذا هذا. وقال محمد: إذا أذن الرجل لعبده في الحج ثم باعه لا أكره للمشتري أن يحلله؛ لأن الكراهة في حق البائع, لما فيه من خلف الوعد ولم يوجد ذلك من المشتري, وروى ابن سماعة عن محمد في أمة لها زوج أذن لها مولاها في الحج فأحرمت ليس لزوجها أن يحللها؛ لأن التحلل إنما ثبت للزوج بمنعها من السفر ليستوفي حقه منها. ومنع الأمة من السفر إلى مولاها دون الزوج, ألا ترى أن المولى

 

ج / 2 ص -182-       لو سافر بها لم يكن للزوج منعها, فكذا إذا أذن لها في السفر. وأما بيان ما يتحلل به, فالتحلل عن هذا النوع من الإحصار يقع بفعل الزوج والمولى أدنى محظورات الإحرام من قص ظفرهما أو تطييبهما, أو بفعلهما ذلك بأمر الزوج والمولى, أو بامتشاط الزوجة رأسها بأمر الزوج, أو تقبيلها, أو معانقتها فتحل بذلك, والأصل فيه ما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت في العمرة: امتشطي وارفضي عنك العمرة" ولأن التحلل صار حقا عليهما للزوج والمولى, فجاز بمباشرتهما أدنى ما يحظره الإحرام, ولا يكون التحلل بقوله: حللتك؛ لأن هذا تحليل من الإحرام فلا يقع بالقول, كالرجل الحر إذا أحصر فقال: حللت نفسي. وأما وجوب قضاء ما أحرم به بعد التحلل فجملة الكلام فيه أن المحصر لا يخلو إما أن كان أحرم بالحجة لا غير, وإما أن كان أحرم بالعمرة لا غير, وإما أن كان أحرم بهما, بأن كان قارنا, فإن كان أحرم بالحجة لا غير, فإن بقي وقت الحج عند زوال الإحصار, وأراد أن يحج من عامه ذلك, أحرم وحج, وليس عليه نية القضاء, ولا عمرة عليه كذا ذكره محمد في الأصل. وذكر ابن أبي مالك عن أبي يوسف عن أبي حنيفة: وعليه دم لرفض الإحرام الأول, وإن تحولت السنة فعليه قضاء حجة وعمرة, ولا تسقط عنه تلك الحجة إلا بنية القضاء. وروى الحسن عن أبي حنيفة: أن عليه قضاء حجة وعمرة في الوجهين جميعا, وعليه نية القضاء فيهما وهو قول زفر ذكره القاضي في شرحه مختصر الطحاوي وعلى هذا التفصيل والاختلاف ما إذا أحرمت المرأة بحجة التطوع بغير إذن زوجها فمنعها زوجها فحللها, ثم أذن لها بالإحرام فأحرمت في عامها ذلك, أو تحولت السنة فأحرمت. وجه قول زفر أن ما تحجه في هذا العام دخل في حد القضاء؛ لأنه يؤدى بإحرام جديد؛ لانفساخ الأول بالتحلل فيكون قضاء, فلا يتأدى إلا بنية القضاء وعليه حجة وعمرة كما لو تحولت السنة. ولنا أن القضاء اسم للفائت عن الوقت, ووقت الحج باق فكان الحج فيه أداء لا قضاء, فلا يفتقر إلى نية القضاء, ولا تلزمه العمرة؛ لأن لزومها لفوات الحج في عامه ذلك, ولم يفت. وقال الشافعي: عليه قضاء حجة لا غير, وإن تحولت السنة واحتج بما روي عن ابن عباس أنه قال: "حجة بحجة, وعمرة بعمرة" وهو المعني له في المسألة, إن القضاء يكون مثل الفائت, والفائت هو الحجة لا غير, فمثلها الحجة لا غير, وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كسر أو عرج حل وعليه الحج من قابل" ولم يذكر العمرة ولو كانت واجبة لذكرها. ولنا الأثر والنظر أما الأثر: فما روي عن ابن مسعود, وابن عمر رضي الله عنهما أنهما قالا في المحصر بحجة: "يلزمه حجة وعمرة" وأما النظر: فلأن الحج قد وجب عليه بالشروع, ولم يمض فيه, بل فاته في عامه ذلك, وفائت الحج يتحلل بأفعال العمرة فإن قيل: فائت الحج يتحلل بالطواف لا بالدم والمحصر قد حل بالدم وقام الدم مقام الطواف من الذي يفوته الحج, فكيف يلزمه طواف آخر؟ فالجواب: أن الدم الذي حل به المحصر ما وجب بدلا عن الطواف ليقال: إنه قام مقام الطواف, فلا يجب عليه طواف آخر, وإنما وجب لتعجيل الإحلال؛ لأن المحصر لو لم يبعث هديا؛ لبقي على إحرامه مدة مديدة, وفيه حرج وضرر, فجعل له أن يتعجل الخروج من إحرامه, ويؤخر الطواف الذي لزمه بدم يهريقه فحل بالدم ولم يبطل الطواف, وإذا لم يبطل الدم عنه الطواف, ولم يجعل بدلا عنه, فعليه أن يأتي به بإحرام جديد, فيكون ذلك عمرة, والدليل على أن دم الإحصار ما وجب بدلا عن الطواف الذي يتحلل به فائت لحج, أن فائت الحج لو أراد أن يفسخ الطواف الذي لزمه بدم يريقه بدلا عنه, ليس له ذلك بالإجماع, فثبت أن دم الإحصار لتعجيل الإحلال به, لا بدلا عن الطواف, فاندفع الإشكال بحمد الله تعالى ومنه. وأما حديث ابن عباس رضي الله عنهما إن ثبت فهو تمسك بالمسكوت؛ لأن قوله "حجة بحجة, وعمرة بعمرة" يقتضي وجوب الحجة بالحجة, والعمرة بالعمرة, وهذا لا ينفي وجوب العمرة والحجة بالحجة ولا يقتضي أيضا, فكان مسكوتا عنه فيقف على قيام الدليل, وقد قام دليل الوجوب وهو ما ذكرنا وهو كقوله تعالى "الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى" أنه لا ينفي قتل الحر بالعبد والأنثى بالذكر بالإجماع كذا هذا, ويحمل على فائت الحج وهو الذي لم يدرك الوقوف بدليل أنه يتحلل بأفعال العمرة, وعليه قضاء الحج من قابل ولا عمرة عليه. وإن كان إحرامه بالعمرة لا غير قضاها لوجوبها بالشروع في أي وقت شاء؛ لأنه ليس لها وقت

 

ج / 2 ص -183-       معين. وإن كان أحرم بالعمرة والحجة إن كان قارنا؛ فعليه قضاء حجة وعمرتين, أما قضاء حجة وعمرة فلوجوبهما بالشروع. وأما عمرة أخرى فلفوات الحج في عامه ذلك, وهذا على أصلنا. فأما على أصل الشافعي فليس عليه إلا حجة, بناء على أصله أن القارن محرم بإحرام واحد, ويدخل إحرام العمرة في الحجة, فكان حكمه حكم المفرد بالحج, والمفرد بالحج إذا أحصر لا يجب عليه إلا قضاء حجة عنده, فكذا القارن والله أعلم. وأما حكم زوال الإحصار: فالإحصار إذا زال لا يخلو من أحد وجهين: إما أن زال قبل بعث الهدي أو بعد ما بعث, فإن زال قبل أن يبعث الهدي مضى على موجب إحرامه, وإن كان قد بعث الهدي ثم زال الإحصار فهذا لا يخلو من أربعة أوجه. إما أن كان يقدر على إدراك الهدي, والحج, أو لا يقدر على إدراكهما جميعا, أو يقدر على إدراك الهدي دون الحج, أو يقدر على إدراك الحج دون الهدي, فإن كان يقدر على إدراك الهدي والحج لم يجز له التحلل ويجب عليه المضي فإن إباحة التحلل لعذر الإحصار, والعذر قد زال, وإن كان لا يقدر على إدراك واحد منهما لم يلزمه المضي, وجاز له التحلل؛ لأنه لا فائدة في المضي, فتقرر الإحصار فيتقرر حكمه, وإن كان يقدر على إدراك الهدي, ولا يقدر على إدراك الحج لا يلزمه المضي أيضا لعدم الفائدة في إدراك الهدي دون إدراك الحج, إذ الذهاب لأجل إدراك الحج, فإذا كان لا يدرك الحج فلا فائدة في الذهاب, فكانت قدرته على إدراك الهدي والعدم بمنزلة واحدة, وإن كان يقدر على إدراك الحج ولا يقدر على إدراك الهدي قيل: إن هذا الوجه الرابع إنما يتصور على مذهب أبي حنيفة؛ لأن دم الإحصار عنده لا يتوقف بأيام النحر, بل يجوز قبلها فيتصور إدراك الحج دون إدراك الهدي. فأما على مذهب أبي يوسف, ومحمد فلا يتصور هذا الوجه إلا في المحصر عن العمرة؛ لأن دم الإحصار عندهما مؤقت بأيام النحر, فإذا أدرك الحج فقد أدرك الهدي ضرورة, وإنما يتصور عندهما في المحصر عن العمرة؛ لأن الإحصار عنها لا يتوقت بأيام النحر بلا خلاف, وإذا عرف هذا فقياس مذهب أبي حنيفة في هذا الوجه أنه يلزمه المضي, ولا يجوز له التحلل؛ لأنه إذا قدر على إدراك الحج لم يعجز عن المضي في الحج, فلم يوجد عذر الإحصار, فلا يجوز له التحلل ويلزمه المضي, وفي الاستحسان لا يلزمه المضي ويجوز له التحلل إلا أنه إذا كان لا يقدر على إدراك الهدي صار كأن الإحصار زال عنه بالذبح فيحل بالذبح عنه؛ ولأن الهدي قد مضى في سبيله بدليل أنه لا يجب الضمان بالذبح على من بعث على يده بدنة, فصار كأنه قدر على الذهاب بعد ما ذبح عنه والله أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يحظره الإحرام وما لا يحظره, وبيان ما يجب بفعل المحظور, فجملة الكلام فيه أن محظورات الإحرام في الأصل نوعان. نوع لا يوجب فساد الحج, ونوع يوجب فساده, أما الذي لا يوجب فساد الحج فأنواع :. بعضها يرجع إلى اللباس, وبعضها يرجع إلى الطيب وما يجري مجراه من إزالة الشعث, وقضاء التفث, وبعضها يرجع إلى توابع الجماع, وبعضها يرجع إلى الصيد أما الأول: فالمحرم لا يلبس المخيط جملة, ولا قميصا ولا قباء, ولا جبة, ولا سراويل, ولا عمامة, ولا قلنسوة, ولا يلبس خفين إلا أن يجد نعلين, فلا بأس أن يقطعهما أسفل الكعبين فيلبسهما, والأصل فيه ما روي عن عبد الله بن عمر أن رجلا سأل النبي صلى الله عليه وسلم وقال: ما يلبس المحرم من الثياب؟ فقال: "لا يلبس القميص, ولا العمائم, ولا السراويلات, ولا البرانس, ولا الخفاف إلا أحد لا يجد النعلين, فليلبس الخفين وليقطعهما أسفل من الكعبين, ولا يلبس من الثياب شيئا مسه الزعفران, ولا الورس, ولا تنتقب المرأة, ولا تلبس القفازين" فإن قيل: في هذا الحديث ضرب إشكال؛ لأن فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عما يلبس المحرم؟ فقال: لا يلبس كذا وكذا من المخيط, فسئل عن شيء فعدل عن محل السؤال, وأجاب عن شيء آخر لم يسأل عنه, وهذا محيد عن الجواب, أو يوجب أن يكون إثبات الحكم في مذكور دليلا على أن الحكم في غيره بخلافه, وهذا خلاف المذهب فالجواب عنه من وجوه أحدها: أنه يحتمل أن يكون السؤال عما لا يلبسه المحرم, وأضمر. "لا" في محل السؤال؛ لأن لا تارة تزاد في الكلام, وتارة تحذف عنه قال الله تعالى {يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا} أي: لا تضلوا فكان معنى الكلام أنه سئل عما لا يلبسه المحرم فقال: لا يلبس المحرم كذا وكذا فكان الجواب مطابقا للسؤال. والثاني: يحتمل أن النبي صلى

 

ج / 2 ص -184-       الله عليه وسلم علم غرض السائل ومراده أنه طلب منه بيان ما لا يلبسه المحرم بعد إحرامه, إما بقرينة حاله أو بدليل آخر, أو بالوحي فأجاب عما في ضميره من غرضه ومقصوده, ونظيره قوله تعالى خبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام {رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فأجابه الله عز وجل بقوله {وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ} سأل إبراهيم عليه الصلاة والسلام ربه عز وجل أن يرزق من آمن من أهل مكة من الثمرات. فأجابه تعالى أنه يرزق الكافر أيضا, لما علم أن مراد إبراهيم عليه الصلاة والسلام من سؤاله أن يرزق ذلك المؤمن منهم دون الكافر, فأجابه الله تعالى عما كان في ضميره كذا هذا. والثالث: أنه لما خص المخيط أنه لا يلبسه المحرم بعد تقدم السؤال عما يلبسه دل أن الحكم في غير المخيط بخلافه, والتنصيص على حكم في مذكور إنما لا يدل على تخصيص ذلك الحكم به بشرائط ثلاثة أحدها: أن لا يكون فيه حيد عن الجواب ممن لا يجوز عليه الحيد. فأما إذا كان فإنه يدل عليه صيانة لمنصب النبي صلى الله عليه وسلم عن الحيد عن الجواب عن السؤال. والثاني: من المحتمل أن يكون حكم غير المذكور خلاف حكم المذكور, وههنا لا يحتمل؛ لأنه يقتضي أن لا يلبس المحرم أصلا, وفيه تعريضه للهلاك بالحر, أو البرد, والعقل يمنع من ذلك فكان المنع من أحد النوعين في مثله إطلاقا للنوع الآخر. ونظيره قوله تعالى {اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} إن جعل الليل للسكون يدل على جعل النهار للكسب, وطلب المعاش إذ لا بد من القوت للبقاء, وكان جعل الليل للسكون تعيينا للنهار لطلب المعاش. والثالث: أن يكون ذلك في غير الأمر والنهي, فأما في الأمر والنهي فيدل عليه لما قد صح من مذهب أصحابنا أن الأمر بالشيء نهي عن ضده, والنهي عن الشيء أمر بضده. والتنصيص ههنا في محل النهي فكان ذلك دليلا على أن الحكم في غير المخيط بخلافه والله عز وجل الموفق ولأن لبس المخيط من باب الارتفاق بمرافق المقيمين, والترفه في اللبس, وحال المحرم ينافيه, ولأن الحاج في حال إحرامه يريد أن يتوسل بسوء حاله إلى مولاه يستعطف نظره ومرحمته, بمنزلة العبد المسخوط عليه في الشاهد أنه يتعرض بسوء حاله لعطف سيده ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "المحرم الأشعث الأغبر" وإنما يمنع المحرم من لبس المخيط إذا لبسه على الوجه المعتاد. فأما إذا لبسه لا على الوجه المعتاد فلا يمنع منه, بأن اتشح بالقميص أو اتزر بالسراويل؛ لأن معنى الارتفاق بمرافق المقيمين, والترفه في اللبس لا يحصل به. ولأن لبس القميص والسراويل على هذا الوجه في معنى الارتداء, والاتزار؛ لأنه يحتاج في حفظه إلى تكلف, كما يحتاج إلى التكلف في حفظ الرداء, والإزار وذا غير ممنوع عنه. ولو أدخل منكبيه في القباء ولم يدخل يديه في كميه جاز له ذلك في قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: لا يجوز. وجه قوله أن هذا لبس المخيط, إذ اللبس هو التغطية وفيه تغطية أعضاء كثيرة بالمخيط من المنكبين, والظهر وغيرها فيمنع من ذلك, كإدخال اليدين في الكمين. ولنا أن الممنوع عنه هو: اللبس المعتاد وذلك في القباء, الإلقاء على المنكبين مع إدخال اليدين في الكمين, ولأن الارتفاق بمرافق المقيمين والترفه في اللبس لا يحصل إلا به, ولم يوجد فلا يمنع منه, ولأن إلقاء القباء على المنكبين دون إدخال اليدين في الكمين يشبه الارتداء والاتزار؛ لأنه يحتاج إلى حفظه عليه لئلا يسقط إلى تكلف, كما يحتاج إلى ذلك في الرداء والإزار وهو لم يمنع من ذلك, كذا هذا, بخلاف ما إذا أدخل يديه في كميه؛ لأن ذلك لبس معتاد يحصل به الارتفاق به والترفه في اللبس, ويقع به الأمن عن السقوط. ولو ألقاه على منكبيه وزره لا يجوز؛ لأنه إذا زره فقد ترفه في لبس المخيط, ألا ترى أنه لا يحتاج في حفظه إلى تكلف. ولو لم يجد رداء وله قميص, فلا بأس بأن يشق قميصه ويرتدي به؛ لأنه لما شقه صار بمنزلة الرداء. وكذا إذا لم يجد إزارا وله سراويل, فلا بأس أن يفتق سراويله خلا موضع التكة ويأتزر به؛ لأنه لما فتقه صار بمنزلة الإزار. وكذا إذا لم يجد نعلين وله خفان فلا بأس أن يقطعهما أسفل الكعبين فيلبسهما لحديث ابن عمر رضي الله عنه. ورخص بعض مشايخنا المتأخرون لبس الصندلة قياسا على الخف المقطوع؛ لأنه في معناه وكذا لبس الميثم لما قلنا, ولا يلبس الجوربين؛ لأنهما في معنى الخفين, ولا يغطي رأسه بالعمامة, ولا غيرها مما يقصد به التغطية؛ لأن المحرم ممنوع عن تغطية رأسه بما يقصد به التغطية, والأصل فيه ما روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في

 

ج / 2 ص -185-       المحرم الذي وقصت به ناقته في أخاقيق جرذان فمات لا تخمروا رأسه ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا". ولو حمل على رأسه شيئا فإن كان مما يقصد به التغطية من لباس الناس لا يجوز له ذلك؛ لأنه كاللبس, وإن كان مما لا يقصد به التغطية كإجانة, أو عدل بز وضعه على رأسه فلا بأس بذلك؛ لأنه لا يعد ذلك لبسا, ولا تغطية. وكذا لا يغطي الرجل وجهه عندنا. وقال الشافعي: "يجوز له تغطية الوجه ". وأما المرأة فلا تغطي وجهها. وكذا لا بأس أن تسدل على وجهها بثوب وتجافيه عن وجهها, احتج الشافعي بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إحرام الرجل في رأسه, وإحرام المرأة في وجهها" جعل إحرام كل واحد منهما في محل خاص, ولا خصوص مع الشركة ولهذا لما خص الوجه في المرأة بأن إحرامها فيه لم يكن في رأسها, فكذا في الرجل؛ ولأن مبنى أحوال المحرم على خلاف العادة وذلك فيما قلنا, لأن العادة هو الكشف في الرجال فكان الستر على خلاف العادة بخلاف النساء, , فإن العادة فيهن الستر فكان الكشف خلاف العادة, ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إحرام الرجل في رأسه ووجهه" ولا حجة له فيما روى؛ لأن فيه أن إحرام الرجل في رأسه, وهذا لا ينفي أن يكون في وجهه ولا يوجب أيضا, فكان مسكوتا عنه فيقف على قيام الدليل, وقد قام الدليل وهو ما روينا, وهكذا نقول في المرأة أنا إنما عرفنا أن إحرامها ليس في رأسها إلا بقوله "وإحرام المرأة في وجهها" بل بدليل آخر نذكره إن شاء الله تعالى. ولا يلبس ثوبا أصبغ بورس أو زعفران, وإن لم يكن مخيطا لخبر ابن عمر رضي الله عنه؛ ولأن الورس والزعفران طيب, والمحرم ممنوع من استعمال الطيب في بدنه ولا يلبس المعصفر وهو: المصبوغ بالعصفر عندنا. وقال الشافعي: يجوز واحتج بما روي أن عائشة رضي الله عنها لبست الثياب المعصفرة وهي محرمة وروي أن عثمان رضي الله عنه أنكر على عبد الله بن جعفر لبس المعصفر في الإحرام, فقال علي: رضي الله عنه "ما أرى أن أحدا يعلمنا السنة" ولنا ما روي أن عمر رضي الله عنه أنكر على طلحة لبس المعصفر في الإحرام, فقال طلحة: رضي الله عنه "إنما هو ممشق بمغرة" فقال عمر رضي الله عنه: "إن كم أئمة يقتدى بكم" فدل إنكار عمر واعتذار طلحة رضي الله عنهما على أن المحرم ممنوع من ذلك. وفيه إشارة إلى أن الممشق مكروه أيضا؛ لأنه قال: "إنكم أئمة يقتدى بكم" أي: من شاهد ذلك ربما يظن أنه مصبوغ بغير المغرة فيعتقد الجواز, فكان سببا للوقوع في الحرام عسى فيكره, ولأن المعصفر طيب؛ لأن له رائحة طيبة فكان كالورس والزعفران. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد روي عنها أنها كرهت المعصفر في الإحرام, أو يحمل على المصبوغ بمثل العصفر كالمغرة ونحوها, وهو الجواب عن قول علي رضي الله عنه على أن قوله معارض بقول عثمان رضي الله عنه وهو: إنكاره فسقط الاحتجاج به للتعارض, هذا إذا لم يكن مغسولا. فأما إذا كان قد غسل حتى صار لا ينفض فلا بأس به, لما روي عن ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا بأس أن يحرم الرجل في ثوب مصبوغ بورس, أو زعفران قد غسل وليس له نفض ولا ردغ" وقوله صلى الله عليه وسلم "لا ينفض" له تفسيران منقولان عن محمد: روي عنه لا يتناثر صبغه. وروي لا يفوح ريحه, والتعويل على زوال الرائحة حتى لو كان لا يتناثر صبغه, ولكن يفوح ريحه يمنع منه؛ لأن ذلك دليل بقاء الطيب, إذ الطيب ما له رائحة طيبة وكذا ما صبغ بلون الهروي؛ لأنه صبغ خفيف فيه أدنى صفرة لا توجد منه رائحة. وقال أبو يوسف في الإملاء: "لا ينبغي للمحرم أن يتوسد ثوبا مصبوغا بالزعفران, ولا الورس, ولا ينام عليه؛ لأنه يصير مستعملا للطيب فكان كاللبس". ولا بأس بلبس الخز والصوف والقصب والبرد وإن كان ملونا كالعدني وغيره؛ لأنه ليس فيه أكثر من الزينة. والمحرم غير ممنوع من ذلك ولا بأس أن يلبس الطيلسان؛ لأن الطيلسان ليس بمخيط, ولا يزره, كذا روي عن ابن عمر رضي الله عنه وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه لا بأس به, والصحيح قول ابن عمر لأن الزرة مخيط في نفسها, فإذا زره فقد اشتمل المخيط عليه فيمنع منه؛ ولأنه إذا زره لا يحتاج في حفظه إلى تكلف فأشبه لبس المخيط, بخلاف الرداء, والإزار. ويكره أن يخلل الإزار بالخلال, وأن يعقد الإزار لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى محرما قد عقد ثوبه بحبل فقال له: انزع الحبل ويلك" وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره أن

 

ج / 2 ص -186-       يعقد المحرم الثوب عليه؛ ولأنه يشبه المخيط في عدم الحاجة في حفظه إلى تكلف ولو فعل لا شيء عليه؛ لأنه ليس بمخيط. ولا بأس أن يتحزم بعمامة يشتمل بها ولا يعقدها؛ لأن اشتمال العمامة عليه اشتمال غير المخيط فأشبه الاتشاح بقميص, فإن عقدها كره له ذلك؛ لأنه يشبه المخيط كعقد الإزار ولا بأس بالهميان والمنطقة للمحرم. سواء كان في الهميان نفقته أو نفقة غيره, وسواء كان شد المنطقة بالإبزيم, أو بالسيور, وعن أبي يوسف في المنطقة: "إن شده بالإبزيم يكره, وإن شده بالسيور لا يكره" وقال مالك في الهميان: "إن كان فيه نفقته لا يكره, وإن كان فيه نفقة غيره يكره" وجه قوله: أن شد الهميان لمكان الضرورة, وهي استيثاق النفقة, ولا ضرورة في نفقة غيره. وجه رواية أبي يوسف: أن الإبزيم مخيط فالشد به يكون كزر الإزار بخلاف السير. ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن الهميان فقالت: "أوثق عليك نفقتك" أطلقت القضية ولم تستفسر, وعن ابن عباس رضي الله عنه قال: "رخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهميان يشده المحرم في وسطه إذا كانت فيه نفقته" وعليه جماعة من التابعين. وروي عن سعيد بن المسيب رضي الله عنه" أنه لا بأس بالهميان" وهو قول سعيد بن جبير وعطاء وطاوس رضي الله تعالى عنهم؛ ولأن اشتمال الهميان والمنطقة عليه كاشتمال الإزار فلا يمنع عنه. ولا بأس أن يستظل المحرم بالفسطاط عند عامة العلماء. وقال مالك: "يكره" واحتج بما روي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه كره ذلك. ولنا ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يلقي على شجرة ثوبا, أو نطعا فيستظل به, وروي أنه ضرب لعثمان رضي الله عنه فسطاط بمنى فكان يستظل به؛ ولأن الاستظلال بما لا يماسه بمنزلة الاستظلال بالسقف, وذا غير ممنوع عنه كذا هذا, فإن دخل تحت ستر الكعبة حتى غطاه, فإن كان الستر يصيب وجهه ورأسه يكره له ذلك؛ لأنه يشبه ستر وجهه ورأسه بثوب, وإن كان متجافيا فلا يكره؛ لأنه بمنزلة الدخول تحت ظلة. ولا بأس أن تغطي المرأة سائر جسدها وهي محرمة بما شاءت من الثياب المخيطة وغيرها, وأن تلبس الخفين غير أنها لا تغطي وجهها, أما ستر سائر بدنها؛ فلأن بدنها عورة؛ وستر العورة بما ليس بمخيط متعذر فدعت الضرورة إلى لبس المخيط, وأما كشف وجهها فلما روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إحرام المرأة في وجهها" وعن عائشة أنها قالت: "كان الركبان يمرون بنا ونحن محرمات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا حاذونا أسدلت إحدانا جلبابها من رأسها على وجهها, فإذا جاوزونا رفعنا" فدل الحديث على أنه ليس للمرأة أن تغطي وجهها وأنها لو أسدلت على وجهها شيئا وجافته عنه لا بأس بذلك؛ ولأنها إذا جافته عن وجهها صار كما لو جلست في قبة, أو استترت بفسطاط. ولا بأس لها أن تلبس الحرير والذهب, وتتحلى بأي حلية شاءت عند عامة العلماء, وعن عطاء أنه كره ذلك, والصحيح قول العامة لما روي أن ابن عمر رضي الله عنه كان يلبس نساءه الذهب والحرير في الإحرام؛ ولأن لبس هذه الأشياء من باب التزين والمحرم غير ممنوع من الزينة, ولا يلبس ثوبا مصبوغا؛ لأن المانع ما فيه من الصبغ من الطيب لا من الزينة, والمرأة تساوي الرجل في الطيب. وأما لبس القفازين فلا يكره عندنا وهو قول علي, وعائشة رضي الله عنهما. وقال الشافعي: "لا يجوز" واحتج بحديث ابن عمر رضي الله عنه فإنه ذكر في آخره "ولا تنتقب المرأة, ولا تلبس القفازين"؛ ولأن العادة في بدنها الستر فيجب مخالفتها بالكشف كوجهها ولنا ما روي أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه كان يلبس بناته وهن محرمات القفازين ولأن لبس القفازين ليس إلا تغطية يديها بالمخيط, وأنها غير ممنوعة عن ذلك, فإن لها أن تغطيهما بقميصها, وإن كان مخيطا فكذا بمخيط آخر, بخلاف وجهها. وقوله "ولا تلبس القفازين" نهي ندب حملناه عليه جمعا بين الدلائل بقدر الإمكان. وأما بيان ما يجب بفعل هذا المحظور وهو: لبس المخيط فالواجب به يختلف في بعض المواضع: يجب الدم عينا, وفي بعضها: تجب الصدقة عينا, وفي بعضها يجب أحد الأشياء الثلاثة غير عين الصيام, أو الصدقة, أو الدم, وجهات التعيين إلى من عليه كما في كفارة اليمين. والأصل أن الارتفاق الكامل باللبس يوجب فداء كاملا فيتعين فيه الدم, لا يجوز غيره إن فعله من غير عذر, وإن فعله لعذر فعليه أحد الأشياء الثلاثة, والارتفاق القاصر يوجب فداء قاصرا وهو: الصدقة إثباتا للحكم على قدر العلة, وبيان هذه الجملة إذا لبس المخيط: من قميص, أو جبة, أو سراويل, أو عمامة, أو قلنسوة

 

ج / 2 ص -187-       أو خفين, أو جوربين من غير عذر وضرورة يوما كاملا. فعليه الدم لا يجوز غيره؛ لأن لبس أحد هذه الأشياء يوما كاملا ارتفاق كامل فيوجب كفارة كاملة وهي: الدم لا يجوز غيره؛ لأنه فعله من غير ضرورة, وإن لبس أقل من يوم لا دم عليه وعليه الصدقة, وكان أبو حنيفة يقول أولا: إن لبس أكثر اليوم فعليه دم. وكذا روي عن أبي يوسف ثم رجع وقال: لا دم عليه حتى يلبس يوما كاملا, وروي عن محمد أنه إذا لبس أقل من يوم يحكم عليه بمقدار ما لبس من قيمة الشاة, إن لبس نصف يوم فعليه قيمة نصف شاة على هذا القياس, وهكذا روي عنه في الحلق. وقال الشافعي: "يجب عليه الدم, وإن لبس ساعة واحدة ". وجه قوله أن اللبس ولو ساعة ارتفاق كامل لوجود اشتمال المخيط على بدنه, فيلزمه جزاء كامل. وجه رواية محمد: اعتبار البعض بالكل. وجه قول أبي حنيفة الأول: بأن الارتفاق باللبس في أكثر اليوم بمنزلة الارتفاق في كله؛ لأنه ارتفاق كامل, فإن الإنسان قد يلبس أكثر اليوم ثم يعود إلى منزله قبل دخول الليل. وجه قوله الآخر: أن اللبس أقل من يوم ارتفاق ناقص؛ لأن المقصود منه دفع الحر والبرد وذلك باللبس في كل اليوم, ولهذا اتخذ الناس في العادة للنهار لباسا ولليل لباسا, ولا ينزعون لباس النهار إلا في الليل فكان اللبس في بعض اليوم ارتفاقا قاصرا, فيوجب كفارة قاصرة وهي الصدقة كقص ظفر واحد, ومقدار الصدقة نصف صاع من بر كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه يطعم مسكينا نصف صاع من بر. وكل صدقة تجب بفعل ما يحظره الإحرام فهي مقدرة بنصف صاع إلا ما يجب بقتل القملة والجرادة. وروى ابن سماعة عن محمد: أن من لبس ثوبا يوما إلا ساعة فعليه من الدم بمقدار ما لبس أي: من قيمة الدم لما قلنا. والصحيح قول أبي يوسف؛ لأن الصدقة المقدرة للمسكين في الشرع لا تنقص عن نصف صاع كصدقة الفطر, وكفارة اليمين, والفطر, والظهار. وكذا لو أدخل منكبيه في القباء, ولم يدخل يديه في كميه لكنه زره عليه أو زر عليه طيلسانا يوما كاملا, فعليه دم لوجود الارتفاق الكامل بلبس المخيط, إذ المزرر مخيط. وكذا لو غطى ربع رأسه يوما فصاعدا فعليه دم, وإن كان أقل من الربع فعليه صدقة, كذا ذكر في الأصل. وذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد أنه لا دم عليه حتى يغطي الأكثر من رأسه, ولا أقول: حتى يغطي رأسه كله. وجه رواية ابن سماعة عن محمد: أن تغطية الأقل ليس بارتفاق كامل, فلا يجب به جزاء كامل. وجه رواية الأصل أن ربع الرأس له حكم الكل في هذا الباب, كحلق ربع الرأس وعلى هذا إذا غطت المرأة ربع وجهها وكذا لو غطى الرجل ربع وجهه عندنا وعند الشافعي لا شيء عليه؛ لأنه غير ممنوع عن ذلك عنده, والمسألة قد تقدمت ولو عصب على رأسه, أو وجهه يوما أو أكثر فلا شيء عليه؛ لأنه لم يوجد ارتفاق كامل وعليه صدقة؛ لأنه ممنوع عن التغطية. ولو عصب شيئا من جسده لعلة أو غير علة لا شيء عليه؛ لأنه غير ممنوع عن تغطية بدنه بغير المخيط, ويكره أن يفعل ذلك بغير عذر؛ لأن الشد عليه يشبه لبس المخيط, هذا إذا لبس المخيط يوما كاملا حالة الاختيار. فأما إذا لبسه لعذر وضرورة فعليه أي: الكفارات شاء الصيام, أو الصدقة, أو الدم. والأصل فيه قوله تعالى في كفارة الحلق من مرض أو أذى في الرأس {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "قال لكعب بن عجرة: أيؤذيك هوام رأسك؟ قال: نعم فقال: احلق واذبح شاة, أو صم ثلاثة أيام, أو أطعم ستة مساكين, لكل مسكين نصف صاع من بر" والنص وإن ورد بالتخيير في الحلق, لكنه معلول بالتيسير والتسهيل للضرورة والعذر, وقد وجد ههنا, والنص الوارد هناك يكون واردا ههنا دلالة. وقيل: إن عند الشافعي يتخير بين أحد الأشياء الثلاثة في حالة الاختيار أيضا, وأنه غير سديد؛ لأن التخيير في حال الضرورة للتيسير والتخفيف, والجاني لا يستحق التخفيف, ويجوز في الطعام التمليك, والتمكين وهو: طعام الإباحة في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وعند محمد لا يجوز فيه إلا التمليك, ونذكر المسألة في كتاب الكفارات إن شاء الله تعالى ويجوز في الصيام التتابع والتفرق لإطلاق اسم الصوم في النص, ولا يجوز الذبح إلا في الحرم كذبح المتعة إلا إذا ذبح في غير الحرم, وتصدق بلحمه على ستة مساكين على كل واحد منهم قدر قيمة نصف صاع من حنطة؛ فيجوز على طريق البدل عن الطعام "ويجوز الصوم في الأماكن كلها بالإجماع. وكذا الصدقة عندنا وعند الشافعي لا تجزيه,

 

ج / 2 ص -188-       إلا بمكة نظرا لأهل مكة؛ لأنهم ينتفعون به ولهذا لم يجز الدم إلا بمكة, ولنا أن نص الصدقة مطلق عن المكان فيجري على إطلاقه, والقياس على الدم بمعنى الانتفاع فاسد لما ذكرنا في الإحصار, وإنما عرف اختصاص جواز الذبح بمكة بالنص, وهو قوله تعالى {حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} ولم يوجد مثله في الصدقة وقد ذكرنا أن المحرم إذا لم يجد الإزار وأمكنه فتق السراويل والتستر به فتقه, فإن لبسه يوما ولم يفتقه فعليه دم في قول أصحابنا. وقال الشافعي: "يلبسه ولا شيء عليه" وجه قوله أن الكفارة إنما تجب بلبس محظور, ولبس السراويل في هذه الحالة ليس بمحظور؛ لأنه لا يمكنه لبس غير المخيط إلا بالفتق, وفي الفتق تنقيص ماله, ولنا أن حظر لبس المخيط ثبت بعقد الإحرام, ويمكنه التستر بغير المخيط في هذه الحالة بالفتق فيجب عليه الفتق, والستر بالمفتوق أولى, فإذا لم يفعل فقد ارتكب محظور إحرامه يوما كاملا فيلزمه الدم. وقوله: "في الفتق تنقيص ماله" مسلم لكن لإقامة حق الله تعالى, وأنه جائز كالزكاة وقطع الخفين أسفل من الكعبين إذا لم يجد النعلين. ويستوي في وجوب الكفارة بلبس المخيط العمد, والسهو, والطوع, والكره عندنا. وقال الشافعي: "لا شيء على الناسي والمكره" ويستوي أيضا ما إذا لبس بنفسه أو ألبسه غيره, وهو لا يعلم به عندنا خلافا له وجه قوله: أن الكفارة إنما تجب بارتكاب محظور الإحرام لكونه جناية, ولا حظر مع النسيان والإكراه, فلا يوصف فعله بالجناية فلا تجب الكفارة, ولهذا جعل النسيان عذرا في باب الصوم بالإجماع, والإكراه عندي ولنا أن الكفارة إنما تجب في حال الذكر والطوع لوجود ارتفاق كامل, وهذا يوجد في حال الكره والسهو. وقوله: "فعل الناسي والمكره لا يوصف بالحظر" ممنوع بل الحظر قائم حالة النسيان والإكراه, وفعل الناسي والمكره موصوف بكونه جناية, وإنما أثر النسيان والإكراه في ارتفاع المؤاخذة في الآخرة؛ لأن فعل الناسي والمكره جائز المؤاخذة عليه عقلا عندنا, وإنما رفعت المؤاخذة شرعا ببركة "دعا النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}, وقوله: "رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" والاعتبار بالصوم غير سديد؛ لأن في الإحرام أحوالا مذكرة يندر النسيان معها غاية الندرة, فكان ملحقا بالعدم ولا مذكر للصوم فجعل عذرا دفعا للحرج, ولهذا لم يجعل عذرا في باب الصلاة؛ لأن أحوال الصلاة مذكرة كذا هذا. ولو جمع المحرم اللباس كله: القميص, والعمامة, والخفين, لزمه دم واحد؛ لأنه لبس واحد وقع على جهة واحدة, فيكفيه كفارة واحدة كالإيلاجات في الجماع. ولو اضطر المحرم إلى لبس ثوب فلبس ثوبين فإن لبسهما على موضع الضرورة فعليه كفارة واحدة وهي كفارة الضرورة, بأن اضطر إلى قميص واحد فلبس قميصين, أو قميصا وجبة, أو اضطر إلى القلنسوة فلبس قلنسوة وعمامة؛ لأن اللبس حصل على وجه واحد فيوجب كفارة واحدة, كما إذا اضطر إلى لبس قميص فلبس جبة, وإن لبسهما على موضعين مختلفين: موضع الضرورة وغير موضع الضرورة, كما إذا اضطر إلى لبس العمامة أو القلنسوة فلبسهما مع القميص أو غير ذلك, فعليه كفارتان: كفارة الضرورة للبسه ما يحتاج إليه, وكفارة الاختيار للبسه ما لا يحتاج إليه. ولو لبس ثوبا للضرورة ثم زالت الضرورة, فدام على ذلك يوما أو يومين فما دام في شك من زوال الضرورة لا يجب عليه إلا كفارة واحدة: كفارة الضرورة. وإن تيقن بأن الضرورة قد زالت, فعليه كفارتان: كفارة ضرورة, وكفارة اختيار؛ لأن الضرورة كانت ثابتة بيقين, فلا يحكم بزوالها بالشك على الأصل المعهود إن الثابت يقينا لا يزال بالشك وإذا كان كذلك فاللبس الثاني وقع على الوجه الذي وقع عليه الأول, فكان لبسا واحدا فيوجب كفارة واحدة, وإذا استيقن بزوال الضرورة, فاللبس الثاني حصل على غير الوجه الذي حصل عليه الأول, فيوجب عليه كفارة أخرى. ونظير هذا ما إذا كان به قرح أو جرح, اضطر إلى مداواته بالطيب أنه ما دام باقيا فعليه كفارة واحدة, وإن كان تكرر عليه الدواء؛ لأن الضرورة باقية فوقع الكل على وجه واحد. ولو برأ ذلك القرح أو الجرح, وحدث قرح آخر أو جراحة أخرى فداوها بالطيب يلزمه كفارة أخرى؛ لأن الضرورة قد زالت فوقع الثاني على غير الوجه الأول, وكذا المحرم إذا مرض أو أصابته الحمى, وهو يحتاج إلى لبس الثوب في وقت, ويستغني عنه في وقت الحمى, فعليه كفارة واحدة, ما لم تزل عنه تلك العلة لحصول اللبس على جهة واحدة. ولو زالت عنه تلك

 

ج / 2 ص -189-       الحمى وأصابته حمى أخرى عرف ذلك, أو زال عنه ذلك المرض وجاءه مرض آخر فعليه كفارتان, سواء كفر للأول أو لم يكفر في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وعند محمد عليه كفارة واحدة ما لم يكفر للأول, فإن كفر للأول فعليه كفارة أخرى وسنذكر المسألة إن شاء الله في بيان المحظور الذي يفسد الحج وهو الجماع, بأن جامع في مجلسين مختلفين ولو جرح له قرح, أو أصابه جرح وهو يداويه بالطيب, فخرجت قرحة أخرى, أو أصابه جرح آخر, والأول على حاله لم يبرأ فداوى الثاني فعليه كفارة واحدة؛ لأن الأول لم يبرأ فالضرورة باقية, فالمداواة الثانية حصلت على الجهة التي حصلت عليها الأولى, فيكفيه كفارة واحدة. ولو حصره عدو فاحتاج إلى لبس الثياب فلبس, ثم ذهب فنزع ثم عاد فعاد أو كان العدو لم يبرح مكانه فكان يلبس السلاح, فيقاتل بالنهار وينزع بالليل فعليه كفارة واحدة, ما لم يذهب هذا العدو ويجيء عدو آخر؛ لأن العذر واحد, والعذر الواحد لا يتعلق باللبس له إلا كفارة واحدة. والأصل في جنس هذه المسائل أنه ينظر إلى اتحاد الجهة واختلافها, لا إلى صورة اللبس, فإن لبس المخيط أياما فإن لم ينزع ليلا ولا نهارا يكفيه دم واحد بلا خلاف؛ لأن اللبس على وجه واحد, وكذلك إذا كان يلبسه بالنهار وينزعه بالليل للنوم من غير أن يعزم على تركه لا يلزمه إلا دم واحد بالإجماع؛ لأنه إذا لم يعزم على الترك كان اللبس على وجه واحد, فإن لبس يوما كاملا فأراق دما, ثم دام على لبسه يوما كاملا فعليه دم آخر بلا خلاف؛ لأن الدوام على اللبس بمنزلة لبس مبتدأ, بدليل أنه لو أحرم وهو مشتمل على المخيط فدام عليه بعد الإحرام يوما كاملا يلزمه دم. ولو لبسه يوما كاملا ثم نزعه وعزم على تركه, ثم لبس بعد ذلك, فإن كان كفر للأول فعليه كفارة أخرى بالإجماع؛ لأنه لما كفر للأول فقد التحق اللبس الأول بالعدم فيعتبر الثاني لبسا آخر مبتدأ إن لم يكفر للأول, فعليه كفارتان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وفي قول محمد عليه كفارة واحدة وجه قول محمد أنه ما لم يكفر للأول كان اللبس على حاله, فإذا وجد الثاني فلا يتعلق به إلا كفارة واحدة, وإذا كفر للأول بطل الأول فيعتبر الثاني لبسا ثانيا فيوجب كفارة أخرى, كما إذا جامع في يومين من شهر رمضان, ولهما أنه لما نزع على عزم الترك فقد انقطع حكم اللبس الأول, فيعتبر الثاني لبسا مبتدأ فيتعلق به كفارة أخرى, والأصل عندهما أن النزع على عزم الترك يوجب اختلاف اللبستين في الحكم, تخللهما التكفير أو لا وعنده لا يختلف إلا إذا تخللهما التكفير, ولو لبس ثوبا مصبوغا بالورس أو الزعفران فعليه دم؛ لأن الورس والزعفران لهما رائحة طيبة, فقد استعمل الطيب في بدنه فيلزمه الدم. وكذا إذا لبس المعصفر عندنا, لأنه محظور الإحرام عندنا, إذ المعصفر طيب؛ لأن له رائحة طيبة وعلى القارن في جميع ما يوجب الكفارة مثلا ما على المفرد من الدم والصدقة عندنا؛ لأنه محرم بإحرامين, فأدخل النقص في كل واحد منهما فيلزمه كفارتان, والله أعلم بالصواب.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى الطيب, وما يجري مجراه من إزالة الشعث وقضاء التفث أما الطيب فنقول: لا يتطيب المحرم لقول النبي: صلى الله عليه وسلم "المحرم الأشعث الأغبر" والطيب ينافي الشعث. وروي "أن رجلا جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعليه مقطعان مضمخان بالخلوق فقال: ما أصنع في حجتي يا رسول الله؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم حتى أوحى الله إليه, فلما سرى عنه قال: صلى الله عليه وسلم أين السائل؟ فقال الرجل: أنا فقال: اغسل هذا الطيب عنك, واصنع في حجتك ما كنت صانعا في عمرتك" وروينا "أن محرما وقصت به ناقته فقال النبي: صلى الله عليه وسلم لا تخمروا رأسه, ولا تقربوه طيبا فإنه يبعث يوم القيامة ملبيا" جعل كونه محرما علة حرمة تخمير الرأس, والتطيب في حقه, فإن طيب عضوا كاملا: كالرأس, والفخذ, والساق ونحو ذلك فعليه دم, وإن طيب أقل من عضو فعليه صدقة. وقال محمد: يقوم ما يجب فيه الدم فيتصدق بذلك القدر, حتى لو طيب ربع عضو, فعليه من الصدقة قدر قيمة ربع شاة, وإن طيب نصف عضو تصدق بقدر قيمة نصف شاة هكذا وذكر الحاكم في المنتقى في موضع إذا طيب مثل الشارب أو بقدره من اللحية, فعليه صدقة, وفي موضع إذا طيب مقدار ربع الرأس فعليه دم, أعطى الربع حكم الكل كما في الحلق. وقال الشافعي: في قليل الطيب وكثيره دم لوجود الارتفاق ومحمد اعتبر البعض بالكل والصحيح ما ذكر في الأصل؛ لأن تطييب عضو كامل ارتفاق كامل, فكان

 

ج / 2 ص -190-       جناية كاملة فيوجب كفارة كاملة, وتطييب ما دونه ارتفاق قاصر فيوجب كفارة قاصرة, إذ الحكم يثبت على قدر السبب فإن طيب مواضع متفرقة من كل عضو يجمع ذلك كله, فإذا بلغ عضوا كاملا يجب عليه دم, وإن لم يبلغ فعليه صدقة لما قلنا. وإن طيب الأعضاء كلها, فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد؛ لأن جنس الجناية واحد حظرها إحرام واحد من جهة غير متقومة فيكفيه دم واحد, وإن كان في مجلسين مختلفين بأن طيب كل عضو في مجلس على حدة فعليه لكل واحد دم في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف سواء ذبح للأول أو لم يذبح كفر للأول أو لم يكفر وقال محمد: إن ذبح للأول فكذلك وإن لم يذبح فعليه دم واحد, والاختلاف فيه كالاختلاف في الجماع بأن جامع قبل الوقوف بعرفة ثم جامع, أنه إن كان ذلك في مجلس واحد يجب على كل واحد منهما دم واحد, وإن كان في مجلسين مختلفين يجب على كل واحد منهما دمان في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف. وعند محمد إن ذبح للأول فعليه دم آخر, وإن لم يذبح يكفي دم واحد قياسا على كفارة الإفطار في شهر رمضان, وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى. ولو ادهن بدهن فإن كان الدهن مطيبا كدهن: البنفسج, والورد, والزئبق, والبان, والحرى, وسائر الأدهان التي فيها الطيب فعليه دم إذا بلغ عضوا كاملا. وحكي عن الشافعي أن البنفسج ليس بطيب, وأنه غير سديد؛ لأنه دهن مطيب فأشبه البان وغيره من الأدهان المطيبة, وإن كان غير مطيب بأن ادهن بزيت أو بشيرج فعليه دم في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد عليه صدقة. وقال الشافعي: "إن استعمله في شعره فعليه دم, وإن استعمله في بدنه فلا شيء عليه "احتجا بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ادهن بزيت وهو محرم" ولو كان ذلك موجبا للدم لما فعل صلى الله عليه وسلم لأنه ما كان يفعل ما يوجب الدم؛ ولأن غير المطيب من الأدهان يستعمل استعمال الغذاء فأشبه اللحم والشحم والسمن إلا أنه يوجب الصدقة؛ لأنه يقتل الهوام لا لكونه طيبا, ولأبي حنيفة ما روي عن أم حبيبة رضي الله عنها أنه لما نعي إليها وفاة أخيها قعدت ثلاثة أيام, ثم استدعت بزنة زيت وقالت: "ما لي إلى الطيب من حاجة لكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا" سمت الزيت طيبا؛ ولأنه أصل الطيب بدليل أنه يطيب بإلقاء الطيب فيه, فإذا استعمله على وجه الطيب كان كسائر الأدهان المطيبة؛ ولأنه يزيل الشعث الذي هو علم الإحرام وشعاره على ما نطق به الحديث, فصار جارحا إحرامه بإزالة علمه, فتكاملت جنايته فيجب الدم. والحديث محمول على حال الضرورة؛ لأنه صلى الله عليه وسلم كما كان لا يفعل ما يوجب الدم كان لا يفعل ما يوجب الصدقة, وعندهما تجب الصدقة فكان المراد منه حالة العذر والضرورة, ثم إنه ليس فيه أنه لم يكفر فيحتمل أنه فعل وكفر, فلا يكون حجة. ولو داوى بالزيت جرحه أو شقوق رجليه فلا كفارة عليه؛ لأنه ليس بطيب بنفسه, وإن كان أصل الطيب لكنه ما استعمله على وجه الطيب, فلا تجب به الكفارة, بخلاف ما إذا تداوى بالطيب لا للتطيب أنه تجب به الكفارة؛ لأنه طيب في نفسه فيستوي فيه استعماله للتطيب أو لغيره؛ وذكر محمد في الأصل, وإن دهن شقاق رجليه طعن عليه في ذلك فقيل: "الصحيح شقوق رجليه" وإنما قال محمد: ذلك اقتداء بعمر بن الخطاب رضي الله عنه فإنه قال هكذا في هذه المسألة, ومن سيرة أصحابنا الاقتداء بألفاظ الصحابة ومعاني كلامهم رضي الله عنهم. وإن ادهن بشحم أو سمن فلا شيء عليه؛ لأنه ليس بطيب في نفسه, ولا أصل للطيب بدليل أنه لا يطيب بإلقاء الطيب فيه, ولا يصير طيبا بوجه, وقد قال أصحابنا: إن الأشياء التي تستعمل في البدن على ثلاثة أنواع: نوع هو طيب محض معد للتطيب به كالمسك والكافور, والعنبر وغير ذلك, وتجب به الكفارة على أي وجه استعمل حتى قالوا: لو داوى عينه بطيب تجب عليه الكفارة؛ لأن العين عضو كامل استعمل فيه الطيب فتجب الكفارة, ونوع ليس بطيب بنفسه ولا فيه معنى الطيب, ولا يصير طيبا بوجه كالشحم فسواء أكل أو ادهن به أو جعل في شقاق الرجل لا تجب الكفارة. ونوع ليس بطيب بنفسه لكنه أصل الطيب, يستعمل على وجه الطيب, ويستعمل على وجه الإدام كالزيت والشيرج, فيعتبر فيه الاستعمال, فإن استعمل استعمال الأدهان في البدن يعطى له حكم الطيب, وإن

 

ج / 2 ص -191-       استعمل في مأكول أو شقاق رجل لا يعطى له حكم الطيب كالشحم. , ولو كان الطيب في طعام طبخ وتغير, فلا شيء على المحرم في أكله, سواء كان يوجد ريحه أو لا؛ لأن الطيب صار مستهلكا في الطعام بالطبخ, وإن كان لم يطبخ يكره إذا كان ريحه يوجد منه ولا شيء عليه؛ لأن الطعام غالب عليه, فكان الطيب مغمورا مستهلكا فيه, وإن أكل عين الطيب غير مخلوط بالطعام فعليه الدم إذا كان كثيرا. وقالوا في الملح يجعل فيه الزعفران أنه إن كان الزعفران غالبا فعليه الكفارة؛ لأن الملح يصير تبعا له, فلا يخرجه عن حكم الطيب, وإن كان الملح غالبا, فلا كفارة عليه؛ لأنه ليس فيه معنى الطيب, وقد روي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه كان يأكل الخشكنابخ الأصفر وهو محرم, ويقول: لا بأس بالخبيص الأصفر للمحرم. فإن تداوى المحرم بما لا يؤكل من الطيب لمرض أو علة, أو اكتحل بطيب لعلة فعليه أي الكفارات شاء لما ذكرنا أن ما يحظره الإحرام إذا فعله المحرم لضرورة وعذر فعليه إحدى الكفارات الثلاث. , ويكره للمحرم أن يشم الطيب والريحان كذا روي عن ابن عمر وجابر رضي الله عنهما أنهما كرها شم الريحان للمحرم, وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه لا بأس به, ولو شمه لا شيء عليه عندنا. وقال الشافعي: "تجب عليه الفدية" وجه قوله: أن الطيب ما له رائحة, والريحان له رائحة طيبة فكان طيبا, وإنا نقول: نعم إنه طيب لكنه لم يلتزق ببدنه ولا بثيابه شيء منه, وإنما شم رائحته فقط وهذا لا يوجب الكفارة, كما لو جلس عند العطارين فشم رائحة العطر إلا أنه ذكره لما فيه من الارتفاق. وكذا كل نبات له رائحة طيبة, وكل ثمرة لها رائحة طيبة؛ لأنه ارتفاق بالرائحة ولو فعل لا شيء عليه؛ لأنه لم يلتزق ببدنه وثيابه شيء منه. وحكي عن مالك: أنه كان يأمر برفع العطارين بمكة في أيام الحج وذلك غير سديد؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يفعلوا ذلك. فإن شم المحرم رائحة طيب تطيب به قبل الإحرام لا بأس به؛ لأن استعمال الطيب حصل في وقت مباح, فبقي شم نفس الرائحة فلا يمنع منه, كما لو مر بالعطارين, وروى ابن سماعة عن محمد أن رجلا لو دخل بيتا قد أجمر وطال مكثه بالبيت فعلق في ثوبه شيء يسير فلا شيء عليه؛ لأن الرائحة لم تتعلق بعين, وبمجرد الرائحة لا يمنع منها, فإن استجمر بثوب فعلق بثوبه شيء كثير فعليه دم؛ لأن الرائحة ههنا تعلقت بعين وقد استعملها في بدنه فصار كما لو تطيب. وذكر ابن رستم عن محمد فيمن اكتحل بكحل قد طيب مرة أو مرتين فعليه صدقة, وإن كان كثيرا فعليه دم؛ لأن الطيب إذا غلب الكحل, فلا فرق بين استعماله على طريق التداوي أو التطيب. فإن مس طيبا فلزق بيده فهو بمنزلة التطيب؛ لأنه طيب به يده, وإن لم يقصد به التطيب, لأن القصد ليس بشرط لوجوب الكفارة. وقالوا فيمن استلم الحجر فأصاب يده من طيبه: إن عليه الكفارة؛ لأنه استعمل الطيب, وإن لم يقصد به التطيب, ووجوب الكفارة لا يقف على القصد. فإن داوى جرحا أو تطيب لعلة, ثم حدث جرح آخر قبل أن يبرأ الأول فعليه كفارة واحدة؛ لأن العذر الأول باق, فكان جهة الاستعمال واحدة فتكفيه كفارة واحدة كما قلنا في لبس المخيط. ولا بأس بأن يحتجم المحرم, ويفتصد, ويبط القرحة, ويعصب عليه الخرقة, ويجبر الكسر, وينزع الضرس إذا اشتكى منه, ويدخل الحمام ويغتسل لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتجم وهو صائم محرم بالقرحة, والفصد وبط القرحة" والجرح في معنى الحجامة؛ ولأنه ليس في هذه الأشياء إلا شق الجلدة والمحرم غير ممنوع عن ذلك, ولأنها من باب التداوي, والإحرام لا يمنع من التداوي. وكذا جبر الكسر من باب العلاج, والمحرم لا يمنع منه. وكذا قلع الضرس, وهو أيضا من باب إزالة الضرر فيشبه قطع اليد من الأكلة, وذا لا يمنع منه المحرم كذا هذا. وأما الاغتسال فلما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اغتسل وهو محرم وقال: ما نفعل بأوساخنا". فإن غسل رأسه ولحيته بالخطمي فعليه دم في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد عليه صدقة لهما أن الخطمي ليس بطيب, وإنما يزيل الوسخ فأشبه الأشنان, فلا يجب به الدم, وتجب الصدقة؛ لأنه يقتل الهوام لا لأنه طيب, ولأبي حنيفة أن الخطمي طيب؛ لأن له رائحة طيبة فيجب به الدم كسائر أنواع الطيب؛ ولأنه يزيل الشعث ويقتل الهوام فأشبه الحلق. فإن خضب رأسه ولحيته بالحناء فعليه دم؛ لأن الحناء طيب لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء وقال: الحناء طيب"

 

ج / 2 ص -192-       ولأن الطيب ما له رائحة طيبة وللحناء رائحة طيبة فكان طيبا. وإن خضبت المحرمة يديها بالحناء فعليها دم, وإن كان قليلا فعليها صدقة؛ لأن الارتفاق الكامل لا يحصل إلا بتطييب عضو كامل, والقسط طيب؛ لأن له رائحة طيبة ولهذا يتبخر به ويلتذ برائحته. , والوسمة ليس بطيب؛ لأنه ليس لها رائحة طيبة بل كريهة, وإنما تغير الشعر وذلك ليس من باب الارتفاق, بل من باب الزينة, فإن خاف أن يقتل دواب الرأس تصدق بشيء؛ لأنه يزيل التفث. وروي عن أبي يوسف فيمن خضب رأسه بالوسمة أن عليه دما لا لأجل الخضاب بل لأجل تغطية الرأس. والكحل ليس بطيب وللمحرم أن يكتحل بكحل ليس فيه طيب. وقال ابن أبي ليلى: "هو طيب وليس للمحرم أن يكتحل به" وهذا غير سديد؛ لأنه ليس له رائحة طيبة, فلا يكون طيبا. ويستوي في وجوب الجزاء بالتطيب: الذكر والنسيان, والطوع والكره عندنا كما في لبس المخيط خلافا للشافعي على ما مر, والرجل والمرأة في الطيب سواء في الحظر ووجوب الجزاء؛ لاستوائهما في الحاظر والموجب للجزاء. وكذا القارن والمفرد إلا أن على القارن مثلي ما على المفرد عندنا؛ لأنه محرم بإحرامين فأدخل نقصا في إحرامين فيؤاخذ بجزاءين, ولا يحل للقارن والمفرد التطيب ما لم يحلقا أو يقصرا, لبقاء الإحرام قبل الحلق أو التقصير, فكان الحاظر باقيا فيبقى الحظر. وكذا المعتمر لما قلنا, وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم والله أعلم.

"فصل": وأما ما يجري مجرى الطيب من إزالة الشعث وقضاء التفث: فحلق الشعر, وقلم الظفر. أما الحلق فنقول: "لا يجوز للمحرم أن يحلق رأسه قبل يوم النحر لقوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم "المحرم الأشعث الأغبر" "وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحاج؟ فقال: الشعث التفث" وحلق الرأس يزيل الشعث والتفث؛ ولأنه من باب الارتفاق بمرافق المقيمين, والمحرم ممنوع عن ذلك؛ ولأنه نوع نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيحرم التعرض له, كالنبات الذي استفاد الأمن بسبب الحرم وهو الشجر والخلى. وكذا لا يطلي رأسه بنورة؛ لأنه في معنى الحلق؛ وكذا لا يزيل شعرة من شعر رأسه ولا يطليها بالنورة لما قلنا. فإن حلق رأسه, فإن حلقه من غير عذر فعليه دم لا يجزيه غيره؛ لأنه ارتفاق كامل من غير ضرورة, وإن حلقه لعذر فعليه أحد الأشياء الثلاثة لقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ولما روينا من حديث كعب بن عجرة؛ ولأن الضرورة لها أثر في التخفيف فخير بين الأشياء الثلاثة تخفيفا وتيسيرا, وإن حلق ثلثه أو ربعه فعليه دم, وإن حلق دون الربع, فعليه صدقة كذا ذكر في ظاهر الرواية ولم يذكر الاختلاف, وحكى الطحاوي في مختصره الاختلاف فقال: "إذا حلق ربع رأسه يجب عليه الدم" في قول أبي حنيفة. وفي قول أبي يوسف ومحمد: لا يجب ما لم يحلق أكثر رأسه. وذكر القدوري في شرحه مختصر الحاكم: إذا حلق ربع رأسه يجب عليه دم في قول أبي حنيفة. وعند أبي يوسف: إذا حلق أكثره يجب. وعند محمد: إذا حلق شعره يجب. وقال الشافعي: "إذا حلق ثلاث شعرات يجب" وقال مالك: "لا يجب إلا بحلق الكل" وعلى هذا إذا حلق لحيته أو ثلثها أو ربعها, احتج مالك بقوله تعالى {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} والرأس اسم لكل هذا المحدود. وجه قول الشافعي: أن الثلاث جمع صحيح فيقوم مقام الكل, ولهذا قام مقام الكل في مسح الرأس؛ ولأن الشعر نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيستوي فيه قليله وكثيره, كالنبات الذي استفاد الأمن بسبب الحرم من الشجر والخلى. وأما الكلام بين أصحابنا فمبني على أن حلق الكثير يوجب الدم, والقليل يوجب الصدقة, واختلفوا في الحد الفاصل بين القليل والكثير, فجعل أبو حنيفة ما دون الربع قليلا, والربع وما فوقه كثيرا, وهما على ما ذكر الطحاوي جعلا ما دون النصف قليلا, وما زاد على النصف كثيرا, والوجه لهما: أن القليل والكثير من أسماء المقابلة, وإنما يعرف ذلك بمقابله, فإن كان مقابله قليلا فهو كثير, وإن كان كثيرا فهو قليل, فيلزم منه أن يكون الربع قليلا؛ لأن ما يقابله كثير فكان هو قليلا, والوجه لأبي حنيفة: أن الربع في حلق الرأس بمنزلة الكل ألا ترى أن من عادة كثير من الأجيال من العرب, والترك, والكرد الاقتصار على حلق ربع الرأس, ولذا يقول القائل: رأيت فلانا يكون صادقا في مقالته, وإن لم ير إلا أحد جوانبه الأربع, ولهذا أقيم مقام الكل في المسح, وفي الخروج من الإحرام بأن حلق ربع رأسه للتحلل

 

ج / 2 ص -193-       والخروج من الإحرام, أنه يتحلل ويخرج من الإحرام, فكان حلق ربع الرأس ارتفاقا كاملا فكانت جناية كاملة, فيوجب كفارة كاملة. وكذا حلق ربع اللحية لأهل بعض البلاد معتاد كالعراق ونحوها, فكان حلق الربع منها كحلق الكل, ولا حجة لمالك في الآية؛ لأن فيها نهيا عن حلق الكل, وذا لا ينفي النهي عن حلق البعض, فكان تمسكا بالمسكوت, فلا يصح. وما قاله الشافعي غير سديد؛ لأن آخذ ثلاث شعرات لا يسمى حالقا في العرف, فلا يتناوله نص الحلق, كما لا يسمى ماسح ثلاث شعرات ماسحا في العرف, حتى لم يتناوله نص المسح, على أن وجوب الدم متعلق بارتفاق كامل, وحلق ثلاث شعرات ليس بارتفاق كامل, فلا يوجب كفارة كاملة, وقوله: إنه نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام مسلم, لكن هذا يقتضي حرمة التعرض لقليله وكثيره ونحن به نقول, ولا كلام فيه, وإنما الكلام في وجوب الدم, وذا يقف على ارتفاق كامل ولم يوجد, وقد خرج الجواب عن قولهما: إن القليل والكثير يعرف بالمقابلة لما ذكرنا أن الربع كثير من غير مقابلة في بعض المواضع فيعمل عليه في موضع الاحتياط. ولو أخذ شيئا من رأسه أو لحيته, أو لمس شيئا من ذلك فانتثر منه شعرة فعليه صدقة لوجود الارتفاق بإزالة التفث, هذا إذا حلق رأس نفسه. فأما إذا حلق رأس غيره فعلى الحالق صدقة عندنا. وقال مالك والشافعي: "لا شيء على الحالق ". وجه قولهما: أن وجوب الجزاء لوجود الارتفاق, ولم يوجد من الحالق, ولنا أن المحرم كما هو ممنوع من حلق رأس نفسه ممنوع من حلق رأس غيره لقوله عز وجل {وَلا تَحْلِقُوا رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ} والإنسان لا يحلق رأس نفسه, إلا أنه لما حرم عليه حلق رأس غيره يحرم عليه حلق رأس نفسه من طريق الأولى, فتجب عليه الصدقة, ولا يجب عليه الدم, لعدم الارتفاق في حقه, وسواء كان المحلوق حلالا أو حراما لما قلنا, غير أنه إن كان حلالا لا شيء عليه وإن كان حراما فعليه الدم, لحصول الارتفاق الكامل له, وسواء كان الحلق بأمر المحلوق أو بغير أمره طائعا أو مكرها عندنا وقال الشافعي: إن كان مكرها فلا شيء عليه, وإن لم يكن مكرها لكنه سكت ففيه وجهان, والصحيح قولنا؛ لأن الإكراه لا يسلب الحظر, وكمال الارتفاق موجود فيجب عليه كمال الجزاء, وليس له أن يرجع به على الحالق, وعن القاضي أبي حازم أنه يرجع عليه بالكفارة؛ لأن الحالق هو الذي أدخله في عهدة الضمان, فكان له أن يرجع عليه كالمكره على إتلاف المال, ولنا أن الارتفاق الكامل حصل له فلا يرجع على أحد, إذ لو رجع لسلم له العوض والمعوض. وهذا لا يجوز كالمغرور إذا وطئ الجارية وغرم العقر, أنه لا يرجع به على الغار لما قلنا, كذا هذا وإن كان الحالق حلالا فلا شيء عليه, وحكم المحلوق ما ذكرنا. وإن حلق شاربه فعليه صدقة؛ لأن الشارب تبع للحية, ألا ترى أنه ينبت تبعا للحية ويؤخذ تبعا للحية أيضا, ولأنه قليل, فلا يتكامل معنى الجناية, وذكر في الجامع الصغير: محرم أخذ من شاربه فعليه حكومة عدل, وهي أن ينظر كم تكون مقادير أدنى ما يجب في اللحية من الدم؟ وهو الربع, فتجب الصدقة بقدره حتى لو كان مثل ربع اللحية, يجب ربع قيمة الشاة؛ لأنه تبع للحية, وقوله "أخذ من شاربه" إشارة إلى القص, وهو السنة في الشارب لا الحلق. وذكر الطحاوي في شرح الآثار: أن السنة فيه الحلق, ونسب ذلك إلى أبي حنيفة, وأبي يوسف ومحمد رحمهم الله, والصحيح أن السنة فيه القص لما ذكرنا أنه تبع اللحية, والسنة في اللحية القص لا الحلق, كذا في الشارب؛ ولأن الحلق يشينه ويصير بمعنى المثلة, ولهذا لم يكن سنة في اللحية, بل كان بدعة, فكذا في الشارب. ولو حلق الرقبة فعليه الدم؛ لأنه عضو كامل مقصود بالارتفاق بحلق شعره, فتجب كفارة كاملة كما في حلق الرأس. ولو نتف من أحد الإبطين فعليه دم لما قلنا, ولو نتف الإبطين جميعا تكفيه كفارة واحدة؛ لأن جنس الجناية واحد, والحاظر واحد, والجهة غير متقومة فتكفيها كفارة واحدة. ولو نتف من أحد الإبطين أكثره فعليه صدقة؛ لأن الأكثر فيما له نظير في البدن لا يقام مقام كله, بخلاف الرأس واللحية والرقبة وما لا نظير له في البدن, ثم ذكر في الإبط النتف في الأصل, وهو إشارة إلى أن السنة فيه النتف وهو كذلك, وذكر في الجامع الصغير الحلق وهو إشارة إلى أنه ليس بحرام. ولو حلق موضع المحاجم فعليه دم في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: "فيه صدقة ". وجه قولهما أن: موضع الحجامة غير مقصود بالحلق, بل هو تابع فلا يتعلق بحلقه دم كحلق الشارب؛ لأنه إذا لم يكن مقصودا بالحلق لا تتكامل الجناية بحلقه, فلا تجب به كفارة كاملة

 

ج / 2 ص -194-       ولأنه إنما يحلق للحجامة لا لنفسه, والحجامة لا توجب الدم؛ لأنه ليس من محظورات الإحرام على ما بينا, فكذا ما يفعل لها؛ ولأن ما عليه من الشعر قليل فأشبه الصدر والساعد والساق, ولا يجب بحلقها دم بل صدقة كذا هذا, ولأبي حنيفة أن هذا عضو مقصود بالحلق لمن يحتاج إلى حلقه؛ لأن الحجامة أمر مقصود لمن يحتاج إليها؛ لاستفراغ المادة الدموية, ولهذا لا يحلق تبعا للرأس ولا للرقبة فأشبه حلق الإبط والعانة, ويستوي في وجوب الجزاء بالحلق: العمد, والسهو, والطوع, والكره عندنا والرجل, والمرأة, والمفرد, والقارن غير أن القارن يلزمه جزاءان عندنا لكونه محرما بإحرامين على ما بينا. وأما قلم الظفر فنقول: لا يجوز للمحرم قلم أظفاره لقوله تعالى {ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ} وقلم الأظفار من قضاء التفث, رتب الله تعالى قضاء التفث على الذبح؛ لأنه ذكره بكلمة موضوعة للترتيب مع التراخي بقوله عز وجل: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}, فلا يجوز الذبح؛ ولأنه ارتفاق بمرافق المقيمين, والمحرم ممنوع عن ذلك؛ ولأنه نوع نبات استفاد الأمن بسبب الإحرام فيحرم التعرض له كالنوع الآخر, وهو النبات الذي استفاد الأمن بسبب الحرم, فإن قلم أظافير يد أو رجل من غير عذر وضرورة فعليه دم؛ لأنه ارتفاق كامل فتكاملت الجناية فتجب كفارة كاملة. وإن قلم أقل من يد أو رجل فعليه صدقة لكل ظفر نصف صاع وهذا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: "إذا قلم ثلاثة أظفار فعليه دم وجه قوله أن ثلاثة أظافير من اليد أكثرها, والأكثر يقوم مقام الكل في هذا الباب كما في حلق الرأس, ولأصحابنا الثلاثة: أن قلم ما دون اليد ليس بارتفاق كامل فلا يوجب كفارة كاملة. وأما قوله: "الأكثر يقوم مقام الكل" فنقول: إن اليد الواحدة قد أقيمت مقام كل الأطراف في وجوب الدم, وما أقيم مقام الكل لا يقوم أكثره مقامه, كما في الرأس أنه لما أقيم الربع فيه مقام الكل, لا يقام أكثر الربع مقامه, وهذا؛ لأنه لو أقيم أكثر ما أقيم مقام الكل مقامه؛ لأقيم أكثر أكثره مقامه فيؤدي إلى إبطال التقدير أصلا ورأسا. وهذا لا يجوز. فإن قلم خمسة أظافير من الأعضاء الأربعة متفرقة اليدين والرجلين فعليه صدقة, لكل ظفر نصف صاع في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف. وقال محمد: عليه "دم ", وكذلك لو قلم من كل عضو من الأعضاء الأربعة أربعة أظافير, فعليه صدقة عندهما, وإن كان يبلغ جملتها ستة عشر ظفرا, ويجب في كل ظفر نصف صاع من بر, إلا إذا بلغت قيمة الطعام دما فينقص منه ما شاء. وعند محمد عليه دم, فمحمد اعتبر عدد الخمسة لا غير, ولم يعتبر التفرق والاجتماع, وأبو حنيفة وأبو يوسف اعتبرا مع عدد الخمسة صفة الاجتماع, وهو أن يكون من محل واحد. وجه قول محمد: أن قلم أظافير يد واحدة, أو رجل واحدة إنما أوجب الدم لكونها ربع الأعضاء المتفرقة, وهذا المعنى يستوي فيه المجتمع والمتفرق, ألا ترى أنهما استويا في الأرش بأن قطع خمسة أظافير متفرقة فكذا هذا, ولهما أن الدم إنما يجب بارتفاق كامل, ولا يحصل ذلك بالقلم متفرقا؛ لأن ذلك شين ويصير مثلة, فلا تجب به كفارة كاملة, ويجب في كل ظفر نصف صاع من حنطة إلا أن تبلغ قيمة الطعام دما ينقص منه ما شاء؛ لأنا إنما لم نوجب عليه الدم لعدم تناهي الجناية لعدم ارتفاق كامل, فلا يجب أن يبلغ قيمة الدم فإن اختار الدم فله ذلك وليس عليه غيره, فإن قلم خمسة أظافير من يد واحدة, أو رجل واحدة ولم يكفر, ثم قلم أظافير يده الأخرى, أو رجله الأخرى, فإن كان في مجلس واحد فعليه دم واحد استحسانا, والقياس: أن يجب لكل واحد دم لما سنذكر إن شاء الله تعالى, وإن كان في مجلسين فعليه دمان في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف. وقال محمد: "عليه دم واحد ما لم يكفر للأول" وأجمعوا على أنه لو قلم خمسة أظافير من يد واحدة, أو رجل واحدة, وحلق ربع رأسه, وطيب عضوا واحدا أن عليه لكل جنس دما على حدة, سواء كان في مجلس واحد, أو في مجالس مختلفة, وأجمعوا في كفارة الفطر على أنه إذا جامع في اليوم الأول, وأكل في اليوم الثاني, وشرب في اليوم الثالث أنه إن كفر للأول فعليه كفارة أخرى, وإن لم يكفر للأول فعليه كفارة واحدة, فأبو حنيفة, وأبو يوسف جعلا اختلاف المجلس كاختلاف الجنس, ومحمد جعل اختلاف المجلس كاتحاده عند اتفاق الجنس, وعلى هذا إذا قطع أظافير اليدين والرجلين أنه إن كان في مجلس واحد يكفيه دم واحد استحسانا, والقياس: أن يجب عليه بقلم أظافير كل عضو من يد

 

ج / 2 ص -195-       أو رجل دم, وإن كان في مجلس واحد. وجه القياس: أن الدم إنما يجب لحصول الارتفاق الكامل؛ لأن بذلك تتكامل الجناية فتتكامل الكفارة, وقلم أظافير كل عضو ارتفاق على حدة, فيستدعي كفارة على حدة. ووجه الاستحسان: أن جنس الجناية واحد حظرها إحرام واحد بجهة غير متقومة, فلا يوجب إلا دما واحدا, كما في حلق الرأس أنه إذا حلق الربع يجب عليه دم. ولو حلق الكل يجب عليه دم واحد لما قلنا كذا هذا, وإن كان في مجالس مختلفة يجب لكل من ذلك كفارة في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, سواء كفر للأول أو لا, وعند محمد إن لم يكفر للأول فعليه كفارة واحدة. وجه قوله: أن الكفارة تجب بهتك حرمة الإحرام, وقد انهتك حرمته بقلم أظافير العضو الأول, وهتك المهتوك لا يتصور, فلا يلزمه كفارة أخرى ولهذا لا يجب كفارة أخرى بالإفطار في يومين من رمضان؛ لأن وجوبها بهتك حرمة الشهر جبرا لها, وقد انهتك بإفساد الصوم في اليوم الأول, فلا يتصور هتكا بالإفساد في اليوم الثاني والثالث, كذا هذا, بخلاف ما إذا كفر للأول لأنه انجبر الهتك بالكفارة وجعل كأنه لم يكن فعادت حرمة الإحرام, فإذا هتكها تجب كفارة أخرى جبرا لها كما في كفارة رمضان, ولهما أن كفارة الإحرام تجب بالجناية على الإحرام, والإحرام قائم فكان كل فعل جناية على حدة على الإحرام فيستدعي كفارة على حدة, إلا أن عند اتحاد المجلس جعلت الجنايات المتعددة حقيقة متحدة حكما؛ لأن المجلس جعل في الشرع جامعا للأفعال المختلفة كما في خيار المخيرة, وسجدة التلاوة, والإيجاب والقبول في البيع, وغير ذلك, فإذا اختلف المجلس أعطى لكل جناية حكم نفسها, فيعتبر في الحكم المتعلق بها, بخلاف كفارة الإفطار؛ لأنها ما وجبت بالجناية على الصوم بل جبرا لهتك حرمة الشهر. وحرمة الشهر واحدة لا تتجزأ, وقد انهتكت حرمته بالإفطار الأول, فلا يحتمل الهتك ثانيا. ولو قلم أظافير يد لأذى في كفه فعليه أي الكفارات شاء لما ذكرنا أن ما حظره الإحرام إذا فعله المحرم عن ضرورة وعذر فكفارته أحد الأشياء الثلاثة, والله عز وجل أعلم. ولو انكسر ظفر المحرم فانقطعت منه شظية فقلعها لم يكن عليه شيء إذا كان مما لا يثبت؛ لأنها كالزائدة؛ ولأنها خرجت عن احتمال النماء فأشبهت شجر الحرم إذا يبس فقطعه إنسان أنه لا ضمان عليه كذا هذا, وإن قلم المحرم أظافير حلال أو محرم أو قلم الحلال أظافير محرم, فحكمه حكم الحلق, وقد ذكرنا ذلك كله والله أعلم. والذكر, والنسيان, والطوع والكره في وجوب الفدية بالقلم سواء عندنا, خلافا للشافعي, وكذا يستوي فيه الرجل والمرأة والمفرد والقارن, إلا أن على القارن ضعف ما على المفرد لما ذكرنا, والله أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى توابع الجماع فيجب على المحرم أن يجتنب الدواعي من التقبيل, واللمس بشهوة, والمباشرة, والجماع فيما دون الفرج لقوله عز وجل {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} قيل في بعض وجوه التأويل: إن الرفث جميع حاجات الرجال إلى النساء. وسئلت عائشة رضي الله تعالى عنها عما يحل للمحرم من امرأته؟ فقالت: "يحرم عليه كل شيء إلا الكلام" فإن جامع فيما دون الفرج أنزل أو لم ينزل, أو قبل أو لمس بشهوة, أو باشر فعليه دم, لكن لا يفسد حجه, أما عدم فساد الحج؛ فلأن ذلك حكم متعلق بالجماع في الفرج على طريق التغليظ. وأما وجوب الدم فلحصول ارتفاق كامل مقصود, وقد روي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا باشر المحرم امرأته فعليه دم, ولم يرو عن غيره خلافه, وسواء فعل ذاكرا أو ناسيا عندنا خلافا للشافعي. ولو نظر إلى فرج امرأته عن شهوة فأمنى, فلا شيء عليه, بخلاف المس عن شهوة أنه يوجب الدم, أمنى أو لم يمن, ووجه الفرق: أن اللمس استمتاع بالمرأة وقضاء للشهوة فكان ارتفاقا كاملا. فأما النظر فليس من باب الاستمتاع ولا قضاء الشهوة, بل هو سبب لزرع الشهوة في القلب, والمحرم غير ممنوع عما يزرع الشهوة كالأكل, وذكر في الجامع الصغير إذا لمس بشهوة فأمنى فعليه دم وقوله: "أمنى" ليس على سبيل الشرط؛ لأنه ذكر في الأصل أن عليه دما أنزل أو لم ينزل.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى. الصيد فنقول: لا يجوز للمحرم أن يتعرض لصيد البر المأكول وغير المأكول عندنا إلا المؤذي المبتدئ بالأذي غالبا. والكلام في هذا الفصل يقع في مواضع في تفسير الصيد أنه ما هو؟ وفي بيان

 

ج / 2 ص -196-       أنواعه, وفي بيان ما يحل اصطياده للمحرم وما يحرم عليه, وفي بيان حكم ما يحرم عليه اصطياده إذا اصطاده أما الأول فالصيد هو الممتنع المتوحش من الناس في أصل الخلقة إما بقوائمه, أو بجناحه, فلا يحرم على المحرم ذبح الإبل, والبقر, والغنم, لأنها ليست بصيد لعدم الامتناع والتوحش من الناس. وكذا الدجاج والبط الذي يكون في المنازل وهو المسمى بالبط الكسكري لانعدام معنى الصيد فيهما, وهو الامتناع والتوحش. فأما البط الذي يكون عند الناس ويطير فهو صيد لوجود معنى الصيد فيه, والحمام المسرول صيد وفيه الجزاء عند عامة العلماء. وعند مالك ليس بصيد. وجه قوله: إن الصيد اسم للمتوحش, والحمام المسرول مستأنس, فلا يكون صيدا كالدجاج والبط الذي يكون في المنازل, ولنا أن جنس الحمام متوحش في أصل الخلقة, وإنما يستأنس البعض منه بالتولد والتأنيس مع بقائه صيدا كالظبية المستأنسة, والنعامة المستأنسة والطوطي ونحو ذلك حتى يجب فيه الجزاء. وكذا المستأنس في الخلقة قد يصير مستوحشا كالإبل, إذا توحشت وليس له حكم الصيد حتى لا يجب فيه الجزاء, فعلم أن العبرة بالتوحش, والاستئناس في أصل الخلقة. وجنس الحمام متوحش في أصل الخلقة وإنما يستأنس البعض منه لعارض, فكان صيدا بخلاف البط الذي يكون عند الناس في المنازل, فإن ذلك ليس من جنس المتوحش, بل هو من جنس آخر, والكلب ليس بصيد؛ لأنه ليس بمتوحش بل هو مستأنس, سواء كان أهليا أو وحشيا؛ لأن الكلب أهلي في الأصل, لكن ربما يتوحش لعارض فأشبه الإبل إذا توحشت. وكذا السنور الأهلي ليس بصيد؛ لأنه مستأنس. وأما البري ففيه روايتان: روى هشام عن أبي حنيفة أن فيه الجزاء, وروى الحسن عنه أنه لا شيء فيه كالأهلي. وجه رواية هشام: أنه متوحش فأشبه الثعلب ونحوه. وجه رواية الحسن: أن جنس السنور مستأنس في أصل الخلقة, وإنما يتوحش البعض منه لعارض فأشبه البعير إذا توحش, ولا بأس بقتل البرغوث, والبعوض, والنملة, والذئاب والحلم, والقراد, والزنبور؛ لأنها ليست بصيد لانعدام التوحش والامتناع, ألا ترى أنها تطلب الإنسان مع امتناعه منها ؟, وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان يقرد بعيره وهو محرم؛ ولأن هذه الأشياء من المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبا, فالتحقت بالمؤذيات المنصوص عليها من الحية, والعقرب وغيرهما, ولا يقتل القملة لا لأنها صيد بل لما فيها من إزالة التفث؛ لأنه متولد من البدن كالشعر, والمحرم منهي عن إزالة التفث من بدنه فإن قتلها تصدق بشيء كما لو أزال شعرة, ولم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الصدقة, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: إذا قتل المحرم قملة أو ألقاها أطعم كسرة, وإن كانتا اثنتين أو ثلاثا أطعم قبضة من الطعام, وإن كانت كبيرة أطعم نصف صاع. وكذا لا يقتل الجرادة؛ لأنها صيد البر أما كونه صيدا فلأنه متوحش في أصل الخلقة وأما كونه صيد البر؛ فلأن توالده في البر, ولذا لا يعيش إلا في البر حتى لو وقع في الماء يموت فإن قتلها تصدق بشيء من الطعام, وقد روي عن عمر أنه قال: "ثمرة خير من جرادة" ولا بأس له بقتل هوام الأرض من: الفأرة, والحية والعقرب, والخنافس, والجعلان, وأم حبين, وصياح الليل, والصرصر ونحوها؛ لأنها ليست بصيد, بل من حشرات الأرض. وكذا القنفذ وابن عرس؛ لأنهما من الهوام حتى قال أبو يوسف: "ابن عرس من سباع الهوام ", والهوام ليست بصيد؛ لأنها لا تتوحش من الناس. وقال أبو يوسف: "في القنفذ الجزاء؛ لأنه من جنس المتوحش ولا يبتدئ بالأذى.

"فصل": وأما بيان أنواعه وبيان ما يحل للمحرم اصطياده وما يحرم عليه من كل نوع فنقول وبالله التوفيق: الصيد في الأصل نوعان: بري, وبحري فالبحري هو الذي توالده في البحر, سواء كان لا يعيش إلا في البحر, أو يعيش في البحر والبر, والبري ما يكون توالده في البر, سواء كان لا يعيش إلا في البر أو يعيش في البر والبحر, فالعبرة للتوالد أما صيد البحر فيحل اصطياده للحلال والمحرم جميعا مأكولا كان, أو غير مأكول لقوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ} والمراد منه اصطياد ما في البحر؛ لأن الصيد مصدر يقال: صاد يصيد صيدا, واستعماله في المصيد مجاز, والكلام بحقيقته إباحة اصطياد ما في البحر عاما, وأما صيد البر فنوعان: مأكول, وغير مأكول, أما المأكول فلا يحل للمحرم اصطياده نحو: الظبي, والأرنب, وحمار الوحش, وبقر الوحش, والطيور التي

 

ج / 2 ص -197-       يؤكل لحومها برية كانت, أو بحرية؛ لأن الطيور كلها برية؛ لأن توالدها في البر إنما يدخل بعضها في البحر لطلب الرزق, والأصل فيه قوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وقوله تعالى {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} ظاهر الآيتين: يقتضي تحريم صيد البر للمحرم عاما, أو مطلقا إلا ما خص أو قيد بدليل. وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} والمراد منه: الابتلاء بالنهي بقوله تعالى في سياق الآية {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي: اعتدى بالاصطياد بعد تحريمه, والمراد منه صيد البر؛ لأن صيد البحر مباح بقوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ} وكذا لا يحل له الدلالة عليه, والإشارة إليه بقوله صلى الله عليه وسلم "الدال على الخير كفاعله, والدال على الشر كفاعله" ولأن الدلالة والإشارة سبب إلى القتل, وتحريم الشيء تحريم لأسبابه. وكذا لا يحل له الإعانة على قتله؛ لأن الإعانة فوق الدلالة والإشارة, وتحريم الأدنى تحريم الأعلى من طريق الأولى كالتأفيف مع الضرب والشتم. وأما غير المأكول فنوعان: نوع يكون مؤذيا طبعا مبتدئا بالأذى غالبا, ونوع لا يبتدئ بالأذى غالبا, أما الذي يبتدئ بالأذى غالبا فللمحرم أن يقتله ولا شيء عليه, وذلك نحو: الأسد, والذئب, والنمر, والفهد؛ لأن دفع الأذى من غير سبب موجب للأذى واجب فضلا عن الإباحة, ولهذا أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل الخمس الفواسق للمحرم في الحل والحرم بقوله: صلى الله عليه وسلم "خمس من الفواسق يقتلهن المحرم في الحل والحرم: الحية, والعقرب, والفأرة والكلب العقور, والغراب وروي والحدأة" وروي عن ابن عمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "خمس يقتلهن المحل والمحرم في الحل والحرم: الحدأة, والغراب, والعقرب, والفأرة والكلب العقور". وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت: "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتل خمس فواسق في الحل والحرم: الحدأة, والفأرة, والغراب, والعقرب, والكلب العقور" وعلة الإباحة فيها هي الابتداء بالأذى والعدو على الناس غالبا فإن من عادة الحدأة أن تغير على اللحم والكرش, والعقرب تقصد من تلدغه وتتبع حسه وكذا الحية, والغراب يقع على دبر البعير وصاحبه قريب منه, والفأرة تسرق أموال الناس, والكلب العقور من شأنه العدو على الناس وعقرهم ابتداء من حيث الغالب, ولا يكاد يهرب من بني آدم, وهذا المعنى موجود في الأسد, والذئب والفهد, والنمر فكان ورود النص في تلك الأشياء ورودا في هذه دلالة قال أبو يوسف: "الغراب المذكور في الحديث هو الغراب الذي يأكل الجيف, أو يخلط مع الجيف إذ هذا النوع هو الذي يبتدئ بالأذى" والعقعق ليس في معناه؛ لأنه لا يأكل الجيف ولا يبتدئ بالأذى. وأما الذي لا يبتدئ بالأذى غالبا كالضبع, والثعلب وغيرهما فله أن يقتله إن عدا عليه ولا شيء عليه إذا قتله, وهذا قول أصحابنا الثلاثة وقال زفر: "يلزمه الجزاء" وجه قوله: أن المحرم للقتل قائم وهو الإحرام فلو سقطت الحرمة إنما تسقط بفعله. وفعل العجماء جبار فبقي محرم القتل كما كان, كالجمل الصئول إذا قتله إنسان أنه يضمن لما قلنا كذا هذا, ولنا أنه لما عدا عليه وابتدأه بالأذى التحق بالمؤذيات طبعا فسقطت عصمته, وقد روي عن عمر رضي الله عنه أنه ابتدأ قتل ضبع فأدى جزاءها وقال: "إنا ابتدأناها" فتعليله بابتدائه قتله إشارة إلى أنها لو ابتدأت لا يلزمه الجزاء, وقوله "الإحرام قائم" مسلم لكن أثره في أن لا يتعرض للصيد لا في وجوب تحمل الأذى بل يجب عليه دفع الأذى؛ لأنه من صيانة نفسه عن الهلاك وأنه واجب, فسقطت عصمته في حال الأذى, فلم يجب الجزاء بخلاف الجمل الصائل؛ لأن عصمته ثبتت حقا لمالكه ولم يوجد منه ما يسقط العصمة فيضمن القاتل, وإن لم يعد عليه لا يباح له أن يبتدئه بالقتل, وإن قتله ابتداء فعليه الجزاء عندنا. وعند الشافعي "يباح له قتله ابتداء ولا جزاء عليه إذا قتله" وجه قوله: أن النبي صلى الله عليه وسلم أباح للمحرم قتل خمس من الدواب, وهي لا يؤكل لحمها والضبع والثعلب ما لا يؤكل لحمه, فكان ورود النص هناك ورودا ههنا, ولنا قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقوله {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وقوله {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ} عاما أو مطلقا من غير فصل بين المأكول وغيره, واسم الصيد يقع على المأكول وغير المأكول لوجود حد الصيد فيهما جميعا, والدليل عليه قول الشاعر:

 

ج / 2 ص -198-                          صيد الملوك أرانب وثعالب          وإذا ركبت فصيدي الأبطال

أطلق اسم الصيد على الثعلب إلا أنه خص منها الصيد العادي المبتدئ بالأذى غالبا, أو قيدت بدليل فمن ادعى تخصيص غيره, أو التقييد فعليه الدليل. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الضبع صيد وفيه شاة إذا قتله المحرم", وعن عمر وابن عباس رضي الله عنهما "أنهما أوجبا في قتل المحرم الضبع جزاء" وعن علي رضي الله عنه أنه قال في الضبع إذا عدا على المحرم: فليقتله, فإن قتله قبل أن يعدو عليه فعليه شاة مسنة ولا حجة للشافعي في حديث الخمس الفواسق؛ لأنه ليس فيه أن إباحة قتلهن لأجل أنه لا يؤكل لحمها, بل فيه إشارة إلى أن علة الإباحة فيها الابتداء بالأذى غالبا, ولا يوجد ذلك في الضبع والثعلب, بل من عادتهما الهرب من بني آدم ولا يؤذيان أحدا حتى يبتدئهما بالأذى, فلم توجد علة الإباحة فيهما فلم تثبت الإباحة, وعلى هذا الخلاف: الضب, واليربوع, والسمور, والدلف, والقرد والفيل, والخنزير؛ لأنها صيد لوجود معنى الصيد فيها, وهو الامتناع والتوحش ولا تبتدئ بالأذى غالبا فتدخل تحت ما تلونا من الآيات الكريمة. وقال زفر: في الخنزير "أنه لا يجب الجزاء فيه" لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بكسر المعازف, وقتل الخنازير" ندبنا صلى الله عليه وسلم إلى قتله. والندب فوق الإباحة فلا يتعلق به الجزاء, والحديث محمول على غير حال الإحرام أو على حال العدو والابتداء بالأذى, حملا لخبر الواحد على موافقة الكتاب العزيز, وعلى هذا الاختلاف سباع الطير, والله أعلم.

"فصل": وأما بيان حكم ما يحرم على المحرم اصطياده إذا اصطاده فالأمر لا يخلو إما أن قتل الصيد, وإما أن جرحه, وإما أن أخذه فلم يقتله ولم يجرحه, فإن قتله فالقتل لا يخلو, إما أن يكون مباشرة, أو تسيبا, فإن كان مباشرة فعليه قيمة الصيد المقتول يقومه ذوا عدل لهما بصارة بقيمة الصيود فيقومانه في المكان الذي أصابه إن كان موضعا تباع فيه الصيود, وإن كان في مفازة يقومانه في أقرب الأماكن من العمران إليه, فإن بلغت قيمته ثمن هدي, فالقاتل بالخيار إن شاء أهدى, وإن شاء أطعم, وإن شاء صام, وإن لم يبلغ قيمته ثمن هدي فهو بالخيار بين الطعام والصيام, سواء كان الصيد مما له نظير, أو كان مما لا نظير له. وهذا قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وحكى الطحاوي قول محمد: أن الخيار للحكمين إن شاءا حكما عليه هديا, وإن شاءا طعاما, وإن شاءا صياما, فإن حكما عليه هديا نظر القاتل إلى نظيره من النعم من حيث الخلقة والصورة إن كان الصيد مما له نظير, سواء كان قيمة نظيره مثل قيمته أو أقل أو أكثر لا ينظر إلى القيمة, بل إلى الصورة والهيئة, فيجب في الظبي شاة وفي الضبع شاة, وفي حمار الوحش بقرة, وفي النعامة بعير وفي الأرنب عناق, وفي اليربوع جفرة, وإن لم يكن له نظير مما في ذبحه قربة كالحمام, والعصفور, وسائر الطيور تعتبر قيمته كما قال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد, وحكى الكرخي قول محمد: إن الخيار للقاتل عنده أيضا غير أنه إن اختار الهدي لا يجوز له إلا إخراج النظير فيما له نظير. وعند الشافعي يجب عليه بقتل ما له نظير النظير ابتداء من غير اختيار أحد, وله أن يطعم, ويكون الإطعام بدلا عن النظير لا عن الصيد, فيقع الكلام في موجب قتل صيد له نظير في مواضع منها: أنه يجب على القاتل قيمته في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, ولا يجب عند محمد والشافعي. والأصل فيه قوله عز وجل "ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم" أي: فعليه جزاء مثل ما قتل, أوجب الله تعالى على القاتل جزاء مثل ما قتل, واختلف الفقهاء في المراد من المثل المذكور في الآية الشريفة, قال أبو حنيفة وأبو يوسف: "المراد منه المثل من حيث المعنى وهو القيمة" وقال محمد والشافعي: "المراد منه المثل من حيث الصورة والهيئة" وجه قولهما: أن الله تعالى أوجب على القاتل جزاء من النعم, وهو مثل ما قتل من النعم؛ لأنه ذكر المثل ثم فسره بالنعم بقوله عز وجل من النعم, ومن ههنا لتمييز الجنس, فصار تقدير الآية الشريفة: ومن قتله منكم متعمدا فجزاء من النعم, وهو مثل المقتول, وهو أن يكون مثله في الخلقة والصورة. وروي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عمر رضي الله عنه أوجبوا في النعامة بدنة, وفي الظبية شاة, وفي الأرنب عناقا, , وهم كانوا أعرف بمعاني كتاب الله تعالى, ولأبي حنيفة, وأبي يوسف وجوه من الاستدلال بهذه الآية أولها: أن الله عز وجل نهى المحرمين عن قتل الصيد عاما؛ لأنه تعالى

 

ج / 2 ص -199-       ذكر الصيد بالألف واللام بقوله عز وجل: {لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} والألف واللام لاستغراق الجنس خصوصا عند عدم المعهود, ثم قال تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} والهاء كناية راجعة إلى الصيد الموجد من اللفظ المعرف فاللام التعريف, فقد أوجب سبحانه وتعالى بقتل الصيد مثلا يعم ما له نظير وما لا نظير له, وذلك هو المثل من حيث المعنى, وهو القيمة لا المثل من حيث الخلقة والصورة؛ لأن ذلك لا يجب في صيد لا نظير له, بل الواجب فيه المثل من حيث المعنى وهو القيمة بلا خلاف, فكان صرف المثل المذكور بقتل الصيد على العموم إليه تخصيصا لبعض ما تناوله عموم الآية, والعمل بعموم اللفظ واجب ما أمكن, ولا يجوز تخصيصه إلا بدليل, والثاني أن مطلق اسم المثل ينصرف إلى ما عرف مثلا في أصول الشرع, والمثل المتعارف في أصول الشرع, هو المثل من حيث الصورة والمعنى, أو من حيث المعنى وهو القيمة كما في ضمان المتلفات, فإن من أتلف على آخر حنطة يلزمه حنطة. ومن أتلف عليه عرضا تلزمه القيمة. فأما المثل من حيث الصورة والهيئة فلا نظير له في أصول الشرع, فعند الإطلاق ينصرف إلى المتعارف لا إلى غيره, والثالث: أنه سبحانه وتعالى ذكر المثل منكرا في موضع الإثبات فيتناول واحدا, وأنه اسم مشترك يقع على المثل من حيث المعنى, ويقع على المثل من حيث الصورة, فالمثل من حيث المعنى يراد من الآية فيما لا نظير له, فلا يكون الآخر مرادا إذ المشترك في موضع الإثبات لا عموم له, والرابع: أن الله تعالى ذكر عدالة الحكمين, ومعلوم أن العدالة إنما تشترط فيما يحتاج فيه إلى النظر والتأمل, وذلك في المثل من حيث المعنى وهو القيمة؛ لأن بها تتحقق الصيانة عن الغلو والتقصير, وتقرير الأمر على الوسط. فأما الصورة فمشابهة لا تفتقر إلى العدالة. وأما قوله تعالى {مِنَ النَّعَمِ} فلا نسلم أن قوله تعالى {مِنَ النَّعَمِ} خرج تفسيرا للمثل, وبيانه من وجهين أحدهما: أن قوله {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} كلام تام بنفسه مفيد بذاته من غير وصله بغيره لكونه مبتدأ وخبرا, وقوله {مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} يمكن استعماله على غير وجه التفسير للمثل؛ لأنه كما يرجع إلى الحكمين في تقويم الصيد المتلف يرجع إليهما في تقويم الهدي الذي يوجد بذلك القدر من القيمة, فلا يجعل قوله: {مِثْلُ مَا قَتَلَ} مربوطا بقوله عز وجل {مِنَ النَّعَمِ} مع استغناء الكلام عنه. هذا هو الأصل إلا إذا قام دليل زائد يوجب الربط بغيره, والثاني: أنه وصل قوله {مِنَ النَّعَمِ} بقوله {يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ}, وقوله عز وجل {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}, وقوله عز وجل {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} جعل الجزاء أحد الأشياء الثلاثة؛ لأنه أدخل حرف التخيير بين الهدي والإطعام, وبين الطعام والصيام فلو كان قوله {مِنَ النَّعَمِ} تفسيرا للمثل, لكان الطعام والصيام مثلا لدخول حرف أو بينهما, وبين النعم إذ لا فرق بين التقديم والتأخير في الذكر, بأن قال تعالى: فجزاء مثل ما قتل طعاما, أو صياما أو من النعم هديا؛ لأن التقديم في التلاوة, لا يوجب التقديم في المعنى, ولما لم يكن الطعام والصيام مثلا للمقتول دل أن ذكر النعم لم يخرج مخرج التفسير للمثل, بل هو كلام مبتدأ غير موصول المراد بالأول, وقول جماعة الصحابة رضي الله عنهم محمول على الإيجاب من حيث القيمة توفيقا بين الدلائل مع ما, إن المسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن ابن عباس مثل مذهب أبي حنيفة, وأبي يوسف, فلا يحتج بقول البعض على البعض, وعلى هذا ينبني اعتبار مكان الإصابة في التقويم عندهما؛ لأن الواجب على القاتل القيمة وأنها تختلف باختلاف المكان. وعند محمد, والشافعي الواجب: هو النظير إما بحكم الحكمين أو ابتداء, فلا يعتبر فيه المكان. وقال الشافعي: "يقوم بمكة أو بمنى وإنه غير سديد؛ لأن العبرة في قيم المستهلكات في أصول الشرع مواضع الاستهلاك, كما في استهلاك سائر الأموال ومنها أن الطعام بدل عن الصيد عندنا, فيقوم الصيد بالدراهم ويشتري بالدراهم طعاما, وهو مذهب ابن عباس وجماعة من التابعين, وعن ابن عباس رواية أخرى: أن الطعام بدل عن الهدي فيقوم الهدي بالدراهم, ثم يشتري بقيمة الهدي طعاما, وهو قول الشافعي. والصحيح قولنا؛ لأن الله تعالى جعل جميع ذلك جزاء الصيد بقوله عز وجل: {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} إلى قوله {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} فلما كان الهدي من حيث كونه جزاء معتبرا بالصيد إما في قيمته أو نظيره على اختلاف القولين, كان الطعام مثله؛ ولأن فيما لا مثل له من النعم اعتبار الطعام بقيمة الصيد

 

ج / 2 ص -200-       بلا خلاف, فكذا فيما له مثل؛ لأن الآية عامة منتظمة للأمرين جميعا. ومنها أن كفارة جزاء الصيد على التخيير, كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه وهو مذهب جماعة من التابعين مثل: عطاء, والحسن, وإبراهيم وهو قول أصحابنا, وعن ابن عباس رواية أخرى أنه على ترتيب الهدي, ثم الإطعام, ثم الصيام حتى لو وجد الهدي لا يجوز الطعام. ولو وجد الهدي, أو الطعام لا يجوز الصيام كما في كفارة الظهار والإفطار أنها على الترتيب دون التخيير. واحتج من اعتبر الترتيب بما روي أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم حكموا في الضبع بشاة, ولم يذكروا غيره, فدل أن الواجب على الترتيب, ولنا أن الله تعالى ذكر حرف أو في ابتداء الإيجاب, وحرف أو إذا ذكر في ابتداء الإيجاب يراد به التخيير لا الترتيب, كما في قوله عز وجل في كفارة اليمين: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} وقوله تعالى في كفارة الحلق: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} وغير ذلك, هذا هو الحقيقة, إلا في موضع قام الدليل بخلافها كما في آية المحاربين أنه ذكر فيها أو على إرادة الواو, من ادعى خلاف الحقيقة ههنا فعليه الدليل ثم إذا اختار الهدي فإن بلغت قيمة الصيد بدنة نحرها, وإن لم تبلغ بدنة وبلغت بقرة ذبحها, وإن لم تبلغ بقرة وبلغت شاة ذبحها, وإن اشترى بقيمة الصيد إذا بلغت بدنة أو بقرة سبع شياه وذبحها أجزأه, فإن اختار شراء الهدي وفضل من قيمة الصيد, فإن بلغ هديين أو أكثر اشترى, وإن كان لا يبلغ هديا فهو بالخيار, إن شاء صرف الفاضل إلى الطعام, وإن شاء صام كما في صيد الصغير الذي لا تبلغ قيمته هديا, وقد اختلف في السن الذي يجوز في جزاء الصيد. قال أبو حنيفة: "لا يجوز إلا ما يجوز في الأضحية, وهدي المتعة, والقران والإحصار" وقال أبو يوسف ومحمد: "تجوز الجفرة والعناق على قدر الصيد" واحتجا بما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم أوجبوا في اليربوع جفرة, وفي الأرنب عناقا, ولأبي حنيفة أن إطلاق الهدي ينصرف إلى ما ينصرف إليه سائر الهدايا المطلقة في القرآن, فلا يجوز دون السن الذي يجزي في سائر الهدايا, وما روي عن جماعة من الصحابة حكاية حال لا عموم له, فيحمل على أنه كان على طريق القيمة, على أن ابن عباس رضي الله عنه يخالفهم, فلا يقبل قول بعضهم على بعض إلا عند قيام دليل الترجيح, ثم اسم الهدي يقع على الإبل والبقر والغنم على ما بينا فيما تقدم, ولا يجوز ذبح الهدي إلا في الحرم لقوله تعالى: {هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} ولو جاز ذبحه في غير الحرم لم يكن لذكر بلوغه الكعبة معنى. وليس المراد منه بلوغ عين الكعبة بل بلوغ قربها, وهو الحرم, ودلت الآية الكريمة على أن من حلف لا يمر على باب الكعبة أو المسجد الحرام, فمر بقرب بابه حنث وهو كقوله تعالى: {فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا} والمراد منه الحرم؛ لأنهم منعوا بهذه الآية الكريمة عن دخول الحرم, وعن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: الحرم كله مسجد؛ ولأن الهدي اسم لما يهدى إلى مكان الهدايا أي: ينقل إليها. ومكان الهدايا الحرم لقوله تعالى: {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والمراد منه الحرم. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "منى كلها منحر, وفجاج مكة كلها منحر" ولو ذبح في الحل لا يسقط عنه الجزاء بالذبح إلا أن يتصدق بلحمه على الفقراء, على كل فقير قيمة نصف صاع من بر فيجزئه على طريق البدل عن الطعام, وإذا ذبح الهدي في الحرم سقط الجزاء عنه بنفس الذبح, حتى لو هلك أو سرق أو ضاع بوجه من الوجوه خرج عن العهدة؛ لأن الواجب هو إراقة الدم, وإن اختار الطعام اشترى بقيمة الصيد طعاما فأطعم كل مسكين نصف صاع من بر ولا يجزيه أقل من ذلك, كما في كفارة اليمين وفدية الأذى, ويجوز الإطعام في الأماكن كلها عندنا. وعند الشافعي لا يجوز إلا في الحرم, كما لا يجوز الذبح إلا في الحرم توسعة على أهل الحرم, ولنا أن قوله تعالى {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} مطلق عن المكان وقياس الطعام على الذبح بمعنى التوسعة على أهل الحرم قد أبطلناه فيما تقدم؛ ولأن الإراقة لم تعقل قربة بنفسها, وإنما عرفت قربة بالشرع, والشرع ورد بها في مكان مخصوص أو زمان مخصوص, فيتبع مورد الشرع فيتقيد كونها قربة بالمكان الذي ورد الشرع بكونها قربة فيه وهو الحرم فأما الإطعام فيعقل قربة بنفسه؛ لأنه من باب الإحسان إلى المحتاجين فلا يتقيد كونه قربة بمكان, كما لا يتقيد بزمان, وتجوز فيه الإباحة والتمليك لما نذكره في كتاب الكفارات. ولا

 

 

ج / 2 ص -201-       يجوز للقاتل أن يأكل شيئا من لحم الهدي. ولو أكل شيئا منه فعليه قيمة ما أكل, ولا يجوز دفعه ودفع الطعام إلى ولده وولد ولده وإن سفلوا, ولا إلى والده ووالد والده وإن علوا, كما لا تجوز الزكاة, ويجوز دفعه إلى أهل الذمة في قول أبي حنيفة ومحمد, ولا يجوز في قول أبي يوسف كما في صدقة الفطر, والصدقة المنذور بها على ما ذكرنا في كتاب الزكاة, وإن اختار الصيام اشترى بقيمة الصيد طعاما وصام لكل نصف صاع من بر يوما عندنا, وهو قول ابن عباس وجماعة من التابعين مثل: إبراهيم, وعطاء, ومجاهد. وقال الشافعي: يصوم لكل مد يوما, والصحيح قولنا لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: "يصوم عن كل نصف صاع يوما" ومثل هذا لا يعرف بالاجتهاد, فتعين السماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن فضل من الطعام أقل من نصف صاع فهو بالخيار: إن شاء تصدق به, وإن شاء صام عنه يوما؛ لأن صوم بعض يوم لا يجوز, ويجوز الصوم في الأيام كلها بلا خلاف, ويجوز متتابعا ومتفرقا لقوله تعالى {أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً} مطلقا عن المكان وصفة التتابع والتفرق, وسواء كان الصيد مما يؤكل لحمه أو مما لا يؤكل لحمه عندنا بعد أن كان محرما, والاصطياد على المحرم كالضبع, والثعلب, وسباع الطير, وينظر إلى قيمته لو كان مأكول اللحم لعموم قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} غير أنه لا يجاوز به دما في ظاهر الرواية. وذكر الكرخي أنه لا يبلغ دما بل ينقص من ذلك بخلاف مأكول اللحم, فإنه تجب قيمته بالغة ما بلغت وإن بلغت قيمته هديين أو أكثر. وقال زفر: "تجب قيمته بالغة ما بلغت كما في مأكول اللحم" وجه قوله: أن هذا المصيد مضمون بالقيمة, والمضمون بالقيمة يعتبر كمال قيمته كالمأكول, ولنا أن هذا المضمون إنما يجب بقتله من حيث إنه صيد, ومن حيث إنه صيد لا تزيد قيمة لحمه على لحم الشاة بحال, بل لحم الشاة يكون خيرا منه بكثير, فلا يجاوز به دما, بل ينقص منه كما ذكره الكرخي؛ ولأنه جزاء وجب بإتلاف ما ليس بمال, فلا يجاوز به دما كحلق الشعر وقص الأظفار, وقد خرج الجواب عما ذكره زفر. ويستوي في وجوب الجزاء بقتل الصيد المبتدئ والعائد وهو أن يقتل صيدا ثم يعود ويقتل آخر وثم إنه يجب لكل صيد جزاء على حدة, وهذا قول عامة العلماء, وعامة الصحابة رضي الله عنهم, وعن ابن عباس أنه لا جزاء على العائد, وهو قول: الحسن, وشريح, وإبراهيم, واحتجوا بقوله تعالى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} جعل جزاء العائد الانتقام في الآخرة فتنتفي الكفارة في الدنيا, ولنا أن قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} يتناول القتل في كل مرة, فيقتضي وجوب الجزاء في كل مرة, كما في قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} ونحو ذلك. وأما قوله تعالى {وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ} ففيه أن الله تعالى ينتقم من العائد, وليس فيه أن ينتقم منه بماذا؟ فيحتمل أنه ينتقم منه بالكفارة, كذا قال بعض أهل التأويل فينتقم الله منه بالكفارة في الدنيا, أو بالعذاب في الآخرة على أن الوعيد في الآخرة لا ينفي وجوب الجزاء في الدنيا, كما أن الله تعالى جعل حد المحاربين لله ورسوله جزاء لهم في الدنيا بقوله {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} الآية قال عز وجل في آخرها {ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ} ومنهم من صرف تأويل الآية الكريمة إلى استحلال الصيد, فقال الله عز وجل {عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ} في الجاهلية من استحلالهم الصيد إذا تاب ورجع, عما استحل من قتل الصيد, ومن عاد إلى الاستحلال فينتقم الله منه بالنار في الآخرة. وبه نقول هذا إذا لم يكن قتل الثاني والثالث على وجه الرفض والإحلال. فأما إذا كان على وجه الرفض والإحلال لإحرامه فعليه جزاء واحد استحسانا, والقياس أن يلزمه لكل واحد منهما دم لأن الموجود ليس إلا نية الرفض ونية الرفض لا يتعلق بها حكم, لأنه لا يصير حلالا بذلك فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة إلا أنهم استحسنوا وقالوا لا يجب إلا جزاء واحد؛ لأن الكل وقع على وجه واحد فأشبه الإيلاجات في الجماع. ويستوي فيه العمد والخطأ والذكر والنسيان عند عامة العلماء وعامة الصحابة وعن ابن عباس رضي الله عنهما "أنه لا كفارة على الخاطئ" وقال الشافعي: "لا كفارة على الخاطئ والناسي" والكلام في المسألة بناء وابتداء. أما البناء فما ذكرنا فيما تقدم أن الكفارة إنما تجب

 

ج / 2 ص -202-       بارتكاب محظور الإحرام والجناية عليه, ثم زعم الشافعي أن فعل الخاطئ والناسي لا يوصف بالجناية والحظر؛ لأن فعل الخطأ والنسيان مما لا يمكن التحرز عنه فكان عذرا, وقلنا نحن: إن فعل الخاطئ والناسي جناية وحرام؛ لأن فعلهما جائز المؤاخذة عليه عقلا, وإنما رفعت المؤاخذة عليه شرعا مع بقاء وصف الحظر والحرمة فأمكن القول بوجوب الكفارة. وكذا التحرز عنهما ممكن في الجملة إذ لا يقع الإنسان في الخطأ والسهو إلا لنوع تقصير منه فلم يكن عذرا منه؛ ولهذا لم يعذر الناسي في باب الصلاة إلا أنه جعل عذرا في باب الصوم؛ لأنه يغلب وجوده فكان في وجوب القضاء حرج, ولا يغلب في باب الحج؛ لأن أحوال الإحرام مذكرة فكان النسيان معها نادرا على أن العذر في هذا الباب لا يمنع وجوب الجزاء كما في كفارة الحلق لمرض أو أذى بالرأس. وكذا فوات الحج لا يختلف حكمه للعذر وعدم العذر, وأما الابتداء فاحتج بقوله عز وجل {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} خص المتعمد بإيجاب الجزاء عليه, فلو شاركه الخاطئ والناسي في الوجوب لم يكن للتخصيص معنى, ولنا وجوه من الاستدلال بالعمد, أحدها: أن الكفارات وجبت رافعة للجناية؛ ولهذا سماه الله تعالى كفارة بقوله عز وجل {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ} وقد وجدت الجناية على الإحرام في الخطأ ألا ترى أن الله عز وجل سمى الكفارة في القتل الخطأ توبة بقوله تعالى في آخر الآية {تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} ولا توبة إلا من الجناية, والحاجة إلى رفع الجناية موجودة, والكفارة صالحة لرفعها؛ لأنها ترفع أعلى الجنايتين وهي العمد وما صلح رافعا لأعلى الذنبين يصلح رافعا لأدناهما بخلاف قتل الآدمي عمدا أنه لا يوجب الكفارة عندنا والخطأ يوجب؛ لأن النقص هناك وجب, ورد بإيجاب الكفارة في الخطأ وذنب الخطأ دون ذنب العمد, وما يصلح لرفع الأدنى لا يصلح لرفع الأعلى فامتنع الوجوب من طريق الاستدلال؛ لانعدام طريقه, والثاني: أن المحرم بالإحرام أمن الصيد عن التعرض, والتزم ترك التعرض له فصار الصيد كالأمانة عنده, وكل ذي أمانة إذا أتلف الأمانة يلزمه الغرم عمدا كان أو خطأ بخلاف قتل النفس عمدا؛ لأن النفس محفوظة بصاحبها وليست بأمانة عند القاتل حتى يستوي حكم العمد والخطأ في التعرض لها, والثالث: أن الله تعالى ذكر التخيير في حال العمد وموضوع التخيير في حال الضرورة؛ لأنه في التوسع وذا في حال الضرورة كالتخيير في الحلق لمن به مرض أو به أذى من رأسه بقوله {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} ولا ضرورة في حال العمد فعلم أن ذكر التخيير فيه؛ لتقدير الحكم به في حال الضرورة لولاه لما ذكر التخيير فكان إيجاب الجزاء في حال العمد إيجابا في حال الخطأ؛ ولهذا كان ذكر التخيير الموضوع للتخفيف والتوسع في كفارة اليمين بين الأشياء الثلاثة حالة العمد ذكرا في حالة الخطأ والنوم والجنون دلالة. وأما تخصيص العامد فقد عرف من أصلنا أنه ليس في ذكر حكمه وبيانه في حال دليل نفيه في حال أخرى فكان تمسكا بالمسكوت فلا يصح, ويحتمل أن يكون تخصيص العامد لعظم ذنبه تنبيها على الإيجاب على من قصر ذنبه عنه من الخاطئ والناسي من طريق الأولى؛ لأن الواجب لما رفع أعلى الذنبين فلأن يرفع الأدنى أولى, وعلى هذا كانت الآية حجة عليه والله أعلم. ويستوي في وجوب كمال الجزاء بقتل الصيد حال الانفراد والاجتماع عندنا حتى لو اشترك جماعة من المحرمين في قتل صيد يجب على كل واحد منهم جزاء كامل عند أصحابنا. وعند الشافعي يجب عليهم جزاء واحد وجه قوله أن المقتول واحد فلا يضمن إلا بجزاء واحد, كما إذا قتل جماعة رجلا واحدا خطأ أنه لا تجب عليهم إلا دية واحدة وكذا جماعة من المحللين إذا قتلوا صيدا واحدا في الحرم لا يجب عليهم إلا قيمة واحدة كذا هذا, ولنا قوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} وكلمة من تتناول كل واحد من القاتلين على حياله كما في قوله عز وجل {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ} وقوله تعالى {وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً} وقوله عز وجل {وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}, وأقرب المواضع قوله عز وجل {وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} حتى يجب على كل واحد من القاتلين خطأ كفارة على حدة, ولا تلزمه الدية أنه لا يجب عليهم إلا دية واحدة, لأن ظاهر اللفظ وعمومه يقتضي وجوب الدية على كل واحد منهم, وإنما عرفنا وجوب دية واحدة بالإجماع, وقد ترك ظاهر اللفظ بدليل

 

ج / 2 ص -203-       والشافعي نظر إلى المحل فقال المحل وهو المقتول متحد فلا يجب إلا ضمان واحد وأصحابنا نظروا إلى الفعل فقالوا الفعل متعدد فيتعدد الجزاء ونظرنا أقوى؛ لأن الواجب جزاء الفعل لأن الله تعالى سماه جزاء بقوله {فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} والجزاء يقابل الفعل لا المحل. وكذا سمى الواجب كفارة بقوله عز وجل {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ}, والكفارة جزاء الجناية بخلاف الدية فإنها بدل المحل فتتحد باتحاد المحل وتتعدد بتعدده, وهو الجواب عن صيد الحرم؛ لأن ضمانه يشبه ضمان الأموال؛ لأنها تجب بالجناية على الحرم, والحرم واحد فلا تجب إلا قيمة واحدة ولو قتل صيدا معلما, كالبازي والشاهين والصقر والحمام الذي يجيء من مواضع بعيدة ونحو ذلك يجب عليه قيمتان: قيمته معلما لصاحبه بالغة ما بلغت وقيمته غير معلم حقا لله؛ لأنه جنى على حقين: حق الله تعالى وحق العبد, والتعليم وصف مرغوب فيه في حق العباد؛ لأنهم ينتفعون بذلك, والله عز وجل يتعالى عن أن ينتفع بشيء, ولأن الضمان الذي هو حق الله تعالى يتعلق بكونه صيدا, وكونه معلما وصف زائد على كونه صيدا فلا يعتبر ذلك في وجوب الجزاء, وقد قالوا في الحمامة المصوتة أنه يضمن قيمتها مصوتة في رواية وفي رواية غير مصوتة. وجه الرواية الأولى أن كونها مصوتة من باب الحسن والملاحة, والصيد مضمون بذلك كما لو قتل صيدا حسنا مليحا له زيادة قيمة تجب قيمته على تلك الصفة, وكما لو قتل حمامة مطوقة أو فاختة مطوقة. وجه الرواية الأخرى وعلى نحو ما ذكرنا أن كونها مصوتة لا يرجع إلى كونه صيدا فلا يلزم المحرم ضمان ذلك, وهذا يشكل بالمطوقة والصيد الحسن المليح ولو أخذ بيض صيد فشواه أو كسره فعليه قيمته يتصدق به؛ لما روي عن الصحابة رضي الله عنهم أنهم حكموا في بيض النعامة بقيمته؛ ولأنه أصل الصيد إذ الصيد يتولد منه فيعطى له حكم الصيد احتياطا, فإن شوى بيضا أو جرادا فضمنه لا يحرم أكله ولو أكله أو غيره حلالا كان أو محرما لا يلزمه شيء بخلاف الصيد الذي قتله المحرم أنه لا يحل أكله. ولو أكل المحرم الصائد منه بعد ما أدى جزاءه يلزمه قيمة ما أكل في قول أبي حنيفة؛ لأن الحرمة هناك لكونه ميتة لعدم الذكاة لخروجه عن أهلية الذكاة, والحرمة ههنا ليست لمكان كونه ميتة؛ لأنه لا يحتاج إلى الذكاة فصار كالمجوسي إذا شوى بيضا أو جرادا أنه يحل أكله كذا هذا, فإن كسر البيض فخرج منه فرخ ميت فعليه قيمته حيا يؤخذ فيه بالثقة. وقال مالك: عليه نصف عشر قيمته واعتبره بالجنين؛ لأن ضمانه ضمان الجنايات, وفي الجنين نصف عشر قيمته كذا فيه, ولنا أن الفرخ صيد؛ لأنه يفرض أن يصير صيدا فيعطى له حكم الصيد, ويحتمل أنه مات بكسره, ويحتمل أنه كان ميتا قبل ذلك, وضمان الصيد يؤخذ فيه بالاحتياط؛ لأنه وجب حقا لله تعالى, وحقوق الله تعالى يحتاط في إيجابها, وكذلك إذا ضرب بطن ظبية فألقت جنينا ثم ماتت الظبية فعليه قيمتهما يؤخذ في ذلك كله بالثقة, أما قيمة الأم فلأنه قتلها. وأما قيمة الجنين؛ فلأنه يحتمل أنه مات بفعله, ويحتمل أنه كان ميتا فيحكم بالضمان احتياطا فإن قتل ظبية حاملا فعليه قيمتها حاملا؛ لأن الحمل يجري مجرى صفاتها وحسنها وملاحتها وسمنها, والصيد مضمون بأوصافه ولو حلب صيدا فعليه ما نقصه الحلب؛ لأن اللبن جزء من أجزاء الصيد فإذا نقصه الحلب, يضمن كما لو أتلف جزءا من أجزائه كالصيد المملوك. وأما إذا قتل الصيد تسببا فإن كان متعديا في التسبب يضمن وإلا فلا. بيان ذلك أنه إذا نصب شبكة فتعلق به صيد ومات أو حفر حفيرة للصيد فوقع فيها فعطب يضمن؛ لأنه متعد في التسبب. ولو ضرب فسطاطا لنفسه فتعلق به صيد فمات أو حفر حفيرة للماء أو للخبز فوقع فيها صيد فمات لا شيء عليه؛ لأن ذلك مباح له فلم يكن متعديا في التسبب, وهذا كمن حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيها إنسان أو بهيمة ومات يضمن. ولو كان الحفر في دار نفسه فوقع فيها إنسان لا يضمن؛ لأنه في الأول متعديا بالتسبب وفي الثاني لا, كذا هذا ولو أعان محرم محرما أو حلالا على صيد ضمن؛ لأن الإعانة على الصيد تسبب إلى قتله, وهو متعد في هذا التسبب؛ لأنه تعاون على الإثم والعدوان وقد قال الله تعالى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} ولو دل عليه أو أشار إليه, فإن كان المدلول يرى الصيد أو يعلم به من غير دلالة أو إشارة فلا شيء على الدال؛ لأنه إذا كان يراه أو يعلم به من غير دلالته. فلا أثر لدلالته في تفويت الأمن على الصيد فلم تقع الدلالة تسببا إلا أنه يكره ذلك, فقتله

 

ج / 2 ص -204-       بدلالته؛ لأنه نوع تحريض على اصطياده وإن رآه المدلول بدلالته فقتله فعليه الجزاء عند أصحابنا. وقال الشافعي: "لا جزاء عليه" وجه قوله أن وجوب الجزاء متعلق بقتل الصيد ولم يوجد, ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الدال على الشيء كفاعله" وروي "الدال على الخير كفاعله والدال على الشر كفاعله" فظاهر الحديث يقتضي أن يكون للدلالة حكم الفعل إلا ما خص بدليل. وروي "أن أبا قتادة رضي الله عنه شد على حمار وحش وهو حلال فقتله وأصحابه محرمون فمنهم من أكل ومنهم من أبى فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: صلى الله عليه وسلم هل أشرتم؟ هل أعنتم؟ فقالوا: لا فقال: كلوا إذا" فلولا أن الحكم يختلف بالإعانة والإشارة وإلا لم يكن للفحص عن ذلك معنى, ودل ذلك على حرمة الإعانة والإشارة, وذا يدل على وجوب الجزاء وروي أن رجلا سأل عمر رضي الله عنه فقال إني أشرت إلى ظبية فقتلها صاحبي فسأل عمر عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما فقال: ما ترى؟ فقال: أرى عليه شاة فقال عمر: رضي الله عنه وأنا أرى مثل ذلك وروي أن رجلا أشار إلى بيضة نعامة فكسرها صاحبه فسأل عن ذلك عليا وابن عباس رضي الله عنهما فحكما عليه بالقيمة. وكذا حكم عمر وعبد الرحمن رضي الله عنهما محمول على القيمة؛ ولأن المحرم قد أمن الصيد بإحرامه, والدلالة تزيل الأمن لأن أمن الصيد في حال قدرته ويقظته يكون بتوحشه عن الناس وفي حال عجزه ونومه يكون باختفائه عن الناس, والدلالة تزيل الاختفاء فيزول الأمن, فكانت الدلالة في إزالة الأمن كالاصطياد؛ ولأن الإعانة والدلالة والإشارة تسبب إلى القتل, وهو متعد في هذا التسبب؛ لكونه مزيلا للأمن وأنه محظور الإحرام فأشبه نصب الشبكة ونحو ذلك؛ ولأنه لما أمن الصيد عن التعرض بعقد الإحرام والتزم ذلك صار به الصيد كالأمانة في يده فأشبه المودع إذا دل سارقا على سرقة الوديعة. ولو استعار محرم من محرم سكينا؛ ليذبح به صيدا فأعاره إياه فذبح به الصيد فلا جزاء على صاحب السكين كذا ذكر محمد في الأصل من المشايخ من فصل في ذلك تفصيلا فقال: إن كان المستعير يتوصل إلى قتل الصيد بغيره لا يضمن, وإن كان لا يتوصل إليه إلا بذلك السكين يضمن المعير؛ لأنه يصير كالدال, ونظير هذا ما قالوا: لو أن محرما رأى صيدا وله قوس أو سلاح يقتل به ولم يعرف أن ذلك في أي موضع فدله محرم على سكينته أو على قوسه فأخذه فقتله به أنه إن كان يجد غير ما دله عليه مما يقتله به لا يضمن الدال, وإن لم يجد غيره يضمن, ولا يحل للمحرم أكل ما ذبحه من الصيد ولا لغيره من المحرم والحلال, وهو بمنزلة الميتة؛ لأنه بالإحرام خرج من أن يكون أهلا للذكاة فلا تتصور منه الذكاة كالمجوسي إذا ذبح. وكذا الصيد خرج من أن يكون محلا للذبح في حقه لقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} والتحريم المضاف إلى الأعيان يوجب خروجها عن محلية التصرف شرعا, كتحريم الميتة وتحريم الأمهات والتصرف الصادر من غير الأهل وفي غير محله يكون ملحقا بالعدم فإن أكل المحرم الذابح منه فعليه الجزاء, وهو قيمته في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد والشافعي: رحمهم الله تعالى ليس عليه إلا التوبة والاستغفار, ولا خلاف في أنه لو أكله غيره لا يلزمه إلا التوبة والاستغفار. وجه قولهم أنه أكل ميتة فلا يلزمنه إلا التوبة والاستغفار كما لو أكله غيره ولأبي حنيفة رحمه الله تعالى أنه تناول محظور إحرامه فيلزمه الجزاء, وبيان ذلك أن كونه ميتة لعدم الأهلية والمحلية وعدم الأهلية والمحلية بسبب الإحرام, فكانت الحرمة بهذه الواسطة مضافة إلى الإحرام فإذا أكله فقد ارتكب محظور إحرامه فيلزمه الجزاء بخلاف ما إذا أكله محرم آخر أنه لا يجب عليه جزاء ما أكل؛ لأن ما أكله ليس محظور إحرامه بل محظور إحرام غيره, وكما لا يحل له لا يحل لغيره محرما كان أو حلالا عندنا. وقال الشافعي: يحل لغيره أكله. وجه قوله: إن الحرمة لمكان أنه صيد لقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وهو صيده لا صيد غيره فيحرم عليه لا على غيره, ولنا أن حرمته لكونه ميتة لعدم أهلية الذكاة ومحليتها فيحرم عليه وعلى غيره كذبيحة المجوسي هذا إذا أدى الجزاء ثم أكل. فأما إذا أكل قبل أداء الجزاء, فقد ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن عليه جزاء واحدا ويدخل ضمان ما أكل في الجزاء وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه لا رواية في هذه المسألة فيجوز أن يقال يلزمه جزاء آخر

 

ج / 2 ص -205-       ويجوز أن يقال يتداخلان, وسواء تولى صيده بنفسه أو بغيره من المحرمين بأمره أو رمى صيدا فقتله أو أرسل كلبه أو بازيه المعلم أنه لا يحل له؛ لأن صيد غيره بأمره صيده معنى. وكذا صيد البازي والكلب والسهم؛ لأن فعل الاصطياد منه, وإنما ذلك آلة الاصطياد والفعل لمستعمل الآلة لا للآلة. ويحل للمحرم أكل صيد اصطاده الحلال لنفسه عند عامة العلماء وقال داود بن علي الأصفهاني لا يحل, والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن طلحة وعبيد الله وقتادة وجابر وعثمان في رواية أنه يحل وعن علي وابن عباس وعثمان في رواية لا يحل واحتج هؤلاء بقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} أخبر أن صيد البر محرم على المحرم مطلقا من غير فصل بين أن يكون صيد المحرم أو الحلال. وهكذا قال ابن عباس: إن الآية مبهمة لا يحل لك أن تصيده ولا أن تأكله وروي عن ابن عباس رضي الله عنه "أن الصعب بن جثامة أهدى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لحم حمار وحش وهو بالأبواء أو بودان فرده فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في وجهه كراهة فقال: ليس بنا رد عليك ولكنا حرم وفي رواية قال: لولا أنا حرم لقبلناه منك" وعن زيد بن أرقم "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المحرم عن لحم الصيد مطلقا" ولنا ما روي عن أبي قتادة رضي الله عنه "أنه كان حلالا وأصحابه محرمون فشد على حمار وحش فقتله فأكل منه بعض أصحابه وأبى البعض فسألوا عن ذلك رسول الله: صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما هي طعمة أطعمكموها الله هل معكم من لحمه شيء؟" وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لحم صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصد لكم" وهذا نص في الباب ولا حجة لهم في الآية؛ لأن فيها تحريم صيد البر لا تحريم لحم الصيد, وهذا لحم الصيد وليس بصيد حقيقة؛ لانعدام معنى الصيد وهو الامتناع والتوحش, على أن الصيد في الحقيقة مصدر, وإنما يطلق على المصيد مجازا. وأما حديث الصعب بن جثامة فقد اختلفت الروايات فيه عن ابن عباس رضي الله عنه روي في بعضها "أنه أهدى إليه حمارا وحشيا" كذا روى مالك وسعيد بن جبير وغيرهما عن ابن عباس فلا يكون حجة, وحديث زيد بن أرقم محمول على صيد صاده بنفسه أو غيره بأمره أو بإعانته أو بدلالته أو بإشارته عملا بالدلائل كلها, وسواء صاده الحلال لنفسه أو للمحرم بعد أن لا يكون بأمره عندنا. وقال الشافعي: "إذا صاده له لا يحل له أكله" واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "صيد البر حلال لكم وأنتم حرم ما لم تصيدوه أو يصاد لكم" ولا حجة له فيه؛ لأنه لا يصير مصيدا له إلا بأمره وبه نقول والله أعلم. وأما حكم الصيد إذا جرحه المحرم, فإن جرحه جرحا يخرجه عن حد الصيد وهو الممتنع المتوحش بأن قطع رجل ظبي أو جناح طائر فعليه الجزاء؛ لأنه أتلفه حيث أخرجه عن حد الصيد فيضمن قيمته؛ وإن جرحه جرحا ما لم يخرجه عن حد الصيد يضمن ما نقصته الجراحة؛ لوجود إتلاف ذلك القدر من الصيد فإن اندملت الجراحة وبرئ الصيد لا يسقط الجزاء؛ لأن الجزاء يجب بإتلاف جزء من الصيد وبالاندمال لا يتبين أن الإتلاف لم يكن بخلاف ما إذا جرح آدميا فاندملت جراحته ولم يبق لها أثر أنه لا ضمان عليه؛ لأن الضمان هناك إنما يجب لأجل الشين وقد ارتفع. فإن رمى صيدا فجرحه فكفر عنه, ثم رآه بعد ذلك فقتله فعليه كفارة أخرى؛ لأنه لما كفر الجراحة ارتفع حكمها وجعلت كأن لم تكن, وقتله الآن ابتداء فيجب عليه الضمان لكن ضمان صيد مجروح؛ لأن تلك الجراحة قد أخرج ضمانها مرة فلا تجب مرة أخرى فإن جرحه ولم يكفر ثم رآه بعد ذلك فقتله فعليه الكفارة, وليس عليه في الجراحة شيء؛ لأنه لما قتله قبل أن يكفر عن الجراحة صار كأنه قتله دفعة واحدة. وذكر الحاكم في مختصره إلا ما نقصته الجراحة الأولى أي يلزمه ضمان صيد مجروح؛ لأن ذلك النقصان قد وجب عليه ضمانه مرة فلا يجب مرة أخرى ولو جرح صيدا فكفر عنه قبل أن يموت ثم مات أجزأته الكفارة التي أداها؛ لأنه إن أدى الكفارة قبل وجوبها لكن بعد وجود سبب الوجوب وأنه جائز كما لو جرح إنسانا خطأ فكفر عنه ثم مات المجروح أنه يجوز لما قلنا كذا هذا, وإن نتف ريش صيد أو قلع سن ظبي فنبت وعاد إلى ما كان أو ضرب على عين ظبي فابيضت ثم ارتفع بياضها قال أبو حنيفة: في سن الظبي أنه لا شيء عليه إذا نبت, ولم يحك عنه في غيره شيء وقال أبو يوسف: عليه صدقة, وجه قوله أن وجوب

 

ج / 2 ص -206-       الجزاء بالجناية على الإحرام وبالنبات والعود إلى ما كان لا يتبين أن الجناية لم تكن فلا يسقط الجزاء, ولأبي حنيفة أن وجوب الجزاء لمكان النقصان, وقد زال فيزول الضمان كما لو قلع سن ظبي لم يثغر. "وأما" حكم أخذ الصيد فالمحرم إذا أخذ الصيد يجب عليه إرساله سواء كان في يده أو في قفص معه أو في بيته؛ لأن الصيد استحق الأمن بإحرامه, وقد فوت عليه الأمن بالأخذ فيجب عليه إعادته إلى حالة الأمن, وذلك بالإرسال فإن أرسله محرم من يده فلا شيء على المرسل؛ لأن الصائد ما ملك الصيد فلم يصر بالإرسال متلفا ملكه وإنما وجب عليه الإرسال ليعود إلى حالة الأمن, فإذا أرسل فقد فعل ما وجب عليه وإن قتله فعلى كل واحد منهما جزاء. أما القاتل فلأنه محرم قتل صيدا. وأما الآخذ فلأنه فوت الأمن على الصيد بالأخذ وأنه سبب لوجوب الضمان إلا أنه يسقط بالإرسال فإذا تعذر الإرسال لم يسقط, وللآخذ أن يرجع بما ضمن على القاتل عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر: لا يرجع. وجه قوله: إن المحرم لم يملك الصيد بالأخذ فكيف يملك بدله عند الإتلاف؟ "ولنا" أن الملك له وإن لم يثبت فقد وجد سبب الثبوت في حقه وهو الأخذ قال النبي صلى الله عليه وسلم "الصيد لمن أخذه" إلا أنه تعذر جعله سببا لملك غير الصيد فيجعل سببا لملك بدله فيملك بدله عند الإتلاف ويجعل كأن الأصل كان ملكه كمن غصب مدبرا فجاء إنسان وقتله في يد الغاصب أو غصبه من يده فضمن المالك الغاصب, فإن للغاصب أن يرجع بالضمان على الغاصب والقاتل. وكذا هذا في غصب أم الولد وإن لم يملك المدبر وأم الولد لما قلنا كذا هذا. ولو أصاب الحلال صيدا ثم أحرم فإن كان ممسكا إياه بيده فعليه إرساله؛ ليعود به إلى الأمن الذي استحقه بالإحرام, فإن لم يرسله حتى هلك في يده يضمن قيمته, وإن أرسله إنسان من يده ضمن له قيمته في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يضمن. وجه قولهما: إن الإرسال كان واجبا على المحرم حقا لله فإذا أرسله الأجنبي فقد احتسب بالإرسال فلا يضمن كما لو أخذه وهو محرم فأرسله إنسان من يده ولأبي حنيفة أنه أتلف صيدا مملوكا له فيضمن كما لو أتلف قبل الإحرام, والدليل على أن الصيد ملكه أنه أخذه وهو حلال وأخذ الصيد من الحلال سبب لثبوت الملك؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الصيد لمن أخذه" واللام للملك, والعارض وهو الإحرام أثره في حرمة التعرض لا في زوال الملك بعد ثبوته. وأما قولهما: إن المرسل احتسب بالإرسال؛ لأنه واجب, فنقول: الواجب هو الإرسال على وجه يفوت يده عن الصيد أصلا ورأسا أو على وجه يزيل يده الحقيقية عنه إن قالا على وجه يفوت يده أصلا ورأسا ممنوع وإن قالا على وجه يزيل يده الحقيقية عنه فمسلم لكن ذلك يحصل بالإرسال في بيته, وإن أرسله في بيته فلا شيء عليه بخلاف ما إذا اصطاده وهو محرم فأرسله غيره من يده؛ لأن الواجب على الصائد هناك إرسال الصيد على وجه يعود إليه به الأمن الذي استحقه بإحرامه. وفي الإمساك في القفص أو في البيت لا يعود الأمن بخلاف المسألة الأولى؛ لأن الصيد هناك ما استحق الأمن, وقد أخذه وصار ملكا له, وإنما يحرم عليه التعرض في حال الإحرام فيجب إزالة التعرض, وذلك يحصل بزوال يده الحقيقية, فلا يحرم عليه الإرسال في البيت أو في القفص, والدليل على التفرقة بينهما في الفصل الأول لو أرسله ثم وجده بعد ما حل من إحرامه في يد آخر له أن يسترده منه, وفي الفصل الثاني ليس له أن يسترده, وإن كان الصيد في قفص معه أو في بيته لا يجب إرساله عندنا. وعند الشافعي يجب حتى أنه لو لم يرسله فمات لا يضمن عندنا وعنده يضمن, والكلام فيه مبني على أن من أحرم وفي ملكه صيد لا يزول ملكه عنه عندنا وعنده يزول, الصحيح قولنا لما بينا أنه كان ملكا له والعارض وهو حرمة التعرض لا يوجب زوال الملك ويستوي فيما يوجب الجزاء الرجل والمرأة والمفرد والقارن, غير أن القارن يلزمه جزاءان عندنا؛ لكونه محرما بإحرامين فيصير جانيا عليهما فيلزمه كفارتان, وعند الشافعي لا يلزمه إلا جزاء واحد؛ لكونه محرما بإحرام واحد. "وأما" الذي يوجب فساد الحج فالجماع لقوله عز وجل {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ} عن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما أنه الجماع, وأنه مفسد للحج لما نذكر في بيان ما يفسد الحج وبيان حكمه إذا فسد إن شاء الله تعالى هذا الذي ذكرنا بيان ما يخص المحرم من المحظورات وهي محظورات الإحرام والله أعلم.

 

ج / 2 ص -207-       "فصل": ويتصل بهذا بيان ما يعم المحرم والحلال جميعا وهو. محظورات الحرم, فنذكرها فنقول وبالله التوفيق محظورات الحرم نوعان: نوع يرجع إلى الصيد, ونوع يرجع إلى النبات. أما الذي يرجع إلى الصيد فهو أنه لا يحل قتل صيد الحرم للمحرم والحلال جميعا إلا المؤذيات المبتدئة بالأذى غالبا, وقد بينا ذلك في صيد الإحرام, والأصل فيه قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} وقوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} وقوله تعالى {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} وهذا يتناول صيد الإحرام والحرم جميعا؛ لأنه يقال أحرم إذا دخل في الإحرام, وأحرم إذا دخل في الحرم كما يقال: أنجد إذا دخل نجد, واتهم إذا دخل تهامة, وأعرق إذا دخل العراق وأحرم إذا دخل في الشهر الحرام, ومنه قول الشاعر في عثمان: رضي الله عنه:

قتل ابن عفان الخليفة محرما                           ودعا فلم أر مثله مخذولا

الخليفة محرما, أي في الشهر الحرام. واللفظ وإن كان مشتركا لكن المشترك في محل النفي يعم؛ لعدم التنافي إلا أن الدخول في الشهر الحرام ليس بمراد بالإجماع؛ لأن أخذ الصيد في الأشهر الحرم لم يكن محظورا ثم قد نسخت الأشهر الحرم, فبقي الدخول في الحرم والإحرام مرادا بالآيتين إلا ما خص بدليل, وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا إن مكة حرام حرمها الله تعالى يوم خلق السموات والأرض لم تحل لأحد قبلي ولا تحل لأحد بعدي, وإنما أحلت لي ساعة من نهار ثم عادت حراما إلى يوم القيامة لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها" والاستدلال به من وجوه: أحدها: قوله "مكة حرام" والثاني: قوله "حرمها الله تعالى" والثالث: قوله "ولا تحل لأحد بعدي" والرابع: قوله "ثم عادت حراما إلى يوم القيامة" والخامس: قوله "لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها ولا ينفر صيدها" فإن قتل صيد الحرم فعليه الجزاء محرما كان القاتل أو حلالا؛ لقوله تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ} وجزاؤه ما هو جزاء قاتل صيد الإحرام, وهو أن تجب عليه قيمته فإن بلغت هديا له أن يشتري بها هديا أو طعاما إلا أنه لا يجوز الصوم هكذا ذكر في الأصل, وهكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن حكمه حكم صيد الإحرام إلا أنه لا يجوز فيه الصوم وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أن الإطعام يجزئ في صيد الحرم, ولا يجزئ الصوم عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر يجزئ, وبه أخذ الشافعي وفي الهدي روايتان. وجه قول زفر الاعتبار بصيد الإحرام؛ لأن كل واحد من الضمانين يجب حقا لله تعالى, ثم يجزئ الصوم في أحدهما كذا في الآخر. "ولنا" الفرق بين الصيدين والضمانين, وهو أن ضمان صيد الإحرام وجب لمعنى يرجع إلى الفاعل؛ لأنه وجب جزاء على جنايته على الإحرام فأما ضمان صيد الحرم فإنما وجب لمعنى يرجع إلى المحل, وهو تفويت أمن الحرم ورعاية لحرمة الحرم, فكان بمنزلة ضمان سائر الأموال, وضمان سائر الأموال لا يدخل فيه الصوم كذا هذا. وأما الهدي فوجه رواية عدم الجواز ما ذكرنا أن هذا الضمان يشبه ضمان سائر الأموال؛ لأن وجوبه لمعنى في المحل, فلا يجوز فيه الهدي كما لا يجوز في سائر الأموال إلا أن تكون قيمته مذبوحا مثل قيمة الصيد, فيجزئ عن الطعام. وجه رواية الجواز أن ضمان صيد الحرم له شبه بأصلين: ضمان الأموال وضمان الأفعال, أما شبهه بضمان الأموال فلما ذكرنا, وأما شبهه بضمان الأفعال وهو ضمان الإحرام فلأنه يجب حقا لله تعالى فيعمل بالشبهين, فنقول: إنه لا يدخل فيه الصوم اعتبارا لشبه الأموال, ويدخل فيه الهدي اعتبارا لشبه الأفعال وهو الإحرام عملا بالشبهين بالقدر الممكن إذ لا يمكن القول بالعكس؛ ولأن الهدي مال فكان بمنزلة الإطعام, والصوم ليس بمال ولا فيه معنى المال فافترقا ولو قتل المحرم صيدا في الحرم فعليه ما على المحرم إذا قتل صيدا في الحل, وليس عليه لأجل الحرم شيء, وهذا استحسان, والقياس أن يلزمه كفارتان؛ لوجود الجناية على شيئين وهما: الإحرام والحرم فأشبه القارن إلا أنهم استحسنوا وأوجبوا كفارة الإحرام لا غير؛ لأن حرمة الإحرام أقوى من حرمة الحرم فاستتبع الأقوى الأضعف, وبيان أن حرمة الإحرام أقوى من وجوه: أحدها: أن حرمة الإحرام ظهر أثرها في الحرم والحل جميعا, حتى حرم على المحرم الصيد في الحرم والحل جميعا, وحرمة الإحرام لا يظهر أثرها إلا في الحرم حتى يباح للحلال الاصطياد

 

ج / 2 ص -208-       لصيد الحرم إذا خرج إلى الحل, والثاني: أن الإحرام يحرم الصيد وغيره مما ذكرنا من محظورات الإحرام, والحرم لا يحرم إلا الصيد وما يحتاج إليه الصيد من الخلى والشجر, والثالث: أن حرمة الإحرام تلازم حرمة الحرم وجودا؛ لأن المحرم يدخل الحرم لا محالة, وحرمة الحرم لا تلازم حرمة الإحرام وجودا, فثبت أن حرمة الإحرام أقوى فاستتبعت الأدنى بخلاف القارن؛ لأن ثمة كل واحدة من الحرمتين أعنى حرمة إحرام الحج وحرمة إحرام العمرة أصل ألا ترى أنه يحرم إحرام العمرة ما يحرمه إحرام الحج فكان كل واحدة منهما أصلا بنفسها فلا تستتبع إحداهما صاحبتها. ولو اشترك حلالان في قتل صيد في الحرم فعلى كل واحد منهما نصف قيمته, فإن كانوا أكثر من ذلك يقسم الضمان بين عددهم؛ لأن ضمان صيد الحرم يجب لمعنى في المحل وهو حرمة الحرم فلا يتعدد بتعدد الفاعل كضمان سائر الأموال بخلاف ضمان صيد الإحرام, فإن اشترك محرم وحلال فعلى المحرم جميع القيمة وعلى الحلال النصف؛ لأن الواجب على المحرم ضمان الإحرام لما بينا, وذلك لا يتجزأ, والواجب على الحلال ضمان المحل وأنه متجزئ. وسواء كان شريك الحلال ممن يجب عليه الجزاء أو لا يجب كالكافر والصبي أنه يجب على الحلال بقدر ما يخصه من القيمة؛ لأن الواجب بفعله ضمان المحل فيستوي في حقه الشريك الذي يكون من أهل وجوب الجزاء ومن لا يكون من أهله, فإن قتل حلال وقارن صيدا في الحرم فعلى الحلال نصف الجزاء وعلى القارن جزاءان؛ لأن الواجب على الحلال ضمان المحل, والواجب على المحرم جزاء الجناية, والقارن جنى على إحرامين فيلزمه جزاءان. ولو اشترك حلال ومفرد وقارن في قتل صيد فعلى الحلال ثلث الجزاء وعلى المفرد جزاء كامل وعلى القارن جزاءان؛ لما قلنا, وإن صاد حلال صيدا في الحرم فقتله في يده حلال آخر فعلى الذي كان في يده جزاء كامل, وعلى القاتل جزاء كامل أما القاتل فلا شك فيه؛ لأنه أتلف صيدا في الحرم حقيقة. وأما الصائد فلأن الضمان قد وجب عليه باصطياده وهو أخذه لتفويته الأمن عليه بالأخذ, وأنه سبب لوجوب الضمان إلا أنه يسقط بالإرسال وقد تعذر الإرسال بالقتل, فتقرر تفويت الأمن فصار كأنه مات في يده, وهذا بخلاف المغصوب إذا أتلفه إنسان في يد الغاصب أنه لا يجب إلا ضمان واحد يطالب المالك أيهما شاء؛ لأن ضمان الغصب ضمان المحل وليس فيه معنى الجزاء؛ لأنه يجب حقا للمالك, والمحل الواحد لا يقابله إلا ضمان واحد, وضمان صيد الحرم وإن كان ضمان المحل لكن فيه معنى الجزاء؛ لأنه يجب حقا لله تعالى فجاز أن يجب على القاتل والآخذ. وللآخذ أن يرجع على القاتل بالضمان أما على أصل أبي حنيفة فلا يشكل؛ لأنه يرجع عليه في صيد الإحرام عنده فكذا في صيد الحرم, والجامع أن القاتل فوت على الآخذ ضمانا كان يقدر على إسقاطه بالإرسال. وأما على أصلهما فيحتاج إلى الفرق بين صيد الحرم والإحرام؛ لأنهما قالا في صيد الإحرام إنه لا يرجع ووجه الفرق أن الواجب في صيد الحرم ضمان, يجب لمعنى يرجع إلى المحل, وضمان المحل يحتمل الرجوع كما في الغصب, والواجب في صيد الإحرام جزاء فعله لا بدل المحل ألا ترى أنه لا يملك الصيد بالضمان وإذا كان جزاء فعله لا يرجع به على غيره. ولو دل حلال حلالا على صيد الحرم أو دل محرما, فلا شيء على الدال في قول أصحابنا الثلاثة وقد أساء وأثم وقال زفر: على الدال الجزاء وروي عن أبي يوسف مثل قول زفر, وعلى هذا الاختلاف الآمر والمشير وجه قول زفر اعتبار الحرم بالإحرام, وهو اعتبار صحيح لأن كل واحد منهما سبب لحرمة الاصطياد, ثم الدلالة في الإحرام توجب الجزاء كذا في الحرم, ولنا الفرق بينهما وهو أن ضمان صيد الحرم يجري مجرى ضمان الأموال؛ لأنه يجب لمعنى يرجع إلى المحل وهو حرمة الحرم لا لمعنى يرجع إلى القاتل, والأموال لا تضمن بالدلالة من غير عقد, وإنما صار مسيئا آثما لكون الدلالة والإشارة والأمر حراما؛ لأنه من باب المعاونة على الإثم والعدوان. وقد قال الله تعالى {وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. ولو أدخل صيدا من الحل إلى الحرم وجب إرساله, وإن ذبحه فعليه الجزاء, ولا يجوز بيعه وقال الشافعي: يجوز بيعه. وجه قوله أن الصيد كان ملكه في الحل, وإدخاله في الحرم لا يوجب زوال ملكه, فكان ملكه قائما فكان محلا للبيع, ولنا أنه لما حصل الصيد في الحرم وجب ترك التعرض له رعاية لحرمة الحرم كما لو أحرم والصيد في يده وذكر محمد في الأصل وقال: لا خير فيما

 

ج / 2 ص -209-       يترخص به أهل مكة من الحجل واليعاقيب ولا يدخل شيء منه في الحرم حيا لما ذكرنا أن الصيد إذا حصل في الحرم وجب إظهار حرمة الحرم بترك التعرض له بالإرسال, فإن قيل: إن أهل مكة يبيعون الحجل واليعاقيب, وهي كل ذكر وأنثى من القبج من غير نكير ولو حراما لظهر النكير عليهم, فالجواب: إن ترك النكير عليهم ليس لكونه حلالا بل لكونه محل الاجتهاد, فإن المسألة مختلفة بين عثمان وعلي رضي الله عنهما, والإنكار لا يلزم في محل الاجتهاد إذا كان الاختلاف في الفروع. وأما وجوب الجزاء بذبحه؛ فلأنه ذبح صيدا مستحق الإرسال, وأما فساد البيع فلأن إرساله واجب, والبيع ترك الإرسال. ولو باعه يجب عليه فسخ البيع واسترداد المبيع؛ لأنه بيع فاسد, والبيع الفاسد مستحق الفسخ حقا للشرع, فإن كان لا يقدر على فسخ البيع واسترداد المبيع فعليه الجزاء؛ لأنه وجب عليه إرساله, فإذا باعه وتعذر عليه فسخ البيع واسترداد المبيع, فكأنه أتلفه فيجب عليه الضمان, وكذلك إن أدخل صقرا أو بازيا فعليه إرساله لما ذكرنا في سائر الصيود, فإن أرسله فجعل يقتل حمام الحرم لم يكن عليه في ذلك شيء؛ لأن الواجب عليه الإرسال وقد أرسل فلا يلزمه شيء بعد ذلك كما لو أرسله في الحل ثم دخل الحرم فجعل يقتل صيد الحرم. ولو أرسل كلبا في الحل على صيد في الحل فاتبعه الكلب, فأخذه في الحرم فقتله فلا شيء على المرسل, ولا يؤكل الصيد, أما عدم وجوب الجزاء فلأن العبرة في وجوب الضمان بحالة الإرسال, إذ الإرسال هو السبب الموجب للضمان والإرسال وقع مباحا لوجوده في الحل فلا يتعلق به الضمان. وأما حرمة أكل الصيد؛ فلأن فعل الكلب ذبح للصيد, وأنه حصل في الحرم فلا يحل أكله كما لو ذبحه آدمي إذ فعل الكلب لا يكون أعلى من فعل الآدمي. ولو رمى صيدا في الحل فنفر الصيد فوقع السهم به في الحرم فعليه الجزاء, قال محمد في الأصل: وهو قول أبي حنيفة رحمه الله فيما أعلم وكان القياس فيه أن لا يجب عليه الجزاء كما لا يجب عليه في إرسال الكلب؛ لأن كل واحد منهما مأذون فيه لحصوله في الحل, والأخذ والإصابة كل واحد منهما يضاف إلى المرسل والرامي وخاصة على أصل أبي حنيفة رحمه الله تعالى فإنه يعتبر حال الرمي في المسائل حتى قال فيمن رمى إلى مسلم فارتد المرمي إليه ثم أصابه السهم مثلا: أنه تجب عليه الدية اعتبارا بحالة الرمي إلا أنهم استحسنوا فأوجبوا الجزاء في الرمي, ولم يوجبوا في الإرسال؛ لأن الرمي هو المؤثر في الإصابة بمجرى العادة إذا لم يتخلل بين الرمي والإصابة فعل اختياري يقطع نسبة الأثر إليه شرعا فبقيت الإصابة مضافة إليه شرعا في الأحكام, فصار كأنه ابتدأ الرمي بعد ما حصل الصيد في الحرم, وههنا قد تخلل بين الإرسال والأخذ فعل فاعل مختار وهو الكلب فمنع إضافة الأخذ إلى المرسل وصار كما لو أرسل بازيا في الحرم فأخذ حمام الحرم وقتله أنه لا يضمن لما قلنا كذا هذا. ولو أرسل كلبا على ذئب في الحرم أو نصب له شركا فأصاب الكلب صيدا أو وقع في الشرك صيد فلا جزاء عليه؛ لأن الإرسال على الذئب, ونصب الشبكة له مباح؛ لأن قتل الذئب مباح في الحل والحرم للمحرم والحلال جميعا؛ لكونه من المؤذيات المبتدئة بالأذى عادة, فلم يكن متعديا في التسبب فيضمن. ولو نصب شبكة أو حفر حفيرة في الحرم للصيد فأصاب صيدا فعليه جزاؤه؛ لأنه غير مأذون في نصب الشبكة والحفر لصيد الحرم فكان متعديا في التسبب فيضمن. ولو نصب خيمة فتعقل به صيد, أو حفر للماء فوقع فيه صيد الحرم لا ضمان عليه لأنه غير متعد في التسبب,. وقالوا فيمن أخرج ظبية من الحرم فأدى جزاءها ثم ولدت ثم ماتت ومات أولادها: لا شيء عليه؛ لأنه متى أدى جزاءها ملكها فحدثت الأولاد على ملكه. وروى ابن سماعة عن محمد في رجل أخرج صيدا من الحرم إلى الحل: إن ذبحه. والانتفاع بلحمه ليس بحرام سواء كان أدى جزاءه أو لم يؤد, غير أني أكره هذا الصنيع, وأحب إلي أن يتنزه عن أكله, أما حل الذبح فلأنه صيد حل في الحال فلا يكون ذبحه حراما. وأما كراهة هذا الصنيع فلأن الانتفاع به يؤدي إلى استئصال صيد الحرم؛ لأن كل من احتاج إلى شيء من ذلك أخذه وأخرجه من الحرم وذبحه وانتفع بلحمه وأدى قيمته, فإن انتفع به فلا شيء عليه؛ لأن الضمان سبب لملك المضمون على أصلنا, فإذا ضمن قيمته فقد ملكه فلا يضمن بالانتفاع به, وإن باعه واستعان

 

ج / 2 ص -210-       بثمنه في جزائه كان له ذلك لأن الكراهة في حق الأكل خاصة. وكذا إذا قطع شجر الحرم حتى ضمن قيمته يكره له الانتفاع به؛ لأن الانتفاع به يؤدي إلى استئصال شجر الحرم على ما بينا في الصيد ولو اشتراه إنسان من القاطع لا يكره له الانتفاع به؛ لأنه تناوله بعد انقطاع النماء عنه والله الموفق. "

فصل": وأما الذي يرجع إلى النبات, فكل ما ينبت بنفسه مما لا ينبته الناس عادة وهو رطب وجملة الكلام فيه أن. نبات الحرم لا يخلو إما أن يكون مما لا ينبته الناس عادة, وإما أن يكون مما ينبته الناس عادة. فإن كان مما لا ينبته الناس عادة إذا نبت بنفسه وهو رطب فهو محظور القطع والقلع على المحرم والحلال جميعا نحو الحشيش الرطب والشجر الرطب إلا ما فيه ضرورة وهو الإذخر فإن قلعه إنسان أو قطعه فعليه قيمته لله تعالى سواء كان محرما أو حلالا بعد أن كان مخاطبا بالشرائع, والأصل فيه قوله تعالى {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} أخبر الله تعالى أنه جعل الحرم آمنا مطلقا فيجب العمل بإطلاقه إلا ما قيد بدليل, وقول النبي صلى الله عليه وسلم "ألا إن مكة حرام حرمها الله تعالى إلى قوله لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها" نهى عن اختلاء كل خلى وعضد كل شجر فيجرى على عمومه إلا ما خص بدليل وهو الإذخر فإنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لما ساق الحديث إلى قوله "لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها فقال العباس رضي الله عنه إلا الإذخر يا رسول الله فإنه متاع لأهل مكة لحيهم وميتهم فقال النبي: صلى الله عليه وسلم إلا الإذخر", والمعنى فيه ما أشار إليه العباس رضي الله عنه وهو حاجة أهل مكة إلى ذلك في حياتهم ومماتهم فإن قيل: إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن اختلاء خلى مكة عاما فكيف استثنى الإذخر باستثناء العباس؟ وكان صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى, وقد قيل في الجواب عنه من وجهين: أحدهما: يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في قلبه هذا الاستثناء إلا أن العباس رضي الله عنه سبقه به فأظهر النبي صلى الله عليه وسلم بلسانه ما كان في قلبه, والثاني: يحتمل أن الله تعالى أمره أن يخبر بتحريم كل خلى مكة إلا ما يستثنيه العباس, وذلك غير ممنوع, ويحتمل وجها ثالثا: وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم عم القضية بتحريم كل خلى فسأله العباس الرخصة في الإذخر لحاجة أهل مكة ترفيها بهم, فجاءه جبريل عليه السلام بالرخصة في الإذخر فقال النبي: صلى الله عليه وسلم "إلا الإذخر" فإن قيل: من شرط صحة الاستثناء والتحاقه بالكلام الأول أن يكون متصلا به ذكرا, وهذا منفصل؛ لأنه ذكر بعد انقطاع الكلام الأول, وبعد سؤال العباس رضي الله عنه الاستثناء بقوله: إلا الإذخر, والاستثناء المنفصل لا يصح ولا يلحق المستثنى منه, فالجواب أن هذا ليس باستثناء حقيقة وإن كانت صيغته صيغة الاستثناء بل هو إما تخصيص, والتخصيص المتراخي عن العام جائز عند مشايخنا وهو النسخ والنسخ قبل التمكن من الفعل بعد التمكن من الاعتقاد جائز عندنا, والله الموفق. وإنما يستوي فيه المحرم والحلال؛ لأنه لا فصل في النصوص المقتضية للأمن؛ ولأن حرمة التعرض لأجل الحرم, فيستوي فيه المحرم والحلال, وإذا وجب عليه قيمته فسبيلها سبيل جزاء صيد الحرم أنه إن شاء اشترى بها طعاما يتصدق به على الفقراء على كل فقير نصف صاع من بر, وإن شاء اشترى بها هديا إن بلغت قيمته هديا على رواية الأصل والطحاوي فيذبح في الحرم, ولا يجوز فيه الصوم عندنا خلافا لزفر على ما مر في صيد الحرم. وإذا أدى قيمته يكره له الانتفاع بالقلوع والمقطوع؛ لأنه وصل إليه بسبب خبيث, ولأن الانتفاع به يؤدي إلى استئصال نبات الحرم؛ لأنه إذا احتاج إلى شيء من ذلك يقلع ويقطع ويؤدي قيمته على ما ذكرنا في الصيد, فإن باعه يجوز ويتصدق بثمنه؛ لأنه ثمن مبيع حصل بسبب خبيث, ولا بأس بقلع الشجر اليابس والانتفاع به. وكذا الحشيش اليابس؛ لأنه قد مات وخرج عن حد النمو, ولا يجوز رعي حشيش الحرم في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا بأس بالرعي. وجه قوله: إن الهدايا تحمل إلى الحرم ولا يمكن حفظها من الرعي, فكان فيه ضرورة, ولهما أنه لما منع من التعرض لحشيش الحرم استوى فيه التعرض بنفسه وبإرسال البهيمة عليه؛ لأن فعل البهيمة مضاف إليه كما في الصيد, فإنه لما حرم عليه التعرض لصيده استوى فيه اصطياده بنفسه. وبإرسال الكلب كذا هذا. وإن كان مما ينبته الناس عادة من الزروع والأشجار التي ينبتونها فلا بأس بقطعه وقلعه؛ لإجماع

 

ج / 2 ص -211-       الأمة على ذلك, فإن الناس من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يزرعون في الحرم ويحصدونه من غير نكير من أحد وكذا ما لا ينبته الناس عادة إذا أنبته أحد, مثل شجرة أم غيلان وشجر الأراك ونحوهما, فلا بأس بقطعه, وإذا قطعه فلا ضمان عليه؛ لأجل الحرم لأنه ملكه بالإنبات فلم يكن من شجر الحرم فصار كالذي ينبته الناس عادة, شجرة أصلها في الحرم وأغصانها في الحل فهي من شجر الحرم, وإن كان أصلها في الحل وأغصانها في الحرم فهي من شجر الحل ينظر في ذلك إلى الأصل لا إلى الأغصان لأن الأغصان تابعة للأصل فيعتبر فيه موضع الأصل لا التابع. وإن كان بعض أصلها في الحرم والبعض في الحل فهي من شجر الحرم؛ لأنه اجتمع فيه الحظر والإباحة فيرجح الحاظر احتياطا, وهذا بخلاف الصيد فإن المعتبر فيه موضع قوائم الطير إذا كان مستقرا به, فإن كان الطير على غصن هو في الحرم لا يجوز له أن يرميه, وإن كان أصل الشجر في الحل, وإن كان على غصن هو في الحل فلا بأس له أن يرميه, وإن كان أصل الشجر في الحرم ينظر إلى مكان قوائم الصيد لا إلى أصل الشجر؛ لأن قوام الصيد بقوائمه حتى لو رمى صيدا قوائمه في الحرم ورأسه في الحل فهو من صيد الحرم لا يجوز للمحرم والحلال أن يقتله. ولو رمى صيدا قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فهو من صيد الحل, ولا بأس للحلال أن يقتله وكذا إذا كان بعض قوائمه في الحرم وبعضها في الحل فهو صيد الحرم ترجيحا لجانب الحرمة احتياطا هذا إذا كان قائما. فأما إذا نام فجعل قوائمه في الحل ورأسه في الحرم فهو من صيد الحرم؛ لأن القوائم إنما تعتبر إذا كان مستقرا بها وهو غير مستقر بقوائمه بل هو كالملقى على الأرض, وإذا بطل اعتبار القوائم فاجتمع فيه الحاظر والمبيح فيترجح جانب الحاظر احتياطا, ولا بأس بأخذ كمأة الحرم؛ لأن الكمأة ليست من جنس النبات بل هي من ودائع الأرض. وقال أبو حنيفة: لا بأس بإخراج حجارة الحرم وترابه إلى الحل؛ لأن الناس يخرجون القدور من مكة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير, ولأنه يجوز استهلاكه باستعماله في الحرم, فيجوز إخراجه إلى الحل, وعن ابن عباس وابن عمر رضي الله عنهما كراهة ذلك بقوله عز وجل {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً} جعل الله تعالى نفس الحرم آمنا؛ ولأن الحرم لما أفاد الأمن لغيره فلأن يفيد لنفسه أولى. ثم إنما يجب على المحرم اجتناب محظورات الإحرام والحرم وتثبت أحكامها إذا فعل إذا كان مخاطبا بالشرائع. فأما إذا لم يكن مخاطبا كالصبي العاقل لا يجب ولا يثبت حتى لو فعل شيئا من محظورات الإحرام والحرم فلا شيء عليه ولا على وليه؛ لأن الحرمة بسبب الإحرام, والحرم يثبت حقا لله تعالى, والصبي غير مؤاخذ بحقوق الله تعالى. ولكن ينبغي للولي أن يجنبه ما يجتنبه المحرم تأدبا وتعودا كما يأمره بالصلاة. وأما العبد إذا أحرم بإذن مولاه فإنه يجب عليه الاجتناب؛ لأنه من أهل الخطاب, فإن فعل شيئا من المحظورات فإن كان مما يجوز فيه الصوم يصوم, وإن كان مما لا يجوز فيه إلا الفدية أو الإطعام لا يجب عليه ذلك في الحال, وإنما يجب بعد العتق ولو فعل في حال الرق لا يجوز؛ لأنه لا ملك له. وكذا لو فعل عنه مولاه أو غيره؛ لأنه ليس من أهل الملك فلا يملك, وإن ملك. وإذا فرغنا من فصول الإحرام وما يتصل به فلنرجع إلى ما كنا فيه, وهو بيان شرائط الأركان, وقد ذكرنا جملة منها فمنها: الإسلام ومنها: العقل ومنها: النية ومنها: الإحرام, وقد ذكرناه بجميع فصوله وعلائقه وما اتصل به ومنها :. الوقت فلا يجوز الوقوف بعرفة قبل يوم عرفة, ولا طواف الزيارة قبل يوم النحر, ولا أداء شيء من أفعال الحج قبل وقته؛ لأن الحج عبادة مؤقتة قال الله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} والعبادات المؤقتة لا يجوز أداؤها قبل أوقاتها كالصلاة والصوم. وكذا إذا فات الوقوف بعرفة عن وقته الذي ذكرناه فيما تقدم لا يجوز الوقوف في يوم آخر, ويفوت الحج في تلك السنة إلا لضرورة الاشتباه استحسانا بأن اشتبه عليهم هلال ذي الحجة فوقفوا ثم تبين أنهم وقفوا يوم النحر على ما ذكرنا فيما تقدم, وأما طواف الزيارة إذا فات عن أيام النحر فإنه يجوز في غيرها لكن يلزمه الدم في قول أبي حنيفة بالتأخير على ما مر وأشهر الحج شوال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة كذا روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم: عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهم وكذا روي عن جماعة من التابعين مثل الشعبي ومجاهد وإبراهيم وينبني أيضا على معرفة أشهر الحج الإحرام بالحج قبل أشهر الحج وقد ذكرنا

 

ج / 2 ص -212-       الاختلاف فيه فيما تقدم. ومنها إذا أمن عليه بنفسه حال قدرته على الأداء بنفسه, فلا يجوز استنابة غيره مع. قدرته على الحج بنفسه, وجملة الكلام فيه أن العبادات في الشرع أنواع ثلاثة :. مالية محضة: كالزكاة والصدقات والكفارات والعشور. وبدنية محضة: كالصلاة والصوم والجهاد. ومشتملة على البدن والمال: كالحج, فالمالية المحضة تجوز فيها النيابة على الإطلاق وسواء كان من عليه قادرا على الأداء بنفسه أو لا؛ لأن الواجب فيها إخراج المال وأنه يحصل بفعل النائب, والبدنية المحضة لا تجوز فيها النيابة على الإطلاق لقوله عز وجل {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} إلا ما خص بدليل وقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا يصوم أحد عن أحد ولا يصلي أحد عن أحد" أي: في حق الخروج عن العهدة لا في حق الثواب, فإن من صام أو صلى أو تصدق وجعل ثوابه لغيره من الأموات أو الأحياء جاز ويصل ثوابها إليهم عند أهل السنة والجماعة وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه ضحى بكبشين أملحين: أحدهما: عن نفسه, والآخر: عن أمته ممن آمن بوحدانية الله تعالى وبرسالته" صلى الله عليه وسلم وروي "أن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله: إن أمي كانت تحب الصدقة أفأتصدق عنها؟ فقال النبي: صلى الله عليه وسلم تصدق" وعليه عمل المسلمين من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من زيارة القبور وقراءة القرآن عليها والتكفين والصدقات والصوم والصلاة وجعل ثوابها للأموات, ولا امتناع في العقل أيضا لأن إعطاء الثواب من الله تعالى إفضال منه لا استحقاق عليه, فله أن يتفضل على من عمل لأجله بجعل الثواب له كما له أن يتفضل بإعطاء الثواب من غير عمل رأسا. وأما المشتملة على البدن والمال وهي الحج فلا يجوز فيها النيابة عند القدرة, ويجوز عند العجز, والكلام فيه يقع في مواضع في جواز. النيابة في الحج في الجملة, وفي بيان كيفية النيابة فيه, وفي بيان شرائط جواز النيابة, وفي بيان ما يصير النائب به مخالفا وبيان حكمه إذا خالف, أما الأول: فالدليل على الجواز حديث الخثعمية, وهو ما روي "أن امرأة جاءت من بني خثعم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت يا رسول الله إن فريضة الحج أدركت أبي, وإنه شيخ كبير لا يثبت على الراحلة, وفي رواية لا يستمسك على الراحلة أفيجزيني أن أحج عنه؟ فقال: صلى الله عليه وسلم حجي عن أبيك واعتمري, وفي رواية قال لها: أرأيت لو كان على أبيك دين فقضيتيه أما كان يقبل منك؟ قالت: نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: فدين الله تعالى أحق", ولأنه عبادة تؤدى بالبدن والمال فيجب اعتبارهما ولا يمكن اعتبارهما في حالة واحدة؛ لتناف بين أحكامهما فنعتبرهما في حالين, فنقول لا تجوز النيابة فيه عند القدرة اعتبارا للبدن, وتجوز عند العجز اعتبارا للمال عملا بالمعنيين في الحالين. وأما كيفية النيابة فيه, فذكر في الأصل أن الحج يقع عن المحجوج عنه, وروي عن محمد أن نفس الحج يقع عن الحاج, وإنما للمحجوج عنه ثواب النفقة. وجه رواية محمد أنه عبادة بدنية ومالية والبدن للحاج, والمال للمحجوج عنه فما كان من البدن لصاحب البدن, وما كان بسبب المال يكون لصاحب المال, والدليل عليه أنه لو ارتكب شيئا من محظورات الإحرام فكفارته في ماله لا في مال المحجوج عنه. وكذا لو أفسد الحج يجب عليه القضاء فدل أن نفس الحج يقع له إلا أن الشرع أقام ثواب نفقة الحج في حق العاجز عن الحج بنفسه مقام الحج بنفسه نظرا له ومرحمة عليه. وجه رواية الأصل ما روينا من حديث الخثعمية حيث قال لها النبي: صلى الله عليه وسلم "حجي عن أبيك" أمرها بالحج عن أبيها. ولولا أن حجها يقع عن أبيها لما أمرها بالحج عنه, ولأن النبي صلى الله عليه وسلم قاس دين الله تعالى بدين العباد بقوله "أرأيت لو كان على أبيك دين" وذلك تجزئ فيه النيابة ويقوم فعل النائب مقام فعل المنوب عنه كذا هذا, والدليل عليه أن الحاج يحتاج إلى نية المحجوج عنه كذا الإحرام, ولو لم يقع نفس الحج عنه لكان لا يحتاج إلى نيته والله أعلم. وأما شرائط جواز النيابة فمنها: أن يكون المحجوج عنه عاجزا عن أداء الحج بنفسه وله مال فإن كان قادرا على الأداء بنفسه بأن كان صحيح البدن وله مال لا يجوز حج غيره عنه؛ لأنه إذا كان قادرا على الأداء ببدنه وله مال, فالفرض يتعلق ببدنه لا بماله, بل المال يكون شرطا وإذا تعلق الفرض ببدنه لا تجزئ فيه النيابة كالعبادات البدنية المحضة. وكذا لو كان فقيرا صحيح البدن لا يجوز حج

 

ج / 2 ص -213-       غيره عنه؛ لأن المال من شرائط الوجوب فإذا لم يكن له مال لا يجب عليه أصلا فلا ينوب عنه غيره في أداء الواجب ولا واجب. ومنها: العجز المستدام من وقت الإحجاج إلى وقت الموت, فإن زال قبل الموت لم يجز حج غيره عنه؛ لأن جواز حج الغير عن الغير ثبت بخلاف القياس لضرورة العجز الذي لا يرجى زواله فيتقيد الجواز به, وعلى هذا يخرج المريض أو المحبوس إذا أحج عنه أن جوازه موقوف إن مات وهو مريض أو محبوس جاز وإن زال المرض أو الحبس قبل الموت لم يجز والإحجاج من الزمن والأعمى على أصل أبي حنيفة جائز؛ لأن الزمانة والعمى لا يرجى زوالهما عادة فوجد الشرط وهو العجز المستدام إلى وقت الموت ومنها: الأمر بالحج فلا يجوز حج الغير عنه بغير أمره؛ لأن جوازه بطريق النيابة عنه, والنيابة لا تثبت إلا بالأمر إلا الوارث يحج عن مورثه بغير أمره, فإنه يجوز إن شاء الله تعالى بالنص, ولوجود الأمر هناك دلالة على ما نذكر إن شاء الله تعالى, ومنها: نية المحجوج عنه عند الإحرام؛ لأن النائب يحج عنه لا عن نفسه, فلا بد من نيته, والأفضل أن يقول بلسانه لبيك عن فلان كما إذا حج عن نفسه, ومنها: أن يكون حج المأمور بمال المحجوج عنه, فإن تطوع الحاج عنه بمال نفسه لم يجز عنه حتى يحج بماله. وكذا إذا كان أوصى أن يحج عنه بماله ومات, فتطوع عنه وارثه بمال نفسه؛ لأن الفرض تعلق بماله فإذا لم يحج بماله لم يسقط عنه الفرض؛ ولأن مذهب محمد أن نفس الحج يقع للحاج, وإنما للمحجوج عنه ثواب النفقة, فإذا لم ينفق من ماله فلا شيء له رأسا, ومنها: الحج راكبا حتى لو أمره بالحج فحج ماشيا يضمن النفقة ويحج عنه راكبا؛ لأن المفروض عليه هو الحج راكبا فينصرف مطلق الأمر بالحج إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن, وسواء كان الحاج قد حج عن نفسه, أو كان صرورة أنه يجوز في الحالين جميعا إلا أن الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه. وقال الشافعي: لا يجوز حج الصرورة عن غيره ويقع حجه عن نفسه ويضمن النفقة, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلا يلبي عن شبرمة قال له صلى الله عليه وسلم: ومن شبرمة؟ فقال: أخ لي أو صديق لي فقال صلى الله عليه وسلم أحججت عن نفسك؟ فقال: لا فقال صلى الله عليه وسلم: حج عن نفسك ثم عن شبرمة" فالاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه سأله عن حجه عن نفسه. ولولا أن الحكم يختلف لم يكن لسؤاله معنى, والثاني: أنه أمره بالحج عن نفسه أولا ثم عن شبرمة, فدل أنه لا يجوز الحج عن غيره قبل أن يحج عن نفسه؛ ولأن حجه عن نفسه فرض عليه, وحجه عن غيره ليس بفرض, فلا يجوز ترك الفرض بما ليس بفرض, ولنا حديث الخثعمية "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لها حجي عن أبيك, ولم يستفسر أنها كانت حجت عن نفسها أو كانت صرورة. ولو كان الحكم يختلف لاستفسر؛ ولأن الأداء عن نفسه لم يجب في وقت معين فالوقت كما يصلح لحجه عن نفسه يصلح لحجه عن غيره, فإذا عينه لحجه عن غيره وقع عنه؛ ولهذا قال أصحابنا: إن الصرورة إذا حج بنية النفل أنه يقع عن النفل؛ لأن الوقت لم يتعين للفرض بل يقبل الفرض والنفل, فإذا عينه للنفل تعين له إلا أن عند إطلاق النية يقع عن الفرض؛ لوجود نية الفرض بدلالة حاله إذ الظاهر أنه لا يقصد النفل, وعليه الفرض فانصرف المطلق إلى المقيد بدلالة حاله لكن الدلالة إنما تعتبر عند عدم النص بخلافها فإذا نوى التطوع, فقد وجد النص بخلافها فلا تعتبر الدلالة إلا أن الأفضل أن يكون قد حج عن نفسه؛ لأنه بالحج عن غيره يصير تاركا إسقاط الفرض عن نفسه, فيتمكن في هذا الإحجاج ضرب كراهة, ولأنه إذا كان حج مرة كان أعرف بالمناسك. وكذا هو أبعد عن محل الخلاف فكان أفضل, والحديث محمول على الأفضلية توفيقا بين الدلائل, وسواء كان رجلا أو امرأة إلا أنه يكره إحجاج المرأة, لكنه يجوز أما الجواز فلحديث الخثعمية. وأما الكراهة فلأنه يدخل في حجها ضرب نقصان؛ لأن المرأة لا تستوفي سنن الحج فإنها لا ترمل في الطواف وفي السعي بين الصفا والمروة ولا تحلق, وسواء كان حرا أو عبدا بإذن المولى لكنه يكره إحجاج العبد أما الجواز فلأنه يعمل بالنيابة, وما تجوز فيه النيابة يستوي فيه الحر والعبد كالزكاة ونحوها. وأما الكراهة فلأنه ليس من أهل أداء الفرض عن نفسه فيكره أداؤه عن غيره والله الموفق. وأما بيان ما يصير به المأمور بالحج مخالفا, وبيان حكمه إذا خالف فنقول: إذا أمر بحجة مفردة أو بعمرة مفردة فقرن فهو مخالف ضامن في قول

 

ج / 2 ص -214-       أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: يجزي ذلك عن الآمر نستحسن وندع القياس فيه, ولا يضمن فيه دم القران على الحاج. وجه قولهما أنه فعل المأمور به وزاد خيرا فكان مأذونا في الزيادة دلالة, فلم يكن مخالفا كمن قال لرجل: اشتر لي هذا العبد بألف درهم فاشتراه بخمسمائة أو قال: بع هذا العبد بألف درهم, فباعه بألف وخمسمائة يجوز, وينفذ على الآمر لما قلنا كذا هذا, وعليه دم القران؛ لأن الحاج إذا قرن بإذن المحجوج عنه كان الدم على الحاج لما نذكر, ولأبي حنيفة أنه لم يأت بالمأمور به؛ لأنه أمر بسفر يصرفه إلى الحج لا غير, ولم يأت به فقد خالف أمر الآمر فضمن. ولو أمره أن يحج عنه فاعتمر ضمن؛ لأنه خالف ولو اعتمر ثم حج من مكة يضمن النفقة في قولهم؛ جميعا لأمره به بالحج, بسفر وقد أتى بالحج من غير سفر؛ لأنه صرف سفره الأول إلى العمرة, فكان مخالفا فيضمن النفقة. ولو أمره بالحج عنه فجمع بين إحرام الحج والعمرة فأحرم بالحج عنه وأحرم بالعمرة عن نفسه فحج عنه واعتمر عن نفسه صار مخالفا في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة وعن أبي يوسف أنه يقسم النفقة على الحج والعمرة ويطرح عن الحج ما أصاب العمرة, ويجوز ما أصاب الحج. وجه رواية أبي يوسف أن المأمور فعل ما أمر به وهو الحج عن الآمر وزاده إحسانا حيث أسقط عنه بعض النفقة. وجه ظاهر الرواية أنه أمره بصرف كل السفر إلى الحج, ولم يأت به؛ لأنه أدى بالسفر حجا عن الآمر وعمرة عن نفسه فكان مخالفا وبه تبين أنه فعل ما أمر به, وقوله: "أنه أحسن إليه حيث أسقط عنه بعض النفقة" غير سديد؛ لأن غرض الآمر في الحج عن الغير هو ثواب النفقة فإسقاطه لا يكون إحسانا, بل يكون إساءة ولو أمره أن يعتمر فأحرم بالعمرة واعتمر ثم أحرم بالحج بعد ذلك, وحج عن نفسه لم يكن مخالفا؛ لأنه فعل ما أمر به وهو أداء العمرة بالسفر, وإنما فعل بعد ذلك الحج فاشتغاله به كاشتغاله بعمل آخر من التجارة وغيرها إلا أن النفقة مقدار مقامه للحج من ماله؛ لأنه عمل لنفسه وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله في الرقيات إذا حج عن الميت وطاف لحجه وسعى ثم أضاف إليه عمرة عن نفسه لم يكن مخالفا؛ لأن هذه العمرة واجبة الرفض؛ لوقوعها على مخالفة السنة على ما ذكرنا في فصل القران, فكان وجودها والعدم بمنزلة واحدة. ولو كان جمع بينهما ثم أحرم بهما ثم لم يطف حتى وقف بعرفة ورفض العمرة لم ينفعه ذلك, وهو مع ذلك مخالف؛ لأنه لما أحرم بهما جميعا فقد صار مخالفا في ظاهر الرواية على ما ذكرنا فوقعت الحجة عن نفسه فلا يحتمل التغيير بعد ذلك برفض العمرة ولو أمره رجل أن يحج عنه حجة وأمره رجل آخر أن يحج عنه فأحرم بحجة فهذا لا يخلو عن أحد وجهين :. إما إن أحرم بحجة عنهما جميعا, وإما إن أحرم بحجة عن أحدهما, فإن أحرم بحجة عنهما جميعا فهو مخالف, ويقع الحج عنه ويضمن النفقة لهما إن كان أنفق من مالهما؛ لأن كل واحد منهما أمره بحج تام ولم يفعل, فصار مخالفا لأمرهما فلم يقع حجه عنهما فيضمن لهما؛ لأن كل واحد منهما لم يرض بإنفاق ماله فيضمن, وإنما وقع الحج عن الحاج؛ لأن الأصل أن يقع كل فعل عن فاعله. وإنما يقع لغيره بجعله, فإذا خالف لم يصر لغيره فبقي فعله له. ولو أراد أن يجعله لأحدهما لم يملك ذلك بخلاف الابن إذا أحرم بحجة عن أبويه أنه يجزئه أن يجعله عن أحدهما؛ لأن الابن غير مأمور بالحج عن الأبوين فلا تتحقق مخالفة الآمر, وإنما جعل ثواب الحج الواقع عن نفسه في الحقيقة لأبويه, وكان من عزمه أن يجعل ثواب حجه لهما ثم نقض عزمه وجعله لأحدهما وههنا بخلافه؛ لأن الحاج متصرف بحكم الآمر, وقد خالف أمرهما فلا يقع حجه لهما ولا لأحدهما, وإن أحرم بحجة عن أحدهما فإن أحرم لأحدهما عينا وقع الحج عن الذي عينه, ويضمن النفقة للآخر, وهذا ظاهر. وإن أحرم بحجة عن أحدهما غير عين, فله أن يجعلها عن أحدهما أيهما شاء ما لم يتصل بها الأداء في قول أبي حنيفة ومحمد استحسانا, والقياس أن لا يجوز له ذلك ويقع الحج عن نفسه ويضمن النفقة لهما. وجه القياس أنه خالف الأمر؛ لأنه أمر بالحج لمعين, وقد حج لمبهم, والمبهم غير المعين فصار مخالفا ويضمن النفقة, ويقع الحج عن نفسه لما ذكرنا بخلاف ما إذا أحرم الابن بالحج عن أحد أبويه أنه يصح, وإن لم يكن معينا لما ذكرنا أن الابن في حجه لأبويه ليس متصرفا بحكم الآمر حتى يصير مخالفا للآمر بل هو يحج عن نفسه, ثم يجعل ثواب حجه لأحدهما وذلك جائز. وههنا بخلافه. وجه الاستحسان أنه قد صح من أصل أصحابنا أن الإحرام ليس

 

ج / 2 ص -215-       من الأداء بل هو شرط جواز أداء أفعال الحج, فيقتضي تصور الأداء, والأداء متصور بواسطة التعيين, فإذا جعله عن أحدهما قبل أن يتصل به شيء من أفعال الحج تعين له فيقع عنه, فإن لم يجعلها عن أحدهما حتى طاف شوطا ثم أراد أن يجعلها عن أحدهما لم تجز عن واحد منهما؛ لأنه إذا اتصل به الأداء تعذر تعيين القدر المؤدى؛ لأن المؤدى قد مضى وانقضى, فلا يتصور تعيينه فيقع عن نفسه, وصار إحرامه واقعا له لاتصال الأداء به. وإن أمره أحدهما بحجة, وأمره الآخر بعمرة فإن أذنا له بالجمع وهو القران فجمع جاز؛ لأنه أمر بسفر ينصرف بعضه إلى الحج وبعضه إلى العمرة, وقد فعل ذلك فلم يصر مخالفا, وإن لم يأذنا له بالجمع فجمع ذكر الكرخي أنه يجوز وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه لا يجوز على قول أبي حنيفة؛ لأنه خالف لأنه أمر بسفر ينصرف كله إلى الحج, وقد صرفه إلى: الحج والعمرة فصار مخالفا, وإنما يصح هذا على ما روي عن أبي يوسف أن من حج عن غيره واعتمر عن نفسه جاز ولو أمره أن يحج عنه فحج عنه ماشيا يضمن؛ لأنه خالف لأن الأمر بالحج ينصرف إلى الحج المتعارف في الشرع وهو الحج راكبا لأن الله تعالى أمر بذلك, فعند الإطلاق ينصرف إليه فإذا حج ماشيا فقد خالف فيضمن لما قلنا, ولأن الذي يحصل للآمر من الأمر بالحج هو ثواب النفقة, والنفقة في الركوب أكثر فكان الثواب فيه أوفر؛ ولهذا قال محمد: إن حج على حمار كرهت له ذلك, والجمل أفضل؛ لأن النفقة في ركوب الجمل أكثر فكان حصول المقصود فيه أكمل فكان أولى وإذا فعل المأمور بالحج ما يوجب الدم أو غيره فهو عليه ولو قرن عن الآمر بأمره فدم القران عليه, والحاصل أن جميع الدماء المتعلقة بالإحرام في مال الحاج إلا دم الإحصار خاصة, فإنه في مال المحجوج عنه كذا ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي دم الإحصار ولم يذكر الاختلاف وكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي, ولم يذكر الخلاف. وذكر في بعض نسخ الجامع الصغير أنه على الحاج عند أبي يوسف أما ما يجب بالجناية؛ فلأنه هو الذي جنى, فكان عليه الجزاء؛ ولأنه أمر بحج خال عن الجناية, فإذا جنى فقد خالف فعليه ضمان الخلاف. وأما دم القران فلأنه دم نسك؛ لأنه يجب شكرا, وسائر أفعال النسك, على الحاج فكذا هذا النسك وأما دم الإحصار فلأن المحجوج عنه هو الذي أدخله في هذه العهدة فكان من جنس النفقة والمؤنة, وذلك عليه كذا هذا فإن جامع الحاج عن غيره قبل الوقوف بعرفة فسد حجه ويمضي فيه والنفقة في ماله, ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك وعليه القضاء من مال نفسه, أما فساد الحج فلأن الجماع قبل الوقوف بعرفة مفسد للحج لما نذكر إن شاء الله تعالى في موضعه, والحجة الفاسدة يجب المضي فيها. ويضمن ما أنفق من مال المحجوج عنه قبل ذلك وعليه القضاء من مال نفسه, ويضمن ما أنفق من مال الآمر قبل ذلك؛ لأنه خالف لأنه أمره بحجة صحيحة وهي الخالية عن الجماع ولم يفعل ذلك فصار مخالفا فيضمن ما أنفق وما بقي ينفق فيه من ماله؛ لأن الحج وقع له ويقضي؛ لأن من أفسد حجه يلزمه قضاؤه فإن فاته الحج يصنع ما يصنع فائت الحج بعد شروعه فيه وسنذكره في موضعه إن شاء الله ولا يضمن النفقة لأنه فاته بغير صنعه فلم يوجد منه الخلاف فلا يجب الضمان وعليه عن نفسه الحج من قابل؛ لأن الحجة قد وجبت عليه بالشروع فإذا فاتت لزمه قضاؤها وهذا على قول محمد ظاهر؛ لأن الحج عنده يقع عن الحاج وقالوا فيمن حج عن غيره فمرض في الطريق: لم يجز له أن يدفع النفقة إلى من يحج عن الميت إلا أن يكون أذن له في ذلك؛ لأنه مأمور بالحج لا بالإحجاج كأن لم يبلغ المال المدفوع إليه النفقة. فأنفق من مال نفسه ومال الآمر ينظر, فإن بلغ مال الآمر الكراء وعامة النفقة فالحج عن الميت لا يكون مخالفا وإلا فهو ضامن, ويكون الحج عن نفسه ويرد المال, والأصل فيه أن يعتبر الأكثر ويجعل الأقل تبعا للأكثر وقليل الإنفاق من مال نفسه مما لا يمكن التحرز عنه من شربة ماء, أو قليل زاد فلو اعتبر القليل مانعا من وقوع الحج عن الآمر يؤدي إلى سد باب الإحجاج فلا يعتبر ويعتبر الكثير ولو أحج رجلا يؤدي الحج ويقيم بمكة جاز؛ لأن فرض الحج صار مؤديا بالفراغ عن أفعاله. والأفضل أن يحج ثم يعود إليه, لأن الحاصل للآمر ثواب النفقة, فمهما كانت النفقة أكثر كان الثواب أكثر وأوفر, وإذا فرغ المأمور بالحج من الحج ونوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا أنفق من مال نفسه

 

ج / 2 ص -216-       لأن نية الإقامة قد صحت فصار تاركا للسفر فلم يكن مأذونا بالإنفاق من مال الآمر. ولو أنفق ضمن؛ لأنه أنفق مال غيره بغير إذنه فإن أقام بها أياما من غير نية الإقامة فقد قال أصحابنا إنه إن أقام إقامة معتادة فالنفقة في مال المحجوج عنه, وإن زاد على المعتاد فالنفقة من ماله حتى قالوا: إذا أقام بعد الفراغ من الحج ثلاثة أيام ينفق من مال الآمر, وإن زاد ينفق من مال نفسه وقالوا في الخراساني: إذا جاء حاجا عن غيره فدخل بغداد فأقام بها إقامة معتادة مقدار ما يقيم الناس بها عادة فالنفقة في مال المحجوج عنه, وإن أقام أكثر من ذلك فالنفقة في ماله, وهذا كان في زمانهم؛ لأنه كان زمان أمن يتمكن الحاج من الخروج من مكة وحده أو مع نفر يسير, فقدروا مدة الإقامة بها بعد الفراغ من الحج كما أذن النبي صلى الله عليه وسلم للمهاجر أن يقيم بمكة. فأما في زماننا فلا يمكن الخروج للأفراد والآحاد ولا لجماعة قليلة من مكة إلا مع القافلة فما دام منتظرا خروج القافلة فنفقته في مال المحجوج عنه وكذا هذا في إقامته ببغداد أنه ما دام منتظرا لخروج القافلة, فالنفقة في مال الآمر لتعذر سبقه بالخروج لما فيه من تعريض المال والنفس للهلاك فالتعويل في الذهاب والإياب على ذهاب القافلة وإيابها. فإن نوى إقامة خمسة عشر يوما فصاعدا حتى سقطت نفقته من مال الآمر ثم رجع بعد ذلك هل تعود نفقته في مال الآمر؟ ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه تعود, ولم يذكر الخلاف وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن على قول محمد تعود, وهو ظاهر الرواية. وعند أبي يوسف لا تعود, وهذا إذا لم يكن اتخذ مكة دارا فأما إذا اتخذها دارا ثم عاد لا تعود النفقة في مال الآمر بلا خلاف. وجه قول أبي يوسف أنه إذا نوى الإقامة خمسة عشر يوما فصاعدا فقد انقطع حكم السفر فلا تعود بعد ذلك كما لو اتخذ مكة دارا. وجه ظاهر الرواية أن الإقامة ترك السفر لا قطعها, والمتروك يعود, فأما اتخاذ مكة دارا والتوطن بها فهو قطع السفر, والمنقطع لا يعود ولو تعجل المأمور بالحج ليكون شهر رمضان بمكة, فدخل محرما في شهر رمضان أو في ذي القعدة فنفقته في مال نفسه إلى عشر الأضحى فإذا جاء عشر الأضحى أنفق من مال الآمر كذا روى هشام عن محمد؛ لأن المقام بمكة قبل الوقت الذي يدخلها الناس لا يحتاج إليه لأداء المناسك غالبا, فلا تكون هذه الإقامة مأذونا فيها كالإقامة بعد الفراغ من الحج أكثر من المعتاد, ولا يكون بما عجل مخالفا؛ لأن الآمر ما عين له وقتا والتجارة والإجارة لا يمنعان جواز الحج, ويجوز حج التاجر والأجير والمكاري, لقوله عز وجل {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} قيل: الفضل التجارة, وذلك أن أهل الجاهلية كانوا يتحرجون من التجارة في عشر ذي الحجة, فلما كان الإسلام امتنع أهل الإسلام عن التجارة خوفا من أن يضر ذلك حجهم, فرخص الله سبحانه وتعالى لهم طلب الفضل في الحج بهذه الآية وروي أن "رجلا سأل ابن عمر رضي الله عنه فقال: إنا قوم نكرى, ونزعم أن ليس لنا حج فقال: ألستم تحرمون؟ قالوا: بلى قال: فأنتم حجاج جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عما سألتني عنه فقرأ هذه الآية {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ} ولأن التجارة والإجارة لا يمنعان من أركان الحج وشرائطها, فلا يمنعان من الجواز والله أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يفسد الحج وبيان حكمه إذا فسد, أما الأول فالذي يفسد الحج. الجماع لكن عند وجود شرطه, فيقع الكلام فيه في موضعين في بيان أن الجماع يفسد الحج في الجملة, وفي بيان شرط كونه مفسدا, أما الأول فالدليل عليه ما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا فيمن جامع امرأته وهما محرمان مضيا في إحرامهما وعليهما هدي ويقضيان من قابل ويفترقان؛ ولأن الجماع في نهاية الارتفاق بمرافق المقيمين, فكان في نهاية الجناية على الإحرام, فكان مفسدا للإحرام. "وأما" شرط كونه مفسدا فشيئان :. أحدهما: أن يكون الجماع في الفرج حتى لو جامع فيما دون الفرج أو لمس بشهوة أو عانق أو قبل أو باشر لا يفسد حجه؛ لانعدام الارتفاق البالغ لكن تلزمه الكفارة سواء أنزل أو لم ينزل لوجود استمتاع مقصود على ما بينا فيما تقدم وفرقنا بين اللمس والنظر عن شهوة. ولو وطئ بهيمة لا يفسد حجه؛ لما قلنا ولا كفارة عليه إلا إذا؛ أنزل لأنه ليس باستمتاع مقصود بخلاف الجماع فيما دون الفرج. وأما الوطء في الموضع المكروه فأما على أصلهما يفسد الحج؛ لأنه في معنى الجماع

 

ج / 2 ص -217-       في القبل عندهما حتى قالوا بوجوب الحد, وعن أبي حنيفة فيه روايتان في رواية يفسد؛ لأنه مثل الوطء في القبل في قضاء الشهوة, ويوجب الاغتسال من غير إنزال وفي رواية لا يفسد؛ لعدم كمال الارتفاق؛ لقصور قضاء الشهوة فيه لسوء المحل, فأشبه الجماع فيما دون الفرج؛ ولهذا قال محمد رحمه الله: إنه لا يجب الحد, والثاني أن يكون قبل الوقوف بعرفة فإن كان بعد الوقوف بها لا يفسد الحج عندنا وعند, الشافعي هذا ليس بشرط ويفسد الحج قبل الوقوف وبعده, "وجه" قوله إن الجماع إنما عرف مفسدا للحج لكونه مفسدا للإحرام, والإحرام بعد الوقوف باق لبقاء ركن الحج وهو طواف الزيارة ولا يتصور بقاء الركن بدون الإحرام فصار الحال بعد الوقوف كالحال قبل,. "ولنا" أن الركن الأصلي للحج هو الوقوف بعرفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" أي: الوقوف بعرفة, فمن وقف بعرفة فقد تم حجه أخبر عن تمام الحج بالوقوف, ومعلوم أنه ليس المراد منه التمام الذي هو ضد النقصان؛ لأن ذا لا يثبت بنفس الوقوف فعلم أن المراد منه خروجه عن احتمال الفساد والفوات, ولأن الوقوف ركن مستقل بنفسه وجودا وصحة لا يقف وجوده وصحته على الركن الآخر وما وجد ومضى على الصحة لا يبطل إلا بالردة, ولم توجد وإذا لم يفسد الماضي لا يفسد الباقي؛ لأن فساده بفساده ولكن يلزمه بدنة لما نذكره. ويستوي في فساد الحج بالجماع الرجل والمرأة؛ لاستوائهما في المعنى الموجب للفساد, وهو ما بينا ولما ذكرنا أن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أفتوا بفساد حجهما حيث أوجبوا القضاء عليهما ويستوي فيه العامد والخاطئ والذاكر والناسي عند أصحابنا وقال الشافعي: لا يفسده الخطأ والنسيان. والكلام فيه بناء على أصل ذكرناه غير مرة, وهو أن فساد الحج لا يثبت إلا بفعل محظور فزعم الشافعي أن الحظر لا يثبت مع الخطأ والنسيان, وقلنا نحن: يثبت وإنما المرفوع هو المؤاخذة عليهما على ما ذكرنا فيما تقدم ويستوي فيه الطوع والإكراه لأن الإكراه؛ لا يزيل الحظر, ولو كانت المرأة مكرهة فإنها لا ترجع بما لزمها على المكره؛ لأنه حصل لها استمتاع بالجماع فلا ترجع على أحد كالمغرور. إذا وطئ الجارية ولزمه الغرم أنه لا يرجع به على الغارم كذا هذا ويستوي فيه كون المرأة المحرمة مستيقظة أو نائمة حتى يفسد حجها في الحالين سواء كان المجامع لها محرما أو حلالا؛ لأن النائمة في معنى الناسية, والنسيان لا يمنع فساد الحج كذا النوم, ويستوي فيه كون المجامع عاقلا بالغا أو مجنونا أو صبيا بعد أن كانت المرأة المحرمة عاقلة بالغة حتى يفسد حجها؛ لأن التمكين محظور عليها "وأما" بيان حكمه إذا فسد ففساد الحج يتعلق به أحكام: منها وجوب الشاة عندنا وقال الشافعي: وجوب بدنة "وجه" قوله إن الجماع بعد الوقوف إنما أوجب البدنة لتغليظ الجناية, والجناية قبل الوقوف أغلظ؛ لوجودها حال قيام الإحرام المطلق لبقاء ركني الحج وبعد الوقوف لم يبق إلا أحدهما, فلما وجبت البدنة بعد الوقوف فلأن تجب قبله أولى, ولنا ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: البدنة في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف للزيارة جنبا ورجع إلى أهله ولم يعد, والثاني: إذا جامع بعد الوقوف, وروينا عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا: وعليهما هدي واسم, الهدي وإن كان يقع على الغنم والإبل والبقر لكن الشاة أدنى, والأدنى متيقن به فحمله على الغنم أولى على أنه روينا "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل عن الهدي فقال أدناه شاة" ويجزئ فيه شركة في جزور أو, بقرة, لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرك بين أصحابه رضي الله عنهم في البدن عام الحديبية فذبحوا البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة" واعتباره بما قبل الوقوف غير سديد؛ لأن الجناية قبل الوقوف أخف من الجناية بعده؛ لأن الجماع قبل الوقوف أوجب القضاء؛ لأنه أوجب فساد الحج, والقضاء خلف عن الفائت, فيجبر معنى الجناية فتخف الجناية فيوجب نقصان الموجب, وبعد الوقوف لا يفسد الحج عندنا لما ذكرنا فلم يجب القضاء فلم يوجد ما تجب به الجناية فبقيت متغلظة فتغلظ الموجب ولو جامع قبل الوقوف بعرفة ثم جامع, فإن كان في مجلس لا يجب عليه إلا دم واحد استحسانا. والقياس أن يجب عليه لكل واحد دم على حدة؛ لأن سبب الوجوب قد تكرر فتكرر الواجب إلا أنهم استحسنوا

 

ج / 2 ص -218-       فما أوجبوا إلا دما واحدا؛ لأن أسباب الوجوب اجتمعت في مجلس واحد من جنس واحد فيكتفى بكفارة واحدة؛ لأن المجلس الواحد يجمع الأفعال المتفرقة كما يجمع الأقوال المتفرقة كإيلاجات في جماع واحد أنها لا توجب إلا كفارة واحدة, وإن كان كل إيلاجة لو انفردت أوجبت الكفارة كذا هذا. وإن كان في مجلسين مختلفين يجب دمان في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وقال محمد: يجب دم واحد إلا إذا كان كفر للأول كما في كفارة الإفطار في شهر رمضان. "وجه" قول محمد أن الكفارة إنما وجبت بالجماع الأول جزاء لهتك حرمة الإحرام, والحرمة حرمة واحدة إذا انهتكت مرة لا يتصور انهتاكها ثانيا كما في صوم شهر رمضان, وكما إذا جامع ثم جامع في مجلس واحد, وإذا كفر فقد جبر الهتك فالتحق بالعدم وجعل كأنه لم يوجد فلم يتحقق الهتك ثانيا, ولهما أن الكفارة تجب بالجناية على الإحرام وقد تعددت الجناية فيتعدد الحكم وهو الأصل إلا إذا قام دليل يوجب جعل الجنايات المتعددة حقيقة متحدة حكما وهو اتحاد المجلس ولم يوجد ههنا بخلاف الكفارة للصوم فإنها لا تجب بالجناية على الصوم بل جبرا لهتك حرمة الشهر على ما ذكرناه فيما تقدم ولا يجب عليه في الجماع الثاني إلا شاة واحدة؛ لأن الأول لم يوجب إلا شاة واحدة فالثاني أولى؛ لأن الأول صادف إحراما صحيحا, والثاني صادف إحراما مجروحا فلما لم يجب للأول إلا شاة واحدة فالثاني أولى ولو جامع بعد الوقوف بعرفة ثم جامع إن كان في مجلس واحد, لا يجب عليه إلا بدنة واحدة وإن كان في مجلسين يجب عليه بدنة للأول وللثاني شاة على قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وعلى قول محمد إن كان ذبح للأول بدنة يجب للثاني شاة وإلا فلا يجب, وهو على ما ذكرنا من الاختلاف فيما قبل الوقوف هذا إذا لم يرد بالجماع بعد الجماع رفض الإحرام فأما إذا أراد به رفض الإحرام, والإحلال فعليه كفارة واحدة في قولهم جميعا سواء كان في مجلس واحد أو في مجالس مختلفة, لأن الكل مفعول على وجه واحد فلا يجب بها إلا كفارة واحدة كالإيلاجات في الجماع الواحد ومنها وجوب المضي في الحجة الفاسدة لقول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يمضيا في إحرامهما, ولأن الإحرام عقد لازم لا يجوز التحلل عنه إلا بأداء أفعال الحج أو لضرورة الإحصار ولم يوجد أحدهما, فيلزمه المضي فيه فيفعل جميع ما يفعله في الحجة الصحيحة ويجتنب جميع ما يجتنبه في الحجة الصحيحة ومنها وجوب القضاء؛ لقول الصحابة رضي الله عنهم يقضيانه من قابل؛ ولأنه لم يأت بالمأمور به على الوجه الذي أمر به؛ لأنه أمر بحج خال عن الجماع, ولم يأت به فبقي الواجب في ذمته فيلزمه تفريغ ذمته عنه, ولا يجب عليه العمرة؛ لأنه ليس بفائت الحج ألا ترى أنه لم تسقط عنه أفعال الحج بخلاف المحصر إذا حل من إحرامه بذبح الهدي أنه يجب عليه قضاء الحجة والعمرة أما قضاء الحجة فظاهر, وأما قضاء العمرة فلفوات الحج في ذلك العام. وهل يلزمهما الافتراق في القضاء؟ قال أصحابنا الثلاثة: لا يلزمهما ذلك لكنهما إن خافا المعاودة يستحب لهما أن يفترقا. وقال زفر ومالك والشافعي: يفترقان واحتجوا بما روينا من قول جماعة من الصحابة رضي الله عنهم يفترقان؛ ولأن الاجتماع فيه خوف الوقوع في الجماع ثانيا فيجب التحرز عنه بالافتراق ثم اختلفوا في مكان الافتراق قال مالك: إذا خرجا من بلدهما يفترقان حسما للمادة. وقال الشافعي: إذا بلغا الموضع الذي جامعها فيه؛ لأنهما يتذكران ذلك فربما يقعان فيه وقال زفر: يفترقان عند الإحرام لأن الإحرام؛ هو الذي حظر عليه الجماع. فأما قبل ذلك فقد كان مباحا, ولنا أنهما زوجان, والزوجية علة الاجتماع لا الافتراق. وأما ما ذكروا من خوف الوقوع, يبطل بالابتداء فإنه لم يجب الافتراق في الابتداء مع خوف الوقوع, وقول الشافعي: "يتذكران ما فعلا فيه" فاسد؛ لأنهما قد يتذكران, وقد لا يتذكران إذ ليس كل من يفعل فعلا في مكان يتذكر ذلك الفعل إذا وصل إليه, ثم إن كانا يتذكران ما فعلا فيه يتذكران ما لزمهما من وبال فعلهما فيه أيضا فيمنعهما ذلك عن الفعل, ثم يبطل هذا بلبس المخيط والتطيب فإنه إذا لبس المخيط أو تطيب حتى لزمه الدم يباح له إمساك الثوب المخيط والتطيب, وإن كان ذلك يذكره لبس المخيط والتطيب, فدل أن الافتراق ليس بلازم لكنه

 

ج / 2 ص -219-       مندوب إليه ومستحب عند خوف الوقوع فيما وقعا فيه, وعلى هذا يحمل قول الصحابة رضي الله عنهم يفترقان, والله الموفق هذا إذا كان مفردا بالحج فأما إذا كان قارنا, فالقارن إذا جامع فإن كان قبل الوقوف وقبل الطواف للعمرة أو قبل الكثرة فسدت عمرته وحجته, وعليه دمان لكل واحد منهما شاة, وعليه المضي فيهما وإتمامهما على الفساد وعليه قضاؤهما ويسقط عنه دم القران. أما فساد العمرة فلوجود الجماع قبل الطواف وأنه مفسد للعمرة كما في حال الانفراد. وأما فساد الحجة؛ فلحصول الجماع قبل الوقوف بعرفة وأنه مفسد للحج كما في حال الانفراد, وأما وجوب الدمين فلأن القارن محرم بإحرامين عندنا, فالجماع حصل جناية على إحرامين فأوجب نقصا في العبادتين فيوجب كفارتين كالمقيم إذا جامع في رمضان. وأما لزوم المضي فيهما فلما ذكرنا أن وجوب الإحرام عقد لازم, وأما وجوب قضائهما؛ فلإفسادهما فيقتضي عمرة مكان عمرة وحجة, مكان حجة وأما سقوط دم القران عنه؛ فلأنه أفسدهما, والأصل أن القارن إذا فسد حجه وعمرته أو أفسد أحدهما يسقط عنه دم القران؛ لأن وجوبه ثبت شكرا, لنعمة الجمع بين القربتين وبالفساد بطل معنى القربة فسقط الشكر ولو جامع بعد ما طاف لعمرته أو طاف أكثره وهو أربعة أشواط أو بعد ما طاف لها وسعى قبل الوقوف بعرفة فسدت حجته ولا تفسد عمرته أما فساد حجته فلما ذكرنا وهو حصول الجماع قبل الوقوف بعرفة. وأما عدم فساد عمرته فلحصول الجماع بعد وقوع الفراغ من ركنها فلا يوجب فسادها كما في حال الانفراد, وعليه دمان: أحدهما لفساد الحجة بالجماع والآخر لوجود الجماع في إحرام العمرة؛ لأن إحرام العمرة باق عليه, وعليه المضي فيهما وإتمامهما لما ذكرنا, وعليه قضاء الحج دون العمرة؛ لأن الحجة هي التي فسدت دون العمرة, ويسقط عنه دم القران؛ لأنه فسد أحدهما وهو الحج ولو جامع بعد طواف العمرة وبعد الوقوف بعرفة فلا يفسد حجه ولا عمرته أما عدم فساد الحج؛ فلأن الجماع وجد بعد الوقوف بعرفة وإنه لا يفسد الحج. وأما عدم فساد العمرة؛ فلأنه جامع بعد الفراغ من ركن العمرة, وعليه إتمامها لأنه لما وجب إتمامها على الفساد فعلى الصحة, والجواز أولى وعليه بدنة وشاة, البدنة لأجل الجماع بعد الوقوف, والشاة لأن الإحرام للعمرة باق, والجماع في إحرام العمرة يوجب الشاة وههنا لا يسقط عنه دم القران؛ لأنه لم يوجد فساد الحج والعمرة ولا فساد أحدهما, فأمكن إيجاب الدم شكرا, فإن جامع مرة بعد أخرى فهو على ما ذكرنا من التفصيل في المفرد بالحج أنه إن كان في مجلس واحد فلا يجب عليه غير ذلك, وإن كان في مجلس آخر, فعليه دمان على الاختلاف الذي ذكرنا. فإن جامع أول مرة بعد الحلق قبل الطواف للزيارة فعليه بدنة وشاة؛ لأن القارن يتحلل من الإحرامين معا ولم يحل له النساء بعد إحرام الحجة فكذا في إحرام العمرة كما يقع له التحلل من غير النساء بالحلق فيهما جميعا ولو جامع بعد ما طاف طواف الزيارة كله أو أكثره, فلا شيء عليه لأنه قد حل له النساء فلم يبق له الإحرام رأسا إلا إذا طاف طواف الزيارة قبل الحلق والتقصير, فعليه شاتان لبقاء الإحرام لهما جميعا وروى ابن سماعة عن محمد في الرقيات فيمن طاف طواف الزيارة جنبا أو على غير وضوء وطاف أربعة أشواط طاهرا, ثم جامع النساء قبل أن يعيده قال محمد: أما في القياس فلا شيء ولكن أبا حنيفة استحسن فيما إذا طاف جنبا ثم جامع ثم أعاده طاهرا أنه يوجب عليه دما وكذا قول أبي يوسف وقولنا: "وجه" القياس أنه قد صح من مذهب أصحابنا أن الطهارة ليست بشرط لجواز الطواف, وإذا لم تكن شرطا فقد وقع التحلل بطوافه, والجماع بعد التحلل من الإحرام لا يوجب الكفارة "وجه" الاستحسان أنه إذا أعاده وهو طاهر فقد انفسخ الطواف الأول على طريق بعض مشايخ العراق وصار طوافه المعتبر هو الثاني؛ لأن الجناية توجب نقصانا فاحشا فتبين أن الجماع كان حاصلا قبل الطواف فيوجب الكفارة بخلاف ما إذا طاف على غير وضوء؛ لأن النقصان هناك يسير فلم ينفسخ الأول فبقي جماعه بعد التحلل, فلا يوجب الكفارة. وذكر ابن سماعة عن محمد في الرقيات فيمن طاف أربعة أشواط من طواف الزيارة في جوف الحجر, أو فعل ذلك في طواف العمرة ثم جامع أنه تفسد العمرة, وعليه

 

ج / 2 ص -220-       عمرة مكانها وعليه في الحج بدنة؛ لأن الركن في الطواف أكثر الأشواط وهو أربعة فإذا طاف في جوف الحجر فلم يأت بأكثر الأشواط فحصل الجماع قبل الطواف, وروى ابن سماعة عن محمد فيمن فاته الحج فجامع أنه يمضي على إحرامه وعليه دم للجماع, والقضاء للفوات أما وجوب المضي فلبقاء الإحرام وأما وجوب الدم بالجماع فلوجود الجماع في الإحرام وليس عليه قضاء العمرة؛ لأن هذا تحلل بمثل أفعال العمرة, وليس بعمرة بل هو بقية أفعال حج قد وجب قضاؤه بخلاف العمرة المبتدأة, والله أعلم وأما المتمتع إذا جامع فحكمه حكم المفرد بالحج والمفرد بالعمرة؛ لأنه يحرم بعمرة أولا ثم يحرم بحجة, وقد ذكرنا حكم المفرد بالحجة, وسنذكر إن شاء الله تعالى حكم المفرد بالعمرة في موضعه.

"فصل": وأما بيان ما يفوت الحج بعد الشروع فيه بفواته وبيان حكمه إذا فات بعد الشروع فيه, فالحج بعد الشروع فيه لا يفوت إلا بفوات الوقوف بعرفة؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة" فمن وقف بعرفة فقد تم حجه, والاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه جعل الحج الوقوف بعرفة فإذا وجد فقد وجد الحج والشيء الواحد في زمان واحد لا يكون موجودا وفائتا, والثاني أنه جعل تمام الحج الوقوف بعرفة, وليس المراد منه التمام الذي هو ضد النقصان لأن ذلك لا يثبت بالوقوف وحده, فيدل أن المراد منه خروجه عن احتمال الفوات, وقول النبي صلى الله عليه وسلم "من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج" جعل مدرك الوقوف بعرفة مدركا للحج, والمدرك لا يكون فائتا وأما حكم فواته بعد الشروع فيه فيتعلق بفواته بعد الشروع فيه أحكام منها: أنه يتحلل من إحرامه بعمل العمرة, وهو الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة والحلق أو التقصير إن كان مفردا بالحج, ويجب عليه ذلك لما روى الدارقطني بإسناده عن عبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من فاته عرفة بليل فقد فاته الحج فليحل بعمرة من غير دم وعليه الحج من قابل". وعن عمر وزيد بن ثابت وعبد الله بن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا فيمن فاته الحج: يحل بعمل العمرة من غير هدي, وعليه الحج من قابل ثم اختلف أصحابنا فيما يتحلل به فائت الحج من الطواف أنه يلزمه ذلك بإحرام الحج أو بإحرام العمرة قال أبو حنيفة ومحمد: بإحرام الحج. وقال أبو يوسف: بإحرام العمرة, وينقلب إحرامه إحرام عمرة, واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الدارقطني "فليحل بعمرة" سماه عمرة ولا عمرة إلا بإحرام العمرة, فدل أن إحرامه ينقلب إحرام عمرة, ولأن المؤدى أفعال العمرة, فكانت عمرة, ولهما قول الصحابة رضي الله عنهم يحل بعمل العمرة أضاف العمل إلى العمرة, والشيء لا يضاف إلى نفسه هو الأصل, ولأنه أحرم بالحج لا بالعمرة حقيقة؛ لأنه مفرد بالحج, واعتبار الحقيقة أصل في الشرع, فالقول بانقلاب إحرام الحج إحرام العمرة تغيير الحقيقة من غير دليل مع أن الإحرام عقد لازم لا يحتمل الانفساخ, وفي الانقلاب انفساخ, وهذا لا يجوز, والدليل على صحة ما ذكرنا أن فائت الحج لو كان من أهل مكة يتحلل بالطواف كما يتحلل أهل الآفاق, ولا يلزمه الخروج إلى الحل. ولو انقلب إحرامه إحرام عمرة وصار معتمرا للزمه الخروج إلى الحل وهو التنعيم أو غيره وكذا فائت الحج إذا جامع ليس عليه قضاء العمرة, ولو كان عمرة لوجب عليه قضاؤه كالعمرة المبتدأة فيثبت بما ذكرنا من الدلائل أن إحرامه بالحج لم ينقلب إحرام عمرة, وبه تبين أن المؤدى ليس أفعال العمرة بل مثل أفعال العمرة تؤدى بإحرام الحجة, والحديث محمول على عمل العمرة توفيقا بين الدليلين ومنها أن عليه الحج من قابل لما روينا من الحديث وقول الصحابة رضي الله عنهم, ولأنه إذا فاته الحج من هذه السنة بعد الشروع فيه بقي الواجب عليه على حاله فيلزمه الإتيان به, ولا دم على فائت الحج عندنا وقال الحسن بن زياد عليه دم, وبه أخذ الشافعي. "وجه" قول الحسن "أنه يتحلل قبل وقت التحلل فيلزمه دم كالمحصر" ولنا ما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا فيمن فاته الحج: يحل بعمرة من غير هدي. وكذا في حديث الدارقطني جعل

 

ج / 2 ص -221-       النبي صلى الله عليه وسلم التحلل والحج من قابل كل الحكم في فائت الحج بقوله "من فاته الوقوف بعرفة بليل فقد فاته الحج وليحل بعمرة وعليه الحج من قابل" فمن ادعى زيادة الدم فقد جعل الكل بعضا وهو نسخ أو تغيير فلا بد له من دليل, وقوله "تحلل قبل الوقوف" مسلم لكن بأفعال العمرة وهو فائت الحج, والتحلل بأفعال العمرة من فائت الحج كالهدي في حق المحصر, وليس على فائت الحج طواف الصدر؛ لأنه طواف عرف وجوبه في الشرع بعد الفراغ من الحج على ما قال النبي صلى الله عليه وسلم "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف" وهذا لم يحج فلا يجب عليه.
وإن كان فائت الحج قارنا فإنه يطوف للعمرة ويسعى لها ثم يطوف طوافا آخر؛ لفوات الحج ويسعى له ويحلق أو يقصر, وقد بطل عنه دم القران, أما الطواف للعمرة والسعي لها فلأن القارن محرم بعمرة وحجة, والعمرة لا تفوت, لأن جميع الأوقات وقتها, فيأتي بها كما يأتي المدرك للحج. وأما الطواف والسعي للحج, فلأن الحجة قد فاتته في هذه السنة بعد الشروع فيها, وفائت الحج بعد الشروع فيه لا يتحلل بأفعال العمرة فيطوف ويسعى ويحلق أو يقصر. وأما سقوط دم القران يجب للجمع بين العمرة والحج ولم يوجد فلا يجب ويقطع التلبية إذا أخذ من الطواف الذي يتحلل به على ما ذكرنا فيما تقدم, وإن كان متمتعا ساق الهدي بطل تمتعه, ويصنع كما يصنع القارن؛ لأن دم المتعة يجب للجمع بين العمرة والحجة, ولم يوجد الجمع لأن الحجة فاتته.

"فصل": وأما بيان حكم فوات الحج عن العمرة فنقول: من عليه الحج إذا مات قبل أدائه فلا يخلو إما إن مات من غير وصية, وإما إن مات عن وصية, فإن مات من غير وصية يأثم بلا خلاف. أما على قول من يقول بالوجوب على الفور فلا يشكل, وأما على قول من يقول بالوجوب على التراخي, فلأن الوجوب يضيق عليه في آخر العمر في وقت يحتمل الحج, وحرم عليه التأخير فيجب عليه أن يفعل بنفسه إن كان قادرا, وإن كان عاجزا عن الفعل بنفسه عجزا مقررا, ويمكنه الأداء بماله بإنابة غيره مناب نفسه بالوصية فيجب عليه أن يوصي به, فإن لم يوص به حتى مات أثم بتفويته الفرض عن وقته مع إمكان الأداء في الجملة فيأثم لكن يسقط عنه في حق أحكام الدنيا عندنا حتى لا يلزم الوارث الحج عنه من تركته لأنه عبادة, والعبادات تسقط بموت من عليه سواء كانت بدنية أو مالية في حق أحكام الدنيا عندنا. وعند الشافعي لا تسقط ويؤخذ من تركته قدر ما يحج به ويعتبر ذلك من جميع المال, وهذا على الاختلاف في الزكاة والصوم والعشر والنذور والكفارات ونحو ذلك, وقد ذكرنا المسألة في كتاب الزكاة وإن أحب الوارث أن يحج عنه حج, وأرجو أن يجزيه ذلك إن شاء الله تعالى كذا ذكر أبو حنيفة أما الجواز فلما روي "أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال يا رسول الله: إن أمي ماتت ولم تحج أفأحج عنها فقال: نعم" فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم حج الرجل عن أمه, ولم يستفسر أنها ماتت عن وصية أو لا عن وصية. ولو كان الحكم يختلف لاستفسر. وأما قران الاستثناء بالإجزاء فلأن الحج كان واجبا على الميت قطعا, والواجب على الإنسان قطعا لا يسقط إلا بدليل موجب للسقوط قطعا, والموجب لسقوط الحج عن الميت بفعل الوارث بغير أمره من أخبار الآحاد, وخبر الواحد يوجب علم العمل لا علم الشهادة؛ لاحتمال عدم الثبوت وإن كان احتمالا مرجوحا لكن الاحتمال المرجوح يعتبر في علم الشهادة, وإن كان لا يعتبر في علم العمل فعلق الإجزاء والسقوط بمشيئة الله تعالى احترازا عن الشهادة على الله تعالى من غير علم قطعي, وهذا من كمال الورع والاحتياط في دين الله تعالى, ولأن الظاهر من حال من عليه الحج إذا عجز عن الأداء بنفسه حتى أدركه الموت وله مال أنه يأمر وارثه بالحج عنه تفريغا لذمته عن عهدة الواجب, فكانت الوصية موجودة دلالة, والثابت دلالة كالثابت نصا لكن ألحق الاستثناء به؛ لاحتمال العدم, فإن قيل لو كان الأمر على ما ذكرتم هلا ألحق الاستثناء بكل ما يثبت بخبر الواحد؟ فالجواب أنك أبعدت في القياس إذ لا كل خبر يرد بمثل هذا الحكم وهو سقوط الفرض, ومحل سقوط الاستثناء هذا, فإن ثبت الإطلاق منه في مثله في موضع من غير تصريح بالاستثناء فذلك لوجود النية منه عليه في الحج فتقع

 

ج / 2 ص -222-       الغنية عن الإفصاح به في كل موضع وإن مات عن وصية لا يسقط الحج عنه. ويجب أن يحج عنه؛ لأن الوصية بالحج قد صحت. وإذا حج عنه يجوز عند استجماع شرائط الجواز. وهي نية الحج عنه, وأن يكون الحج بمال الموصي أو بأكثره إلا تطوعا, وأن يكون راكبا لا ماشيا لما ذكرنا فيما تقدم ويحج عنه من ثلث ماله سواء قيد الوصية بالثلث بأن يحج عنه بثلث ماله, أو أطلق بأن أوصى أن يحج عنه أما إذا قيد فظاهر. وكذا إذا أطلق؛ لأن الوصية تنفذ من الثلث ويحج عنه من بلده الذي يسكنه؛ لأن الحج مفروض عليه من بلده فمطلق الوصية ينصرف إليه, ولهذا قال محمد: رحمه الله روى ابن رستم عنه في خراساني أدركه الموت بمكة فأوصى أن يحج عنه من خراسان, وروى هشام عن أبي يوسف في مكي قدم الري فحضره الموت فأوصى أن يحج عنه حج عنه من مكة, فإن أوصى أن يقرن عنه قرن عنه من الري؛ لأنه لا قران لأهل مكة فتحمل الوصية على ما يصح وهو القران من حيث مات هذا إذا كان ثلث المال يبلغ أن يحج عنه من بلده حج عنه, فإن كان لا يبلغ يحج من حيث يبلغ استحسانا. وكذا إذا أوصى أن يحج عنه بمال سمى مبلغه إن كان يبلغ أن يحج عنه من بلده حج عنه, وإلا فيحج عنه من حيث يبلغ استحسانا, والقياس أن تبطل الوصية؛ لأنه تعذر تنفيذها على ما قصده الموصي, وهذا يوجب بطلان الوصية كما إذا أوصى بعتق نسمة فلم يبلغ ثلث المال ثمن النسمة. "وجه" الاستحسان أن غرض الموصي من الوصية بالحج تفريغ ذمته عن عهدة الواجب, وذلك في التصحيح لا في الإبطال. ولو حمل ذلك على الوصية بالحج من بلده لبطلت, ولو حمل على الوصية من حيث يبلغ لصحت فيحمل عليه تصحيحا لها, وفي الوصية بعتق النسمة تعذر التصحيح أصلا ورأسا فبطلت فإن خرج من بلده إلى بلد أقرب من مكة, فإن كان خرج لغير الحج حج عنه من بلده في قولهم جميعا. وإن كان خرج للحج فمات في بعض الطريق وأوصى أن يحج عنه, فكذلك في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد يحج عنه من حيث بلغ "وجه" قولهما أن قدر ما قطع من المسافة في سفره بنية الحج معتد به من الحج لم يبطل بالموت؛ لقوله تعالى {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ} فسقط عنه ذلك القدر من فرض الحج, وبقي عليه إتمامه ولأبي حنيفة أن القدر الموجود من السفر يعتبر لكن في حق أحكام الآخرة وهو الثواب لا في حق أحكام الدنيا؛ لأن ذلك يتعلق بأداء الحج, ولم يتصل به الأداء فبطل بالموت في حق أحكام الدنيا, وإن لم يبطل به في حق أحكام الآخرة, وكلامنا في حق أحكام الدنيا ولو خرج للحج فأقام في بعض البلاد حتى دارت السنة ثم مات وقد أوصى أن يحج عنه يحج عنه من بلده بلا خلاف أما عند أبي حنيفة فظاهر. وأما عندهما فلأن ذلك السفر لم يتصل به عمل الحجة التي سافر لها فلم يعتد به عن الحج. وإن كان ثلث ماله لا يبلغ أن يحج به عنه إلا ماشيا فقال رجل أنا أحج عنه من بلده ماشيا روى هشام عن محمد رحمه الله أنه لا يجزيه به ولكن يحج عنه من حيث يبلغ راكبا وروى الحسن عن أبي حنيفة إن أحجوا عنه من بلده ماشيا جاز, وإن أحجوا من حيث يبلغ راكبا جاز, وأصل هذه المسألة أن الموصي بالحج إذا اتسعت نفقته للركوب فأحجوا عنه ماشيا لم يجز؛ لأن المفروض هو الحج راكبا فإطلاق الوصية ينصرف إلى ذلك كأنه أوصاه بذلك. وقال أحجوا عني راكبا. ولو كان كذلك لا يجوز ماشيا كذا هذا "وجه" رواية الحسن إن فرض الحج له تعلق بالركوب وله تعلق ببلده, ولا يمكن مراعاتهما جميعا, وفي كل واحد منهما كمال من وجه ونقصان من وجه فيجوز أيهما كان, وإن كان ثلث ماله لا يبلغ أن يحج عنه من بلده فحج عنه من موضع يبلغ, وفضل من الثلث وتبين أنه كان يبلغ من موضع أبعد منه يضمنه الوصي ويحج عن الميت من حيث يبلغ؛ لأنه تبين أنه خالف إلا إذا كان الفاضل شيئا يسيرا من زاد أو كسوة, فلا يكون مخالفا ولا ضامنا ويرد الفضل إلى الورثة؛ لأن ذلك ملكهم, وإن كان للموصي وطنان فأوصى أن يحج عنه من أقرب الوطنين؛ لأن الأقرب دخل في الوصية بيقين وفي دخول الأبعد شك فيؤخذ باليقين, وفيما ذكرنا من المسائل التي وجب الحج من بلده إذا أحج الوصي من غير بلده يكون ضامنا ويكون الحج له ويحج

 

ج / 2 ص -223-       عن الميت ثانيا؛ لأنه خالف إلا إذا كان المكان الذي أحج عنه قريبا إلى وطنه بحيث يبلغ إليه ويرجع إلى الوطن قبل الليل فحينئذ لا يكون مخالفا ولا ضامنا, ويكون كاختلاف المحل. ولو مات في محلة فأحجوا عنه من محلة أخرى جاز كذا هذا فإن قال الموصي أحجوا عنى بثلث مالي, وثلث ماله يبلغ حججا حج عنه حججا كذا روى القدوري في شرحه مختصر الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه إذا أوصى أن يحج عنه بثلث ماله وثلث ماله, يبلغ حججا يحج عنه حجة واحدة من وطنه وهي حجة الإسلام إلا إذا أوصى أنه يحج عنه بجميع الثلث فيحج عنه حججا بجميع الثلث, وما ذكره القاضي أثبت؛ لأن الوصية بالثلث وبجميع الثلث واحد؛ لأن الثلث اسم لجميع هذا السهم, ثم الوصي بالخيار إن شاء أحج عنه الحجج في سنة واحدة, وإن شاء أحج عنه في كل سنة واحدة, والأفضل أن يكون في سنة واحدة؛ لأن فيه تعجيل تنفيذ الوصية, والتعجيل في هذا أفضل من التأخير وإن أوصى أن يحج عنه من موضع كذا من غير بلده يحج عنه من ثلث ماله من ذلك الموضع الذي بين قرب من مكة أو بعد عنها؛ لأن الإحجاج لا يجوز إلا بأمره فيتقدر بقدر أمره. وما فضل في يد الحاج عن الميت بعد النفقة في ذهابه ورجوعه فإنه يرده على الورثة لا يسعه أن يأخذ شيئا مما فضل؛ لأن النفقة لا تصير ملكا للحاج بالإحجاج, وإنما ينفق قدر ما يحتاج إليه في ذهابه وإيابه على حكم ملك الميت؛ لأنه لو ملك إنما يملك, بالاستئجار والاستئجار على الطاعات لا يجوز عندنا فكان الفاضل ملك الورثة فيجب عليه رده إليهم. ولو قاسم الورثة وعزل قدر نفقة الحج ودفع بقية التركة إلى الورثة فهلك المعزول في يد الوصي أو في يد الحاج قبل الحج بطلت القسمة في قول أبي حنيفة, وهلك ذلك القدر من الجملة ولا تبطل الوصية ويحج له من ثلث المال الباقي حتى يحصل الحج أو ينوي المال في قول أبي حنيفة, وجعل أبو حنيفة الحج بمنزلة الموصى له الغائب, وقسمة الوصي مع الورثة على الموصى له الغائب لا يجوز حتى لو قاسم مع الورثة وعزل نصيب الموصى له ثم هلك في يده قبل أن يصل إلى الموصى له الغائب يهلك من الجملة ويأخذ الموصى له ثلث الباقي كذلك الحج. وعند أبي يوسف إن بقي من ثلث ماله شيء يحج عنه مما بقي من ثلثه من حيث يبلغ وأنه لم يبق من ثلثه شيء بطلت الوصية وقال محمد: قسمة الوصية جائزة وتبطل الوصية بهلاك المعزول سواء بقي من المعزول شيء أو لم يبق شيء فإن لم يهلك ذلك المال, ولكن مات المجهز في بعض طريق مكة فما أنفق المجهز إلى وقت الموت نفقة مثله فلا ضمان عليه؛ لأنه لم ينفق على الخلاف بل على الوفاق, وما بقي في يد المجهز القياس أن يضم إلى مال الموصي, فيعزل ثلث ماله ويحج عنه من وطنه وهو قول أبي حنيفة وفي الاستحسان يحج بالباقي من حيث تبلغ وهو قولهما.

"فصل": ثم الحج كما هو واجب بإيجاب الله تعالى ابتداء على من استجمع شرائط الوجوب وهو حجة الإسلام فقد يجب بإيجاب الله تعالى لكن بناؤه على وجود سبب الوجوب من العبد وهو النذر بأن يقول لله علي حجة لأن النذر من أسباب الوجوب في العبادات والقرب المقصودة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من نذر أن يطيع الله فليطعه" وكذا لو قال علي حجة فهذا. وقوله: لله علي حجة سواء؛ لأن الحج لا يكون إلا لله تعالى, وسواء كان النذر مطلقا أو معلقا بشرط بأن قال: إن فعلت كذا فلله علي أن أحج حتى يلزمه الوفاء به إذا وجد الشرط, ولا يخرج عنه بالكفارة في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة, وسنذكر إن شاء الله تعالى المسألة في كتاب النذر. ولو قال: لله علي إحرام: أو قال علي إحرام صح وعليه حجة أو عمرة, والتعيين إليه وكذا إذا ذكر لفظا يدل على التزام الإحرام بأن قال: لله علي المشي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة جاز, وعليه حجة أو عمرة ولو قال إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام لم يصح ولا يلزمه شيء في قول أبي حنيفة. وعندهما يصح ويلزمه حجة أو عمرة, ولو قال: إلى الصفا والمروة لا يصح في قولهم جميعا. ولو قال: علي الذهاب إلى بيت الله أو الخروج أو السفر أو الإتيان لا يصح في قولهم, ودلائل هذه المسائل تذكر إن شاء الله في كتاب النذر, فإنه كتاب مفرد, وإنما نذكر ههنا بعض ما يختص بالحج. فإن

 

ج / 2 ص -224-       قال: لله علي هدي أو علي هدي فله الخيار إن شاء ذبح شاة, وإن شاء نحر جزورا, وإن شاء ذبح بقرة؛ لأن اسم الهدي يقع على كل واحد من الأشياء الثلاثة؛ لقوله {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} قيل في التفسير: إن المراد منه الشاة, وإذا كانت الشاة ما استيسر من الهدي فلا بد وأن يكون من الهدي ما لا يكون مستيسرا وهو الإبل والبقر وقد روينا "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لما سئل عن الهدي أدناه شاة", وإذا كانت الشاة أدنى الهدي كان أعلاه الإبل والبقر ضرورة, وقد روي عن علي رضي الله عنه أنه قال الهدي من ثلاثة, والبدنة من اثنين ولأن مأخذ الاسم دليل عليه؛ لأن الهدي اسم لما يهدى, أي: ينقل ويحول, وهذا المعنى يوجد في الغنم كما يوجد في الإبل والبقر ويجوز سبع البدنة عن الشاة لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "البدنة تجزئ عن سبعة والبقرة تجزئ عن سبعة" ولو قال: لله علي بدنة فإن شاء نحر جزورا, وإن شاء ذبح بقرة عندنا وقال الشافعي لا يجوز إلا الجزور "وجه" قوله أن البدنة في اللغة اسم للجمل, والدليل عليه قوله تعالى {وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ثم فسرها بالإبل بقوله عز وجل {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ} أي: قائمة مصطفة, والإبل هي التي تنحر كذلك. فأما البقر فإنها تذبح مضجعة وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "البدنة تجزئ عن سبعة والبقرة تجزئ عن سبعة". حتى قال جابر "نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ميز بين البدنة والبقرة" فدل أنهما غيران. "ولنا" ما روينا عن علي رضي الله عنه أنه قال: "الهدي من ثلاثة والبدنة من اثنين" وهذا نص وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا سأله وقال: إن رجلا صاحبا لنا أوجب على نفسه بدنة أفتجزيه البقرة؟ فقال له ابن عباس: رضي الله عنه مم صاحبكم؟ قال من بني رباح فقال متى اقتنت بنو رباح البقر, إنما البقر للأزد وإنما وهم صاحبكم الإبل. ولو لم يقع اسم البدنة على البقر لم يكن لسؤاله معنى ولما سأله, فقد أوقع الاسم على الإبل والبقر لكن أوجب على الناذر الإبل؛ لإرادته ذلك ظاهرا؛ ولأن البدنة مأخوذة من البدانة وهي الضخامة وأنها توجد فيهما, ولهذا استويا في الجواز عن سبعة, ولا حجة له في الآية؛ لأن فيها جواز إطلاق اسم البدنة على الإبل, ونحن لا ننكر ذلك. وأما قوله: إنه وقع التمييز بين البدنة والبقرة في الحديث فممنوع؛ لأن ذكر البقرة ما خرج على التمييز بل على التأكيد كما في قوله عز وجل {وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ}, وكما في قول القائل جاءني أهل قرية كذا فلان وفلان على أن ظاهر العطف إن أول على التغيير والتسوية بينهما في جواز كل واحد منهما عن سبعة يدل على الاتحاد في المعنى ولا حجة مع التعارض ولو قال: لله علي جزور فعليه أن ينحر بعيرا؛ لأن اسم الجزور لا يقع إلا على الإبل.
ويجوز إيجاب الهدي مطلقا ومعلقا بشرط بأن يقول إن فعلت كذا فلله علي هدي. ولو قال هذه الشاة هدي إلى بيت الله أو إلى الكعبة أو إلى مكة أو إلى الحرم أو إلى المسجد الحرام أو إلى الصفا والمروة, فالجواب فيه كالجواب في قوله: علي المشي إلى بيت الله تعالى أو إلى كذا وكذا على الاتفاق والاختلاف. ولو أوجب على نفسه أن يهدي مالا بعينه من الثياب وغيرها مما سوى النعم جاز, وعليه أن يتصدق به أو بقيمته, والأفضل أن يتصدق على فقراء مكة. ولو تصدق بالكوفة جاز. وأما في النعم من الإبل والبقر والغنم فلا يجوز ذبحه إلا في الحرم فيذبح في الحرم ويتصدق بلحمه على فقراء مكة وهو الأفضل. ولو تصدق على غير فقراء مكة جاز كذا ذكر في الأصل, وإنما كان كذلك؛ لأن معنى القربة في الثياب في عينها وهو التصدق بها, والصدقة لا تختص بمكان كسائر الصدقات. فأما معنى القربة في الهدي من النعم في الإراقة شرعا, والإراقة لم تعرف قربة في الشرع إلا في مكان مخصوص أو زمان مخصوص, والشرع أوجب الإراقة ههنا في الحرم بقوله تعالى
{هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} حتى إذا ذبح الهدي جاز له أن يتصدق بلحمه على فقراء غير أهل مكة؛ لأنه لما صار لحما صار معنى القربة فيه في الصدقة كسائر الأموال. ولو جعل شاة هديا أجزأه أن يهدي قيمتها في رواية أبي سليمان, وفي رواية أبي حفص لا يجوز. "وجه" رواية أبي سليمان اعتبار البدنة

 

ج / 2 ص -225-       بالأمر, ثم فيما أمر الله تعالى من إخراج الزكاة من الغنم يجوز إخراج القيمة فيه كذا في النذور "وجه" رواية أبي حفص أن القربة تعلقت بشيئين: إراقة الدم والتصدق باللحم ولا يوجد في القيمة إلا أحدهما وهو التصدق ويجوز ذبح الهدايا في أي موضع شاء من الحرم ولا يختص بمنى, ومن الناس من قال لا يجوز إلا بمنى, والصحيح قولنا لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "منى كلها منحر وفجاج مكة كلها منحر" وعن ابن عمر رضي الله عنه أنه قال: "الحرم كله منحر" وقد ذكرنا أن المراد من قوله عز وجل {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} الحرم وأما البدنة إذا أوجبها بالنذر, فإنه ينحرها حيث شاء إلا إذا نوى أن ينحر بمكة, فلا يجوز نحرها إلا بمكة, وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: أرى أن ينحر البدن بمكة؛ لقوله عز وجل {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أي, الحرم "ولهما" أنه ليس في لفظ البدنة ما يدل على امتياز المكان؛ لأنه مأخوذ من البدانة وهي الضخامة يقال: بدن الرجل, أي ضخم وقد قيل في بعض وجوه التأويل لقوله تعالى {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ} أن: تعظيمها استسمانها, ولو أوجب جزءا فهو من الإبل خاصة, ويجوز أن ينحر في الحرم وغيره ويتصدق بلحمه ويجوز ذبح الهدايا قبل أيام النحر والجملة فيه أن دم النذر والكفارة, وهدي التطوع يجوز قبل أيام النحر, ولا يجوز دم المتعة والقران والأضحية, ويجوز دم الإحصار في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يجوز وأدنى السن الذي يجوز في الهدايا ما يجوز في الضحايا, وهو الثني من الإبل والبقر والمعز والجذع من الضأن إذا كان عظيما وبيان ما يجوز في ذلك وما لا يجوز من بيان شرائط الجواز موضعه كتاب الأضحية ولا يحل الانتفاع بظهرها وصوفها ولبنها إلا في حال الاضطرار لقوله تعالى {لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ} قيل في بعض وجوه التأويل: لكم فيها منافع من ظهورها وألبانها وأصوافها إلى أجل مسمى أي: إلى أن تقلد وتهدى {ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, أي ثم محلها إذا قلدت وأهديت إلى البيت العتيق؛ لأنها ما لم تبلغ محلها, فالقربة في التصدق بها فإذا بلغت محلها فحينئذ تتعين القربة فيها بالإرادة, فإن قيل روي "أن رجلا كان يسوق بدنة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم اركبها ويحك فقال: إنها بدنة يا رسول الله فقال: اركبها ويحك" وقيل: ويحك كلمة ترحم وويلك كلمة تهدد, فقد أباح رسول الله صلى الله عليه وسلم ركوب الهدي, والجواب أنه روي أن الرجل كان قد أجهده السير فرخص له النبي صلى الله عليه وسلم. وعندنا يجوز الانتفاع بها في مثل تلك الحالة ببدل؛ لأنه يجوز الانتفاع بملك الغير في حالة الاضطرار ببدل, وكذا في الهدايا إذا ركبها وحمل عليها للضرورة يضم ما نقصها الحمل والركوب وينضح ضرعها؛ لأنه إذا لم يجز له الانتفاع بلبنها فلبنها يؤذيها فينضح بالماء حتى يتقلص ويرقى لبنها, وما حلب قبل ذلك يتصدق به إن كان قائما, وإن كان مستهلكا يتصدق بقيمته؛ لأن اللبن جزء من أجزائها فيجب صرفه إلى القربة كما لو ولدت ولدا إنها تذبح ويذبح ولدها كذا هذا فإن عطب الهدي في الطريق قبل أن يبلغ محله فإن كان واجبا نحره, وهو لصاحبه يصنع به ما شاء وعليه هدي مكانه, وإن كان تطوعا نحره وغمس نعله بدمه ثم ضرب صفحة سنامه, وخلى بينه وبين الناس يأكلونه, ولا يأكل هو بنفسه, ولا يطعم أحدا من الأغنياء. والفرق بين الواجب والتطوع أنه إذا كان واجبا, فالمقصود منه إسقاط الواجب فإذا انصرف من تلك الجهة كان له أن يفعل به ما شاء, وعليه هدي آخر مكانه؛ لأن الأول لما لم يقع عن الواجب التحق بالعدم, فبقي الواجب في ذمته بخلاف التطوع؛ ولأن القربة قد تعينت فيه, وليس عليه غير ذلك, وإنما قلنا أنه ينحره ويفعل به ما ذكرنا؛ لما ذكرنا ولما روي "عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث هديا على يد ناجية بن جندب الأسلمي فقال: يا رسول الله إن أزحف منها, أي قامت من الإعياء, وفي رواية قال ما أفعل بما يقوم علي؟ فقال النبي: صلى الله عليه وسلم انحرها واصبغ نعلها بدمها ثم اضرب به صفحة سنامها, وخل بينها وبين الفقراء ولا تأكل منها أنت ولا أحد من رفقتك" وإنما لا يحل له أن يأكل منها, وله أن يطعم الأغنياء؛ لأن القربة كانت في ذبحه إذا بلغ محله فإذا لم يبلغ كانت القربة في التصدق

 

ج / 2 ص -226-       ولا يجب عليه مكانه آخر؛ لأنه لم يكن واجبا عليه ويتصدق بجلالها وخطامها لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال لعلي رضي الله عنه تصدق بجلالها وخطامها ولا تعط الجزار منها شيئا" ولا يجوز له أن يأكل من دم النذر شيئا. وجملة الكلام فيه أن الدماء نوعان نوع يجوز لصاحب الدم أن يأكل منه وهو دم المتعة والقران والأضحية, وهدي التطوع إذا بلغ محله. ونوع لا يجوز له أن يأكل منه وهو دم النذر والكفارات وهدي الإحصار وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله؛ لأن الدم في النوع الأول دم شكر فكان نسكا فكان له أن يأكل منه, ودم النذر دم صدقة وكذا دم الكفارة في معناه؛ لأنه وجب تكفير الذنب. وكذا دم الإحصار؛ لوجود التحلل والخروج من الإحرام قبل أوانه, وهدي التطوع إذا لم يبلغ محله بمعنى القربة في التصدق به فكان دم صدقة, وكل دم يجوز له أن يأكل منه لا يجب عليه التصدق بلحمه بعد الذبح؛ لأنه لو وجب عليه التصدق به لما جاز أكله؛ لما فيه من إبطال حق الفقراء, وكل ما لا يجوز له أن يأكل منه يجب عليه التصدق به بعد الذبح؛ لأنه إذا لم يجز له أكله ولا يتصدق به يؤدي إلى إضاعة المال. وكذا لو هلك المذبوح بعد الذبح لا ضمان عليه في النوعين؛ لأنه لا صنع له في الهلاك, وإن استهلكه بعد الذبح, فإن كان مما يجب عليه التصدق به يضمن قيمته فيتصدق بها؛ لأنه تعلق به حق الفقراء فبالاستهلاك تعدى على حقهم فيضمن قيمته ويتصدق بها؛ لأنها بدل أصل مال واجب التصدق به. وإن كان مما لا يجب التصدق به لا يضمن شيئا؛ لأنه لم يوجد منه التعدي بإتلاف حق الفقراء لعدم تعلق حقهم به. ولو باع اللحم يجوز بيعه في النوعين جميعا؛ لأن ملكه قائم إلا أن فيما لا يجوز له أكله ويجب عليه التصدق به يتصدق بثمنه؛ لأن ثمنه مبيع واجب التصدق به, لتعلق حق الفقراء به فيتمكن في ثمنه حنث فكان سبيله التصدق به والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما العمرة فالكلام فيها يقع في مواضع في بيان صفتها أنها واجبة أم لا؟ وفي بيان شرائط وجوبها إن كانت واجبة, وفي بيان ركنها وفي بيان شرائط الركن وفي بيان واجباتها وفي بيان سننها وفي بيان ما يفسدها وفي بيان حكمها إذا فسدت. "أما" الأول فقد اختلف فيها قال أصحابنا: إنها واجبة كصدقة الفطر والأضحية والوتر, ومنهم من أطلق اسم السنة, وهذا الإطلاق لا ينافي الواجب وقال الشافعي: إنها فريضة. وقال بعضهم: هي تطوع واحتج هؤلاء بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "الحج مكتوب والعمرة تطوع" وهذا نص وعن جابر رضي الله عنه "أن رجلا قال: يا رسول الله العمرة أهي واجبة؟ قال: لا وأن تعتمر خير لك" واحتج الشافعي بقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} والأمر للفرضية وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "العمرة هي الحجة الصغرى", وقد ثبت فرضية الحج بنص الكتاب العزيز ولنا على الشافعي قوله تعالى {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} ولم يذكر العمرة؛ لأن مطلق اسم الحج لا يقع على العمرة فمن قال: إنها فريضة فقد زاد على النص, فلا يجوز إلا بدليل. وكذا حديث الأعرابي الذي جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأله عن الإيمان والشرائع فبين له الإيمان وبين له الشرائع, ولم يذكر فيها العمرة" فقال الأعرابي: هل علي شيء غير هذا؟ فقال النبي "صلى الله عليه وسلم: لا إلا أن تطوع" فظاهره يقتضي انتقاء فريضة العمرة. وأما الآية الكريمة فلا دلالة فيها على فرضية العمرة؛ لأنها قرئت برفع العمرة "والعمرة لله" وأنه كلام تام بنفسه غير معطوف على الأمر بالحج أخبر الله تعالى أن العمرة لله ردا لزعم الكفرة؛ لأنهم كانوا يجعلون العمرة للأصنام على ما كانت عبادتهم من الإشراك. وأما على قراءة العامة فلا حجة له فيها أيضا؛ لأن فيها أمر بإتمام العمرة, وإتمام الشيء يكون بعد الشروع, فيه وبه نقول أنها بالشروع تصير فريضة مع ما أنه روي عن علي وابن مسعود رضي الله عنهما أنهما قالا في تأويل الآية: إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك على أن هذا إن كان أمرا بإنشاء العمرة فما الدليل على أن مطلق الأمر يفيد الفرضية بل الفرضية عندنا ثبتت بدليل زائد وراء نفس الأمر, وإنما يحمل على الوجوب احتياطا وبه نقول: إن العمرة واجبة, ولكنها ليست بفريضة وتسميتها حجة صغرى في الحديث يحتمل أن يكون في حكم الثواب؛ لأنها ليست بحجة حقيقة

 

ج / 2 ص -227-       ألا ترى أنها عطفت على الحجة في الآية, والشيء لا يعطف على نفسه في الأصل, ويقال: حج فلان وما اعتمر على أن وصفها بالصغر دليل انحطاط رتبتها عن الحج, فإذا كان الحج فرضا فيجب أن تكون هي واجبة؛ ليظهر الانحطاط إذ الواجب دون الفرض, وإطلاق اسم التطوع عليها في الحديث يصلح حجة على الشافعي لا علينا؛ لأنه يقول بفرضية العمرة, والتطوع لا يحتمل أن يكون فرضا, ونحن نقول بوجوب العمرة, والواجب ما يحتمل أن يكون فرضا. ويحتمل أن يكون تطوعا, فكان إطلاق اسم التطوع صحيحا على أحد الاحتمالين وليس للفرض هذا الاحتمال فلا يصح الإطلاق, وقول السائل في الحديث السابق "أهي واجبة ؟" محمول على الفرض إذ هو الواجب على الإطلاق عملا واعتقادا عينا, فقول النبي صلى الله عليه وسلم لا نفي له, وبه نقول "وأما" شرائط وجوبها فهي شرائط وجوب الحج؛ لأن الواجب ملحق بالفرض في حق الأحكام, وقد ذكرنا ذلك في فصل الحج وأما" ركنها فالطواف لقوله عز وجل {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}؛ ولإجماع الأمة عليه "وأما" شرائط الركن فما ذكرنا في الحج إلا الوقت, فإن السنة كلها وقت العمرة, وتجوز في غير أشهر الحج وفي أشهر الحج لكنه يكره فعلها في يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق. أما الجواز في الأوقات كلها فلقوله تعالى {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} مطلقا عن الوقت وقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "ما اعتمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عمرة إلا شهدتها وما اعتمر إلا في ذي القعدة" وعن عمران بن حصين رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر مع طائفة من أهله في عشر ذي الحجة" فدل الحديثان على أن جوازها في أشهر الحج وما روي عن عمر رضي الله عنه أنه كان ينهى عنها في أشهر الحج فهو محمول على نهي الشفقة على أهل الحرم لئلا يكون الموسم في وقت واحد من السنة بل في وقتين لتوسع المعيشة على أهل الحرم إلا أنه يكره في الأيام الخمسة عندنا في ظاهر الرواية, وروي عن أبي يوسف أنه لا يكره يوم عرفة قبل الزوال. وقال الشافعي: لا يكره في هذه الأيام أيضا, واحتج بما تلونا من هذه الآية وبما روينا من الحديثين؛ لأنه دخل يوم عرفة ويوم النحر فيها "وجه" رواية أبي يوسف, أن ما قبل الزوال من يوم عرفة ليس وقت الوقوف, فلا يشغله عن الوقوف في وقته, ولنا ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "وقت العمرة السنة كلها إلا يوم عرفة ويوم النحر وأيام التشريق" والظاهر أنها قالت سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه باب لا يدرك بالاجتهاد, ولأن هذه الأيام أيام شغل الحاج بأداء الحج, والعمرة فيها تشغلهم عن ذلك وربما يقع الخلل فيه فيكره, ولا حجة له فيما ذكر؛ لأن ذلك يدل على الجواز وبه نقول, وإنما الكلام في الكراهة والجواز لا ينفيها, وقد قام دليل الكراهة وهو ما ذكرنا. وكذا يختلفان في الميقات في حق أهل مكة فميقاتهم للحج من دويرة أهلهم, وللعمرة من الحل التنعيم أو غيره, ومحظورات العمرة ما هو محظورات الحج, وحكم ارتكابها في العمرة ما هو الحكم في الحج, وقد مضى بيان ذلك كله في الحج "وأما" واجباتها فشيئان: السعي بين الصفا والمروة, والحلق أو التقصير. فأما طواف الصدر فلا يجب على المعتمر, وقال الحسن بن زياد يجب عليه كذا ذكر الكرخي وجه قوله: إن طواف الصدر طواف الوداع والمعتمر يحتاج إلى الوداع, كالحاج, ولنا أن الشرع علق طواف الصدر بالحج بقول النبي صلى الله عليه وسلم "من حج هذا البيت فليكن آخر عهده به الطواف" "وأما" سننها فما ذكرنا في الحج غير أنه إذا استلم الحجر يقطع التلبية عند أول شوط من الطواف عند عامة العلماء. وقال مالك: إن كان إحرامه للعمرة من المدينة يقطع التلبية إذا دخل الحرم, وإن كان إحرامه لها من مكة يقطع إذا وقع بصره على البيت, والصحيح قول العامة لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يلبي في العمرة حتى يستلم الحجر" وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم "أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر ثلاث عمر في ذي القعدة وكان يلبي في ذلك حتى يستلم الحجر" ولأن استلام الحجر نسك ودخول الحرم ووقوع البصر على البيت ليس بنسك فقطع التلبية عندنا هو نسك أولى, ولهذا يقطع التلبية في الحج عند الرمي؛ لأنه نسك كذا هذا والله أعلم.

 

ج / 2 ص -228-       وأما" بيان ما يفسدها وبيان حكمها إذا فسدت فالذي يفسدها الجماع لكن عند وجود شرط كونه مفسدا, وذلك شيئان أحدهما الجماع في الفرج لما ذكرنا في الحج, والثاني أن يكون قبل الطواف كله أو أكثره, وهو أربعة أشواط؛ لأن ركنها الطواف, فالجماع حصل قبل أداء الركن فيفسدها كما لو حصل قبل الوقوف بعرفة في الحج, وإذا فسدت يمضي فيها ويقضيها وعليه شاة لأجل الفساد عندنا. وقال الشافعي: بدنة كما في الحج فإن جامع بعد ما طاف أربعة أشواط أو بعد ما طاف الطواف كله قبل السعي أو بعد الطواف والسعي قبل الحلق لا تفسد عمرته؛ لأن الجماع حصل بعد أداء الركن, وعليه دم لحصول الجماع في الإحرام, وإن جامع بعد الحلق لا شيء عليه لخروجه عن الإحرام بالحلق فإن جامع ثم جامع فهو على التفصيل والاتفاق والاختلاف الذي ذكرنا في الحج والله الموفق