بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع
"كتاب الحج"
الكتاب يشتمل على فصلين: فصل في الحج, وفصل في
العمرة أما فصل الحج: فالكلام فيه يقع في
مواضع في بيان فرضية الحج وفي بيان كيفية
فرضه, وفي بيان شرائط الفرضية وفي بيان أركان
الحج, وفي بيان واجباته, وفي بيان سننه, وفي
بيان الترتيب في أفعاله من الفرائض,
والواجبات, والسنن, وفي بيان شرائط أركانه,
وفي بيان ما يفسده وبيان حكمه إذا فسد, وفي
بيان ما يفوت الحج بعد الشروع فيه وفي بيان
حكمه إذا فات عن عمره أصلا, ورأسا أما الأول:
فالحج فريضة ثبتت فرضيته بالكتاب, والسنة,
وإجماع الأمة والمعقول. أما الكتاب: فقوله
تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً}, في
الآية دليل وجوب الحج من وجهين: أحدهما أنه
قال
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}, وعلى: كلمة إيجاب والثاني أنه قال تعالى:
{وَمَنْ كَفَرَ}
قيل في التأويل: ومن كفر بوجوب الحج حتى روي
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال: أي ومن كفر
بالحج فلم ير حجه برا, ولا تركه مأثما وقوله
تعالى لإبراهيم عليه الصلاة والسلام:
{وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ} أي:
ادع الناس ونادهم إلى حج البيت, وقيل: أي أعلم
الناس أن الله فرض عليهم الحج, دليله قوله
تعالى:
{يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ} وأما السنة: فقوله صلى الله عليه وسلم:
"بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله, وإقام الصلاة, وإيتاء
الزكاة, وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه
سبيلا". وقوله صلى الله عليه وسلم:
"اعبدوا ربكم وصلوا خمسكم, وصوموا شهركم, وحجوا بيت ربكم, وأدوا زكاة
أموالكم طيبة بها أنفسكم تدخلوا جنة ربكم". وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال:
"من مات ولم يحج حجة الإسلام من غير أن يمنعه سلطان جائر, أو مرض حابس,
أو عدو ظاهر, فليمت إن شاء يهوديا, وإن شاء
نصرانيا, أو مجوسيا". وروي أنه قال:
"من ملك زادا وراحلة تبلغه إلى بيت الله
الحرام فلم يحج, فلا عليه أن يموت يهوديا أو
نصرانيا". وأما
الإجماع: فلأن الأمة أجمعت على فرضيته. وأما
المعقول: فهو أن العبادات وجبت لحق العبودية,
أو لحق شكر النعمة إذ كل ذلك لازم في المعقول
وفي الحج إظهار العبودية, وشكر النعمة, أما
إظهار العبودية؛ فلأن إظهار العبودية هو إظهار
التذلل للمعبود, وفي الحج ذلك؛ لأن الحاج في
حال إحرامه يظهر الشعث, ويرفض أسباب التزين,
والارتفاق, ويتصور بصورة عبد سخط عليه مولاه,
فيتعرض بسوء حاله لعطف مولاه, ومرحمته إياه,
وفي حال وقوفه بعرفة بمنزلة عبد عصى مولاه
فوقف بين يديه متضرعا حامدا له مثنيا عليه
مستغفرا لزلاته مستقيلا لعثراته, وبالطواف حول
البيت يلازم المكان المنسوب إلى ربه بمنزلة
عبد معتكف على باب مولاه لائذ بجنابه. وأما
شكر النعمة؛ فلأن العبادات بعضها بدنية,
وبعضها مالية, والحج عبادة لا تقوم إلا
بالبدن, والمال؛ ولهذا لا يجب إلا عند وجود
المال وصحة البدن, فكان فيه شكر النعمتين,
وشكر النعمة ليس إلا استعمالها
ج / 2 ص -119-
في
طاعة المنعم, وشكر النعمة واجب عقلا, وشرعا,
والله أعلم.
"فصل": وأما كيفية فرضه
فمنها: أنه فرض عين لا فرض كفاية فيجب على كل
من استجمع شرائط الوجوب عينا لا يسقط بإقامة
البعض عن الباقين بخلاف الجهاد فإنه فرض كفاية
إذا قام به البعض سقط عن الباقين؛ لأن الإيجاب
تناول كل واحد من آحاد الناس عينا, والأصل أن
الإنسان لا يخرج عن عهدة ما عليه إلا بأدائه
بنفسه إلا إذا حصل المقصود منه بأداء غيره,
كالجهاد, ونحوه, وذلك لا يتحقق في الحج.
ومنها: أنه لا يجب في العمر إلا مرة واحدة
بخلاف الصلاة, والصوم, والزكاة, فإن الصلاة
تجب في كل يوم, وليلة خمس مرات, والزكاة,
والصوم يجبان في كل سنة مرة واحدة؛ لأن الأمر
المطلق بالفعل لا يقتضي التكرار لما عرف في
"أصول الفقه", والتكرار في باب الصلاة,
والزكاة, والصوم ثبت بدليل زائد لا بمطلق
الأمر, ولما روي أنه "لما نزلت آية الحج سأل
الأقرع بن حابس رضي الله عنه رسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال يا رسول الله الحج في كل
عام أو مرة واحدة؟ فقال عليه الصلاة والسلام:
مرة واحدة,
وفي رواية قال: لما نزلت آية الحج ألعامنا هذا
يا رسول الله أم للأبد؟ فقال:
للأبد"
ولأنه عبادة لا تتأدى إلا بكلفة عظيمة, ومشقة
شديدة بخلاف سائر العبادات فلو, وجب في كل
عام؛ لأدى إلى الحرج, وأنه منفي شرعا, ولأنه
إذا لم يمكن أداؤه إلا بحرج لا يؤدى فيلحق
المأثم, والعقاب إلى هذا أشار النبي صلى الله
عليه وسلم "لما سأله الأقرع بن حابس, وقال:
ألعامنا هذا أم للأبد؟ فقال عليه الصلاة
والسلام: للأبد, ولو قلت في كل عام لوجب, ولو وجب ثم تركتم لضللتم" واختلف في وجوبه على الفور, والتراخي, ذكر الكرخي: أنه على الفور
حتى يأثم بالتأخير عن أول أوقات الإمكان, وهي
السنة الأولى عند استجماع شرائط الوجوب, وذكر
أبو سهل الزجاجي الخلاف في المسألة بين أبي
يوسف, ومحمد فقال في قول أبي يوسف: يجب على
الفور, وفي قول محمد: على التراخي, وهو قول
الشافعي. وروي عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف.
وروي عنه مثل قول محمد, وجه قول محمد: أن الله
تعالى فرض الحج في وقت مطلقا؛ لأن قوله تعالى
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً} مطلق
عن الوقت ثم بين, وقت الحج بقوله "عز وجل":
{الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أي: وقت الحج أشهر معلومات فصار المفروض هو الحج في أشهر الحج
مطلقا من العمر فتقييده بالفور تقييد المطلق,
ولا يجوز إلا بدليل. وروي أن فتح مكة كان لسنة
ثمان من الهجرة, وحج رسول الله صلى الله عليه
وسلم في سنة العشر, ولو كان وجوبه على الفور
لما احتمل التأخير منه, والدليل عليه: أنه لو
أدى في السنة الثانية أو الثالثة يكون مؤديا
لا قاضيا, ولو كان, واجبا على الفور. وقد فات
الفور فقد فات وقته فينبغي أن يكون قاضيا لا
مؤديا كما لو فاتت صلاة الظهر عن وقتها, وصوم
رمضان عن وقته. ولهما أن الأمر بالحج في وقته
مطلق يحتمل الفور, ويحتمل التراخي, والحمل على
الفور أحوط؛ لأنه إذا حمل عليه يأتي بالفعل
على الفور ظاهرا وغالبا خوفا من الإثم
بالتأخير, فإن أريد به الفور فقد أتى بما أمر
به فأمن الضرر, وإن أريد به التراخي لا يضره
الفعل على الفور بل ينفعه؛ لمسارعته إلى
الخير, ولو حمل على التراخي ربما لا يأتي به
على الفور, بل يؤخر إلى السنة الثانية,
والثالثة فتلحقه المضرة إن أريد به الفور, وإن
كان لا يلحقه إن أريد به التراخي, فكان الحمل
على الفور حملا على أحوط الوجهين فكان أولى,
وهذا قول إمام الهدى الشيخ أبي منصور
الماتريدي في كل أمر مطلق عن الوقت أنه يحمل
على الفور لكن عملا لا اعتقادا على طريق
التعيين أن المراد منه الفور أو التراخي بل
يعتقد أن ما أراد الله تعالى به من الفور,
والتراخي فهو حق, وروينا عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"من ملك زادا, وراحلة تبلغه إلى بيت الله الحرام فلم يحج فلا عليه أن
يموت يهوديا أو نصرانيا"
ألحق الوعيد بمن أخر الحج عن أول أوقات
الإمكان؛ لأنه قال: من ملك كذا فلم يحج,
والفاء للتعقيب بلا فصل أي لم يحج عقيب ملك
الزاد, والراحلة بلا فصل, وأما طريق عامة
المشايخ فإن للحج وقتا معينا من السنة يفوت عن
تلك السنة بفوات ذلك الوقت, فلو أخره عن السنة
الأولى. وقد يعيش إلى السنة الثانية. وقد لا
يعيش فكان التأخير عن السنة الأولى تفويتا له
للحال؛ لأنه لا يمكنه الأداء للحال إلى أن
يجيء, وقت الحج من السنة الثانية, وفي إدراكه
السنة الثانية شك, فلا يرتفع الفوات الثابت
للحال بالشك, والتفويت
ج / 2 ص -120-
حرام.
وأما قوله: إن الوجوب في الوقت ثبت مطلقا عن
الفور فمسلم لكن المطلق يحتمل الفور, ويحتمل
التراخي, والحمل على الفور أولى لما بينا,
ويجوز تقييد المطلق عند قيام الدليل, وأما
تأخير رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج عن
أول أوقات الإمكان فقد قيل إنه كان لعذر له,
ولا كلام في حال العذر يدل على أنه لا خلاف في
أن التعجيل أفضل, والرسول صلى الله عليه وسلم:
لا يترك الأفضل إلا لعذر على أن المانع من
التأخير هو احتمال الفوات, ولم يكن في تأخيره
ذلك فوات لعلمه من طريق الوحي أنه يحج قبل
موته قال الله تعالى:
{لَقَدْ
صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ
الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ}.
والثنيا للتيمن, والتبرك أو لما أن الله تعالى
خاطب الجماعة. وقد علم أن بعضهم يموت قبل
الدخول, وأما قوله لو أدى في السنة الثانية
كان مؤديا لا قاضيا فإنما كان كذلك؛ لأن أثر
الوجوب على الفور عملا في احتمال الإثم
بالتأخير عن أول الوقت في الإمكان لا في إخراج
السنة الثانية, والثالثة من أن يكون, وقتا
للواجب كما في باب الصلاة, وهذا؛ لأن وجوب
التعجيل إنما كان تحرزا عن الفوات فإذا عاش
إلى السنة الثانية, والثالثة فقد زال احتمال
الفوات فحصل الأداء في وقته كما في باب
الصلاة, والله أعلم.
"فصل": وأما شرائط فرضيته فنوعان: نوع يعم الرجال, والنساء ونوع يخص
النساء أما الذي يعم الرجال, والنساء فمنها:
البلوغ, ومنها العقل فلا حج على الصبي,
والمجنون؛ لأنه لا خطاب عليهما فلا يلزمهما
الحج حتى لو حجا, ثم بلغ الصبي, وأفاق المجنون
فعليهما حجة الإسلام, وما فعله الصبي قبل
البلوغ يكون تطوعا. وقد روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"أيما صبي حج عشر حجج ثم بلغ فعليه حجة الإسلام". ومنها الإسلام في حق أحكام الدنيا بالإجماع حتى لو حج الكافر ثم
أسلم يجب عليه حجة الإسلام, ولا يعتد بما حج
في حال الكفر. وقد روي عن رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"أيما أعرابي حج, ولو عشر حجج فعليه حجة
الإسلام إذا هاجر" يعني أنه إذا حج قبل الإسلام ثم أسلم, ولأن الحج عبادة, والكافر
ليس من أهل العبادة. وكذا لا حج على الكافر في
حق أحكام الآخرة عندنا حتى لا يؤاخذ بالترك
وعند الشافعي ليس بشرط ويجب على الكافر حتى
يؤاخذ بتركه في الآخرة وأصل المسألة أن الكفار
لا يخاطبون بشرائع هي: عبادات عندنا, وعنده
يخاطبون بذلك, وهذا يعرف في أصول الفقه, ولا
حجة له في قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً}؛ لأن
المراد منه المؤمنون بدليل سياق الآية, وهو
قوله:
{وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ
الْعَالَمِينَ}, وبدليل عقلي يشمل الحج, وغيره من العبادات, وهو أن الحج عبادة,
والكافر ليس من أهل أداء العبادة, ولا سبيل
إلى الإيجاب لقدرته على الأداء بتقديم الإسلام
لما فيه من جعل المتبوع تبعا, والتبع متبوعا,
وأنه قلب الحقيقة على ما بينا في "كتاب
الزكاة" وتخصيص العام بدليل عقلي جائز. ومنها
الحرية فلا حج على المملوك لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما عبد حج عشر
حجج فعليه حجة الإسلام إذا أعتق", ولأن الله
تعالى شرط الاستطاعة لوجوب الحج بقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً}, ولا استطاعة بدون ملك الزاد, والراحلة لما نذكر إن شاء الله
تعالى, ولا ملك للعبد؛ لأنه مملوك فلا يكون
مالكا بالإذن فلم يوجد شرط الوجوب, وسواء أذن
له المولى بالحج أو لا؛ لأنه لا يصير مالكا
إلا بالإذن فلم يجب الحج عليه فيكون ما حج في
حال الرق تطوعا, ولأن ما روينا من الحديث لا
يفصل بين الإذن, وعدم الإذن, فلا يقع حجه عن
حجة الإسلام بحال بخلاف الفقير لأنه لا يجب
الحج عليه في الابتداء ثم إذا حج بالسؤال من
الناس يجوز ذلك عن حجة الإسلام حتى لو أيسر لا
يلزمه حجة أخرى؛ لأن الاستطاعة بملك الزاد,
والراحلة, ومنافع البدن شرط الوجوب؛ لأن الحج
يقام بالمال, والبدن جميعا, والعبد لا يملك
شيئا من ذلك فلم يجب عليه ابتداء, وانتهاء,
والفقير يملك منافع نفسه إذ لا ملك لأحد فيها
إلا أنه ليس له ملك الزاد, والراحلة وإنه شرط
ابتداء الوجوب, فامتنع الوجوب في الابتداء
فإذا بلغ مكة, وهو يملك منافع بدنه فقد قدر
على الحج بالمشي, وقليل زاد فوجب عليه الحج,
فإذا أدى وقع عن حجة الإسلام, فأما العبد
فمنافع بدنه ملك مولاه ابتداء, وانتهاء ما دام
عبدا فلا يكون قادرا على الحج ابتداء, وانتهاء
فلم يجب عليه, ولهذا قلنا: إن الفقير إذا حضر
القتال يضرب له بسهم كامل كسائر من فرض عليه
القتال, وإن كان لا يجب
ج / 2 ص -121-
عليه
الجهاد ابتداء, والعبد إذا شهد الوقعة لا يضرب
له بسهم الحر بل يرضخ له, وما افترقا إلا لما
ذكرنا, وهذا بخلاف العبد إذا شهد الجمعة, وصلى
أنه يقع فرضا, وإن كان لا تجب عليه الجمعة في
الابتداء؛ لأن منافع العبد مملوكة للمولى,
والعبد محجور عن التصرف في ملك مولاه نظرا
للمولى إلا قدر ما استثني عن ملكه من الصلوات
الخمس, فإنه مبقى فيها على أصل الحرية لحكمة
الله تعالى في ذلك, وليس في ذلك كبير ضرر
بالمولى؛ لأنها تتأدى بمنافع البدن في ساعات
قليلة, فيكون فيه نفع العبد من غير ضرر
بالمولى, فإذا حضر الجمعة, وفاتت المنافع بسبب
السعي فيعد ذلك الظهر, والجمعة سواء, فنظر
المالك في جواز الجمعة إذ لو لم يجز له ذلك
يجب عليه أداء الظهر ثانيا فيزيد الضرر في حق
المولى بخلاف الحج, والجهاد فإنهما لا يؤديان
إلا بالمال, والنفس في مدة طويلة, وفيه ضرر
بالمولى بفوات ماله, وتعطيل كثير من منافع
العبد فلم يجعل مبقى على أصل الحرية في حق
هاتين العبادتين, ولو قلنا بالجواز عن الفرض
إذا وجد من العبد يتبادر العبيد إلى الأداء
لكون الحج عبادة مرغوبة. وكذا الجهاد فيؤدي
إلى الإضرار بالمولى, فالشرع حجر عليهم, وسد
هذا الباب نظرا بالمولى حتى لا يجب إلا بملك
الزاد, والراحلة, وملك منافع البدن. ولو أحرم
الصبي ثم بلغ قبل الوقوف بعرفة فإن مضى على
إحرامه, يكون حجه تطوعا عندنا, وعند الشافعي:
يكون عن حجة الإسلام إذا وقف بعرفة, وهو بالغ,
وهذا بناء على أن من عليه حجة الإسلام إذا نوى
النفل يقع عن النفل عندنا, وعنده يقع عن
الفرض, والمسألة تأتي في موضعها إن شاء الله
تعالى, ولو جدد الإحرام بأن لبى أو نوى حجة
الإسلام, ووقف بعرفة وطاف طواف الزيارة يكون
عن حجة الإسلام بلا خلاف. وكذا المجنون إذا
أفاق, والكافر إذا أسلم قبل الوقوف بعرفة فجدد
الإحرام, ولو أحرم العبد ثم عتق فأحرم بحجة
الإسلام بعد العتق لا يكون ذلك عن حجة الإسلام
بخلاف الصبي, والمجنون, والكافر, والفرق أن
إحرام الكافر, والمجنون لم ينعقد أصلا لعدم
الأهلية, وإحرام الصبي العاقل وقع صحيحا, لكنه
غير لازم لكونه غير مخاطب فكان محتملا
للانتقاض فإذا جدد الإحرام بحجة الإسلام انتقض
فأما إحرام العبد, فإنه وقع لازما لكونه أهلا
للخطاب فانعقد إحرامه تطوعا فلا يصح إحرامه
الثاني إلا بفسخ الأول, وإنه لا يحتمل
الانفساخ. ومنها صحة البدن فلا حج على المريض
والزمن, والمقعد, والمفلوج, والشيخ الكبير
الذي لا يثبت على الراحلة بنفسه, والمحبوس,
والممنوع من قبل السلطان الجائر عن الخروج إلى
الحج؛ لأن الله تعالى شرط الاستطاعة لوجوب
الحج, والمراد منها استطاعة التكليف, وهي
سلامة الأسباب, والآلات, ومن جملة الأسباب
سلامة البدن عن الآفات المانعة عن القيام بما
لا بد منه في سفر الحج؛ لأن الحج عبادة بدنية,
فلا بد من سلامة البدن, ولا سلامة مع المانع,
وعن ابن عباس رضي الله عنه في قوله عز وجل:
{مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} أن السبيل أن يصح بدن العبد, ويكون له ثمن زاد, وراحلة من غير أن
يحجب, ولأن القرب, والعبادات, وجبت بحق الشكر
لما أنعم الله على المكلف فإذا منع السبب الذي
هو النعمة, وهو سلامة البدن أو المال كيف يكلف
بالشكر, ولا نعمة. وأما الأعمى فقد ذكر في
الأصل عن أبي حنيفة: أنه لا حج عليه بنفسه,
وإن وجد زادا, وراحلة, وقائدا, وإنما يجب في
ماله إذا كان له مال, وروى الحسن عن أبي حنيفة
في الأعمى, والمقعد والزمن أن عليهم الحج
بأنفسهم, وقال أبو يوسف, ومحمد: يجب على
الأعمى الحج بنفسه إذا وجد زادا, وراحلة, ومن
يكفيه مؤنة سفره في خدمته, ولا يجب على الزمن,
والمقعد, والمقطوع. وجه قولهما ما روي "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن
الاستطاعة, فقال: هي الزاد, والراحلة" فسر صلى
الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد, والراحلة,
وللأعمى هذه الاستطاعة فيجب عليه الحج, ولأن
الأعمى يجب عليه الحج بنفسه إلا أنه لا يهتدي
إلى الطريق بنفسه, ويهتدي بالقائد فيجب عليه
بخلاف الزمن, والمقعد, ومقطوع اليد, والرجل؛
لأن هؤلاء لا يقدرون على الأداء بأنفسهم, وجه
رواية الحسن في الزمن, والمقعد: أنهما يقدران
بغيرهما إن كانا لا يقدران بأنفسهما, والقدرة
بالغير كافية لوجوب الحج كالقدرة بالزاد,
والراحلة. وكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم
الاستطاعة: بالزاد, والراحلة, وقد وجدا, وجه
رواية الأصل لأبي حنيفة أن الأعمى لا يقدر على
أداء الحج بنفسه؛ لأنه لا يهتدي إلى الطريق
بنفسه, ولا يقدر على ما لا بد منه في الطريق
ج / 2 ص -122-
بنفسه
من الركوب, والنزول, وغير ذلك. وكذا الزمن,
والمقعد فلم يكونا قادرين على الأداء بأنفسهم
بل بقدرة غير مختار, والقادر بقدرة غير مختار
لا يكون قادرا على الإطلاق؛ لأن فعل المختار
يتعلق باختياره, فلم تثبت الاستطاعة على
الإطلاق, ولهذا لم يجب الحج على الشيخ الكبير
الذي لا يستمسك على الراحلة, وإن كان ثمة غيره
يمسكه لما قلنا كذا هذا, وإنما فسر النبي صلى
الله عليه وسلم الاستطاعة بالزاد, والراحلة
لكونهما من الأسباب الموصلة إلى الحج لا
لاقتصار الاستطاعة عليهما. "ألا ترى": أنه إذا
كان بينه, وبين مكة بحر زاخر لا سفينة ثمة, أو
عدو حائل يحول بينه, وبين الوصول إلى البيت لا
يجب عليه الحج مع وجود الزاد, والراحلة فثبت
أن تخصيص الزاد, والراحلة ليس لاقتصار الشرط
عليهما بل للتنبيه على أسباب الإمكان, فكل ما
كان من أسباب الإمكان يدخل تحت تفسير
الاستطاعة معنى, ولأن في إيجاب الحج على
الأعمى والزمن, والمقعد, والمفلوج, والمريض,
والشيخ الكبير الذي لا يثبت على الراحلة
بأنفسهم حرجا بينا, ومشقة شديدة. وقد قال الله
"عز وجل":
{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}. ومنها ملك الزاد, والراحلة في حق النائي عن مكة, والكلام فيه في
موضعين: أحدهما في بيان أنه من شرائط الوجوب,
والثاني في تفسير الزاد, والراحلة أما الأول,
فقد قال عامة العلماء: إنه شرط فلا يجب الحج
بإباحة الزاد, والراحلة سواء كانت الإباحة ممن
له منة على المباح له, أو كانت ممن لا منة له
عليه كالأب, وقال الشافعي يجب الحج بإباحة
الزاد, والراحلة إذا كانت الإباحة ممن لا منة
له على المباح له, كالوالد بذل الزاد,
والراحلة لابنه, وله في الأجنبي قولان, ولو,
وهبه إنسان مالا يحج به لا يجب على الموهوب له
القبول عندنا, وللشافعي فيه قولان, وقال مالك:
الراحلة ليست بشرط لوجوب الحج أصلا لا ملكا
ولا إباحة, وملك الزاد شرط حتى لو كان صحيح
البدن, وهو يقدر على المشي يجب عليه الحج, وإن
لم يكن له راحلة, أما الكلام مع مالك فهو احتج
بظاهر قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً}, ومن
كان صحيح البدن قادرا على المشي, وله زاد, فقد
استطاع إليه سبيلا فيلزمه فرض الحج. "ولنا" أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة:
بالزاد, والراحلة جميعا فلا تثبت الاستطاعة
بأحدهما, وبه تبين أن القدرة على المشي لا
تكفي لاستطاعة الحج ثم شرط الراحلة إنما يراعى
لوجوب الحج في حق من نأى عن مكة فأما أهل مكة,
ومن حولهم فإن الحج يجب على القوي منهم القادر
على المشي من غير راحلة؛ لأنه لا حرج يلحقه في
المشي إلى الحج كما لا يلحقه الحرج في المشي
إلى الجمعة. وأما الكلام مع الشافعي فوجه
قوله: أن الاستطاعة المذكورة هي القدرة من حيث
سلامة الأسباب, والآلات, والقدرة تثبت
بالإباحة فلا معنى لاشتراط الملك إذ الملك لا
يشترط لعينه بل للقدرة على استعمال الزاد,
والراحلة أكلا, وركوبا, ولذا ثبتت بالإباحة,
ولهذا استوى الملك, والإباحة في "باب الطهارة"
في المنع من جواز التيمم كذا ههنا. "ولنا" أن
استطاعة الأسباب, والآلات لا تثبت بالإباحة؛
لأن الإباحة لا تكون لازمة. ألا ترى: أن
للمبيح أن يمنع المباح له عن التصرف في
المباح, ومع قيام ولاية المنع لا تثبت القدرة
المطلقة فلا يكون مستطيعا على الإطلاق فلم
يوجد شرط الوجوب فلا يجب بخلاف مسألة الطهارة؛
لأن شرط جواز التيمم عدم الماء بقوله تعالى:
{فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيداً طَيِّباً}, والعدم لا يثبت مع البذل, والإباحة. وأما تفسير الزاد, والراحلة
فهو أن يملك من المال مقدار ما يبلغه إلى مكة
ذاهبا, وجائيا راكبا لا ماشيا بنفقة وسط لا
إسراف فيها, ولا تقتير فاضلا عن مسكنه,
وخادمه, وفرسه, وسلاحه, وثيابه, وأثاثه, ونفقة
عياله, وخدمه, وكسوتهم, وقضاء ديونه. وروي عن
أبي يوسف أنه قال: ونفقة شهر بعد انصرافه
أيضا, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه فسر
الراحلة فقال: إذا كان عنده ما يفضل عما ذكرنا
ما يكتري به شق محمل, أو زاملة, أو رأس راحلة,
وينفق ذاهبا, وجائيا, فعليه الحج, وإن لم يكفه
ذلك إلا أن يمشي أو يكتري عقبة, فليس عليه
الحج ماشيا, ولا راكبا عقبة, وإنما اعتبرنا
الفضل على ما ذكرنا من الحوائج؛ لأنها من
الحوائج اللازمة التي لا بد منها فكان المستحق
بها ملحقا بالعدم, وما ذكره بعض أصحابنا في
تقدير نفقة العيال سنة, والبعض شهرا, فليس
بتقدير لازم بل هو على حسب اختلاف المسافة في
القرب, والبعد؛ لأن قدر النفقة يختلف باختلاف
المسافة فيعتبر في ذلك قدر ما يذهب, ويعود إلى
منزله, وإنما لا يجب
ج / 2 ص -123-
عليه
الحج إذا لم يكف ماله إلا للعقبة؛ لأن المفروض
هو الحج راكبا لا ماشيا, والراكب عقبة لا يركب
في كل الطريق بل يركب في البعض, ويمشي في
البعض, وذكر ابن شجاع أنه إذا كانت له دار لا
يسكنها, ولا يؤاجرها, ومتاع لا يمتهنه, وعبد
لا يستخدمه, وجب عليه أن يبيعه, ويحج به, وحرم
عليه أخذ الزكاة إذا بلغ نصابا؛ لأنه إذا كان
كذلك كان فاضلا عن حاجته كسائر الأموال, وكان
مستطيعا فيلزمه فرض الحج فإن أمكنه بيع منزله,
وأن يشتري بثمنه منزلا دونه, ويحج بالفضل فهو
أفضل لكن لا يجب عليه؛ لأنه محتاج إلى سكناه
فلا يعتبر في الحاجة قدر ما لا بد منه كما لا
يجب عليه بيع المنزل, والاقتصار على السكنى,
وذكر الكرخي أن أبا يوسف قال إذا لم يكن له
مسكن, ولا خادم, ولا قوت عياله, وعنده دراهم
تبلغه إلى الحج لا ينبغي أن يجعل ذلك في غير
الحج فإن فعل أثم؛ لأنه مستطيع لملك الدراهم
فلا يعذر في الترك, ولا يتضرر بترك شراء
المسكن, والخادم بخلاف بيع المسكن, والخادم,
فإنه يتضرر ببيعهما, وقوله: "ولا قوت عياله"
مؤول وتأويله: ولا قوت عياله ما يزيد على
مقدار الذهاب, والرجوع. فأما المقدار المحتاج
إليه من وقت الذهاب إلى وقت الرجوع فذلك مقدم
على الحج لما بينا. "ومنها" أمن الطريق, وإنه
من شرائط الوجوب عند بعض أصحابنا بمنزلة
الزاد, والراحلة, وهكذا روى ابن شجاع عن أبي
حنيفة وقال بعضهم: إنه من شرائط الأداء لا من
شرائط الوجوب, وفائدة هذا الاختلاف تظهر في
وجوب الوصية إذا خاف الفوت فمن قال إنه من
شرائط الأداء يقول إنه تجب الوصية إذا خاف
الفوت, ومن قال إنه شرط الوجوب يقول: لا تجب
الوصية؛ لأن الحج لم يجب عليه, ولم يصر دينا
في ذمته فلا تلزمه الوصية, وجه قول من قال:
إنه شرط الأداء لا شرط الوجوب ما روينا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم فسر الاستطاعة
بالزاد, والراحلة, ولم يذكر أمن الطريق, وجه
قول من قال إنه شرط الوجوب, وهو الصحيح: أن
الله تعالى شرط الاستطاعة, ولا استطاعة بدون
أمن الطريق كما لا استطاعة بدون الزاد,
والراحلة إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم بين
الاستطاعة بالزاد, والراحلة بيان كفاية ليستدل
بالمنصوص عليه على غيره لاستوائهما في المعنى,
وهو إمكان الوصول إلى البيت. ألا ترى أنه كما
لم يذكر أمن الطريق لم يذكر صحة الجوارح,
وزوال سائر الموانع الحسية, وذلك شرط الوجوب
على أن الممنوع عن الوصول إلى البيت لا زاد
له, ولا راحلة معه فكان شرط الزاد, والراحلة
شرطا لأمن الطريق ضرورة. "وأما". الذي يخص
النساء فشرطان: أحدهما أن يكون معها زوجها أو
محرم لها فإن لم يوجد أحدهما لا يجب عليها
الحج. وهذا عندنا, وعند الشافعي هذا ليس بشرط,
ويلزمها الحج, والخروج من غير زوج, ولا محرم
إذا كان معها نساء في الرفقة ثقات, واحتج
بظاهر قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً}.
وخطاب الناس يتناول الذكور, والإناث بلا خلاف
فإذا كان لها زاد, وراحلة كانت مستطيعة, وإذا
كان معها نساء ثقات يؤمن الفساد عليها,
فيلزمها فرض الحج. "ولنا" ما روي عن ابن عباس
رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال: ألا
"لا تحجن امرأة إلا ومعها محرم", وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"لا تسافر امرأة ثلاثة أيام إلا ومعها محرم أو زوج" ولأنها إذا لم يكن معها زوج, ولا محرم لا يؤمن عليها إذ النساء لحم
على وضم إلا ما ذب عنه, ولهذا لا يجوز لها
الخروج وحدها. والخوف عند اجتماعهن أكثر,
ولهذا حرمت الخلوة بالأجنبية, وإن كان معها
امرأة أخرى, والآية لا تتناول النساء حال عدم
الزوج, والمحرم معها؛ لأن المرأة لا تقدر على
الركوب, والنزول بنفسها فتحتاج إلى من يركبها,
وينزلها, ولا يجوز ذلك لغير الزوج, والمحرم
فلم تكن مستطيعة في هذه الحالة فلا يتناولها
النص فإن امتنع الزوج أو المحرم عن الخروج لا
يجبران على الخروج, ولو امتنع من الخروج
لإرادة زاد, وراحلة هل يلزمها ذلك؟ ذكر
القدوري في شرحه مختصر الكرخي أنه يلزمها ذلك,
ويجب عليها الحج بنفسها, وذكر القاضي في شرحه
مختصر الطحاوي أنه لا يلزمها ذلك, ولا يجب
الحج عليها وجه ما ذكره القدوري أن المحرم أو
الزوج من ضرورات حجها بمنزلة الزاد, والراحلة
إذ لا يمكنها الحج بدونه كما لا يمكنها الحج
بدون الزاد, والراحلة, ولا يمكن إلزام ذلك
الزوج أو المحرم من مال نفسه فيلزمها ذلك له
كما يلزمها الزاد, والراحلة لنفسها, وجه ما
ذكره القاضي أن هذا من شرائط وجوب الحج عليها,
ولا يجب على الإنسان تحصيل شرط
ج / 2 ص -124-
الوجوب
بل إن وجد الشرط وجب, وإلا فلا. ألا ترى: أن
الفقير لا يلزمه تحصيل الزاد, والراحلة فيجب
عليه الحج, ولهذا قالوا في المرأة التي لا زوج
لها, ولا محرم: إنه لا يجب عليها أن تتزوج بمن
يحج بها كذا هذا, ولو كان معها محرم فلها أن
تخرج مع المحرم في الحجة الفريضة من غير إذن
زوجها عندنا. وعند الشافعي ليس لها أن تخرج
بغير إذن زوجها, وجه قوله أن في الخروج تفويت
حقه المستحق عليها وهو: الاستمتاع بها فلا
تملك ذلك من غير رضاه. "ولنا": أنها إذا وجدت
محرما فقد استطاعت إلى حج البيت سبيلا؛ لأنها
قدرت على الركوب, والنزول وأمنت المخاوف؛ لأن
المحرم يصونها, وأما قوله: "إن حق الزوج في
الاستمتاع يفوت بالخروج إلى الحج ", فنقول:
منافعها مستثناة عن ملك الزوج في الفرائض كما
في الصلوات الخمس, وصوم رمضان, ونحو ذلك حتى
لو أرادت الخروج إلى حجة التطوع فللزوج أن
يمنعها كما في صلاة التطوع, وصوم التطوع,
وسواء كانت المرأة شابة أو عجوزا فإنها لا
تخرج إلا بزوج أو محرم؛ لأن ما روينا من
الحديث لا يفصل بين الشابة, والعجوز. وكذا
المعنى لا يوجب الفصل بينهما لما ذكرنا من
حاجة المرأة إلى من يركبها, وينزلها بل حاجة
العجوز إلى ذلك أشد؛ لأنها أعجز. وكذا يخاف
عليها من الرجال. وكذا لا يؤمن عليها من أن
يطلع عليها الرجال حال ركوبها, ونزولها فتحتاج
إلى الزوج أو إلى المحرم ليصونها عن ذلك,
والله أعلم. ثم صفة المحرم أن يكون ممن لا
يجوز له نكاحها على التأبيد إما بالقرابة, أو
الرضاع, أو الصهرية؛ لأن الحرمة المؤبدة تزيل
التهمة في الخلوة, ولهذا قالوا: إن المحرم إذا
لم يكن مأمونا عليه لم يجز لها أن تسافر معه,
وسواء كان المحرم حرا أو عبدا؛ لأن الرق لا
ينافي المحرمية, وسواء كان مسلما أو ذميا أو
مشركا؛ لأن الذمي, والمشرك يحفظان محارمهما
إلا أن يكون مجوسيا؛ لأنه يعتقد إباحة نكاحها
فلا تسافر معه؛ لأنه لا يؤمن عليها كالأجنبي,
وقالوا في الصبي الذي لم يحتلم, والمجنون الذي
لم يفق: إنهما ليسا بمحرمين في السفر؛ لأنه لا
يتأتى منهما حفظها, وقالوا في الصبية التي لا
يشتهى مثلها: إنها تسافر بغير محرم؛ لأنه يؤمن
عليها فإذا بلغت حد الشهوة لا تسافر بغير
محرم؛ لأنها صارت بحيث لا يؤمن عليها ثم
المحرم أو الزوج إنما يشترط إذا كان بين
المرأة, وبين مكة ثلاثة أيام فصاعدا, فإن كان
أقل من ذلك حجت بغير محرم؛ لأن المحرم يشترط
للسفر, وما دون ثلاثة أيام ليس بسفر فلا يشترط
فيه المحرم كما لا يشترط للخروج من محلة إلى
محلة, ثم الزوج أو المحرم شرط الوجوب أم شرط
الجواز فقد اختلف أصحابنا فيه كما اختلفوا في
أمن الطريق, والصحيح أنه شرط الوجوب لما ذكرنا
في أمن الطريق, والله أعلم. والثاني: أن لا
تكون معتدة عن طلاق أو وفاة؛ لأن الله تعالى
نهى المعتدات بقوله عز وجل:
{لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ}. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه رد المعتدات من ذي
الحليفة. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه أنه ردهن من الجحفة. ولأن الحج يمكن أداؤه
في وقت آخر فأما العدة فإنها إنما يجب قضاؤها
في هذا الوقت خاصة فكان الجمع بين الأمرين
أولى, وإن لزمتها بعد الخروج إلى السفر, وهي
مسافرة فإن كان الطلاق رجعيا لا يفارقها
زوجها؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية,
والأفضل أن يراجعها, وإن كانت بائنا, أو كانت
معتدة عن وفاة, فإن كان إلى منزلها أقل من مدة
سفر, وإلى مكة مدة سفر فإنها تعود إلى منزلها؛
لأنه ليس فيه إنشاء سفر فصار كأنها في بلدها,
وإن كان إلى مكة أقل من مدة سفر, وإلى منزلها
مدة سفر مضت إلى مكة؛ لأنها لا تحتاج إلى
المحرم في أقل من مدة السفر, وإن كان من
الجانبين أقل من مدة السفر فهي بالخيار إن
شاءت مضت, وإن شاءت رجعت إلى منزلها فإن كان
من الجانبين مدة سفر فإن كانت في المصر, فليس
لها أن تخرج حتى تنقضي عدتها في قول أبي
حنيفة, وإن وجدت محرما, وعند أبي يوسف, ومحمد
لها أن تخرج إذا وجدت محرما, وليس لها أن تخرج
بلا محرم بلا خلاف, وإن كان ذلك في المفازة أو
في بعض القرى بحيث لا تأمن على نفسها, ومالها
فلها أن تمضي فتدخل موضع الأمن ثم لا تخرج منه
في قول أبي حنيفة سواء وجدت محرما أو لا,
وعندهما: تخرج إذا وجدت محرما, وهذه من مسائل
"كتاب الطلاق" ونذكرها بدلائلها في فصول العدة
إن شاء الله تعالى. ثم من لم يجب عليه الحج
بنفسه لعذر كالمريض, ونحوه, وله مال يلزمه أن
يحج رجلا عنه, ويجزئه عن حجة الإسلام إذا وجد
شرائط جواز الإحجاج على ما نذكره, ولو تكلف
واحد ممن له عذر فحج بنفسه أجزأه عن حجة
الإسلام إذا كان
ج / 2 ص -125-
عاقلا
بالغا حرا؛ لأنه من أهل الفرض إلا أنه لم يجب
عليه؛ لأنه لا يمكنه الوصول إلى مكة إلا بحرج,
فإذا تحمل الحرج, وقع موقعه كالفقير إذا حج,
والعبد إذا حضر الجمعة فأداها؛ ولأنه إذا وصل
إلى مكة صار كأهل مكة فيلزمه الحج بخلاف
العبد, والصبي, والمجنون فإن العبد, والصبي
ليسا من أهل فرض الحج, والمجنون ليس من أهل
العبادة أصلا, والله أعلم. ثم ما ذكرنا من
الشرائط لوجوب الحج من الزاد, والراحلة, وغير
ذلك يعتبر, وجودها, وقت خروج أهل بلده حتى لو
ملك الزاد, والراحلة في أول السنة قبل أشهر
الحج, وقبل أن يخرج أهل بلده إلى مكة فهو في
سعة من صرف ذلك إلى حيث أحب؛ لأنه لا يلزمه
التأهب للحج قبل خروج أهل بلده؛ لأنه لم يجب
عليه الحج قبله, ومن لا حج عليه لا يلزمه
التأهب للحج فكان بسبيل من التصرف في ماله كيف
شاء, وإذا صرف ماله ثم خرج أهل بلده لا يجب
عليه الحج فأما إذا جاء, وقت الخروج, والمال
في يده فليس له أن يصرفه إلى غيره على قول من
يقول بالوجوب على الفور؛ لأنه إذا جاء وقت
خروج أهل بلده فقد وجب عليه الحج لوجود
الاستطاعة فيلزمه التأهب للحج, فلا يجوز له
صرفه إلى غيره كالمسافر إذا كان معه ماء
للطهارة. وقد قرب الوقت لا يجوز له استهلاكه
في غير الطهارة, فإن صرفه إلى غير الحج أثم,
وعليه الحج, والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما ركن الحج فشيئان: أحدهما. الوقوف بعرفة وهو الركن الأصلي
للحج, والثاني طواف الزيارة. أما الوقوف بعرفة
فالكلام فيه يقع في مواضع في. بيان أنه ركن,
وفي بيان مكانه, وفي بيان زمانه, وفي بيان
مقداره, وفي بيان سننه, وفي بيان حكمه إذا فات
عن وقته أما الأول فالدليل عليه قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ
سَبِيلاً} فسر
النبي صلى الله عليه وسلم الحج بقوله:
"الحج
عرفة" أي الحج الوقوف بعرفة إذ الحج فعل, وعرفة مكان فلا يكون حجا فكان
الوقوف مضمرا فيه فكان تقديره: الحج الوقوف
بعرفة. والمجمل إذا التحق به التفسير يصير
مفسرا من الأصل فيصير كأنه تعالى قال: ولله
على الناس حج البيت, والحج الوقوف بعرفة.
فظاهره يقتضي أن يكون هو الركن لا غير إلا أنه
زيد عليه طواف الزيارة بدليل ثم قال النبي صلى
الله عليه وسلم في سياق التفسير: "من وقف
بعرفة فقد تم حجه" جعل الوقوف بعرفة اسما للحج
فدل أنه ركن, فإن قيل هذا يدل على أن الوقوف
بعرفة واجب, وليس بفرض فضلا عن أن يكون ركنا؛
لأنه علق تمام الحج به, والواجب هو الذي يتعلق
بوجوده التمام لا الفرض, فالجواب أن المراد من
قوله: تم حجه ليس هو التمام الذي هو ضد
النقصان بل خروجه عن احتمال الفساد فقوله:
"فقد تم حجه" أي: خرج من أن يكون محتملا
للفساد بعد ذلك لوجود المفسد حتى لو جامع بعد
ذلك لا يفسد حجه لكن تلزمه الفدية على ما نذكر
إن شاء الله تعالى, وهذا؛ لأن الله تعالى فرض
الحج بقوله:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ
مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الحج: بالوقوف بعرفة فصار الوقوف
بعرفة فرضا, وهو ركن فلو حمل التمام المذكور
في الحديث على التمام الذي هو ضد النقصان لم
يكن فرضا؛ لأنه يوجد الحج بدونه فيتناقض, فحمل
التمام المذكور على خروجه عن احتمال الفساد
عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض, وقوله عز
وجل:
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ} قيل: إن أهل الحرم كانوا لا يقفون بعرفات, ويقولون نحن أهل حرم
الله لا نفيض كغيرنا ممن قصدنا فأنزل الله عز
وجل الآية الكريمة يأمرهم بالوقوف بعرفات,
والإفاضة من حيث أفاض الناس, والناس كانوا
يفيضون من عرفات, وإفاضتهم منها لا تكون إلا
بعد حصولهم فيها فكان الأمر بالإفاضة منها
أمرا بالوقوف بها ضرورة. وروي عن عائشة رضي
الله عنها أنها قالت: "كانت قريش ومن كان على
دينها يقفون بالمزدلفة, ولا يقفون بعرفات
فأنزل الله عز وجل قوله:
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}. وكذا الأمة أجمعت على كون الوقوف ركنا في الحج. وأما مكان الوقوف
فعرفات كلها موقف لقول النبي صلى الله عليه
وسلم: "عرفات كلها موقف إلا بطن عرنة". ولما
روينا من الحديث, وهو قوله صلى الله عليه
وسلم:
"الحج عرفة".
فمن وقف بعرفة فقد تم حجه مطلقا من غير تعيين
موضع دون موضع إلا أنه لا ينبغي أن يقف في بطن
عرنة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن
ذلك, وأخبر أنه وادي الشيطان. وأما زمانه
فزمان الوقوف من حين تزول الشمس من يوم عرفة
إلى طلوع الفجر الثاني من يوم
ج / 2 ص -126-
النحر
حتى لو وقف بعرفة في غير هذا الوقت كان وقوفه,
وعدم وقوفه سواء؛ لأنه فرض مؤقت فلا يتأدى في
غير وقته كسائر الفرائض المؤقتة إلا في حال
الضرورة, وهي حال الاشتباه استحسانا على ما
نذكره إن شاء الله تعالى. وكذا الوقوف قبل
الزوال لم يجز ما لم يقف بعد الزوال, كذا من
لم يدرك عرفة بنهار ولا بليل فقد فاته الحج,
والأصل فيه ما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم: وقف بعرفة بعد الزوال, وقال:
"خذوا عني مناسككم" فكان بيانا لأول الوقت, وقال صلى الله عليه وسلم:
"من أدرك عرفة فقد أدرك الحج, ومن فاته عرفة بليل فقد فاته الحج" وهذا بيان
آخر الوقت فدل أن الوقت يبقى ببقاء الليل,
ويفوت بفواته, وهذا الذي ذكرنا قول عامة
العلماء. وقال مالك: وقت الوقوف هو الليل فمن
لم يقف في جزء من الليل لم يجز وقوفه, واحتج
بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج" علق إدراك
الحج بإدراك عرفة بليل فدل أن الوقوف بجزء من
الليل هو وقت الركن. ولنا ما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"من وقف معنا هذا الموقف, وصلى معنا هذه الصلاة, وكان وقف قبل ذلك
بعرفة ساعة من ليل أو نهار فقد تم حجه, وقضى
تفثه". أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن تمام الحج بالوقوف ساعة من ليل
أو نهار, فدل أن ذلك هو وقت الوقوف غير عين,
وروينا عن النبي صلى الله عليه وسلم. أنه قال:
"من وقف بعرفة
فقد تم حجه" مطلقا عن
الزمان إلا أن زمان ما قبل الزوال, وبعد
انفجار الصبح من يوم النحر ليس بمراد بدليل
فبقي ما بعد الزوال إلى انفجار الصبح مرادا,
ولأن هذا نوع نسك فلا يختص بالليل كسائر أنواع
المناسك, ولا حجة له في الحديث؛ لأن فيه: من
أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج, وليس فيه أن من
لم يدركها بليل ماذا حكمه فكان متعلقا
بالمسكوت فلا يصح, ولو اشتبه على الناس هلال
ذي الحجة فوقفوا بعرفة بعد أن أكملوا عدة ذي
القعدة ثلاثين يوما ثم شهد الشهود أنهم رأوا
الهلال يوم كذا, وتبين أن ذلك اليوم كان يوم
النحر فوقوفهم صحيح, وحجتهم تامة استحسانا,
والقياس: أن لا يصح, وجه القياس أنهم, وقفوا
في غير وقت الوقوف فلا يجوز كما لو تبين أنهم,
وقفوا يوم التروية, وأي فرق بين التقديم,
والتأخير, والاستحسان ما روي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"صومكم يوم تصومون, وأضحاكم يوم تضحون, وعرفتكم يوم تعرفون". وروي:
"وحجكم يوم تحجون". فقد جعل
النبي صلى الله عليه وسلم وقت الوقوف أو الحج,
وقت تقف أو تحج فيه الناس, والمعنى فيه من
وجهين: أحدهما ما قال بعض مشايخنا: أن هذه
شهادة قامت على النفي, وهي نفي جواز الحج,
والشهادة على النفي باطلة, والثاني أن شهادتهم
جائزة مقبولة لكن وقوفهم جائز أيضا؛ لأن هذا
النوع من الاشتباه مما يغلب, ولا يمكن التحرز
عنه فلو لم نحكم بالجواز لوقع الناس في الحرج
بخلاف ما إذا تبين أن ذلك اليوم كان يوم
التروية؛ لأن ذلك نادر غاية الندرة فكان ملحقا
بالعدم, ولأنهم بهذا التأخير بنوا على دليل
ظاهر واجب العمل به, وهو وجوب إكمال العدة إذا
كان بالسماء علة فعذروا في الخطأ بخلاف
التقديم فإنه خطأ غير مبني على دليل رأسا فلم
يعذروا فيه, نظيره إذا اشتبهت القبلة فتحرى,
وصلى إلى جهة ثم تبين أنه أخطأ جهة القبلة
جازت صلاته, ولو لم يتحر, وصلى ثم تبين أنه
أخطأ لم يجز لما قلنا, كذا هذا, وهل يجوز وقوف
الشهود؟ روى هشام عن محمد أنه يجوز وقوفهم,
وحجهم أيضا. وقد قال محمد إذا شهد عند الإمام
شاهدان عشية يوم عرفة برؤية الهلال, فإن كان
الإمام لم يمكنه الوقوف في بقية الليل مع
الناس أو أكثرهم لم يعمل بتلك الشهادة, ووقف
من الغد بعد الزوال؛ لأنهم, وإن شهدوا عشية
عرفة لكن لما تعذر على الجماعة الوقوف في
الوقت, وهو ما بقي من الليل صاروا كأنهم شهدوا
بعد الوقت فإن كان الإمام يمكنه الوقوف قبل
طلوع الفجر مع الناس أو أكثرهم بأن كان يدرك
الوقوف عامة الناس إلا أنه لا يدركه ضعفة
الناس, جاز وقوفه فإن لم يقف فات حجه؛ لأنه
ترك الوقوف في وقته مع علمه به, والقدرة عليه,
قال محمد: فإن اشتبه على الناس فوقف الإمام,
والناس يوم النحر. وقد كان من رأى الهلال وقف
يوم عرفة لم يجزه وقوفه, وكان عليه أن يعيد
الوقوف مع الإمام؛ لأن يوم النحر صار يوم الحج
في حق الجماعة, ووقت الوقوف لا يجوز أن يختلف
فلا يعتد بما فعله بانفراده. وكذا إذا أخر
الإمام الوقوف لمعنى يسوغ فيه الاجتهاد لم يجز
وقوف من وقف قبله, فإن شهد شاهدان عند الإمام
بهلال ذي الحجة فرد شهادتهما؛ لأنه
ج / 2 ص -127-
لا علة
بالسماء, فوقف بشهادتهما قوم قبل الإمام لم
يجز وقوفهم؛ لأن الإمام أخر الوقوف بسبب يجوز
العمل عليه في الشرع, فصار كما لو أخر
بالاشتباه, والله تعالى أعلم. وأما قدره فنبين
القدر المفروض, والواجب أما القدر المفروض من
الوقوف: فهو كينونته بعرفة في ساعة من هذا
الوقت فمتى حصل إتيانها في ساعة من هذا الوقت
تأدى فرض الوقوف سواء كان عالما بها, أو جاهلا
نائما, أو يقظان مفيقا أو مغمى عليه, وقف بها
أو مر, وهو يمشي أو على الدابة أو محمولا؛
لأنه أتى بالقدر المفروض, وهو حصوله كائنا
بها, والأصل فيه ما روينا عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال:
"من وقف بعرفة فقد تم حجه". والمشي, والسير لا يخلو عن وقفة, وسواء نوى الوقوف أو لم ينو
بخلاف الطواف, وسنذكر الفرق في "فصل الطواف"
إن شاء الله وسواء كان محدثا أو جنبا أو حائضا
أو نفساء؛ لأن الطهارة ليست بشرط لجواز
الوقوف؛ لأن حديث الوقوف مطلق عن شرط الطهارة,
ولما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
"قال لعائشة رضي الله عنها حين حاضت:
افعلي ما يفعله الحاج غير أنك لا تطوفي
بالبيت",
ولأنه نسك غير متعلق بالبيت فلا تشترط له
الطهارة كرمي الجمار, وسواء كان قد صلى
الصلاتين أو لم يصل لإطلاق الحديث, ولأن
الصلاتين, وهما: الظهر, والعصر لا تعلق لهما
بالوقوف فلا يكون تركهما مانعا من الوقوف,
والله أعلم. وأما القدر الواجب من الوقوف: فمن
حين تزول الشمس إلى أن تغرب فهذا القدر من
الوقوف واجب عندنا. وعند الشافعي: ليس بواجب
بل هو سنة. بناء على أنه لا فرق بين الفرض,
والواجب, فإذا لم يكن فرضا لم يكن واجبا, ونحن
نفرق بين الفرض, والواجب كفرق ما بين السماء,
والأرض وهو أن الفرض اسم لما ثبت وجوبه بدليل
مقطوع به, والواجب اسم لما ثبت وجوبه بدليل
فيه شبهة العدم على ما عرف في أصول الفقه,
وأصل الوقوف ثبت بدليل مقطوع به, وهو: النص
المفسر من الكتاب, والسنة المتواترة,
والمشهورة, والإجماع على ما ذكرنا فأما الوقوف
إلى جزء من الليل: فلم يقم عليه دليل قاطع بل
مع شبهة العدم أعني: خبر الواحد, وهو ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من أدرك عرفة بليل فقد أدرك الحج". أو غير ذلك من الآحاد التي لا تثبت بمثلها الفرائض فضلا عن
الأركان, وإذا عرف أن الوقوف من حين زوال
الشمس إلى غروبها واجب, فإن دفع منها قبل غروب
الشمس فإن جاوز عرفة بعد الغروب فلا شيء عليه؛
لأنه ما ترك الواجب, وإن جاوزها قبل الغروب
فعليه دم عندنا لتركه الواجب فيجب عليه الدم
كما لو ترك غيره من الواجبات. وعند الشافعي لا
دم عليه؛ لأنه لم يترك الواجب إذ الوقوف
المقدر ليس بواجب عنده, ولو عاد إلى عرفة قبل
غروب الشمس, وقبل أن يدفع الإمام ثم دفع منها
بعد الغروب مع الإمام سقط عنه الدم عندنا لأنه
استدرك المتروك. وعند زفر لا يسقط, وهو على
الاختلاف في مجاوزة الميقات بغير إحرام,
والكلام فيه على نحو الكلام في تلك المسألة,
وسنذكرها إن شاء الله في موضعها, وإن عاد قبل
غروب الشمس بعد ما خرج الإمام من عرفة ذكر
الكرخي أنه يسقط عنه الدم أيضا. وكذا روى ابن
شجاع عن أبي حنيفة أن الدم يسقط عنه أيضا؛
لأنه استدرك المتروك إذ المتروك هو الدفع بعد
الغروب. وقد استدركه, وذكر في الأصل أنه لا
يسقط عنه الدم قال مشايخنا: اختلاف الرواية
لمكان الاختلاف فيما لأجله يجب الدم فعلى
رواية الأصل الدم يجب لأجل دفعه قبل الإمام,
ولم يستدرك ذلك, وعلى رواية ابن شجاع يجب لأجل
دفعه قبل غروب الشمس. وقد استدركه بالعود,
والقدوري اعتمد على هذه الرواية, وقال: هي
الصحيحة, والمذكور في الأصل مضطرب, ولو عاد
إلى عرفة بعد الغروب لا يسقط عنه الدم بلا
خلاف؛ لأنه لما غربت الشمس عليه قبل العود فقد
تقرر عليه الدم الواجب فلا يحتمل السقوط
بالعود, والله الموفق. وأما بيان حكمه إذا فات
فحكمه أنه يفوت الحج في تلك السنة, ولا يمكن
استدراكه فيها؛ لأن ركن الشيء ذاته, وبقاء
الشيء مع فوات ذاته محال.
"فصل": وأما طواف الزيارة فالكلام فيه في مواضع في. بيان أنه ركن وفي بيان
ركنه, وفي بيان شرائطه, وواجباته, وسننه, وفي
بيان مكانه, وفي بيان زمانه, وفي بيان مقداره,
وفي بيان حكمه إذا فات عن أيام النحر أما
الأول فالدليل على أنه ركن قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
والمراد منه طواف الزيارة بالإجماع, ولأنه
تعالى أمر الكل بالطواف
ج / 2 ص -128-
فيقتضي
الوجوب على الكل, وطواف اللقاء لا يجب أصلا,
وطواف الصدر لا يجب على الكل؛ لأنه لا يجب على
أهل مكة فيتعين طواف الزيارة مرادا بالآية,
وقوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}, والحج في اللغة هو: القصد, وفي عرف الشرع هو: زيارة البيت,
والزيارة هي القصد إلى الشيء للتقرب قال
الشاعر:
ألم تعلمي يا أم سعد بأنما
تخاطأني ريب الزمان لأكثرا
وأشهد من عوف حلولا كثيرة
يحجون بيت الزبرقان المزعفرا
وقوله: "يحجون" أي
يقصدون ذلك البيت للتقرب فكان حج البيت هو
القصد إليه للتقرب به, وإنما يقصد البيت
للتقرب بالطواف به فكان الطواف به ركنا,
والمراد به طواف الزيارة لما بينا, ولهذا يسمى
في عرف الشرع: طواف الركن فكان ركنا. وكذا
الأمة أجمعت على كونه ركنا, ويجب على أهل
الحرم, وغيرهم لعموم قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}. وقوله عز وجل:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}
"فصل": وأما ركنه فحصوله كائنا حول البيت سواء كان بفعل نفسه أو بفعل
غيره, وسواء كان عاجزا عن الطواف بنفسه فطاف
به غيره بأمره أو بغير أمره أو كان قادرا على
الطواف بنفسه فحمله غيره بأمره أو بغير أمره
غير أنه إن كان عاجزا أجزأه, ولا شيء عليه,
وإن كان قادرا أجزأه, ولكن يلزمه الدم, أما
الجواز فلأن الفرض حصوله كائنا حول البيت. وقد
حصل. وأما لزوم الدم فلتركه الواجب, وهو الشيء
بنفسه مع القدرة عليه فدخله نقص فيجب جبره
بالدم كما إذا طاف راكبا أو زحفا, وهو قادر
على المشي, وإذا كان عاجزا عن المشي لا يلزمه
شيء؛ لأنه لم يترك الواجب إذ لا وجوب مع
العجز, ويجوز ذلك عن الحامل, والمحمول جميعا
لما ذكرنا أن الفرض حصوله كائنا حول البيت وقد
حصل كل واحد منهما كائنا حول البيت غير أن
أحدهما حصل كائنا بفعل نفسه, والآخر بفعل
غيره, فإن قيل: إن مشي الحامل فعل, والفعل
الواحد كيف يقع عن شخصين؟ فالجواب من وجهين
أحدهما أن المفروض ليس هو الفعل في الباب بل
حصول الشخص حول البيت بمنزلة الوقوف بعرفة أن
المفروض منه حصوله كائنا بعرفة لا فعل الوقوف
على ما بينا فيما تقدم, والثاني أن مشي الواحد
جاز أن يقع عن اثنين في باب الحج كالبعير
الواحد إذا ركبه اثنان فطافا عليه. وكذا يجوز
في الشرع أن يجعل فعل واحد حقيقة كفعلين معنى
كالأب الوصي إذا باع مال نفسه من الصغير أو
اشترى مال الصغير لنفسه, ونحو ذلك كذا ههنا.
"فصل": وأما شرطه وواجباته فشرطه النية, وهو أصل النية دون التعيين حتى لو
لم ينو أصلا بأن طاف هاربا من سبع أو طالبا
لغريم لم يجز. فرق أصحابنا بين الطواف, وبين
الوقوف: أن الوقوف يصح من غير نية الوقوف عند
الوقوف, والطواف لا يصح من غير نية الطواف عند
الطواف كذا ذكره القدوري في شرحه مختصر
الكرخي, وأشار القاضي في شرحه مختصر الطحاوي
إلى أن نية الطواف عند الطواف ليست بشرط أصلا,
وأن نية الحج عند الإحرام كافية, ولا يحتاج
إلى نية مفردة كما في سائر أفعال الحج, وكما
في أفعال الصلاة. ووجه الفرق على ما ذكره
القدوري أن الوقوف ركن يقع في حال قيام نفس
الإحرام لانعدام ما يضاده فلا يحتاج إلى نية
مفردة بل تكفيه النية السابقة, وهي نية الحج
كالركوع, والسجود في باب الصلاة؛ لأنه لا
يحتاج إلى إفرادهما بالنية لاشتمال نية الصلاة
عليهما كذا الوقوف, فأما الطواف فلا يؤتى به
في حال قيام نفس الإحرام لوجود ما يضاده؛ لأنه
تحليل؛ لأنه يقع به التحليل, ولا إحرام حال
وجود التحليل؛ لأن الشيء حال وجوده موجود,
ووجوده يمنع الإحرام من الوجود فلا تشتمل عليه
نية الحج فتقع الحاجة إلى الإفراد بالنية
كالتسليم في باب الصلاة إذ التسليم تحليل أو
نقول إن الوقوف يوجد في حال قيام الإحرام
المطلق لبقائه في حق جميع الأحكام فيتناوله
نية الحج فلا يحتاج إلى نية على حدة, ولا كذلك
الطواف. فإنه يوجد حال زوال الإحرام من وجه
لوقوع التحلل قبله من وجه بالحلق أو التقصير.
ألا ترى أنه يحل له كل شيء إلا النساء فوقعت
الحاجة إلى نية على حدة فأما تعيين النية حال
وجوده في وقته فلا حاجة إليه حتى لو نفر في
النفر الأول فطاف, وهو لا يعين طوافا يقع عن
طواف الزيارة لا عن الصدر؛ لأن أيام النحر
متعينة لطواف الزيارة
ج / 2 ص -129-
فلا
حاجة إلى تعيين النية كما لو صام رمضان بمطلق
لنية أنه يقع عن رمضان لكون الوقت متعينا
لصومه كذا هذا. وكذا لو نوى تطوعا يقع عن طواف
الزيارة كما لو صام رمضان بنية التطوع, وكذلك
كل طواف واجب, أو سنة يقع في وقته من طواف
اللقاء, وطواف الصدر, فإنما يقع عما يستحقه
الوقت, وهو الذي انعقد عليه الإحرام دون غيره
سواء عين ذلك بالنية, أو لم يعين فيقع عن
الأول, وإن نوى الثاني لا يعمل بنيته في
تقديمه على الأول حتى إن المحرم إذا قدم مكة,
وطاف لا يعين شيئا, أو نوى التطوع, فإن كان
محرما بعمرة يقع طوافه للعمرة, وإن كان محرما
بحجة يقع طوافه للقدوم؛ لأن عقد الإحرام انعقد
عليه, وكذلك القارن إذا طاف لا يعين شيئا, أو
نوى التطوع كان ذلك للعمرة, فإن طاف طوافا آخر
قبل أن يسعى لا يعين شيئا, أو نوى تطوعا كان
ذلك للحج, والله أعلم. فأما الطهارة عن الحدث,
والجنابة, والحيض, والنفاس فليست بشرط لجواز
الطواف, وليست بفرض عندنا بل واجبة حتى يجوز
الطواف بدونها. وعند الشافعي فرض لا يصح
الطواف بدونها. واحتج بما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال:
"الطواف صلاة إلا أن الله تعالى أباح فيه الكلام". وإذا كان صلاة فالصلاة لا جواز لها بدون الطهارة, ولنا قوله
تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر
بالطواف مطلقا عن شرط الطهارة, ولا يجوز تقييد
مطلق الكتاب بخبر الواحد فيحمل على التشبيه
كما في قوله تعالى:
{وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ} أي: كأمهاتهم ومعناه الطواف كالصلاة إما في الثواب أو في أصل
الفرضية في طواف الزيارة؛ لأن كلام التشبيه لا
عموم له فيحمل على المشابهة في بعض الوجوه
عملا بالكتاب, والسنة أو نقول: الطواف يشبه
الصلاة, وليس بصلاة حقيقة فمن حيث إنه ليس
بصلاة حقيقة لا تفترض له الطهارة, ومن حيث إنه
يشبه الصلاة تجب له الطهارة عملا بالدليلين
بالقدر الممكن, وإن كانت الطهارة من واجبات
الطواف فإذا طاف من غير طهارة فما دام بمكة
تجب عليه الإعادة؛ لأن الإعادة جبر له بجنسه,
وجبر الشيء بجنسه أولى؛ لأن معنى الجبر, وهو
التلافي فيه أتم ثم إن أعاد في أيام النحر فلا
شيء عليه, وإن أخره عنها فعليه دم في قول أبي
حنيفة, والمسألة تأتي إن شاء الله تعالى في
موضعها, وإن لم يعد, ورجع إلى أهله فعليه الدم
غير أنه إن كان محدثا فعليه شاة, وإن كان جنبا
فعليه بدنة؛ لأن الحدث يوجب نقصانا يسيرا
فتكفيه الشاة لجبره كما لو ترك شوطا فأما
الجنابة فإنها توجب نقصانا متفاحشا؛ لأنها
أكبر الحدثين فيجب لها أعظم الجابرين. وقد روي
عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال البدنة:
"تجب في الحج في موضعين أحدهما: إذا طاف جنبا,
والثاني إذا جامع بعد الوقوف ". وإذا لم تكن
الطهارة من شرائط الجواز فإذا طاف, وهو محدث
أو جنب, وقع موقعه حتى لو جامع بعده لا يلزمه
شيء؛ لأن الوطء لم يصادف الإحرام لحصول التحلل
بالطواف هذا إذا طاف بعد أن حلق أو قصر ثم
جامع فأما إذا طاف, ولم يكن حلق, ولا قصر ثم
جامع فعليه دم؛ لأنه إذا لم يحلق, ولم يقصر
فالإحرام باق, والوطء إذا صادف الإحرام يوجب
الكفارة إلا أنه يلزمه الشاة لا البدنة؛ لأن
الركن صار مؤدى فارتفعت الحرمة المطلقة فلم
يبق الوطء جنابة محضة بل خف معنى الجنابة فيه
فيكفيه أخف الجابرين. فأما الطهارة عن النجس
فليست من شرائط الجواز بالإجماع فلا يفترض
تحصيلها, ولا تجب أيضا لكنه سنة حتى لو طاف,
وعلى ثوبه نجاسة أكثر من قدر الدرهم جاز, ولا
يلزمه شيء إلا أنه يكره. وأما ستر العورة فهو
مثل الطهارة عن الحدث, والجنابة أي إنه ليس
بشرط الجواز, وليس بفرض لكنه, واجب عندنا حتى
لو طاف عريانا فعليه الإعادة ما دام بمكة فإن
رجع إلى أهله فعليه الدم. وعند الشافعي شرط
الجواز كالطهارة عن الحدث, والجنابة, وحجته ما
روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الطواف صلاة
إلا أن الله أباح فيه الكلام" وستر
العورة من شرائط جواز الصلاة, وحجتنا قوله
تعالى: {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف مطلقا عن شرط الستر فيجرى على إطلاقه, والجواب عن
تعلقه بالحديث على نحو ما ذكرنا في الطهارة
والفرق بين ستر العورة, وبين الطهارة عن
النجاسة أن المنع من الطواف مع الثوب النجس
ليس لأجل الطواف بل لأجل المسجد, وهو صيانته
عن إدخال النجاسة فيه, وصيانته عن تلويثه فلا
يوجب ذلك نقصانا في الطواف فلا حاجة إلى
الجبر. فأما المنع من الطواف عريانا فلأجل
الطواف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
الطواف عريانا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ألا لا يطوفن بعد
ج / 2 ص -130-
عامي هذا
مشرك, ولا عريان" وإذا كان
النهي لمكان الطواف تمكن فيه النقص فيجب جبره
بالدم لكن بالشاة لا بالبدنة؛ لأن النقص فيه
كالنقص بالحدث لا كالنقص بالجنابة قال محمد:
ومن طاف تطوعا على شيء من هذه الوجوه فأحب
إلينا إن كان بمكة أن يعيد الطواف, وإن كان قد
رجع إلى أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف, وعلى
ثوبه نجاسة؛ لأن التطوع يصير واجبا بالشروع
فيه إلا أنه دون الواجب ابتداء بإيجاب الله
تعالى فكان النقص فيه أقل فيجبر بالصدقة,
ومحاذاة المرأة الرجل في الطواف لا تفسد عليه
طوافه؛ لأن المحاذاة إنما عرفت مفسدة في الشرع
على خلاف القياس في صلاة مطلقة مشتركة,
والطواف ليس بصلاة حقيقة, ولا اشتراك أيضا,
والموالاة في الطواف ليست بشرط حتى لو خرج
الطائف من طوافه لصلاة جنازة أو مكتوبة أو
لتجديد وضوء ثم عاد بنى على طوافه, ولا يلزمه
الاستئناف لقوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا عن شرط الموالاة. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
"خرج من الطواف, ودخل السقاية فاستسقى فسقى
فشرب ثم عاد, وبنى على طوافه", والله تعالى
أعلم. فأما الطهارة عن النجس فليست من شرائط
الجواز بالإجماع فلا يفترض تحصيلها, ولا تجب
أيضا لكنه سنة حتى لو طاف, وعلى ثوبه نجاسة
أكثر من قدر الدرهم جاز, ولا يلزمه شيء إلا
أنه يكره. وأما ستر العورة فهو مثل الطهارة عن
الحدث, والجنابة أي إنه ليس بشرط الجواز, وليس
بفرض لكنه, واجب عندنا حتى لو طاف عريانا
فعليه الإعادة ما دام بمكة فإن رجع إلى أهله
فعليه الدم. وعند الشافعي شرط الجواز كالطهارة
عن الحدث, والجنابة, وحجته ما روينا عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الطواف صلاة إلا أن الله أباح فيه الكلام"
وستر العورة من شرائط جواز الصلاة, وحجتنا
قوله تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف مطلقا عن شرط الستر فيجرى على إطلاقه, والجواب عن
تعلقه بالحديث على نحو ما ذكرنا في الطهارة
والفرق بين ستر العورة, وبين الطهارة عن
النجاسة أن المنع من الطواف مع الثوب النجس
ليس لأجل الطواف بل لأجل المسجد, وهو صيانته
عن إدخال النجاسة فيه, وصيانته عن تلويثه فلا
يوجب ذلك نقصانا في الطواف فلا حاجة إلى
الجبر. فأما المنع من الطواف عريانا فلأجل
الطواف لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن
الطواف عريانا بقوله صلى الله عليه وسلم:
"ألا لا يطوفن بعد عامي هذا مشرك ولا عريان" وإذا كان النهي لمكان الطواف تمكن فيه النقص فيجب جبره بالدم لكن
بالشاة لا بالبدنة؛ لأن النقص فيه كالنقص
بالحدث لا كالنقص بالجنابة قال محمد: ومن طاف
تطوعا على شيء من هذه الوجوه فأحب إلينا إن
كان بمكة أن يعيد الطواف, وإن كان قد رجع إلى
أهله فعليه صدقة سوى الذي طاف, وعلى ثوبه
نجاسة؛ لأن التطوع يصير واجبا بالشروع فيه إلا
أنه دون الواجب ابتداء بإيجاب الله تعالى فكان
النقص فيه أقل فيجبر بالصدقة, ومحاذاة المرأة
الرجل في الطواف لا تفسد عليه طوافه؛ لأن
المحاذاة إنما عرفت مفسدة في الشرع على خلاف
القياس في صلاة مطلقة مشتركة, والطواف ليس
بصلاة حقيقة, ولا اشتراك أيضا, والموالاة في
الطواف ليست بشرط حتى لو خرج الطائف من طوافه
لصلاة جنازة أو مكتوبة أو لتجديد وضوء ثم عاد
بنى على طوافه, ولا يلزمه الاستئناف لقوله
تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}
مطلقا عن شرط الموالاة. وروي عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه "خرج من الطواف, ودخل
السقاية فاستسقى فسقى فشرب ثم عاد, وبنى على
طوافه", والله تعالى أعلم. ومن واجبات الطواف
أن يطوف ماشيا لا راكبا إلا من عذر حتى لو طاف
راكبا من غير عذر فعليه الإعادة ما دام بمكة,
وإن عاد إلى أهله يلزمه الدم, وهذا عندنا وعند
الشافعي: ليس بواجب فإذا طاف راكبا من غير عذر
لا شيء عليه, واحتج بما روي "عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه طاف راكبا". "ولنا" قوله
تعالى:
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ},
والراكب ليس بطائف حقيقة فأوجب ذلك نقصا فيه
فوجب جبره بالدم. وأما فعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم فقد روي أن ذلك كان لعذر كذا روي عن
عطاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك كان
بعد ما أسن, وبدن, ويحتمل أنه فعل ذلك لعذر
آخر, وهو التعليم كذا روي عن جابر رضي الله
عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم طاف راكبا
ليراه الناس فيسألوه, ويتعلموا منه, وهذا عذر,
وعلى هذا أيضا يخرج ما إذا طاف زحفا أنه إن
كان عاجزا عن المشي أجزأه, ولا شيء عليه؛ لأن
التكليف بقدر الوسع, وإن كان قادرا عليه
الإعادة إن كان بمكة, والدم إن كان رجع إلى
أهله؛ لأن الطواف مشيا, واجب عليه, ولو أوجب
على نفسه أن يطوف بالبيت زحفا, وهو قادر على
المشي عليه أن يطوف ماشيا؛ لأنه نذر إيقاع
العبادة على وجه غير مشروع فلغت الجهة, وبقي
النذر بأصل العبادة كما إذا نذر أن يطوف للحج
على غير طهارة فإن طاف زحفا أعاد إن كان بمكة,
وإن رجع إلى أهله فعليه دم؛ لأنه ترك الواجب
كذا ذكر في الأصل, وذكر القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي أنه إذا طاف زحفا أجزأه؛ لأنه أدى ما
أوجب على نفسه فيجزئه كمن نذر أن يصلي ركعتين
في الأرض المغصوبة أو يصوم يوم النحر أنه يجب
عليه أن يصلي في موضع آخر ويصوم يوما آخر, ولو
صلى في الأرض المغصوبة, وصام يوم النحر أجزأه,
وخرج عن عهدة النذر كذا هذا, وعلى هذا أيضا
يخرج ما إذا طاف محمولا أنه إن كان لعذر جاز,
ولا شيء عليه, وإن كان لغير عذر جاز, ويلزمه
الدم؛ لأن الطواف ماشيا, واجب عند القدرة على
المشي, وترك الواجب من غير عذر يوجب الدم.
فأما الابتداء من الحجر الأسود فليس بشرط من
شرائط جوازه بل هو سنة في ظاهر الرواية حتى لو
افتتح من غير عذر أجزأه مع الكراهة لقوله
تعالى
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا
عن شرط الابتداء بالحجر الأسود إلا أنه لو لم
يبدأ يكره؛ لأنه ترك السنة, وذكر محمد رحمه
الله في الرقيات إذا افتتح الطواف من غير
الحجر لم يعتد بذلك الشوط إلا أن يصير إلى
الحجر فيبدأ منه الطواف فهذا يدل على أن
الافتتاح منه شرط الجواز, وبه أخذ الشافعي,
والدليل على أن الافتتاح من الحجر إما على وجه
السنة أو الفرض ما روي أن إبراهيم صلى الله
عليه وسلم لما انتهى في البناء إلى مكان الحجر
قال لإسماعيل عليه الصلاة والسلام ائتني بحجر
أجعله علامة لابتداء الطواف فخرج, وجاء بحجر
فقال ائتني بغيره فأتاه بحجر آخر فقال ائتني
بغيره فأتاه بثالث فألقاه, وقال جاءني بحجر من
أغناني عن حجرك فرأى الحجر الأسود في موضعه.
وأما الابتداء من يمين الحجر لا من يساره فليس
من شرائط الجواز بلا خلاف بين أصحابنا حتى
يجوز الطواف منكوسا بأن افتتح الطواف عن يسار
الحجر, ويعتد به, وعند الشافعي هو من شرائط
الجواز لا يجوز بدونه, واحتج بما روي "أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم افتتح الطواف من يمين
الحجر لا من يساره", وذلك تعليم منه صلى الله
عليه وسلم مناسك الحج. وقد قال عليه
ج / 2 ص -131-
الصلاة
والسلام
"خذوا عني مناسككم" فتجب البداية بما بدأ به النبي صلى الله عليه وسلم ولنا قوله تعالى
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} مطلقا
من غير شرط البداية باليمين أو باليسار. وفعل
رسول الله صلى الله عليه وسلم محمول على
الوجوب, وبه نقول إنه واجب كذا ذكره الإمام
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه تجب عليه
الإعادة ما دام بمكة, وإن رجع إلى أهله يجب
عليه الدم. وكذا ذكر في الأصل, ووجهه أنه ترك
الواجب, وهو قادر على استدراكه بجنسه فيجب
عليه ذلك تلافيا للتقصير بأبلغ الوجوه, وإذا
رجع إلى أهله فقد عجز عن استدراكه الفائت
بجنسه فيستدركه بخلاف جنسه جبرا للفائت بالقدر
الممكن على ما هو الأصل في ضمان الفوائت في
الشرع, وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي ما
يدل على أنه سنة فإنه قال أجزأه الطواف,
ويكره, وهذا أمارة السنة. وأما سننه فنذكرها
عند بيان سنن الحج, ولا رمل في هذا الطواف إذا
كان الطواف طواف اللقاء, وسعى عقيبه, وإن كان
لم يطف طواف اللقاء أو كان قد طاف لكنه لم يسع
عقيبه فإنه يرمل في طواف الزيارة, والأصل فيه
أن الرمل سنة طواف عقيبه سعي, وكل طواف يكون
بعده سعي يكون فيه رمل, وإلا فلا لما نذكر إن
شاء الله عند بيان سنن الحج, والترتيب بين
أفعاله. ويكره إنشاد الشعر, والتحدث في الطواف
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"الطواف بالبيت صلاة فأقلوا فيه الكلام".
وروي أنه قال صلى الله عليه وسلم
"فمن نطق فيه فلا ينطق إلا بخير",
ولأن ذلك يشغله عن الدعاء, ويكره أن يرفع صوته
بالقرآن؛ لأنه يتأذى به غيره لما يشغله ذلك عن
الدعاء, ولا بأس بأن يقرأ القرآن في نفسه,
وقال مالك يكره, وإنه غير سديد؛ لأن قراءة
القرآن مندوب إليها في جميع الأحوال إلا في
حال الجنابة, والحيض, ولم يوجد. ومن المشايخ
من قال التسبيح أولى؛ لأن محمدا رحمه الله ذكر
لفظة "لا بأس" وهذه اللفظة إنما تستعمل في
الرخص, ولا بأس أن يطوف, وعليه خفاه أو نعلاه
إذا كانا طاهرتين لما روي عن النبي صلى الله
عليه وسلم "أنه طاف مع نعليه", ولأنه تجوز
الصلاة مع الخفين, والنعلين مع أن حكم الصلاة
أضيق فلأن يجوز الطواف أولى, ولا يرمل في هذا
الطواف إذا كان طاف طواف اللقاء, وسعى عقيبه,
وإن كان لم يطف طواف اللقاء أو كان قد طاف
لكنه لم يسع عقيبه فإنه يرمل في طواف الزيارة,
والأصل فيه أن الرمل سنة طواف عقيبه سعي, فكل
طواف بعد سعي يكون فيه رمل, وإلا فلا لما نذكر
عند بيان سنن الحج, والترتيب في أفعاله إن شاء
الله تعالى وأما سننه فنذكرها عند بيان سنن
الحج إن شاء الله تعالى.
"فصل": وأما مكان الطواف فمكانه حول البيت لقوله تعالى
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والطواف بالبيت هو الطواف حوله فيجوز الطواف في المسجد الحرام
قريبا من البيت أو بعيدا عنه بعد أن يكون في
المسجد حتى لو طاف من, وراء زمزم قريبا من
حائط المسجد أجزأه لوجود الطواف بالبيت لحصوله
حول البيت, ولو طاف حول المسجد, وبينه وبين
البيت حيطان المسجد لم يجز؛ لأن حيطان المسجد
حاجزة فلم يطف بالبيت لعدم الطواف حوله بل طاف
بالمسجد لوجود الطواف حوله لا حول البيت,
ولأنه لو جاز الطواف حول المسجد مع حيلولة
حيطان المسجد لجاز حول مكة, والحرم, وذا لا
يجوز كذا هذا. ويطوف من خارج الحطيم؛ لأن
الحطيم من البيت على لسان رسول الله صلى الله
عليه وسلم فإنه روي عن عائشة رضي الله عنها أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال لها
"إن قومك قصرت بهم النفقة فقصروا البيت عن قواعد إبراهيم عليه الصلاة
والسلام وإن الحطيم من البيت, ولولا حدثان
عهدهم بالجاهلية لرددته إلى قواعد إبراهيم,
ولجعلت له بابين بابا شرقيا, وبابا غربيا" وروي "أن رجلا نذر أن يصلي في البيت ركعتين فأمره النبي صلى الله
عليه وسلم أن يصلي في الحطيم ركعتين". وروي
"أن عائشة رضي الله عنها نذرت بذلك فأمرها
النبي صلى الله عليه وسلم أن تصلي في الحطيم
ركعتين" فإن قيل إذا كان الحطيم من البيت فلم
لا يجوز التوجه إليه في الصلاة. فالجواب أن
كون الحطيم من البيت ثبت بخبر الواحد, ووجوب
التوجه إلى البيت ثبت بنص الكتاب العزيز, وهو
قوله تعالى
{وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ
شَطْرَهُ}, ولا يجوز ترك العمل بنص الكتاب بالآحاد, وليس في الطواف من, وراء
الحطيم عملا بخبر الواحد ترك العمل بنص الكتاب
العزيز, وهو قوله تعالى
{وَلْيَطَّوَّفُوا
ج / 2 ص -132-
بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} بل
فيه عمل بهما جميعا ولو طاف في داخل الحجر
فعليه أن يعيد؛ لأن الحطيم لما كان من البيت
فإذا طاف في داخل الحطيم فقد ترك الطواف ببعض
البيت, والمفروض هو الطواف بكل البيت لقوله
تعالى {وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والأفضل أن يعيد الطواف كله مراعاة للترتيب فإن أعاد على الحجر
خاصة أجزأه؛ لأن المتروك هو لا غير فاستدركه,
ولو لم يعد حتى عاد إلى أهله يجب عليه الدم؛
لأن الحطيم ربع البيت فقد ترك من طوافه ربعه.
"فصل": وأما زمان هذا الطواف, وهو, وقته فأوله حين يطلع الفجر الثاني من
يوم النحر بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يجوز
قبله, وقال الشافعي أول, وقته منتصف ليلة
النحر, وهذا غير سديد؛ لأن ليلة النحر, وقت
ركن آخر, وهو الوقوف بعرفة فلا يكون, وقتا
للطواف؛ لأن الوقت الواحد لا يكون وقتا
لركنين, وليس لآخره زمان معين موقت به فرضا بل
جميع الأيام, والليالي, وقته فرضا بلا خلاف
بين أصحابنا لكنه موقت بأيام النحر وجوبا في
قول أبي حنيفة حتى لو أخره عنها فعليه دم
عنده, وفي قول أبي يوسف, ومحمد غير موقت أصلا,
ولو أخره عن أيام النحر لا شيء عليه, وبه أخذ
الشافعي, واحتجوا بما روي "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم سئل عمن ذبح قبل أن يرمي فقال
ارم, ولا حرج", وما سئل يومئذ عن أفعال الحج قدم شيء منها أو أخر إلا قال افعل,
ولا حرج. فهذا ينفي توقيت آخره, وينفي وجوب
الدم بالتأخير, ولأنه لو توقت آخره لسقط بمضي
آخره كالوقوف بعرفة فلما لم يسقط دل أنه لم
يتوقت, ولأبي حنيفة أن التأخير بمنزلة الترك
في حق وجوب الجابر بدليل أن من جاوز الميقات
بغير إحرام ثم أحرم يلزمه دم, ولو لم يوجد منه
إلا تأخير الشك, وكذا تأخير الواجب في باب
الصلاة بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر, وهو
سجدتا السهو فكان الفقه في ذلك أن أداء الواجب
كما هو, واجب فمراعاة محل الواجب, واجب فكان
التأخير تركا للمراعاة الواجبة, وهي مراعاته
في محله, والترك تركا لواجبين أحدهما أداء
الواجب في نفسه, والثاني مراعاته في محله فإذا
ترك هذا الواجب يجب جبره بالدم وإذا توقت هذا
الطواف بأيام النحر وجوبا عنده فإذا أخره عنها
فقد ترك الواجب فأوجب ذلك نقصانا فيجب جبره
بالدم, ولما لم يتوقت عندهما ففي أي وقت فعله
فقد فعله في وقته فلا يتمكن فيه نقص فلا يلزمه
شيء, ولا حجة لهما في الحديث؛ لأن فيه نفي
الحرج, وهو نفي الإثم, وانتفاء الإثم لا ينفي
وجوب الكفارة كما لو حلق رأسه لأذى فيه: أنه
لا يأثم, وعليه الدم كذا ههنا, وقولهما إنه لا
يسقط بمضي آخر الوقت مسلم, لكن هذا لا يمنع
كونه موقتا, وواجبا في الوقت كالصلوات
المكتوبات أنها لا تسقط بخروج أوقاتها, وإن
كانت موقتة حتى تقضى كذا هذا, والأفضل هو
الطواف في أول أيام النحر لقوله صلى الله عليه
وسلم
"أيام النحر
ثلاثة أولها أفضلها" وقد روي
"أنه صلى الله عليه وسلم طاف في أول أيام
النحر", ومعلوم أنه كان يأتي بالعبادات في
أفضل أوقاتها, ولأن هذا الطواف يقع به تمام
التحلل, وهو التحلل من النساء فكان في تعجيله
صيانة نفسه عن الوقوع في الجماع, ولزوم البدنة
فكان أولى.
"فصل": وأما مقداره فالمقدار المفروض منه هو أكثر الأشواط, وهو ثلاثة
أشواط, وأكثر الشوط الرابع, فأما الإكمال
فواجب, وليس بفرض حتى لو جامع بعد الإتيان
بأكثر الطواف قبل الإتمام لا يلزمه البدنة,
وإنما تلزمه الشاة, وهذا عندنا, وقال الشافعي
الفرض هو سبعة أشواط لا يتحلل بما دونها, وجه
قوله أن مقادير العبادات لا تعرف بالرأي,
والاجتهاد, وإنما تعرف بالتوقيف "ورسول الله
صلى الله عليه وسلم طاف سبعة أشواط" فلا يعتد
بما دونها, ولنا قوله تعالى
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ}, والأمر المطلق لا يقتضي التكرار إلا أن الزيادة على المرة الواحدة
إلى أكثر الأشواط ثبت بدليل آخر, وهو الإجماع,
ولا إجماع في الزيادة على أكثر الأشواط, ولأنه
أتى بأكثر الطواف, والأكثر يقوم مقام الكل
فيما يقع به التحلل في باب الحج كالذبح إذا لم
يستوف قطع العروق الأربعة, وإنما كان المفروض
هذا القدر فإذا أتى به فقد أتى بالقدر المفروض
فيقع به التحلل فلا يلزمه البدنة بالجماع بعد
ذلك؛ لأن ما زاد عليه إلى تمام السبعة فهو
واجب, وليس بفرض فيجب بتركه الشاة دون البدنة
كرمي الجمار, والله تعالى أعلم
ج / 2 ص -133-
"فصل": وأما حكمه إذا فات عن أيام النحر فهو أنه لا يسقط بل يجب أن يأتي
به؛ لأن سائر الأوقات, وقته بخلاف الوقوف
بعرفة أنه إذا فات عن, وقته يسقط؛ لأنه موقت
بوقت مخصوص ثم إن كان بمكة يأتي به بإحرامه
الأول؛ لأنه قائم؛ إذ التحلل بالطواف, ولم
يوجد, وعليه لتأخيره عن أيام النحر دم عند أبي
حنيفة, وإن كان رجع إلى أهله فعليه أن يرجع
إلى مكة بإحرامه الأول, ولا يحتاج إلى إحرام
جديد, وهو محرم عن النساء إلى أن يعود فيطوف,
وعليه للتأخير دم عند أبي حنيفة. ولا يجزئ عن
هذا الطواف بدنة؛ لأنه ركن, وأركان الحج لا
يجزئ عنها البدل, ولا يقوم غيرها مقامها بل
يجب الإتيان بعينها كالوقوف بعرفة. وكذا لو
كان طاف ثلاثة أشواط فهو والذي لم يطف سواء؛
لأن الأقل لا يقوم مقام الكل, وإن كان طاف
جنبا أو على غير وضوء أو طاف أربعة أشواط ثم
رجع إلى أهله, أما إذا طاف جنبا فعليه أن يعود
إلى مكة لا محالة هو العزيمة, وبإحرام جديد
حتى يعيد الطواف, أما وجوب العود بطريق
العزيمة فلتفاحش النقصان بالجنابة فيؤمر
بالعود كما لو ترك أكثر الأشواط. وأما تجديد
الإحرام فلأنه حصل التحلل بالطواف مع الجنابة
على أصل أصحابنا, والطهارة عن الحدث, والجنابة
ليست بشرط لجواز الطواف فإذا حصل التحلل صار
حلالا, والحلال لا يجوز له دخول مكة بغير
إحرام, فإن لم يعد إلى مكة لكنه بعث بدنة جاز
لما ذكرنا أن البدنة تجبر النقص بالجنابة؛ لأن
العزيمة هو العود؛ لأن النقصان فاحش فكان
العود أجبر له؛ لأنه جبر بالجنس. وأما إذا طاف
محدثا أو طاف أربعة أشواط فإن, عاد وطاف جاز؛
لأنه جبر النقص بجنسه, وإن بعث شاة جاز أيضا؛
لأن النقص يسير فينجبر بالشاة, والأفضل أن
يبعث بالشاة؛ لأن الشاة تجبر النقص, وتنفع
الفقراء, وتدفع عنه مشقة الرجوع, وإن كان بمكة
فالرجوع أفضل؛ لأنه جبر الشيء بجنسه فكان
أولى, والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما, واجبات الحج فخمسة :. السعي بين الصفا والمروة, والوقوف
بمزدلفة, ورمي الجمار, والحلق أو التقصير,
وطواف الصدر, أما السعي فالكلام فيه يقع في
مواضع: في. بيان صفته, وفي بيان قدره, وفي
بيان ركنه, وفي بيان شرائط جوازه, وفي بيان
سننه, وفي بيان, وقته, وفي بيان حكمه إذا تأخر
عن, وقته. أما الأول فقد قال أصحابنا: إنه
واجب, وقال الشافعي: إنه فرض حتى لو ترك الحاج
خطوة منه, وأتى أقصى بلاد المسلمين يؤمر بأن
يعود إلى ذلك الموضع فيضع قدمه عليه, ويخطو
تلك الخطوة, وقال بعض الناس: ليس بفرض ولا,
واجب, واحتج هؤلاء بقوله عز وجل
{فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ
يَطَّوَّفَ بِهِمَا},
وكلمة لا جناح لا تستعمل في الفرائض,
والواجبات, ويدل عليه قراءة أبي فلا جناح عليه
أن لا يطوف بهما, واحتج الشافعي بما روي عن
صفية بنت فلان أنها سمعت امرأة سألت رسول الله
صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال
"إن الله تعالى كتب عليكم السعي بين الصفا,
والمروة" أي فرض عليكم؛ إذ الكتابة عبارة عن الفرض كما في قوله تعالى
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} و
{كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ},
وغير ذلك, ولنا قوله عز وجل
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ}, وحج البيت هو زيارة البيت لما ذكرنا فيما تقدم, فظاهره يقتضي أن
يكون طواف الزيارة هو الركن لا غير, إلا أنه
زيد عليه الوقوف بعرفة بدليل, فمن ادعى زيارة
السعي فعليه الدليل وقول النبي صلى الله عليه
وسلم
"الحج عرفة"
فظاهره يقتضي أن يكون الوقوف بعرفة كل الركن
إلا أنه زيد عليه طواف الزيارة فمن ادعى زيادة
السعي فعليه الدليل, وعن عائشة رضي الله عنها
أنها قالت ما تم حج امرئ قط إلا بالسعي, وفيه
إشارة إلى أنه, واجب, وليس بفرض؛ لأنها, وصفت
الحج بدونه بالنقصان لا بالفساد, وفوت الواجب
هو الذي يوجب النقصان, فأما فوت الفرض فيوجب
الفساد, والبطلان, ولأن الفرضية إنما ثبتت
بدليل مقطوع به, ولا يوجد ذلك في محل الاجتهاد
إذا كان الخلاف بين أهل الديانة. وأما الآية
فليس المراد منها رفع الجناح على الطواف بهما
مطلقا بل على الطواف بهما لمكان الأصنام التي
كانت هنالك, لما قيل إنه كان بالصفا صنم,
وبالمروة صنم, وقيل كان بين الصفا, والمروة
أصنام فتحرجوا عن الصعود عليهما, والسعي
بينهما احترازا عن التشبه بعبادة الأصنام,
والتشبه بأفعال الجاهلية فرفع الله عنهم
الجناح بالطواف بهما أو بينهما مع كون الأصنام
هنالك. وأما قراءة أبي رضي الله عنه فيحتمل أن
تكون "لا" صلة زائدة, معناه لا جناح عليه أن
يطوف بينهما؛ لأن "لا" قد
ج / 2 ص -134-
تزاد
في الكلام صلة كقوله تعالى
{مَا مَنَعَكَ
أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ}
معناه أن تسجد فكان كالقراءة المشهورة في
المعنى. وأما الحديث فلا يصح تعلق الشافعي به
على زعمه؛ لأنه قال: روت صفية بنت فلان فكانت
مجهولة لا ندري من هي, والعجب منه أنه يأبى
مرة قبول المراسيل لتوهم الغلط, ويحتج بقول
امرأة لا تعرف, ولا يذكر اسمها على أنه إن ثبت
فلا حجة له فيه؛ لأن الكنية قد تذكر, ويراد
بها الحكم قال الله تعالى
{وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي
كِتَابِ اللَّهِ} أي في حكم الله, وقال عز وجل كتب الله عليكم أي حكم الله عليكم فإن
أريد بها الأول تكون حجة, وإن أريد بها الثاني
لا تكون حجة؛ لأن حكم الله تعالى لا يقتصر على
الفرضية, بل الوجوب, والانتداب والإباحة من
حكم الله تعالى فلا يكون حجة مع الاحتمال أو
نحملها على الوجوب دون الفرضية توفيقا بين
الدلائل صيانة لها عن التناقض, وإذا كان,
واجبا فإن تركه لعذر فلا شيء عليه, وإن تركه
لغير عذر لزمه دم؛ لأن هذا حكم ترك الواجب في
هذا الباب أصله طواف الصدر, وأصل ذلك ما روي
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من حج هذا البيت فليكن آخر عهده بالبيت
الطواف", ورخص للحائض, بخلاف الأركان فإنها لا تسقط بالعذر؛ لأن ركن الشيء
ذاته فإذا لم يأت به فلم يوجد الشيء أصلا
كأركان الصلاة بخلاف الواجب, ولو ترك أربعة
أشواط بغير عذر فعليه دم, والأصل أن كل ما وجب
في جميعه دم يجب في أكثره دم, أصله طواف
الصدر, ورمي الجمار, ولو ترك ثلاثة أشواط أطعم
لكل شوط نصف صاع من بر مسكينا إلا أن يبلغه
ذلك دما فله الخيار, والأصل في ذلك أن كل ما
يكون في جميعه دم يكون في أقله صدقة لما نذكر
إن شاء الله تعالى, ولو ترك الصعود على الصفا
والمروة يكره له ذلك, ولا شيء عليه؛ لأن
الصعود عليهما سنة فيكره تركه, ولكن لو ترك لا
شيء عليه كما لو ترك الرمل في الطواف.
"فصل": وأما قدره فسبعة أشواط لإجماع الأمة, ولفعل رسول الله صلى الله
عليه وسلم ويعد من الصفا إلى المروة شوطا, ومن
المروة إلى الصفا شوطا آخر, كذا ذكر في الأصل,
وقال الطحاوي: من الصفا إلى المروة, ومن
المروة إلى الصفا شوط واحد, والصحيح ما ذكر في
الأصل لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
"طاف بينهما سبعة أشواط", ولو كان كما ذكره
الطحاوي لكان أربعة عشر شوطا, والدليل على أن
المذهب ما قلنا أن محمدا رحمه الله ذكر في
الأصل فقال يبتدئ بالصفا, ويختم بالمروة, وعلى
ما ذكره الطحاوي يقع الختم بالصفا لا بالمروة
فدل أن مذهب أصحابنا ما ذكرنا.
"فصل": وأما ركنه فكينونته بين الصفا, والمروة, سواء كان بفعل نفسه أو
بفعل غيره عند عجزه عن السعي بنفسه بأن كان
مغمى عليه أو مريضا فسعى به محمولا أو سعى
راكبا لحصوله كائنا بين الصفا, والمروة, وإن
كان قادرا على المشي بنفسه فحمل أو ركب يلزمه
الدم؛ لأن السعي بنفسه عند القدرة على المشي,
واجب فإذا تركه فقد ترك الواجب من غير عذر
فيلزمه الدم كما لو ترك المشي في الطواف من
غير عذر.
ج / 2 ص -135-
فيجب
عليه أن يعود بعد ستة من الصفا إلى المروة حتى
يتم سبعة. وأما الطهارة عن الجنابة, والحيض
فليست بشرط فيجوز سعي الجنب, والحائض بعد أن
كان طوافه بالبيت على الطهارة عن الجنابة,
والحيض؛ لأن هذا نسك غير متعلق بالبيت فلا
تشترط له الطهارة عن الجنابة والحيض, كالوقوف,
إلا أنه يشترط أن يكون الطواف على الطهارة عن
الجنابة والحيض؛ لأن السعي مرتب عليه ومن
توابعه, والطواف مع الجنابة والحيض لا يعتد به
حتى تجب إعادته فكذا السعي الذي هو من توابعه
ومرتب عليه فإذا كان طوافه على الطهارة عن
الحدثين فقد وجد شرط جوازه فجاز, وجاز سعي
الجنب, والحائض تبعا له لوجود شرط جواز الأصل؛
إذ التبع لا يفرد بالشرط بل يكفيه شرط الأصل
فصار الحاصل أن حصول الطواف على الطهارة عن
الجنابة والحيض من شرائط جواز السعي, فإن كان
طاهرا وقت الطواف جاز السعي, سواء كان طاهرا
وقت السعي, أو لا, وإن لم يكن طاهرا, وقت
الطواف لم يجز سعيه رأسا, سواء كان طاهرا, أو
لم يكن, والله أعلم.
"فصل": وأما سننه فالرمل في بعض كل شوط, والسعي في البعض, وسنذكرها في
بيان سنن الحج؛ لأنها من السنن لا من الواجبات
حتى لو رمل في الكل أو سعى في الكل لا شيء
عليه لكنه يكون مسيئا لتركه السنة, والله
أعلم.
"فصل": وأما وقته فوقته الأصلي يوم النحر بعد طواف الزيارة لا بعد طواف
اللقاء؛ لأن ذلك سنة, والسعي واجب فلا ينبغي
أن يجعل الواجب تبعا للسنة ' فأما طواف
الزيارة ففرض, والواجب يجوز أن يجعل تبعا
للفرض إلا أنه رخص السعي بعد طواف اللقاء,
وجعل ذلك, وقتا له ترفيها بالحاج, وتيسيرا له
لازدحام الاشتغال له يوم النحر فأما وقته
الأصلي فيوم النحر عقيب طواف الزيارة لما
قلنا, والله أعلم.
ج / 2 ص -136-
للحج
بدونه, وهذا خلاف الحديث, وظاهر الحديث يقتضي
أن يكون الركن هو الوقوف بعرفة لا غير, إلا أن
طواف الزيارة عرف ركنا بدليل آخر, وهو ما
ذكرنا فيما تقدم, ولأن ترك الوقوف بمزدلفة
جائز لعذر على ما نبين, ولو كان فرضا لما جاز
تركه أصلا كسائر الفرائض فدل أنه ليس بفرض بل
هو واجب إلا أنه قد يسقط وجوبه لعذر من ضعف أو
مرض أو حيض أو نحو ذلك حتى لو تعجل ولم يقف:
لا شيء عليه, وأما الآية فقد قيل في تأويلها:
إن المراد من الذكر هو صلاة المغرب والعشاء
بمزدلفة, وقيل: هو الدعاء, وفرضيتها لا تقتضي
فرضية الوقوف, على أن مطلق الأمر للوجوب لا
للفرضية بل الفرضية ثبتت بدليل زائد, والله
أعلم.
"فصل": وأما ركنه فكينونته بمزدلفة, سواء كان بفعل نفسه, أو بفعل غيره بأن
كان محمولا, وهو نائم أو مغمى عليه, أو كان
على دابة لحصوله كائنا بها, وسواء علم بها أو
لم يعلم لما قلنا, ولأن الفائت ليس إلا النية,
وإنها ليست بشرط كما في الوقوف بعرفة, وسواء
وقف أو مر مارا لحصوله كائنا بمزدلفة, وإن قل,
ولا تشترط له الطهارة عن الجنابة والحيض؛ لأنه
عبادة لا تتعلق بالبيت فتصح من غير طهارة
كالوقوف بعرفة, ورمي الجمار, والله أعلم.
"فصل": وأما مكانه فجزء من أجزاء مزدلفة, أي جزء كان, وله أن ينزل في أي
موضع شاء منها إلا أنه لا ينبغي أن ينزل في,
وادي محسر لقول النبي صلى الله عليه وسلم
"عرفات كلها
موقف إلا بطن عرنة, ومزدلفة كلها موقف إلا,
وادي محسر". وروي أنه قال
"مزدلفة كلها موقف, وارتفعوا عن المحسر"
فيكره النزول فيه, ولو, وقف به أجزأه مع
الكراهة, والأفضل أن يكون وقوفه خلف الإمام
على الجبل الذي يقف عليه الإمام, وهو الجبل
الذي يقال له قزح؛ لأنه روي أنه صلى الله عليه
وسلم وقف عليه, وقال
"خذوا عني مناسككم", ولأنه
يكون أقرب إلى الإمام فيكون أفضل, والله أعلم.
ج / 2 ص -137-
المباح
مباحا في حقه, وهذا لا يجوز, فأما القول
بالوجوب عملا مع الاعتقاد مبهما أن ما أراد
الله تعالى به فهو حق مما لا ضرر فيه؛ لأنه إن
كان, واجبا يخرج عن العهدة بفعله, وإن لم يكن,
واجبا يثاب على فعله فكان ما قلناه احترازا عن
الضرر بقدر الإمكان, وإنه, واجب عقلا, وشرعا,
والله أعلم.
"فصل": وأما تفسير رمي الجمار فرمي الجمار في اللغة هو القذف بالأحجار
الصغار, وهي الحصى إذ الجمار جمع جمرة,
والجمرة هي الحجر الصغير, وهي الحصاة, وفي عرف
الشرع هو القذف بالحصى في زمان مخصوص, ومكان
مخصوص, وعدد مخصوص على ما نبين إن شاء الله
تعالى, وعلى هذا يخرج ما إذا قام عند الجمرة,
ووضع الحصاة عندها, وضعا أنه لم يجزه لعدم
الرمي, وهو القذف, وإن طرحها طرحا أجزأه لوجود
الرمي إلا أنه رمي خفيف فيجزئه, وسواء رمى
بنفسه أو بغيره عند عجزه عن الرمي بنفسه
كالمريض الذي لا يستطيع الرمي فوضع الحصى في
كفه فرمى بها أو رمى عنه غيره؛ لأن أفعال الحج
تجري فيها النيابة كالطواف والوقوف بعرفة
ومزدلفة, والله أعلم.
"فصل": وأما, وقت الرمي فأيام الرمي أربعة: يوم النحر, وثلاثة أيام
التشريق, أما يوم النحر فأول, وقت الرمي, منه
ما بعد طلوع الفجر, الثاني من يوم النحر فلا
يجوز قبل طلوعه, وأول وقته المستحب ما بعد
طلوع الشمس قبل الزوال, وهذا عندنا, وقال
الشافعي إذا انتصف ليلة النحر دخل وقت الجمار
كما قال في الوقوف بعرفة, ومزدلفة فإذا طلعت
الشمس, وجب, وقال سفيان الثوري لا يجوز قبل
طلوع الشمس, والصحيح قولنا لما روي عن النبي
صلى الله عليه وسلم "أنه قدم ضعفة أهله ليلة
المزدلفة, وقال صلى الله عليه وسلم
لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين"
نهى عن الرمي قبل الصبح. وروي "أن النبي صلى
الله عليه وسلم كان يلطح أفخاذ أغيلمة بني عبد
المطلب, وكان يقول لهم
لا ترموا جمرة العقبة حتى تكونوا مصبحين".
فإن قيل قد روي أنه قال لا ترموا جمرة العقبة
حتى تطلع الشمس, وهذا حجة سفيان فالجواب أن
ذلك محمول على بيان الوقت المستحب توفيقا بين
الروايتين بقدر الإمكان, وبه نقول إن المستحب
ذلك. وأما آخره فآخر النهار كذا قال أبو حنيفة
إن وقت الرمي يوم النحر يمتد إلى غروب الشمس,
وقال أبو يوسف يمتد إلى وقت الزوال فإذا زالت
الشمس يفوت الوقت, ويكون فيما بعده قضاء, وجه
قول أبي يوسف أن أوقات العبادة لا تعرف إلا
بالتوقيف, والتوقيف ورد بالرمي في يوم النحر
قبل الزوال فلا يكون ما بعده وقتا له أداء كما
في سائر أيام النحر؛ لأنه لما جعل وقته فيها
بعد الزوال لم يكن قبل الزوال وقتا له, ولأبي
حنيفة الاعتبار بسائر الأيام, وهو أن في سائر
الأيام ما بعد الزوال إلى غروب الشمس وقت
الرمي فكذا في هذا اليوم؛ لأن هذا اليوم إنما
يفارق سائر الأيام في ابتداء الرمي لا في
انتهائه فكان مثل سائر الأيام في الانتهاء
فكان آخره وقت الرمي كسائر الأيام, فإن لم يرم
حتى غربت الشمس فيرمي قبل طلوع الفجر من اليوم
الثاني أجزأه ولا شيء عليه في قول أصحابنا,
وللشافعي فيه قولان, في قول: إذا غربت الشمس
فقد فات الوقت وعليه الفدية, وفي قول: لا يفوت
إلا في آخر أيام التشريق, والصحيح قولنا لما
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أذن للرعاء أن يرموا بالليل", ولا يقال إنه رخص لهم ذلك لعذر؛ لأنا نقول ما كان لهم عذر؛ لأنه
كان يمكنهم أن يستنيب بعضهم بعضا فيأتي
بالنهار فيرمي فثبت أن الإباحة كانت لعذر فيدل
على الجواز مطلقا فلا يجب الدم, فإن أخر الرمي
حتى طلع الفجر من اليوم الثاني رمى, وعليه دم
للتأخير في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف,
ومحمد لا شيء عليه, والكلام فيه يرجع إلى أن
الرمي مؤقت عنده, وعندهما ليس بمؤقت, وهو قول
الشافعي, وهو على الاختلاف الذي ذكرنا في طواف
الزيارة في أيام النحر أنه مؤقت بها وجوبا
عنده حتى يجب الدم بالتأخير عنها, وعندهم ليس
بمؤقت أصلا فلا يجب بالتأخير شيء, والحجج من
الجانبين, وجواب أبي حنيفة عن تعلقهما بالخبر,
والمعنى ما ذكرنا في الطواف, والله أعلم.
ج / 2 ص -138-
الرمي
في يوم النحر فكذا في اليوم الثاني والثالث؛
لأن الكل أيام النحر, وجه الرواية المشهورة ما
روي عن جابر رضي الله عنه "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم رمى الجمرة يوم النحر ضحى,
ورمى في بقية الأيام بعد الزوال", وهذا باب لا
يعرف بالقياس بل بالتوقيف, فإن أخر الرمي
فيهما إلى الليل فرمى قبل طلوع الفجر جاز, ولا
شيء عليه؛ لأن الليل وقت الرمي في أيام الرمي
لما روينا من الحديث فإذا رمى في اليوم الثاني
من أيام التشريق بعد الزوال فأراد أن ينفر من
منى إلى مكة, وهو المراد من النفر الأول فله
ذلك لقوله تعالى
{فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} أي من نفر إلى مكة بعدما رمى يومين من أيام التشريق, وترك الرمي في
اليوم الثالث فلا إثم عليه في تعجيله, والأفضل
أن لا يتعجل بل يتأخر إلى آخر أيام التشريق,
وهو اليوم الثالث منها فيستوفي الرمي في
الأيام كلها ثم ينفر, وهو المعني من النفر
الثاني, وذلك معنى قوله تعالى
{وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ}, وفي ظاهر هذه الآية الشريفة إشكال من وجهين: أحدهما أنه ذكر قوله
تعالى
{فَلا إِثْمَ
عَلَيْهِ} في المتعجل, والمتأخر جميعا, وهذا إن كان يستقيم في حق المتعجل؛
لأنه يترخص لا يستقيم في حق المتأخر؛ لأنه أخذ
بالعزيمة والأفضل, والثاني أنه قال تعالى في
المتأخر
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى}
قيده بالتقوى, وهذا التقييد بالمتعجل أليق؛
لأنه أخذ بالرخصة, ولم يذكر فيه هذا التقييد,
والجواب عن الإشكال الأول ما روي عن ابن عباس
رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية فمن تعجل
في يومين غفر له, ومن تأخر غفر له وكذا روي عن
ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال في قوله تعالى
{فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} رجع مغفورا له, وأما قوله تعالى
{لِمَنِ اتَّقَى}
فهو بيان أن ما سبق من وعد المغفرة للمتعجل
والمتأخر بشرط التقوى, ثم من أهل التأويل من
صرف التقوى إلى الاتقاء عن قتل الصيد في
الإحرام أي لمن اتقى قتل الصيد في حال
الإحرام, وصرف أيضا قوله تعالى
{وَاتَّقُوا اللَّهَ} أي
فاتقوا الله ولا تستحلوا قتل الصيد في
الإحرام, ومنهم من صرف التقوى إلى الاتقاء عن
المعاصي كلها في الحج, وفيما بقي من عمره,
ويحتمل أن يكون المراد منه التقوى عما حظر
عليه الإحرام من الرفث, والفسوق, والجدال,
وغيرها, والله أعلم. وإنما يجوز له النفر في
اليوم الثاني والثالث ما لم يطلع الفجر من
اليوم الثاني فإذا طلع الفجر لم يجز له النفر.
وأما وقت الرمي من اليوم الثالث من أيام
التشريق, وهو اليوم الرابع من أيام الرمي
فالوقت المستحب له بعد الزوال, ولو رمى قبل
الزوال يجوز في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي
يوسف, ومحمد لا يجوز, واحتجا بما روي عن جابر
رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم
رمى الجمرة يوم النحر ضحى, ورمى في بقية
الأيام بعد الزوال", وأوقات المناسك لا تعرف
قياسا فدل أن وقته بعد الزوال, ولأن هذا يوم
من أيام الرمي فكان وقت الرمي فيه بعد الزوال
كاليوم الثاني والثالث من أيام التشريق, ولأبي
حنيفة ما روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه
قال إذا افتتح النهار من آخر أيام التشريق جاز
الرمي, والظاهر أنه قاله سماعا من النبي صلى
الله عليه وسلم إذ هو باب لا يدرك بالرأي,
والاجتهاد فصار اليوم الأخير من أيام التشريق
مخصوصا من حديث جابر رضي الله عنه بهذا الحديث
أو يحمل فعله في اليوم الأخير على الاستحباب,
ولأن له أن ينفر قبل الرمي, ويترك الرمي في
هذا اليوم رأسا فإذا جاز له ترك الرمي أصلا
فلأن يجوز له الرمي قبل الزوال أولى, والله
أعلم.
"فصل": وأما مكان الرمي ففي يوم النحر عند جمرة العقبة, وفي الأيام الأخر
عند ثلاثة مواضع: عند الجمرة الأولى, والوسطى,
والعقبة, ويعتبر في ذلك كله مكان وقوع الجمرة
لا مكان الرمي حتى لو رماها من مكان بعيد
فوقعت الحصاة عند الجمرة أجزأه, وإن لم تقع
عنده لم تجزها إلا إذا, وقعت بقرب منها؛ لأن
ما يقرب من ذلك المكان كان في حكمه لكونه تبعا
له, والله أعلم.
"فصل": وأما الكلام في عدد الجمار وقدرها, وجنسها, ومأخذها, ومقدار ما
يرمى كل يوم عند كل موضع, وكيفية الرمي, وما
يسن في ذلك, وما يستحب, وما يكره فيأتي إن شاء
الله تعالى في بيان سنن أفعال الحج, والله
أعلم.
ج / 2 ص -139-
يبلغ
دما. والأصل أن ما يجب في جميعه دم يجب في
أقله صدقة لما نذكر إن شاء الله تعالى, وههنا
لو ترك جميع الرمي إلى الغد كان عليه دم عند
أبي حنيفة فإذا ترك أقله تجب عليه الصدقة إلا
أن يبلغ دما لما نذكر, وإن ترك الأكثر منها
فعليه دم في قول أبي حنيفة؛ لأن في جميعه دم
عنده فكذا في أكثره, وعند أبي يوسف, ومحمد لا
يجب في جميعه دم فكذا في أكثره, فإن ترك رمي
أحد الجمار الثلاث من اليوم الثاني فعليه
صدقة؛ لأنه ترك أقل, وظيفة اليوم, وهو رمي سبع
حصيات فكان صدقة إلى أن يصير المتروك أكثر من
نصف الوظيفة؛ لأن وظيفة كل يوم ثلاث جمار فكان
رمي جمرة منها أقلها. ولو ترك الكل, وهو
الجمار الثلاث فيه للزمه عنده دم فيجب في
أقلها الصدقة بخلاف اليوم الأول, وهو يوم
النحر إذا ترك الجمرة فيه, وهو سبع حصيات أنه
يلزمه دم عنده؛ لأن سبع حصيات كل, وظيفة اليوم
الأول فكان تركه بمنزلة ترك كل, وظيفة اليوم
الثاني والثالث, وذلك أحد وعشرون حصاة, وترك
ثلاث حصيات فيه بمنزلة ترك جمرة تامة من اليوم
الثاني والثالث, وهي سبع حصيات, فإن ترك الرمي
كله في سائر الأيام إلى آخر أيام الرمي, وهو
اليوم الرابع فإنه يرميها فيه على الترتيب,
وعليه دم عنده, وعندهما لا دم عليه لما بينا
أن الرمي مؤقت عنده, وعندهما ليس بمؤقت ثم على
قوله لا يلزمه إلا دم واحد, وإن كان ترك وظيفة
يوم واحد بانفراده يوجب دما واحدا, ومع ذلك لا
يجب عليه لتأخير الكل إلا دم واحد؛ لأن جنس
الجناية واحد, حظرها إحرام واحد من جهة غير
متقومة فيكفيها دم واحد كما لو حلق المحرم ربع
رأسه أنه يجب عليه دم واحد, ولو حلق جميع رأسه
يلزمه دم واحد أيضا. وكذا لو طيب عضوا واحدا
أو طيب أعضاءه كلها أو لبس ثوبا واحدا أو لبس
ثيابا كثيرة لا يلزمه في ذلك كله إلا دم واحد
كذا ههنا, بخلاف ما إذا قتل صيودا أنه يجب
عليه لكل صيد جزاؤه على حدة؛ لأن الجهة هناك
متقومة, فإن ترك الكل حتى غربت الشمس من آخر
أيام التشريق, وهو آخر أيام الرمي يسقط عنه
الرمي, وعليه دم واحد في قولهم جميعا. أما
سقوط الرمي فلأن الرمي عبادة مؤقتة, والأصل في
العبادات المؤقتة إذا فات وقتها أن تسقط,
وإنما القضاء في بعض العبادات المؤقتة يجب
بدليل مبتدأ, ثم إنما وجب هناك لمعنى لا يوجد
ههنا, وهو أن القضاء صرف ما له إلى ما عليه
فيستدعي أن يكون جنس الفائت مشروعا في وقت
القضاء فيمكنه صرف ما له إلى ما عليه, وهذا لا
يوجد في الرمي؛ لأنه ليس في غير هذه الأيام
رمي مشروع على هيئة مخصوصة ليصرف ما له إلى ما
عليه فتعذر القضاء فسقط ضرورة, ونظير هذا إذا
فاتته صلاة في أيام التشريق فقضاها في غيرها
أنه يقضيها بلا تكبير؛ لأنه ليس في وقت القضاء
تكبير مشروع ليصرف ما له إلى ما عليه فسقط
أصلا كذا هذا. وأما وجوب الدم فلتركه الواجب
عن وقته, أما عند أبي حنيفة فظاهر؛ لأن رمي كل
يوم مؤقت, وعندهما إن لم يكن مؤقتا فهو مؤقت
بأيام الرمي فقد ترك الواجب عن وقته فإن ترك
الترتيب في اليوم الثاني فبدأ بجمرة العقبة
فرماها ثم بالوسطى ثم بالتي تلي المسجد ثم ذكر
ذلك في يومه فإنه ينبغي أن يعيد الوسطى وجمرة
العقبة, وإن لم يعد أجزأه, ولا يعيد الجمرة
الأولى, أما إعادة الوسطى وجمرة العقبة فلتركه
الترتيب, فإنه مسنون؛ لأن النبي صلى الله عليه
وسلم رتب فإذا ترك المسنون تستحب الإعادة, ولا
يعيد الأولى؛ لأنه إذا أعاد الوسطى والعقبة
صارت هي الأولى, وإن لم يعد الوسطى والعقبة
أجزأه؛ لأن الرميات مما يجوز أن ينفرد بعضها
من بعض بدليل أن يوم النحر يرمى فيه جمرة
العقبة, ولا يرمى غيرها من الجمار, وفيما جاز
أن ينفرد البعض من البعض لا يشترط فيه الترتيب
كالوضوء, بخلاف ترتيب السعي على الطواف أنه
شرط؛ لأن السعي لا يجوز أن ينفرد عن الطواف
بحال, فإن رمى كل جمرة بثلاث حصيات ثم ذكر ذلك
فإنه يبدأ فيرمي الأولى بأربع حصيات حتى يتم
ذلك؛ لأن رمي تلك الجمرة غير مرتب على غيره
فيجب عليه أن يتم ذلك بأربع حصيات ثم يعيد
الوسطى بسبع حصيات؛ لأن قدر ما فعل حصل قبل
الأولى فيعيد مراعاة للترتيب. ألا ترى أنه لو
فعل الكل يعيد فإذا رمى الثلاث أولى أن يعيد,
وكذلك جمرة العقبة, فإن كان قد رمى كل واحدة
بأربع حصيات فإنه يرمي كل واحدة بثلاث, ثلاث
لأن الأربع أكثر الرمي فيقوم مقام الكل فصار
كأنه رتب الثاني
ج / 2 ص -140-
على
رمي كامل. وكذا الثالث, وإن استقبل رميها فهو
أفضل ليكون الرمي في الثلاث البواقي على الوجه
المسنون, وهو الترتيب, ولو نقص حصاة لا يدري
من أيتهن نقصها أعاد على كل واحد منهن حصاة
إسقاطا للواجب عن نفسه بيقين كمن ترك صلاة
واحدة من الصلوات الخمس لا يدري أيتها هي: أنه
يعيد خمس صلوات ليخرج عن العهدة بيقين كذا
هذا, والله أعلم.
"فصل": وأما الحلق أو التقصير فالكلام فيه يقع في. وجوبه, وفي بيان مقدار
الواجب, وفي بيان زمانه, ومكانه, وفي بيان
حكمه إذا وجد, وفي بيان حكم تأخره عن وقته,
وفعله في غير مكانه. أما الأول فالحلق أو
التقصير واجب عندنا إذا كان على رأسه شعر لا
يتحلل بدونه, وعند الشافعي ليس بواجب, ويتحلل
من الحج بالرمي, ومن العمرة بالسعي, احتج عما
روي عن ابن عمر رضي الله عنه أن عمر رضي الله
عنه خطب بعرفة, وعلمهم أمر الحج فقال لهم: إذا
جئتم منى فمن رمى الجمرة فقد حل له ما حرم على
الحاج إلا النساء, والطيب حتى يطوف بالبيت,
ولنا قوله تعالى
{ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}. وروي عن ابن عمر رضي الله عنه أن التفث حلاق الشعر, ولبس الثياب,
وما يتبع ذلك, وهو قول أهل التأويل إنه حلق
الرأس, وقص الأظافر, والشارب, ولأن التفث في
اللغة الوسخ يقال: امرأة تفثة إذا كانت خبيثة
الرائحة وقوله تعالى
{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ
الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ
آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ
وَمُقَصِّرِينَ}
قيل في بعض وجوه التأويل: إن قوله لتدخلن خبر
بصيغته, ومعناه الأمر أي ادخلوا المسجد الحرام
إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم ومقصرين
فيقتضي وجوب الدخول بصفة الحلق أو التقصير؛
لأن مطلق الأمر لوجوب العمل, والاستثناء على
هذا التأويل يرجع إلى قوله:
{آمِنِينَ}
أي إن شاء الله أن تأمنوا تدخلوا, وإن شاء لا
تأمنوا لا تدخلونه, وإن كانت الآية على
الإخبار والوعد على ما يقتضيه ظاهر الصيغة فلا
بد, وأن يكون المخبر به على ما أخبر, وهو
دخولهم محلقين ومقصرين, وذلك متعلق باختيارهم.
وقد يوجد وقد لا يوجد فلا بد من الدخول ليكون
الوجوب حاملا لهم على التحصيل فيوجد المخبر به
ظاهرا, وغالبا فالاستثناء على هذا التأويل
يكون على طريق التيمن والتبرك باسم الله
تعالى, أو يرجع إلى دخول بعضهم دون بعض لجواز
أن يموت البعض أو يمنع بمانع فيحمل عليه لئلا
يؤدي إلى الخلف في الخبر, وقوله
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} أي: بعضكم محلقين, وبعضكم مقصرين لإجماعنا على أنه لا يجمع بين
الحلق, والتقصير فدل أن الحلق أو التقصير,
واجب, لكن الحلق أفضل؛ لأنه روي أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم "دعا للمحلقين ثلاثا,
وللمقصرين مرة واحدة فقال: اللهم اغفر
للمحلقين, فقيل له: والمقصرين, فقال: اللهم
اغفر للمحلقين, فقيل له: والمقصرين, فقال:
اللهم اغفر للمحلقين, والمقصرين, ولأن في
الحلق تقصيرا وزيادة, ولا حلق في التقصير
أصلا, فكان الحلق أفضل. وأما حديث عمر رضي
الله عنه فيضمر فيه الحلق أو التقصير, معناه
فمن رمى الجمرة, وحلق أو قصر فقد حل, ويجب
حمله على هذا ليكون موافقا للكتاب, هذا إذا
كان على رأسه شعر, فأما إذا لم يكن: أجرى
الموسى على رأسه لما روي عن ابن عمر أنه قال:
من جاء يوم النحر ولم يكن على رأسه شعر أجرى
الموسى على رأسه, والقدوري رواه مرفوعا إلى
رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه إذا عجز
عن تحقيق الحلق فلم يعجز عن التشبه بالحالقين.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم
"من تشبه بقوم
فهو منهم", فإن حلق رأسه بالنورة أجزأه والموسى أفضل, أما الجواز فلحصول
المقصود, وهو إزالة الشعر. وأما أفضلية الحلق
بالموسى فلقوله تعالى
{مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ} وإطلاق اسم الحلق يقع على الحلق بالموسى. وكذا "النبي صلى الله
عليه وسلم حلق بالموسى, وكان يختار من الأعمال
أفضلها", وهذا إذا لم يكن محصرا, فأما المحصر
فلا حلق عليه في قول أبي حنيفة, ومحمد, وفي
قول أبي يوسف: عليه الحلق, وسنذكر المسألة إن
شاء الله تعالى في بيان أحكام الإحصار. ولو
وجب عليه الحلق, والتقصير فغسل رأسه بالخطمي
مقام الحلق, لا يقوم مقامه, وعليه الدم لغسل
رأسه بالخطمي في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي
يوسف, ومحمد لا دم عليه, ذكر الطحاوي الخلاف,
وقال الجصاص: لا أعرف فيه خلافا, والصحيح أنه
يلزمه الدم؛ لأن الحلق أو التقصير, واجب لما
ذكرنا فلا يقع التحلل إلا بأحدهما, ولم
ج / 2 ص -141-
يوجد
فكان إحرامه باقيا فإذا غسل رأسه بالخطمي فقد
أزال التفث في حال قيام الإحرام فيلزمه الدم,
والله أعلم. ولا حلق على المرأة لما روي عن
ابن عباس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال "ليس على النساء حلق, وإنما
عليهن تقصير", وروت عائشة رضي الله عنها أن
"النبي صلى الله عليه وسلم نهى المرأة أن تحلق
رأسها", ولأن الحلق في النساء مثلة, ولهذا لم
تفعله واحدة من نساء رسول الله صلى الله عليه
وسلم ولكنها تقصر فتأخذ من أطراف شعرها قدر
أنملة لما روي عن عمر رضي الله عنه أنه سئل
فقيل له: كم تقصر المرأة ؟, فقال: مثل هذه,
وأشار إلى أنملته, وليس على الحاج إذا حلق أن
يأخذ من لحيته شيئا, وقال الشافعي إذا حلق
ينبغي أن يأخذ من لحيته شيئا لله تعالى, وهذا
ليس بشيء؛ لأن الواجب حلق الرأس بالنص الذي
تلونا, ولأن حلق اللحية من باب المثلة؛ لأن
الله تعالى زين الرجال باللحى, والنساء
بالذوائب على ما روي في الحديث "إن لله تعالى
ملائكة تسبيحهم سبحان من زين الرجال باللحى,
والنساء بالذوائب", ولأن ذلك تشبه بالنصارى
فيكره.
"فصل": وأما مقدار الواجب, فأما الحلق فالأفضل حلق جميع الرأس لقوله عز
وجل
{مُحَلِّقِينَ
رُؤُوسَكُمْ}, والرأس اسم للجميع. وكذا روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم
حلق جميع رأسه" فإنه روي "أنه رمى ثم ذبح ثم
دعا بالحلاق فأشار إلى شقه الأيمن فحلقه, وفرق
شعره بين الناس ثم أشار إلى الأيسر فحلقه
وأعطاه لأم سليم". وروي أنه قال صلى الله عليه
وسلم
"أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح" ثم الحلق والحلق المطلق يقع على حلق جميع الرأس, ولو حلق بعض
الرأس, فإن حلق أقل من الربع لم يجزه, وإن حلق
ربع الرأس أجزأه, ويكره. أما الجواز فلأن ربع
الرأس يقوم مقام كله في القرب المتعلقة بالرأس
كمسح ربع الرأس في باب الوضوء. وأما الكراهة
فلأن المسنون هو حلق جميع الرأس لما ذكرنا,
وترك المسنون مكروه, وأما التقصير فالتقدير
فيه بالأنملة لما روينا من حديث عمر رضي الله
عنه لكن أصحابنا قالوا: يجب أن يزيد في
التقصير على قدر الأنملة؛ لأن الواجب هذا
القدر من أطراف جميع الشعر, وأطراف جميع الشعر
لا يتساوى طولها عادة بل تتفاوت فلو قصر قدر
الأنملة لا يصير مستوفيا قدر الأنملة من جميع
الشعر بل من بعضه فوجب أن يزيد عليه حتى
يستيقن باستيفاء قدر الواجب فيخرج عن العهدة
بيقين.
"فصل": وأما بيان زمانه, ومكانه فزمانه أيام النحر, ومكانه الحرم, وهذا
قول أبي حنيفة إن الحلق يختص بالزمان,
والمكان, وقال أبو يوسف لا يختص بالزمان, ولا
بالمكان, وقال محمد يختص بالمكان لا بالزمان,
وقال زفر يختص بالزمان لا بالمكان حتى لو أخر
الحلق عن أيام النحر أو حلق خارج الحرم يجب
عليه الدم في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف لا
دم عليه فيهما جميعا, وعند محمد يجب عليه الدم
في المكان, ولا يجب في الزمان, وعند زفر يجب
في الزمان, ولا يجب في المكان احتج زفر بما
روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حلق عام
الحديبية, وأمر أصحابه بالحلق", وحديبية من
الحل فلو اختص بالمكان, وهو الحرم لما جاز في
غيره, ولو كان كذلك لما فعل بنفسه, ولما أمر
أصحابه فدل أن الحلق لا يختص جوازه بالمكان,
وهو الحرم, وهذا أيضا حجة أبي يوسف في المكان,
ولأبي يوسف, ومحمد في أنه لا يختص بزمان ما
روي "أن رجلا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم فقال: حلقت قبل أن أذبح فقال صلى الله
عليه وسلم:
اذبح, ولا حرج, وجاءه آخر فقال ذبحت قبل أن
أرمي, فقال: ارم, ولا حرج" فما سئل في ذلك اليوم عن تقديم نسك, وتأخيره إلا قال: افعل, ولا
حرج ولأبي حنيفة "أنه صلى الله عليه وسلم حلق
في أيام النحر في الحرم" فصار فعله بيانا
لمطلق الكتاب, ويجب عليه بتأخيره دم عنده؛ لأن
تأخير الواجب بمنزلة الترك في حق وجوب الجابر
لما ذكرنا في طواف الزيارة. وأما حديث
الحديبية فقد ذكرنا أن الحديبية بعضها من
الحل, وبعضها من الحرم فيحتمل أنهم حلقوا في
الحرم فلا يكون حجة مع الاحتمال مع ما أنه روي
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نزل
بالحديبية في الحل, وكان يصلي في الحرم"
فالظاهر أنه لم يحلق في الحل, وله سبيل الحلق
في الحرم, وأما الحديث الآخر فنقول بموجبه:
إنه لا حرج في التأخير عن المكان والزمان, وهو
الإثم لكن انتفاء الإثم لا يوجب انتفاء
الكفارة كما في كفارة الحلق عند الأذى وكفارة
قتل الخطأ, ولو لم يحلق حتى خرج من الحرم ثم
عاد إلى الحرم
ج / 2 ص -142-
فحلق
أو قصر فلا دم عليه لوجود الشرط على قول من
يجعل المكان شرطا.
"فصل": وأما حكم الحلق فحكمه حصول التحلل, وهو صيرورته حلالا يباح له جميع
ما حظر عليه الإحرام إلا النساء, وهذا قول
أصحابنا, وقال مالك إلا النساء, والطيب, وقال
الليث إلا النساء, والصيد, وقال الشافعي يحل
له بالحلق الوطء فيما دون الفرج, والمباشرة,
احتج مالك بما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال "إذا حلقتم فقد حل لكم كل شيء
إلا النساء, والطيب", والصحيح قولنا لما روي
عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال
"من رمى ثم ذبح ثم حلق فقد حل له كل شيء إلا النساء", والحديث حجة على الكل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أنه حل
له كل شيء, واستثنى النساء فبقي الطيب والصيد
داخلين تحت نص المستثنى منه, وهو إحلال ما سوى
النساء, وخرج الوطء فيما دون الفرج, والمباشرة
عن الإحلال بنص الاستثناء. وأما حديث عمر
"فقيل: إنه لما بلغ عائشة رضي الله عنها قالت
يغفر الله لهذا الشيخ لقد طيبت رسول الله صلى
الله عليه وسلم حين حلق".
"فصل": وأما حكم تأخيره عن زمانه, ومكانه فوجوب الدم عند أبي حنيفة وأبو
يوسف خالفه في الزمان والمكان ومحمد, وافقه في
المكان لا في الزمان, وزفر, وافقه في الزمان
لا في المكان على ما ذكرنا, والله أعلم.
ج / 2 ص -143-
لا إلى
بدل" فدل أنه غير واجب عليهن إذ لو كان واجبا
لما جاز تركه لا إلى بدل, وهو الدم فأما
الطهارة عن الحدث, والجنابة فليست بشرط
للوجوب, ويجب على المحدث والجنب؛ لأنه يمكنهما
إزالة الحدث والجنابة فلم يكن ذلك عذرا, والله
أعلم.
"فصل": وأما شرائط جوازه فمنها النية؛ لأنه عبادة فلا بد له من النية,
فأما تعيين النية فليس بشرط حتى لو طاف بعد
طواف الزيارة لا يعين شيئا أو نوى تطوعا كان
للصدر؛ لأن الوقت تعين له فتنصرف مطلق النية
إليه كما في صوم رمضان. ومنها أن يكون بعد
طواف الزيارة حتى إذا نفر في النفر الأول فطاف
طوافا لا ينوي شيئا أو نوى تطوعا أو الصدر:
يقع عن الزيارة لا عن الصدر؛ لأن الوقت له
طواف, وطواف الصدر مرتب عليه. فأما النفر على
فور الطواف فليس من شرائط جوازه حتى لو طاف
للصدر ثم تشاغل بمكة بعده لا يجب عليه طواف
آخر, فإن قيل أليس أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال
"من حج هذا
البيت فليكن آخر عهده به الطواف" فقد
أمر أن يكون آخر عهده الطواف بالبيت, ولما
تشاغل بعده لم يقع الطواف آخر عهده به فيجب أن
لا يجوز؛ إذ لم يأت بالمأمور به فالجواب أن
المراد منه آخر عهده بالبيت نسكا لا إقامة,
والطواف آخر مناسكه بالبيت, وإن تشاغل بغيره.
وروي عن أبي حنيفة أنه قال إذا طاف للصدر ثم
أقام إلى العشاء فأحب إلي أن يطوف طوافا آخر
لئلا يحول بين طوافه وبين نفره حائل. وكذا
الطهارة عن الحدث والجنابة ليست بشرط لجوازه
فيجوز طوافه إذا كان محدثا أو جنبا ويعتد به,
والأفضل أن يعيد طاهرا, فإن لم يعد جاز, وعليه
شاة إن كان جنبا؛ لأن النقص كثير فيجبر بالشاة
كما لو ترك أكثر الأشواط, وإن كان محدثا ففيه
روايتان عن أبي حنيفة: في رواية عليه صدقة,
وهي الرواية الصحيحة, وهو قول أبي يوسف ومحمد؛
لأن النقص يسير فصار كشوط أو شوطين, وفي رواية
عليه شاة؛ لأنه طواف واجب فأشبه طواف الزيارة,
وكذا ستر عورته ليس بشرط للجواز حتى لو طاف
مكشوف العورة قدر ما لا تجوز به الصلاة جاز,
ولكن يجب عليه الدم. وكذا الطهارة عن النجاسة
إلا أنه يكره, ولا شيء عليه, والفرق ما ذكرنا
في طواف الزيارة, والله أعلم.
"فصل": وأما قدره, وكيفيته فمثل سائر الأطوفة, ونذكر السنن التي تتعلق به
في بيان سنن الحج إن شاء الله تعالى.
ج / 2 ص -144-
له: إن
أسماء قد نفست, وكانت, ولدت محمد بن أبي بكر
رضي الله عنه فقال له النبي صلى الله عليه
وسلم
مرها فلتغتسل, ولتحرم بالحج". وكذا روي أن عائشة رضي الله عنها حاضت فأمرها بالاغتسال والإهلال
بالحج, والأمر بالاغتسال في الحديثين على وجه
الاستحباب دون الإيجاب؛ لأن الاغتسال عن
الحيض, والنفاس لا يجب حال قيام الحيض
والنفاس, وإنما كان الاغتسال أفضل؛ لأن النبي
صلى الله عليه وسلم اختاره على الوضوء
لإحرامه, وكان يختار من الأعمال أفضلها. وكذا
أمر به عائشة وأسماء رضي الله عنهما, ويلبس
ثوبين إزارا, ورداء؛ لأنه روي أن النبي صلى
الله عليه وسلم لبس ثوبين إزارا, ورداء, ولأن
المحرم ممنوع عن لبس المخيط, ولا بد من ستر
العورة, وما يتقى به الحر والبرد, وهذه
المعاني تحصل بإزار ورداء جديدين كانا أو
غسيلين؛ لأن المقصود يحصل بكل, واحد منهما إلا
أن الجديد أفضل؛ لأنه أنظف, وينبغي لولي من
أحرم من الصبيان العقلاء أن يجرده, ويلبسه
ثوبين إزارا ورداء؛ لأن الصبي في مراعاة السنن
كالبالغ. , ويدهن بأي دهن شاء, ويتطيب بأي طيب
شاء سواء كان طيبا تبقى عينه بعد الإحرام أو
لا تبقى في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وهو قول
محمد أولا, ثم رجع, وقال: يكره له أن يتطيب
بطيب تبقى عينه بعد الإحرام. وحكي عن محمد في
سبب رجوعه أنه قال: كنت لا أرى به بأسا حتى
رأيت قوما أحضروا طيبا كثيرا, ورأيت أمرا
شنيعا فكرهته, وهو قول مالك, احتج محمد بما
روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم قال
للأعرابي: اغسل عنك هذا الخلوف". وروي عن عمر,
وعثمان رضي الله عنهما أنهما كرها ذلك, ولأنه
إذا بقي عينه ينتقل من الموضع الذي طيبه إلى
موضع آخر فيصير كأنه طيب ذلك الموضع ابتداء
بعد الإحرام, ولأبي حنيفة, وأبي يوسف ما روي
عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "طيبت رسول
الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم,
ولإحلاله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت, ولقد
رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد إحرامه", ومعلوم أن وبيص الطيب
إنما يتبين مع بقاء عينه فدل أن الطيب كان
بحيث تبقى عينه بعد الإحرام, ولأن التطيب بعد
حصل مباحا في الابتداء لحصوله في غير حال
الإحرام, والبقاء على التطيب لا يسمى تطيبا
فلا يكره كما إذا حلق رأسه ثم أحرم. وأما حديث
الأعرابي فهو محمول على ما إذا كان عليه ثوب
مزعفر, والرجل يمنع من المزعفر في غير حال
الإحرام ففي حال الإحرام أولى, حملناه على هذا
توفيقا بين الحديثين بقدر الإمكان. وأما حديث
عمر, وعثمان فقد روي عن ابن عمر, وعائشة رضي
الله عنهما بخلافه فوقع التعارض فسقط الاحتجاج
بقولهما, وما ذكر من معنى الانتقال إلى مكان
آخر غير سديد؛ لأن اعتباره يوجب الجزاء لو
انتقل, وليس كذلك بالإجماع. ولو ابتدأ الطيب
بعد الإحرام فوجبت عليه الكفارة فكفر, وبقي
عليه هل يلزمه كفارة أخرى ببقاء الطيب عليه,
اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: يلزمه كفارة
أخرى؛ لأن ابتداء الإحرام كان محظورا لوجوده
في حال الإحرام فكذا البقاء عليه بخلاف
المسألة الأولى, وقال بعضهم لا يلزمه كفارة
أخرى؛ لأن حكم الابتداء قد سقط عنه بالكفارة,
والبقاء على الطيب لا يوجب الكفارة كما في
المسألة الأولى ويلبس ثوبين إزارا, ورداء؛
لأنه روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لبس
ثوبين إزارا, ورداء, ولأن المحرم ممنوع عن لبس
المخيط, ولا بد من ستر العورة, وما يتقى به
الحر والبرد, وهذه المعاني تحصل بإزار ورداء
جديدين كانا أو غسيلين؛ لأن المقصود يحصل بكل,
واحد منهما إلا أن الجديد أفضل؛ لأنه أنظف,
وينبغي لولي من أحرم من الصبيان العقلاء أن
يجرده, ويلبسه ثوبين إزارا ورداء؛ لأن الصبي
في مراعاة السنن كالبالغ. , ويدهن بأي دهن
شاء, ويتطيب بأي طيب شاء سواء كان طيبا تبقى
عينه بعد الإحرام أو لا تبقى في قول أبي
حنيفة, وأبي يوسف, وهو قول محمد أولا, ثم رجع,
وقال: يكره له أن يتطيب بطيب تبقى عينه بعد
الإحرام. وحكي عن محمد في سبب رجوعه أنه قال:
كنت لا أرى به بأسا حتى رأيت قوما أحضروا طيبا
كثيرا, ورأيت أمرا شنيعا فكرهته, وهو قول
مالك, احتج محمد بما روي "أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال للأعرابي:
اغسل عنك
هذا الخلوف". وروي عن عمر, وعثمان رضي الله عنهما أنهما كرها ذلك, ولأنه إذا
بقي عينه ينتقل من الموضع الذي طيبه إلى موضع
آخر فيصير كأنه طيب ذلك الموضع ابتداء بعد
الإحرام, ولأبي حنيفة, وأبي يوسف ما روي عن
عائشة رضي الله عنها أنها قالت "طيبت رسول
الله صلى الله عليه وسلم لإحرامه حين أحرم,
ولإحلاله حين أحل قبل أن يطوف بالبيت, ولقد
رأيت وبيص الطيب في مفارق رسول الله صلى الله
عليه وسلم بعد إحرامه", ومعلوم أن وبيص الطيب
إنما يتبين مع بقاء عينه فدل أن الطيب كان
بحيث تبقى عينه بعد الإحرام, ولأن التطيب بعد
حصل مباحا في الابتداء لحصوله في غير حال
الإحرام, والبقاء على التطيب لا يسمى تطيبا
فلا يكره كما إذا حلق رأسه ثم أحرم. وأما حديث
الأعرابي فهو محمول على ما إذا كان عليه ثوب
مزعفر, والرجل يمنع من المزعفر في غير حال
الإحرام ففي حال الإحرام أولى, حملناه على هذا
توفيقا بين الحديثين بقدر الإمكان. وأما حديث
عمر, وعثمان فقد روي عن ابن عمر, وعائشة رضي
الله عنهما بخلافه فوقع التعارض فسقط الاحتجاج
بقولهما, وما ذكر من معنى الانتقال إلى مكان
آخر غير سديد؛ لأن اعتباره يوجب الجزاء لو
انتقل, وليس كذلك بالإجماع. ولو ابتدأ الطيب
بعد الإحرام فوجبت عليه الكفارة فكفر, وبقي
عليه هل يلزمه كفارة أخرى ببقاء الطيب عليه,
اختلف المشايخ فيه, قال بعضهم: يلزمه كفارة
أخرى؛ لأن ابتداء الإحرام كان محظورا لوجوده
في حال الإحرام فكذا البقاء عليه بخلاف
المسألة الأولى, وقال بعضهم لا يلزمه كفارة
أخرى؛ لأن حكم الابتداء قد سقط عنه بالكفارة,
والبقاء على الطيب لا يوجب الكفارة كما في
المسألة الأولى. , ثم يصلي ركعتين لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"أتاني آت من ربي, وأنا بالعقيق, وقال لي: صل في هذا الوادي المبارك
ركعتين, وقل: لبيك بعمرة وحجة"؛ وإنما يقدم العمرة على الحج في الذكر
ج / 2 ص -145-
لأن
النبي صلى الله عليه وسلم أمر أن يقول كذلك
ولأن العمرة تقدم على الحج في الفعل فكذلك في
الذكر ثم يلبي في دبر كل صلاة, وهو الأفضل
عندنا, وقال الشافعي الأفضل أن يلبي بعد ما
استوى على راحلته, وقال مالك بعد ما استوى على
البيداء, وإنما اختلفوا فيه لاختلاف الرواية
في أول تلبية النبي صلى الله عليه وسلم, روي
عن ابن عباس رضي الله عنه "أنه لبى دبر
صلاته". وروي عن ابن عمر رضي الله عنه "أنه
لبى حين ما استوى على راحلته". وروى جابر بن
عبد الله رضي الله عنه "أنه صلى الله عليه
وسلم لبى حين استوى على البيداء", وأصحابنا
أخذوا برواية ابن عباس رضي الله عنه؛ لأنها
محكمة في الدلالة على الأولية, ورواية ابن عمر
وجابر رضي الله عنهما محتملة لجواز أن ابن عمر
رضي الله عنه لم يشهد تلبية النبي صلى الله
عليه وسلم دبر الصلاة, وإنما شهد تلبيته حال
استوائه على الراحلة فظن أن ذلك أول تلبيته
فروى ما رأى, وجابر لم ير تلبيته إلا عند
استوائه على البيداء فظن أنه أول تلبيته فروى
ما رأى. والدليل على صحة هذا التأويل ما روي
عن سعيد بن جبير أنه قال: قلت لابن عباس كيف
اختلف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في
إهلاله؟ فقال: أنا أعلم بذلك, صلى رسول الله
صلى الله عليه وسلم في مسجد ذي الحليفة
ركعتين, وأهل بالحج, وكانت ناقته مسرجة على
باب المسجد, وابن عمر عندها فرآه قوم فقالوا:
أهل عقيب الصلاة ثم استوى على راحلته, وأهل
فكان الناس يأتونه أرسالا فأدركه قوم, فقالوا:
إنما أهل حين استوى على راحلته ثم ارتفع على
البيداء فأهل فأدركه قوم فقالوا إنما أهل حين
ارتفع على البيداء, وأيم الله لقد أوجبه في
مصلاه, ويكثر التلبية بعد ذلك في أدبار
الصلوات فرائض كانت أو نوافل, وذكر الطحاوي
أنه يكثر في أدبار المكتوبات دون النوافل
والفوائت, وأجراها مجرى التكبير في أيام
التشريق, والمذكور في ظاهر الرواية في أدبار
الصلوات عاما من غير تخصيص, ولأن فضيلة
التلبية عقيب الصلاة لاتصالها بالصلاة التي هي
ذكر الله عز وجل إذ الصلاة من أولها إلى آخرها
ذكر الله تعالى, وهذا يوجد في التلبية عقيب كل
صلاة, وكلما علا شرفا, وكلما هبط واديا, وكلما
لقي ركبا, وكلما استيقظ من منامه, وبالأسحار
لما روي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه
وسلم كذا كانوا يفعلون, ويرفع صوته بالتلبية
لما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"أفضل
الحج العج, والثج", والعج هو
رفع الصوت بالتلبية, والثج هو سيلان الدم, وعن
خلاد بن السائب الأنصاري عن أبيه رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"أتاني جبريل, وأمرني أن آمر أصحابي, ومن معي
أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية فإنها من شعائر
الحج" أمر برفع
الصوت في التلبية, وأشار إلى المعنى, وهو أنها
من شعائر الحج, والسبيل في أذكار هي من شعائر
الحج إشهارها, وإظهارها كالأذان ونحوه, والسنة
أن يأتي بتلبية رسول الله صلى الله عليه وسلم,
وهي أن يقول: لبيك اللهم لبيك, لبيك لا شريك
لك لبيك, إن الحمد, والنعمة لك, والملك, لا
شريك لك كذا روي عن ابن مسعود, وابن عمر هذه
الألفاظ في تلبية رسول الله صلى الله عليه
وسلم فالسنة أن يأتي بها, ولا ينقص شيئا منها,
وإن زاد عليها فهو مستحب عندنا, وعند الشافعي
لا يزيد عليها كما لا ينقص منها, وهذا غير
سديد؛ لأنه لو نقص منها لترك شيئا من السنة,
ولو زاد عليها فقد أتى بالسنة, وزيادة.
والدليل عليه ما روي عن جماعة من الصحابة رضي
الله عنهم أنهم كانوا يزيدون على تلبية رسول
الله صلى الله عليه وسلم, كان ابن مسعود رضي
الله تعالى عنه يزيد: لبيك عدد التراب, لبيك
لبيك ذا المعارج, لبيك لبيك إله الحق لبيك,
وكان ابن عمر يزيد: لبيك وسعديك, والخير كله
بيديك, لبيك والرغباء إليك, ويروى: والعمل
والرغباء إليك, ولأن هذا من باب الحمد لله
تعالى, والثناء عليه فالزيادة عليه تكون
مستحبة لا مكروهة, ثم اختلفت الرواية في تلبية
رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه الكلمة,
وهي قوله: لبيك, إن الحمد, والنعمة لك. ورويت
بالكسر والفتح, والكسر أصح, وهكذا ذكر محمد في
الأصل أن الأفضل أن يقول بالكسر, وإنما كان
كذلك؛ لأن معنى الفتح فيها يكون على التفسير
أو التعليل, أي ألبي بأن الحمد لك أو ألبي لأن
الحمد لك, أي لأجل أن الحمد لك, وإذا كسرتها
صار ما بعدها ثناء وذكرا, مبتدأ لا تفسيرا,
ولا تعليلا, فكان أبلغ في الذكر, والثناء فكان
أفضل. وإذا قدم مكة فلا يضره, ليلا دخلها أو
نهارا لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم
دخلها نهارا. وروي أنه دخلها ليلا. وكذا روي
عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها دخلتها
ليلا. وروي أن
ج / 2 ص -146-
الحسن,
والحسين رضي الله تعالى عنهما دخلاها ليلا,
وما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه نهى عن
دخول مكة ليلا فهو محمول على نهي الشفقة مخافة
السرقة كذا أوله إبراهيم النخعي, ولأنه إذا
دخل ليلا لا يعرف موضع النزول فلا يدري أين
ينزل, وربما نزل في غير موضع النزول فيتأذى
به, ويدخل المسجد الحرام. والأفضل أن يدخل من
باب بني شيبة, ويقول: اللهم افتح لي أبواب
رحمتك, وأعذني من الشيطان الرجيم, وإذا, وقع
نظره على البيت يقول ويخفي: سبحان الله,
والحمد لله, ولا إله إلا الله, والله أكبر,
اللهم هذا بيتك, عظمته وشرفته وكرمته فزده
تعظيما وتشريفا وتكريما, ويبدأ بالحجر الأسود
فإذا استقبله كبر, ورفع يديه كما يرفعهما في
الصلاة, لكن حذو منكبيه لما روي عن مكحول "أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل المسجد بدأ
بالحجر الأسود فاستقبله, وكبر, وهلل", وروينا
عن النبي صلى الله عليه وسلم في كتاب الصلاة
أنه قال
"لا ترفع الأيدي إلا في سبع مواطن, وذكر من جملتها عند استلام الحجر
الأسود" ثم
يرسلهما, ويستلم الحجر إن أمكنه ذلك من غير أن
يؤذي أحدا, والأفضل أن يقبله لما روي أن "عمر
رضي الله تعالى عنه التزمه وقبله, وقال: رأيت
رسول الله صلى الله عليه وسلم بك حفيا" وروي
أنه قال: والله "إني لأعلم أنك حجر لا تضر ولا
تنفع, ولولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه
وسلم يقبلك ما قبلتك", وفي رواية أخرى, قال:
"لولا أني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يستلمك ما استلمتك ثم استلمه", وعن ابن عمر
رضي الله تعالى عنهما "أن رسول الله صلى الله
عليه وسلم استقبل الحجر فاستلمه, ثم وضع شفتيه
عليه فبكى طويلا ثم التفت فإذا هو بعمر يبكي,
فقال له: ما
يبكيك؟ فقال: يا رسول الله رأيتك تبكي فبكيت
لبكائك, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
ههنا تسكب العبرات", وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما قال "طاف رسول الله
صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع على بعير
يستلم الركن بمحجن ثم يرده إلى فيه", وعن ابن
عباس رضي الله تعالى عنهما عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أنه قال
"ليبعثن الحجر يوم القيامة, وله عينان يبصر
بهما, وأذنان يسمع بهما, ولسان ينطق به فيشهد
لمن استلمه بالحق".
وروي أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانوا يستلمون الحجر ثم يقبلونه فيلتزمه
ويقبله إن أمكنه ذلك من غير أن يؤذي أحدا لما
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه قال
لعمر
يا أبا
حفص إنك رجل قوي, وإنك تؤذي الضعيف فإذا وجدت
مسلكا فاستلم, وإلا فدع وكبر وهلل", ولأن الاستلام سنة, وإيذاء المسلم حرام, وترك الحرام أولى من
الإتيان بالسنة, وإذا لم يمكنه ذلك من غير أن
يؤذي استقبله وكبر وهلل وحمد الله وأثنى عليه,
وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم كما يصلي
عليه في الصلاة, ولم يذكر عن أصحابنا فيه دعاء
بعينه؛ لأن الدعوات لا تحصى, وعن مجاهد أنه
كان يقول: إذا أتيت الركن فقل اللهم إني أسألك
إجابة دعوتك, وابتغاء رضوانك, واتباع سنة
نبيك, وعن عطاء رضي الله تعالى عنه قال "كان
رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مر بالحجر
الأسود قال
أعوذ برب
هذا الحجر من الدين والفقر وضيق الصدر وعذاب
القبر",
ولا يقطع التلبية عند استلام الحجر, ويقطعها
في العمرة لما نذكر إن شاء الله. ثم يفتتح
الطواف, وهذا الطواف يسمى طواف اللقاء وطواف
التحية, وطواف أول عهد بالبيت, وإنه سنة عند
عامة العلماء. وقال مالك إنه فرض, واحتج بظاهر
قوله عز وجل
{وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ} أمر بالطواف بالبيت فدل على الوجوب والفرضية, ولنا أنه لا يجب على
أهل مكة بالإجماع, ولو كان ركنا لوجب عليهم؛
لأن الأركان لا تختلف بين أهل مكة وغيرهم,
كطواف الزيارة فلما لم يجب على أهل مكة دل أنه
ليس بركن. والمراد من الآية طواف الزيارة
لإجماع أهل التفسير, ولأنه خاطب الكل بالطواف
بالبيت, وطواف الزيارة هو الذي يجب على الكل,
فأما طواف اللقاء فإنه لا يجب على أهل مكة دل
على أن المراد هو طواف الزيارة. وكذا سياق
الآية دليل عليه؛ لأنه أمرنا بذبح الهدايا
بقوله عز وجل
{وَيَذْكُرُوا
اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ
عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ
الْأَنْعَامِ}, وأمر بقضاء التفث, وهو الحلق, والطواف بالبيت عقيب ذبح الهدي؛ لأن
كلمة "ثم" للترتيب مع التعقيب فيقتضي أن يكون
الحلق والطواف مرتبين على الذبح, والذبح يختص
بأيام النحر, لا يجوز قبلها فكذا الحلق,
والطواف, وهو طواف الزيارة, فأما طواف اللقاء
فإنه يكون سابقا على أيام
ج / 2 ص -147-
النحر
فثبت أن المراد من الآية الكريمة طواف
الزيارة, وبه نقول: إنه ركن, وإذا افتتح
الطواف يأخذ عن يمينه مما يلي الباب فيطوف
بالبيت سبعة أشواط يرمل في الثلاثة الأول,
ويمشي على هيئته في الأربعة الباقية, والأصل
فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"أنه استلم الحجر ثم أخذ عن يمينه مما يلي
الباب فطاف بالبيت سبعة أشواط". وأما الرمل
فالأصل فيه أن كل طواف بعده سعي فمن سننه
الاضطباع والرمل في الثلاثة الأشواط الأول
منه, وكل طواف ليس بعده سعي فلا رمل فيه, وهذا
قول عامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما
حكي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن
الرمل في الطواف ليس بسنة, وجه قوله أن النبي
صلى الله عليه وسلم إنما رمل, وندب أصحابه
إليه لإظهار الجلد للمشركين, وإبداء القوة لهم
من أنفسهم فإنه روي أنه "دخل رسول الله صلى
الله عليه وسلم وأصحابه مكة, وكفار قريش قد
صفت عند دار الندوة ينظرون إليهم ويستضعفونهم
ويقولون: أوهنتهم حمى يثرب فلما دخل رسول الله
صلى الله عليه وسلم المسجد اضطبع بردائه, ورمل
ثم قال
رحم الله امرأ أبدى من نفسه جلدا"
وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال
"رحم الله
امرأ أراهم اليوم من نفسه قوة",
وذلك المعنى قد زال فلم يبق الرمل سنة, لكنا
نقول: الرواية عن ابن عباس رضي الله تعالى
عنهما لا تكاد تصح؛ لأنه قد صح أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم رمل بعد فتح مكة وروي عن
ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال "كان رسول
الله صلى الله عليه وسلم إذا طاف بالبيت
الطواف الأول خب ثلاثا, ومشى أربعا". وكذا
أصحابه رضي الله تعالى عنهم بعده رملوا. وكذا
المسلمون إلى يومنا هذا فصار الرمل سنة
متواترة, فإما أن يقال: إن أول الرمل كان لذلك
السبب, وهو إظهار الجلادة, وإبداء القوة
للكفرة, ثم زال ذلك السبب وبقيت سنة الرمل على
الأصل المعهود أن بقاء السبب ليس بشرط لبقاء
الحكم كالبيع, والنكاح, وغيرهما, وإما أن يقال
لما رمل النبي صلى الله عليه وسلم بعد زوال
ذلك السبب صار الرمل سنة مبتدأة فنتبع النبي
صلى الله عليه وسلم في ذلك, وإن كان لا نعقل
معناه, وإلى هذا أشار عمر رضي الله تعالى عنه
حين رمل في الطواف, وقال: ما لي أهز كتفي,
وليس ههنا أحد رأيته, لكن أتبع رسول الله صلى
الله عليه وسلم أو قال: لكن أفعل ما فعل رسول
الله صلى الله عليه وسلم, ويرمل من الحجر إلى
الحجر, وهذا قول عامة العلماء. وقال سعيد بن
جبير, وعطاء, ومجاهد, وطاوس رضي الله تعالى
عنهم لا يرمل بين الركن اليماني, وبين الحجر
الأسود, وإنما يرمل من الجانب الآخر, وجه
قولهم أن الرمل في الأصل كان لإظهار الجلادة
للمشركين, والمشركون إنما كانوا يطلعون على
المسلمين من ذلك الجانب. فإذا صاروا إلى الركن
اليماني لم يطلعوا عليهم لصيرورة البيت حائلا
بينهم وبين المسلمين, ولنا ما روي أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثا من الحجر
إلى الحجر, والجواب عن قولهم أن الرمل كان
لإظهار القوة والجلادة, إن الرمل الأول كان
لذلك. وقد زال وبقي حكمه أو صار الرمل بعد ذلك
سنة مبتدأة لا لما شرع له الأول بل لمعنى آخر
لا نعقله. وأما الاضطباع فلما روينا "أن رسول
الله صلى الله عليه وسلم كان يرمل مضطبعا
بردائه", وتفسير الاضطباع بالرداء هو أن يدخل
الرداء من تحت إبطه الأيمن, ويرد طرفه على
يساره, ويبدي منكبه الأيمن, ويغطي الأيسر, سمي
اضطباعا لما فيه من الضبع, وهو العضد لما فيه
من إبداء الضبعين, وهما العضدان, فإن زوحم في
الرمل وقف فإذا, وجد فرجة رمل؛ لأنه ممنوع من
فعله إلا على وجه السنة فيقف إلى أن يمكنه
فعله على وجه السنة, ويستلم الحجر في كل شوط
يفتتح به إن استطاع من غير أن يؤذي أحدا لما
روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان
كلما مر بالحجر الأسود استلمه", ولأن كل شوط
طواف على حدة فكان استلام الحجر فيه مسنونا
كالشوط الأول, وإن لم يستطع استقبله وكبر
وهلل. وأما الركن اليماني فلم يذكر في الأصل
أن استلامه سنة, ولكنه قال: إن استلمه فحسن,
وإن تركه لم يضره في قول أبي حنيفة رحمه الله,
وهذا يدل على أنه مستحب وليس بسنة, وقال محمد
رحمه الله يستلمه ولا يتركه, وهذا يدل على أن
استلامه سنة, ولا خلاف في أن تقبيله ليس بسنة.
وقال الشافعي يستلمه, ويقبل يده, وجه قول محمد
ما روي عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال:
"رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلم
هذين الركنين, ولا يتسلم غيرهما", وعن ابن
عباس
ج / 2 ص -148-
رضي
الله عنهما قال "كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم يستلم الركن اليماني, ويضع خده عليه",
وجه ما ذكر في الأصل وهو أنه مستحب, وليس
بمسنون أنه ليس من السنة تقبيله, ولو كان
مسنونا لسن تقبيله كالحجر الأسود, وعن جابر
رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم
استلم الركن اليماني, ولم يقبله", وهذا يدل
على أنه مستحب وليس بسنة. وأما الركنان
الآخران, وهما العراقي, والشامي فلا يستلمهما
عند عامة الصحابة رضي الله عنهم, وهو قولنا,
وعن معاوية, وزيد بن ثابت, وسويد بن غفلة رضي
الله عنهم أنه يستلم الأركان الأربعة, وعن ابن
عباس رضي الله عنهما أنه رأى معاوية, وسويدا
استلما جميع الأركان فقال ابن عباس لمعاوية:
إنما يستلم هذين الركنين, فقال معاوية: ليس
شيء من البيت مهجورا, والصحيح قول العامة؛ لأن
الاستلام إنما عرف سنة بفعل رسول الله صلى
الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم
ما استلم غير الركنين لما روينا عن عمر رضي
الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يستلم هذين الركنين, ولا يستلم
غيرهما", ولأن الاستلام لأركان البيت, والركن
الشامي والعراقي ليسا من الأركان حقيقة؛ لأن
ركن الشيء ناحيته, وهما في, وسط البيت؛ لأن
الحطيم من البيت, وجعل طوافه من وراء الحطيم,
فلو لم يجعل طوافه من, ورائه لصار تاركا
الطواف ببعض البيت إلا أنه لا يجوز التوجه
إليه في الصلاة لما ذكرنا فيما تقدم. وإذا فرغ
من الطواف يصلي ركعتين عند المقام أو حيث تيسر
عليه من المسجد, وركعتا الطواف واجبة عندنا,
وقال الشافعي: سنة بناء على أنه لا يعرف
الواجب إلا الفرض, وليستا بفرض. وقد واظب
عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانتا
سنة, ونحن نفرق بين الفرض والواجب, ونقول
الفرض ما ثبت وجوبه بدليل مقطوع به, والواجب
ما ثبت وجوبه بدليل غير مقطوع به, ودليل
الوجوب قوله عز وجل
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ
مُصَلّىً}
قيل في بعض وجوه التأويل: إن مقام إبراهيم ما
ظهر فيه آثار قدميه الشريفين عليه الصلاة
والسلام وهو حجارة كان يقوم عليها حين نزوله
وركوبه من الإبل حين كان يأتي إلى زيارة هاجر,
وولده إسماعيل فأمر النبي صلى الله عليه وسلم
باتخاذ ذلك الموضع مصلى يصلي عنده صلاة الطواف
مستقبلا الكعبة على ما روي "أن النبي عليه
السلام لما قدم مكة قام إلى الركن اليماني
ليصلي, فقال عمر رضي الله تعالى عنه: ألا نتخذ
مقام إبراهيم مصلى؟ فأنزل الله تعالى
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}, ومطلق الأمر لوجوب العمل. وروي أن "النبي صلى الله عليه وسلم لما
فرغ من الطواف أتى المقام, وصلى عنده ركعتين,
وتلا قوله تعالى
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً} وروي عن عمر رضي الله عنه أنه نسي ركعتي الطواف فقضاهما بذي طوى
فدل أنها, واجبة. ثم يعود إلى الحجر الأسود
فيستلمه ليكون افتتاح السعي بين الصفا,
والمروة باستلام الحجر كما يكون افتتاح الطواف
باستلام الحجر الأسود, والأصل فيه أن كل طواف
بعده سعي فإنه يعود بعد الصلاة إلى الحجر وكل
طواف لا سعي بعده لا يعود إلى الحجر, كذا روي
عن عمر وابن عمر, وابن مسعود رضي الله عنهم,
وعن عائشة رضي الله عنها أنه لا يعود, وإن كان
بعده سعي, وهو قول عمر بن عبد العزيز, والصحيح
أنه يعود, لما روي عن جابر رضي الله عنه "أن
النبي صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه
صلى ركعتين خلف المقام, وقرأ فيهما آيات من
سورة البقرة, وقرأ فيهما
{وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلّىً}, ورفع صوته يسمع الناس ثم رجع إلى الركن فاستلمه", ولأن السعي مرتب
على الطواف لا يجوز قبله. ويكره أن يفصل بين
الطواف, وبين السعي فصار كبعض أشواط الطواف,
والاستلام بين كل شوطين سنة, وهذا المعنى لا
يوجد في طواف لا يكون بعده سعي؛ لأنه إذا لم
يكن بعده سعي لا يوجد الملحق له بالأشواط فلا
يعود إلى الحجر ثم يخرج إلى الصفا لما روى
جابر "أن النبي صلى الله عليه وسلم استلم
الركن, وخرج إلى الصفا, فقال: نبدأ بما بدأ
الله به, وتلا قوله تعالى
{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} ولم يذكر في الكتاب أنه من أي باب يخرج: من باب الصفا, أو من حيث
تيسر له, وما روي "أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم خرج من باب الصفا" فذلك ليس على وجه
السنة عندنا, وإنما خرج منه لقربه من الصفا أو
لأمر آخر, ويصعد على الصفا إلى حيث يرى الكعبة
فيحول وجهه إليها ويكبر ويهلل ويحمد الله
تعالى ويثني عليه ويصلي على النبي صلى
ج / 2 ص -149-
الله
عليه وسلم ويدعو الله تعالى بحوائجه ويرفع
يديه, ويجعل بطون كفيه إلى السماء لما روي عن
جابر رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه
وسلم رقى على الصفا حتى بدا له البيت ثم كبر
ثلاثا, وقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له,
له الملك, وله الحمد يحيي ويميت, وهو على كل
شيء قدير, لا إله إلا الله أنجز وعده, ونصر
عبده, وهزم الأحزاب وحده, وجعل يدعو بعد ذلك"
ثم يهبط نحو المروة فيمشي على هيئته حتى ينتهي
إلى بطن الوادي فإذا كان عند الميل الأخضر في
بطن الوادي سعى حتى يجاوز الميل الأخضر فيسعى
بين الميلين الأخضرين لحديث جابر "أن النبي
صلى الله عليه وسلم لما فرغ من الدعاء مشى نحو
المروة حتى إذا انتصبت قدماه في بطن الوادي
سعى, وقال في سعيه: رب اغفر وارحم وتجاوز عما
تعلم, إنك أنت الأعز الأكرم" وكان عمر رضي
الله عنه إذا رمل بين الصفا, والمروة قال:
اللهم استعملني بسنة نبيك, وتوفني على ملته,
وأعذني من عذاب القبر ثم يمشي على هيئته حتى
يأتي المروة فيصعد عليها, ويقوم مستقبل القبلة
فيحمد الله تعالى, ويثني عليه, ويكبر, ويهلل,
ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم ويسأل
الله تعالى حوائجه فيفعل على المروة مثل ما
فعل على الصفا لما روي أن النبي صلى الله عليه
وسلم هكذا فعل, ويطوف بينهما سبعة أشواط هكذا
يبدأ بالصفا, ويختم بالمروة, ويسعى في بطن
الوادي في كل شوط, ويعد البداية شوطا, والعود
شوطا آخر خلافا لما قاله الطحاوي إنهما يعدان
جميعا شوطا واحدا, وإنه خلاف ظاهر الرواية لما
بينا فيما تقدم. فإذا فرغ من السعي, فإن كان
محرما بالعمرة, ولم يسق الهدي يحلق أو يقصر
فيحل؛ لأن أفعال العمرة هي الطواف والسعي فإذا
أتى بهما لم يبق عليه شيء من أفعال العمرة
فيحتاج إلى الخروج منها بالتحلل, وذلك بالحلق
أو التقصير كالتسليم في باب الصلاة, والحلق
أفضل لما ذكرنا فيما تقدم فإذا حلق أو قصر حل
له جميع محظورات الإحرام, وهذا الذي ذكرنا قول
أصحابنا, وقال الشافعي يقع التحلل من العمرة
بالسعي, ومن الحج بالرمي, والمسألة قد مرت في
بيان, واجبات الحج. وإن كان قد ساق الهدي لا
يحلق, ولا يقصر للعمرة بل يقيم حراما إلى يوم
النحر: لا يحل له التحلل إلا يوم النحر عندنا,
وعند الشافعي سوق الهدي لا يمنع من التحلل,
ونذكر المسألة في التمتع إن شاء الله تعالى,
وإن كان محرما بالحج, فإن كان مفردا به يقيم
على إحرامه, ولا يتحلل؛ لأن أفعال الحج عليه
باقية فلا يجوز له التحلل إلى يوم النحر, ومن
الناس من قال يجوز له أن يفتتح إحرام الحج
بفعل العمرة, وهو الطواف والسعي, والتحلل منها
بالحلق أو التقصير لما روي عن جابر رضي الله
عنه أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم
كانوا أهلوا بالحج مفردين فقال لهم النبي صلى
الله عليه وسلم
"أحلوا من
إحرامكم بطواف البيت, وبين الصفا, والمروة,
وقصروا ثم أقيموا حلالا حتى إذا كان يوم
التروية أهلوا بالحج"
فالجواب أن ذلك كان ثم نسخ, وعن أبي ذر رضي
الله عنه أنه قال: أشهد أن فسخ الإحرام كان
خاصا للركب الذين كانوا مع النبي صلى الله
عليه وسلم, وإن كان قارنا فإنه يطوف طوافين,
ويسعى سعيين عندنا فيبدأ أولا بالطواف والسعي
للعمرة فيطوف, ويسعى للعمرة ثم يطوف ويسعى
للحج كما وصفنا, وعند الشافعي يطوف لهما جميعا
طوافا واحدا, ويسعى لهما سعيا واحدا, وهذا
بناء على أن القارن عندنا محرم بإحرامين
بإحرام العمرة, وإحرام الحج, ولا يدخل إحرام
العمرة في إحرام الحج, وعنده يحرم بإحرام
واحد, ويدخل إحرام العمرة في إحرام الحج؛ لأن
نفس العمرة لا تدخل في الحجة, ولأن الإحرام
على أصله ركن لما نذكر فكان من أفعال الحج,
والأفعال يجوز فيها التداخل كسجدة التلاوة
والحدود وغيرها, ولنا ما روي عن علي, وعبد
الله بن مسعود, وعمران بن حصين رضي الله عنهم
"أن النبي صلى الله عليه وسلم فرق بين الحج
والعمرة, وطاف لهما طوافين, وسعى لهما سعيين",
ولأن القارن محرم بالعمرة, ومحرم بالحجة
حقيقة؛ لأن قوله لبيك بعمرة وحجة معناه: لبيك
بعمرة ولبيك بحجة كقوله: جاءني زيد, وعمرو أن
معناه جاءني زيد, وجاءني عمرو, وإذا كان محرما
بكل واحد منهما يطوف, ويسعى لكل واحد منهما
طوافا على حدة وسعيا على حدة. وكذا تسمية
القران يدل على ما قلنا؛ إذ القران حقيقة يكون
بين شيئين إذ هو ضم شيء إلى شيء, ومعنى الضم
حقيقة فيما قلنا لا فيما قاله, واعتبار
الحقيقة أصل في الشريعة وأما الحديث فمعناه
دخل وقت العمرة في وقت الحج؛ لأن سبب ذلك أنهم
كانوا يعدون العمرة في وقت الحج من أفجر
الفجور ثم
ج / 2 ص -150-
رخص
لهم النبي صلى الله عليه وسلم فقال
"دخلت العمرة
في الحج إلى يوم القيامة" أي دخل وقت
العمرة في وقت الحجة, وهو أشهر الحج, ويحتمل
ما قلنا, ويحتمل ما قاله فلا يكون حجة مع
الاحتمال, ولو طاف القارن طوافين متواليين,
وسعى سعيين متواليين أجزأه وقد أساء, أما
الجواز فلأنه أتى بوظيفة من الطوافين,
والسعيين. وأما الإساءة فلتركه السنة, وهي
تقديم أفعال الحج على أفعال العمرة, ولو طاف
أولا بحجته, وسعى لها ثم طاف لعمرته وسعى لها
فنيته لغو, وطوافه الأول وسعيه يكونان للعمرة
لما مر أن أفعال العمرة تترتب على ما أوجبه
إحرامه, وإحرامه أوجب تقديم أفعال العمرة على
أفعال الحج فلغت نيته, وإذا فرغ من أفعال
العمرة لا يحلق, ولا يقصر؛ لأنه بقي محرما
بإحرام الحج, وإن كان متمتعا فإذا قدم مكة
فإنه يطوف, ويسعى لعمرته ثم يحرم بالحج في
أشهر الحج, ويلبس الإزار, والرداء, ويلبي
بالحج؛ لأن هذا ابتداء دخوله في الحج للإحرام
بالحج. وله أن يحرم من جوف مكة أو من الأبطح
أو من أي حرم شاء, وله أن يحرم يوم التروية
عند الخروج إلى منى, وقيل يوم التروية, وكلما
قدم الإحرام بالحج على يوم التروية فهو أفضل
عندنا, وقال الشافعي: الأفضل أن يحرم يوم
التروية, واحتج بما روي "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أمر أصحابه بالإحرام يوم
التروية" فدل أن ذلك أفضل, ولنا ما روي عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من أراد الحج فليتعجل", وأدنى درجات الأمر الندب, ولأن التعجيل من باب المسارعة إلى
العبادة فكان أولى, ولأنه أشق على البدن؛ لأنه
إذا أحرم بالحج يحتاج إلى الاجتناب عن محظورات
الإحرام
"وأفضل
الأعمال أحمزها" على لسان
رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما الحديث
فإنما ندب إلى الإحرام بالحج يوم التروية لركن
خاص, اختار لهم الأيسر على الأفضل. ألا ترى
أنه أمرهم بفسخ إحرام الحج, وأنه لا يفسخ
اليوم. وإذا أحرم المتمتع بالحج فلا يطوف
بالبيت, ولا يسعى في قول أبي حنيفة, ومحمد؛
لأن طواف القدوم للحج لمن قدم مكة بإحرام
الحج, والمتمتع إنما قدم مكة بإحرام العمرة لا
بإحرام الحج, وإنما يحرم للحج من مكة, وطواف
القدوم لا يكون بدون القدوم, وكذلك لا يطوف,
ولا يسعى أيضا؛ لأن السعي بدون الطواف غير
مشروع, ولأن المحل الأصلي للسعي ما بعد طواف
الزيارة؛ لأن السعي واجب, وطواف الزيارة فرض,
والواجب يصلح تبعا للفرض, فأما طواف القدوم
فسنة. والواجب لا يتبع السنة إلا أنه رخص
تقديمه على محله الأصلي عقيب طواف القدوم فصار
واجبا عقيبه بطريق الرخصة, وإذا لم يوجد طواف
القدوم يؤخر السعي إلى محله الأصلي فلا يجوز
قبل طواف الزيارة, وروى الحسن عن أبي حنيفة أن
المتمتع إذا أحرم بالحج يوم التروية أو قبله,
فإن شاء طاف وسعى قبل أن يأتي إلى منى, وهو
أفضل, وروى هشام عن محمد أنه إن طاف وسعى لا
بأس به, ووجه ذلك أن هذا الطواف ليس بواجب بل
هو سنة. وقد ورد الشرع بوجوب السعي عقيبه, وإن
كان واجبا رخصة وتيسيرا في حق المفرد بالحج
والقارن فكذا المتمتع, والجواب نعم إنه سنة
لكنه سنة القدوم للحج لمن قدم بإحرام الحج,
والمتمتع لم يقدم مكة بإحرام الحج فلا يكون
سنة في حقه, وعن الحسن بن زياد أنه فرق بينهما
قبل الزوال وبعده فقال: إذا أحرم يوم التروية
طاف وسعى إلا أن يكون أحرم بعد الزوال, ووجهه
أن بعد الزوال يلزمه الخروج إلى منى فلا يشتغل
بغيره, وقبل الزوال لا يلزمه الخروج فكان له
أن يطوف ويسعى, والجواب ما ذكرنا. وإذا فرغ
المفرد بالحج أو القارن من السعي يقيم على
إحرامه, ويطوف طواف التطوع ماشيا إلى يوم
التروية؛ لأن الطواف خير موضوع كالصلاة فمن
شاء استقل, ومن شاء استكثر, وطواف التطوع أفضل
من صلاة التطوع للغرباء. وأما لأهل مكة
فالصلاة أفضل؛ لأن الغرباء يفوتهم الطواف إذ
لا يمكنهم الطواف في كل مكان, ولا تفوتهم
الصلاة؛ لأنه يمكن فعلها في كل مكان, وأهل مكة
لا يفوتهم الطواف, ولا الصلاة فعند الاجتماع
الصلاة أفضل, وعلى هذا الغازي الحارس في دار
الحرب أنه إن كان هناك من ينوب عنه في دار
الحرب فصلاة التطوع أفضل له, وإن لم يكن
فالحراسة أفضل. ولا يرمل في هذا الطواف بل
يمشي على هيئته, ولا يسعى بعده بين الصفا,
والمروة غير السعي الأول, ويصلي لكل أسبوع
ركعتين في الوقت الذي لا يكره فيه التطوع,
ويكره الجمع بين أسبوعين من غير صلاة بينهما
عند أبي حنيفة, ومحمد سواء الصرف
ج / 2 ص -151-
عن شفع
أو وتر, وقال أبو يوسف: لا بأس به إذا انصرف
عن وتر نحو أن ينصرف عن ثلاثة أسابيع أو عن
خمسة أسابيع أو عن سبعة أسابيع, واحتج بما روي
عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تجمع بين
الطواف ثم تصلي بعده, ثم فرق أبو يوسف بين
انصرافه عن شفع أو عن وتر فقال: إذا انصرف عن
أسبوعين, وذلك أربعة عشر أو أربعة أسابيع,
وذلك ثمانية وعشرون يكره, ولو انصرف عن ثلاثة
أو عن خمسة لا يكره؛ لأن الأول شفع, والثاني
وتر, وأصل الطواف سبعة, وهي وتر, ولهما أن
ترتيب الركعتين على الطواف كترتيب السعي عليه؛
لأن كل واحد منهما واجب ثم لو جمع بين أسبوعين
من الطواف, وأخر السعي يكره, فكذا إذا جمع بين
أسبوعين منه, وأخر الصلاة. وأما حديث عائشة
رضي الله عنها فيحمل أنها فعلت ذلك لضرورة
وعذر, فإذا كان يوم التروية, وهو اليوم الثامن
من ذي الحجة يروح مع الناس إلى منى, فيصلي بها
الظهر والعصر والمغرب والعشاء والفجر لما روي
عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه
قال:
"جاء جبريل إلى إبراهيم عليهما السلام يوم
التروية فخرج به إلى منى, فصلى به الظهر
والعصر والمغرب والعشاء والفجر, ثم غدا به إلى
عرفات". وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال "لما كان يوم التروية توجه
النبي صلى الله عليه وسلم إلى منى فصلى بها
الظهر والعصر والمغرب والعشاء والصبح, ثم مكث
قليلا حتى طلعت الشمس, وسار إلى عرفات", فإن
دفع منها قبل طلوع الشمس جاز, والأول أفضل لما
روينا فيخرج إلى عرفات على السكينة والوقار,
فإذا انتهى إليها نزل بها حيث أحب إلا في بطن
عرنة لما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
"عرفات كلها موقف إلا بطن
عرنة", ويغتسل يوم عرفة, وغسل يوم عرفة سنة كغسل يوم الجمعة, والعيدين,
وعند الإحرام, وذكر في الأصل إن اغتسل فحسن,
وهذا يشير إلى الاستحباب, ثم غسل يوم عرفة
لأجل يوم عرفة, أو لأجل الوقوف فيجوز أن يكون
على الاختلاف الذي ذكرنا في غسل يوم الجمعة في
كتاب الطهارة, فإذا زالت الشمس صعد الإمام
المنبر فأذن المؤذنون, والإمام على المنبر في
ظاهر الرواية, فإذا فرغوا من الأذان قام
الإمام, وخطب خطبتين, وعن أبي يوسف ثلاث
روايات. روي عنه مثل قول أبي حنيفة, ومحمد.
وروي عنه أنه يؤذن المؤذن والإمام في الفسطاط
ثم يخرج بعد فراغ المؤذن من الأذان, فيصعد
المنبر, ويخطب, وروى الطحاوي عنه في باب خطب
الحج: أن الإمام يبدأ بالخطبة قبل الأذان,
فإذا مضى صدر من خطبته أذن المؤذنون, ثم يتم
خطبته بعد الأذان. أما تقديم الخطبة على
الصلاة فلأن النبي صلى الله عليه وسلم قدمها
على الصلاة, ولأن المقصود من هذه الخطبة تعليم
أحكام المناسك, فلا بد من تقديمها ليعلموا,
ولأنه لو أخرها يتبادر القوم إلى الوقوف, ولا
يستمعون, فلا يحصل المقصود من هذه الخطبة, ثم
هذه الخطبة سنة, وليست بفريضة حتى لو جمع بين
الظهر والعصر فصلاهما من غير خطبة أجزأه,
بخلاف خطبة الجمعة؛ لأنه لا تجوز الجمعة
بدونها, والفرق: أن هذه الخطبة لتعليم المناسك
لا لجواز الجمع بين الصلاتين. وفرضية خطبة
الجمعة لقصر الصلاة, وقيامها مقام البعض على
ما قالت عائشة: رضي الله عنها إنما قصرت
الجمعة لمكان الخطبة, وقصر الصلاة ترك شطرها,
ولا يجوز ترك الفرض إلا لأجل الفرض, فكانت
الخطبة فرضا, ولا قصر ههنا؛ لأن كل واحد من
الفرضين يؤدى على الكمال والتمام فلم تكن
الخطبة فرضا إلا أنه يكون مسيئا بترك الخطبة؛
لأنه ترك السنة, ولو خطب قبل الزوال أجزأه وقد
أساء, أما الجواز؛ فلأن هذه الخطبة ليست من
شطر الصلاة, فلا يشترط لها الوقت. وأما
الإساءة فلتركه السنة؛ إذ السنة أن تكون
الخطبة بعد الزوال, بخلاف خطبة يوم الجمعة
فإنه إذا خطب قبل الزوال لا تجوز الجمعة؛ لأن
الخطبة هناك من فرائض الجمعة. ألا ترى أنه
قصرت الجمعة لمكانها, ولا يترك بعض الفرض إلا
لأجل الفرض. وأما الكلام في وقت صعود الإمام
على المنبر أنه يصعد قبل الأذان أو بعده فوجه
رواية أبي يوسف: أن الصلاة التي تؤدى في هذا
الوقت هي صلاة الظهر, والعصر فيكون الأذان
فيهما قبل خروج الإمام كما في سائر الصلوات,
وكما في الظهر والعصر في غير هذا المكان
والزمان, وجه ظاهر الرواية: أن هذه الخطبة لما
كانت متقدمة على الصلاة كان هذا الأذان
للخطبة, فيكون بعد صعود الإمام على المنبر
كخطبة الجمعة. وقد خرج الجواب عما قاله أبو
يوسف أن
ج / 2 ص -152-
هذه
صلاة الظهر والعصر؛ لأنا نقول: نعم لكن نقدم
عليها الخطبة فيكون وقت الأذان بعد ما صعد
الإمام المنبر للخطبة كما في خطبة الجمعة,
فإذا فرغ المؤذنون من الأذان قام الإمام, وخطب
خطبتين قائما يفصل بينهما بجلسة خفيفة كما
يفصل في خطبة الجمعة, وصفة الخطبة هي أن يحمد
الله تعالى, ويثني عليه ويكبر ويهلل ويعظ
الناس فيأمرهم بما أمرهم الله عز وجل, وينهاهم
عما نهاهم الله عنه ويعلمهم مناسك الحج؛ لأن
الخطبة في الأصل وضعت لما ذكرنا من الحمد
والثناء والتهليل والتكبير والوعظ والتذكير.
ويزاد في هذه الخطبة تعليم معالم الحج لحاجة
الحجاج إلى ذلك ليتعلموا الوقوف بعرفة
والإفاضة منها والوقوف بمزدلفة, فإذا فرغ من
الخطبة أقام المؤذنون فصلى الإمام بهم صلاة
الظهر, ثم يقوم المؤذنون فيقيمون للعصر فيصلي
بهم الظهر والعصر بأذان واحد وإقامتين, ولا
يشتغل الإمام والقوم بالسنن والتطوع فيما
بينهما؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم جمع
بينهما بعرفة يوم عرفة بأذان واحد وإقامتين,
ولم يتنفل قبلهما, ولا بعدهما مع حرصه على
النوافل, فإن اشتغلوا فيما بينهما بتطوع أو
غيره أعادوا الأذان للعصر؛ لأن الأصل أن يؤذن
لكل مكتوبة, وإنما عرف ترك الأذان بفعل النبي
صلى الله عليه وسلم وأنه لم يشتغل فيما بين
الظهر والعصر بالتطوع, ولا بغيره فبقي الأمر
عند الاشتغال على الأصل. ويخفي الإمام القراءة
فيهما, بخلاف الجمعة والعيدين, فإنه يجهر
فيهما بالقراءة؛ لأن الجهر بالقراءة هناك من
الشعائر, والسبيل في الشعائر إشهارها, وفي
الجهر زيادة إشهار, فشرعت تلك الصلاة كذلك,
فأما الظهر والعصر فهما على حالهما لم يتغيرا؛
لأنهما كظهر سائر الأيام, وعصر سائر الأيام,
والحادث ليس إلا اجتماع الناس, واجتماعهم
للوقوف لا للصلاة, وإنما اجتماعهم في حق
الصلاة حصل اتفاقا ثم إن كان الإمام مقيما من
أهل مكة يتم كل واحدة من الصلاتين أربعا
أربعا, والقوم يتمون معه, وإن كانوا مسافرين؛
لأن المسافر إذا اقتدى بالمقيم في الوقت يلزمه
الإتمام؛ لأنه بالاقتداء بالإمام صار تابعا له
في هذه الصلاة, وإن كان الإمام مسافرا يصلي كل
واحدة من الصلاتين ركعتين ركعتين, فإذا سلم
يقول لهم: أتموا صلاتكم يا أهل مكة فإنا قوم
سفر, ثم لجواز الجمع أعني تقديم العصر على
وقتها, وأداءها في وقت الظهر شرائط: بعضها
متفق عليه, وبعضها مختلف فيه, أما المتفق
عليه: فهو شرطان أحدهما أن يكون أداؤها عقيب
الظهر, لا يجوز تقديمها عليها؛ لأنها شرعت
مرتبة على الظهر, فلا يسقط الترتيب إلا بأسباب
مسقطة, ولم توجد فلا تسقط فلزم مراعاة
الترتيب, والثاني: أن تكون مرتبة على ظهر
جائزة استحسانا حتى لو صلى الإمام بالناس
الظهر والعصر في يوم غيم, ثم استبان لهم أن
الظهر وقعت قبل الزوال, والعصر بعد الزوال,
فعليهم إعادة الظهر والعصر جميعا استحسانا.
والقياس: أن لا يكون هذا شرطا, وليس عليه إلا
إعادة الظهر, وجه القياس: الاعتبار بسائر
الأيام فإنه إذا صلى العصر في سائر الأيام على
ظن أنه صلى الظهر ثم تبين أنه لم يصلها يعيد
الظهر خاصة, كذا ههنا, والجامع أنه صلى العصر
على ظن أنه ليس عليه إلا إعادة الظهر فأشبه
الناسي, والنسيان عذر مسقط للترتيب, وجه
الاستحسان: أن العصر مؤداة قبل وقتها حقيقة
فالأصل: أن لا يجوز أداء العبادة المؤقتة قبل
وقتها, وإنما عرفنا جوازها بالنص مرتبة على
ظهر جائزة, فإذا لم تجز بقي الأمر فيها على
الأصل. وأما المختلف فيه فمنها أن يكون أداء
الصلاتين بالجماعة عند أبي حنيفة, حتى لو صلى
العصر وحده أو الظهر وحده لا تجوز العصر قبل
وقتها عنده, وعند أبي يوسف ومحمد هذا ليس
بشرط, ويجوز تقديمها على وقتها. وجه قولهما:
أن جواز التقديم لصيانة الوقوف بعرفة؛ لأن
أداء العصر في وقتها يحول بينه وبين الوقوف,
وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين الوحدان,
والجماعة, ولأبي حنيفة أن الجواز ثبت معدولا
به عن الأصل؛ لأنها عبادة مؤقتة, والعبادات
المؤقتة لا يجوز تقديمها على أوقاتها إلا أن
جواز تقديم العصر على وقتها ثبت بالنص غير
معقول المعنى فيراعى فيه عين ما ورد به النص,
والنص ورد بجواز أداء العصر كاملا مرتبا على
ظهر كامل, وهي المؤداة بالجماعة, والمؤداة لا
بجماعة لا تساويها في الفضيلة, فلا يكون في
معنى المنصوص عليه, وقولهما: إن الجواز ثبت
لصيانة الوقوف ممنوع, ولا يجوز أن يكون معلولا
به؛ لأن الصلاة لا تنافي الوقوف؛ لأنها في
نفسها وقوف, والشيء لا ينافي نفسه, وإنما ثبت
نصا غير معقول المعنى فيتبع فيه مورد النص,
وهو ما ذكرنا, ولم يوجد, ولو أدرك
ج / 2 ص -153-
ركعة
من كل واحدة من الصلاتين مع الإمام, بأن أدرك
ركعة من الظهر ثم قام الإمام, ودخل في العصر
فقام الرجل, وقضى ما فاته من الظهر, فلما فرغ
من الظهر دخل في صلاة الإمام في العصر, وأدرك
شيئا من كل واحدة من الصلاتين مع الإمام, جاز
له تقديم العصر بلا خلاف؛ لأنه أدرك فضيلة
الجماعة فتقع العصر مرتبة على ظهر كامل, ومنها
أن يكون أداء الصلاتين بإمام, وهو الخليفة أو
نائبه في قول أبي حنيفة, حتى لو صلى الظهر
بجماعة لكن لا مع الإمام, والعصر مع الإمام لم
تجز العصر عنده, وعندهما هذا ليس بشرط. ,
والصحيح قول أبي حنيفة لما ذكرنا أن جواز
التقديم ثبت معدولا به عن الأصل مرتبا على ظهر
كامل, وهي المؤداة بالجماعة مع الإمام أو
نائبه, فالمؤداة بجماعة من غير إمام أو نائبه
لا تكون مثلها في الفضيلة, فلا تكون في معنى
مورد النص, ولو أحدث الإمام بعد ما خطب فأمر
رجلا بالصلاة جاز له أن يصلي بهم الصلاتين
جميعا, سواء شهد المأمور الخطبة أو لم يشهد
بخلاف الجمعة؛ لأن الخطبة ليست هناك من شرائط
جواز الجمعة, وههنا الخطبة ليست بشرط لجواز
الجمع بين الصلاتين, والفرق ما بينا, فإن لم
يأمر الإمام أحدا فتقدم واحد من عرض الناس,
وصلى بهم الصلاتين جميعا لم يجز الجمع في قول
أبي حنيفة؛ لأن الإمام أو نائبه شرط عنده ولم
يوجد, وعندهما يجوز, وإن كان المتقدم رجلا من
ذي سلطان كالقاضي, وصاحب الشرط جاز؛ لأنه نائب
الإمام, فإن كان الإمام سبقه الحدث في الظهر
فاستخلف رجلا, فإنه يصلي بهم الظهر والعصر؛
لأنه قائم مقام الإمام, فإن فرغ من العصر قبل
أن يرجع الإمام, فإن الإمام لا يصلي العصر إلا
في وقتها لأنه لما استخلف صار كواحد من
المؤتمين والمؤتم إذا صلى الظهر مع الإمام ولم
يصل العصر معه لا يصلي العصر إلا في وقتها كذا
هذا, ومنها أن يكون محرما بالحج حال أداء
الصلاتين جميعا حتى لو صلى الظهر بجماعة مع
الإمام, وهو حلال من أهل مكة ثم أحرم للحج لا
يجوز له أن يصلي العصر إلا في وقتها, كذا ذكر
في نوادر الصلاة. وروي عن أبي حنيفة في غير
رواية الأصول أنه يجوز, وهو قول زفر, والصحيح
رواية النوادر؛ لأن العصر شرعت مرتبة على ظهر
كامل وهو ظهر المحرم وظهر الحلال لا يكون مثل
ظهر المحرم في الفضيلة فلا يجوز ترتيب العصر
على ظهر هي دون المنصوص عليه, وعلى هذا إذا
صلى الظهر بجماعة مع الإمام, وهو محرم لكن
بإحرام العمرة ثم أحرم بالحج, لا يجزئه العصر
إلا في وقتها, وعند زفر يجوز كما في المسألة
الأولى, والصحيح قولنا؛ لأن ظهر المحرم
بالعمرة لا يكون مثل ظهر المحرم بالحج في
الفضيلة, فلا يكون أداء العصر في معنى مورد
النص, فلا تجوز إلا في وقتها, ولو نفر الناس
عن الإمام فصلى وحده الصلاتين أجزأه, ودلت هذه
المسألة على أن الشرط في الحقيقة هو الإمام
عند أبي حنيفة لا الجماعة, فإن الصلاتين جازتا
للإمام, ولا جماعة فتبنى المسائل عليه, إذ هو
أقرب إلى الصيغة, ولا يلزمه على هذا ما إذا
سبق الإمام الحدث في صلاة الظهر فاستخلف رجلا,
وذهب الإمام ليتوضأ فصلى الخليفة الظهر
والعصر, ثم جاء الإمام: أنه لا يجوز له أن
يصلي العصر إلا في وقتها؛ لأن عدم الجواز هناك
ليس لعدم الجماعة بل لعدم الإمام؛ لأنه خرج عن
أن يكون إماما فصار كواحد من المؤتمين, أو
يقال: الجماعة شرط الجمع عند أبي حنيفة رحمه
الله تعالى لكن في حق غير الإمام لا في حق
الإمام, والله تعالى الموفق, فإن مات الإمام
فصلى بالناس خليفته جاز؛ لأن موت الإمام لا
يوجب بطلان ولاية خلفائه كولاية السلطنة,
والقضاء. فإذا فرغ الإمام من الصلاة راح إلى
الموقف عقيب الصلاة, وراح الناس معه؛ لأن
النبي صلى الله عليه وسلم راح إليه عقيب
الصلاة, ويرفع الأيدي بسطا يستقبل كما يستقبل
الداعي بيده ووجهه, لما روي عن ابن عباس رضي
الله عنه أنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم يدعو بعرفات باسطا يديه في نحره
كاستطعام المسكين" فيقف الإمام, والناس إلى
غروب الشمس يكبرون ويهللون, ويحمدون الله
تعالى, ويثنون عليه, ويصلون على النبي صلى
الله عليه وسلم ويسألون الله تعالى حوائجهم,
ويتضرعون إليه بالدعاء, لما روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم أنه قال
"أفضل الدعاء دعاء أهل عرفة, وأفضل ما قلت وقالت الأنبياء قبلي عشية
يوم عرفة: لا إله إلا الله, وحده لا شريك له,
له الملك, وله الحمد, يحيي ويميت, وهو حي لا
يموت, بيده الخير, وهو على كل شيء قدير". وعن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"إن أكثر دعائي ودعاء
ج / 2 ص -154-
الأنبياء
قبل عشية يوم عرفة: لا إله إلا الله وحده لا
شريك له, له الملك, وله الحمد, يحيي ويميت,
وهو على كل شيء قدير, اللهم اجعل في قلبي
نورا, وفي سمعي نورا, وفي بصري نورا, اللهم
اشرح لي صدري, ويسر لي أمري, وأعوذ بك من
وسواس الصدور, وسيئات الأمور, وفتنة الفقر,
اللهم إني أعوذ بك من شر ما يلج في الليل, وشر
ما تهب به الرياح". وليس عن أصحابنا فيه دعاء موقت؛ لأن الإنسان يدعو بما شاء, ولأن
توقيت الدعاء يذهب بالرقة؛ لأنه يجري على
لسانه من غير قصده فيبعد عن الإجابة, ويلبي في
موقفه ساعة بعد ساعة, ولا يقطع التلبية, وهذا
قول عامة العلماء. وقال مالك: إذا وقف بعرفة
يقطع التلبية, والصحيح قول العامة لما روي "أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم لبى حتى رمى
جمرة العقبة". وروي عن "عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه أنه لبى عشية يوم عرفة فقيل له: ليس
هذا موضع التلبية فقال: أجهل الناس أم نسوا
فوالذي بعث محمدا بالحق لقد حججت مع رسول الله
صلى الله عليه وسلم فما ترك التلبية حتى رمى
جمرة العقبة إلا أن يخللها أو يخلطها بتكبير
وتهليل", ولأن التلبية ذكر يؤتى به في ابتداء
هذه العبادة, وتكرر في أثنائها فأشبه التكبير
في باب الصلاة, وكان ينبغي أن يؤتى به إلى آخر
أركان هذه العبادة كالتكبير إلا أنا تركنا
القياس فيما بعد رمي جمرة العقبة, أو ما يقوم
مقام الرمي في القطع بالإجماع, فبقي الأمر
فيما قبل ذلك على أصل القياس, وسواء كان مفردا
بالحج أو قارنا أو متمتعا, بخلاف المفرد
بالعمرة أنه يقطع التلبية إذا استلم الحجر حين
يأخذ في طواف العمرة؛ لأن الطواف ركن في
العمرة فأشبه طواف الزيارة في الحج, وهناك
يقطع التلبية قبل الطواف كذا ههنا. والأفضل أن
يكون في الموقف مستقبل القبلة لما روي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"خير المجالس ما استقبل به القبلة". وروي عن جابر رضي الله عنه أنه قال: "ركب رسول الله صلى الله عليه
وسلم حتى أتى الموقف فاستقبل به القبلة فلم
يزل واقفا, حتى غربت الشمس", فإن انحرف قليلا
لم يضره؛ لأن الوقوف ليس بصلاة. وكذا لو وقف,
وهو محدث أو جنب لم يضره لما مر أن الوقوف
عبادة لا يتعلق بالبيت, فلا يشترط له الطهارة
كرمي الجمار, والأفضل للإمام أن يقف على
راحلته؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف
راكبا, وكلما قرب في وقوفه من الإمام فهو
أفضل؛ لأن الإمام يعلم الناس, ويدعو فكلما كان
أقرب كان أمكن من السماع, وعرفات كلها موقف
إلا بطن عرنة, فإنه يكره الوقوف فيه لما ذكرنا
في بيان مكان الوقوف فيقف إلى غروب الشمس فإذا
غربت الشمس دفع الإمام, والناس معه, ولا يدفع
أحد قبل غروب الشمس لا الإمام, ولا غيره لما
مر أن الوقوف إلى غروب الشمس واجب. وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم "أنه خطب عشية عرفة
فقال:
أما بعد, فإن هذا يوم الحج الأكبر, وإن
الجاهلية كانت تدفع من ههنا, والشمس على رءوس
الجبال مثل العمائم على رءوس الرجال فخالفوهم,
وأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالدفع منه بعد
الغروب", فإن خاف بعض القوم الزحام, أو كانت
به علة فيقدم قبل الإمام قليلا, ولم يجاوز حد
عرفة فلا بأس به؛ لأنه إذا لم يجاوز حد عرفة,
فهو في مكان الوقوف. وقد دفع الضرر عن نفسه,
وإن ثبت على مكانه حتى يدفع الإمام, فهو أفضل
لقوله تعالى:
{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ}, وينبغي للناس أن يدفعوا, وعليهم السكينة والوقار حتى يأتوا مزدلفة
لما روي: "أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض
من عرفة, وعليه السكينة حتى روي أنه كان يكبح
ناقته" وروي أنه "لما دفع من عرفات فقال: أيها
الناس إن البر ليس في إيجاف الخيل, ولا في
أبضاع الإبل, بل على هينتكم", ولأن هذا مشي
إلى الصلاة؛ لأنهم يأتون مزدلفة ليصلوا بها
المغرب والعشاء. وقد قال النبي: صلى الله عليه
وسلم
"إذا أتيتم الصلاة فأتوها, وأنتم تمشون, ولا
تأتوها وأنتم تسعون, وعليكم السكينة والوقار", فإن أبطأ
الإمام بالدفع, وتبين للناس الليل دفعوا قبل
الإمام لأنه إذا تبين الليل فقد جاء أوان
الدفع, والإمام بالتأخير ترك السنة فلا ينبغي
لهم أن يتركوها. وإذا أتى مزدلفة ينزل حيث شاء
عن يمين الطريق أو عن يساره, ولا ينزل على
قارعة الطريق, ولا في وادي محسر لقول النبي
صلى الله عليه وسلم
"مزدلفة كلها موقف, إلا وادي محسر",
وإنما لا ينزل على الطريق؛ لأنه يمنع الناس عن
الجواز فيتأذون به, فإذا دخل وقت العشاء يؤذن
المؤذن ويقيم فيصلي الإمام بهم صلاة المغرب في
وقت صلاة العشاء ثم يصلي بهم صلاة العشاء
بأذان واحد وإقامة واحدة في قول أصحابنا
الثلاثة وقال زفر: بأذان واحد وإقامتين, وقال
الشافعي:
ج / 2 ص -155-
بأذانين وإقامة واحدة, احتج زفر بما روي أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم "صلى المغرب,
والعشاء بمزدلفة بإقامتين", ولأن هذا أحد نوعي
الجمع فيعتبر بالنوع الآخر, وهو الجمع بعرفة,
والجمع هناك بأذان واحد وإقامتين كذا ههنا.
ولنا ما روي عن عبد الله بن عمر, وخزيمة بن
ثابت رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه
وسلم صلى المغرب والعشاء بمزدلفة بأذان واحد
وإقامة واحدة", وعن أبي أيوب الأنصاري رضي
الله عنه أنه قال: "صليتهما مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم بأذان واحد وإقامة واحدة", وما
احتج به زفر محمول على الأذان والإقامة, فيسمى
الأذان إقامة كما يقال: سنة العمرين, ويراد به
سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما, وقال: صلى
الله عليه وسلم
"بين كل أذانين
صلاة لمن شاء إلا المغرب",
وأراد به الأذان والإقامة كذا ههنا, والقياس
على الجمع الآخر غير سديد؛ لأن هناك الصلاة
الثانية, وهي العصر تؤدى في غير وقتها فتقع
الحاجة إلى إقامة أخرى للإعلام بالشروع فيها,
والصلاة الثانية ههنا, وهي العشاء تؤدى في
وقتها فيستغنى عن تجديد الإعلام كالوتر مع
العشاء, ولا يتشاغل بينهما بتطوع ولا بغيره؛
لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتشاغل
بينهما بتطوع, ولا بغيره, فإن تطوع بينهما أو
تشاغل بشيء أعاد الإقامة للعشاء؛ لأنها انقطعت
عن الإعلام الأول فاحتاجت إلى إعلام آخر, فإن
صلى المغرب وحده والعشاء وحده أجزأه, بخلاف
الظهر والعصر بعرفة على قول أبي حنيفة: إنه لا
يجوز إلا بجماعة عنده, والفرق له أن المغرب
تؤدى فيما هو وقتها في الجملة إن لم يكن وقت
أدائها, فكان الجمع ههنا بتأخير المغرب عن وقت
أدائها, فيجوز فعلها وحده, كما لو تأخرت عنه
بسبب آخر فقضاه في وقت العشاء وحده, والعصر
هناك تؤدى فيما ليس وقتها أصلا ورأسا, فلا
يجوز؛ إذ لا جواز للصلاة قبل وقتها, وإنما
عرفنا جوازها بالشرع, وإنما ورد الشرع بها
بجماعة فيتبع مورد الشرع, والأفضل أن يصليهما
مع الإمام بجماعة؛ لأن الصلاة بجماعة أفضل,
ولو صلى المغرب بعد غروب الشمس قبل أن يأتي
مزدلفة, فإن كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل
طلوع الفجر لم تجز صلاته, وعليه إعادته ما لم
يطلع الفجر في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر
والحسن, وقال أبو يوسف: تجزئه وقد أساء, وعلى
هذا الخلاف إذا صلى العشاء في الطريق بعد دخول
وقتها, وجه قوله أنه أدى المغرب والعشاء في
وقتيهما؛ لأنه ثبت كون هذا الوقت وقتا لهما
بالكتاب العزيز, والسنن المشهورة المطلقة عن
المكان على ما ذكرنا في كتاب الصلاة, فيجوز
كما لو أداها في غير ليلة المزدلفة إلا أن
التأخير سنة. وترك السنة لا يسلب الجواز, بل
يوجب الإساءة, ولهما ما روي: "أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم لما دفع من عرفات, وكان
أسامة بن زيد رضي الله عنه رديف رسول الله صلى
الله عليه وسلم قال: فلما بلغ الشعب الأيسر
الذي دون المزدلفة أناخ فبال, ثم جاء فصببت
عليه الوضوء فتوضأ وضوءا خفيفا فقلت: الصلاة
يا رسول الله فقال: الصلاة أمامك وروي أنه صلى
الله عليه وسلم قال: المصلى أمامك فجاء مزدلفة
فتوضأ فأسبغ الوضوء", فدل الحديث على اختصاص
جوازها في حال الاختيار والإمكان بزمان ومكان,
وهو وقت العشاء بمزدلفة, ولم يوجد فلا يجوز,
ويؤمر بالإعادة في وقتها ومكانها ما دام الوقت
قائما, فإن لم يعد حتى طلع الفجر أعاد إلى
الجواز عندهما أيضا؛ لأن الكتاب الكريم والسنن
المشهورة تقتضي الجواز؛ لأنها تقتضي كون الوقت
وقتا لها, وأنها مطلقة عن المكان. وحديث أسامة
رضي الله عنه يقتضي عدم الجواز, وأنه من أخبار
الآحاد, ولا يجوز العمل بخبر الواحد على وجه
يتضمن بطلان العمل بالكتاب والسنن المشهورة,
فيجمع بينهما فيعمل بخبر الواحد فيما قبل طلوع
الفجر, ويؤمر بالإعادة, ويعمل بالكتاب العزيز
والسنن المشهورة فيما بعد طلوعه, فلا نأمره
بالإعادة عملا بالدلائل بقدر الإمكان هذا إذا
كان يمكنه أن يأتي مزدلفة قبل طلوع الفجر,
فأما إذا خشي أن يطلع الفجر قبل أن يصل إلى
مزدلفة لأجل ضيق الوقت, بأن كان في آخر الليل
بحيث يطلع الفجر قبل أن يأتي مزدلفة فإنه يجوز
بلا خلاف, هكذا روى الحسن عن أبي حنيفة؛ لأن
بطلوع الفجر يفوت وقت الجمع, فكان في تقديم
الصلاة صيانتها عن الفوات, فإن كان لا يخشى
الفوات لأجل ضيق الوقت, ولكنه ضل عن الطريق لا
يصلي, بل يؤخر إلى أن يخاف طلوع الفجر لو لم
يصل, فعند ذلك يصلي لما ذكرنا, والله الموفق,
ويبيت ليلة المزدلفة بمزدلفة؛ لأن رسول الله
صلى الله عليه وسلم بات بها, فإن مر بها مارا
بعد طلوع الفجر من غير أن يبيت بها فلا شيء
عليه, ويكون مسيئا, وإنما لا يلزمه شيء؛ لأنه
ج / 2 ص -156-
أتى
بالركن, وهو كينونته بمزدلفة بعد طلوع الفجر,
لكنه يكون مسيئا لتركه السنة, وهي البيتوتة
بها فإذا طلع الفجر صلى الإمام بهم صلاة الفجر
بغلس لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه أنه قال: "ما رأيت رسول الله صلى الله
عليه وسلم صلى صلاة لغير ميقاتها إلا صلاة
العصر بعرفة, وصلاة المغرب بجمع, وصلاة الفجر
يومئذ, فإنه صلاها قبل وقتها بغلس" أي: صلاها
قبل وقتها المستحب بغلس, ولأن الفائت بالتغليس
فضيلة الإسفار, وأنها ممكن الاستدراك في كل
يوم, فأما فضيلة الوقوف, فلا تستدرك في غير
ذلك اليوم, فإذا صلى الإمام بهم وقف بالناس,
ووقفوا وراءه أو معه, والأفضل أن يكون موقفهم
على الجبل الذي يقال له قزح, وهو تأويل ابن
عباس للمشعر الحرام أنه الجبل وما حوله, وعند
عامة أهل التأويل: المشعر الحرام هو مزدلفة
فيقفون إلى أن يسفر جدا يدعون الله تعالى,
ويكبرون, ويهللون, ويحمدون الله تعالى, ويثنون
عليه, ويصلون على النبي صلى الله عليه وسلم
ويسألون حوائجهم, ثم يدفع منها إلى منى قبل
طلوع الشمس لما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم أنه قال:
"إن الجاهلية كانت تنفر من هذا المقام, والشمس على رءوس الجبال
فخالفوهم" فأفاض قبل
طلوع الشمس. وقد كانت الجاهلية تقول بمزدلفة:
أشرق ثبير كيما نغير, وهو جبل عال تطلع عليه
الشمس قبل كل موضع فخالفهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فدفع قبل طلوع الشمس, وإن دفع بعد
طلوع الشمس قبل أن يصلي الناس الفجر فقد أساء
ولا شيء عليه, أما الإساءة فلأن السنة أن يصلي
الفجر, ويقف ثم يفيض فإذا لم يفعل فقد ترك
السنة فيكون مسيئا. وأما عدم لزوم شيء فلأنه
وجد منه الركن, وهو الوقوف, ولو ساعة, وإذا
أفاض من جمع دفع على هينته؛ لأن النبي صلى
الله عليه وسلم كذا فعل. ويأخذ حصى الجمار من
مزدلفة أو من الطريق لما روي: "أن النبي صلى
الله عليه وسلم أمر ابن عباس رضي الله عنهما
أن يأخذ الحصى من مزدلفة", وعليه فعل
المسلمين, وهو أحد نوعي الإجماع. وإن رمى
بحصاة أخذها من الجمرة أجزأه. وقد أساء, وقال
مالك: لا تجزئه؛ لأنها حصى مستعملة, ولنا
قوله: صلى الله عليه وسلم "ارم, ولا حرج"
مطلقا, وتعليل مالك لا يستقيم على أصله؛ لأن
الماء المستعمل عنده طاهر وطهور حتى يجوز
الوضوء به, فالحجارة المستعملة أولى, وإنما
كره ذلك عندنا لما روي أنه سئل ابن عباس فقيل
له: إن من عهد إبراهيم إلى يومنا هذا في
الجاهلية والإسلام يرمي الناس, وليس ههنا إلا
هذا القدر فقال: كل حصاة تقبل فإنها ترفع, وما
لا يقبل فإنه يبقى. ومثل هذا لا يعرف إلا
سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكره
أن يرمي بحصاة لم تقبل فيأتي منى فيرمي جمرة
العقبة سبع حصيات, لما روي "أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم لما أتى منى لم يعرج على شيء
حتى رمى جمرة العقبة سبع حصيات" يقطع التلبية
مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة, لما روى
أسامة بن زيد, والفضل بن عباس: "أن النبي صلى
الله عليه وسلم قطع التلبية عند أول حصاة رمى
بها جمرة العقبة", وكان أسامة رديف رسول الله
صلى الله عليه وسلم من عرفات إلى مزدلفة,
والفضل كان رديفه من مزدلفة إلى منى. وروي أن
ابن عباس سئل عن ذلك فقال: أخبرني أخي الفضل
"أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع التلبية عند
أول حصاة رمى بها جمرة العقبة", وكان رديف
رسول الله صلى الله عليه وسلم, وسواء كان في
الحج الصحيح أو في الحج الفاسد أنه يقطع
التلبية مع أول حصاة يرمي بها جمرة العقبة؛
لأن أعمالها لا تختلف, فلا يختلف وقت قطع
التلبية, وسواء كان مفردا بالحج أو قارنا أو
متمتعا؛ لأن القارن والمتمتع كل واحد منهما
محرم بالحج, فكان كالمفرد به, ولا يقطع القارن
التلبية إذا أخذ في طواف العمرة؛ لأنه محرم
بإحرام الحج, وإنما يقطع عند ما يقطع المفرد
بالحجة؛ لأنه بعد إتيانه بالعمرة كالمفرد
بالحج, فأما المحرم بالعمرة المفردة فإنه يقطع
التلبية إذا استلم الحجر, وأخذ في طواف
العمرة, والفرق بين المحرم بالحج, وبين المحرم
بالعمرة المفردة ذكرناه فيما تقدم, وقال مالك
في المفرد بالعمرة: يقطع التلبية إذا رأى
البيت, وهذا غير سديد؛ لأن قطع التلبية يتعلق
بفعل هو نسك كالرمي في حق المحرم بالحج, ورؤية
البيت ليس بنسك, فلا يقطع عندنا, فأما استلام
الحجر فنسك كالرمي فيقطع عنده لا عند الرؤية.
قال محمد: إن فائت الحج إذا تحلل بالعمرة يقطع
التلبية حيث يأخذ في الطواف كذا هذا, والقارن
إذا فاته الحج يقطع التلبية في الطواف,
والثاني الذي يتحلل به من حجته؛ لأن العمرة
ج / 2 ص -157-
ما
فاتته, إذ ليس لها وقت معين فيأتي بها فيطوف,
ويسعى كما كان يفعل لو لم يفته الحج, وإنما
فاته الحج فيفعل ما يفعله فائت الحج, وهو أن
يتحلل بأفعال العمرة, وهي الطواف والسعي
كالمقيم فيقطع التلبية إذا أخذ في طواف الحج,
والمحصر يقطع التلبية إذا ذبح عنه هديه؛ لأنه
إذا ذبح هديه فقد تحلل, ولا تلبية بعد التحلل,
فإن حلق الحاج قبل أن يرمي جمرة العقبة يقطع
التلبية؛ لأنه بالحلق تحلل من الإحرام لما
روينا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
لمن حلق قبل الرمي
"ارم, ولا حرج" فثبت أن
التحلل من الإحرام يحصل بالحلق قبل الرمي, ولا
تلبية بعد التحلل, فإن زار البيت قبل أن يرمي,
ويحلق ويذبح, قطع التلبية في قول أبي حنيفة.
وروي عن أبي يوسف أنه يلبي ما لم يحلق أو تزول
الشمس من يوم النحر, وعن محمد ثلاث روايات في
رواية مثل قول أبي حنيفة وروى هشام عنه, وروى
ابن سماعة عنه: أن من لم يرم قطع التلبية إذا
غربت الشمس من يوم النحر, وروى هشام عنه رواية
أخرى أنه يقطع التلبية إذا مضت أيام النحر,
فظاهر روايته مع أبي حنيفة وجه قول أبي يوسف:
أنه, وإن طاف فإحرامه قائم لم يتحلل بهذا
الطواف إذا لم يحلق, بدليل أنه لا يباح له
الطيب واللبس, فالتحق الطواف بالعدم, وصار
كأنه لم يطف فلا يقطع التلبية إلا إذا زالت
الشمس؛ لأن من أصله أن هذا الرمي مؤقت
بالزوال, فإذا زالت الشمس يفوت وقته, ويفعل
بعده قضاء, فصار فواته عن وقته بمنزلة فعله في
وقته, وعند فعله في وقته يقطع التلبية. كذا
عند فواته عن وقته, بخلاف ما إذا حلق قبل
الرمي؛ لأنه تحلل بالحلق, وخرج عن إحرامه حتى
يباح له الطيب واللبس لذلك افترقا, ولهما أن
الطواف, وإن كان قبل الرمي والحلق والذبح, فقد
وقع التحلل به في حق النساء, بدليل أنه لو
جامع بعده لا يلزمه بدنة, فكان التحلل بالطواف
كالتحلل بالحلق, فيقطع التلبية به كما يقطع
بالحلق. وقد خرج الجواب عن قوله: إن إحرامه
قائم بعد الطواف؛ لأنا نقول: نعم لكن في حق
الطيب واللبس, لا في حق النساء فلم يكن قائما
مطلقا, والتلبية لم تشرع إلا في الإحرام
المطلق, ولو ذبح قبل الرمي يقطع التلبية في
قول أبي حنيفة إذا كان قارنا أو متمتعا, وهو
إحدى الروايتين عن محمد, وإن كان مفردا بالحج
لا يقطع؛ لأن الذبح من القارن والمتمتع محلل
كالحلق, ولا تلبية بعد التحلل, فأما المفرد
فتحلله لا يقف على ذبحه. ألا ترى أنه ليس
بواجب عليه, فلا يقطع عنده التلبية, وروى ابن
سماعة عن محمد أنه لا يقطع التلبية, والتحلل
لا يقع بالذبح على هذه الرواية عنده, وإنما
يقع بالرمي أو بالحلق, ويرمي سبع حصيات مثل
حصى الخزف, لما روي عن النبي صلى الله عليه
وسلم "أنه قال لعبد الله بن عباس: رضي الله
عنه
ائتني بسبع حصيات مثل حصى الخزف فأتاه بهن
فجعل يقلبهن بيده, ويقول: مثلهن بمثلهن لا
تغلوا فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في
الدين".
وقد قالوا: لا يزيد على ذلك لما روي عن معاذ:
رضي الله عنه أنه قال "خطبنا رسول الله صلى
الله عليه وسلم بمنى, وعلمنا المناسك, وقال:
ارموا سبع حصيات مثل حصى الخزف, ووضع إحدى سبابتيه على الأخرى كأنه
يخذف", ولأنه لو
كان أكبر من ذلك, فلا يؤمن أن يصيب غيره
لازدحام الناس فيتأذى به, ويرمي من بطن
الوادي, ويكبر مع كل حصاة يرميها, لما روي عن
عبد الله بن مسعود: رضي الله عنه أنه رمى جمرة
العقبة سبع حصيات من بطن الوادي يكبر مع كل
حصاة يرميها فقيل له: إن ناسا يرمون من فوقها
فقال عبد الله: رضي الله عنه هذا والذي لا إله
غيره مقام الذي أنزلت عليه سورة البقرة. وكذا
روي عن ابن عمر رضي الله عنهما "أنه كان يرمي
جمرة العقبة بسبع حصيات يتبع كل حصاة بتكبيرة,
ويقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعل
ذلك", وعن ابنه سالم بن عبد الله أنه استبطن
الوادي فرمى الجمرة سبع حصيات يكبر مع كل حصاة
الله أكبر الله أكبر, اللهم اجعله حجا مبرورا,
وذنبا مغفورا, وعملا مشكورا, وقال: حدثني أبي
"أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرمي جمرة
العقبة من هذا المكان, ويقول كلما رمى بحصاة
مثل ما قلت", وإن رمى من فوق العقبة أجزأه,
لكن السنة ما ذكرنا. وكذا لو جعل بدل التكبير
تسبيحا أو تهليلا جاز, ولا يكون مسيئا. وقد
قالوا إذا رمى للعقبة يجعل الكعبة عن يساره,
ومنى عن يمينه, ويقوم فيها حيث يرى موقع حصاه,
لما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
أنه لما انتهى إلى الجمرة الكبرى جعل الكعبة
عن يساره, ومنى عن يمينه, وبأي شيء رمى أجزأه
حجرا كان أو طينا أو غيرهما مما هو من جنس
الأرض, وهذا عندنا
ج / 2 ص -158-
وقال
الشافعي: لا يجوز إلا بالحجر, وجه قوله أن هذا
أمر يعرف بالتوقيف, والتوقيف ورد بالحصى,
والحصى هي الأحجار الصغار, ولنا ما روينا عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"ارم, ولا حرج".
وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم
الحلق". وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من رمى وذبح وحلق فقد حل
له كل شيء إلا النساء" مطلقا عن صفة الرمي,
والرمي بالحصى من النبي صلى الله عليه وسلم
وأصحابه رضي الله عنهم محمول على الأفضلية لا
الجواز توفيقا بين الدلائل, لما صح من مذهب
أصحابنا أن المطلق لا يحمل على المقيد بل يجري
المطلق على إطلاقه, والمقيد على تقييده ما
أمكن, وههنا أمكن بأن يحمل المطلق على أصل
الجواز, والمقيد على الأفضلية, ولا يقف عند
هذه الجمرة للدعاء بل ينصرف إلى رحله, والأصل
أن كل رمي ليس بعده رمي في ذلك اليوم لا يقف
عنده, وكل رمي بعده رمي في ذلك اليوم يقف
عنده؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقف
عند جمرة العقبة, ووقف عند الجمرتين ثم الرمي
ماشيا أفضل أو راكبا, فقد روي عن أبي يوسف أنه
فصل في ذلك تفصيلا, فإنه حكى أن إبراهيم بن
الجراح دخل على أبي يوسف, وهو مريض في المرض
الذي مات فيه فسأله أبو يوسف فقال: أيهما أفضل
الرمي ماشيا أو راكبا؟ فقال: ماشيا فقال:
أخطأت ثم قال: راكبا فقال: أخطأت, وقال: كل
رمي بعده رمي فالماشي أفضل, وكل رمي لا رمي
بعده فالراكب أفضل قال: فخرجت من عنده فسمعت
الناعي بموته قبل أن أبلغ الباب, ذكرنا هذه
الحكاية ليعلم أنه بلغ حرصه في التعليم حتى لم
يسكت عنه في رمقه فيقتدى به في التحريض على
التعليم, وهذا لما ذكرنا أن كل رمي بعده رمي
فالسنة فيه هو الوقوف للدعاء, والماشي أمكن
للوقوف والدعاء. وكل رمي لا رمي بعده فالسنة
فيه هو الانصراف لا الوقوف, والراكب أمكن من
الانصراف, فإن قيل أليس أنه روي عن النبي صلى
الله عليه وسلم "أنه رمى راكبا, وقال: صلى
الله عليه وسلم
خذوا عني مناسككم لا أدري لعلي لا أحج بعد عامي هذا" فالجواب: أن ذلك محمول على رمي لا رمي بعده أو على التعليم ليراه
الناس فيتعلموا منه مناسك الحج, فإن رمى إحدى
الجمار بسبع حصيات جميعا دفعة واحدة فهي عن
واحدة, ويرمي ستة أخرى؛ لأن التوقيف ورد
بتفريق الرميات فوجب اعتباره, وهذا بخلاف
الاستنجاء أنه إذا استنجى بحجر واحد وأنقاه
كفاه, ولا يراعى فيه العدد عندنا؛ لأن وجوب
الاستنجاء ثبت معقولا بمعنى التطهير فإذا حصلت
الطهارة بواحد اكتفى به, فأما الرمي فإنما وجب
تعبدا محضا فيراعى فيه مورد التعبد, وأنه ورد
بالتفريق فيقتصر عليه, فإن رمى أكثر من سبع
حصيات لم تضره الزيادة؛ لأنه أتى بالواجب
وزيادة, والسنة أن يرمي بعد طلوع الشمس من يوم
النحر قبل الزوال لما روى جابر رضي الله عنه
"أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرم يوم
النحر ضحى, ورمى بعد ذلك بعد الزوال", ولو رمى
قبل طلوع الشمس بعد انفجار الصبح أجزأه خلافا
لسفيان. والمسألة ذكرناها فيما تقدم, ولا يرمي
يومئذ غيرها لما روي "أن النبي صلى الله عليه
وسلم لم يرم يوم النحر إلا جمرة العقبة" فإذا
فرغ من هذا الرمي لا يقف, وينصرف إلى رحله,
فإن كان منفردا بالحج يحلق أو يقصر, والحلق
أفضل لما ذكرنا فيما تقدم, ولا ذبح عليه, وإن
كان قارنا أو متمتعا يجب عليه أن يذبح ويحلق
ويقدم الذبح على الحلق لقوله تعالى:
{وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ
مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ
بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا
وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ثُمَّ
لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ}
رتب قضاء التفث, وهو الحلق على الذبح. وروي عن
النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"أول نسكنا في يومنا هذا الرمي ثم الذبح ثم الحلق". وروي عنه صلى الله عليه وسلم "أنه رمى ثم ذبح ثم دعا بالحلاق",
فإن حلق قبل الذبح من غير إحصار فعليه لحلقه
قبل الذبح دم في قول أبي حنيفة, وقال أبو
يوسف, ومحمد, وجماعة من أهل العلم: أنه لا شيء
عليه, وأجمعوا على أن المحصر إذا حلق قبل
الذبح أنه تجب عليه الفدية, احتج من خالفه بما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم
|