بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب النكاح"
الكلام في هذا الكتاب في الأصل في أربعة مواضع في بيان صفة النكاح المشروع وفي بيان ركن النكاح وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكم النكاح أما الأول فنقول: لا خلاف أن النكاح فرض حالة التوقان, حتى أن من تاقت نفسه إلى النساء بحيث لا يمكنه الصبر عنهن وهو قادر على المهر والنفقة ولم يتزوج يأثم, واختلف فيما إذا لم تتق نفسه إلى النساء على التفسير الذي ذكرنا, قال نفاة القياس مثل داود بن علي الأصفهاني وغيره من أصحاب الظواهر: أنه فرض عين بمنزلة الصوم والصلاة وغيرهما من فروض الأعيان, حتى أن من تركه مع القدرة على المهر والنفقة والوطء يأثم. وقال الشافعي إنه مباح كالبيع والشراء. واختلف أصحابنا فيه, قال بعضهم: إنه مندوب ومستحب. وإليه ذهب من أصحابنا الكرخي. وقال بعضهم: إنه فرض كفاية إذا قام به البعض سقط عن الباقين, بمنزلة الجهاد وصلاة الجنازة. وقال بعضهم: إنه واجب ثم القائلون بالوجوب اختلفوا في كيفية الوجوب, قال بعضهم: إنه واجب على سبيل الكفاية, كرد السلام. وقال بعضهم: إنه واجب عينا, لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين, كصدقة الفطر والأضحية, والوتر احتج أصحاب الظواهر بظواهر النصوص من نحو قوله عز وجل {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقوله عز وجل {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن". وقوله صلى الله عليه وسلم "تناكحوا تكثروا فإني أباهي بكم الأمم يوم القيامة" أمر الله عز وجل بالنكاح مطلقا, والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا, إلا أن يقوم الدليل بخلافه, ولأن الامتناع من الزنا واجب ولا يتوصل إليه إلا بالنكاح, وما لا يتوصل إلى الواجب إلا به يكون واجبا. واحتج الشافعي بقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أخبر عن إحلال النكاح, والمحلل والمباح من الأسماء المترادفة, ولأنه قال: {وَأُحِلَّ لَكُمْ} ولفظ لكم يستعمل في المباحات, ولأن النكاح سبب يتوصل به إلى قضاء الشهوة فيكون مباحا كشراء الجارية للتسري بها, وهذا لأن قضاء الشهوة إيصال النفع إلى نفسه, وليس يجب على الإنسان إيصال النفع إلى نفسه بل: هو مباح في الأصل, كالأكل والشرب, وإذا كان مباحا لا يكون واجبا لما بينهما من التنافي والدليل على أن النكاح ليس بواجب قوله تعالى {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} وهذا خرج مخرج المدح ليحيى عليه الصلاة والسلام بكونه حصورا, والحصور الذي لا يأتي النساء مع القدرة ولو كان واجبا لما استحق المدح بتركه؛ لأن ترك الواجب لأن يذم عليه أولى من أن يمدح. واحتج من قال من أصحابنا: إنه مندوب إليه ومستحب بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من استطاع منكم الباءة فليتزوج, ومن لم يستطع فليصم فإن الصوم له وجاء" أقام الصوم مقام النكاح, والصوم ليس بواجب فدل أن النكاح ليس بواجب أيضا, لأن غير الواجب لا يقوم مقام الواجب. ولأن في الصحابة رضي الله عنهم من لم تكن له زوجة, ورسول الله صلى الله عليه وسلم علم منه بذلك ولم ينكر عليه, فدل أنه ليس بواجب. ومن قال منهم: إنه

 

ج / 2 ص -229-       فرض أو واجب على سبيل الكفاية احتج بالأوامر الواردة في باب النكاح والأمر المطلق للفرضية والوجوب قطعا, والنكاح لا يحتمل ذلك على طريق التعيين؛ لأن كل واحد من آحاد الناس لو تركه لا يأثم, فيحمل على الفرضية والوجوب على طريق الكفاية, فأشبه الجهاد, وصلاة الجنازة, ورد السلام. ومن قال منهم: إنه واجب عينا لكن عملا لا اعتقادا على طريق التعيين يقول: صيغة الأمر المطلقة عن القرينة تحتمل الفرضية, وتحتمل الندب؛ لأن الأمر دعاء وطلب, ومعنى الدعاء والطلب موجود في كل واحد منهما, فيؤتى بالفعل لا محالة, وهو تفسير وجوب العمل, ويعتقد على الإبهام على أن ما أراد الله تعالى بالصيغة من الوجوب القطعي أو الندب فهو حق؛ لأنه إن كان واجبا عند الله فخرج عن العهدة بالفعل, فيأمن الضرر وإن كان مندوبا يحصل له الثواب, فكان القول بالوجوب على هذا الوجه أخذا بالثقة, والاحتياط, واحترازا عن الضرر بالقدر الممكن, وأنه واجب شرعا وعقلا, وعلى هذا الأصل بنى أصحابنا من قال منهم: إن النكاح فرض أو واجب؛ لأن الاشتغال به مع أداء الفرائض والسنن أولى من التخلي لنوافل العبادات مع ترك النكاح, وهو قول أصحاب الظواهر لأن الاشتغال بالفرض والواجب كيف ما كان أولى من الاشتغال بالتطوع. ومن قال منهم: إنه مندوب, ومستحب؛ فإنه يرجحه على النوافل من وجوه أخر أحدها: أنه سنة قال النبي صلى الله عليه وسلم "النكاح سنتي" والسنن مقدمة على النوافل بالإجماع. ولأنه أوعد على ترك السنة بقوله "فمن رغب عن سنتي فليس مني" ولا وعيد على ترك النوافل. والثاني: أنه فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه أي: داوم وثبت عليه, بحيث لم يخل عنه, بل كان يزيد عليه حتى تزوج عددا مما أبيح له من النساء. ولو كان التخلي للنوافل أفضل لما فعل؛ لأن الظاهر أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لا يتركون الأفضل فيما له حد معلوم؛ لأن ترك الأفضل فيما له حد معلوم عد زلة منهم, وإذا ثبت أفضلية النكاح في حق النبي صلى الله عليه وسلم ثبت في حق الأمة؛ لأن الأصل من الشرائع هو العموم, والخصوص بدليل. والثالث: أنه سبب يتوصل به إلى مقصود هو مفضل على النوافل؛ لأنه سبب لصيانة النفس عن الفاحشة, وسبب لصيانة نفسها عن الهلاك بالنفقة, والسكنى, واللباس, لعجزها عن الكسب, وسبب لحصول الولد الموحد. وكل واحد من هذه المقاصد مفضل على النوافل, فكذا السبب الموصل إليه كالجهاد والقضاء. وعند الشافعي التخلي أولى. وتخريج المسألة على أصله ظاهر؛ لأن النوافل مندوب إليها, فكانت مقدمة على المباح, وما ذكره من دلائل الإباحة والحل فنحن نقول بموجبها: إن النكاح مباح, وحلال في نفسه لكنه واجب لغيره, أو مندوب ومستحب لغيره من حيث إنه صيانة للنفس من الزنا ونحو ذلك على ما بينا. ويجوز أن يكون الفعل الواحد حلالا بجهة, واجبا أو مندوبا إليه بجهة؛ إذ لا تنافي عند اختلاف الجهتين. وأما قوله عز وجل {وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} فاحتمل أن التخلي للنوافل كان أفضل من النكاح في شريعته, ثم نسخ ذلك في شريعتنا بما ذكرنا من الدلائل والله أعلم.
"فصل": وأما ركن النكاح فهو الإيجاب والقبول. وذلك بألفاظ مخصوصة, أو ما يقوم مقام اللفظ, فيقع الكلام في هذا الفصل في أربعة مواضع أحدها: في بيان اللفظ الذي ينعقد النكاح به بحروفه والثاني: في بيان صيغة ذلك اللفظ. والثالث: في بيان أن النكاح هل ينعقد بعاقد واحد أو لا ينعقد إلا بعاقدين. والرابع: في بيان صفة الإيجاب والقبول أما بيان اللفظ الذي ينعقد به النكاح بحروفه فنقول وبالله التوفيق: لا خلاف أن النكاح ينعقد بلفظ الإنكاح والتزويج. وهل ينعقد بلفظ البيع, والهبة, والصدقة, والتمليك؟ قال أصحابنا رحمهم الله: ينعقد. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا بلفظ الإنكاح والتزويج, واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان, اتخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وكلمته التي أحل بها الفروج في كتابه الكريم لفظ الإنكاح والتزويج فقط قال الله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وقال سبحانه وتعالى

 

ج / 2 ص -230-       {زَوَّجْنَاكَهَا} ولأن الحكم الأصلي للنكاح هو الازدواج والملك يثبت وسيلة إليه؛ فوجب اختصاصه بلفظ يدل على الازدواج, وهو لفظ التزويج والإنكاح لا غير. ولنا أنه انعقد نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم بلفظ الهبة, فينعقد به نكاح أمته. ودلالة الوصف قوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ} معطوفا على قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} أخبر الله تعالى أن المرأة المؤمنة التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم عند استنكاحه إياها حلال له. وما كان مشروعا في حق النبي صلى الله عليه وسلم يكون مشروعا في حق أمته هو الأصل, حتى يقوم دليل الخصوص, فإن قيل: قد قام دليل الخصوص ههنا وهو قوله تعالى {خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} فالجواب: أن المراد منه خالصة لك من دون المؤمنين بغير أجر فالخلوص يرجع إلى الأجر لا إلى لفظ الهبة لوجوه أحدها: ذكره عقيبه وهو قوله عز وجل {قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ} فدل أن خلوص تلك المرأة له كان بالنكاح بلا فرض منه. والثاني: أنه قال تعالى {لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ} ومعلوم أنه لا حرج كان يلحقه في نفس العبارة, وإنما الحرج في إعطاء البدل. والثالث: أن هذا خرج مخرج الامتنان عليه وعلى أمته في لفظ الهبة, ليست تلك في لفظة التزويج, فدل أن المنة فيما صارت له بلا مهر, فانصرف الخلوص إليه؛ ولأن الانعقاد بلفظ النكاح والتزويج لكونه لفظا موضوعا لحكم أصل النكاح شرعا وهو الازدواج وأنه لم يشرع بدون الملك, فإذا أتي به يثبت الازدواج باللفظ, ويثبت الملك الذي يلازمه شرعا. ولفظ التمليك موضوع لحكم آخر أصلي للنكاح وهو الملك, وإنه غير مشروع في النكاح بدون الازدواج فإذا أتي به وجب أن يثبت به الملك, ويثبت الازدواج الذي يلازمه شرعا, استدلالا لأحد اللفظين بالآخر, وهذا لأنهما حكمان متلازمان شرعا, ولم يشرع أحدهما بدون الآخر, فإذا ثبت أحدهما ثبت الآخر ضرورة, ويكون الرضا بأحدهما رضا بالآخر. وأما الحديث فنقول بموجبه لكن لم قلتم: إن استحلال الفروج بهذه الألفاظ استحلال بغير كلمة الله فيرجع الكلام إلى تفسير الكلمة المذكورة فنقول: كلمة الله تعالى تحتمل حكم الله عز وجل كقوله تعالى {وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ} فلم قلتم بأن جواز النكاح بهذه الألفاظ ليس حكم الله تعالى والدليل على أنه حكم الله تعالى ما ذكرنا من الدلائل مع ما أن كل لفظ جعل علما على حكم شرعي فهو حكم الله تعالى, وإضافة الكلمة إلى الله تعالى باعتبار أن الشارع هو الله تعالى فهو الجاعل اللفظ سببا لثبوت الحكم شرعا, فكان كلمة الله تعالى فمن هذا الوجه على الاستحلال بكلمة الله لا ينفى الاستحلال لا بكلمة الله تعالى فكان مسكوتا عنه فلا يصح الاحتجاج به ولا ينعقد النكاح بلفظ الإجارة عند عامة مشايخنا. والأصل عندهم: أن النكاح لا ينعقد إلا بلفظ موضوع لتمليك العين, هكذا روى ابن رستم عن محمد أنه قال: كل لفظ يكون في اللغة تمليكا للرقبة فهو في الحرة نكاح. وحكي عن الكرخي أنه ينعقد بلفظ الإجارة لقوله تعالى {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} الله تعالى المهر أجرا, ولا أجر إلا بالإجارة, فلو لم تكن الإجارة نكاحا لم يكن المهر أجرا. "وجه" قول العامة: أن الإجارة عقد مؤقت بدليل أن التأبيد يبطلها, والنكاح عقد مؤبد بدليل أن التوقيت يبطله. وانعقاد العقد بلفظ يتضمن المنع من الانعقاد ممتنع, ولأن الإجارة تمليك المنفعة, ومنافع البضع في حكم الأجزاء. والأعيان فكيف يثبت ملك العين بتمليك المنفعة. ولا ينعقد بلفظ الإعارة؛ لأن الإعارة إن كانت إباحة المنفعة فالنكاح لا ينعقد بلفظ الإباحة, لانعدام معنى التمليك أصلا. وإن كانت تمليك المتعة فالنكاح لا ينعقد إلا بلفظ موضوع لتمليك الرقبة, ولم يوجد. واختلف المشايخ في لفظ القرض قال بعضهم: لا ينعقد؛ لأنه في معنى الإعارة. وقال بعضهم: ينعقد؛ لأنه يثبت به الملك في العين؛ لأن المستقرض يصير ملكا للمستقرض. وكذا اختلفوا في لفظ السلم قال بعضهم: لا ينعقد لأن السلم في الحيوان لا يصح. وقال بعضهم: ينعقد؛ لأنه يثبت به ملك الرقبة, والسلم في الحيوان ينعقد عندنا, حتى لو اتصل به القبض يعد الملك ملكا فاسدا, لكن ليس كل ما يفسد البيع يفسد النكاح. واختلفوا أيضا في لفظ الصرف قال بعضهم: لا ينعقد به؛ لأنه وضع لإثبات الملك في

 

ج / 2 ص -231-       الدراهم والدنانير التي لا تتعين بالتعيين, والمعقود عليه ههنا يتعين بالتعيين. وقال بعضهم: ينعقد لأنه يثبت به ملك العين في الجملة. وأما لفظ الوصية فلا ينعقد به عند عامة مشايخنا؛ لأن الوصية تمليك مضاف إلى ما بعد الموت, والنكاح المضاف إلى زمان في المستقبل لا يصح. وحكي عن الطحاوي أنه ينعقد؛ لأنه يثبت به ملك الرقبة في الجملة. وحكى أبو عبد الله البصري عن الكرخي إن قيد الوصية بالحال بأن قال: أوصيت لك بابنتي هذه الآن ينعقد؛ لأنه إذا قيده بالحال صار مجازا عن التمليك, ولا ينعقد بلفظ الإحلال والإباحة؛ لأنه لا يدل على الملك أصلا ألا ترى أن المباح له الطعام يتناوله على حكم ملك المبيح, حتى كان له حق الحجر والمنع. ولا ينعقد بلفظ المتعة؛ لأنه لم يوضع للتمليك؛ ولأن المتعة عقد مفسوخ لما نبين إن شاء الله في موضعه ولو أضاف الهبة إلى الأمة؛ بأن قال رجل: وهبت أمتي هذه منك فإن كان الحال يدل على النكاح من إحضار الشهود, وتسمية المهر, مؤجلا ومعجلا, ونحو ذلك, ينصرف إلى النكاح. وإن لم يكن الحال دليلا على النكاح, فإن نوى النكاح فصدقه الموهوب له فكذلك وينصرف إلى النكاح بقرينة النية. وإن لم ينو ينصرف إلى ملك الرقبة والله عز وجل أعلم ثم النكاح كما ينعقد بهذه الألفاظ بطريق الأصالة ينعقد بها بطريق النيابة, بالوكالة, والرسالة؛ لأن تصرف الوكيل كتصرف الموكل, وكلام الرسول كلام المرسل, والأصل في جواز الوكالة في باب النكاح ما روي أن النجاشي زوج رسول الله صلى الله عليه وسلم أم حبيبة رضي الله عنها فلا يخلو ذلك إما أن فعله بأمر النبي صلى الله عليه وسلم أو لا بأمره, فإن فعله بأمره فهو وكيله, وإن فعله بغير أمره فقد أجاز النبي صلى الله عليه وسلم عقده والإجازة اللاحقة كالوكالة السابقة, وكما ينعقد النكاح بالعبارة ينعقد بالإشارة من الأخرس إذا كانت إشارته معلومة وينعقد بالكتابة؛ لأن الكتاب من الغائب خطابه والله تعالى أعلم.وأما بيان صيغة اللفظ الذي ينعقد به النكاح فنقول: لا خلاف في أن النكاح ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي كقوله: زوجت وتزوجت وما يجري مجراه. وأما بلفظين يعبر بأحدهما عن الماضي وبالآخر عن المستقبل كما إذا قال رجل لرجل: زوجني بنتك أو قال: جئتك خاطبا ابنتك أو قال جئتك لتزوجني بنتك فقال الأب: قد زوجتك أو قال لامرأة: أتزوجك على ألف درهم فقالت: قد تزوجتك على ذلك أو قال لها: زوجيني أو انكحيني نفسك فقالت: زوجتك أو أنكحت ينعقد استحسانا والقياس أن لا ينعقد؛ لأن لفظ الاستقبال عدة, والأمر من فروع الاستقبال؛ فلم يوجد الاستقبال, فلم يوجد الإيجاب إلا أنهم تركوا القياس لما روي "أن بلالا رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار فأبوا أن يزوجوه فقال: لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرني أن أخطب إليكم لما خطبت فقالوا له: ملكت" ولم ينقل أن بلالا أعاد القول. ولو فعل لنقل. ولأن الظاهر أنه أراد الإيجاب؛ لأن المساومة لا تتحقق في النكاح عادة, فكان محمولا على الإيجاب بخلاف البيع؛ فإن السوم معتاد فيه فيحمل اللفظ عليه, فلا بد من لفظ آخر يتأدى به الإيجاب والله الموفق وأما بيان أن النكاح هل ينعقد بعاقد واحد أو لا ينعقد إلا بعاقدين فقد اختلف في هذا الفصل, قال أصحابنا: ينعقد بعاقد واحد إذا كانت له ولاية من الجانبين, سواء كانت ولايته أصلية, كالولاية الثابتة بالملك والقرابة, أو دخيلة كالولاية الثابتة بالوكالة؛ بأن كان العاقد مالكا من الجانبين كالمولى إذا زوج أمته من عبده, أو كان وليا من الجانبين, كالجد إذا زوج ابن ابنه الصغير من بنت ابنه الصغيرة, والأخ إذا زوج بنت أخيه الصغيرة من ابن أخيه الصغير أو كان أصيلا ووليا كابن العم إذا زوج بنت عمه من نفسه, أو كان وكيلا من الجانبين, أو رسولا من الجانبين, أو كان وليا من جانب ووكيلا من جانب آخر, أو وكلت امرأة رجلا ليتزوجها من نفسه, أو وكل رجل امرأة لتزوج نفسها منه, وهذا مذهب أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: لا ينعقد النكاح بعاقد واحد أصلا. وقال الشافعي: لا ينعقد إلا إذا كان وليا من الجانبين. ولقب المسألة أن الواحد هل يجوز أن يقوم بالنكاح من الجانبين أم لا؟ "وجه" قول زفر والشافعي أن ركن النكاح اسم لشطرين مختلفين وهو: الإيجاب والقبول, فلا يقومان إلا بعاقدين كشطري البيع إلا أن الشافعي يقول في

 

ج / 2 ص -232-       الولي ضرورة لأن النكاح لا ينعقد بلا ولي, فإذا كان الولي متعينا فلو لم يجز نكاح المولية لامتنع نكاحها أصلا, وهذا لا يجوز, وهذه الضرورة منعدمة في الوكيل ونحوه, ولنا قوله تعالى {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} قيل نزلت هذه الآية في يتيمة في حجر وليها, وهي ذات مال "ووجه" الاستدلال بالآية الكريمة أن قوله تعالى {لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ} خرج مخرج العتاب, فيدل على أن الولي يقوم بنكاح وليته وحده, إذ لو لم يقم وحده به لم يكن للعتاب معنى, لما فيه من إلحاق العتاب بأمر لا يتحقق. وقوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} أمر سبحانه وتعالى بالإنكاح مطلقا من غير فصل بين الإنكاح من غيره أو من نفسه؛ ولأن الوكيل في باب النكاح ليس بعاقد بل هو سفير عن العاقد ومعبر عنه بدليل أن حقوق النكاح والعقد لا ترجع إلى الوكيل, وإذا كان معبرا عنه وله ولاية على الزوجين؛ فكانت عبارته كعبارة الموكل؛ فصار كلامه ككلام شخصين فيعتبر إيجابه كلاما للمرأة, كأنها قالت زوجت نفسي من فلان, وقبوله كلاما للزوج؛ كأنه قال قبلت فيقوم العقد باثنين حكما والثابت بالحكم ملحق بالثابت حقيقة. وأما البيع فالواحد فيه إذا كان وليا يقوم بطرفي العقد, كالأب يشتري مال الصغير لنفسه, أو يبيع مال نفسه من الصغير, أو يبيع مال ابنه الصغير من ابنه الصغير, أو يشتري, إلا أنه إذا كان وكيلا لا يقوم بهما؛ لأن حقوق العقد مقتصرة على العاقد, فلا يصير كلام العاقد كلام الشخصين؛ ولأن حقوق البيع إذا كانت مقتصرة على العاقد وللبيع أحكام متضادة من التسليم والقبض والمطالبة, فلو تولى طرفي العقد لصار الشخص الواحد مطالبا ومطلوبا ومسلما ومتسلما وهذا ممتنع والله عز وجل أعلم."وأما". صفة الإيجاب والقبول فهي: أن لا يكون أحدهما لازما قبل وجود الآخر, حتى لو وجد الإيجاب من أحد المتعاقدين كان له أن يرجع قبل قبول الآخر, كما في البيع؛ لأنهما جميعا ركن واحد, فكان أحدهما بعض الركن, والمركب من شيئين لا وجود له بأحدهما.

"فصل": وأما شرائط الركن فأنواع: بعضها شرط الانعقاد, وبعضها شرط الجواز والنفاذ, وبعضها شرط اللزوم. "أما". شرط الانعقاد فنوعان :. نوع يرجع إلى العاقد, ونوع يرجع إلى مكان العقد بالفعل, فلا ينعقد نكاح المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأن العقل من شرائط أهلية التصرف فأما البلوغ: فشرط النفاذ عندنا لا شرط الانعقاد على ما نذكر إن شاء الله تعالى وأما تعذر العاقد فليس بشرط لانعقاد النكاح خلافا لزفر على ما مر "وأما" الذي يرجع إلى مكان العقد فهو اتحاد المجلس إذا كان العاقدان حاضرين وهو أن يكون الإيجاب والقبول في مجلس واحد حتى لو اختلف المجلس لا ينعقد النكاح, بأن كانا حاضرين فأوجب أحدهما فقام الآخر عن المجلس قبل القبول, أو اشتغل بعمل يوجب اختلاف المجلس, لا ينعقد؛ لأن انعقاده عبارة عن ارتباط أحد الشطرين بالآخر, فكان القياس وجودهما في مكان واحد, إلا أن اعتبار ذلك يؤدي إلى سد باب العقود؛ فجعل المجلس جامعا للشطرين حكما مع تفرقهما حقيقة للضرورة, والضرورة تندفع عند اتحاد المجلس, فإذا اختلف تفرق الشطرين حقيقة وحكما فلا ينتظم الركن. "وأما" الفور فليس من شرائط الانعقاد عندنا. وعند الشافعي: هو شرط والمسألة ستأتي في كتاب البيوع, ونذكر الفرق هناك, وعلى هذا يخرج ما إذا تناكحا وهما يمشيان أو يسيران على الدابة وهو على التفصيل الذي نذكر إن شاء الله تعالى في كتاب البيوع, ونذكر الفرق هناك بين المشي والسير على الدابة وبين جريان السفينة, هذا إذا كان العاقدان حاضرين فأما إذا كان أحدهما غائبا؛ لم ينعقد حتى لو قالت امرأة بحضرة شاهدين: زوجت نفسي من فلان وهو غائب فبلغه الخبر فقال: قبلت أو قال رجل بحضرة شاهدين: تزوجت فلانة وهي غائبة فبلغها الخبر فقالت: زوجت نفسي منه لم يجز, وإن كان القبول بحضرة ذينك الشاهدين. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وقال أبو يوسف: ينعقد ويتوقف على إجازة الغائب. "وجه" قول أبي يوسف أن كلام الواحد يصلح أن يكون عقدا في

 

ج / 2 ص -233-       باب النكاح؛ لأن الواحد في هذا الباب يقوم بالعقد من الجانبين, وكما لو كان مالكا من الجانبين, أو وليا, أو وكيلا, فكان كلامه عقدا لا شطرا, فكان محتملا للتوقف كما في الخلع والطلاق والإعتاق على مال. "وجه" قولهما أن هذا شطر العقد حقيقة, لا كله؛ لأنه لا يملك كله؛ لانعدام الولاية, وشطر العقد لا يقف على غائب عن المجلس كالبيع, وهذا لأن الشطر لا يحتمل التوقف حقيقة؛ لأن التوقف في الأصل على خلاف الحقيقة؛ لصدوره عن الولاء على الجانبين, فيصير كلامه بمنزلة كلامين, وشخصه كشخصين حكما, فإذا انعدمت الولاية ولا ضرورة إلى تعيين الحقيقة؛ فلا يقف بخلاف الخلع لأنه من جانب الزوج يمين؛ لأنه تعليق الطلاق بقبول المرأة, وأنه يمين فكان عقدا تاما, ومن جانب المرأة معاوضة فلا يحتمل التوقف كالبيع, وكذلك الطلاق والإعتاق على مال. ولو أرسل إليها رسولا وكتب إليها بذلك كتابا فقبلت بحضرة شاهدين سمعا كلام الرسول وقراءة الكتاب جاز ذلك لاتحاد المجلس من حيث المعنى؛ لأن كلام الرسول كلام المرسل؛ لأنه ينقل عبارة المرسل. وكذا الكتاب بمنزلة الخطاب من الكاتب, فكان سماع قول الرسول وقراءة الكتاب سماع قول المرسل وكلام الكاتب معنى. وإن لم يسمعا كلام الرسول وقراءة الكتاب لا يجوز عندهما وعند أبي يوسف إذا قالت زوجت نفسي يجوز وإن لم يسمعا كلام الرسول وقراءة الكتاب بناء على أن قولها زوجت نفسي شطر العقد عندهما, والشهادة في شطري العقد شرط؛ لأنه يصير عقدا بالشطرين, فإذا لم يسمعا كلام الرسول وقراءة الكتاب فلم توجد الشهادة على العقد, وقول الزوج بانفراده عقد عنده وقد حضر الشاهدان. وعلى هذا الخلاف الفضولي الواحد من الجانبين بأن قال الرجل: زوجت فلانة من فلان. وهما غائبان, لم ينعقد عندهما حتى لو بلغهما الخبر فأجازا, لم يجز. وعنده ينعقد ويجوز بالإجازة. ولو قال فضولي: زوجت فلانة من فلان وهما غائبان فقبل فضولي آخر عن الزوج؛ ينعقد بلا خلاف بين أصحابنا حتى إذا بلغهما الخبر وأجازا جاز, ولو فسخ الفضولي العقد قبل إجازة من وقف العقد على إجازته صح الفسخ في قول أبي يوسف. وعند محمد لا يصح. "وجه" قوله أنه بالفسخ متصرف في حق غيره فلا يصح, ودلالة ذلك أن العقد قد انعقد في حق المتعاقدين وتعلق به حق من توقف على إجازته؛ لأن الحكم عند الإجازة ثبت بالعقد السابق, فكان هو بالفسخ متصرفا في محل تعلق به حق الغير, فلا يصح فسخه بخلاف الفضولي إذا باع ثم فسخ قبل اتصال الإجازة به أنه يجوز؛ لأن الفسخ هناك تصرف دفع الحقوق عن نفسه؛ لأنه عند الإجازة تتعلق حقوق العقد بالوكيل, فكان هو بالفسخ دافعا الحقوق عن نفسه فيصح, كالمالك إذا أوجب النكاح أو البيع أنه يملك الرجوع قبل قبول الآخر لما قلنا كذا هذا. "وجه" قول أبي يوسف أن العقد قبل الإجازة غير منعقد في حق الحكم وإنما انعقد في حق المتعاقدين فقط, فكان الفسخ منه قبل الإجازة تصرفا في كلام نفسه بالنقض فجاز كما في البيع.

"فصل": وأما بيان شرائط الجواز والنفاذ فأنواع منها :. أن يكون العاقد بالغا فإن نكاح الصبي العاقل وإن كان منعقدا على أصل أصحابنا فهو غير نافذ, بل نفاذه يتوقف على إجازة وليه؛ لأن نفاذ التصرف لاشتماله على وجه المصلحة والصبي لقلة تأمله لاشتغاله باللهو واللعب لا يقف على ذلك فلا ينفذ تصرفه, بل يتوقف على إجازة وليه, فلا يتوقف على بلوغه حتى لو بلغ قبل أن يجيزه الولي لا ينفذ بالبلوغ؛ لأن العقد انعقد موقوفا على إجازة الولي ورضاه, لسقوط اعتبار رضا الصبي شرعا, وبالبلوغ زالت ولاية الولي فلا ينفذ ما لم يجزه بنفسه, وعند الشافعي: لا تنعقد تصرفات الصبي أصلا بل هي باطلة وقد ذكرنا المسألة في كتاب المأذون ومنها: أن يكون حرا فلا يجوز نكاح مملوك بالغ عاقل إلا بإذن سيده, والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم "أيما عبد تزوج بغير إذن مولاه فهو عاهر". والكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان أن إذن المولى شرط جواز نكاح المملوك, لا يجوز من غير إذنه, أو إجازته, وفي بيان ما يكون إجازة له, وفي بيان ما يملكه من النكاح بعد الإذن, وفي بيان حكم المهر في نكاح المملوك.

 

ج / 2 ص -234-       أما الأول: فلا يجوز نكاح مملوك بغير إذن مولاه وإن كان عاقلا, بالغا, سواء كان قنا أو مدبرا, أو مدبرة أو أم ولد, أو مكاتبة, أو مكاتبا أما القن, فإن كان أمة فلا يجوز نكاحها بغير إذن سيدها بلا خلاف؛ لأن منافع البضع مملوكة لسيدها, ولا يجوز التصرف في ملك الغير بغير إذنه, وكذلك المدبرة وأم الولد لما قلنا. وكذا المكاتبة لأنها ملك المولى رقبة, وملك المتعة يتبع ملك الرقبة, إلا أنه منع من الاستمتاع بها لزوال ملك اليد, وفي الاستمتاع إثبات ملك اليد, ولأن من الجائز أنها تعجز فترد إلى الرق فتعود قنة كما كانت فتبين أن نكاحها صادف المولى فلا يصح, وإن كان عبدا فلا يجوز نكاحه أيضا عند عامة العلماء. وقال مالك: يجوز. "وجه" قوله أن منافع بضع العبد لا تدخل تحت ملك المولى فكان المولى فيها على أصل الحرية, والمولى أجنبي عنها, فيملك النكاح كالحر بخلاف الأمة؛ لأن منافع بضعها ملك المولى فمنعت من التصرف بغير إذنه, ولنا أن العبد بجميع أجزائه ملك المولى لقوله تعالى {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ} أخبر سبحانه وتعالى أن العبيد ليسوا شركاء فيما رزق السادات, ولا هم بسواء في ذلك, ومعلوم أنه ما أراد به نفي الشركة في المنافع؛ لاشتراكهم فيها دل أنه أراد به حقيقة الملك, ولقوله تعالى {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} والعبد اسم لجميع أجزائه, ولأن سبب الملك أضيف إلى كله فيثبت الملك في كله إلا أنه منع من الانتفاع ببعض أجزائه بنفسه, وهذا لا يمنع ثبوت الملك له كالأمة المجوسية وغير ذلك, وكذلك المأذون في التجارة؛ لأنه عبد مملوك, ولأنه كان محجورا قبل الإذن بالتجارة والنكاح ليس من التجارة لأن التجارة معاوضة المال بالمال, والنكاح معاوضة البضع بالمال, والدليل عليه أن المرأة إذا زوجت نفسها على عبد تنوي أن يكون العبد للتجارة لم يكن للتجارة. ولو كان النكاح من التجارة لكان بدل البضع للتجارة كالبيع, فكان هو بالنكاح متصرفا في ملك مولاه, فلا يجوز كما لا يجوز نكاح الأمة, والدليل عليه قوله تعالى: {لا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ} وصف العبد المملوك بأنه لا يقدر على شيء, ومعلوم أنه إنما أراد به القدرة الحقيقية؛ لأنها ثابتة له فتعين القدرة الشرعية وهي إذن الشرع وإطلاقه, فكان نفي القدرة الشرعية نفيا للإذن والإطلاق, ولا يجوز إثبات التصرف الشرعي بغير إذن الشرع, وكذلك المدبر؛ لأنه عبد مملوك, وكذلك المكاتب؛ لأن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأنه كان محجورا عن التزوج قبل الكتابة. وعند الكتابة ما أفاد له إلا الإذن بالتجارة, والنكاح ليس من التجارة؛ لأن التجارة معاوضة المال بالمال والنكاح معاوضة البضع بالمال والدليل عليه أن المرأة إذا زوجت نفسها على عبد تنوي أن العبد يكون للتجارة لم يكن للتجارة. ولو كان النكاح من التجارة لكان بدل البضع للتجارة كالبيع. وأما معتق البعض فلا يجوز نكاحه عند أبي حنيفة؛ لأنه بمنزلة المكاتب عنده. وعند أبي يوسف ومحمد يجوز لأنه بمنزلة حر عليه دين عندهما. ولو تزوج بغير إذن المولى واحد ممن ذكرنا أنه لا يجوز تزويجه إلا بإذن المولى ثم إن أجاز المولى النكاح جاز؛ لأن العقد صدر من الأهل في المحل, إلا أنه امتنع النفاذ لحق المولى فإذا أجاز فقد زال المانع, ولا يجوز للعبد أن يتسرى وإن أذن له مولاه؛ لأن حل الوطء لا يثبت إلا بأحد الملكين قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ولم يوجد أحدهما. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يتسرى العبد ولا يسريه مولاه ولا يملك العبد ولا المكاتب شيئا إلا الطلاق" وهذا نص. وأما بيان ما يكون إجازة: فالإجازة قد ثبتت بالنص وقد ثبتت بالدلالة وقد ثبتت بالضرورة, أما النص: فهو الصريح بالإجازة وما يجري مجراها نحو أن يقول: أجزت, أو رضيت, أو أذنت, ونحو ذلك. وأما الدلالة: فهي قول أو فعل يدل على الإجازة مثل أن يقول المولى إذا أخبر بالنكاح: حسن, أو صواب, أو لا بأس به, ونحو ذلك, أو يسوق إلى المرأة المهر أو شيئا منه في نكاح العبد, ونحو ذلك مما يدل على الرضا. ولو قال له المولى: طلقها أو فارقها لم يكن إجازة؛ لأن قوله طلقها أو فارقها يحتمل حقيقة الطلاق والمفارقة ويحتمل المتاركة؛ لأن النكاح الفاسد والنكاح الموقوف يسمى طلاقا ومفارقة

 

ج / 2 ص -235-       فوقع الشك والاحتمال في ثبوت الإجازة, فلا يثبت بالشك والاحتمال. ولو قال له: طلقها تطليقة تملك الرجعة؛ فهو إجازة لارتفاع الترداد إذ لا رجعة في المتاركة للنكاح الموقوف وفسخه وأما الضرورة فنحو: أن يعتق المولى العبد أو الأمة فيكون الإعتاق إجازة. ولو أذن بالنكاح لم يكن الإذن بالنكاح إجازة. ووجه الفرق بينهما من وجهين أحدهما: أنه لو لم يجعل الإعتاق إجازة لكان لا يخلو إما أن يبطل بالنكاح الموقوف وإما أن يبقى موقوفا على الإجازة, ولا سبيل إلى الأول؛ لأن النكاح صدر من الأهل في المحل فلا يبطل إلا بإبطال من له ولاية الإبطال؛ ولا سبيل إلى الثاني؛ لأنه لو بقي موقوفا على الإجازة. فأما إن بقي موقوفا على إجازة المولى أو على إجازة العبد لا وجه للأول؛ لأن ولاية الإجازة لا تثبت إلا بالملك وقد زال بالإعتاق, ولا وجه للثاني لأن العقد وجد من العبد فكيف يقف عقد الإنسان على إجازته. وإذا بطلت هذه الأقسام وليس ههنا قسم آخر لزم أن يجعل الإعتاق إجازة ضرورة وهذه الضرورة لم توجد في الإذن بالنكاح, وللثاني أن امتناع النفاذ مع صدور التصرف من الأهل في المحل لقيام حق المولى وهو الملك نظرا له, دفعا للضرر عنه, وقد زال ملكه بالإعتاق فزال المانع من النفوذ, والإذن بالتزوج لا يوجب زوال المانع وهو الملك لكنه بالإذن أقامه مقام نفسه في النكاح كأنه هو, ثم ثبوت ولاية الإجازة له لم تكن إجازة ما لم يجز, فكذا العبد, ثم إذا لم يكن نفس الإذن من المولى بالنكاح إجازة لذلك العقد؛ فإن أجازه العبد جاز استحسانا, والقياس أن لا يجوز. وإن أجازه وجه القياس أنه مأذون بالعقد, والإجازة مع العقد متغايران اسما وصورة وشرطا أما الاسم والصورة: فلا شك في تغايرهما. وأما الشرط فإن محل العقد عليه, ومحل الإجازة نفس العقد. وكذا الشهادة شرط العقد لا شرط الإجازة, والإذن بأحد المتغايرين لا يكون إذنا بالآخر. وجه الاستحسان أن العبد أتى ببعض ما هو مأذون فيه, فكان متصرفا عن إذن, فيجوز تصرفه, ودلالة ذلك أن المولى أذن له بعقد نافذ فكان مأذونا بتحصيل أصل العقد ووصفه وهو النفاذ وقد حصل النفاذ فيحصل, ولهذا لو زوج فضولي هذا العبد امرأة بغير إذن المولى فأجاز العبد نفذ العقد دل أن تنفيذ العقد بالإجازة مأذون فيه من قبل المولى فينفذ بإجازته, ثم إذا نفذ النكاح بالإعتاق وهي أمة فلا خيار لها؛ لأن النكاح نفذ بعد العتق فالإعتاق لم يصادفها وهي منكوحة, والمهر لها إن لم يكن الزوج دخل بها قبل الإعتاق, وإن كان قد دخل بها قبل الإعتاق فالمهر للمولى, هذا إذا أعتقها وهي كبيرة فأما إذا كانت صغيرة فأعتقها فإن الإعتاق لا يكون إجازة. ويبطل العقد عند زفر. وعندنا يبقى موقوفا على إجازة المولى إذا لم يكن لها عصبة, فإن كان لها عصبة يتوقف على إجازة العصبة, ويجوز بإجازة العصبة ثم إن كان المجيز غير الأب أو الجد فلها خيار الإدراك؛ لأن العقد نفذ عليها في حالة الصغر, وهي حرة, وإن كان المجيز أبوها أو جدها فلا خيار لها. ولو مات المولى قبل الإجازة فإن ورثها من يحل له وطؤها بطل النكاح الموقوف؛ لأن الحل النافذ قد طرأ على الموقوف لوجود سبب الحل وهو الملك قال الله تعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} ومن ضرورة ثبوت الحل له ارتفاع الموقوف, وإن ورثها من لا يحل له وطؤها بأن كان الوارث ابن الميت وقد وطئها أبوه, أو كانت الأمة أخته من الرضاع, أو ورثها جماعة, فللوارث الإجازة لأنه لم يوجد طريان الحل فبقي الموقوف على حاله, وكذلك إذا باعها المولى قبل الإجازة فهو على التفصيل الذي ذكرنا في الوارث وعلى هذا قالوا فيمن تزوج جارية غيره بغير إذنه ووطئها ثم باعها المولى من رجل أن للمشتري الإجازة؛ لأن وطء الزوج يمنع حل الوطء للمشتري. وأما العبد إذا تزوج بغير إذن المولى فمات الولي أو باعه قبل الإجازة فللوارث والمشتري الإجازة؛ لأنه لا يتصور حل الوطء ههنا فلم يوجد طريان حل الوطء, فبقي الموقوف بحاله. وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: لا يجوز بإجازة الوارث والمشتري بل يبطل. والأصل فيه أن العقد الموقوف على إجازة إنسان يحتمل الإجازة من قبل غيره عندنا وعنده لا يحتمل. وجه قوله أن الإجازة إنما تلحق الموقوف؛ لأنها تنفيذ الموقوف فإنما تلحقه على الوجه الذي وقف وإنما وقف على الأول لا على الثاني, فلا يملك الثاني تنفيذه

 

ج / 2 ص -236-       "ولنا" أنه إنما وقف على إجازة الأول؛ لأن الملك له وقد صار الملك للثاني فتنتقل الإجازة إلى الثاني؛ وهذا لأن المالك يملك إنشاء النكاح بأصله ووصفه وهو النفاذ فلأن يملك تنفيذ النكاح الموقوف وأنه إثبات الوصف دون الأصل أولى ولو زوجت المكاتبة نفسها بغير إذن المولى حتى وقف على إجازته فأعتقها نفذ العقد. والأخبار فيه كما ذكرنا في الأمة القنة. وكذلك إذا أدت فعتقت, وإن عجزت فإن كان بضعها يحل للمولى يبطل العقد, وإن كان لا يحل بأن كانت أخته من الرضاع أو كانت مجوسية توقف على إجازته. ولو كان المولى هو الذي عقد عليها بغير رضاها حتى وقف على إجازتها فأجازت جاز العقد, وإن أدت فعتقت أو أعتقها المولى توقف العقد على إجازتها إن كانت كبيرة, وإن كانت صغيرة فهو على ما ذكرنا من الاختلاف في الأمة, وتتوقف على إجازة المولى عندنا إذا لم يكن لها عصبة غير المولى, فإن كان فأجازوا جاز وإذا أدركت فلها خيار الإدراك إذا كان المجبر غير الأب والجد على ما ذكرنا. وإن لم يعتقها حتى عجزت بطل العقد. وإن كان بضعها يحل للمولى وإن كان لا يحل له فلا يجوز إلا بإجازته وأما بيان ما يملكه من النكاح بعد الإذن فنقول: إذا أذن المولى للعبد بالتزويج فلا يخلو إما إن خص الإذن بالتزوج أو عمه فإن خص بأن قال له: تزوج لم يجز له أن يتزوج إلا امرأة واحدة؛ لأن الأمر المطلق بالفعل لا يقتضي التكرار, وكذا إذا قال له تزوج امرأة؛ لأن قوله امرأة اسم لواحدة من هذا الجنس وإن عم؛ بأن قال: تزوج ما شئت من النساء جاز له أن يتزوج ثنتين ولا يجوز له أن يتزوج أكثر من ذلك؛ لأنه أذن له بنكاح ما شاء من النساء بلفظ الجمع فينصرف إلى جميع ما يملكه العبيد من النساء وهو التزوج باثنتين قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يتزوج العبد أكثر من اثنتين" وعليه إجماع الصحابة رضي الله عنهم وروي عن الحكم أنه قال: اجتمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن العبد لا يجمع من النساء فوق اثنتين؛ ولأن مالكية النكاح تشعر بكمال الحال؛ لأنها من باب الولاية والعبد أنقص حالا من الحر فيظهر أثر النقصان في عدد المملوك له في النكاح كما ظهر أثره في القسم, والطلاق, والعدة, والحدود, وغير ذلك.
وهل يدخل تحت الإذن بالتزوج النكاح الفاسد؟ قال أبو حنيفة: يدخل حتى لو تزوج العبد امرأة نكاحا فاسدا ودخل بها لزمه المهر في الحال. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يدخل, ويتبع بالمهر بعد العتق. "وجه" قولهما أن غرض المولى من الإذن بالنكاح وهو حل الاستمتاع ليحصل به عفة العبد عن الزنا, وهذا لا يحصل بالنكاح الفاسد؛ لأنه لا يفيد الحل, فلا يكون مرادا من الإذن بالتزوج, ولهذا لو حلف لا يتزوج ينصرف إلى النكاح الصحيح, حتى لو نكح نكاحا فاسدا لا يحنث كذا هذا ولأبي حنيفة أن الإذن بالتزوج مطلق فينصرف إلى الصحيح والفاسد, كالإذن بالبيع مطلقا, وفي مسألة اليمين إنما لم ينصرف لفظ النكاح إلى الفاسد لقرينة عرفية, إلا أن الأيمان محمولة على العرف والعادة والمتعارف والمعتاد مما يقصد باليمين الامتناع عن الصحيح لا الفاسد؛ لأن فساد المحلوف عليه يكفي مانعا من الإقدام عليه, فلا حاجة إلى الامتناع باليمين, والدليل على صحة هذا التخريج أن يمين الحالف لو كانت على الفعل الماضي ينصرف إلى الصحيح والفاسد جميعا, ويتفرع على هذا أنه إذا تزوج امرأة نكاحا فاسدا ثم أراد أن يتزوج أخرى نكاحا صحيحا ليس له ذلك عند أبي حنيفة؛ لأن الإذن انتهى بالنكاح. وعندهما له ذلك؛ لأن الإذن قد بقي, ولو أذن له بنكاح فاسد نصا ودخل بها يلزمه المهر في الحال, في قولهم جميعا أما على أصل أبي حنيفة: فظاهر. وأما على أصلهما فلأن الصرف إلى الصحيح لضرب دلالة أوجبت إليه, فإذا جاء النص بخلافه بطلت الدلالة والله عز وجل الموفق
وأما بيان حكم المهر في نكاح المملوك فنقول: إذا كانت الإجازة قبل الدخول بالأمة لم يكن على الزوج إلا مهر واحد؛ وإن كان بعد الدخول بها فالقياس أن يلزمه مهران, مهر بالدخول قبل الإجازة, ومهر بالإجازة. "وجه" القياس أنه وجد سبب وجوب مهرين, أحدهما: الدخول؛ لأن الدخول في النكاح الموقوف دخول في نكاح فاسد, وهو بمنزلة الدخول في نكاح فاسد, وذا يوجب المهر, كذا هذا. والثاني: النكاح الصحيح؛ لأن النكاح قد صح بالإجازة, وللاستحسان وجهان

 

ج / 2 ص -237-       أحدهما أن النكاح كان موقوفا على إذن المالك كنكاح الفضولي, والعقد الموقوف إذا اتصلت به الإجازة تستند الإجازة إلى وقت العقد, وإذا استندت الإجازة إليه صار كأنه عقده بإذنه, إذ الإجازة اللاحقة كالإذن السابق فلا يجب إلا مهر واحد. والثاني: أن مهر المثل لو وجب لكان لوجوده تعلقا بالعقد؛ لأنه لولاه لكان الفعل زنا, ولكان الواجب هو الحد لا المهر, وقد وجب المسمى بالعقد فلو وجب به مهر المثل أيضا لوجب بعقد واحد مهران وأنه ممتنع ثم كل ما وجب من مهر الأمة فهو للمولى, سواء وجب بالعقد أو بالدخول, وسواء كان المهر مسمى أو مهر المثل, وسواء كانت الأمة قنة أو مدبرة أو أم ولد, إلا المكاتبة والمعتق بعضها, فإن المهر لهما؛ لأن المهر وجب عوضا عن المتعة وهي منافع البضع, ثم إن كانت منافع البضع ملحقة بالأجزاء والأعيان فعوضها يكون للمولى كالأرش, وإن كانت مبقاة على حقيقة المنفعة فبدلها يكون للمولى أيضا كالأجرة, بخلاف المكاتبة؛ لأن هناك الأرش والأجرة لها, فكان المهر لها أيضا, وكل مهر لزم العبد, فإن كان قنا والنكاح بإذن المولى يتعلق بكسبه, ورقبته تباع فيه إن لم يكن له كسب عندنا؛ لأنه دين ثابت في حق العبد ظاهر في حق المولى. ومثل هذا الدين يتعلق برقبة العبد على أصل أصحابنا, والمسألة ستأتي في كتاب المأذون وإن كان مدبرا أو مكاتبا فإنهما يسعيان في المهر فيستوفى من كسبهما لتعذر الاستيفاء من رقبتهما بخروجهما عن احتمال البيع بالتدبير والكتابة. وما لزم العبيد من ذلك بغير إذن المولى اتبعوا به بعد العتق؛ لأنه دين تعلق بسبب لم يظهر في حق المولى, فأشبه الدين الثابت بإقرار العبد المحجور أنه لا يلزمه للحال ويتبع به بعد العتاق لما قلنا كذا هذا والله أعلم ومنها الولاية في النكاح فلا ينعقد إنكاح من لا ولاية له, والكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان أنواع الولاية, وفي بيانه سبب ثبوت كل نوع, وفي بيان شرط ثبوت كل نوع وما يتصل به أما الأول: فالولاية في باب النكاح أنواع أربعة: ولاية الملك, وولاية القرابة, وولاية الولاء, وولاية الإمامة, أما. ولاية الملك: فسبب ثبوتها الملك؛ لأن ولاية الإنكاح ولاية نظر, والملك داع إلى الشفقة والنظر في حق المملوك؛ فكان سببا لثبوت الولاية, ولا ولاية للمملوك لعدم الملك له؛ إذ هو مملوك في نفسه فلا يكون مالكا. وأما شرائط ثبوت هذه الولاية فمنها: عقل المالك, ومنها بلوغه, فلا يجوز الإنكاح من المجنون والصبي الذي لا يعقل ولا من الصبي العاقل؛ لأن هؤلاء ليسوا من أهل الولاية؛ لأن أهلية الولاية بالقدرة على تحصيل النظر في حق المولى عليه, وذلك بكمال الرأي والعقل ولم يوجد ألا ترى أنه لا ولاية لهم على أنفسهم فكيف يكون على غيرهم ؟؛ ومنها الملك المطلق, وهو أن يكون المولى عليه مملوكا للمالك رقبة ويدا, وعلى هذا يخرج إنكاح الرجل أمته, أو مدبرته, أو أم ولده, أو عبده, أو مدبره أنه جائز سواء رضي به المملوك أو لا, ولا يجوز إنكاح المكاتب والمكاتبة إلا برضاهما أما إنكاح الأمة والمدبرة وأم الولد فلا خلاف في جوازه, صغيرة كانت أو كبيرة. وأما إنكاح العبد فإن كان صغيرا يجوز, وإن كان كبيرا فقد ذكر في ظاهر الرواية أنه يجوز من غير رضاه وروي عن أبي حنيفة أنه لا يجوز إلا برضاه. وبه أخذ الشافعي. "وجه" هذه الرواية أن منافع بضع العبد لم تدخل تحت ملك المولى بل هو أجنبي عنها, والإنسان لا يملك التصرف في ملك غيره من غير رضاه, ولهذا لا يملك إنكاح المكاتب والمكاتبة, بخلاف الأمة؛ لأن منافع بضعها مملوكة للمولى ولأن نكاح المكره لا ينفذ ما وضع له من المقاصد المطلوبة منه؛ لأن حصولها بالدوام على النكاح, والقرار عليه. ونكاح المكره لا يدوم بل يزيله العبد بالطلاق فلا يفيد فائدة. "وجه" ظاهر الرواية قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} أمر الله سبحانه وتعالى الموالي بإنكاح العبيد والإماء مطلقا عن شرط الرضا, فمن شرطه يحتاج إلى الدليل؛ ولأن إنكاح المملوك من المولى تصرف لنفسه؛ لأن مقاصد النكاح ترجع إليه؛ فإن الولد في إنكاح الأمة له وكذا في إنكاح أمته من عبده, ومنفعة العقد عن الزنا الذي يوجب نقصان مالية مملوكه حصل له أيضا, فكان هذا الإنكاح تصرفا لنفسه. ومن تصرف في ملك نفسه لنفسه ينفذ

 

ج / 2 ص -238-       ولا يشترط فيه رضا المتصرف فيه, كما في البيع والإجارة وسائر التصرفات؛ ولأن العبد ملكه بجميع أجزائه مطلقا لما ذكرنا من الدلائل فيما تقدم ولكل مالك ولاية التصرف في ملكه إذا كان التصرف مصلحة, وإنكاح العبد مصلحة في حقه؛ لما فيه من صيانة ملكه عن النقصان بواسطة الصيانة عن الزنا. وقوله: "منافع البضع غير مملوكة لسيده" ممنوع بل هي مملوكة إلا أن مولاها إذا كانت أمة منعت من استيفائها, لما فيه من الفساد وهذا لا يمنع ثبوت الملك كالجارية المجوسية والأخت من الرضاعة أنه يمنع المولى من الاستمتاع بهما مع قيام الملك كذا هذا. والملك المطلق لم يوجد في المكاتب؛ لزوال ملك اليد بالكتابة حتى كان أحق بالكتابة, ولهذا لم يدخل تحت مطلق اسم المملوك في قوله: "كل مملوك لي فهو حر" إلا بالنية فقيام ملك الرقبة إن اقتضى ثبوت الولاية فانعدام ملك اليد يمنع من الثبوت, فلا تثبت الولاية بالشك؛ ولأن في التزويج من غير رضا المكاتب ضررا؛ لأن المولى بعقد الكتابة جعله أحق بمكاسبه ليتوصل بها إلى شرف الحرية فالتزويج من غير رضاه يوجب تعلق المهر والنفقة بكسبه, فلا يصل إلى الحرية فيتضرر به, بشرط رضاه دفعا للضرر عنه. وقوله: "لا فائدة في هذا النكاح" ممنوع؛ فإن في طبع كل فحل التوقان إلى النساء, فالظاهر هو قضاء الشهوة خصوصا عند عدم المانع وهو الحرمة وكذا الظاهر من حال العبد الامتناع من بعض تصرف المولى احتراما له فيبقى النكاح فيفيد فائدة تامة والله الموفق وأما ولاية القرابة: فسبب ثبوتها هو أصل القرابة وذاتها لا كمال القربة, وإنما الكمال شرط التقدم على ما نذكر, وهذا عند أصحابنا. وعند الشافعي السبب هو القرابة القريبة, وهي قرابة الولاد. وعلى هذا يبنى أن لغير الأب والجد كالأخ والعم ولاية الإنكاح عندنا خلافا له, واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر" وحقيقة اسم اليتيمة للصغيرة لغة قال النبي: صلى الله عليه وسلم "لا يتم بعد الحلم" نهى صلى الله عليه وسلم عن إنكاح اليتيمة, ومده إلى غاية الاستئمار ولا تصير أهلا للاستئمار إلا بعد البلوغ, فيتضمن البلوغ كأنه قال: صلى الله عليه وسلم حتى تبلغ وتستأمر؛ ولأن النكاح عقد إضرار في جانب النساء لما نذكر إن شاء الله تعالى في مثله إنكاح البنت البالغة ومثل هذا التصرف لا يدخل تحت ولاية المولى كالطلاق, والعتاق, والهبة, وغيرهما؛ إلا أنه تثبت الولاية للأب والجد بالنص والإجماع؛ لكمال شفقتهما, وشفقة غير الأب والجد قاصرة, وقد ظهر أثر القصور في سلب ولاية التصرف في الحال بالإجماع وسلب ولاية اللزوم عندكم, فتعذر الإلحاق, ولنا قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} هذا خطاب لعامة المؤمنين لأنه بني على قوله تعالى {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ثم خص منه الأجانب فبقيت الأقارب تحته إلا من خص بدليل؛ ولأن سبب ولاية التنفيذ في الأب والجد هو مطلق القرابة لا القرابة القريبة, وإنما قرب القرابة سبب زيادة الولاية وهي ولاية الإلزام؛ لأن مطلق القرابة حاصل على أصل الشفقة أعني به شفقة زائدة على شفقة الجنس وشفقة الإسلام, وهي داعية إلى تحصيل النظر في حق المولى عليه, وشرطها: عجز المولى عليه عن تحصيل النظر بنفسه مع حاجته إلى التحصيل؛ لأن مصالح النكاح مضمنة تحت الكفاءة, والكفء عزيز الوجود فيحتاج إلى إحرازه للحال لاستيفاء مصالح النكاح بعد البلوغ, وفائدتها وقوعها وسيلة إلى ما وضع النكاح له, وكل ذلك موجود في إنكاح الأخ والعم فينفذ, إلا أنه لم يلزم تصرفه لانعدام شرط اللزوم وهو قرب القرابة ولم تثبت له ولاية التصرف في المال لعدم الفائدة؛ لأنه لا سبيل إلى القول باللزوم؛ لأن قرابة غير الأب والجد ليست بملزمة ولا سبيل إلى التولي بالنفاذ بدون اللزوم؛ لأنه لا يفيد إذ المقصود من التصرف في المال وهو الربح لا يحصل إلا بتكرار التجارة ولا يحصل ذلك مع عدم اللزوم لأنه إذا اشترى شيئا يحتاج إلى أن يمسكه إلى وقت البلوغ فلا يحصل المقصود فسقطت ولاية التصرف في المال بطريق الضرورة وهذه الضرورة منعدمة في ولاية الإنكاح فثبتت ولاية الإنكاح. وأما الحديث فالمراد منه اليتيمة البالغة بدلالة الاستئمار وهذا وإن كان مجازا لكن فيما ذكره

 

ج / 2 ص -239-       أيضا إضمار فوقعت المعارضة فسقط الاحتجاج به أو نحمله على ما قلنا توفيقا بين الدليلين صيانة لهما عن التناقض ثم إذا زوج الصغير أو الصغيرة فلهما الخيار إذا بلغا عند أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف لا خيار لهما ونذكر المسألة إن شاء الله تعالى في شرائط اللزوم وأما شرائط ثبوت هذه الولاية فنوعان في الأصل: نوع هو شرط ثبوت أصل الولاية, ونوع هو شرط التقدم أما. شرط ثبوت أصل الولاية فأنواع: بعضها يرجع إلى الولي وبعضها يرجع إلى المولى عليه وبعضها يرجع إلى نفس التصرف. أما الذي يرجع إلى الولي فأنواع. منها: عقل الولي. ومنها بلوغه فلا تثبت الولاية للمجنون والصبي؛ لأنهما ليسا من أهل الولاية لما ذكرنا في ولاية الملك ولهذا لم تثبت لهما الولاية على أنفسهما مع أنهما أقرب إليهما فلأن تثبت على غيرهما أولى, ومنها أن يكون ممن يرث الخروج؛ لأن سبب ثبوت الولاية والوراثة واحد وهو القرابة وكل من يرثه يلي عليه ومن لا يرثه لا يلي عليه وهذا يطرد على أصل أبي حنيفة خاصة وينعكس عند الكل فيخرج عليه مسائل فنقول: لا ولاية للمملوك على أحد؛ لأنه لا يرث أحدا ولأن المملوك ليس من أهل الولاية ألا ترى أنه لا ولاية له على نفسه ولأن الولاية تنبئ عن المالكية والشخص الواحد كيف يكون مالكا ومملوكا في زمان واحد لأن هذه ولاية نظر ومصلحة ومصالح النكاح لا يتوقف عليها إلا بالتأمل والتدبر والمملوك لاشتغاله بخدمة مولاه لا يتفرغ للتأمل والتدبر فلا يعرف كون إنكاحه مصلحة والله عز وجل الموفق ولا ولاية للمرتد على أحد لا على مسلم ولا على كافر ولا على مرتد مثله؛ لأنه لا يرث أحدا ولأنه لا ولاية له على نفسه حتى لا يجوز نكاحه أحدا لا مسلما ولا كافرا ولا مرتدا مثله فلا يكون له ولاية على غيره. ولا ولاية للكافر على المسلم؛ لأنه لا ميراث بينهما, قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يتوارث أهل ملتين شيئا" ولأن الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم لأن الشرع قطع ولاية الكافر على المسلمين قال الله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وقال صلى الله عليه وسلم "الإسلام يعلو ولا يعلى" ولأن إثبات الولاية للكافر على المسلم تشعر بإذلال المسلم من جهة الكافر وهذا لا يجوز ولهذا صينت المسلمة عن نكاح الكافر, وكذلك إن كان الولي مسلما والمولى عليه كافرا فلا ولاية له عليه لأن المسلم لا يرث الكافر كما أن الكافر لا يرث المسلم قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا يرث المؤمن الكافر ولا الكافر المؤمن" إلا أن ولد المرتد إذا كان مؤمنا صار مخصوصا عن النص. وأما إسلام الولي فليس بشرط لثبوت الولاية في الجملة فيلي الكافر على الكافر؛ لأن الكفر لا يقدح في الشفقة الباعثة عن تحصيل النظر في حق المولى عليه ولا في الوراثة فإن الكافر يرث الكافر ولهذا كان من أهل الولاية على نفسه فكذا على غيره. وقال عز وجل {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} وكذا العدالة ليست بشرط لثبوت الولاية عند أصحابنا, وللفاسق أن يزوج ابنه وابنته الصغيرين. وعند الشافعي شرط وليس للفاسق ولاية التزويج واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي مرشد" والمرشد بمعنى الرشيد كالمصلح بمعنى الصالح والفاسق ليس برشيد, ولأن الولاية من باب الكرامة والفسق سبب الإهانة ولهذا لم أقبل شهادته ولنا عموم قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وقوله صلى الله عليه وسلم "زوجوا بناتكم الأكفاء" من غير فصل ولنا إجماع الأمة أيضا فإن الناس عن آخرهم عامهم وخاصهم من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا يزوجون بناتهم من غير نكير من أحد خصوصا: الأعراب والأكراد والأتراك, ولأن هذه ولاية نظر والفسق لا يقدح في القدرة على تحصيل النظر ولا في الداعي إليه وهو الشفقة وكذا لا يقدح في الوراثة فلا يقدح في الولاية كالعدل, ولأن الفاسق من أهل الولاية على نفسه فيكون من أهل الولاية على غيره كالعدل, ولهذا قبلنا شهادته ولأنه من أهل أحد نوعي الولاية وهو ولاية الملك حتى يزوج أمته فيكون من أهل النوع الآخر. وأما الحديث فقد قيل أنه لم يثبت بدون هذه الزيادة فكيف يثبت مع الزيادة ولو ثبت فنقول بموجبه: والفاسق مرشد لأنه يرشد غيره لوجود آلة الإرشاد وهو العقل فكان هذا نفي

 

ج / 2 ص -240-       الولاية للمجنون, وبه نقول: إن المجنون لا يصلح وليا والمحدود في القذف إذا تاب فله ولاية الإنكاح بلا خلاف؛ لأنه إذا تاب فقد صار عدلا وإن لم يثبت فهو على الاختلاف؛ لأنه فاسق والله الموفق. وأما كون المولى من العصبات فهل هو شرط ثبوت الولاية أم لا؟ فنقول: وبالله التوفيق جملة الكلام فيه أنه لا خلاف في أن للأب والجد ولاية الإنكاح إلا شيء يحكى عن عثمان البتي وابن شبرمة أنهما قالا: ليس لهما ولاية التزويج. "وجه" قولهما أن حكم النكاح إذا ثبت لا يقتصر على حال الصغر بل يدوم ويبقى إلى ما بعد البلوغ إلى أن يوجد ما يبطله, وفي هذا ثبوت الولاية على البالغة ولأنه استبد أو كأنه أنشأ الإنكاح بعد البلوغ وهذا لا يجوز, ولنا قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} والأيم اسم لأنثى من بنات آدم عليه الصلاة والسلام كبيرة كانت أو صغيرة لا زوج لها وكلمة "من" إن كانت للتبعيض يكون هذا خطابا للآباء, وإن كانت للتجنيس يكون خطابا لجنس المؤمنين, وعموم الخطاب يتناول الأب والجد, وأنكح الصديق رضي الله عنه عائشة رضي الله عنها وهي بنت ست سنين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج علي ابنته أم كلثوم وهي صغيرة من عمر بن الخطاب, رضي الله عنه وزوج عبد الله بن عمر ابنته وهي صغيرة عروة بن الزبير, رضي الله عنهم وبه تبين أن قولهما خرج مخالفا لإجماع الصحابة وكان مردودا. وأما قولهما: "إن حكم النكاح بقي بعد البلوغ" فنعم. ولكن بالإنكاح السابق لا بإنكاح مبتدأ بعد البلوغ, وهذا جائز كما في البيع فإن لهما ولاية بيع مال الصغير وإن كان حكم البيع وهو الملك يبقى بعد البلوغ لما قلنا كذا هذا, وللأب قبض صداق ابنته البكر صغيرة كانت أو بالغة ويبرأ الزوج بقبضه أما الصغيرة: فلا شك فيه؛ لأن له ولاية التصرف في مالها. وأما البالغة: فلأنها تستحي من المطالبة به بنفسها كما تستحي عن التكلم بالنكاح فجعل سكوتها رضا بقبض الأب كما جعل رضا بالنكاح؛ ولأن الظاهر أنها ترضى بقبض الأب لأنه يقبض مهرها فيضم إليه أمثاله فيجهزها به هذا هو الظاهر فكان مأذونا بالقبض من جهتها دلالة, حتى لو نهته عن القبض لا يتملك القبض ولا يبرأ الزوج. وكذا الجد يقوم مقامه عند عدمه وإن كانت ابنته عاقلة وهي ثيب فالقبض إليها لا إلى الأب ويبرأ الزوج بدفعه إليها ولا يبرأ بالدفع إلى الأب, وما سوى الأب والجد من الأولياء ليس لهم ولاية القبض سواء كانت صغيرة أو كبيرة إلا إذا كان الولي وهو الوصي فله حق القبض إذا كانت صغيرة كما يقبض سائر ديونها, وليس للوصي حق القبض إلا إذا كانت صغيرة, وإذا ضمن الولي المهر صح ضمانه لأن حقوق العقد لا تتعلق به فصار كالأجنبي بخلاف الوكيل بالبيع إذا ضمن عن المشتري الثمن. وللمرأة الخيار في مطالبة زوجها أو وليها لوجود ثبوت سبب حق المطالبة من كل واحد منهما وهو العقد من الزوج والضمان من الولي, ولا خلاف بين أصحابنا في أن لغير الأب والجد من العصبات ولاية الإنكاح, والأقرب فالأقرب على ترتيب العصبات في الميراث واختلفوا في غير العصبات قال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز إنكاحه حتى لم يتوارثا بذلك النكاح ويقف على إجازة العصبة. وعن أبي حنيفة فيه روايتان وهذا يرجع إلى ما ذكرنا أن عصوبة الولي هل هي شرط لثبوت الولاية مع اتفاقهم على أنها شرط التقديم؟ فعندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية وهي رواية الحسن عن أبي حنيفة فإنه روى عنه أنه قال: لا يزوج الصغيرة إلا العصبة وروى أبو يوسف ومحمد عن أبي حنيفة أنها ليست بشرط لثبوت أصل الولاية. وإنما هي شرط التقدم على قرابة الرحم حتى أنه إذا كان هناك عصبة لا تثبت لغير العصبة ولاية الإنكاح وإن لم يكن ثمة عصبة فلغير العصبة من القرابات من الرجال والنساء نحو الأم والأخت والخالة ولاية التزويج, الأقرب فالأقرب إذا كان المزوج ممن يرث المزوج وهو الرواية المشهورة عن أبي حنيفة "وجه" قولهما ما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال: النكاح إلى العصبات فوض كل نكاح إلى كل عصبة؛ لأنه قابل الجنس بالجنس أو بالجمع فيقتضي مقابلة الفرد بالفرد؛ ولأن الأصل في

 

ج / 2 ص -241-       الولاية هم العصبات فإن كان الرأي وتدبير القبيلة وصيانتها عما يوجب العار والشين إليهم فكانوا هم الذين يحرزون عن ذلك بالنظر والتأمل في أمر النكاح فكانوا هم المحقين بالولاية ولهذا كانت قرابة التعصيب مقدمة على قرابة الرحم بالإجماع, ولأبي حنيفة عموم قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ} من غير فصل بين العصبات وغيرهم فتثبت ولاية الإنكاح على العموم إلا من خص بدليل؛ ولأن سبب ثبوت الولاية هو مطلق القرابة وذاتها لما بينا أن القرابة حاملة على الشفقة في حق القريب داعية إليها وقد وجد ههنا فوجد السبب ووجد شرط الثبوت أيضا وهو عجز المولى عليه عن المباشرة بنفسه وإنما العصوبة وقرب القرابة شرط التقدم لا شرط ثبوت أصل الولاية فلا جرم العصبة تتقدم على ذي الرحم, والأقرب من غير العصبة يتقدم على الأبعد ولأن ولاية الإنكاح مرتبة على استحقاق الميراث لاتحاد سبب ثبوتها وهو القرابة فكل من استحق من الميراث استحق الولاية, ألا ترى أن الأب إذا كان عبدا لا ولاية له لأن العبد لا يرث أحدا وكذا إذا كان كافرا والمولى عليه مسلم لا ولاية له لأنه لا يرثه. وكذا إذا كان مسلما والمولى عليه كافر لا ولاية له لأنه لا ميراث له منه فثبت أن الولاية تدور مع استحقاق الميراث, فثبت لكل قريب يرث يزوج ولا يلزم على هذه القاعدة المولى أنه يزوج ولا يرث. وكذا الإمام يزوج ولا يرث لأن هذا عكس العلة لأن طرد ما قلنا: إن كل من يرث يزوج وهذا مطرد على أصل أبي حنيفة, وعكسه أن كل من لا يرث لا يزوج, والشرط في العلل الشرعية الاطراد دون الانعكاس لجواز إثبات الحكم الشرعي بعلل ثم نقول: ما قلناه منعكس أيضا ألا ترى أن للمولى الولاء في مملوكه وهو نوع إرث, وأما الإمام فهو نائب عن جماعة المسلمين وهم يرثون من لا ولي له من جهة الملك والقرابة والولاء ألا ترى أن ميراثه لبيت المال وبيت المال مالهم فكانت الولاية في الحقيقة لهم وإنما الإمام نائب عنهم فيتزوجون ويرثون أيضا, فاطرد هذا الأصل وانعكس بحمد الله تعالى. وأما قول علي رضي الله عنه النكاح إلى العصبات فالمراد منه حال وجود العصبة لاستحالة تفويض النكاح إلى العصبة ولا عصبة ونحن به نقول إن النكاح إلى العصبات حال وجود العصبة ولا كلام فيه والله أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المولى عليه فنقول: الولاية بالنسبة إلى المولى عليه نوعان :. ولاية حتم وإيجاب, وولاية ندب واستحباب وهذا على أصل أبي حنيفة وأبي يوسف. الأول وأما على أصل محمد فهي نوعان أيضا ولاية استبداد, وولاية شركة وهي قول أبي يوسف الآخر. وكذا نقول الشافعي إلا أن بينهما اختلاف في كيفية الشركة على ما نذكر إن شاء الله. وأما ولاية الحتم والإيجاب والاستبداد فشرط ثبوتها على أصل أصحابنا كون المولى عليه صغيرا أو صغيرة أو مجنونا كبيرا أو مجنونة كبيرة سواء كانت الصغيرة بكرا أو ثيبا فلا تثبت هذه الولاية على البالغ العاقل ولا على العاقلة البالغة وعلى أصل الشافعي: شرط ثبوت ولاية الاستبداد في الغلام هو الصغر وفي الجارية البكارة, سواء كانت صغيرة أو بالغة فلا تثبت هذه الولاية عنده على الثيب سواء كانت بالغة أو صغيرة, والأصل أن هذه الولاية على أصل أصحابنا تدور مع الصغر وجودا وعدما في الصغير والصغيرة, وعنده في الصغير كذلك, أما في الصغيرة فإنها تدور مع البكارة وجودا وعدما وفي الكبير والكبيرة تدور مع الجنون وجودا وعدما سواء كان الجنون أصليا بأن بلغ مجنونا أو عارضا بأن طرأ بعد البلوغ عندنا وقال زفر إذا طرأ الجنون لم يجز للمولى التزويج. وعلى هذا يبتنى أن الأب والجد لا يملكان إنكاح البكر البالغة بغير رضاها عندنا. وقال الشافعي: يملكانه ولا خلاف في أنهما لا يملكان إنكاح الثيب البالغة بغير رضاها "وجه" قوله: أن البكر وإن كانت عاقلة بالغة فلا تعلم بمصالح النكاح لأن العلم بها يقف على التجربة

 

ج / 2 ص -242-       والممارسة وذلك بالثيابة ولم توجد فالتحقت بالبكر الصغيرة فبقيت ولاية الاستبداد عليها ولهذا ملك الأب قبض صداقها من غير رضاها بخلاف الثيب البالغة لأنها علمت بمصالح النكاح وبالممارسة ومصاحبة الرجال فانقطعت ولاية الاستبداد عنها, ولنا أن الثيب البالغة لا تزوج إلا برضاها فكذا البكر البالغة, والجامع بينهما وجهان أحدهما: طريق أبي حنيفة وأبي يوسف الأول. والثاني: طريق محمد وأبي يوسف الآخر أما طريق أبي حنيفة: فهو أن ولاية الحتم والإيجاب في حالة الصغر إنما تثبت بطريق النيابة عن الصغيرة لعجزها عن التصرف على وجه النظر والمصلحة بنفسها, وبالبلوغ والعقل زال العجز وثبتت القدرة حقيقة ولهذا صارت من أهل الخطاب في أحكام الشرع إلا أنها مع قدرتها حقيقة عاجزة عن مباشرة النكاح عجز ندب واستحباب؛ لأنها تحتاج إلى الخروج إلى محافل الرجال والمرأة مخدرة مستورة والخروج إلى محفل الرجال من النساء عيب في العادة فكان عجزها عجز ندب واستحباب لا حقيقة فثبتت الولاية عليها على حسب العجز وهي ولاية ندب واستحباب لا ولاية حتم وإيجاب إثباتا للحكم على قدر العلة. وأما طريق محمد فهو أن الثابت بعد البلوغ ولاية الشركة لا ولاية الاستبداد فلا بد من الرضا كما في الثيب البالغة على ما نذكره إن شاء الله تعالى في مسألة النكاح بغير ولي وإنما ملك الأب قبض صداقها لوجود الرضا بذلك منها دلالة؛ لأن العادة أن الأب يضم إلى الصداق من خالص ماله ويجهز بنته البكر حتى لو نهته عن القبض لا يملك بخلاف الثيب فإن العادة ما جرت بتكرار الجهاز, وإذا كان الرضا في نكاح البالغة شرط الجواز فإذا زوجت بغير إذنها توقف التزويج على رضاها فإن رضيت جاز وإن ردت بطل ثم إن كانت ثيبا فرضاها يعرف بالقول تارة وبالفعل أخرى أما القول: فهو التنصيص على الرضا وما يجري مجراه نحو أن تقول: رضيت أو أجزت ونحو ذلك, والأصل فيه قوله صلى الله عليه وسلم "الثيب تشاور" وقوله صلى الله عليه وسلم "الثيب يعرب عنها لسانها" وقوله صلى الله عليه وسلم "تستأمر النساء في أبضاعهن" وقوله صلى الله عليه وسلم "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر" والمراد منه: البالغة. وأما الفعل: فنحو التمكين من نفسها والمطالبة بالمهر والنفقة ونحو ذلك لأن ذلك دليل الرضا والرضا يثبت بالنص مرة وبالدليل أخرى, والأصل فيه ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه قال لبريرة إن وطئك زوجك فلا خيار لك" وإن كانت بكرا فإن رضاها يعرف بهذين الطريقين وبثالث وهو السكوت وهذا استحسان, والقياس أن لا يكون سكوتها رضا. "وجه" القياس أن السكوت يحتمل الرضا ويحتمل السخط فلا يصلح دليل الرضا مع الشك والاحتمال ولهذا لم يجعل دليلا إذا كان المزوج أجنبيا أو وليا غيره أولى منه. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "تستأمر النساء في أبضاعهن فقالت عائشة رضي الله عنها إن البكر تستحي يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم إذنها صماتها" وروي سكوتها رضاها وروي سكوتها إقرارها وكل ذلك نص في الباب. وروي "البكر تستأمر في نفسها فإن سكتت فقد رضيت" وهذا أيضا نص ولأن البكر تستحي عن النطق بالإذن في النكاح لما فيه من إظهار رغبتها في الرجال فتنسب إلى الوقاحة فلو لم يجعل سكوتها إذنا ورضا بالنكاح دلالة وشرط استنطاقها وأنها لا تنطق عادة لفاتت عليها مصالح النكاح مع حاجتها إلى ذلك. وهذا لا يجوز, وقوله: "السكوت يحتمل" مسلم لكن ترجح جانب الرضا على جانب السخط؛ لأنها لو لم تكن راضية لردت؛ لأنها إن كانت تستحي عن الإذن فلا تستحي عن الرد فلما سكتت ولم ترد دل أنها راضية بخلاف ما إذا زوجها أجنبي أو ولي غيره أولى منه؛ لأن هناك ازداد احتمال السخط لأنها يحتمل أنها سكتت عن جوابه مع أنها قادرة على الرد تحقيرا له وعدم المبالاة بكلامه وهذا أمر معلوم بالعادة, فبطل رجحان دليل الرضا ولأنها إنما تستحي من الأولياء لا من الأجانب, والأبعد عند قيام الأقرب وحضوره أجنبي فكانت في حق الأجانب كالثيب؛ فلا بد من فعل أو قول يدل عليه, ولأن المزوج إذا كان أجنبيا وإذا كان

 

ج / 2 ص -243-       الولي الأبعد كان جواز النكاح من طريق الوكالة لا من طريق الولاية لانعدامها, والوكالة لا تثبت إلا بالقول وإذا كان وليا فالجواز بطريق الولاية فلا يفتقر إلى القول ولو بلغها النكاح فضحكت كان إجازة لأن الإنسان إنما يضحك مما يسره, فكان دليل الرضا ولو بكت روي عن أبي يوسف أنه يكون إجازة وروي عنه رواية أخرى أنه لا يكون إجازة بل يكون ردا وهو قول محمد. "وجه" الرواية الأولى أن البكاء قد يكون للحزن وقد يكون لشدة الفرح فلا يجعل ردا ولا إجازة للتعارض فصار كأنها سكتت فكان رضا. "وجه" الرواية الأخرى وهو قول محمد أن البكاء لا يكون إلا من حزن عادة فكان دليل السخط والكراهة لا دليل الإذن والإجازة. ولو زوجها وليان كل منهما رجلا فبلغها ذلك فإن أجازت أحد العقدين جاز الذي أجازته وبطل الآخر وإن أجازتهما بطلا لأن الإجازة منها بمنزلة الإنشاء كأنها تزوجت بزوجين وذلك باطل كذا هذا, وإن سكتت روي عن محمد أن ذلك لا يكون ردا ولا إجازة حتى تجيز أحدهما بالقول أو بفعل يدل على الإجازة. وروي عنه رواية أخرى أنها إذا سكتت بطل العقدان جميعا. "وجه" هذه الرواية أن السكوت من البكر كالإجازة فكأنها أجازت العقدين جميعا. "وجه" الرواية الأخرى أن هذا السكوت لا يمكن أن يجعل إجازة لأنه لو جعل إجازة فإما أن يجعل إجازة للعقدين جميعا, وإما أن يجعل إجازة لأحدهما لا سبيل إلى الأول لأن إنشاء العقدين جميعا ممتنع فامتنعت إجازتهما ولا سبيل إلى الثاني لأنه ليس أحد العقدين بأولى بالإجازة من الآخر, فالتحق السكوت بالعدم ووقف الأمر على الإجازة بقول أو بفعل يدل على الإجازة لأحدهما, وكذلك إذا استؤمرت البكر فسكتت في الابتداء فهو إذن إذا كان المستأذن وليا لما ذكرنا ولما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا خطب إحدى بناته دنا من خدرها وقال إن فلانا يذكر فلانة ثم يزوجها فدل أن السكوت عند استئمار الولي إذن دلالة وقالوا في الولي إذا قال للبكر: إني أريد أن أزوجك فلانا فقالت غيره أولى منه لم يكن ذلك إذنا ولو زوجها ثم أخبرها فقالت قد كان غيره أولى منه كان إجازة؛ لأن قولها في الفصل الأول إظهار عدم الرضا بالتزويج من فلان وقولها في الفصل الثاني قبول أو سكوت عن الرد وسكوت البكر عن الرد يكون رضا ولو قال الولي: أريد أن أزوجك من رجل ولم يسمه فسكتت لم يكن رضا كذا روي عن محمد؛ لأن الرضا بالشيء بدون العلم به لا يتحقق ولو قال: أزوجك فلانا أو فلانا حتى عد جماعة فسكتت فمن أيهم زوجها جاز ولو سمى لها الجماعة مجملا بأن قال أريد أن أزوجك من جيراني أو من بني عمي فسكتت فإن كانوا يحصون فهو رضا وإن كانوا لا يحصون لم يكن رضا؛ لأنهم إذا كانوا يحصون يعلمون فيتعلق الرضا بهم وإذا لم يحصوا لم يعلموا فلا يتصور الرضا؛ لأن الرضا بغير المعلوم محال والله تعالى الموفق. وذكر في الفتاوى أن الولي إذا سمى الزوج ولم يسم المهر أنه كم هو فسكتت فسكوتها لا يكون رضا لأن تمام الرضا لا يثبت إلا بذكر الزوج والمهر, ثم الإجازة من طريق الدلالة لا تثبت إلا بعد العلم بالنكاح؛ لأن الرضا بالنكاح قبل العلم به لا يتصور وإذا زوج الثيب البالغة ولي فقالت: لم أرض ولم آذن. وقال الزوج: قد أذنت فالقول قول المرأة؛ لأن الزوج يدعي عليها حدوث أمر لم يكن وهو الإذن والرضا وهي تنكر فكان القول قولها. "وأما" البكر إذا تزوجت فقال الزوج بلغك العقد فسكت فقالت رددت فالقول قولها عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: القول قول الزوج. "وجه" قوله أن المرأة تدعي أمرا حادثا وهو الرد والزوج ينكر القول فكان القول قول المنكر. "ولنا" أن المرأة وإن كانت مدعية ظاهرا فهي منكرة في الحقيقة؛ لأن الزوج يدعي عليها جواز العقد بالسكوت وهي تنكر فكان القول قولها كالمودع إذا قال رددت الوديعة كان القول قوله وإن كان مدعيا لرد ظاهر لكونه منكرا للضمان حقيقة كذا هذا ثم في هذين الفصلين لا يمين عليها في قول أبي حنيفة, وفي قولهما عليها اليمين وهو الخلاف المعروف أن الاستحسان المعروف لا يجري في الأشياء

 

ج / 2 ص -244-       الستة عنده وعندهما يجري, والمسألة تذكر إن شاء الله تعالى في كتاب الدعوى ثم إذا اختلف الحكم في البكر البالغة والثيب البالغة في الجملة, حتى جعل السكوت رضا من البكر دون الثيب وللأب ولاية قبض صداق البكر بغير إذنها إلا إذا نهته نصا وليس له ولاية قبض مهر الثيب إلا بإذنها فلا بد من معرفة البكارة والثيابة في الحكم لا في الحقيقة؛ لأن حقيقة البكارة بقاء العذرة وحقيقة الثيابة زوال العذرة. وأما الحكم غير مبني على ذلك بالإجماع فنقول: لا خلاف في أن كل من زالت عذرتها بوثبة أو طفرة أو حيضة أو طول التعنيس أنها في حكم الأبكار تزوج كما تزوج الأبكار ولا خلاف أيضا أن من زالت عذرتها بوطء يتعلق به ثبوت النسب وهو الوطء بعقد جائز أو فاسد أو شبهة عقد وجب لها مهر بذلك الوطء أنها تزوج كما تزوج الثيب "وأما" إذا زالت عذرتها بالزنا فإنها تزوج كما تزوج الأبكار في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد والشافعي تزوج كما تزوج الثيب احتجوا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "البكر تستأمر في نفسها والثيب تشاور" وقال صلى الله عليه وسلم "والثيب يعرب عنها لسانها" وهذه ثيب حقيقة؛ لأن الثيب حقيقة من زالت عذرتها وهذه كذلك فيجري عليها أحكام الثيب ومن أحكامها أنه لا يجوز نكاحها بغير إذنها نصا فلا يكتفى بسكوتها ولأبي حنيفة أن علة وضع النطق شرعا وإقامة السكوت مقامه في البكر هو الحياء وقد وجد ودلالة أن العلة ما قلنا إشارة النص والمعقول أما الأول فلما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "تستأمر النساء في أبضاعهن فقالت عائشة رضي الله عنها إن البكر تستحي يا رسول الله فقال صلى الله عليه وسلم إذنها صماتها" فالاستدلال به أن قوله صلى الله عليه وسلم إذنها صماتها خرج جوابا لقول عائشة رضي الله عنها إن البكر تستحي أي عن الإذن بالنكاح نطقا والجواب بمقتضى إعادة السؤال لأن الجواب لا يتم بدون السؤال كأنه قال صلى الله عليه وسلم إذا كانت البكر تستحي عن الإذن بالنكاح نطقا فإذنها صماتها فهذا إشارة إلى أن الحياء علة وضع النطق, وقيام الصمات مقام الإذن علة منصوصة, وعلة النص لا تتقيد بمحل النص كالطواف في الهرة ونحو ذلك. وأما المعقول: فهو أن الحياء في البكر مانع من النطق بصريح الإذن بالنكاح لما فيه من إظهار رغبتها في الرجال؛ لأن النكاح سبب الوطء والناس يستقبحون ذلك منها ويذمونها وينسبونها إلى الوقاحة وذلك مانع لها من النطق بالإذن الصريح وهي محتاجة إلى النكاح فلو شرط استنطاقها وهي لا تنطق عادة لفات عليها النكاح مع حاجتها إليه وهذا لا يجوز والحياء موجود في حق هذه. وإن كانت ثيبا حقيقة؛ لأن زوال بكارتها لم تظهر للناس فيستقبحون منها الإذن بالنكاح صريحا ويعدونه من باب الوقاحة ولا يزول ذلك ما لم يوجد النكاح ويشتهر الزنا فحينئذ لا يستقبح الإظهار بالإذن ولا يعد عيبا بل الامتناع عن الإذن عند استئمار الولي يعد رعونة منها لحصول العلم للناس بظهور رغبتها في الرجال. "وأما الحديث" فالمراد منه الثيب التي تعارفها الناس ثيبا؛ لأن مطلق الكلام ينصرف إلى المتعارف بين الناس ولهذا لم تدخل البكر التي زالت عذرتها بالطفرة والوثبة والحيضة ونحو ذلك في هذا الحديث, وإن كانت ثيبا حقيقة والله أعلم. وعلى هذا يخرج إنكاح الأب والجد والثيب الصغيرة أنه جائز عند أصحابنا, وعند الشافعي أنه لا يجوز إنكاحها للحال, ويتأخر إلى ما بعد البلوغ فيزوجها الولي بعد البلوغ بإذنها صريحا لا بالسكوت واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تنكح اليتيمة حتى تستأمر" واليتيمة اسم للصغيرة في اللغة ولأن الثيابة دليل العلم بمصالح النكاح ولأن حدوثها يكون بعد العقل والتمييز عادة وقد حصل لها بالتجربة والممارسة وهذا إن لم يصلح لإثبات الولاية لها يصلح دافعا ولاية الولي عنها للحال والتأخير إلى ما بعد البلوغ بخلاف البكر البالغة لأن البكارة دليل الجهل بمنافع النكاح ومضاره فالتحق عقلها بالعدم على ما مر, ولأن النكاح في جانب النساء ضرر قطعا لما نذكر إن شاء الله تعالى فلا مصلحة إلا عند الحاجة إلى قضاء الشهوة؛ لأن مصالح النكاح

 

ج / 2 ص -245-       يقف عليه ولم يوجد في الثيب الصغيرة والجواز في البكر ثبت بفعل النبي صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما ذكرنا فيما تقدم. "ولنا" قوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} والأيم اسم لأنثى لا زوج لها كبيرة أو صغيرة فيقتضي ثبوت الولاية عاما إلا من خص بدليل, ولأن الولاية كانت ثابتة قبل زوال البكارة لوجود سبب ثبوت الولاية وهو القرابة الكاملة والشفقة الوافرة ووجود شرط الثبوت وهي حاجة الصغيرة إلى النكاح لاستيفاء المصالح بعد البلوغ وعجزها عن ذلك بنفسها وقدرة الولي عليه والعارض ليس إلا الثيابة وأثرها في زيادة الحاجة إلى الإنكاح لأنها مارست الرجال وصحبتهم وللصحبة أثر في الميل إلى من تعاشره معاشرة جميلة فلما ثبتت الولاية على البكر الصغيرة فلأن تبقى على الثيب الصغيرة أولى والمراد من الحديث البالغة لما مر. والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة تزوج كما يزوج الصغير والصغيرة عند أصحابنا الثلاثة أصليا كان الجنون أو طارئا بعد البلوغ. وقال زفر ليس للولي أن يزوج المجنون جنونا طارئا. "وجه" قوله أن ولاية الولي قد زالت بالبلوغ عن عقل فلا تعود بعد ذلك بطريان الجنون, كما لو بلغ مغمى عليه ثم زال الإغماء. "ولنا" أنه وجد سبب ثبوت الولاية وهو القرابة وشرطه وهو عجز المولى عليه وهو حاجته, وفي ثبوت الولاء فائدة فثبتت ولهذا ثبتت في الجنون الأصلي كذا في الطارئ وتثبت ولاية التصرف في ماله كذا في نفسه والله أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى نفس التصرف فهو: أن يكون التصرف نافعا في حق المولى عليه لا ضارا في حقه, فليس للأب والوصي والجد أن يزوج عبد الصغير والصغيرة حرة ولا أمة لغيرهما لأن هذا التصرف ضار في حق المولى عليه لأن المهر والنفقة يتعلقان برقبة العبد من غير أن يحصل للصغير مال في مقابلته والإضرار لا يدخل تحت ولاية الولي كالطلاق والعتاق والتبرعات. وكذا كل من يتصرف على غيره بالإذن لا يملك إنكاح العبد كالمكاتب والشريك والمضارب والمأذون؛ لأن إطلاق التصرف لهؤلاء مقيد بالنظر. وأما تزويج الأمة حرا أو عبدا لغيرهما فيملكه الأب والجد والوصي والمكاتب والمفاوض والقاضي وأمين القاضي؛ لأنه نفع محض لكونه تحصيل مال من غير أن يقابله مال فيملكه هؤلاء ألا ترى أنهم يملكون البيع مع أنه مقابلة المال بالمال فهذا أولى فأما شريك العنان والمضارب والمأذون فلا يملكون تزويج الأمة في قول أبي حنيفة ومحمد. وعند أبي يوسف يملكون. "وجه" قول أبي يوسف أن هذا تصرف نافع؛ لأنه تحصيل مال لا يقابله مال فيملكونه كشريك المفاوضة. "وجه" قولهما أن تصرف هؤلاء يختص بالتجارة والنكاح ليس من التجارة بدليل أن المأذونة لا تزوج نفسها ولو كان النكاح تجارة لملكت؛ لأن التجارة معاوضة المال بالمال والنكاح معاوضة البضع بالمال فلم يكن تجارة فلا يدخل تحت ولايتهم, بخلاف المفاوض؛ لأن تصرفه مختص بالنفع لا بالتجارة وهذا نافع. ولو زوج أمته من عبد ابنه قال أبو يوسف: يجوز. وقال زفر: لا يجوز. "وجه" قول زفر أن تزويج عبده الصغير لم يدخل تحت ولاية الأب فكان الأب فيه كالأجنبي, واحتمال الضرر ثابت لجواز أن يبيع الأمة فيتعلق المهر والنفقة برقبة العبد فيتضرر به الصغير فيصير كأنه زوجه أمة الغير. "ولنا" أن ثبوت الولاية موجود فلا يمتنع الثبوت إلا لمكان الضرر وهذا نفع لا مضرة فيه؛ لأن الأولاد له ولا يتعلق المهر والنفقة برقبة العبد فكان نفعا محضا فيملكه قوله: "يحتمل أن يبيعه" قلنا: ويحتمل أن لا يبيعه فلا يجوز تعطيل الولاية المحققة للحال لأمر يحتمل الوجود والعدم وعلى هذا يخرج ما إذا زوج الأب أو الجد الصغيرة من كفء بدون مهر المثل أو زوج ابنه الصغير امرأة بأكثر من مهر مثلها أنه إن كان ذلك مما يتغابن الناس في مثله لا يجوز بالإجماع, وإن كان مما لا يتغابن الناس في مثله يجوز في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف ومحمد لا يجوز. وذكر هشام عنهما أن النكاح باطل. ولو زوج ابنته الصغيرة بمهر مثلها من غير كفء فهو على هذا الخلاف ولو فعل غير الأب والجد شيئا مما ذكرنا لا يجوز في قوليهما جميعا. "وجه" قولهما أن ولاية الإنكاح تثبت نظرا في حق المولى عليه

 

ج / 2 ص -246-       ولا نظر في الحط على مهر المثل في إنكاح الصغيرة ولا في الزيادة على مهر المثل في إنكاح الصغير بل فيه ضرر بهما. والإضرار لا يدخل تحت ولاية الولي ولهذا لا يملك غير الأب والجد كذا هذا ولأبي حنيفة ما روي أن أبا بكر الصديق رضي الله عنه زوج عائشة رضي الله عنها وهي صغيرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم على خمسمائة درهم, وتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم على ذلك ومعلوم أن مهر مثلها كان أضعاف ذلك ولأن الأب وافر الشفقة على ولده ينظر له ما لا ينظر لنفسه والظاهر أنه لا يفعل ذلك إلا لتوفير مقصود من مقاصد النكاح هو أنفع وأجدى من كثير من المال من موافقة الأخلاق, وحسن الصحبة, والمعاشرة بالمعروف, ونحو ذلك من المعاني المقصودة بالنكاح فكان تصرفه والحالة هذه نظرا للصغير والصغيرة لا ضررا بهما بخلاف غير الأب والجد؛ لأن وجه الضرر في تصرفهما ظاهر وليس ثمة دليل يدل على اشتماله على المصلحة الباطنة الخفية التي تزيد على الضرر الظاهر؛ لأن ذلك إنما يعرف بوفور الشفقة ولم يوجد بخلاف ما إذا باع الأب أمة لهما بأقل من قيمتها بما لا يتغابن الناس فيه أنه لا يجوز؛ لأن البيع معاوضة المال بالمال والمقصود من المعاوضات المالية هو الوصول إلى العوض المالي ولم يوجد. وبخلاف ما إذا زوج أمتهما بأقل من مهر مثلها أنه لا يجوز؛ لأنه أنفع لهما فيما يحصل للأمة من حظ الزوج, وإنما منفعتهما في حصول عوض بضع الأمة لهما وهو مهر المثل ولم يحصل وعلى هذا الخلاف التوكيل بأن وكل رجل رجلا بأن يزوجه امرأة فزوجه امرأة بأكثر من مهر مثلها مقدار ما لا يتغابن الناس في مثله أو وكلت امرأة رجلا بأن يزوجها من رجل فزوجها من رجل بدون صداق مثلها أو من غير كفء فهو على اختلاف الوكيل بالبيع المطلق ونذكر المسألة إن شاء الله تعالى في كتاب الوكالة وعلى هذا الوكيل بالتزويج من جانب الرجل أو المرأة إذا زوج الموكل من لا تقبل شهادة الوكيل له فهو على الاختلاف في البيع ونذكر ذلك كله إن شاء الله تعالى في كتاب الوكالة وعلى هذا الخلاف الوكيل من جانب الرجل بالتزويج إذا زوجه أمة لغيره أنه يجوز عند أبي حنيفة لإطلاق اللفظ ولسقوط اعتبار الكفاءة من جانب النساء. وعندهما لا يجوز؛ لأن المطلق ينصرف إلى المتعارف وتعتبر الكفاءة من جانبين عندهما في مثل هذا الموضع لمكان العرف استحسانا على ما نذكر إن شاء الله تعالى في موضعه ولو أقر الأب على ابنته الصغيرة بالنكاح أو على ابنه الصغير لا يصدق في إقراره حتى يشهد شاهدان على نفس النكاح في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يصدق من غير شهود. وصورة المسألة في موضعين أحدهما: أن تدعي امرأة نكاح الصغير أو يدعي رجل نكاح الصغيرة والأب ينكر ذلك فيقيم المدعي بينة على إقرار الأب بالنكاح فعند أبي حنيفة لا تقبل هذه الشهادة حتى يشهد شاهدان على نفس العقد. وعندهما تقبل ويظهر النكاح. والثاني أن يدعي رجل نكاح الصغيرة أو امرأة نكاح الصغير بعد بلوغهما وهما منكران ذلك فأقام المدعي البينة على إقرار الأب بالنكاح في حال الصغر وعلى هذا الخلاف الوكيل بالنكاح, إذا أقر على موكله أو على موكلته بالنكاح, والمولى إذا أقر على عبده بالنكاح أنه لا يقبل عند أبي حنيفة, وعندهما يقبل وأجمعوا على أن المولى إذا أقر على أمته بالنكاح أنه يصدق من غير شهادة. "وجه" قولهما أنه إن أقر بعقد يملك إنشاءه فيصدق فيه من غير شهود كما لو أقر بتزويج أمته, ولا شك أنه أقر بعقد يملك إنشاءه؛ لأنه يملك إنشاء النكاح على الصغير والصغيرة والعبد ونحو ذلك, وإذا ملك إنشاءه لم يكن متهما في الإقرار فيصدق كالمولى إذا أقر بالفيء في مدة الإيلاء, وزوج المعتدة إذا قال في العدة راجعتك لما قلنا كذا هذا ولأبي حنيفة قول النبي صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بشهود" نفى النكاح بغير شهود من غير فصل بين الانعقاد والظهور بل الحمل على الظهور أولى؛ لأن فيه عملا بحقيقة اسم الشاهد إذ هو اسم لفاعل الشهادة وهو المؤدي لها, والحاجة إلى الأداء عند الظهور لا عند الانعقاد, ولأنه أقر على الغير فيما لا يملكه بعقد لا يتم به وحده وإنما يتم به وبشهادة الآخرين فلا يصدق إلا بمساعدة آخرين قياسا على الوكلاء الثلاثة في النكاح والبيع

 

ج / 2 ص -247-       ودلالة الوصف أنه أقر بالنكاح والإقرار بالنكاح إقرار بمنافع البضع وإنها غير مملوكة, ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان المهر لها لا للأب بخلاف الأمة فإن منافع بضعها مملوكة فكان ذلك إقرارا بما ملك فأبو حنيفة اعتبر ولاية العقد وملك المعقود عليه, وهما اعتبرا ولاية العقد فقط والله عز وجل أعلم

"فصل": وأما ولاية الندب والاستحباب فهي: الولاية على الحرة البالغة العاقلة بكرا كانت أو ثيبا في قول أبي حنيفة وزفر وقول أبي يوسف الأول, وفي قول محمد وأبي يوسف الآخر الولاية عليها ولاية مشتركة. وعند الشافعي هي ولاية مشتركة أيضا لا في العبارة فإنها للمولى خاصة, وشرط ثبوت هذه الولاية على أصل أصحابنا هو رضا المولى عليه لا غير. وعند الشافعي هذا وعبارة الولي أيضا, وعلى هذا يبنى الحرة البالغة العاقلة إذا زوجت نفسها من رجل أو وكلت رجلا بالتزويج فتزوجها أو زوجها فضولي فأجازت جاز في قول أبي حنيفة وزفر وأبي يوسف الأول سواء زوجت نفسها من كفء أو غير كفء بمهر وافر أو قاصر غير أنها إذا زوجت نفسها من غير كفء فللأولياء حق الاعتراض. وكذا إذا زوجت بمهر قاصر عند أبي حنيفة خلافا لهما وستأتي المسألة إن شاء الله في موضعها وفي قول محمد لا يجوز حتى يجيزه الولي والحاكم, فلا يحل للزوج وطؤها قبل الإجازة ولو وطئها يكون وطئا حراما ولا يقع عليها طلاقه وظهاره وإيلاؤه, ولو مات أحدهما لم يرثه الآخر سواء زوجت نفسها من كفء أو غير كفء وهو قول أبي يوسف الآخر, روى الحسن بن زياد عنه. وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنها إذا زوجت نفسها من كفء ينفذ وتثبت سائر الأحكام. وروي عن محمد أنه إذا كان للمرأة ولي لا يجوز نكاحها إلا بإذنه وإن لم يكن لها ولي جاز إنكاحها على نفسها. وروي عن محمد أنه رجع إلى قول أبي حنيفة وقول الشافعي مثل قول محمد في ظاهر الرواية أنه لا يجوز نكاحها بدون الولي إلا أنهما اختلفا فقال محمد: ينعقد النكاح بعبارتها وينفذ بإذن الولي وإجازته, وينعقد بعبارة الولي وينفذ بإذنها وإجازتها فعند الشافعي لا عبارة للنساء في باب النكاح أصلا حتى لو توكلت امرأة بنكاح امرأة من وليها فتزوجت لم يجز عنده. وكذا إذا زوجت بنتها بإذن القاضي لم يجز, احتج الشافعي بقوله تعالى {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} هذا خطاب للأولياء والأيم اسم لامرأة لا زوج لها بكرا كانت أو ثيبا ومتى ثبتت الولاية عليها كانت هي موليا عليها ضرورة فلا تكون والية وقوله صلى الله عليه وسلم "لا يزوج النساء إلا الأولياء" وقوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي" لأن النكاح من جانب النساء عقد إضرار بنفسه وحكمه وثمرته أما نفسه: فإنه رق وأسر قال النبي صلى الله عليه وسلم "النكاح رق فلينظر أحدكم أين يضع كريمته" وقال عليه الصلاة والسلام "اتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان": أسيرات والإرقاق إضرار. وأما حكمه: فإنه ملك فالزوج يملك التصرف في منافع بضعها استيفاء بالوطء وإسقاطا بالطلاق, ويملك حجرها عن الخروج والبروز وعن التزوج بزوج. وأما ثمرته فالاستفراش كرها وجبرا ولا شك أن هذا إضرار إلا أنه قد ينقلب مصلحة وينجبر ما فيه من الضرر إذا وقع وسيلة إلى المصالح الظاهرة والباطنة, ولا يستدرك ذلك إلا بالرأي الكامل ورأيها ناقص لنقصان عقلها فبقي النكاح مضرة فلا تملكه. واحتج محمد رحمه الله بما روي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة تزوجت بغير إذن وليها فنكاحها باطل" والباطل من التصرفات الشرعية ما لا حكم له شرعا كالبيع الباطل ونحوه, ولأن للأولياء حقا في النكاح بدليل أن لهم حق الاعتراض والفسخ ومن لا حق له في عقد كيف يملك فسخه, والتصرف في حق الإنسان يقف جوازه على جواز صاحب الحق كالأمة إذا زوجت نفسها بغير إذن وليها. "وجه" ما روي عن أبي يوسف أنها إذا زوجت نفسها من كفء ينفذ؛ لأن حق الأولياء في النكاح من حيث صيانتهم عما يوجب لحوق العار والشين بهم بنسبة من لا يكافئهم بالصهرية إليهم وقد بطل هذا المعنى بالتزويج من كفء, يحققه أنها لو وجدت كفئا وطلبت من المولى الإنكاح منه لا يحل له الامتناع ولو امتنع يصير عاضلا

 

ج / 2 ص -248-       فصار عقدها والحالة هذه بمنزلة عقده بنفسه. "وجه" ما روي عن محمد من الفرق بين ما إذا كان لها ولي وبين ما إذا لم يكن لها ولي أن وقوف العقد على إذن الولي كان لحق الولي لا لحقها فإذا لم يكن لها ولي فلا حق للولي, فكان الحق لها خاصة, فإذا عقدت فقد تصرفت في خالص حقها فنفذ وأما إذا زوجت نفسها من كفء وبلغ الولي فامتنع من الإجازة فرفعت أمرها إلى الحاكم فإنه يجيزه في قول أبي يوسف. وقال محمد يستأنف العقد "وجه" قوله أن العقد كان موقوفا على إجازة الولي فإذا امتنع من الإجازة فقد رده فيرتد ويبطل من الأصل فلا بد من الاستئناف. "وجه" قول أبي يوسف أنه بالامتناع صار عاضلا إذ لا يحل له الامتناع من الإجازة إذا زوجت نفسها من كفء فإذا امتنع فقد عضلها فخرج من أن يكون وليا وانقلبت الولاية إلى الحاكم ولأبي حنيفة الكتاب العزيز والسنة والاستدلال أما الكتاب: فقوله تعالى {وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا} فالآية الشريفة نص على انعقاد النكاح بعبارتها وانعقادها بلفظ الهبة فكانت حجة على المخالف في المسألتين, وقوله تعالى {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والاستدلال به من وجهين أحدهما: أنه أضاف النكاح إليها فيقتضي تصور النكاح منها. والثاني: أنه جعل نكاح المرأة غاية الحرمة فيقتضي انتهاء الحرمة عند نكاحها نفسها وعنده لا تنتهي, وقوله عز وجل {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} أي: يتناكحا أضاف النكاح إليهما من غير ذكر الولي, وقوله عز وجل {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} الآية والاستدلال به من وجهين أحدهما: أنه أضاف النكاح إليهن فيدل على جواز النكاح بعبارتهن من غير شرط الولي. والثاني: أنه نهى الأولياء عن المنع عن نكاحهن أنفسهن من أزواجهن إذا تراضى الزوجان, والنهي يقتضي تصوير المنهي عنه وأما السنة: فما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ليس للولي مع الثيب أمر" وهذا قطع ولاية الولي عنها. وروي عنه أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الأيم أحق بنفسها من وليها" والأيم اسم لامرأة لا زوج لها. وأما الاستدلال فهو: أنها لما بلغت عن عقل وحرية فقد صارت ولية نفسها في النكاح فلا تبقى موليا عليها كالصبي العاقل إذا بلغ, والجامع أن ولاية الإنكاح إنما ثبتت للأب على الصغيرة بطريق النيابة عنها شرعا لكون النكاح تصرفا نافعا متضمنا مصلحة الدين والدنيا وحاجتها إليه حالا ومآلا وكونها عاجزة عن إحراز ذلك بنفسها, وكون الأب قادرا عليه وبالبلوغ عن عقل زال العجز حقيقة وقدرت على التصرف في نفسها حقيقة فتزول ولاية الغير عنها وتثبت الولاية لها؛ لأن النيابة الشرعية إنما تثبت بطريق الضرورة نظرا فتزول بزوال الضرورة مع أن الحرية منافية لثبوت الولاية للحر على الحر, وثبوت الشيء مع المنافي لا يكون إلا بطريق الضرورة ولهذا المعنى زالت الولاية عن إنكاح الصغير العاقل إذا بلغ, وتثبت الولاية له وهذا المعنى موجود في الفرع ولهذا زالت ولاية الأب عن التصرف في مالها, وتثبت الولاية لها كذا هذا وإذا صارت ولي نفسها في النكاح لا تبقى موليا عليها بالضرورة لما فيه من الاستحالة. وأما الآية: فالخطاب للأولياء بالإنكاح ليس يدل على أن الولي شرط جواز الإنكاح بل على وفاق العرف والعادة بين الناس فإن النساء لا يتولين النكاح بأنفسهن عادة لما فيه من الحاجة إلى الخروج إلى محافل الرجال وفيه نسبتهن إلى الوقاحة بل الأولياء هم الذين يتولون ذلك عليهن برضاهن فخرج الخطاب بالأمر بالإنكاح مخرج العرف والعادة على الندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب, والدليل عليه ما ذكر سبحانه وتعالى عقيبه وهو قوله تعالى {وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} ثم لم يكن الصلاح شرط الجواز ونظيره قوله تعالى {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} أو تحمل الآية الكريمة على إنكاح الصغار عملا بالدلائل كلها وعلى هذا يحمل قوله صلى الله عليه وسلم "لا يزوج النساء إلا الأولياء" أن ذلك على الندب والاستحباب. وكذا قوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بولي" مع ما حكي عن

 

ج / 2 ص -249-       بعض النقلة أن ثلاثة أحاديث لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعد من جملتها هذا ولهذا لم يخرج في الصحيحين على أنا نقول بموجب الأحاديث لكن لما قلتم أن هذا إنكاح بغير ولي بل المرأة ولية نفسها لما ذكرنا من الدلائل والله أعلم. وأما قوله صلى الله عليه وسلم "النكاح عقد ضرر" فممنوع بل هو عقد منفعة لاشتماله على مصالح الدين والدنيا من السكن والإلف والمودة والتناسل والعفة عن الزنا واستيفاء المرأة بالنفقة إلا أن هذه المصالح لا تحصل إلا بضرب ملك عليها إذ لو لم تكن لا تصير ممنوعة عن الخروج والبروز والتزويج بزوج آخر وفي الخروج والبروز فساد السكن؛ لأن قلب الرجل لا يطمئن إليها وفي التزوج بزوج آخر فساد الفراش؛ لأنها إذا جاءت بولد يشتبه النسب ويضيع الولد فالشرع ضرب عليها نوع ملك ضرورة حصول المصالح, فكان الملك وسيلة إلى المصالح والوسيلة إلى المصلحة مصلحة, وتسمية النكاح رقا بطريق التمثيل لا بطريق التحقيق لانعدام حقيقة الرق وقوله: "عقلها ناقص" قلنا هذا النوع من النقصان لا يمنع العلم بمصالح النكاح فلا يسلب أهلية النكاح ولهذا لا يسلب أهلية سائر التصرفات من المعاملات والديانات حتى يصح منها التصرف في المال على طريق الاستبداد وإن كانت تجري في التصرفات المالية خيانات خفية لا تدرك إلا بالتأمل, ويصح منها الإقرار بالحدود والقصاص ويؤخذ عليها الخطاب بالأيمان وسائر الشرائع فدل أن ما لها من العقل كاف والدليل عليه أنه اعتبر عقلها في اختيار الأزواج حتى لو طلبت من الولي أن يزوجها من كفء يفترض عليه التزويج حتى لو امتنع يصير عاضلا وينوب القاضي منابه في التزويج. وأما حديث عائشة رضي الله عنها فقد قيل: إن مداره على الزهري فعرض عليه فأنكره وهذا يوجب ضعفا في الثبوت, يحقق الضعف أن راوي الحديث عائشة رضي الله عنها ومن مذهبها: جواز النكاح بغير ولي والدليل عليه: ما روي أنها زوجت بنت أخيها عبد الرحمن من المنذر بن الزبير وإذا كان مذهبها في هذا الباب هذا فكيف تروي حديثا لا تعمل به؟ ولئن ثبت فنحمله على الأمة؛ لأنه روي في بعض الروايات: "أيما امرأة نكحت بغير إذن مواليها" دل ذكر الموالي على أن المراد من المرأة الأمة فيكون عملا بالدلائل أجمع وأما قول محمد: إن للولي حقا في النكاح فنقول: الحق في النكاح لها على الولي لا للولي عليها بدليل أنها تزوج على الولي إذا غاب غيبة منقطعة وإذا كان حاضرا يجبر على التزويج إذا أبى وعضل تزوج عليه, والمرأة لا تجبر على النكاح إذا أبت وأراد الولي فدل أن الحق لها عليه. ومن ترك حق نفسه في عقد له قبل غيره لم يوجب ذلك فساده على أنه إن كان للولي فيه ضرب حق لكن أثره في المنع من اللزوم إذا زوجت نفسها من غير كفء لا في المنع من النفاذ والجواز؛ لأن في حق الأولياء في النكاح من حيث صيانتهم عما يلحقهم من الشين والعار بنسبة عدا الكفء إليهم بالصهرية فإن زوجت نفسها من كفء فقد حصلت الصيانة فزال المانع من اللزوم فيلزم, وإن تزوجت من غير كفء ففي النفاذ إن كان ضرر بالأولياء وفي عدم النفاذ ضرر بها بإبطال أهليتها والأصل في الضررين إذا اجتمعا أن يدفعا ما أمكن وههنا أمكن دفعهما بأن نقول بنفاذ النكاح دفعا للضرر عنها وبعدم اللزوم وثبوت ولاية الاعتراض للأولياء دفعا للضرر عنهم, ولهذا نظير في الشريعة فإن العبد المشترك بين اثنين إذا كاتب أحدهما نصيبه فقد دفع الضرر عنه حتى لو أدى بدل الكتابة يعتق, ولكنه لم يلزمه حتى كان للشريك الآخر حق فسخ الكتابة قبل أداء البدل دفعا للضرر. وكذا العبد إذا أحرم بحجة أو بعمرة صح إحرامه حتى لو أعتق يمضي في إحرامه لكنه لم يلزمه حتى إن للمولى أن يحلله دفعا للضرر عنه وكذا للشفيع حق تملك الدار بالشفعة دفعا للضرر عن نفسه ثم لو وهب المشتري الدار نفذت هبته دفعا للضرر عنه لكنها لا تلزم حتى للشفيع حق قبض الهبة والأخذ بالشفعة دفعا للضرر عن نفسه كذا هذا.

"فصل": وأما شرط التقدم فشيئان. أحدهما: العصوبة عند أبي حنيفة, فتقدم العصبة على ذوي الرحم

 

 

ج / 2 ص -250-       سواء كانت العصبة أقرب أو أبعد, وعندهما هي شرط ثبوت أصل الولاية على ما مر. والثاني: قرب القرابة يتقدم الأقرب على الأبعد سواء كان في العصبات أو في غيرها على أصل أبي حنيفة وعلى أصلهما هذا شرط التقدم لكن في العصبات خاصة بناء على أن العصبات شرط ثبوت أصل الولاية عندهما وعنده هي شرط التقدم على غيرهم من القرابات فما دام ثمة عصبة فالولاية لهم يتقدم الأقرب منهم على الأبعد, وعند عدم العصبات تثبت الولاية لذوي الرحم الأقرب منهم يتقدم على الأبعد وإنما اعتبر الأقرب فالأقرب في الولاية؛ لأن هذه ولاية نظر, وتصرف الأقرب أنظر في حق المولى عليه؛ لأنه أشفق فكان هو أولى من الأبعد؛ ولأن القرابة إن كانت استحقاقها بالتعصيب كما قالا فالأبعد لا يكون عصبة مع الأقرب فلا يلي معه ولئن كان استحقاقها بالوراثة كما قال أبو حنيفة فالأبعد لا يرث مع الأقرب فلا يكون وليا معه وإذا عرف هذا فنقول: إذا اجتمع الأب والجد في الصغير والصغيرة والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة فالأب أولى من الجد أب الأب لوجود العصوبة والقرب, والجد أب الأب وإن علا أولى من الأخ لأب وأم, والأخ أولى من العم هكذا. وعند أبي يوسف ومحمد الجد والأخ سواء كما في الميراث فإن الأخ لا يرث مع الجد عنده فكان بمنزلة الأجنبي. وعندهما يشتركان في الميراث, فكانا كالأخوين وإن اجتمع الأب والابن في المجنونة فالابن أولى عند أبي يوسف. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي قول أبي حنيفة مع قول أبي يوسف وروى المعلى عن أبي يوسف أنه قال: أيهما زوج جاز وإن اجتمعا قلت للأب زوج. وقال محمد: الأب أولى به. "وجه" قوله: إن هذه الولاية تثبت نظرا للمولى عليه, وتصرف الأب أنظر لها لأنه أشفق عليها من الابن ولهذا كان هو أولى بالتصرف في مالها؛ ولأن الأب من قومها والابن ليس منهم ألا ترى أنه ينسب إلى أبيه؟ فكان إثبات الولاية عليها لقرابتها أولى. "وجه" قول أبي يوسف أن ولاية التزويج مبنية على العصوبة والأب مع الابن إذا اجتمعا فالابن هو العصبة والأب صاحب فرض فكان كالأخ لأم مع الأخ لأب وأم "وجه" رواية المعلى أنه وجد في كل واحد منهما ما هو سبب التقدم أما الأب: فلأنه من قومها وهو أشفق عليها وأما الابن: فلأنه يرثها بالتعصيب وكل واحد من هذين سبب التقدم فأيهما زوج جاز, وعند الاجتماع يقدم الأب تعظيما واحتراما له وكذلك إذا اجتمع الأب وابن الابن وإن سفل فهو على هذا الخلاف, والأفضل في المسألتين أن يفوض الابن الإنكاح إلى الأب احتراما للأب واحترازا عن موضع الخلاف, وعلى هذا الخلاف إذا اجتمع الجد والابن قال أبو يوسف: الابن أولى. وقال محمد: الجد أولى. والوجه من الجانبين على نحو ما ذكرنا فأما الأخ والجد: فهو على الخلاف الذي ذكرنا بين أبي حنيفة وصاحبيه. وأما من غير العصبات: فكل من يرث يزوج عند أبي حنيفة ومن لا فلا, وبيان من يرث منهم ومن لا يرث يعرف في كتاب الفرائض, ثم إنما يتقدم الأقرب على الأبعد إذا كان الأقرب حاضرا أو غائبا غيبة غير منقطعة فأما إذا كان غائبا غيبة منقطعة فللأبعد أن يزوج في قول أصحابنا الثلاثة, وعند زفر لا ولاية للأبعد مع قيام الأقرب بحال. وقال الشافعي: يزوجها السلطان. واختلف مشايخنا في ولاية الأقرب أنها تزول بالغيبة أو تبقى, قال بعضهم: إنها باقية إلا إن حدثت للأبعد ولاية لغيبة الأقرب فيصير كأن لها وليين مستويين في الدرجة كالأخوين والعمين. وقال بعضهم: تزول ولايته وتنتقل إلى الأبعد وهو الأصح. "وجه" قول زفر أن ولاية الأقرب قائمة لقيام سبب ثبوت الولاية وهو القرابة القريبة ولهذا لو زوجها حيث هو يجوز فقيام ولايته تمنع الانتقال إلى غيره والشافعي يقول: إن ولاية الأقرب باقية كما قال زفر إلا أنه امتنع دفع حاجتها من قبل الأقرب مع قيام ولايته عليها بسبب الغيبة فتثبت الولاية للسلطان كما إذا خطبها كفء وامتنع الولي من تزويجها منه أن للقاضي أن يزوجها, والجامع بينهما دفع الضرر عن الصغيرة. "ولنا" أن ثبوت الولاية للأبعد زيادة نظر في حق العاجز فتثبت له الولاية كما في الأب مع الجد إذا كانا حاضرين, ودلالة ما قلنا أن الأبعد أقدر على تحصيل النظر للعاجز

 

ج / 2 ص -251-       لأن مصالح النكاح مضمنة تحت الكفاءة والمهر ولا شك أن الأبعد متمكن من إحراز الكفء الحاضر بحيث لا يفوته غالبا, والأقرب الغائب غيبة منقطعة لا يقدر على إحرازه غالبا؛ لأن الكفء الحاضر لا ينتظر حضوره واستطلاع رأيه غالبا. وكذا الكفء المطلق؛ لأن المرأة تخطب حيث هي عادة فكان الأبعد أقدر على إحراز الكفء من الأقرب فكان أقدر على إحراز النظر فكان أولى بثبوت الولاية له إذ المرجوح في مقابلة الراجح ملحق بالعدم في الأحكام كما في الأب مع الجد. وأما قوله: "إن ولاية الأقرب قائمة" فممنوع ولا نسلم أنه يجوز إنكاحه, بل لا يجوز فولايته منقطعة بواحدة, وقد روي عن أصحابنا ما يدل على هذا فإنهم قالوا: إن الأقرب إذا كتب كتابا إلى الأبعد ليقدم رجلا في الصلاة على جنازة الصغير فإن للأبعد أن يمتنع عن ذلك. ولو كانت ولاية الأقرب قائمة لما كان له الامتناع كما إذا كان الأقرب حاضرا فقدم رجلا ليس للأبعد ولاية المنع, والمعقول يدل عليه وهو أن ثبوت الولاية لحاجة المولى عليه ولا مدفع لحاجته برأي الأقرب لخروجه من أن يكون منتفعا به بالغيبة فكان ملحقا بالعدم فصار كأنه جن أو مات إذ الموجود الذي لا ينتفع به, والعدم الأصلي سواء؛ ولأن القول بثبوت الولاية للأبعد مع ولاية الأقرب يؤدي إلى الفساد؛ لأن الأقرب ربما يزوجها من إنسان حيث هو ولا يعلم الأبعد بذلك فيزوجها من غيره فيطؤها الزوج الثاني ويجيء بالأولاد ثم يظهر أنها زوجة الأول وفيه من الفساد ما لا يخفى, ثم إن سلمنا على قول بعض المشايخ فلا تنافي بين الولايتين, فأيهما زوج جاز كما إذا كان لها أخوان أو عمان في درجة واحدة, وفيه كمال النظر في حق العاجز؛ لأن الكفء إن اتفق حيث الأبعد زوجها منه وإن اتفق حيث الأقرب زوجها منه فيكمل النظر إلا أن في حال الحضرة يرجح الأقرب باعتبار زيادة الشفقة لزيادة القرابة وبه تبين أن نقل الولاية إلى السلطان باطل؛ لأن السلطان ولي من لا ولي له, وههنا لها ولي أو وليان, فلا تثبت الولاية للسلطان إلا عند العضل من الولي ولم يوجد والله الموفق واختلفت الأقاويل في تحديد الغيبة المنقطعة وعن أبي يوسف روايتان في رواية قال: ما بين بغداد والري وفي رواية: مسيرة شهر فصاعدا وما دونه ليس بغيبة منقطعة. وعن محمد روايتان أيضا روي عنه ما بين الكوفة إلى الري, وروي عنه من الرقة إلى البصرة. وذكر ابن شجاع إذا كان غائبا في موضع لا تصل إليه القوافل والرسل في السنة إلا مرة واحدة فهو غيبة منقطعة, وإذا كانت القوافل تصل إليه في السنة غير مرة فليست بمنقطعة وعن الشيخ الإمام أبي بكر محمد بن الفضل البخاري أنه قال: إن كان الأقرب في موضع يفوت الكفء الخاطب باستطلاع رأيه فهو غيبة منقطعة, وإن كان لا يفوت فليست بمنقطعة, وهذا أقرب إلى الفقه لأن التعويل في الولاية على تحصيل النظر للمولى عليه ودفع الضرر عنه. وذلك فيما قاله هذا إذا اجتمع في الصغير والصغيرة والمجنون الكبير والمجنونة الكبيرة وليان أحدهما أقرب والآخر أبعد فأما إذا كانا في الدرجة سواء كالأخوين والعمين ونحو ذلك, فلكل واحد منهما على حياله أن يزوج رضي الآخر أو سخط بعد أن كان التزويج من كفء بمهر وافر, وهذا قول عامة العلماء وقال مالك: ليس لأحد الأولياء ولاية الإنكاح ما لم يجتمعوا بناء على أن هذه الولاية ولاية شركة عنده, وعندنا وعند العامة ولاية استبداد. "وجه" قوله: أن سبب هذه الولاية هو القرابة وأنها مشتركة بينهم فكانت الولاية مشتركة؛ لأن الحكم يثبت على وفق العلة وصار كولاية الملك فإن الجارية بين اثنين إذا زوجها أحدهما لا يجوز من غير رضا الآخر لما قلنا كذا هذا. "ولنا" أن الولاية لا تتجزأ؛ لأنها ثبتت بسبب لا يتجزأ وهو القرابة وما لا يتجزأ إذا ثبت بجماعة سبب لا يتجزأ يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأنه ليس معه غيره كولاية الأمان بخلاف ولاية الملك لأن سببها الملك وأنه متجزئ فيتقدر بقدر الملك فإن زوجها كل واحد من الوليين رجلا على حدة فإن وقع العقدان معا بطلا جميعا؛ لأنه لا سبيل إلى الجمع بينهما, وليس أحدهما أولى من الآخر, وإن وقعا مرتبا فإن كان لا يدرى السابق فكذلك لما قلنا, ولأنه لو جاز لجاز بالتجزي ولا يجوز العمل بالتجزيء في الفروج

 

ج / 2 ص -252-       وإن علم السابق منهما من اللاحق جاز الأول ولم يجز الآخر, وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نكح الوليان فالأول أحق" وأما إذا زوج أحد الأولياء الحرة البالغة العاقلة برضاها من غير كفء بغير رضا الباقين فحكمه يذكر إن شاء الله تعالى في شرائط اللزوم.

"فصل": وأما ولاية الولاء فسبب ثبوتها الولاء, قال النبي: صلى الله عليه وسلم "الولاء لحمة كلحمة النسب" ثم النسب سبب لثبوت الولاية كذا الولاء والولاء نوعان: ولاء عتاقة, وولاء موالاة, أما ولاء العتاقة: فولاية ولاء العتاقة نوعان: ولاية حتم وإيجاب, وولاية ندب واستحباب عند أبي حنيفة. وعند محمد ولاية استبداد وولاية شركة على ما بينا في ولاية القرابة. وشرط ثبوت هذه الولاية ما هو شرط ثبوت تلك الولاية إلا أن هذه الولاية اختصت بشرط وهو أن لا يكون للمعتق عصبة من جهة القرابة فإن كان فلا ولاية للمعتق؛ لأنه لا ولاء له لأن مولى العتاقة آخر العصبات وإن لم يكن ثمة عصبة من جهة القربة فله أن يزوج سواء كان المعتق ذكرا أو أنثى. وأما مولى الموالاة فله ولاية التزويج في قول أبي حنيفة عند استجماع سائر الشرائط وانعدام سائر الورثة؛ لأنه آخر الورثة. وعند أبي يوسف ومحمد ليس له ولاية التزويج أصلا ورأسا؛ لأن العصوبة شرط عندهما ولم توجد.

"فصل": وأما ولاية الإمامة فسببها الإمامة وولاية الإمامة نوعان أيضا كولاية القرابة وشرطها ما هو شرط تلك الولاية في النوعين جميعا ولها شرطان آخران أحدهما يعم النوعين جميعا وهو: أن لا يكون هناك ولي أصلا لقوله: صلى الله عليه وسلم "السلطان ولي من لا ولي له" والثاني يخص أحدهما وهو ولاية الندب والاستحباب أو ولاية الشركة على اختلاف الأصل وهو لعضل من الولي؛ لأن الحرة البالغة العاقلة إذا طلبت الإنكاح من كفء وجب عليه التزويج منه؛ لأنه منهي عن العضل, والنهي عن الشيء أمر بضده فإذا امتنع فقد أضر بها والإمام نصب لدفع الضرر فتنتقل الولاية إليه, وليس للوصي ولاية الإنكاح؛ لأنه يتصرف بالأمر فلا يعدو موضع الأمر كالوكيل وإن كان الميت أوصى إليه لا يملك أيضا؛ لأنه أراد بالوصاية إليه نقل ولاية الإنكاح وأنها لا تحتمل النقل حال الحياة كذا بعد الموت. وكذا الفضولي لانعدام سبب ثبوت الولاية في حقه أصلا, ولو أنكح ينعقد موقوفا على الإجازة عندنا, وعند الشافعي لا ينعقد أصلا والمسألة ستأتي في كتاب البيوع.

 

ج / 2 ص -253-       تكن زانية بدونها, ولأن الحاجة مست إلى دفع تهمة الزنا عنها ولا تندفع إلا بالشهود؛ لأنها لا تندفع إلا بظهور النكاح واشتهاره ولا يشتهر إلا بقول الشهود وبه تبين أن الشهادة في النكاح ما شرطت إلا في النكاح للحاجة إلى دفع الجحود والإنكار؛ لأن ذلك يندفع بالظهور والاشتهار لكثرة الشهود على النكاح بالسماع من العاقدين وبالتسامع وبهذا فارق سائر العقود فإن الحاجة إلى الشهادة هناك لدفع احتمال الشهود النسيان أو الجحود والإنكار في الثاني إذ ليس بعدها ما يشهرها ليندفع به الجحود فتقع الحاجة إلى الدفع بالشهادة فندب إليها, وما روي أنه نهى عن نكاح السر فنقول: بموجبه لكن نكاح السر ما لم يحضره شاهدان فأما ما حضره شاهدان فهو نكاح علانية لا نكاح سر إذ السر إذا جاوز اثنين خرج من أن يكون سرا قال الشاعر:

وسرك ما كان عند امرئ                            وسر الثلاثة غير الخفي

وكذلك قوله: صلى الله عليه وسلم "أعلنوا النكاح" لأنهما إذا أحضراه شاهدين فقد أعلناه وقوله: صلى الله عليه وسلم "ولو بالدف" ندب إلى زيادة علانة وهو مندوب إليه والله عز وجل الموفق.

"فصل": وأما صفات الشاهد الذي ينعقد به النكاح وهي شرائط تحمل الشهادة للنكاح فمنها: العقل ومنها البلوغ ومنها الحرية فلا ينعقد النكاح بحضرة المجانين والصبيان والمماليك قنا كان المملوك أو مدبرا أو مكاتبا. من مشايخنا من أصل في هذا أصلا فقال: كل من صلح أن يكون وليا في النكاح بولاية نفسه يصلح شاهدا فيه وإلا فلا وهذا الاعتبار صحيح؛ لأن الشهادة من باب الولاية؛ لأنها تنفيذ القول على الغير, والولاية هي نفاذ المشيئة وهؤلاء ليس لهم ولاية الإنكاح لأنه لا ولاية لهم على أنفسهم فكيف يكون لهم ولاية على غيرهم, إلا المكاتب فإنه يزوج أمته لكن لا بولاية نفسه بل بولاية مولاه بتسليطه على ذلك بعقد الكتابة وكأن التزويج من المولى من حيث المعنى فلا يصلح شاهدا, ومنهم من قال كل من يملك قبول عقد بنفسه ينعقد ذلك العقد بحضوره ومن لا فلا, وهذا الاعتبار صحيح أيضا؛ لأن الشهادة من شرائط ركن العقد, وركنه وهو الإيجاب والقبول, ولا وجود للركن بدون القبول فكما لا وجود للركن بدون القبول حقيقة لا وجود له شرعا بدون الشهادة, وهؤلاء لا يملكون قبول العقد بأنفسهم فلا ينعقد النكاح بحضورهم, والدليل على أنهم ليسوا من أهل الشهادة أن قاضيا لو قضى بشهادتهم ينفسخ قضاؤه عليه, وعن أبي يوسف رحمه الله أنه أصل فيه أصلا وقال: كل من جاز الحكم بشهادته في قول بعض الفقهاء ينعقد النكاح بحضوره ومن لا يجوز الحكم بشهادته عند أحد لا يجوز بحضوره وهذا الاعتبار صحيح أيضا؛ لأن الحضور لفائدة الحكم بها عند الأداء فإذا جاز الحكم بها في الجملة كان الحضور مفيدا ولا يجوز الحكم بشهادة هؤلاء عند البعض من الفقهاء ألا ترى أن قاضيا لو قضى بشهادتهم ينفسخ عليه قضاؤه.

"فصل": ومنها الإسلام في نكاح المسلم المسلمة فلا ينعقد نكاح المسلم المسلمة بشهادة الكفار؛ لأن الكافر ليس من أهل الولاية على المسلم قال الله تعالى {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} وكذا لا يملك الكافر قبول نكاح المسلم ولو قضى قاض بشهادته على المسلم ينقض قضاؤه. وأما المسلم إذا تزوج ذمية بشهادة ذميين فإنه يجوز في قول أبي حنيفة وأبي يوسف سواء كانا موافقين لها في الملة أو مخالفين وقال محمد وزفر والشافعي: لا يجوز نكاح المسلم الذمية بشهادة الذميين, أما الكلام مع الشافعي فهو مبني على أن شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض مقبولة على أصلنا وعلى أصله غير مقبولة. وأما الكلام مع محمد وزفر فإنهما احتجا بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" والمراد منه عدالة الدين لا عدالة التعاطي لإجماعنا على أن فسق التعاطي لا يمنع انعقاد النكاح, ولأن الإشهاد شرط جواز العقد والعقد يتعلق وجوده بالطرفين طرف الزوج وطرف المرأة ولم يوجد الإشهاد على الطرفين؛ لأن شهادة الكافر حجة في حق

 

ج / 2 ص -254-       الكافر ليست بحجة في حق المسلم فكانت شهادته في حقه ملحقة بالعدم فلم يوجد الإشهاد في جانب الزوج فصار كأنهما سمعا كلام المرأة دون كلام الرجل ولو كان كذلك لم يكن النكاح كذا هذا ولهما عمومات النكاح من الكتاب والسنة نحو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقوله {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} وقول النبي: صلى الله عليه وسلم "تزوجوا ولا تطلقوا" وقوله صلى الله عليه وسلم "تناكحوا" وغير ذلك مطلقا عن غير شرط, إلا أن أهل الشهادة وإسلام الشاهد صار شرطا في نكاح الزوجين المسلمين بالإجماع فمن ادعى كونه شرطا في نكاح المسلم الذمية فعليه الدليل. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بشهود" وروي "لا نكاح إلا بشاهدين" والاستثناء من النفي إثبات ظاهر وهذا نكاح بشهود؛ لأن الشهادة في اللغة عبارة عن الإعلام والبيان, والكافر من أهل الإعلام والبيان؛ لأن ذلك يقف على العقل واللسان والعلم بالمشهود به, وقد وجد إلا أن شهادته على المسلم خصت من عموم الحديث فبقيت شهادته للمسلم داخلة تحته؛ ولأن الشهادة من باب الولاية لما بينا, والكافر الشاهد يصلح وليا في هذا العقد بولاية نفسه ويصلح قابلا لهذا العقد بنفسه فيه صلح شاهدا. وكذا يجوز للقاضي الحكم بشهادته هذه للمسلم؛ لأنه محل الاجتهاد على ما نذكر ولو قضى لا ينفذ قضاؤه فينفذ النكاح بحضوره وأما الحديث فقد قيل: إنه ضعيف ولئن ثبت فنحمله على نفي الندب والاستحباب توفيقا بين الدلائل. وأما قوله: "العقد خلا عن الإشهاد في جانب الزوج؛ لأن شهادة الكافر ليست بحجة في حق المسلم" فنقول: شهادة الكافر إن لم تصلح حجة للكافر على المسلم فتصلح حجة للمسلم على الكافر؛ لأنها إنما لا تصلح حجة على المسلم؛ لأنها من باب الولاية وفي جعلها حجة على المسلم إثبات الولاية للكافر على المسلم, وهذا لا يجوز وهذا المعنى لم يوجد ههنا؛ لأنا إذا جعلناها حجة للمسلم ما كان فيه إثبات الولاية للكافر, وهذا جائز على أنا إن سلمنا قوله: ليس بحجة في حق المسلم لكن حضوره على أن قوله: حجة ليس بشرط لانعقاد النكاح فإنه ينعقد بحضور من لا تقبل شهادته عليه على ما نذكر إن شاء الله تعالى وهل يظهر نكاح المسلم الذمية بشهادة ذميين عند الدعوى؟ ينظر في ذلك, إن كانت المرأة هي المدعية للنكاح على المسلم, والمسلم منكر لا يظهر بالإجماع؛ لأن هذه شهادة الكافر على المسلم وإنها غير مقبولة وإن كان الزوج هو المدعي والمرأة منكرة فعلى أصل أبي حنيفة وأبي يوسف يظهر سواء قال الشاهدان: كان معنا عند العقد رجلان مسلمان أو لم يقولا ذلك واختلف المشايخ على أصل محمد قال بعضهم: يظهر كما قالا. وقال بعضهم: لا يظهر سواء قالا: كان معنا رجلان مسلمان أو لم يقولا ذلك, وهو الصحيح من مذهبه, ووجهه أن هذه شهادة قامت على نكاح فاسد وعلى إثبات فعل المسلم؛ لأنهما إن شهدا على نكاح حضراه فقط لا تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة على نكاح فاسد عنده وإن شهدا على أنهما حضراه ومعهما رجلان مسلمان لا تقبل أيضا؛ لأن هذه إن كانت شهادة الكافر على الكافر لكن فيها إثبات فعل المسلم فيكون شهادة على مسلم فلا تقبل كمسلم ادعى عبدا في يد ذمي فجحد الذمي دعوى المسلم وزعم أن العبد عبده فأقام المسلم بشاهدين ذميين على أن العبد عبده وقضى له به على هذا الذمي قاض فلا تقبل شهادتهما, وإن كان هذا شهادة الكافر على الكافر, لكن لما كان فيها إثبات فعل المسلم بشهادة الكافر وهو قضاء القاضي لم تقبل كذا هذا. "وجه" الكلام لأبي حنيفة وأبي يوسف على نحو ما ذكرنا في جانب الاعتقاد أن الشهادة من باب الولاية, وللكافر ولاية على الكافر ولو كان الشاهدان وقت التحمل كافرين ووقت الأداء مسلمين فشهدا للزوج فعلى أصلهما لا يشكل أنه تقبل شهادتهما؛ لأنهما لو كانا في الوقتين جميعا كافرين تقبل فههنا أولى واختلف المشايخ على أصل محمد قال بعضهم: تقبل. وقال بعضهم: لا تقبل فمن قال: تقبل نظر إلى وقت الأداء, ومن قال: لا تقبل نظر إلى وقت التحمل.

 

ج / 2 ص -255-       "فصل": ومنها سماع الشاهدين كلام المتعاقدين جميعا حتى لو سمعا كلام أحدهما دون الآخر أو سمع أحدهما كلام أحدهما والآخر كلام الآخر لا يجوز النكاح؛ لأن الشهادة أعني حضور الشهود شرط ركن العقد, وركن العقد هو الإيجاب والقبول فيما لم يسمعا كلامهما لا تتحقق الشهادة عن الركن فلا يوجد شرط الركن والله أعلم.

"فصل": ومنها العدد فلا ينعقد النكاح بشاهد واحد لقوله: صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بشهود" وقوله: "لا نكاح إلا بشاهدين" وأما عدالة الشاهد فليست بشرط لانعقاد النكاح عندنا فينعقد بحضور الفاسقين وعند الشافعي شرط, ولا ينعقد إلا بحضور من ظاهره العدالة, واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ولأن الشهادة خبر يرجح فيه جانب الصدق على جانب الكذب, والرجحان إنما يثبت بالعدالة, ولنا أن عمومات النكاح مطلقة عن شرط ثم اشتراط أصل الشهادة بصفاتها المجمع عليها ثبتت بالدليل فمن ادعى شرط العدالة فعليه البيان؛ ولأن الفسق لا يقدح في ولاية الإنكاح بنفسه لما ذكرنا في شرائط الولاية. وكذا يجوز للحاكم الحكم بشهادته في الجملة ولو حكم لا ينقض حكمه؛ لأنه محل الاجتهاد فكان من أهل تحمل الشهادة. والفسق لا يقدح في أهلية التحمل, وإنما يقدح في الأداء فيظهر أثره في الأداء لا في الانعقاد, وقد ظهر حتى لا يجب على القاضي القضاء بشهادته ولا يجوز أيضا إلا إذا تحرى القاضي الصدق في شهادته. وكذا كون الشاهد غير محدود في القذف ليس بشرط لانعقاد النكاح فينعقد بحضور المحدود في القذف غير أنه إن كان قد تاب بعد ما حد ينعقد النكاح بالإجماع, وإن كان لم يتب لا تقبل شهادته عندنا على التأبيد خلافا للشافعي؛ لأن كونه مردود الشهادة على التأبيد يقدح في الأداء لا في التحمل؛ ولأنه يصلح وليا في النكاح بولاية نفسه ويصح القبول منه بنفسه ويجوز القضاء بشهادته في الجملة فينعقد النكاح بحضوره, وإن حد ولم يتب أو لم يتب ولم يحد ينعقد عندنا خلافا للشافعي, وهي مسألة شهادة الفاسق. وكذا بصر الشاهد ليس بشرط فينعقد النكاح بحضور الأعمى لما ذكرنا؛ ولأن العمى لا يقدح إلا في الأداء لتعذر التمييز بين المشهود عليه وبين المشهود له, ألا ترى أنه لا يقدح في ولاية الإنكاح ولا في قبول النكاح بنفسه ولا في المنع من جواز القضاء بشهادته في الجملة فكان من أهل أن ينعقد النكاح بحضوره. وكذا ذكورة الشاهدين ليست بشرط عندنا وينعقد النكاح بحضور رجل وامرأتين عندنا وعند الشافعي شرط, ولا ينعقد إلا بحضور رجلين ونذكر المسألة في كتاب الشهادات. وكذا إسلام الشاهدين ليس بشرط في نكاح الكافرين فينعقد نكاح الزوجين الكافرين بشهادة كافرين وكذا تقبل شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض سواء اتفقت مللهم أو اختلفت, وهذا عندنا وعند الشافعي إسلام الشاهد شرط؛ لأنه ينعقد نكاح الكافر بشهادة الكافر, ولا تقبل شهادتهم أيضا والكلام في القبول نذكره في كتاب الشهادات ونتكلم ههنا في انعقاد النكاح بشهادته, واحتج الشافعي بالمروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل" ولا عدالة مع الكفر؛ لأن الكفر أعظم الظلم وأفحشه فلا يكون الكافر عدلا فلا ينعقد النكاح بحضوره, ولنا قوله: عليه الصلاة والسلام "لا نكاح إلا بشهود" وقوله: "لا نكاح إلا بشاهدين" والاستثناء من النفي إثبات من حيث الظاهر, والكفر لا يمنع كونه شاهدا لما ذكرنا وكذا لا يمنع أن يكون وليا في النكاح بولاية نفسه ولا قابلا للعقد بنفسه, ولا جواز للقضاء بشهادته في الجملة. وكذا كون شاهد النكاح مقبول الشهادة عليه ليس بشرط لانعقاد النكاح بحضوره, وينعقد النكاح بحضور من لا تقبل شهادته عليه أصلا كما إذا تزوج امرأة بشهادة ابنيه منها, وهذا عندنا وعند الشافعي لا ينعقد. "وجه" قوله: أن الشهادة في باب النكاح للحاجة إلى صيانته عن الجحود والإنكار, والصيانة لا تحصل إلا بالقبول فإذا لم يكن مقبول الشهادة لا تحصل الصيانة, ولنا أن

 

ج / 2 ص -256-       الاشتهار في النكاح لدفع تهمة الزنا لا لصيانة العقد عن الجحود والإنكار, والتهمة تندفع بالحضور من غير قبول, على أن معنى الصيانة يحصل بسبب حضورهما وإن كان لا تقبل شهادتهما؛ لأن النكاح يظهر ويشتهر بحضورهما, فإذا ظهر واشتهر تقبل الشهادة فيه بالتسامع فتحصل الصيانة. وكذا إذا تزوج امرأة بشهادة ابنيه لا منها أو ابنيها لا منه يجوز لما قلنا ثم عند وقوع الحجر والإنكار ينظر إن وقعت شهادتهما لواحد من الأبوين لا تقبل وإن وقعت عليه تقبل؛ لأن شهادة الابن لأبويه غير مقبولة وشهادتهما عليه مقبولة. ولو زوج الأب ابنته من رجل بشهادة ابنيه وهما أخوا المرأة فلا يشك أنه يجوز النكاح وإذا وقع الجحود بين الزوجين فإن كان الأب مع الجاحد منهما أيهما كان تقبل شهادتهما؛ لأن هذه شهادة على الأب فتقبل وإن كان الأب مع المدعي منهما أيهما كان لا تقبل شهادتهما عند أبي يوسف وعند محمد تقبل فأبو يوسف نظر إلى الدعوى والإنكار فقال: إذا كان الأب مع المنكر فشهادتهما تقع على الأب فتقبل, وإذا كان مع المدعي فشهادتهما تقع للأب؛ لأن التزويج كان من الأب فلا تقبل ومحمد نظر إلى المنفعة وعدم المنفعة فقال: إن كان للأب منفعة لا تقبل سواء كان مدعيا أو منكرا وإن لم يكن له منفعة تقبل. وههنا لا منفعة للأب فتقبل والصحيح نظر محمد؛ لأن المانع من القبول هو التهمة, وإنها تنشأ عن النفع, وكذلك هذا الاختلاف فيما إذا قال رجل لعبده: إن كلمك زيد فأنت حر ثم قال العبد كلمني زيد وأنكر المولى فشهد للعبد ابنا زيد أن أباهما قد كلمه والمولى ينكر تقبل شهادتهما في قول محمد سواء كان زيد يدعي الكلام أو لا يدعي؛ لأنه لا منفعة لزيد في الكلام وعند أبي يوسف إن كان زيد يدعي الكلام لا تقبل, وإن كان لا يدعي تقبل وكذلك هذا الاختلاف فيمن توكل عن غيره في عقد ثم شهد ابنا الوكيل على العقد فإن كان حقوق العقد لا ترجع إلى العاقد تقبل شهادتهما عند محمد سواء ادعى الوكيل أو لم يدع؛ لأنه ليس فيه منفعة. وعند أبي يوسف إن كان يدعي لا تقبل, وإن كان منكرا تقبل.

"فصل": وأما بيان وقت هذه الشهادة وهي حضور الشهود فوقتها وقت وجود ركن العقد وهو الإيجاب والقبول لا وقت وجود الإجازة حتى لو كان العقد موقوفا على الإجازة فحضروا عقد الإجازة ولم يحضروا عند العقد لم تجز؛ لأن الشهادة شرط ركن العقد فيشترط وجودها عند الركن, والإجازة ليست بركن, بل هي شرط النفاذ في العقد الموقوف وعند وجود الإجازة يثبت الحكم بالعقد من حين وجوده فتعتبر الشهادة في ذلك الوقت والله تعالى الموفق.

"فصل": ومنها أن تكون المرأة محللة وهي أن لا تكون محرمة على التأبيد فإن كانت محرمة على التأبيد فلا يجوز نكاحها؛ لأن الإنكاح إحلال, وإحلال المحرم على التأبيد محال والمحرمات على التأبيد ثلاثة أنواع :. محرمات بالقرابة ومحرمات بالمصاهرة ومحرمات بالرضاع. أما النوع الأول: فالمحرمات بالقرابة سبع فرق: الأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وبنات الأخ وبنات الأخت قال الله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ

 

ج / 2 ص -257-       أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ} الآية أخبر الله تعالى عن تحريم هذه المذكورات, فإما أن يعمل بحقيقة هذا الكلام حقيقة ويقال: بحرمة الأعيان كما هو مذهب أهل السنة والجماعة وهي "منع الله تعالى الأعيان عن تصرفنا فيها بإخراجها من أن تكون محلا لذلك شرعا, وهو التصرف الذي يعتاد إيقاعه في جنسها وهو الاستمتاع والنكاح. وإما أن يضمر فيه الفعل وهو الاستمتاع والنكاح في تحريم كل واحد منهما تحريم الآخر؛ لأنه إذا حرم الاستمتاع وهو المقصود بالنكاح لم يكن النكاح مفيدا لخلوه عن العاقبة الحميدة فكان تحريم الاستمتاع تحريما للنكاح, وإذا حرم النكاح وأنه شرع وسيلة إلى الاستمتاع, والاستمتاع هو المقصود فكان تحريم الوسيلة تحريما للمقصود بالطريق الأولى, وإذا عرف هذا فنقول: يحرم على الرجل أمه بنص الكتاب وهو قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} وتحرم عليه جداته من قبل أبيه وأمه وإن علون بدلالة النص؛ لأن الله تعالى حرم العمات والخالات وهن أولاد الأجداد والجدات, فكانت الجدات أقرب منهن فكان تحريمهن تحريما للجدات من طريق الأولى كتحريم التأفيف نصا يكون تحريما للشتم والضرب دلالة, وعليه إجماع الأمة أيضا وتحرم عليه بناته بالنص وهو قوله تعالى{وَبَنَاتُكُمْ} سواء كانت بنته من النكاح أو من السفاح لعموم النص وقال الشافعي: لا تحرم عليه البنت من السفاح؛ لأن نسبها لم يثبت منه فلا تكون مضافة إليه شرعا فلا تدخل تحت نص الإرث والنفقة في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} وفي قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ} كذا ههنا؛ ولأنا نقول: بنت الإنسان اسم لأنثى مخلوقة من مائه حقيقة, والكلام فيه فكانت بنته حقيقة إلا أنه لا تجوز الإضافة شرعا إليه لما فيه من إشاعة الفاحشة, وهذا لا ينفي النسبة الحقيقية؛ لأن الحقائق لا مرد لها وهكذا نقول في الإرث والنفقة: إن النسبة الحقيقية ثابتة إلا أن الشرع اعتبر هناك ثبوت النسب شرعا لجريان الإرث والنفقة لمعنى. ومن ادعى ذلك ههنا فعليه البيان. وتحرم بنات بناته وبنات أبنائه وإن سفلن بدلالة النص؛ لأنهن أقرب من بنات الأخ وبنات الأخت ومن الأخوات أيضا؛ لأن الأخوات أولاد أبيه وهن أولاد أولاده فكان ذكر الحرمة هناك ذكرا للحرمة ههنا دلالة وعليه إجماع الأمة أيضا, وتحرم عليه أخواته وعماته وخالاته بالنص وهو قوله عز وجل: {وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالاتُكُمْ} سواء كن لأب وأم أو لأب أو لأم لإطلاق اسم الأخت والعمة والخالة, ويحرم عليه عمة أبيه وخالته لأب وأم أو لأب أو لأم, وعمة أمه وخالته لأب وأم أو لأب أو لأم بالإجماع. وكذا عمة جده وخالته وعمة خالته وخالتها لأب وأم أو لأب أو لأم تحرم بالإجماع, وتحرم عليه بنات الأخ وبنات الأخت بالنص, وهو قوله تعالى: {وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ} وبنات بنات الأخ والأخت وإن سفلن بالإجماع ومنهم من قال: إن حرمة الجدات وبنات البنات ونحوهن ممن ذكرنا يثبت بالنص أيضا؛ لانطلاق الاسم عليهن فإن جدة الإنسان تسمى أما له, وبنت بنته تسمى بنتا له فكانت حرمتهن ثابتة بعين النص, لكن هذا لا يصح إلا على قول من يقول: يجوز أن يراد الحقيقة والمجاز من لفظ واحد إذا لم يكن بين حكميهما منافاة؛ ; لأن إطلاق اسم الأم على الجدة وإطلاق اسم البنت على بنت البنت بطريق المجاز ألا ترى أن من نفى اسم الأم والبنت عنهما كان صادقا في النفي, وهذا من العلامات التي يفرق بها بين الحقيقة والمجاز, وقد ظهر أمر هذه التفرقة في الشرع أيضا حتى إن من قال لرجل: لست أنت بابن فلان لجده لا يصير قاذفا له حتى لا يؤخذ بالحد؛ ولأن نكاح هؤلاء يفضي إلى قطع الرحم؛ لأن النكاح لا يخلو عن مباسطات تجري بين الزوجين عادة وبسببها تجري الخشونة بينهما, وذلك يفضي إلى قطع الرحم فكان النكاح سببا لقطع الرحم مفضيا إليه, وقطع الرحم حرام والمفضي إلى الحرام حرام, وهذا المعنى يعم الفرق السبع؛ لأن قرابتهن محرمة القطع واجبة الوصل, ويختص الأمهات بمعنى آخر, وهو أن احترام الأم وتعظيمها واجب, ولهذا أمر الولد بمصاحبة الوالدين بالمعروف وخفض الجناح لهما والقول الكريم ونهي عن التأفيف لهما فلو جاز النكاح والمرأة تكون تحت أمر الزوج, وطاعته وخدمته مستحقة عليها للزمها ذلك وأنه ينفي الاحترام فيؤدي إلى التناقض وتحل له بنت العمة والخالة وبنت العم والخال؛ لأن الله تعالى ذكر المحرمات في آية التحريم ثم أخبر سبحانه وتعالى أنه أحل ما وراء ذلك بقوله: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وبنات الأعمام والعمات والأخوال والخالات لم يذكرن في المحرمات فكن مما وراء ذلك فكن محللات. وكذا عمومات النكاح لا توجب الفصل ثم خص عنها المحرمات المذكورات في آية التحريم فبقي غيرهن تحت العموم, وقد ورد نص خاص في الباب, وهو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ} إلى قوله عز وجل: {وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ} الآية والأصل فيما يثبت للنبي صلى الله عليه وسلم أن يثبت لأمته, والخصوص بدليل والله الموفق.

 

ج / 2 ص -258-       "فصل": وأما النوع الثاني فالمحرمات بالمصاهرة أربع فرق. الفرقة الأولى: أم الزوجة وجداتها من قبل أبيها وأمها وإن علون فيحرم على الرجل أم زوجته بنص الكتاب العزيز وهو قوله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} معطوفا على قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} سواء كان دخل بزوجته أو كان لم يدخل بها عند عامة العلماء. وقال مالك وداود الأصفهاني ومحمد بن شجاع البلخي وبشر المريسي: إن أم الزوجة لا تحرم على الزوج بنفس العقد ما لم يدخل ببنتها حتى إن من تزوج امرأة ثم طلقها قبل الدخول بها أو ماتت لا يجوز له أن يتزوج أمها عند عامة العلماء وعندهم يجوز. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن عمر وعلي وابن عباس وزيد بن ثابت وعمران بن حصين رضي الله عنهم مثل قول العامة. وروي عن عبد الله بن مسعود وجابر رضي الله عنهما مثل قولهم وهو إحدى الروايتين عن علي وزيد بن ثابت وعن زيد بن ثابت أنه فصل بين الطلاق والموت قال: في الطلاق مثل قولهما وفي الموت مثل قول العامة وجعل الموت كالدخول؛ لأنه بمنزلة الدخول في حق المهر وكذا في حق التحريم, احتجوا بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} ذكر أمهات النساء وعطف ربائب النساء عليهن في التحريم بحرف العطف ثم عقب الجملتين بشرط الدخول. والأصل أن الشرط المذكور والاستثناء بمشيئة الله تعالى عقيب جمل معطوف بعضها على بعض بحرف العطف كل جملة مبتدأ وخبره ينصرف إلى الكل لا إلى ما يليه خاصة كمن قال: عبده حر وامرأته طالق وعليه حج بيت الله تعالى إن فعل كذا أو قال: إن شاء الله تعالى فهذا كذلك فينصرف شرط الدخول إلى الجملتين جميعا فلا تثبت الحرمة بدونه ولنا قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} كلام تام بنفسه منفصل عن المذكور بعده؛ لأنه مبتدأ وخبر إذ هو معطوف على ما تقدم ذكره من قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} إلى قوله عز وجل: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} والمعطوف يشارك المعطوف عليه في خبره ويكون خبر الأول خبرا للثاني كقوله: جاءني زيد وعمرو معناه جاءني عمرو فكان معنى قوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ} أي: وحرمت عليكم أمهات نسائكم وأنه مطلق عن شرط الدخول فمن ادعى أن الدخول المذكور في آخر الكلمات منصرف إلى الكل فعليه الدليل. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا نكح الرجل امرأة ثم طلقها قبل أن يدخل بها فله أن يتزوج ابنتها وليس له أن يتزوج الأم" وهذا نص في المسألتين, وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده رضي الله عنهم قال: قال رسول الله: صلى الله عليه وسلم "أيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا بأس أن يتزوج بنتها, وأيما رجل تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها أو ماتت عنده فلا يحل له أن يتزوج أمها" وهذا نص في المسألتين, وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية الكريمة: أبهموا ما أبهم الله تعالى أي: أطلقوا ما أطلق الله تعالى وكذا روي عن عمران بن حصين أنه قال: الآية مبهمة أي مطلقة لا يفصل بين الدخول وعدمه وما روي عن ابن مسعود رضي الله عنه فقد روي الرجوع عنه فإنه روي أنه أفتى بذلك في الكوفة فلما أتى المدينة ولقي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذاكرهم رجع إلى القول بالحرمة حتى روي أنه لما أتى الكوفة نهى من كان أفتاه بذلك فقيل: إنها ولدت أولادا فقال: إنها وإن ولدت ولأن هذا النكاح يفضي إلى قطع الرحم؛ لأنه إذا طلق بنتها وتزوج بأمها حملها ذلك على الضغينة التي هي سبب القطيعة فيما بينهما, وقطع الرحم حرام فما أفضى إليه يكون حراما لهذا المعنى حرم الجمع بين المرأة وبنتها وبين المرأة وأمها وبين عمتها وخالتها على ما نذكر إن شاء الله تعالى بخلاف جانب الأم حيث لا تحرم بنتها بنفس العقد على الأم؛ لأن إباحة النكاح هناك لا تؤدي إلى القطع؛ لأن الأم في ظاهر العادات تؤثر بنتها على نفسها في الحظوظ والحقوق, والبنت لا تؤثر أمها على نفسها معلوم ذلك بالعادة. وإذا جاء الدخول تثبت الحرمة؛ لأنه تأكدت مودتها لاستيفائها حظها فتلحقها الغضاضة فيؤدي إلى القطع؛ ولأن الحرمة

 

ج / 2 ص -259-       تثبت بالدخول بالإجماع, والعقد على البنت سبب الدخول بها, والسبب يقوم مقام المسبب في موضع الاحتياط, ولهذا تثبت الحرمة بنفس العقد في منكوحة الأب وحليلة الابن, كان ينبغي أن تحرم الربيبة بنفس العقد على الأم إلا أن شرط الدخول هناك عرفناه بالنص فبقي الحكم في الآية على أصل القياس. "وأما" قولهم: إن الشرط المذكور في آخر كلمات معطوف بعضها على بعض والاستثناء بمشيئة الله تعالى ملحق بالكل فنقول: هذا الأصل مسلم في الاستثناء بمشيئة الله تعالى والشرط المصرح به فأما في الصفة الداخلة على المذكور في آخر الكلام فممنوع, بل يقتصر على ما يليه فإنك تقول: جاءني زيد ومحمد العالم فتقتصر صفة العلم على الذي يليه دون زيد وقوله عز وجل: {اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} وصف إياهن بالدخول بهن لا شرط, من ادعى إلحاق الوصف بالشرط فعليه الدليل على أنه يحتمل أن يكون بمعنى الشرط فيلحق الكل, ويحتمل أن لا يكون فيقتصر على ما يليه فلا يلحق بالشك والاحتمال, وإذا وقع الشك والشبهة فيه, فالقول لما فيه الحرمة أولى احتياطا على أن هذه الصفة إن كانت في معنى الشرط لكن اللفظ متى قرن به شرط أو صفة لإثبات حكم يقتضي وجوده عند وجوده إما لا يقتضي عدمه عند عدمه, بل عدمه ووجوده عند عدم الشرط والصفة يكون موقوفا على قيام الدليل وفي نفس هذه الآية الكريمة ما يدل عليه فإنه قال عز وجل {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} ولو كان التقييد بالوصف نافيا الحكم في غير الموصوف لكان ذلك القدر كافيا, ونحن نقول بحرمة الأم عند الدخول بالربيبة وبحرمة الربيبة عند الدخول بالأم بظاهر الآية الكريمة, وليس فيها نفي الحرمة عند عدم الدخول ولا إثباتها فيقف على قيام الدليل وقد قام الدليل على حرمة الأم بدون الدخول ببنتها وهو ما ذكرنا فتثبت الحرمة, ولم يقم الدليل على حرمة الربيبة قبل الدخول بالأم فلا تثبت الحرمة والله عز وجل أعلم. وأما جدات الزوجة من قبل أبيها وأمها فإنها عرفت حرمتهن بالإجماع ولما ذكرنا من المعنى في الأمهات لا بعين النص إلا على قول من يجيز اشتمال اللفظ الواحد على الحقيقة والمجاز عند عدم التنافي بين حكميهما على ما ذكرنا ثم إنما تحرم الزوجة وجداتها بنفس العقد إذا كان صحيحا فأما إذا كان فاسدا فلا تثبت الحرمة بالعقد بل بالوطء أو ما يقوم مقامه من المس عن شهوة والنظر إلى الفرج عن شهوة على ما نذكر؛ لأن الله تعالى حرم على الزوج أم زوجته مضافا إليه, والإضافة لا تنعقد إلا بالعقد الصحيح فلا تثبت الحرمة إلا به والله الموفق.

"فصل": وأما الفرقة الثانية: فبنت الزوجة وبناتها وبنات بناتها وبنيها وإن سفلن. أما بنت زوجته فتحرم عليه بنص الكتاب العزيز إذا كان دخل بزوجته فإن لم يكن دخل بها فلا تحرم لقوله: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُنَاحَ} وسواء كانت بنت زوجته في حجره أو لا عند عامة العلماء. وقال بعض الناس: لا تحرم عليه إلا أن تكون في حجره ويروى ذلك عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه نصا لظاهر الآية, قوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ} حرم الله عز وجل بنت الزوجة, وبوصف كونها في حجر زوج فيتقيد التحريم بهذا الوصف ألا ترى أنه لما أضافها إلى الزوجة يقيد التحريم به حتى لا يحرم على ربيبته غير الزوجة كذا هذا, ولنا أن التنصيص على حكم الموصوف لا يدل على أن الحكم في غير الموصوف بخلافه, إذ التنصيص لا يدل على التخصيص فتثبت حرمة بنت زوجة الرجل التي دخل بأمها وهي في حجره بهذه الآية, وإذا لم تكن في حجره تثبت حرمتها بدليل آخر وهو كون نكاحها مفضيا إلى قطيعة الرحم سواء كانت في حجره أو لم تكن على ما بينا فيما تقدم إلا أن الله تعالى ذكر الحجر بناء على أن عرف الناس وعادتهم أن الربيبة تكون في حجر زوج أمها عادة فأخرج الكلام مخرج العادة كما في قوله عز وجل: {وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ} وقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ونحو ذلك. وأما بنات بنات الربيبة

 

ج / 2 ص -260-       "فصل": وأما الفرقة الثالثة فحليلة الابن من الصلب وابن الابن وابن البنت وإن سفل فتحرم على الرجل حليلة ابنه من صلبه بالنص وهو قوله عز وجل: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} وذكر الصلب جاز أن يكون لبيان الخاصية وإن لم يكن الابن إلا من الصلب لقوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} وإن كان الطائر لا يطير إلا بجناحيه وجاز أن يكون لبيان القسمة والتنويع؛ لأن الابن قد يكون من الصلب وقد يكون من الرضاع وقد يكون بالتبني أيضا على ما ذكر في سبب نزول الآية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما تزوج امرأة زيد بن حارثة بعد ما طلقها زيد وكان ابنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالتبني فعابه المنافقون على ذلك, وقالوا: إنه تزوج بحليلة ابنه فنزل قوله تعالى: {وَحَلائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ} وكذلك قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً} ولأن حليلة الابن لو لم تحرم على الأب فإذا طلقها الابن ربما يندم على ذلك ويريد العود إليها فإذا تزوجها أبوه أورث ذلك الضغينة بينهما. والضغينة تورث القطيعة, وقطع الرحم حرام فيجب أن يحرم حتى لا يؤدي إلى الحرام ولهذا حرمت منكوحة الأب على الابن كذا هذا سواء كان دخل بها الابن أو لم يدخل بها؛ لأن النص مطلق عن شرط الدخول والمعنى لا يوجب الفصل أيضا على ما ذكرنا؛ ولأن العقد سبب إلى الدخول والسبب يقام مقام المسبب في موضع الاحتياط على ما مر, وحليلة ابن الابن وابن البنت وإن سفل تحرم بالإجماع أو بما ذكرنا من المعنى لا بعين النص؛ لأن ابن الابن يسمى ابنا مجازا لا حقيقة فإذا صارت الحقيقة مرادة لم يبق المجاز مرادا لنا إلا على قول من يقول: إنه يجوز أن يرادا من لفظ واحد والله الموفق.

وبنات أبنائها وإن سفلن فتثبت حرمتهن بالإجماع وبما ذكرنا من المعنى المعقول لا بعين النص إلا على قول من يرى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد عند إمكان العمل بهما.

"فصل": وأما الفرقة الرابعة فمنكوحة الأب وأجداده من قبل أبيه وإن علوا,. أما منكوحة الأب: فتحرم بالنص وهو قوله: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والنكاح يذكر ويراد به العقد وسواء كان الأب دخل بها أو لا؛ لأن اسم النكاح يقع على العقد والوطء فتحرم بكل واحد منهما على ما نذكر؛ ولأن نكاح منكوحة الأب يفضي إلى قطيعة الرحم؛ لأنه إذا فارقها أبوه لعله يندم فيريد أن يعيدها فإذا نكحها الابن أوحشه ذلك وأورث الضغينة, وذلك سبب التباعد بينهما وهو تفسير قطيعة الرحم وقطع الرحم حرام فكان النكاح سر سبب الحرام وأنه تناقض فيحرم دفعا للتناقض الذي هو أثر السفه والجهل جل الله تعالى عنهما. وأما منكوحة أجداده فتحرم بالإجماع وبما ذكرنا من المعنى لا بعين النص إلا على قول من يرى الجمع بين الحقيقة والمجاز في لفظ واحد عند عدم النافي ثم حرمة المصاهرة تثبت بالعقد الصحيح وتثبت بالوطء الحلال بملك اليمين حتى إن من وطئ جاريته تحرم عليه أمها وابنتها وجداتها وإن علون وبنات بناتها وإن سفلن وتحرم هي على أب الواطئ وابنه وعلى أجداد أجداد الواطئ وإن علوا, وعلى أبناء أبنائه وإن سفلوا. وكذا تثبت بالوطء في النكاح الفاسد وكذا بالوطء عن شبهة بالإجماع, وتثبت باللمس فيهما عن شهوة وبالنظر إلى فرجها عن شهوة عندنا ولا تثبت بالنظر إلى سائر الأعضاء بشهوة ولا بمس سائر الأعضاء إلا عن شهوة بلا خلاف. وتفسير الشهوة هي أن يشتهي بقلبه ويعرف ذلك بإقراره؛ لأنه باطن لا وقوف عليه لغيره, وتحرك الآلة وانتشارها هل هو شرط تحقيق الشهوة؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: شرط. وقال بعضهم: ليس بشرط هو الصحيح؛ لأن المس والنظر عن شهوة يتحقق بدون ذلك كالعنين والمجبوب ونحو ذلك. وقال الشافعي: لا تثبت حرمة المصاهرة بالنظر وله في المس قولان, وتثبت حرمة المصاهرة بالزنا والمس والنظر بدون النكاح والملك وشبهته. وعند الشافعي لا تثبت الحرمة بالزنا فأولى أن لا تثبت بالمس والنظر بدون الملك, احتج الشافعي بقوله تعالى: {وَرَبَائِبُكُمُ

 

ج / 2 ص -261-       اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} حرم الربائب المضافة إلى نسائنا المدخولات وإنما تكون المرأة مضافة إلينا بالنكاح فكان الدخول بالنكاح شرط ثبوت الحرمة, وهذا دخول بلا نكاح فلا تثبت به الحرمة ولا تثبت بالنظر أيضا؛ لأنه ليس بمعنى الدخول ألا ترى أنه لا يفسد به الصوم ولا يجب به شيء في الإحرام, وكذلك اللمس في قول وفي قول يثبت لأنه استمتاع بها من وجه فكان بمعنى الوطء؛ ولهذا حرم بسبب الإحرام كما حرم الوطء. وروي عن عائشة رضي الله عنها "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يتبع المرأة حراما أينكح ابنتها؟ أو يتبع البنت حراما أينكح أمها؟ فقال: لا يحرم الحرام الحلال إنما يحرم ما كان نكاحا حلالا" والتحريم بالزنا تحريم الحرام الحلال ولنا قوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} والنكاح يستعمل في العقد والوطء فلا يخلو إما أن يكون حقيقة لهما على الاشتراك وإما أن يكون حقيقة لأحدهما مجازا للآخر وكيف ما كان يجب القول بتحريمهما جميعا إذ لا تنافي بينهما كأنه قال عز وجل: {وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} عقدا ووطئا وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من نظر إلى فرج امرأة لم تحل له أمها ولا ابنتها" وروي "حرمت عليه أمها وابنتها" وهذا نص في الباب؛ لأنه ليس فيه ذكر النكاح. وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها" ولو لم يكن النظر الأول محرما للثاني وهو النظر إلى فرج ابنتها لم يلحقه اللعن؛ لأن النظر إلى فرج المرأة المنكوحة نكاحا صحيحا مباح فكيف يستحق اللعن؟ فإذا ثبتت الحرمة بالنظر فبالدخول أولى وكذا باللمس؛ لأن النظر دون اللمس في تعلق الأحكام بهما ألا ترى أنه يفسد الصوم بالإنزال عن المس ولا يفسد بالإنزال عن النظر إلى الفرج وفي الحج يلزمه بالمس عن شهوة الدم أنزل أو لم ينزل ولا يلزمه شيء بالنظر إلى الفرج عن شهوة أنزل أو لم ينزل, فلما ثبتت الحرمة بالنظر فبالمس أولى؛ ولأن الحرمة إنما تثبت بالنكاح لكونه سببا داعيا إلى الجماع إقامة للسبب مقام المسبب في موضع الاحتياط كما أقيم النوم المفضي إلى الحدث مقام الحدث في انتقاض الطهارة احتياطا لأمر الصلاة, والقبلة والمباشرة في التسبب والدعوة أبلغ من النكاح فكان أولى بإثبات الحرمة؛ ولأن الوطء الحلال إنما كان محرما للبنت بمعنى هو موجود هنا وهو أنه يصير جامعا بين المرأة وبنتها في الوطء من حيث المعنى؛ لأن وطء إحداهما يذكره وطء الأخرى فيصير كأنه قاض وطره منهما جميعا, ويجوز أن يكون هذا معنى قول النبي: صلى الله عليه وسلم "ملعون من نظر إلى فرج امرأة وابنتها" وهذا المعنى موجود في الوطء الحرام. وأما الآية الكريمة فلا حجة له فيها بل هي حجة عليه؛ لأنها تقتضي حرمة ربيبته التي هي بنت امرأته التي دخل بها مطلقا سواء دخل بها بعد النكاح أو قبله بالزنا. واسم الدخول يقع على الحلال والحرام أو يحتمل أن يكون المراد الدخول بعد النكاح ويحتمل أن يكون قبله فكان الاحتياط هو القول بالحرمة وإذا احتمل هذا واحتمل هذا فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال على أن في هذه الآية إثبات الحرمة بالدخول في النكاح, وهذا ينفي الحرمة بالدخول بلا نكاح فكان هذا احتجاجا بالمسكوت عنه وإنه لا يصح على أن في هذه الآية حجتنا على إثبات الحرمة بالمس؛ لأنه ذكر الدخول بهن وحقيقة الدخول بالشيء عبارة عن إدخاله في العورة إلى الحصن فكان الدخول بها هو إدخالها في الحصن, وذلك بأخذ يدها أو شيء منها ليكون هو الداخل بها. فأما بدون ذلك, فالمرأة هي الداخلة بنفسها فدل أن المس موجب للحرمة أو يحتمل الوطء ويحتمل المس فيجب القول بالحرمة احتياطا. وأما الحديث فقد قيل: إنه ضعيف ثم هو خبر واحد مخالف للكتاب ولئن ثبت فنقول بموجبه لأن المذكور فيه هو الاتباع لا الوطء واتباعها أن يراودها عن نفسها وذا لا يحرم عندنا إذ المحرم هو الوطء ولا ذكر له في الحديث والله عز وجل الموفق "وأما" النوع الثالث وهو المحرمات بالرضاعة. فموضع بيانها كتاب الرضاع فكل من حرم لقرابة من الفرق السبع الذين وصفهم الله تعالى يحرم بالرضاعة إلا أن الله تعالى بين

 

ج / 2 ص -262-       المحرمات بالقرابة بيان إبلاغ وبين المحرمات بالرضاعة بيان كفاية حيث لم يذكر على التصريح والتنصيص إلا الأمهات والأخوات بقوله تعالى: {وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ} ليعلم حكم غير المذكور بطريق الاجتهاد بالاستدلال. ووجه الاستدلال نذكره في كتاب الرضاع إن شاء الله تعالى والأصل فيه قوله: صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب", وعليه الإجماع أيضا. وكذا كل من يحرم ممن ذكرنا من الفرق الأربع بالمصاهرة يحرم بالرضاع, فيحرم على الرجل أم زوجته وبنتها من الرضاع إلا أن الأم تحرم بنفس العقد إذا كان صحيحا, والبنت لا تحرم إلا بالدخول بالإحرام. وكذا جدات الزوجة لأبيها وأمها, وإن علون وبنات بناتها وبنات أبنائها وإن سفلن من الرضاع. وكذا يحرم حليلة ابن الرضاع وابن ابن الرضاع, وإن سفل على أبي الرضاع وأبي أبيه وتحرم منكوحة أبي الرضاع وأبي أبيه, وإن علا على ابن الرضاع وابن ابنه وإن سفل وكذا يحرم بالوطء أم الموطوءة وبنتها من الرضاع على الواطئ. وكذا جداتها وبنات بناتها وتحرم الموطوءة على أبي الواطئ وابنه من الرضاع. وكذا على أجداده وإن علوا وعلى أبناء أبنائه وإن سفلوا سواء كان الوطء حلالا بأن كان يملك اليمين أو كان الوطء بنكاح فاسد أو شبهة نكاح أو كان زنا, والأصل أنه يحرم بسبب الرضاع ما يحرم بسبب النسب وسبب المصاهرة إلا في مسألتين يختلف فيهما حكم المصاهرة والرضاع نذكرهما في كتاب الرضاع إن شاء الله تعالى

"فصل": ومنها أن لا يقع نكاح المرأة التي يتزوجها جمعا بين ذوات الأرحام ولا بين أكثر من أربع نسوة في الأجنبيات. وجملة الكلام في الجمع أن الجمع في الأصل نوعان: جمع بين ذوات الأرحام وجمع بين الأجنبيات, أما. الجمع بين ذوات الأرحام فنوعان: أيضا جمع في النكاح وجمع في الوطء ودواعيه بملك اليمين, أما. الجمع بين ذوات الأرحام في النكاح فنقول: لا خلاف في أن الجمع بين الأختين في النكاح حرام؛ لقوله تعالى: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} معطوفا على قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}, ولأن الجمع بينهما يفضي إلى قطيعة الرحم؛ لأن العداوة بين الضرتين ظاهرة, وأنها تفضي إلى قطيعة الرحم, وقطيعة الرحم حرام فكذا المفضي, وكذا الجمع بين المرأة وبنتها لما قلنا بل أولى؛ لأن قرابة الولاد مفترضة الوصل بلا خلاف, واختلف في الجمع بين ذواتي رحم محرم سوى هذين الجمعين بين امرأتين لو كانت إحداهما رجلا لا يجوز له نكاح الأخرى من الجانبين جميعا أيتهما كانت غير عين كالجمع بين امرأة وعمتها, والجمع بين امرأة وخالتها ونحو ذلك. قال عامة العلماء: لا يجوز وقال عثمان البتي: الجمع فيما سوى الأختين وسوى المرأة وبنتها ليس بحرام, واحتج بقوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} ذكر المحرمات. وذكر فيما حرم الجمع بين الأختين, وأحل ما وراء ذلك, والجمع فيما سوى الأختين لم يدخل في التحريم فكان داخلا في الإحلال إلا أن الجمع بين المرأة وبنتها حرم بدلالة النص؛ لأن قرابة الولاد أقوى, فالنص الوارد ثمة يكون واردا ههنا من طريق الأولى, ولنا الحديث المشهور, وهو ما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ولا على ابنة أخيها ولا على ابنة أختها", وزاد في بعض الروايات "لا الصغرى على الكبرى ولا الكبرى على الصغرى" الحديث أخبر أن من تزوج عمة ثم بنت أخيها أو خالة ثم بنت أختها لا يجوز, ثم أخبر أنه إذا تزوج بنت الأخ أولا ثم العمة أو بنت الأخت أولا ثم الخالة لا يجوز أيضا لئلا يشكل أن حرمة الجمع يجوز أن تكون مختصة بأحد الطرفين دون الآخر كنكاح الأمة على الحرة أنه لا يجوز, ويجوز نكاح الحرة على الأمة؛ ولأن الجمع بين ذواتي رحم محرم في النكاح سبب لقطيعة الرحم؛ لأن الضرتين يتنازعان ويختلفان ولا يأتلفان هذا أمر معلوم بالعرف والعادة, وذلك يفضي إلى قطع الرحم, وأنه حرام, والنكاح سبب فيحرم حتى لا يؤدي إليه, وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم في آخر الحديث فيما روي أنه قال: "إنكم لو فعلتم ذلك لقطعتم أرحامهن" وروي في بعض الروايات

 

ج / 2 ص -263-       "فإنهن يتقاطعن ", وفي بعضها "أنه يوجب القطيعة ". وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الجمع بين القرابة في النكاح, وقالوا: إنه يورث الضغائن. وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه كره الجمع بين بنتي عمين, وقال: لا أحرم ذلك لكن أكرهه أما الكراهة فلمكان القطيعة, وأما عدم الحرمة, فلأن القرابة بينهما ليست بمفترضة الوصل. أما الآية فيحتمل أن يكون معنى قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} أي: ما وراء ما حرمه الله تعالى, والجمع بين المرأة وعمتها وبنتها وبين خالتها مما قد حرمه الله تعالى على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي غير متلو على أن حرمة الجمع بين الأختين معلولة بقطع الرحم, والجمع ههنا يفضي إلى قطع الرحم, فكانت حرمة ثابتة بدلالة النص فلم يكن ما وراء ما حرم في آية التحريم, ويجوز الجمع بين امرأة وبنت زوج كان لها من قبل, أو بين امرأة وزوجة كانت لأبيها وهما واحد؛ لأنه لا رحم بينهما فلم يوجد الجمع بين ذواتي رحم. وقال زفر وابن أبي ليلى: لا يجوز؛ لأن البنت لو كانت رجلا لكان لا يجوز له أن يتزوج الأخرى؛ لأنها منكوحة أبيه فلا يجوز الجمع بينهما كما لا يجوز الجمع بين الأختين, وإنا نقول: الشرط أن تكون الحرمة ثابتة من الجانبين جميعا, وهو أن يكون كل واحدة منهما أيتهما كانت بحيث لو قدرت رجلا لكان لا يجوز له نكاح الأخرى, ولم يوجد هذا الشرط؛ لأن الزوجة منهما لو كانت رجلا لكان يجوز له أن يتزوج الأخرى؛ لأن الأخرى لا تكون بنت الزوج فلم تكن الحرمة ثابتة من الجانبين فجاز الجمع بينهما كالجمع بين الأختين ولو تزوج الأختين معا فسد نكاحهما؛ لأن نكاحهما حصل جمعا بينهما في النكاح وليست إحداهما بفساد النكاح بأولى من الأخرى فيفرق بينه وبينهما, ثم إن كان قبل الدخول فلا مهر لهما ولا عدة عليهما؛ لأن النكاح الفاسد لا حكم له قبل الدخول, وإن كان قد دخل بهما فلكل واحدة منهما العقر وعليهما العدة؛ لأن هذا حكم الدخول في النكاح الفاسد على ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه. وإن تزوج إحداهما بعد الأخرى جاز نكاح الأولى, وفسد نكاح الثانية ولا يفسد نكاح الأولى لفساد نكاح الثانية؛ لأن الجمع حصل بنكاح الثانية فاقتصر الفساد عليه ويفرق بينه وبين الثانية فإن كان لم يدخل بها فلا مهر ولا عدة, وإن كان دخل بها فلها المهر وعليها العدة لما بينا, ولا يجوز له أن يطأ الأولى ما لم تنقض عدة الثانية لما نذكر إن شاء الله تعالى وإن تزوج أختين في عقدتين لا يدري أيتهما أولى لا يجوز له التحري بل يفرق بينه وبينهما؛ لأن نكاح إحداهما فاسد بيقين وهي مجهولة ولا يتصور حصول مقاصد النكاح من المجهولة فلا بد من التفريق ثم إن ادعت كل واحدة منهما أنها هي الأولى ولا بينة لها يقضى لها بنصف المهر؛ لأن النكاح الصحيح أحدهما, وقد حصلت الفرقة قبل الدخول لا بصنع المرأة فكان الواجب نصف المهر, ويكون بينهما لعدم الترجيح إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى. وروي عن أبي يوسف أنه لا يلزم الزوج شيء, وروي عن محمد أنه يجب عليه المهر كاملا, وإن قالتا لا ندري أيتنا الأولى لا يقضى لهما بشيء؛ لكون المدعية منهما مجهولة إلا إذا اصطلحت على شيء فحينئذ يقضى لها, وكذلك المرأة وعمتها وخالتها في جميع ما وصفنا, وكما لا يجوز للرجل أن يتزوج امرأة في نكاح أختها لا يجوز له أن يتزوجها في عدة أختها, وكذلك التزوج بامرأة هي ذات رحم محرم من امرأة بعقد منه, والأصل أن ما يمنع صلب النكاح من الجمع بين ذواتي المحارم فالعدة تمنع منه. وكذا لا يجوز له أن يتزوج أربعا من الأجنبيات, والخامسة تعتد منه سواء كانت العدة من طلاق رجعي أو بائن أو ثلاث أو بالمحرمية الطارئة بعد الدخول, أو بالدخول في نكاح فاسد أو بالوطء في شبهة, وهذا عندنا وقال الشافعي: رحمه الله يجوز إلا في عدة من طلاق رجعي وروي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم مثل قولنا نحو

 

ج / 2 ص -264-       علي وعبد الله بن عباس وزيد بن ثابت رضي الله عنهم "وجه" قوله: إن المحرم هو الجمع بين الأختين في النكاح, والنكاح قد زال من كل وجه؛ لوجود المزيل له وهو الطلاق الثلاث أو البائن ولهذا لو وطئها بعد الطلاق الثلاث مع العلم بالحرمة لزمه الحد فلم يتحقق الجمع في النكاح فلا تثبت الحرمة, ولنا أن ملك الحبس بالعقد قائم, فإن الزوج يملك منعها من الخروج والبروز, وحرمة التزوج بزوج آخر ثابتة والفراش قائم حتى لو جاءت بولد إلى سنتين من وقت الطلاق, وقد كان قد دخل بها يثبت النسب, فلو جاز النكاح لكان النكاح جمعا بين الأختين في هذه الأحكام, فيدخل تحت النص, ولأن هذه أحكام النكاح؛ لأنها شرعت وسيلة إلى أحكام النكاح فكان النكاح قائما من وجه ببقاء بعض أحكامه, والثابت من وجه ملحق بالثابت من وجه في باب الحرمة احتياطا ألا ترى أنه ألحقت الأم والبنت من وجه بالرضاعة بالأم والبنت من كل وجه بالقرابة, وألحقت المنكوحة من وجه وهي المعتدة بالمنكوحة من كل وجه في حرمة النكاح كذا هذا؛ ولأن الجمع قبل الطلاق إنما حرم؛ لكونه مفضيا إلى قطيعة الرحم, لأنه يورث الضغينة, وإنها تفضي إلى القطيعة, والضغينة ههنا أشد؛ لأن معظم النعمة وهو ملك الحل الذي هو سبب اقتضاء الشهوة قد زال في حق المعتدة, وبنكاح الثانية يصير جميع ذلك لها وتقوم مقامها وتبقى هي محرومة الحظ للحال من الأزواج فكانت الضغينة أشد فكانت أدعى إلى القطيعة بخلاف ما بعد انقضاء العدة؛ لأن هناك لم يبق شيء من علائق الزوج الأول فكان لها سبيل الوصول إلى زوج آخر فتستوفي حظها من الثاني فتسلى به فلا تلحقها الضغينة, أو كانت أقل منه في حال قيام العدة فلا يستقيم الاستدلال. ولو خلا بامرأته ثم طلقها لم يتزوج أختها حتى تنقضي عدتها؛ لأنه وجبت عليها العدة بالخلوة فيمنع نكاح الأخت كما لو وجبت بالدخول حقيقة.

"فصل": وأما الجمع في الوطء بملك اليمين فلا يجوز عند عامة الصحابة مثل عمر وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم وروي عن عثمان رضي الله عنه أنه قال: "كل شيء حرمه الله تعالى من الحرائر حرمه الله تعالى من الإماء إلا الجمع" أي: الجمع في الوطء بملك اليمين. وروي أن رجلا سأل عثمان رضي الله عنه عن ذلك فقال: "ما أحب أن أحله ولكن أحلتهما آية, وحرمتهما آية, وأما أنا فلا أفعله" فخرج الرجل من عنده فلقي عليا فذكر له ذلك فقال: لو أن لي من الأمر شيئا لجعلت من فعل ذلك نكالا. وقول عثمان: رضي الله عنه "أحلتهما آية وحرمتهما آية" عنى بآية التحليل قوله عز وجل: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وبآية التحريم قوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} وذلك منه إشارة إلى تعارض دليلي الحل والحرمة فلا تثبت الحرمة مع التعارض, ولعامة الصحابة رضي الله عنهم الكتاب العزيز والسنة, أما الكتاب فقوله عز وجل: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} والجمع بينهما في الوطء جمع فيكون حراما. وأما السنة فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجمعن ماءه في رحم أختين". وأما قول عثمان: رضي الله عنه "أحلتهما آية وحرمتهما آية" فالأخذ بالمحرم أولى عند التعارض احتياطا للحرمة؛ لأنه يلحقه المأثم بارتكاب المحرم, ولا مأثم في ترك المباح؛ ولأن الأصل في الأبضاع هو الحرمة والإباحة بدليل, فإذا تعارض دليل الحل والحرمة تدافعا فيجب العمل بالأصل, وكما لا يجوز الجمع بينهما في الوطء لا يجوز في الدواعي من اللمس والتقبيل والنظر إلى الفرج عن شهوة؛ لأن الدواعي إلى الحرام حرام إذا عرف هذا, فنقول: إذا ملك أختين فله أن يطأ إحداهما؛ لأن الأمة لا تصير فراشا بالملك, وإذا وطئ إحداهما ليس له أن يطأ الأخرى بعد ذلك؛ لأنه لو وطئ لصار جامعا بينهما

 

ج / 2 ص -265-       في الوطء حقيقة. وكذا إذا ملك جارية فوطئها ثم ملك أختها كان له أن يطأ الأولى لما قلنا, وليس له أن يطأ الأخرى بعد ذلك ما لم يحرم فرج الأولى على نفسه إما بالتزويج أو بالإخراج عن ملكه بالإعتاق أو بالبيع أو بالهبة أو بالصدقة؛ لأنه لو وطئ الأخرى لصار جامعا بينهما في الوطء حقيقة, وهذا لا يجوز ولو كاتبها يحل له وطء الأخرى في ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف أنه قال: لا يحل؛ لأنه بالكتابة لم يملك وطأها غيره. وقال في هذه الرواية أيضا: إنه لو ملك فرج الأولى غيره لم يكن له أن يطأ الأخرى حتى تحيض الأولى حيضة بعد وطئها لجواز أن تكون حاملا فيكون جامعا ماءه في رحم أختين فيستبرئها بحيضة حتى يعلم أنها ليست بحامل "وجه" ظاهر الرواية أنه حرم فرجها على المولى بالكتابة ألا ترى أنه لو وطئها لزمه العقر ولو وطئت بشبهة أو نكاح كان المهر لها لا للمولى, فلا يصير بوطء الأخرى جامعا بينهما في الوطء. ولو تزوج جارية ولم يطأها حتى ملك أختها, فليس له أن يطأ المشتراة؛ لأن الفراش يثبت بنفس النكاح, ولأن ملك النكاح يقصد به الوطء والولد فصارت المنكوحة موطوءة حكما, فلو وطئ المشتراة لصار جامعا بينهما في الوطء. ولو كانت في ملكه جارية قد وطئها ثم تزوج أختها وتزوج أخت أم ولده جاز النكاح عند عامة العلماء, ولكن لا يطأ الزوجة ما لم يحرم فرج الأمة التي في ملكه أو أم ولده. وقال مالك: لا يجوز النكاح "وجه" قوله: إن النكاح بمنزلة الوطء بدليل أنه به النسب كالوطء, وبدليل أنه لا يجوز له أن يطأ المملوكة ههنا بعد نكاح أختها فلو لم يكن بمنزلة الوطء لجاز, وإذا كان النكاح بمنزلة الوطء يصير بالنكاح جامعا لما بينا في الوطء, وأنه لا يجوز, ولنا أن النكاح ليس بوطء حقيقة وليس بمنزلة الوطء أيضا؛ لأن النكاح يلاقي الأجنبية, ولا يجوز وطء الأجنبية فلا يكون نكاحها جامعا بينهما في الوطء إلا أن النكاح إذا انعقد يجعل الوطء موجودا حكما بعد الانعقاد لما أن الحكم المختص بالنكاح هو الوطء, وثمرته المطلوبة منه الولد, ولا حصول له عادة بدون الوطء فجعله الشارع حكما واطئا بعد انعقاد النكاح وألحق الولد بالفراش فلو وطئ المملوكة لصار جامعا بينهما وطئا؛ ولأن الأمة لا تصير فراشا بنفس الوطء عندنا حتى لا يثبت النسب بدون الدعوة, فلا يكون نكاح أختها جمعا بينهما في الفراش فلا يمنع منه, وأم الولد فراشها ضعيف حتى ينتفي نسب ولده بمجرد قوله, وهو مجرد النفي من غير لعان. وكذا يحتمل النقل إلى غيره فلا يتحقق النكاح جمعا بينهما في الفراش مطلقا فلا يمنع نسب ولده بمجرد قوله وهو مجرد النفي من غير لعان, والله عز وجل أعلم ولا يجوز أن يتزوج أخت أم ولده التي تعتد منه بأنه أعتقها ووجبت عليها العدة في قول أبي حنيفة رحمه الله ويجوز أن تتزوج أربعا في عدتها وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز كلاهما وقال زفر: لا يجوز كلاهما "وجه" قوله: إن هذه معتدة, فلا يجوز التزوج بأختها وأربع سواها كالحرة المعتدة "وجه" قولهما: إن الحرمة في الحرة لمكان الجمع بينهما في النكاح من وجه ولم يوجد في أم الولد لانعدام النكاح أصلا؛ ولأن العدة في أم الولد أثر فراش الملك, وحقيقة الفراش فيها لا يمنع النكاح حتى لو تزوج أخت أم ولده وأربع نسوة قبل أن يعتقها جاز, فإذا لم يكن فراش الملك حقيقة مانعا فأثره أولى أن لا يمنع, ولأبي حنيفة أنه إنما جاز نكاح أخت أم الولد قبل الإعتاق؛ لضعف فراشها على ما بينا فإذا أعتقها قوي فراشها, فكان نكاح أختها جمعا بينهما في الفراش وهو استلحاق نسب ولديها, ولا يجوز استلحاق نسب ولد أختين في زمان واحد, ولهذا لو تزوج أخت أم ولده لا يحل له وطء المنكوحة حتى يزيل فراش أم الولد ونكاح الأربع وإن كان جمعا بينهن وبينها في الفراش, لكن الجمع ههنا في الفراش جائز ألا ترى أنه جاز قبل الإعتاق فإنه إذا تزوج أربعا قبل الإعتاق يحل له وطؤهن ووطء أم الولد, فكذا بعد الإعتاق والله عز وجل أعلم

"فصل": وأما الجمع بين الأجنبيات فنوعان أيضا: جمع في النكاح وجمع في الوطء ودواعيه بملك اليمين, أما. الجمع في النكاح فنقول: لا يجوز للحر أن يتزوج أكثر من أربع زوجات من الحرائر والإماء عند عامة العلماء. وقال بعضهم: يباح له الجمع بين التسع. وقال بعضهم: يباح له الجمع بين ثمانية عشر واحتجوا بظاهر قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ}. فالأولون قالوا: إن الله تعالى ذكر هذه الأعداد بحرف الواو, وأنه للجمع, وجملتها تسعة, فيقتضي إباحة نكاح تسع واستدلوا أيضا بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه تزوج

 

ج / 2 ص -266-       تسع نسوة وهو قدوة الأمة, والآخرون قالوا: المثنى ضعف الاثنين, والثلاث ضعف الثلاثة, والرباع ضعف الأربعة فجملتها ثمانية عشر. ولنا ما روي "أن رجلا أسلم وتحته ثمان نسوة فأسلمن فقال له رسول الله: صلى الله عليه وسلم اختر منهن أربعة وفارق البواقي" أمره صلى الله عليه وسلم بمفارقة البواقي ولو كانت الزيادة على الأربع حلالا لما أمره فدل أنه منتهى العدد المشروع وهو الأربع ولأن في الزيادة على الأربع خوف الجور عليهن بالعجز عن القيام بحقوقهن؛ لأن الظاهر أنه لا يقدر على الوفاء بحقوقهن وإليه وقعت الإشارة بقوله عز وجل: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} أي: أن لا تعدلوا في القسم والجماع والنفقة في نكاح المثنى والثلاث والرباع فواحدة بخلاف نكاح رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن خوف الجور منه غير موهوم؛ لكونه مؤيدا على القيام بحقوقهن بالتأبيد الإلهي, فكان ذلك من الآيات الدالة على نبوته؛ لأنه آثر الفقر على الغنى والضيق على السعة وتحمل الشدائد والمشاق على الهوينا من العبادات والأمور الثقيلة, وهذه الأشياء أسباب قطع الشهوات والحاجة إلى النساء, ومع ذلك كان يقوم بحقوقهن دل أنه صلى الله عليه وسلم إنما قدر على ذلك بالله تعالى. وأما الآية فلا يمكن العمل بظاهرها؛ لأن المثنى ليس عبارة عن الاثنين ولا الثلاث عن الثلاث والرباع عن الأربع, بل أدنى ما يراد بالمثنى مرتان من هذا العدد, وأدنى ما يراد بالثلاث ثلاث مرات من العدد. وكذا الرباع, وذلك يزيد على التسعة وثمانية عشر, ولا قائل به دل أن العمل بظاهر الآية متعذر فلا بد لها من تأويل, ولها تأويلان: أحدهما: أن يكون على التخيير بين نكاح الاثنين والثلاث والأربع كأنه قال عز وجل: مثنى أو ثلاث أو رباع واستعمال الواو مكان أو جائز, والثاني: أن يكون ذكر هذه الأعداد على التداخل, وهو أن قوله: "وثلاث" تدخل فيه المثنى, وقوله عز وجل: ورباع يدخل فيه الثلاث كما في قوله: {أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ} ثم قال عز وجل: {جَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ} واليومان الأولان داخلان في الأربع؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان خلق هذه الجملة في ستة أيام, ثم أخبر عز وجل أنه خلق السموات في يومين بقوله عز وجل: {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ} فيكون خلق الجميع في ثمانية أيام, وقد أخبر الله تعالى أنه خلق السموات والأرض في ستة أيام فيؤدي إلى الخلف في خبر من يستحيل عليه الخلف, فكان على التداخل, فكذا ههنا جاز أن يكون العدد الأول داخلا في الثاني والثاني في الثالث, فكان في الآية إباحة نكاح الأربع, ولا يجوز للعبد أن يتزوج أكثر من اثنين لما روينا من الحديث وذكرنا من المعنى فيما تقدم.

"فصل": وأما الجمع في الوطء ودواعيه بملك اليمين فجائز, وإن كثرت الجواري لقوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} أي: إن خفتم أن لا تعدلوا في نكاح المثنى والثلاث والرباع بإيفاء حقوقهن فانكحوا واحدة, وإن خفتم أن لا تعدلوا في واحدة فمما ملكت أيمانكم كأنه قال سبحانه وتعالى: هذا أو هذا, أي: الزيادة على الواحدة إلى الأربع عند القدرة على المعادلة وعند خوف الجور في ذلك الواحدة من الحرائر وعند خوف الجور في نكاح الواحدة هو شراء الجواري والتسري بهن, وذلك قوله عز وجل: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} ذكره مطلقا عن شرط العدد وقال تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} من غير شرط العدد وقال عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} مطلقا, ولأن حرمة الزيادة على الأربع في الزوجات لخوف الجور عليهن في القسم والجماع, ولم يوجد هذا المعنى في الإماء؛ لأنه لا حق لهن قبل المولى في القسم والجماع.

"فصل": ومنها أن لا يكون تحته حرة هو شرط جواز نكاح الأمة فلا يجوز نكاح الأمة على الحرة, والأصل فيه ما روي عن علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تنكح الأمة على الحرة" وقال علي: رضي الله عنه "وتنكح الحرة على الأمة وللحرة الثلثان من القسم وللأمة الثلث" ولأن الحرية

 

ج / 2 ص -267-       تنبئ عن الشرف والعزة وكمال الحال, فنكاح الأمة على الحرة إدخال على الحرة من لا يساويها في القسم, وذلك يشعر بالاستهانة وإلحاق الشين ونقصان الحال وهذا لا يجوز, وسواء كان المتزوج حرا أو عبدا عندنا؛ لأن ما روينا من الحديث وذكرنا من المعنى لا يوجب الفصل. وعند الشافعي يجوز للعبد أن يتزوج أمة على حرة بناء على أن عدم الجواز للحر عنده؛ لعدم شرط الجواز وهو عدم طول الحرة, وهذا شرط جواز نكاح الأمة عنده في حق الحر لا في حق العبد لما نذكر إن شاء الله تعالى وكذا خلو الحرة عن العدة شرط جواز نكاح الأمة عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يجوز أن يتزوج أمة على حرة تعتد من طلاق بائن أو ثلاث "وجه" قولهما: أن المحرم ليس هو الجمع بين الحرة والأمة بدليل أنه لو تزوج أمة ثم تزوج حرة جاز, وقد حصل الجمع, وإنما المحرم هو نكاح الأمة على الحرة. وقال: صلى الله عليه وسلم "لا تنكح الأمة على الحرة" ولا يتحقق النكاح عليها بعد البينونة ألا ترى أنه لو حلف لا يتزوج على امرأته فتزوج بعدما أبانها في عدتها لا يحنث ولأبي حنيفة أن نكاح الأمة في عدة الحرة نكاح عليها من وجه؛ لأن بعض آثار النكاح قائم فكان النكاح قائما من وجه, فكان نكاحها عليها من وجه, والثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في باب الحرمات احتياطا فيحرم كنكاح الأخت في عدة الأخت ونحو ذلك مما بينا فيما تقدم. وأما عدم طول الحرة وهو القدرة على مهر الحرة وخشية العنت فليس من شرط جواز نكاح الأمة عند أصحابنا, والحاصل أن من شرائط جواز نكاح الأمة عند أبي حنيفة أن لا يكون في نكاح المتزوج حرة ولا في عدة حرة. وعندهما خلو الحرة عن عدة البينونة ليس بشرط؛ لجواز نكاح الأمة, وعند الشافعي من شرائط جواز نكاح الأمة أن لا يكون في نكاحه حرة وأن لا يكون قادرا على مهر الحرة وأن يخشى العنت حتى إذا كان في ملكه أمة يطؤها بملك اليمين جاز له أن يتزوج أمة عندنا, وعنده لا يجوز لعدم خشية العنت, وكذلك الحر يجوز له أن يتزوج أكثر من أمة واحدة عندنا, وعنده إذا تزوج أمة واحدة لا يجوز له أن يتزوج أمة أخرى؛ لزوال خشية العنت بالواحدة, ولا خلاف في أن طول الحرة لا يمنع العبد من نكاح الأمة احتج الشافعي بقوله تعالى: {مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} ومن "كلمة شرط فقد جعل الله عز وجل العجز عن طول الحرة شرطا لجواز نكاح الأمة, فيتعلق الجواز به كما في قوله تعالى: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} ونحو ذلك. وقال تعالى: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} وهو الزنا شرط سبحانه وتعالى خشية العنت؛ لجواز نكاح الأمة, فيتقيد الجواز بهذا الشرط أيضا, ولأن جواز نكاح الإماء في الأصل ثبت بطريق الضرورة لما يتضمن نكاحهن من إرقاق الحر؛ لأن ماء الحر حر تبعا له, وكان في نكاح الحر الأمة إرقاق حر جزءا وإلى هذا أشار عمر رضي الله عنه فيما روي عنه أنه قال ""أيما حر تزوج أمة فقد أرق نصفه وأيما عبد تزوج حرة فقد أعتق نصفه" ولا يجوز إرقاق الجزء من غير ضرورة, ولهذا إذا كان تحته حرة لا يجوز نكاح الأمة, وهذا لأن الإرقاق إهلاك؛ لأنه يخرج به من أن يكون منتفعا به في حق نفسه ويصير ملحقا بالبهائم, وهلاك الجزء من غير ضرورة لا يجوز كقطع اليد ونحو ذلك ولا ضرورة حالة القدرة على طول الحرة, فبقي الحكم فيها على هذا الأصل. ولهذا لم يجز إذا كانت حرة لارتفاع الضرورة بالحرة بخلاف ما إذا كان المتزوج عبدا؛ لأن نكاحه ليس إرقاق الحر؛ لأن ماءه رقيق تبعا له, وإرقاق الرقيق لا يتصور ولنا عمومات النكاح نحو قوله تعالى: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ} وقوله عز وجل: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} من غير فصل بين حال القدرة على مهر الحرة وعدمها, ولأن النكاح عقد مصلحة في الأصل؛ لاشتماله على المصالح الدينية والدنيوية, فكان الأصل فيه هو الجواز إذا صدر من الأهل في المحل وقد وجدوا الآية, ففيها إباحة نكاح الأمة عند عدم طول الحرة, وهذا لا ينفي الإباحة عند وجود

 

ج / 2 ص -268-       الطول, فالتعليق بالشرط عندنا يقتضي الوجود عند وجود الشرط إما لا يقتضي العدم عند عدمه قال الله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً} ثم إذا تزوج واحدة جاز, وإن كان لا يخاف الجور في نكاح المثنى والثلاث والرباع. وقال تعالى في الإماء: {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ} وهذا لا يدل على نفي الحد عنهن عند عدم الإحصان, وهو التزوج, وهو الجواب عن قوله عز وجل: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ} على أن العنت يذكر ويراد به الضيق كقوله عز وجل: {وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لاعْنَتَكُمْ} أي: لضيق عليكم, أي: من يضيق عليه النفقة والإسكان لترك الحرة بالطلاق وتزوج الأمة فالطول المذكور يحتمل أن يراد به القدرة على المهر ويحتمل أن يراد به القدرة على الوطء؛ لأن النكاح يذكر ويراد به الوطء بل حقيقة الوطء على ما عرف فكان معناه فمن لم يقدر منكم على وطء المحصنات وهي الحرائر والقدرة على وطء الحرة إنما يكون في النكاح, ونحن نقول به: إن من لم يقدر على وطء الحرة بأن لم يكن في نكاحه حرة يجوز له نكاح الأمة. ومن قدر على ذلك بأن كان في نكاحه حرة لا يجوز له نكاح الأمة, ونقل هذا التأويل عن علي رضي الله عنه فلا يكون حجة مع الاحتمال على أن فيها إباحة نكاح الأمة عند عدم طول الحرة, وهذا تقديم وتأخير في الجواب عن التعليق بالآية. وأما قوله: نكاح الأمة يتضمن إرقاق الحر؛ لأن ماء الحر حر فنقول: إن عنى به إثبات حقيقة الرق فهذا لا يتصور؛ لأن الماء جماد لا يوصف بالرق والحرية وإن عنى به النسب إلى حدوث رق الولد, فهذا مسلم لكن أثر هذا في الكراهة لا في الحرية, فإن نكاح الأمة في حال طول الحرة في حق العبد جائز بالإجماع, وإن كان نكاحها مباشرة سبب حدوث الرق عندنا, فكره نكاح الأمة مع طول الحرة. ولو تزوج أمة وحرة في عقدة واحدة جاز نكاح الحرة وبطل نكاح الأمة؛ لأن كل واحدة منهما على صاحبتها مدخولة عليها فيعتبر حالة الاجتماع بحال الانفراد فيجوز نكاح الحرة؛ لأن نكاحها على الأمة حالة الانفراد جائز, فكذا حالة الاجتماع ويبطل نكاح الأمة؛ لأن نكاحها على الحرة وإدخالها عليها لا يجوز حالة الانفراد, فكذا عند الاجتماع بخلاف ما إذا تزوج أختين في عقدة واحدة لأن المحرم هناك هو الجمع بين الأختين, والجمع حصل بهما فبطل نكاحهما, وهاهنا المحرم هو إدخال الأمة على الحرة لا الجمع ألا ترى أنه لو كان نكاح الأمة متقدما على نكاح الحرة جاز نكاح الحرة, وإن وجد الجمع فكذلك إذا اقترن الأمران, والله عز وجل أعلم. وكذلك إذا جمع بين أجنبية وذات محارمه جاز نكاح الأجنبية, وبطل نكاح المحرم, ويعتبر حالة الاجتماع بحالة الانفراد, وهل ينقسم المهر عليهما؟ في قول أبي حنيفة؟ لا ينقسم ويكون كله للأجنبية وعندهما ينقسم المسمى على قدر مهر مثلها.

"فصل": ومنها أن لا تكون منكوحة الغير, لقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} معطوفا على قوله عز وجل: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} وهن ذوات الأزواج, وسواء كان زوجها مسلما أو كافرا إلا المسبية التي هي ذات زوج سبيت وحدها؛ لأن قوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ} عام في جميع ذوات الأزواج ثم استثنى تعالى منها المملوكات بقوله تعالى: {إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والمراد منها المسبيات اللاتي سبين, وهن ذوات الأزواج ليكون المستثنى من جنس المستثنى منه فيقتضي حرمة نكاح كل ذات زوج إلا التي سبيت كذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في هذه الآية: كل ذات زوج إتيانها زنا إلا ما سبيت والمراد منه التي سبيت وحدها وأخرجت إلى دار الإسلام؛ لأن الفرقة ثبتت بتباين الدارين عندنا لا بنفس السبي على ما نذكر إن شاء الله تعالى وصارت هي في حكم الذمية؛ ولأن اجتماع رجلين على امرأة واحدة يفسد الفراش؛ لأنه يوجب اشتباه النسب وتضييع الولد وفوات السكن والألفة والمودة فيفوت ما وضع النكاح له.

"فصل": ومنها أن لا تكون معتدة الغير لقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} أي: ما كتب عليها من التربص, ولأن بعض أحكام النكاح حالة العدم قائم فكان النكاح قائما من وجه. والثابت

 

ج / 2 ص -269-       من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات؛ ولأنه لا يجوز التصريح بالخطبة في حال قيام العدة, ومعلوم أن خطبتها بالنكاح دون حقيقة النكاح فما لم تجز الخطبة فلأن لا يجوز العقد أولى, وسواء كانت العدة عن طلاق أو عن وفاة أو دخول في نكاح فاسد أو شبهة نكاح لما ذكرنا من الدلائل, ويجوز لصاحب العدة أن يتزوجها إذا لم يكن هناك مانع آخر غير العدة؛ لأن العدة حقه قال الله سبحانه وتعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} أضاف العدة إلى الأزواج فدل أنها حق الزوج, وحق الإنسان لا يجوز أن يمنعه من التصرف, وإنما يظهر أثره في حق الغير, ويجوز نكاح المسبية بغير السابي إذا سبيت وحدها دون زوجها وأخرجت إلى دار الإسلام بالإجماع؛ لأنه وقعت الفرقة بينهما ولا عدة عليها لقوله عز وجل {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} والمراد منه المسبيات اللاتي هن ذوات الأزواج فقد أحل الله تعالى المسبية للمولى السابي إذ الاستثناء من التحريم إباحة من حيث الظاهر, وقد أحلها عز وجل مطلقا من غير شرط انقضاء العدة فدل أنه لا عدة عليها, وكذلك المهاجرة وهي المرأة خرجت إلينا من دار الحرب مسلمة مراغمة لزوجها يجوز نكاحها, ولا عدة عليها في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: عليها العدة ولا يجوز نكاحها "وجه" قولهما: إن الفرقة وقعت بتباين الدار فتقع بعد دخولها دار الإسلام وهي بعد الدخول مسلمة وفي دار الإسلام, فتجب عليها العدة كسائر المسلمات, ولأبي حنيفة قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ} إلى قوله عز وجل: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أباح تعالى نكاح المهاجرة مطلقا من غير ذكر العدة وقوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ} نهى الله تعالى المسلمين عن الإمساك والامتناع عن نكاح المهاجرة لأجل عصمة الزوج الكافر وحرمته, فالامتناع عن نكاحها للعدة, والعدة في حق الزوج يكون إمساكا وتمسكا بعصمة زوجها الكافر, وهذا منهي عنه, ولأن العدة حق من حقوق الزوج ولا يجوز أن يبقى للحربي على المسلمة الخارجة إلى دار الإسلام حق, والدليل عليه أن لا عدة على المسبية, وإن كانت كافرة على الحقيقة لكنها ليست في حكم الذمية تجري عليها أحكام الإسلام, ومع ذلك ينقطع عنها حق الزوج الكافر, فالمهاجرة المسلمة حقيقة لأن ينقطع عنها حق الزوج الكافر أولى هذا إذا هاجرت إلينا وهي حائل فأما إذا كانت حاملا ففيه اختلاف الرواية عن أبي حنيفة وسنذكرها إن شاء الله تعالى.

"فصل": ومنها أن لا يكون بها حمل ثابت النسب من الغير فإن كان لا يجوز نكاحها, وإن لم تكن معتدة كمن تزوج أم ولد إنسان وهي حامل من مولاها لا يجوز, وإن لم تكن معتدة لوجود حمل ثابت النسب, وهذا؛ لأن الحمل إذا كان ثابت النسب من الغير وماؤه محرم لزم حفظ حرمة مائه بالمنع من النكاح, وعلى هذا يخرج ما إذا تزوج امرأة حاملا من الزنا أنه يجوز في قول أبي حنيفة ومحمد, ولكن لا يطؤها حتى تضع وقال أبو يوسف: "لا يجوز" وهو قول زفر. "وجه" قول أبي يوسف أن هذا الحمل يمنع الوطء فيمنع العقد أيضا كالحمل الثابت النسب, وهذا؛ لأن المقصود من النكاح هو حل الوطء فإذا لم يحل له وطؤها لم يكن النكاح مفيدا فلا يجوز, ولهذا لم يجز إذا كان الحمل ثابت النسب كذا هذا "ولهما" أن المنع من نكاح الحامل حملا ثابت النسب؛ لحرمة ماء الوطء ولا حرمة لماء الزنا بدليل أنه لا يثبت به النسب قال النبي: صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش وللعاهر الحجر" فإذا لم يكن له حرمة لا يمنع جواز النكاح إلا أنها لا توطأ حتى تضع لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يسقين ماءه زرع غيره" وروي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا يحل لرجلين يؤمنا بالله واليوم الآخر أن يجتمعا على امرأة في طهر واحد" وحرمة الوطء بعارض طارئ على المحل لا ينافي النكاح لا بقاء ولا ابتداء كالحيض والنفاس. وأما المهاجرة إذا كانت حاملا فعن أبي حنيفة روايتان روى محمد عنه أنه لا يجوز نكاحها, وهو إحدى روايتي أبي يوسف عنه وعن أبي يوسف

 

ج / 2 ص -270-       رواية أخرى عن أبي حنيفة أنه يجوز نكاحها, ولكنها لا توطأ حتى تضع "وجه" هذه الرواية أن ماء الحربي لا حرمة له, فكان بمنزلة ماء الزاني وذا لا يمنع جواز النكاح كذا هذا إلا أنها لا توطأ حتى تضع لما روينا "وجه" الرواية الأخرى أن هذا حمل ثابت النسب؛ لأن أنساب أهل الحرب ثابتة فيمنع جواز النكاح كسائر الأحمال الثابتة النسب والطحاوي اعتمد رواية أبي يوسف, والكرخي رواية محمد وهي المعتمد عليها؛ لأن حرمة نكاح الحامل ليست لمكان العدة لا محالة فإنها قد تثبت عند عدم العدة كأم الولد إذا كانت حاملا من مولاها بل لثبوت نسب الحمل كما في أم الولد, والحمل ههنا ثابت النسب فيمنع النكاح, وعلى هذا نكاح المسبية دون الزوج إذا كانت حاملا وأخرجت إلى دار الإسلام يجب أن يكون على اختلاف الرواية, ولا خلاف في أنه لا يحل وطؤها قبل الوضع ولا قبل الاستبراء بحيضة إذا كانت حاملا, والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في سبايا أوطاس: "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرئن بحيضة".

"فصل": ومنها أن يكون للزوجين ملة يقران عليها, فإن لم يكن بأن كان أحدهما مرتدا لا يجوز نكاحه أصلا لا بمسلم ولا بكافر غير مرتد, والمرتد مثله؛ لأنه ترك ملة الإسلام ولا يقر على الردة بل يجبر على الإسلام إما بالقتل إن كان رجلا بالإجماع, وإما بالحبس والضرب إن كانت امرأة عندنا إلى أن تموت أو تسلم فكانت الردة في معنى الموت لكونها سببا مفضيا إليه, والميت لا يكون محلا للنكاح؛ ولأن ملك النكاح ملك معصوم ولا عصمة مع المرتدة؛ ولأن نكاح المرتد لا يقع وسيلة إلى المقاصد المطلوبة منه؛ لأنه يجبر على الإسلام على ما بينا فلا يفيد فائدته فلا يجوز, والدليل عليه أن الردة لو اعترضت على النكاح رفعته فإذا قارنته تمنعه من الوجود من طريق الأولى كالرضاع؛ لأن المنع أسهل من الرفع.

"فصل": ومنها أن لا تكون المرأة مشركة إذا كان الرجل مسلما, فلا يجوز للمسلم أن ينكح المشركة؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ}, ويجوز أن ينكح الكتابية؛ لقوله عز وجل: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}. والفرق أن الأصل أن لا يجوز للمسلم أن ينكح الكافرة؛ لأن ازدواج الكافرة والمخالطة معها مع قيام العداوة الدينية لا يحصل السكن والمودة الذي هو قوام مقاصد النكاح إلا أنه جوز نكاح الكتابية؛ لرجاء إسلامها؛ لأنها آمنت بكتب الأنبياء والرسل في الجملة, وإنما نقضت الجملة بالتفصيل بناء على أنها أخبرت عن الأمر على خلاف حقيقته, فالظاهر أنها متى نبهت على حقيقة الأمر تنبهت, وتأتي بالإيمان على التفصيل على حسب ما كانت أتت به على الجملة هذا هو الظاهر من حال التي بني أمرها على الدليل دون الهوى والطبع, والزوج يدعوها إلى الإسلام وينبهها على حقيقة الأمر فكان في نكاح المسلم إياها رجاء إسلامها فجوز نكاحها لهذه العاقبة الحميدة بخلاف المشركة, فإنها في اختيارها الشرك ما ثبت أمرها على الحجة بل على التقليد بوجود الإباء عن ذلك من غير أن ينتهي ذلك الخبر ممن يجب قبول قوله واتباعه وهو الرسول فالظاهر أنها لا تنظر في الحجة ولا تلتفت إليها عند الدعوة فيبقى ازدواج الكافر مع قيام العداوة الدينية المانعة عن السكن والازدواج والمودة خاليا عن العاقبة الحميدة فلم يجز إنكاحها. وسواء كانت الكتابية حرة أو أمة عندنا. وقال الشافعي: "لا يجوز نكاح الأمة الكتابية ويحل وطؤها بملك اليمين" واحتج بقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} والكتابية مشركة على الحقيقة؛ لأن المشرك من يشرك بالله تعالى في الألوهية, وأهل الكتاب كذلك قال الله تعالى: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} وقالت النصارى {إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلاثَةٍ} سبحانه وتعالى عما يقولون, فعموم النص يقتضي حرمة نكاح جميع المشركات إلا أنه خص منه الحرائر من الكتابيات بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وهن الحرائر فبقيت الإماء منهن على ظاهر العموم, ولأن جواز نكاح الإماء في الأصل ثبت بطريق الضرورة لما ذكرنا فيما تقدم, والضرورة تندفع بنكاح الأمة المؤمنة

 

ج / 2 ص -271-       ولنا عمومات النكاح نحو قوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} وقوله عز وجل: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} وقوله عز وجل: {انْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وغير ذلك من غير فصل بين الأمة المؤمنة والأمة الكافرة الكتابية إلا ما خص بدليل. وأما الآية فهي في غير الكتابيات من المشركات؛ لأن أهل الكتاب, وإن كانوا مشركين على الحقيقة لكن هذا الاسم في متعارف الناس يطلق على المشركين من غير أهل الكتاب قال الله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْمُشْرِكِينَ}. وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ} فصل بين الفريقين في الاسم على أن الكتابيات, وإن دخلن تحت عموم اسم المشركات بحكم ظاهر اللفظ لكنهن خصصن عن العموم بقوله تعالى: {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ} وأما الكتابيات إذا كن عفائف يستحققن هذا الاسم؛ لأن الإحصان في كلام العرب عبارة عن المنع, ومعنى المنع يحصل بالعفة والصلاح كما يحصل بالحرية والإسلام والنكاح؛ لأن ذلك مانع المرأة عن ارتكاب الفاحشة, فيتناولهن عموم اسم المحصنات, وقوله: "الأصل في نكاح الإماء الفساد" ممنوع بل الأصل في النكاح هو الجواز حرة كانت المنكوحة أو أمة مسلمة أو كتابية لما مر أن النكاح عقد مصلحة, والأصل في المصالح إطلاق الاستيفاء, والمنع عنه لمعنى في غيره على ما عرف, ولا يجوز للمسلم نكاح المجوسية؛ لأن المجوس ليسوا من أهل الكتاب قال الله تبارك وتعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} إلى قوله: {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} معناه والله أعلم, أي: أنزلت عليكم لئلا تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا. ولو كان المجوس من أهل الكتاب لكان أهل الكتاب ثلاث طوائف فيؤدي إلى الخلف في خبره عز وجل, وذلك محال على أن هذا لو كان حكاية عن قول المشركين لكان دليلا على ما قلنا؛ لأنه حكى عنهم القول ولم يعقبه بالإنكار عليهم والتكذيب إياهم, والحكيم إذا حكى عن منكر غيره, والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب غير أنكم ليسوا ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم" ودل قوله "سنوا بالمجوس سنة أهل الكتاب" على أنهم ليسوا من أهل الكتاب ولا يحل وطؤها بملك اليمين أيضا, والأصل أن لا يحل وطء كافرة بنكاح ولا بملك يمين إلا الكتابية خاصة؛ لقوله تعالى: {وَلا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} واسم النكاح يقع على العقد والوطء جميعا فيحرمان جميعا ومن كان أحد أبويه كتابيا والآخر مجوسيا كان حكمه حكم أهل الكتاب؛ لأنه لو كان أحد أبويه مسلما يعطى له حكم الإسلام؛ لأن الإسلام يعلو ولا يعلى, فكذا إذا كان كتابيا يعطى له حكم أهل الكتاب, ولأن الكتابي له بعض أحكام أهل الإسلام وهو المناكحة وجواز الذبيحة والإسلام يعلو بنفسه وبأحكامه, ولأن رجاءه الإسلام من الكتابي أكثر, فكان أولى بالاستتباع. وأما الصابئات فقد قال أبو حنيفة: إنه يجوز للمسلم نكاحهن وقال أبو يوسف ومحمد: لا يجوز, وقيل: ليس هذا باختلاف في الحقيقة, وإنما الاختلاف لاشتباه مذهبهم, فعند أبي حنيفة هم قوم يؤمنون بكتاب فإنهم يقرءون الزبور ولا يعبدون الكواكب ولكن يعظمونها كتعظيم المسلمين الكعبة في الاستقبال إليها إلا أنهم يخالفون غيرهم من أهل الكتاب في بعض دياناتهم وذا لا يمنع المناكحة كاليهود مع النصارى, وعند أبي يوسف ومحمد أنهم قوم يعبدون الكواكب, وعابد الكواكب كعابد الوثن فلا يجوز للمسلمين مناكحاتهم.

"فصل": ومنها إسلام الرجل إذا كانت المرأة مسلمة فلا يجوز إنكاح المؤمنة الكافر؛ لقوله تعالى: {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} ولأن في إنكاح المؤمنة الكافر خوف وقوع المؤمنة في الكفر؛ لأن الزوج يدعوها إلى دينه, والنساء في العادات يتبعن الرجال فيما يؤثرون من الأفعال ويقلدونهم في الدين إليه وقعت الإشارة في آخر الآية بقوله عز وجل: {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} لأنهم يدعون المؤمنات إلى الكفر, والدعاء إلى الكفر دعاء إلى النار؛ لأن الكفر يوجب النار, فكان نكاح الكافر المسلمة سببا داعيا إلى الحرام فكان حراما, والنص وإن ورد

 

ج / 2 ص -272-       في المشركين لكن العلة, وهي الدعاء إلى النار يعم الكفرة, أجمع فيتعمم الحكم بعموم العلة فلا يجوز إنكاح المسلمة الكتابي كما لا يجوز إنكاحها الوثني والمجوسي؛ لأن الشرع قطع ولاية الكافرين عن المؤمنين بقوله تعالى: {وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} فلو جاز إنكاح الكافر المؤمنة لثبت له عليها سبيل, وهذا لا يجوز.  وأما أنكحة الكفار غير المرتدين بعضهم لبعض فجائز في الجملة عند عامة العلماء. وقال مالك: أنكحتهم فاسدة؛ لأن للنكاح في الإسلام شرائط لا يراعونها فلا يحكم بصحة أنكحتهم, وهذا غير سديد؛ لقوله عز وجل: {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} سماها الله تعالى امرأته, ولو كانت أنكحتهم فاسدة لم تكن امرأته حقيقة, ولأن النكاح سنة آدم عليه الصلاة والسلام فهم على شريعته في ذلك. وقال النبي: صلى الله عليه وسلم "ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح". وإن كان أبواه كافرين؛ ولأن القول بفساد أنكحتهم يؤدي إلى أمر قبيح وهو الطعن في نسب كثير من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام؛ لأن كثيرا منهم ولدوا من أبوين كافرين, والمذاهب تمتحن بعبادها فلما أفضى إلى قبيح عرف فسادها. ويجوز نكاح أهل الذمة بعضهم لبعض وإن اختلفت شرائعهم؛ لأن الكفر كله كملة واحدة إذ هو تكذيب الرب سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا فيما أنزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم. وقال الله عز وجل: {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} واختلافهم في شرائعهم, بمنزلة اختلاف كل فريق منهم فيما بينهم في بعض شرائعهم وذا لا يمنع جواز نكاح بعضهم لبعض كذا هذا.

"فصل": ومنها أن لا يكون أحد الزوجين ملك صاحبه ولا ينتقص منه ملكه, فلا يجوز للرجل أن يتزوج بجاريته ولا بجارية مشتركة بينه وبين غيره, وكذلك لا يجوز للمرأة أن تتزوج عبدها ولا العبد المشترك بينها وبين غيرها, لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ لَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} الآية ثم أباح الله عز وجل الوطء بأحد أمرين؛ لأن كلمة تتناول أحد المذكورين فلا تجوز الاستباحة بهما جميعا؛ ولأن للنكاح حقوقا تثبت على الشركة بين الزوجين. منها: مطالبة المرأة الزوج بالوطء ومطالبة الزوج الزوجة بالتمكين, وقيام ملك الرقبة يمنع من الشركة, وإذا لم تثبت الشركة في ثمرات النكاح لا يفيد النكاح فلا يجوز؛ ولأن الحقوق الثابتة بالنكاح لا يجوز أن تثبت على المولى لأمته ولا على الحرة لعبدها؛ لأن ملك الرقبة يقتضي أن تكون الولاية للمالك, وكون المملوك يولى عليه, وملك النكاح يقتضي ثبوت الولاية للملوك على المالك فيؤدي إلى أن يكون الشخص الواحد في زمان واحد واليا وموليا عليه في شيء واحد, وهذا محال؛ ولأن النكاح لا يجوز من غير مهر عندنا, ولا يجب للمولى على عبده دين ولا للعبد على مولاه. وكذا لا يجوز أن يتزوج مدبرته ومكاتبته؛ لأن كل واحد منهما ملكه, فكذا إذا اعترض ملك اليمين على نكاح يبطل النكاح بأن ملك أحد الزوجين صاحبه أو شقصا منه لما نذكر إن شاء الله تعالى في موضعه.

"فصل": ومنها التأبيد فلا يجوز. النكاح المؤقت وهو نكاح المتعة وأنه نوعان :. أحدهما: أن يكون بلفظ التمتع, والثاني: أن يكون بلفظ النكاح والتزويج وما يقوم مقامهما. أما الأول: فهو أن يقول: أعطيك كذا على أن أتمتع منك يوما أو شهرا أو سنة ونحو ذلك, وأنه باطل عند عامة العلماء. وقال بعض الناس: هو جائز واحتجوا بظاهر قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً} والاستدلال بها من ثلاثة أوجه: أحدها: أنه ذكر الاستمتاع ولم يذكر النكاح, والاستمتاع والتمتع واحد, والثاني: أنه تعالى أمر بإيتاء الأجر, وحقيقة الإجارة والمتعة عقد الإجارة على منفعة البضع والثالث: أنه تعالى أمر بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع, وذلك يكون في عقد الإجارة والمتعة, فأما المهر فإنما يجب في النكاح بنفس العقد ويؤخذ الزوج بالمهر أولا ثم يمكن من الاستمتاع فدلت الآية الكريمة على جواز عقد المتعة, ولنا الكتاب والسنة والإجماع والمعقول, أما الكتاب الكريم فقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} حرم تعالى الجماع إلا بأحد شيئين, والمتعة

 

ج / 2 ص -273-       ليست بنكاح ولا بملك يمين فيبقى التحريم, والدليل على أنها ليست بنكاح أنها ترتفع من غير طلاق ولا فرقة ولا يجري التوارث بينهما, فدل أنها ليست بنكاح فلم تكن هي زوجة له, وقوله تعالى في آخر الآية: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} سمي مبتغي ما وراء ذلك عاديا, فدل على حرمة الوطء بدون هذين الشيئين وقوله عز وجل: {وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ}, وكان ذلك منهم إجازة الإماء نهى الله عز وجل عن ذلك, وسماه بغاء فدل على الحرمة. وأما السنة فما روي عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "نهى عن متعة النساء يوم خيبر وعن أكل لحوم الحمر الإنسية" وعن سمرة الجهني رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن متعة النساء يوم فتح مكة", وعن عبد الله بن عمر أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر عن متعة النساء وعن لحوم الحمر الأهلية". وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قائما بين الركن والمقام, وهو يقول: إني كنت أذنت لكم في المتعة فمن كان عنده شيء فليفارقه ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئا فإن الله قد حرمها إلى يوم القيامة" وأما الإجماع فإن الأمة بأسرهم امتنعوا عن العمل بالمتعة مع ظهور الحاجة لهم إلى ذلك وأما المعقول فهو أن النكاح ما شرع لاقتضاء الشهوة بل لأغراض ومقاصد يتوسل به إليها, واقتضاء الشهوة بالمتعة لا يقع وسيلة إلى المقاصد فلا يشرع. وأما الآية الكريمة فمعنى قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} أي: في النكاح؛ لأن المذكور في أول الآية وآخرها هو النكاح فإن الله تعالى ذكر أجناسا من المحرمات في أول الآية في النكاح, وأباح ما وراءها بالنكاح بقوله عز وجل: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أي: بالنكاح, وقوله تعالى: {مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ} أي: غير متناكحين غير زانين. وقال تعالى في سياق الآية الكريمة: {وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ} ذكر النكاح لا الإجارة والمتعة, فيصرف قوله تعالى: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ} إلى الاستمتاع بالنكاح. وأما قوله: سمى الواجب أجرا فنعم المهر في النكاح يسمى أجرا قال الله عز وجل: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي: مهورهن. وقال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ} وقوله: أمر تعالى بإيتاء الأجر بعد الاستمتاع بهن, والمهر يجب بنفس النكاح ويؤخذ قبل الاستمتاع قلنا: قد قيل: في الآية الكريمة تقديم وتأخير كأنه تعالى: قال: فآتوهن أجورهن إذا استمتعتم به منهن, أي: إذا أردتم الاستمتاع بهن كقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي: إذا أردتم تطليق النساء على أنه إن كان المراد من الآية الإجارة والمتعة فقد صارت منسوخة بما تلونا من الآيات, وروينا من الأحاديث وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن قوله: {فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ} نسخه قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: المتعة بالنساء منسوخة نسختها آية الطلاق, والصداق والعدة والمواريث والحقوق التي يجب فيها النكاح, أي: النكاح هو الذي تثبت به هذه الأشياء ولا يثبت شيء منها بالمتعة والله أعلم. وأما الثاني: فهو أن يقول: أتزوجك عشرة أيام ونحو ذلك وأنه فاسد عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: "النكاح جائز, وهو مؤبد والشرط باطل", وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أنه قال إذا ذكرا من المدة مقدار ما يعيشان إلى تلك المدة, فالنكاح باطل, وإن ذكرا من المدة مقدار ما لا يعيشان إلى تلك المدة في الغالب يجوز النكاح كأنهما ذكرا الأبد "وجه" قوله: أنه ذكر النكاح وشرط فيه شرطا فاسدا, والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة فبطل الشرط وبقي النكاح صحيحا كما إذا قال: تزوجتك إلى أن أطلقك إلى عشرة أيام. "ولنا" أنه لو جاز هذا العقد لكان لا يخلو, إما أن يجوز مؤقتا بالمدة المذكورة وإما أن يجوز مؤبدا لا سبيل إلى الأول؛ لأن هذا معنى المتعة إلا أنه عبر عنها بلفظ النكاح والتزوج, والمعتبر في العقود معانيها لا الألفاظ كالكفالة بشرط براءة الأصيل إنها حوالة معنى لوجود الحوالة, وإن لم يوجد لفظها والمتعة منسوخة ولا وجه للثاني؛ لأن فيه استحقاق البضع عليها من غير رضاها, وهذا لا يجوز. وأما قوله: أتى بالنكاح ثم أدخل عليه شرطا فاسدا

 

ج / 2 ص -274-       فممنوع بل أتى بنكاح مؤقت, والنكاح المؤقت نكاح متعة, والمتعة منسوخة وصار هذا كالنكاح المضاف أنه لا يصح, ولا يقال: يصح النكاح وتبطل الإضافة؛ لأن المأتي به نكاح مضاف وأنه لا يصح كذا هذا بخلاف ما إذا قال: تزوجتك على أن أطلقك إلى عشرة أيام؛ لأن هناك أبد النكاح ثم شرط قطع التأبيد بذكر الطلاق في النكاح المؤبد؛ لأنه على أن "أن" كلمة شرط, والنكاح المؤبد لا تبطله الشروط والله عز وجل أعلم.

"فصل": ومنها المهر فلا جواز للنكاح بدون المهر عندنا, والكلام في هذا الشرط في مواضع في بيان أن المهر هل هو شرط جواز النكاح أم لا؟ وفي بيان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا, وفي بيان ما يصح تسميته مهرا وما لا يصح, وبيان حكم صحة التسمية وفسادها, وفي بيان ما يجب به المهر, وبيان وقت وجوبه وكيفية وجوبه وما يتعلق بذلك من الأحكام, وفي بيان ما يتأكد به كل المهر, وفي بيان ما يسقط به الكل, وفي بيان ما يسقط به النصف, وفي بيان حكم اختلاف الزوجين في المهر, أما الأول فقد اختلف فيه قال أصحابنا: إن. المهر شرط جواز نكاح المسلم. وقال الشافعي: ليس بشرط, ويجوز النكاح بدون المهر حتى إن من تزوج امرأة, ولم يسم لها مهرا بأن سكت عن ذكر المهر أو تزوجها على أن لا مهر لها ورضيت المرأة بذلك يجب مهر المثل بنفس العقد عندنا حتى يثبت لها ولاية المطالبة بالتسليم. ولو ماتت المرأة قبل الدخول يؤخذ مهر المثل من الزوج, ولو مات الزوج قبل الدخول تستحق مهر المثل من تركته. وعنده لا يجب مهر المثل بنفس العقد, وإنما يجب بالفرض على الزوج أو بالدخول حتى لو دخل بها قبل الفرض يجب مهر المثل, ولو طلقها قبل الدخول بها, وقبل الفرض لا يجب مهر المثل بلا خلاف, وإنما تجب المتعة. ولو مات الزوجان لا يقضى بشيء في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف ومحمد يقضى لورثتها بمهر مثلها ويستوفى من تركة الزوج, ولا خلاف في أن النكاح يصح من غير ذكر المهر ومع نفيه؛ لقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً} رفع سبحانه الجناح عمن طلق في نكاح لا تسمية فيه, والطلاق لا يكون إلا بعد النكاح فدل على جواز النكاح بلا تسمية, وقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ} والمراد منه الطلاق في نكاح لا تسمية فيه بدليل أنه أوجب المتعة بقوله: {فَمَتِّعُوهُنَّ}, والمتعة إنما تجب في نكاح لا تسمية فيه فدل على جواز النكاح من غير تسمية, ولأنه متى قام الدليل على أنه لا جواز للنكاح بدون المهر كان ذكره ذكرا للمهر ضرورة احتج الشافعي بقوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} سمى الصداق نحلة, والنحلة هي العطية, والعطية هي الصلة فدل أن المهر صلة زائدة في باب النكاح فلا يجب بنفس العقد؛ ولأن النكاح عقد ازدواج؛ لأن اللفظ لا ينبئ إلا عنه فيقتضي ثبوت الزوجية بينهما, وحل الاستمتاع لكل واحد منهما بصاحبه تحقيقا لمقاصد النكاح إلا أنه ثبت عليها نوع ملك في منافع البضع ضرورة تحقق المقاصد ولا ضرورة في إثبات ملك المهر لها عليه, فكان المهر عهدة زائدة في حق الزوج صلة لها فلا يصير عوضا إلا بالتسمية, والدليل على جواز النكاح من غير مهر أن المولى إذا زوج أمته من عبده يصح النكاح, ولا يجب المهر؛ لأنه لو وجب عليه لوجب للمولى ولا يجب للمولى على عبده دين. وكذا الذمي إذا تزوج ذمية بغير مهر جاز النكاح, ولا يجب المهر. وكذا إذا ماتا في هذه المسألة قبل الفرض لا يجب شيء عند أبي حنيفة "ولنا" قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} أخبر سبحانه وتعالى أنه أحل ما وراء ذلك بشرط الابتغاء بالمال دل أنه لا جواز للنكاح بدون المال فإن قيل: الإحلال بشرط ابتغاء المال لا ينفي الإحلال بدون هذا الشرط خصوصا على أصلكم أن تعليق الحكم بشرط لا ينفي وجوده عند عدم الشرط, فالجواب أن الأصل في الأبضاع والنفوس هو الحرمة, والإباحة تثبت بهذا الشرط, فعند عدم الشرط تبقى الحرمة على الأصل لا حكما للتعليق بالشرط فلم يتناقض أصلنا بحمد الله تعالى. وروي عن علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أن رجلا كان يختلف إليه شهرا يسأله عن

 

ج / 2 ص -275-       امرأة مات عنها زوجها ولم يكن فرض لها شيئا, وكان يتردد في الجواب فلما تم الشهر قال للسائل: لم أجد ذلك في كتاب الله ولا فيما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أجتهد برأيي, فإن أصبت فمن الله وإن أخطأت فمن ابن أم عبد وفي رواية, فإن كان صوابا فمن الله وإن كان خطأ فمني ومن الشيطان, والله ورسوله منه بريئان أرى لها مثل نسائها لا وكس ولا شطط, فقام رجل يقال له: معقل بن سنان وقال: إني أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق الأشجعية مثل قضائك هذا ثم قام أناس من أشجع, وقالوا: إنا نشهد بمثل شهادته ففرح عبد الله رضي الله عنه فرحا لم يفرح مثله في الإسلام لموافقة قضائه قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم",. ولأن ملك النكاح لم يشرع لعينه بل لمقاصد لا حصول لها إلا بالدوام على النكاح والقرار عليه, ولا يدوم إلا بوجوب المهر بنفس العقد لما يجري بين الزوجين من الأسباب التي تحمل الزوج على الطلاق من الوحشة, والخشونة فلو لم يجب المهر بنفس العقد لا يبالي الزوج عن إزالة هذا الملك بأدنى خشونة تحدث بينهما؛ لأنه لا يشق عليه إزالته لما لم يخف لزوم المهر فلا تحصل المقاصد المطلوبة من النكاح؛ ولأن مصالح النكاح ومقاصده لا تحصل إلا بالموافقة ولا تحصل الموافقة إلا إذا كانت المرأة عزيزة مكرمة عند الزوج ولا عزة إلا بانسداد طريق الوصول إليها إلا بمال له خطر عنده؛ لأن ما ضاق طريق إصابته يعز في الأعين فيعز به إمساكه, وما يتيسر طريق إصابته يهون في الأعين فيهون إمساكه ومتى هانت في أعين الزوج تلحقها الوحشة فلا تقع الموافقة فلا تحصل مقاصد النكاح؛ ولأن الملك ثابت في جانبها إما في نفسها وإما في المتعة, وأحكام الملك في الحرة تشعر بالذل والهوان فلا بد وأن يقابله مال له خطر لينجبر الذل من حيث المعنى, والدليل على صحة ما قلنا وفساد ما قال: أنها إذا طلبت الفرض من الزوج يجب عليه الفرض حتى لو امتنع, فالقاضي يجبره على ذلك ولو لم يفعل ناب القاضي منابه في الفرض, وهذا دليل الوجوب قبل الفرض؛ لأن الفرض تقدير ومن المحال وجوب تقدير ما ليس بواجب. وكذا لها أن تحبس نفسها حتى يفرض لها المهر ويسلم إليها بعد الفرض, وذلك كله دليل الوجوب بنفس العقد. وأما الآية فالنحلة كما تذكر بمعنى العطية تذكر بمعنى الدين يقال: ما نحلتك؟ أي: ما دينك؟ فكان معنى قوله تعالى: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} أي: دينا أي: انتحلوا ذلك وعلى هذا كانت الآية حجة عليه؛ لأنها تقتضي أن يكون وجوب المهر في النكاح دينا فيقع الاحتمال في المراد بالآية فلا تكون حجة مع الاحتمال. وأما قوله: النكاح ينبئ عن الازدواج فقط فنعم لكنه شرع لمصالح لا تصلح إلا بالمهر فيجب المهر, ألا ترى أنه لا ينبئ عن الملك أيضا لكن لما كان مصالح النكاح لا تحصل بدونه ثبت تحصيلا للمصالح كذا المهر. وأما المولى إذا زوج أمته من عبده فقد قيل: إن المهر يجب ثم يسقط, وفائدة الوجوب هو جواز النكاح. وأما الذمي إذا تزوج ذمية من غير مهر فعلى قولهما يجب المهر. وأما على قول أبي حنيفة فيجب أيضا إلا أنا لا نتعرض لهم؛ لأنهم يدينون ذلك, وقد أمرنا بتركهم وما يدينون حتى إنهما لو ترافعا إلى القاضي فرض القاضي لها المهر. وكذا إذا مات الزوجان يقضى بمهر المثل لورثة المرأة عندهما. وعند أبي حنيفة إنما لا يقضى لوجود الاستيفاء دلالة؛ لأن موتهما معا في زمان واحد نادر, وإنما الغالب موتهما على التعاقب فإذا لم تجز المطالبة بالمهر دل ذلك على الاستيفاء أو على استيفاء البعض والإبراء عن البعض مع ما أنه قد قيل: إن قول أبي حنيفة محمول على ما إذا تقادم العهد حتى لم يبق من نسائها من يعتبر به مهر مثلها كذا ذكره أبو الحسن الكرخي وأبو بكر الرازي, وعند ذلك يتعذر القضاء بمهر المثل وإلى هذا أشار محمد لأبي حنيفة: أرأيت لو أن ورثة علي ادعوا على ورثة عمر مهر أم كلثوم رضي الله عنهم أكنت أقضي به؟ وهذا المعنى لم يوجد في موت أحدهما فيجب مهر المثل.

"فصل": وأما بيان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا فأدناه عشرة دراهم أو ما قيمته عشرة دراهم, وهذا

 

ج / 2 ص -276-       عندنا وعند الشافعي المهر غير مقدر يستوي فيه القليل والكثير وتصلح الدانق والحبة مهرا واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من أعطى في نكاح ملء كفيه طعاما أو دقيقا أو سويقا فقد استحل" وروي عن أنس رضي الله عنه أنه قال: تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة على وزن نواة من ذهب, وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فدل أن التقدير في المهر ليس بلازم؛ ولأن المهر ثبت حقا للعبد وهو حق المرأة بدليل أنها تملك التصرف فيه استيفاء وإسقاطا, فكان التقدير فيه إلى العاقدين. "ولنا" قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} شرط سبحانه وتعالى أن يكون المهر مالا. والحبة والدانق ونحوهما لا يعدان مالا فلا يصلح مهرا, وروي عن جابر رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا مهر دون عشرة دراهم", وعن عمر وعلي وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم أنهم قالوا: لا يكون المهر أقل من عشرة دراهم, والظاهر أنهم لأنه باب لا يوصل إليه بالاجتهاد والقياس؛ ولأنه لما وقع الاختلاف في المقدار يجب الأخذ بالمتيقن وهو العشرة. وأما الحديث ففيه إثبات الاستحلال, إذا ذكر فيه مال قليل لا تبلغ قيمته عشرة. وعندنا الاستحلال صحيح ثابت؛ لأن النكاح صحيح ثابت ألا ترى أنه يصح من غير تسمية شيء أصلا؟, فعند تسمية مال قليل أولى إلا أن المسمى إذا كان دون العشرة تكمل عشرة, وليس في الحديث نفي الزيادة على القدر. وعندنا قام دليل الزيادة إلى العشرة لما نذكر فيكمل عشرة ولا حجة له فيما روي من الأثر؛ لأن فيه وزن نواة من ذهب, وقد تكون مثل وزن دينار بل تكون أكثر في العادة, فإن قيل: روي أن قيمة النواة كانت ثلاثة دراهم, فالجواب أن المقوم غير معلوم أنه من كان فلا يصلح أن يجعل قول ذلك حجة على الغير حتى يعلم أنه من هو مع ما أنه قد قال قوم: إن النواة كان بلغ وزنها قيمة عشرة دراهم, وبه قال إبراهيم النخعي على أن القدر المذكور في الخبر والأثر كان يحتمل أن يكون معجلا في المهر لا أصل المهر على ما جرت العادة بتعجيل شيء من المهر قبل الدخول ويحتمل أن يكون ذلك كله في حال جواز النكاح بغير مهر على ما قيل أن النكاح كان جائزا بغير مهر إلى أن "نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الشغار". وأما قوله: إن المهر حق العبد فكان التقدير فيه إلى العبد فنقول نعم هو في حالة البقاء حقها على الخلوص فأما في حالة الثبوت فحق الشرع متعلق به إبانة لخطر البضع صيانة له عن شبهة الابتذال بإيجاب مال له خطر في الشرع كما في نصاب السرقة, فإن كان المسمى أقل من عشرة يكمل عشرة عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر: لها مهر المثل. "وجه" قوله أن ما دون العشرة لا يصلح مهرا ففسدت التسمية كما لو سمى خمرا أو خنزيرا فيجب مهر المثل. "ولنا" أنه لما كان أدنى المقدار الذي يصلح مهرا في الشرع هو العشرة كان ذكر بعض العشرة ذكرا للكل؛ لأن العشرة في كونها مهرا لا يتجزأ وذكر البعض فيما لا يتبعض يكون ذكرا لكله كما في الطلاق والعفو عن القصاص. وأما قوله: إن ما دون العشرة لا يصلح مهرا فتفسد التسمية فنقول: التسمية إنما تفسد إذا لم يكن المسمى مالا أو كان مجهولا, وههنا المسمى مال, وإن قل فهو معلوم أنه لا يصلح مهرا بنفسه إلا بغيره فكان ذكره ذكرا لما هو الأدنى من المصلح بنفسه, وفيه تصحيح تصرفه بالقدر الممكن فكان أولى من إلحاقه بالعدم, وفيه أخذ باليقين أيضا فكان أحق بخلاف ما إذا ذكر خمرا أو خنزيرا؛ لأن المسمى ليس بمال فلم يصلح مهرا بنفسه ولا بغيره ففسدت التسمية فوجب الموجب الأصلي وهو مهر المثل ولو تزوجها على ثوب معين أو على موصوف أو على مكيل أو موزون معين فذلك مهرها إذا بلغت قيمته عشرة وتعتبر قيمته يوم العقد لا يوم التسليم حتى لو كانت قيمته يوم العقد عشرة فلم يسلمه إليها حتى صارت قيمته ثمانية فليس له إلا ذلك. ولو كانت قيمته يوم العقد ثمانية فلم يسلمه إليها حتى صارت قيمته عشرة فلها ذلك ودرهمان. وذكر الحسين عن أبي حنيفة أنه فرق بين الثوب وبين المكيل والموزون فقال في الثوب تعتبر قيمته يوم التسليم, وفي المكيل والموزون يوم العقد وهذا الفرق لا يعقل له وجه في المعين؛ لأن الزوج يجبر على تسليم

 

ج / 2 ص -277-       المعين فيهما جميعا ووجه الفرق بينهما في الموصوف أن المكيل والموزون إذا كان موصوفا في الذمة, فالزوج مجبور على دفعه ولا يجوز دفع غيره من غير رضاها فكان مستقرا مهرا بنفسه في ذمته فتعتبر قيمته يوم الاستقرار وهو يوم العقد فأما الثوب وإن وصف فلم يتقرر مهرا في الذمة بنفسه بل الزوج مخير في تسليمه وتسليم قيمته في إحدى الروايتين على ما نذكر إن شاء الله تعالى وإنما يتقرر مهرا بالتسليم فتعتبر قيمته يوم التسليم "وجه" ظاهر الرواية أن ما جعل مهرا لم يتغير في نفسه, وإنما التغير في رغبات الناس بحدوث فتور فيها, ولهذا لو غصب شيئا قيمته عشرة فيعتبر سعره, وصار يساوي خمسة فرده على المالك لا يضمن شيئا, ولأنه لما سمى ما هو أدنى مالية من العشرة كان ذلك تسمية للعشرة؛ لأن ذكر البعض فيما لا يتجزأ ذكر لكله فصار كأنه سمى ذلك درهمين ثم ازدادت, قيمته والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يصح تسميته مهرا وما لا يصح وبيان حكم صحة التسمية وفسادها فنقول: لصحة التسمية شرائط منها. أن يكون المسمى مالا متقوما وهذا عندنا. وعند الشافعي هذا ليس بشرط ويصح التسمية سواء كان المسمى مالا أو لم يكن بعد أن يكون مما يجوز أخذ العوض عنه, واحتج بما روي "أن امرأة جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله إني وهبت نفسي لك فقال عليه الصلاة والسلام ما بي في النساء من حاجة, فقام رجل وقال زوجنيها يا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم ما عندك؟ فقال: ما عندي شيء أعطيها فقال: أعطها ولو خاتما من حديد, فقال ما عندي, فقال: هل معك شيء من القرآن؟ قال: نعم سورة كذا فقال زوجتكها بما معك من القرآن" ومعلوم أن المسمى وهو السورة من القرآن لا يوصف بالمالية, فدل أن كون التسمية مالا ليس بشرط لصحة التسمية, ولنا قوله تعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ} شرط أن يكون المهر مالا, فما لا يكون مالا لا يكون مهرا فلا تصح تسميته مهرا, وقوله تعالى {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أمر بتنصيف المفروض في الطلاق قبل الدخول فيقتضي كون المفروض محتملا للتنصيف وهو المال وأما الحديث فهو في حد الآحاد ولا يترك نص الكتاب بخبر الواحد مع ما أن ظاهره متروك؛ لأن السورة من القرآن لا تكون مهرا بالإجماع, وليس فيه ذكر تعليم القرآن ولا ما يدل عليه, ثم تأويلها زوجتكها بسبب ما معك من القرآن وبحرمته وبركته لا أنه كان ذلك النكاح بغير تسمية مال, وعلى هذا الأصل مسائل: إذا تزوج على تعليم القرآن أو على تعليم الحلال والحرام من الأحكام أو على الحج والعمرة ونحوها من الطاعات لا تصح التسمية عندنا؛ لأن المسمى ليس بمال فلا يصير شيء من ذلك مهرا ثم الأصل في التسمية أنها إذا صحت وتقررت يجب المسمى ثم ينظر إن كان المسمى عشرة فصاعدا فليس لها إلا ذلك, وإن كان دون العشرة تكمل العشرة عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر. والمسألة قد مرت وإذا فسدت التسمية أو تزلزلت يجب مهر المثل؛ لأن العوض الأصلي في هذا الباب هو مهر المثل؛ لأنه قيمة البضع, وإنما يعدل عنه إلى المسمى إذا صحت التسمية وكانت التسمية, تقديرا لتلك القيمة, فإذا لم تصح التسمية أو تزلزلت لم يصح التقدير فإذا لم يصح التقدير, فوجب المصير إلى الفرض الأصلي, ولهذا كان المبيع بيعا فاسدا مضمونا بالقيمة في ذوات القيم لا بالثمن كذا هذا, والنكاح جائز لأن جوازه لا يقف على التسمية أصلا, فإنه جائز عند عدم التسمية رأسا, فعدم التسمية إذا لم يمنع جواز النكاح ففسادها أولى أن لا يمنع, ولأن التسمية إذا فسدت التحقت بالعدم فصار كأنه تزوجها ولم يسم شيئا, وهناك النكاح صحيح كذا هذا, ولأن تسمية ما ليس بمال شرط فاسد, والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة بخلاف البيع, والفرق أن الفساد في باب البيع لمكان الربا, والربا لا يتحقق في النكاح فيبطل الشرط ويبقى النكاح صحيحا. وعنده تصح التسمية ويصير المذكور مهرا لأنه يجوز أخذ العوض عنه بالاستئجار عليه عنده فتصح تسميته مهرا, وكذلك إذا تزوج امرأة على طلاق امرأة أخرى أو على العفو عن القصاص عندنا؛ لأن الطلاق ليس بمال

 

ج / 2 ص -278-       وكذا القصاص, وعنده تصح التسمية؛ لأنه يجوز أخذ العوض عن الطلاق والقصاص, وكذلك إذا تزوجها على أن لا يخرجها من بلدها أو على أن لا يتزوج عليها, فإن المذكور ليس بمال. وكذا لو تزوج المسلم المسلمة على ميتة أو دم أو خمر أو خنزير لم تصح التسمية, لأن الميتة والدم ليسا بمال في حق أحد, والخمر والخنزير ليسا بمال متقوم في حق المسلم فلا تصح تسمية شيء من ذلك مهرا, وعلى هذا يخرج نكاح الشغار, وهو أن يزوج الرجل أخته لآخر على أن يزوجه الآخر أخته, أو يزوجه ابنته أو يزوجه أمته, وهذه التسمية فاسدة؛ لأن كل واحد منهما جعل بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى, والبضع ليس بمال ففسدت التسمية, ولكل واحدة منهما مهر المثل؛ لما قلنا: والنكاح صحيح عندنا, وعند الشافعي فاسد واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "أنه نهى عن نكاح الشغار", والنهي يوجب فساد المنهي عنه؛ ولأن كل واحد منهما جعل بضع كل واحدة من المرأتين نكاحا وصداقا, وهذا لا يصح, ولنا أن هذا النكاح مؤبد أدخل فيه شرطا فاسدا حيث شرط فيه أن يكون بضع كل واحدة منهما مهر الأخرى, والبضع لا يصلح مهرا, والنكاح لا تبطله الشروط الفاسدة كما إذا تزوجها على أن يطلقها وعلى أن ينقلها من منزلها ونحو ذلك وبه تبين أنه لم يجتمع النكاح والصداق في بضع واحد؛ لأن جعل البضع صداقا لم يصح. فأما النهي عن نكاح الشغار, فنكاح الشغار هو النكاح الخالي عن العوض مأخوذ من قولهم: شغر البلد إذا خلا عن السلطان وشغر الكلب إذا رفع إحدى رجليه. وعندنا هو نكاح بعوض وهو مهر المثل فلا يكون شغارا على أن النهي ليس عن عين النكاح؛ لأنه تصرف مشروع مشتمل على مصالح الدين والدنيا فلا يحتمل النهي عن إخلاء النكاح عن تسمية المهر, والدليل عليه ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تنكح المرأة بالمرأة ليس لواحدة منهما مهر", وهو إشارة إلى أن النهي لمكان تسمية المهر لا لعين النكاح فبقي النكاح صحيحا ولو تزوج حر امرأة على أن يخدمها سنة, فالتسمية فاسدة ولها مهر مثلها في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد التسمية صحيحة ولها قيمة خدمة سنة, وعند الشافعي التسمية صحيحة ولها خدمة سنة. وذكر ابن سماعة في نوادره أنه إذا تزوجها على أن يرعى غنمها سنة أن التسمية صحيحة, ولها رعي غنمها سنة, ولفظ رواية الأصل يدل على أنها لا تصح في رعي الغنم كما لا تصح في الخدمة؛ لأن رعي غنمها خدمتها, من مشايخنا من جعل في رعي غنمها روايتين, ومنهم من قال: يصح في رعي الغنم بالإجماع, وإنما الخلاف في خدمته لها, ولا خلاف في أن العبد إذا تزوج بإذن المولى امرأة على أن يخدمها سنة أن تصح التسمية ولها المسمى, أما الشافعي فقد مر على أصله أن كل ما يجوز أخذ العوض عنه يصح تسميته مهرا, ومنافع الحر يجوز أخذ العوض عنها؛ لأن إجارة الحر جائزة بلا خلاف فتصح تسميتها كما تصح تسمية منافع العبد. وأما الكلام مع أصحابنا, فوجه قول محمد أن منافع الحر مال؛ لأنها مال في سائر العقود حتى يجوز أخذ العوض عنها فكذا في النكاح, وإذا كانت مالا صحت التسمية إلا أنه تعذر التسليم لما في التسليم من استخدام الحرة زوجها, وأنه حرام لما نذكر, فيجب الرجوع إلى قيمة الخدمة كما لو تزوجها على عبد فاستحق العبد أنه يجب عليه قيمة العبد؛ لأن تسمية العبد قد صحت لكونه مالا لكن تعذر تسليمه بالاستحقاق فوجبت عليه قيمته لا مهر المثل لما قلنا: كذا هذا. وجه قولهما: أن المنافع ليست بأموال متقومة على أصل أصحابنا, ولهذا لم تكن مضمونة بالغصب والإتلاف, وإنما يثبت لها حكم التقوم في سائر العقود شرعا ضرورة؛ دفعا للحاجة بها ولا يمكن دفع الحاجة بها ههنا؛ لأن الحاجة لا تندفع إلا بالتسليم, وأنه ممنوع عنه شرعا؛ لأن استخدام الحرة زوجها الحر حرام؛ لكونه استهانة وإذلالا, وهذا لا يجوز, ولهذا لا يجوز للابن أن يستأجر أباه للخدمة فلا تسلم خدمته لها شرعا, فلا يمكن دفع الحاجة بها فلم يثبت لها التقوم فبقيت على الأصل, فصار كما لو سمى ما لا قيمة له كالخمر والخنزير, وهناك لا تصح التسمية ويجب مهر المثل كذا ههنا حتى لو كان المسمى فعلا لا استهانة فيه

 

ج / 2 ص -279-       ولا مذلة على الرجل, كرعي دوابها وزراعة أرضها, والأعمال التي خارج البيت تصح بالتسمية؛ لأن ذلك من باب القيام بأمرها لا من باب الخدمة بخلاف العبد؛ لأن استخدام زوجته إياه ليس بحرام؛ لأنه عرضة للاستخدام والابتذال لكونه مملوكا ملحقا بالبهائم؛ ولأن مبنى النكاح على الاشتراك في القيام بمصالح المعاش فكان لها في خدمته حق, فإذا جعل خدمته لها مهرها, فكأنه جعل ما هو لها مهرها فلم يجز كالأب إذا استأجر ابنه بخدمته أنه لا يجوز؛ لأن خدمة الأب مستحقة عليه كذا هذا بخلاف العبد؛ لأن خدمته خالص ملك المولى فصحت التسمية. ولو تزوجها على منافع سائر الأعيان من سكنى داره وخدمة عبيده وركوب دابته والحمل عليها وزراعة أرضه ونحو ذلك من منافع الأعيان مدة معلومة صحت التسمية؛ لأن هذه المنافع أموال أو التحقت بالأموال شرعا في سائر العقود لمكان الحاجة, والحاجة في النكاح متحققة, وإمكان الدفع بالتسليم ثابت بتسليم محالها إذ ليس فيه استخدام المرأة زوجها فجعلت أموالا والتحقت بالأعيان فصحت تسميتها, وعلى هذا يخرج ما إذا قال: تزوجتك على هذا العبد فإذا هو حر, وجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو أما إن سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى ما لا يصلح مهرا. وأما إن سمى ما لا يصلح مهرا فأشار إلى ما يصلح مهرا, فإن سمى ما يصلح مهرا وأشار إلى ما لا يصلح مهرا بأن قال: تزوجتك على هذا العبد فإذا هو حر أو على هذه الشاة الذكية, فإذا هي ميتة أو على هذا الزق الخل فإذا هو خمر, فالتسمية فاسدة في جميع ذلك, ولها مهر المثل في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف "تصح التسمية في الكل, وعليه في الحر قيمة الحر لو كان عبدا, وفي الشاة قيمة الشاة لو كانت ذكية, وفي الخمر مثل ذلك الدن من خل وسط ومحمد فرق فقال: مثل قول أبي حنيفة في الحر والميتة, ومثل قول أبي يوسف في الخمر "وجه" قول أبي يوسف أن المسمى مال؛ لأن المسمى هو العبد والشاة الذكية والخل, وكل ذلك مال فصحت التسمية إلا أنه إذا ظهر أن المشار إليه خلاف جنس المسمى في صلاحية المهر تعذر التسليم فتجب القيمة في الحر والشاة؛ لأنهما ليسا من المثليات, وفي الخمر يجب مثله خلا؛ لأنه مثلي كما لو هلك المسمى أو استحق. "وجه" قول محمد في الفرق أن الإشارة مع التسمية إذا اجتمعتا في العقود, فإن كان المشار إليه من جنس المسمى يتعلق العقد بالمشار إليه, وإن كان من خلاف جنسه يتعلق العقد بالمسمى هذا أصل مجمع عليه في البيع على ما نذكر في البيوع, والحر من جنس العبد لاتحاد جنس المنفعة. وكذا الشاة الميتة من جنس الشاة الذكية فكانت العبرة للإشارة والتحقت التسمية بالعدم, والمشار إليه لا يصلح مهرا فصار كأنه اقتصر على الإشارة ولم يسم بأن قال: تزوجتك على هذا وسكت فأما الخل مع الخمر فجنسان مختلفان؛ لاختلاف جنس المنفعة فتعلق العقد بالمسمى لكن تعذر تسليمه وهو مثلي فيجب مثله خلا ولأبي حنيفة أن الإشارة والتسمية كل واحد منهما وضعت للتعريف إلا أن الإشارة أبلغ في التعريف؛ لأنها تحضر العين وتقطع الشركة, والتسمية لا توجب إحضار العين ولا تقطع الشركة فسقط اعتبار التسمية عند الإشارة وبقيت الإشارة, والمشار إليه لا يصلح مهرا؛ لأنه ليس بمال فيجب مهر المثل كما لو أشار إلى الميتة والدم والخمر والخنزير ولم يسم, وحقيقة الفقه لأبي حنيفة أن هذا حر سمى عبدا, وتسمية الحر عبدا باطل؛ لأنه كذب فالتحقت التسمية بالعدم وبقيت الإشارة, والمشار إليه لا يصلح مهرا؛ لأنه ليس بمال فالتحقت الإشارة بالعدم أيضا فصار كأنه تزوجها, ولم يسم لها مهرا, وهذا فقه واضح بحمد الله تعالى هذا إذا سمى ما يصلح مهرا, وأشار إلى ما لا يصلح مهرا فأما إذا سمى ما لا يصلح مهرا, وأشار إلى ما يصلح مهرا بأن قال: تزوجتك على هذا الحر فإذا هو عبد أو على هذه الميتة, فإذا هي ذكية أو على هذا الدن الخمر, فإذا هو خل, فقد روى أبو يوسف عن أبي حنيفة أن التسمية فاسدة ولها المشار إليه. وروى محمد عنه أن لها مهر المثل, ورواية أبي يوسف أصح الروايتين؛ لأن الأصل عند أبي حنيفة أن التسمية لا حكم لها مع الإشارة في باب النكاح فكانت العبرة للإشارة, والمشار إليه يصلح مهرا؛ لأنه مال فكان لها المشار إليه "وجه" ما روى محمد

 

ج / 2 ص -280-       عنه أنه لما سمى ما لا يصلح مهرا, وأشار إلى ما يصلح مهرا فقد هزل بالتسمية, والهازل لا يتعلق بتسميته حكم فبطل كلامه رأسا ولو تزوجها على هذا الدن الخمر, وقيمة الظرف عشرة دراهم فصاعدا روى ابن سماعة عن محمد في هذه المسألة روايتين روي عنه أن لها الدن لا غير. وروي عنه أيضا أن لها مهر المثل "وجه" الرواية الأولى أنه سمى ما يصلح مهرا وهو الظرف وما لا يصلح مهرا وهو الخمر فيلغو ما لا يصلح مهرا كما لو تزوجها على الخل والخمر, وقيمة الخل عشرة أنه يكون لها الخل لا غير؛ لما قلنا كذا هذا "وجه" الرواية الأخرى أن الظرف لا يقصد بالعقد عادة بل هو تابع, وإنما المقصود هو المظروف فإذا بطلت التسمية في المقصود تبطل فيما هو تبع له, والله أعلم ولو تزوجها على هذين العبدين فإذا أحدهما حر فليس لها إلا العبد الباقي إذا كانت قيمته عشرة دراهم في قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف: لها العبد وقيمة الحر لو كان عبدا. وقال محمد: ينظر إلى العبد إن بلغت قيمته مهر مثلها فليس لها إلا العبد, وإن كانت قيمته أقل من مهر مثلها تبلغ إلى ثمن مهر مثلها, وهو قول زفر, وهذا بناء على الأصول التي ذكرناها لهم فمن أصل أبي يوسف أن جعل الحر مهرا صحيح إذا سمى عبدا, ويتعلق بقيمته أن لو كان عبدا فيتعلق العقد بالمسميين جميعا بقدر ما يحتمل كل واحد منهما التعليق به, فيتعلق بالعبد بعينه؛ لأنه ممكن ويتعلق بالحر بقيمته لو كان عبدا؛ لأنه لا يحتمل التعليق بعينه, ومن أصل محمد أن المشار إليه إذا كان من جنس المسمى, فالعقد يتعلق بالمشار إليه, والحر من جنس العبد لاتحاد جنس المنفعة فيتعلق العقد بهما إلا أنه لا سبيل إلى الجمع بين المسمى وبين مهر المثل, فيجب مهر المثل ألا ترى أنه لو كانا حرين يجب مهر المثل عنده, ومتى وجب مهر المثل امتنع وجوب المسمى ولأبي حنيفة أصلان: أحدهما ما ذكرنا أن الحر إذا جعل مهرا وسمي عبدا لا يتعلق بتسميته شيء, وجعل ذكره والعدم بمنزلة واحدة, والثاني: أن العقد إذا أضيف إلى ما لا يصلح يلغو ما لا يصلح ويستقر ما يصلح, كمن جمع بين امرأة تحل له وامرأة لا تحل له وتزوجهما في عقدة واحدة بمسمى يجب كل المسمى بمقابلة الحلال, وانعقاد نكاحها صحيحا للعقد, والتسمية بقدر الإمكان, وتقريرا للعقد فيما أمكن تقريره وإلغاؤه فيما لا يمكن تصحيحه فيه, والعبد هو الصالح لكونه مهرا فصحت تسميته, ويصير مهرا لها إذا بلغت قيمته عشرة فصاعدا, وعلى هذا الخلاف إذا تزوجها على بيت وخادم والخادم حر ولو تزوجها على هذين الدنين من الخل فإذا أحدهما خمر لها الباقي لا غير في قول أبي حنيفة إذا كان يساوي عشرة دراهم كما في العبدين, وعندهما لها الباقي ومثل هذا الدن من الخل, وقد ذكرنا الأصل. ولو سمى مالا وضم إليه ما ليس بمال لكن لها فيه منفعة مثل طلاق امرأة أخرى وإمساكها في بلدها أو العفو عن القصاص, فإن وفى بالمنفعة فليس لها إلا ما سمى إذا كان يساوي عشرة فصاعدا؛ لأنه سمى ما يصلح مهرا بنفسه وشرط لها منفعة, وقد وفى بما شرط لها فصحت التسمية وصارت العشرة مهرا, وإن لم يف بالمنفعة فلها مهر مثلها ثم ينظر إن كان ما سمى لها من المال مثل مهر مثلها أو أكثر فلا شيء لها إلا ذلك, وإن كان ما سمى لها أقل من مهر مثلها تمم لها مهر مثلها عندنا وقال زفر: إن كان المضموم مالا كما إذا شرط أن يهدي لها هدية فلم يف لها تمم لها مهر المثل, وإن كان غير مال كطلاق امرأة أخرى وأن لا يخرجها من بلدها فليس لها إلا ما سمى "وجه" قول زفر أن ما ليس بمال لا يتقوم فلا يكون فواته مضمونا بعوض وما هو مال يتقوم فإذا لم يسلم لها جاز لها الرجوع إلى تمام العوض, ولنا أن الموجب الأصلي في هذا الباب هو مهر المثل, فلا يعدل عنه إلا عند استحكام التسمية فإذا وفى بالمنفعة فقد تقررت التسمية فوجب المسمى. وإذا لم يف بها لم تتقرر؛ لأنها ما رضيت بالمسمى من المال عوضا بنفسه بل بمنفعة أخرى مضمومة إليه, وهي منفعة أخرى مرغوب فيها خلال الاستيفاء شرعا فإذا لم يسلم لها تتقرر التسمية فبقي حقها في العوض الأصلي, وهو مهر المثل فإن كان أقل من مهر مثلها أو أكثر فليس لها إلا ذلك؛ لأنه وصل إليها قدر حقها وإن كان أقل من مهر مثلها يكمل لها مهر مثلها أيضا لا إلى الحق المستحق فرق

 

ج / 2 ص -281-       بين هذا وبين ما إذا تزوجها على مهر صحيح وأرطال من خمر أن المهر ما يسمى لها إذا كان عشرة فصاعدا, ويبطل الحرام, وليس لها تمام مهر مثلها أو أكثر فليس لها إلا ذلك؛ لأنه وصل إليها قدر حقها, وإن كان أقل من مهر مثلها يكمل لها مهر مثلها أيضا؛ لأن تسمية الخمر لم تصح في حق الانتفاع بها في حق المسلم إذ لا منفعة للمسلم فيها لحرمة الانتفاع بها في حق المسلم؛ فلا يجوز أن يجب بفواتها عوض فالتحقت تسميتها بالعدم وصار كأنه لم يسم إلا المهر الصحيح فلا يجب لها إلا المهر الصحيح بخلاف المسألة الأولى. وعلى هذا يخرج ما إذا أعتق أمته على أن تزوج نفسها منه فقبلت عتقت؛ لأنه أعتقها بعوض فيزول ملكه بقبول العوض كما لو باعها, وكما إذا قال لها أنت حرة على ألف درهم بخلاف ما إذا قال لعبده إن أديت إلي ألفا فأنت حر أنه لا يعتق بالقبول ما لم يؤد؛ لأن ذلك ليس بمعاوضة بل هو تعليق, وهو تعليق الحرية بشرط الأداء إليه ولم يوجد الشرط ثم إذا أعتقت بالقبول فبعد ذلك لا يخلو إما إن زوجت نفسها منه وإما إن أبت التزويج فإن زوجت نفسها منه ينظر إن كان قد سمى لها مهرا آخر وهو مال سوى الإعتاق, فلها المسمى إذا كان عشرة دراهم فصاعدا, وإن كان دون العشرة تكمل عشرة, وإن لم يسم لها سوى الإعتاق فلها مهر مثلها في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: صداقها إعتاقها ليس لها غير ذلك "وجه" قوله: أن العتق بمعنى المال وبدليل أنه يجوز أخذ العوض عنه بأن أعتق عبده على مال فجاز أن يكون مهرا, ولهما أن العتق ليس بمال حقيقة؛ لأن الإعتاق إبطال المالكية فكيف يكون العتق مالا؟ إلا أنه يجوز أخذ عوض هو مال عنه, وهذا لا يدل على كونه مالا بنفسه ألا ترى أن الطلاق ليس بمال ولا يجوز أخذ العوض عنه. وكذا القصاص وأخذ البدل عنه جائز, ونفس الحر ليست بمال, وإن أبت أن تزوج نفسها منه لا تجبر على ذلك؛ لأنها حرة ملكت نفسها فلا تجبر على النكاح لكنها تسعى في قيمتها للمولى عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: لا سعاية عليها "وجه" قوله: أن السعاية إنما تجب لتخليص الرقبة, وهذه حرة خالصة فلا تلزمها السعاية. "ولنا" أن المولى ما رضي بزوال ملكه عن رقبتها لا بنفع يقابله وهو تزويج نفسها منه, وهذه منفعة مرغوب فيها وقد تعذر عليه استيفاء هذه المنفعة بمعنى من جهتها وهو إباؤها فيقام بدل قيمتها مقامها؛ دفعا للضرر عنه. وأما قوله "السعاية إنما تجب لفكاك الرقبة وتخليصها وهي حرة خالصة" فنقول: السعاية قد تكون لتخليص الرقبة وهذا المستسعى يكون في حكم المكاتب على أصل أبي حنيفة, وقد تكون لحق في الرقبة لا لفكاك الرقبة كالعبد المرهون إذا أعتقه الراهن وهو معسر كما إذا قال لعبده: أنت حر على قيمة رقبتك فقبل حتى عتق كذا هذا ولو تزوج امرأة على عتق أبيها أو ذي رحم محرم منها أو على عتق عبد أجنبي عنها, فهذا لا يخلو إما أن ذكر فيه كلمة عنها بأن قال: أتزوجك على عتق أبيك عنك أو على عتق هذا العبد عنك وأشار إلى عبد أجنبي عنها, وإما أن لم يذكر فإن لم يذكر وقبلت عتق العبد, والولاء للزوج لا لها؛ لأن المعتق هو الزوج "والولاء لمن أعتق" على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ولها مهر مثلها إن لم يكن سمى لها مهرا آخر هو مال, وإن كان قد سمى فلها المسمى؛ لأنه علق العتق بقبولها النكاح فإذا قبلت عتق, والعبد لا يصلح مهرا؛ لأنه ليس بمال, فإن كان هناك مال مسمى وجب ذلك؛ لأنه صحت تسميته مهرا فوجب المسمى, وإن لم يكن فتسميته العتق مهرا لم يصح؛ لأنه ليس بمال فيجب مهر المثل هذا إذا لم يذكر عنها. فأما إذا ذكرت فقبلت عتق العبد عنها وثبت الولاء لها, وصار ذلك مهرا؛ لأنه لما ذكر العتق عنها ولا يكون العتق عنها إلا بعد سبق الملك لها فملكته أولا ثم عتق عنها كمن قال لآخر: أعتق عبدك عني عن كفارة يميني على ألف درهم يجوز ويقع العتق عن الآخر, وحال ما ملكته كان مالا فصلح أن يكون مهرا, وهذا إذا تزوجها على العتق. فأما إذا تزوجها على الإعتاق بأن تزوجها على أن يعتق هذا العبد فهذا أيضا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن ذكر فيه عنها وإما أن لم يذكر فإن لم يذكر فقبلت صح النكاح, ولا يعتق العبد ههنا بقبولها؛ لأنه وعد أن يعتق, والعتق لا يثبت بوعد

 

ج / 2 ص -282-       الإعتاق, وإنما يثبت بالإعتاق فما لم يعتق لا يعتق بخلاف الفصل الأول؛ لأن الزواج هناك كان على العتق لا على الإعتاق ثم إذا أعتقه فعتق فلا يخلو إما أن ذكر كلمة عنها أو لم يذكر فإن كان لم يذكر ثبت الولاء منه لا منها؛ لأن الإعتاق منه لا منها, والولاء للمعتق ولها مهر مثلها إن لم يكن هناك مهر آخر مسمى وهو مال, وإن كان فلها ذلك المسمى؛ لأن الإعتاق ليس بمال, بل هو إبطال المالية, سواء كان العبد أجنبيا أو ذا رحم محرم منها, وإن ذكر كلمة عنها ثبت الولاء منها؛ لأن الإعتاق منها لأنه أعتق عنها, ويصير العبد ملكا لها بمقتضى الإعتاق, ثم إن كان ذا رحم محرم منها عتق عليها كما ملكته فتملكه فيعتق عليها, وإن كان أجنبيا يصير الزوج وكيلا عنها في الإعتاق, ومنها إذا أعتق كما وعد فإن أبى لا يجبر على ذلك؛ لأنه حر مالك إلا أنه ينظر إن لم يكن ثمة مسمى هو مال فلها مهر مثلها؛ لما ذكرنا أن تسمية الإعتاق مهرا لم يصح ولم يوجد تسمية شيء آخر هو مال فتعين مهر المثل موجبا. وإن كان قد سمى لها شيئا آخر هو مال, فإن كان المسمى مثل مهر المثل أو أكثر فلها ذلك المسمى؛ لأن الزوج رضي بالزيادة, وإن كان أقل من مهر مثلها, فإن كان العبد أجنبيا فلها ذلك المسمى لا غير؛ لأنه شرط لها شرطا لا منفعة لها فيه فلا يكون غارا لها بترك الوفاء بما شرط لها, وإن كان ذا رحم محرم منها يبلغ به تمام مهر مثلها؛ لأنها إنما رضيت بدون مهر مثلها بما شرط ولم تكن راضية فصار غارا لها, وهذا إذا لم يقل عنها فأما إذا قال ذلك بأن تزوجها على أن يعتق هذا العبد عنها فقبلت صح النكاح, وصار العبد ملكا ثم إن كان ذا رحم محرم منها عتق عليها؛ لأنها ملكت ذا رحم محرم منها وكان ذلك مهرا لها؛ لأنها تملكه ثم يعتق عليها, وإن كان أجنبيا يكون الزوج وكيلا عنها بالإعتاق, فإن أعتق قبل العزل فقد وقع العتق عنها, وإن عزلته في ذلك صح العزل والله أعلم.

"فصل": ومنها أن لا يكون مجهولا جهالة تزيد على جهالة مهر المثل. وجملة الكلام فيه أن المهر في الأصل لا يخلو إما أن يكون معينا مشارا إليه, وإما أن يكون مسمى غير معين مشارا إليه, فإن كان معينا مشارا إليه صحت تسميته, سواء كان مما يتعين بالتعيين في عقود المعاوضات من العروض والعقار والحيوان وسائر المكيلات والموزونات سوى الدراهم والدنانير أو كان مما لا يتعين بالتعيين في عقود المعاوضات كالدراهم؛ لأنه مال لا جهالة فيه إلا أنه إن كان مما يتعين بالتعيين ليس للزوج أن يحبس العين ويدفع غيرها من غير رضا المرأة؛ لأن المشار إليه قد تعين للعقد فتعلق حقها بالعين فوجب عليه تسليم عينه وإن كان مما لا يتعين له أن يحبسه ويدفع مثله جنسا ونوعا وقدرا وصفة؛ لأن التعيين إذا لم يصح صار مجازا عوضا من الجنس والنوع والقدر والصفة, وإن كان تبرا مجهولا أو نقرة ذهبا وفضة يجبر على تسليم عينه في رواية؛ لأنه يتعين بالتعيين كالعروض ولا يجبر في رواية؛ لأنه لا يتعين بالتعيين كالمضروب وإن كان المسمى غير عين فالمسمى لا يخلو إما أن يكون مجهول الجنس والنوع والقدر والصفة, وإما أن يكون معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة, فإن كان مجهولا كالحيوان والدابة والثوب والدار بأن تزوج امرأة على حيوان أو دابة أو ثوب أو دار ولم يعين لم تصح التسمية. وللمرأة مهر مثلها بالغا ما بلغ؛ لأن جهالة الجنس متفاحشة لأن الحيوان اسم جنس تحته أنواع مختلفة, وتحت كل نوع أشخاص مختلفة. وكذا الدابة وكذا الثوب؛ لأن اسم الثوب يقع على ثوب القطن والكتان والحرير والخز والبز, وتحت كل واحد من ذلك أنواع كثيرة مختلفة. وكذا الدار؛ لأنها تختلف في الصغر والكبر والهيئة والتقطيع, وتختلف قيمتها باختلاف البلاد والمحال والسكك اختلافا فاحشا فتفاحشت الجهالة فالتحقت بجهالة الجنس, والأصل أن جهالة العوض تمنع صحة تسميته كما في البيع والإجارة لكونها مفضية إلى المنازعة إلا أنه يتحمل ضرب من الجهالة في المهر بالإجماع, فإن مهر المثل قد يجب في النكاح الصحيح, ومعلوم أن مهر المثل مجهول ضربا من, الجهالة فكل جهالة في المسمى مهرا مثل جهالة مهر المثل أو أقل من ذلك يتحمل ولا يمنع صحة التسمية

 

ج / 2 ص -283-       استدلالا بمهر المثل, وكل جهالة تزيد على جهالة مهر المثل يبقى الأمر فيها على الأصل فيمنع صحة التسمية كما في سائر الأعواض إذا ثبت هذا فنقول: لا شك أن جهالة الحيوان والدابة والثوب والدار أكثر من جهالة مهر المثل؛ لأن بعد اعتبار تساوي المرأتين في المال والجمال والسن والعقل والدين والبلد والعفة يقل التفاوت بينهما فتقل الجهالة. فأما جهالة الجنس والنوع فجهالة متفاحشة فكانت أكثر جهالة من مهر المثل فتمنع صحة التسمية. وإن كان المسمى معلوم الجنس والنوع مجهول الصفة والقدر كما إذا تزوجها على عبد أو أمة أو فرس أو جمل أو حمار أو ثوب مروي أو هروي صحت التسمية, ولها الوسط من ذلك, وللزوج الخيار إن شاء أعطاها الوسط وإن شاء أعطاها قيمته, وهذا عندنا. وقال الشافعي: لا تصح التسمية "وجه" قوله: أن المسمى مجهول الوصف فلا تصح تسميته كما في البيع وهذا لأن؛ جهالة الوصف تفضي إلى المنازعة كجهالة الجنس ثم جهالة الجنس تمنع صحة التسمية, فكذا جهالة الوصف. "ولنا" أن النكاح معاوضة المال بما ليس بمال, والحيوان الذي هو معلوم الجنس والنوع مجهول الصفة يجوز أن يثبت دينا في الذمة بدلا عما ليس بمال كما في الذمة قال النبي: صلى الله عليه وسلم "في النفس المؤمنة مائة من الإبل" والبضع ليس بمال فجاز أن يثبت الحيوان دينا في الذمة بدلا عنه, ولأن جهالة الوسط من هذه الأصناف مثل جهالة مهر المثل أو أقل فتلك الجهالة لما لم تمنع صحة تسمية البدل, فكذا هذه إلا أنه لا تصح تسميته ثمنا في البيع؛ لأن البيع لا يحتمل جهالة البدل أصلا قلت أو كثرت, والنكاح يحتمل الجهالة اليسيرة مثل جهالة مهر المثل, وإنما كان كذلك؛ لأن مبنى البيع على المضايقة والمماكسة, فالجهالة فيه وإن قلت تفضي إلى المنازعة ومبنى النكاح على المسامحة والمروءة, فجهالة مهر المثل فيه لا تفضي إلى المنازعة فهو الفرق. وأما وجوب الوسط فلأن الوسط هو العدل لما فيه من مراعاة الجانبين؛ لأن الزوج يتضرر بإيجاب الجيد, والمرأة تتضرر بإيجاب الرديء فكان العدل في إيجاب الوسط. وهذا معنى قول النبي: صلى الله عليه وسلم "خير الأمور أوساطها" والأصل في اعتبار الوسط في هذا الباب ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مواليها فنكاحها باطل فإن دخل بها فلها مهر مثل نسائها لا وكس ولا شطط" وكذلك قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه في المفوضة أرى لها مهر مثل نسائها لا وكس ولا شطط والمعنى ما ذكرنا, وأما ثبوت الخيار بين الوسط وبين قيمته فلأن الحيوان لا يثبت في الذمة ثبوتا مطلقا ألا ترى أنه لا يثبت دينا في الذمة في معاوضة المال بالمال ولا يثبت في الذمة في ضمان الإتلاف حتى لا يكون مضمونا بالمثل في الاستهلاك, بل بالقيمة فمن حيث إنه يثبت في الذمة في الجملة قلنا: بوجوب الوسط منه, ومن حيث إنه لا يثبت ثبوتا مطلقا قلنا: يثبت الخيار بين تسليمه وبين تسليم قيمته عملا بالشبهين جميعا, ولأن الوسط لا يعرف إلا بواسطة القيمة فكانت القيمة أصلا في الاستحقاق فكانت أصلا في التسليم. وأما ثبوت الخيار للزوج لا للمرأة فلأنه المستحق عليه فكان الخيار له. وكذلك إن تزوجها على بيت وخادم فلها بيت وسط مما يجهز به النساء, وهو بيت النوب لا المبني فينصرف إلى فرش البيت في أهل الأمصار وفي أهل البادية إلى بيت الشعر ولها خادم وسط؛ لأن المطلق من هذه الأصناف ينصرف إلى الوسط؛ لأن الوسط منها معلوم بالعادة, وجهالته مثل جهالة مهر المثل أو أقل فلا تمنع صحة التسمية كما لو نص على الوسط. ولو وصف شيئا من ذلك بأن قال جيد أو وسط أو رديء فلها الموصوف, ولو جاء بالقيمة تجبر على القبول؛ لأن القيمة هي الأصل ألا ترى أنه لا يعرف الجيد والوسط والرديء إلا باعتبار القيمة فكانت القيمة هي المعرفة بهذه الصفات, فكانت أصلا في الوجوب فكانت أصلا في التسليم, فإذا جاء بها تجبر على قبولها. ولو تزوجها على وصيف صحت التسمية ولها الوسط من ذلك, ولو تزوجها على وصيف أبيض لا شك أنه تصح التسمية؛ لأنها تصح بدون الوصف فإذا وصف أولى, ولها الوصيف الجيد؛ لأن الأبيض عندهم اسم للجيد ثم الجيد عندهم هو الرومي, والوسط السندي, والرديء الهندي. وأما عندنا فالجيد هو التركي, والوسط

 

ج / 2 ص -284-       الرومي, والرديء الهندي, وقد قال أبو حنيفة: قيمة الخادم الجيد خمسون دينارا, وقيمة الوسط أربعون, وقيمة الرديء ثلاثون, وقيمة البيت الوسط أربعون دينارا وقال أبو يوسف ومحمد: إن زاد السعر أو نقص فبحسب الغلاء والرخص, وهذا ليس باختلاف في الحقيقة ففي زمن أبي حنيفة كانت القيم مسعرة, وفي زمانهما تغيرت القيمة, فأجاب كل على عرف زمانه والمعتبر في ذكر القيمة بلا خلاف. ولو تزوجها على بيت وخادم حتى وجب الوسط من كل واحد منهما ثم صالحت من ذلك زوجها على أقل من قيمة الوسط ستين دينارا أو سبعين دينارا جاز الصلح؛ لأنها بهذا الصلح أسقطت بعض حقها؛ لأن الواجب فيهما ثمانون فإذا صالحت على أقل من ذلك فقد أسقطت البعض. ومن له الحق إذا أسقط بعض حقه واستوفى الباقي جاز, ويجوز ذلك بالنقد والنسيئة لما ذكرنا أن الصلح وقع على عين الحق بإسقاط البعض فكان الباقي عين الواجب فجاز فيه التأجيل, فإن صالحت على مائة دينار, فالفضل باطل؛ لأن المسمى إذا لم يكن مسعرا, فالقيمة واجبة بالعقد. ومن وجب له حق فصالح على أكثر من حقه لم يجز, وإن كان المسمى معلوم الجنس والنوع والقدر والصفة كما إذا تزوجها على مكيل موصوف أو موزون موصوف سوى الدراهم والدنانير صحت التسمية؛ لأن المسمى مال معلوم لا جهالة فيه بوجه ألا ترى أنه ثبت دينا في الذمة ثبوتا مطلقا, فإنه يجوز البيع به والسلم فيه ويضمن بالمثل فيجبر الزوج على دفعه ولا يجوز دفع عوضه إلا برضا المرأة. ولو تزوجها على مكيل أو موزون ولم يصف صحت التسمية؛ لأنه مال معلوم الجنس والنوع فتصح تسميته, فإن شاء الزوج أعطاها الوسط من ذلك, وإن شاء أعطاها قيمته كذا ذكر الكرخي في جامعه. وذكر الحسن عن أبي حنيفة أنه يجبر على تسليم الوسط "وجه" ما ذكره الكرخي أن القيمة أصل في إيجاب الوسط؛ لأن بها يعرف كونه وسطا فكان أصلا في التسليم كما في العبد "وجه" رواية الحسن أن الشرع لما أوجب الوسط فقد تعين الوسط بتعيين الشرع فصار كما لو عينه بالتسمية. ولو سمى الوسط يجبر على تسليمه كذا هذا بخلاف العبد, فإن هناك لو سمى الوسط ونص عليه لا يجبر على تسليمه فكذا إذا أوجبه الشرع والله أعلم. وأما الثياب فقد ذكر في الأصل أنه إذا تزوجها على ثياب موصوفة أنه بالخيار إن شاء سلمها وإن شاء سلم قيمتها, ولم يفصل بين ما إذا سمى لها أجلا أو لم يسم وقال أبو يوسف: إن أجلها يجبر على دفعها, وإن لم يؤجلها فلها القيمة. وروي عن أبي حنيفة أنه يجبر على تسليمها من غير هذا التفصيل وهو قول زفر "وجه" ما ذكر في الأصل أن الثياب لا تثبت في الذمة ثبوتا مطلقا؛ لأنها ليست من ذوات الأمثال ألا ترى أنها مضمونة بالقيمة لا بالمثل في ضمان العدوان ولا تثبت في الذمة بنفسها في عقود المعاوضات بل بواسطة الأجل فكانت كالعبيد, وهناك لا يجبر على دفع العبد وله أن يسلم القيمة كذا ههنا, وأبو يوسف يقول: إذا أجلها فقد صارت بحيث تثبت في الذمة ثبوتا مطلقا ألا ترى أنها تثبت في الذمة في السلم فيجبر على الدفع بل أولى؛ لأن البدل في البيع لا يحتمل الجهالة رأسا, والمهر في النكاح يحتمل ضربا من الجهالة فلما ثبتت في الذمة في البيع فلأن تثبت في النكاح أولى "وجه" الرواية الأخرى لأبي حنيفة أن امتناع ثبوتها في الذمة لمكان الجهالة فإذا وصفت فقد زالت الجهالة فيصح ثبوتها في الذمة مهرا في النكاح, وإنما لا يصح السلم فيها إلا مؤجلا؛ لأن العلم بها يقف على التأجيل, بل؛ لأن السلم لم يشرع إلا مؤجلا والأجل ليس بشرط في المهر فكان ثبوتها في المهر غير مؤجلة كثبوتها في السلم مؤجلة فيجبر على تسليمها. ولو قال تزوجتك على هذا العبد أو على ألف أو على ألفين, فالتسمية فاسدة في قول أبي حنيفة ويحكم مهر مثلها, فإن كان مهر مثلها مثل الأدون أو أقل فلها الأدون إلا أن يرضى الزوج بالأرفع, وإن كان مهر مثلها مثل الأرفع فلها الأرفع إلا أن ترضى المرأة بالأدون وإن كان مهر مثلها فوق الأدون أو أقل من الأرفع فلها مهر مثلها. وقال أبو يوسف ومحمد: التسمية صحيحة ولها الأدون على كل حال "وجه" قولهما أن المصير إلى مهر المثل عند تعذر إيجاب المسمى, ولا تعذر ههنا لأنه يمكن إيجاب الأقل لكونه متيقنا, وفي الزيادة شك فيجب

 

ج / 2 ص -285-       المتيقن به وصار كما إذا أعتق عبده على ألف أو ألفين أو خالع امرأته على ألف أو ألفين أنه تصح التسمية وتجب الألف كذا هذا ولأبي حنيفة أنه جعل المهر أحد المذكورين غير عين؛ لأن كلمة "أو" تتناول أحد المذكورين غير عين, وأحدهما غير عين مجهول فكان المسمى مجهولا, وهذه الجهالة أكثر من جهالة مهر المثل ألا ترى أن كلمة "أو" تدخل بين أقل الأشياء وأكثرها فتمنع صحة التسمية فيحكم مهر المثل؛ لأنه الموجب الأصلي في هذا الباب فلا يعدل عنه إلا عند صحة التسمية, ولا صحة إلا بتعيين المسمى ولم يوجد فيجب مهر المثل؛ لأنه لا ينقص عن الأدون؛ لأن الزوج رضي بذلك القدر ولا يزاد على الأرفع لرضا المرأة بذلك القدر, ولا يلزم على هذا ما إذا تزوجها على هذا العبد أو على هذا العبد أن الزوج بالخيار في أن يدفع أيهما شاء أو على أن المرأة بالخيار في ذلك تأخذ أيهما شاءت أنه تصح التسمية. وإن كان المسمى مجهولا؛ لأن تلك الجهالة يمكن رفعها ألا ترى أنها ترتفع باختيار من له الخيار فقلت الجهالة فكانت كجهالة مهر المثل أو أقل من ذلك فلا تمنع صحة التسمية, ههنا لا سبيل إلى إزالة هذه الجهالة؛ لأنه إذا لم يكن فيه خيار كان لكل واحد منهما أن يختار غير ما يختاره صاحبه ففحشت الجهالة فمنعت صحة التسمية بخلاف الإعتاق والخلع؛ لأنه ليس لهما موجب أصلي يصار إليه عند وقوع الشك في المسمى فوجب المتيقن من المسمى؛ لأن إيجابه أولى من الإيقاع مجانا بلا عوض أصلا لعدم رضا المولى والزوج بذلك, وفيما نحن فيه له موجب أصلي فلا يعدل عنه إلا عند تعين المسمى ولا تعين مع الشك بإدخال كلمة الشك فالتحقت التسمية بالعدم فبقي الموجب الأصلي واجب المصير إليه. ولو تزوج امرأة على ألف إن لم يكن له امرأة وعلى ألفين إن كانت له امرأة أو تزوجها على ألف إن لم يخرجها من بلدها وعلى ألفين إن أخرجها من بلدها أو تزوجها على ألف إن كانت مولاة وعلى ألفين إن كانت عربية وما أشبه ذلك فلا شك أن النكاح جائز؛ لأن النكاح المؤبد الذي لا توقيت فيه لا تبطله الشروط الفاسدة لما قلنا: إن الشروط لو أثرت لأثرت في المهر بفساد التسمية, وفساد التسمية لا يكون فوق العدم ثم عدم التسمية رأسا لا يوجب فساد النكاح, ففسادها أولى. وأما المهر فالشرط الأول جائز بلا خلاف, فإن وقع الوفاء به فلها ما سمى على ذلك الشرط, وإن لم يقع الوفاء به فإن كان على خلاف ذلك أو فعل خلاف ما شرط لها فلها مهر مثلها لا ينقص من الأصل ولا يزاد على الأكثر, وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: الشرطان جائزان وقال زفر: الشرطان فاسدان, وهذه فريعة مسألة مشهورة في الإجارات, وهو أن يدفع رجل ثوبا إلى الخياط فيقول: إن خيطته اليوم فلك درهم, وإن خيطته غدا فلك نصف درهم "وجه" قول زفر: أن كل واحد من الشرطين يخالف الآخر فأوجب ذلك جهالة التسمية فتصح التسميتان, كما إذا قال: للخياط إن خيطته روميا فبدرهم, وإن خيطته فارسيا فبنصف درهم, ولأبي حنيفة أن الشرط الأول وقع صحيحا بالإجماع وموجبه رد مهر المثل إن لم يقع الوفاء به فكانت التسمية الأولى صحيحة, فلو صح الشرط الثاني لكان نافيا موجب الشرط الأول, والتسمية الأولى والتسمية بعد ما صحت لا يجوز نفي موجبها فبطل الشرط الثاني ضرورة. وقال: إن ما شرط الزوج من طلاق المرأة وترك الخروج من البلد لا يلزمه في الحكم؛ لأن ذلك وعد وعد لها فلا يكلف به, وعلى هذا يخرج ما إذا تزوجها على حكمه أو حكم أجنبي أن التسمية فاسدة؛ لأن المحكوم به مجهول وجهالته أكثر من جهالة مهر المثل فيمنع صحة التسليم, ثم إن كان التزوج على حكم الزوج ينظر إن حكم بمهر مثلها أو أكثر فلها ذلك؛ لأنه رضي ببذل الزيادة وإن حكم بأقل من مهر مثلها فلها مهر مثلها إلا أن ترضى بالأقل, وإن كان التزوج على حكمها فإن حكمت بمهر مثلها أو أقل فلها ذلك؛ لأنها رضيت بإسقاط حقها, وإن حكمت بأكثر من مهر مثلها لم تجز الزيادة؛ لأن المستحق هو مهر المثل إلا إذا رضي الزوج بالزيادة, وإن كان التزوج على حكم أجنبي فإن حكم بمهر المثل جاز, وإن حكم بأكثر من مهر المثل يتوقف على رضا الزوج, وإن حكم بأقل من مهر المثل يتوقف على رضا المرأة؛ لأن المستحق هو مهر المثل, والزوج لا يرضى

 

ج / 2 ص -286-       بالزيادة والمرأة لا ترضى بالنقصان؛ فلذلك توقف الأمر في الزيادة والنقصان على رضاهما, فإن تزوجها على ما يكسب العام أو يرث فهذه تسمية فاسدة؛ لأن جهالة هذا أكثر من جهالة مهر المثل, وقد انضم إلى الجهالة الخطر؛ لأنه قد يكسب وقد لا يكسب ثم الجهالة بنفسها تمنع صحة التسمية, فمع الخطر أولى. ولو تزوج امرأتين على صداق واحد يجوز إلا أن يقول تزوجتكما على ألف درهم فقبلتا, فالنكاح جائز لا شك فيه ويقسم الألف بينهما على قدر مهر مثليهما؛ لأنه جعل الألف بدلا عن بضعيهما, والبدل يقسم على قدر قيمة المبدل, والمبدل هو البضع فيقسم البدل على قدر قيمته, وقيمته مهر المثل كما لو اشترى عبدين بألف درهم أنه يقسم الثمن على قدر قيمتهما كذا هذا, فإن قبلت إحداهما دون الأخرى جاز النكاح في التي قبلت بخلاف البيع, فإنه إذا قال: بعت هذا العبد منكما فقبل أحدهما ولم يقبل الآخر لم يجز البيع أصلا, والفرق أنه لما قال: تزوجتكما فقد جعل قبول كل واحدة منهما شرطا لقبول الأخرى, والنكاح لا يحتمل التعليق بالشرط, فكان إدخال الشرط فيه فاسدا, والنكاح لا يفسد بالشرط الفاسد, والبيع يفسد به, وإذا جاز النكاح تقسم الألف على قدر مهر مثلهما لما قلنا فما أصاب حصة التي قبلت فلها ذلك القدر, والباقي يعود إلى الزوج, وإن كانت إحداهما ذات زوج أو في عدة من زوج أو كانت ممن لا يحل له نكاحها فإن جميع الألف التي يصح نكاحها في قول أبي حنيفة. وعندهما تقسم الألف على قدر مهر مثليهما فما أصاب حصة التي صح نكاحها فلها ذلك, والباقي يعود إلى الزوج "وجه" قولهما: أنه جعل الألف مهرا لهما جميعا, وكل واحدة منهما صالح للنكاح حقيقة لكونها قابلة للمقاصد المطلوبة منه حقيقة إلا أن المحرمة منهما لا تزاحم صاحبتها في الاستحقاق؛ لخروجها من أن تكون محلا لذلك شرعا مع قيام المحلية حقيقة, فيجب إظهار أثر المحلية الحقيقية في الانقسام, ولأبي حنيفة أن المهر يقابل ما يستوفى بالوطء وهو منافع البضع, وهذا العقد في حق المحرمة لا يمكن من استيفاء المنافع لخروجها من أن تكون محلا للعقد شرعا, والموجود الذي لا ينتفع به والعدم الأصلي سواء فيجعل ذلك المهر بمقابلة الأجنبية, كما إذا جمع بين المرأة والأتان وقال: تزوجتكما على ألف درهم, فإن دخل الزوج بالتي فسد نكاحها ففي قياس قول أبي حنيفة لها مهر مثلها بالغا ما بلغ؛ لأنه لا تعتبر التسمية في حقها فالتحقت التسمية بالعدم, وفي قياس قول أبي يوسف ومحمد لها مهر مثلها لا يجاوز حصتها من الألف؛ لأنهما لا يعتبران التسمية في حقهما في حق الانقسام, والله عز وجل أعلم وعلى هذا تخرج تسمية المهر على السمعة والرياء أنها تصح أو لا تصح. وجملة الكلام فيه أن السمعة في المهر إما أن تكون في قدر المهر, وإما أن تكون في جنسه فإن كانت في قدر المهر بأن تواضعا في السر والباطن, واتفقا على أن يكون المهر ألف درهم لكنهما يظهران في العقد ألفين لأمر حملهما على ذلك, فإن لم يقولا: ألف منهما سمعة, فالمهر ما ذكراه في العلانية وذلك ألفان؛ لأن المهر ما يكون مذكورا في العقد والألفان مذكورتان في العقد فإذا لم يجعلا الألف منهما سمعة صحت تسمية الألفين وإن قالا الألف منهما سمعة, فالمهر ما ذكراه في السر وهو الألف في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة, وهو قول أبي يوسف ومحمد, وروي عن أبي حنيفة أن المهر ما أظهراه وهو الألفان. "وجه" هذه الرواية أن المهر هو المذكور في العقد؛ لأنه اسم لما يملك به البضع, والذي يملك به البضع هو المذكور في العقد وأنه يصلح أن يكون مهرا؛ لأنه مال معلوم فتصح تسميته ويصير مهرا ولا تعتبر المواضعة السابقة "وجه" ظاهر الرواية أنهما لما قالا: الألف منهما سمعة فقد هزلا بذلك قدر الألف حيث لم يقصدا به مهرا, والمهر مما يدخله الجد والهزل ففسدت تسميته قدر الألف والتحقت بالعدم, فبقي العقد على ألف, وإن كانت السمعة من جنس المهريات تواضعا واتفقا في السر والباطن على أن يكون المهر ألف درهم, ولكنهما يظهران في العقد مائة دينار, فإن لم يقولا: رياء وسمعة فالمهر ما تعاقدا عليه لما قلنا, وإن قالا: رياء وسمعة فتعاقدا على ذلك فلها مهر مثلها في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة, ورواية عنه أن لها مهر العلانية مائة دينار. "وجه" هذه الرواية على نحو ما ذكرنا أن المائة

 

ج / 2 ص -287-       دينار هي المذكورة في العقد, والمهر اسم للمذكور في العقد لما بينا فيعتبر المذكور ولا تعتبر المواضعة السابقة "وجه" ظاهر الرواية أن ما تواضعا عليه وهو الألف لم يذكراه في العقد, وما ذكراه وهو المائة دينار ما تواضعا عليه فلم توجد التسمية فيجب مهر المثل كما لو تزوجها ولم يسم لها مهرا هذا الذي ذكرنا إذا لم يتعاقدا في السر والباطن على أن يكون للمهر قدر أو جنس ثم يتعاقدا على ما تواضعا واتفقا عليه. فأما إذا تعاقدا في السر على قدر من المهر أو جنس منه ثم اتفقا وتواضعا في السر على أن يظهرا في عقد العلانية أكثر من ذلك أو جنسا آخر, فإن لم يذكرا في المواضعة السابقة أن ذلك سمعة, فالمهر ما ذكراه في العلانية في قول أبي حنيفة ومحمد, ويكون ذلك زيادة على المهر الأول, سواء كان من جنسه أو من خلاف جنسه, فإن كان من خلاف جنسه, فجميعه يكون زيادة على المهر الأول, وإن كان من جنسه فقدر الزيادة على المهر الأول يكون زيادة. وروي عن أبي يوسف أنه قال: المهر مهر السر "وجه" قوله: أن المهر ما يكون مذكورا في العقد, والعقد هو الأول؛ لأن النكاح لا يحتمل الفسخ والإقالة؛ فالثاني لا يرفع الأول فلم يكن الثاني عقدا في الحقيقة فلا يعتبر المذكور عنده, فكان المهر هو المذكور في العقد الأول. "وجه" قولهما: أنهما قصدا شيئين استئناف العقد وزيادة في المهر, واستئناف العقد لا يصح؛ لأن النكاح لا يحتمل الفسخ, والزيادة صحيحة فصار كأنه زاد ألفا أخرى أو مائة دينار, وإن ذكرا في المواضعة السابقة أن الزيادة أو الجنس الآخر سمعة, فالمهر هو المذكور في العقد الأول, والمذكور في العقد الثاني لغو؛ لأنهما هزلا به حيث جعلاه سمعة, والهزل يعمل في المهر فيبطله والله أعلم.

"فصل": ومنها أن يكون النكاح صحيحا فلا تصح التسمية في النكاح الفاسد حتى لا يلزم المسمى؛ لأن ذلك ليس بنكاح لما نذكر إن شاء الله تعالى إلا أنه إذا وجد الدخول يجب مهر المثل لكن بالوطء لا بالعقد على ما نبينه في موضعه إن شاء الله تعالى. ولو تزوج امرأة على جارية بعينها واستثنى ما في بطنها فلها الجارية وما في بطنها ذكره الكرخي والطحاوي من غير خلاف لأن تسمية الجارية مهرا قد صحت؛ لأنها مال معلوم واستثناء ما في بطنها لم يصح؛ لأن الجنين في حكم جزء من أجزائها فإطلاق العقد على الأم يتناوله فاستثناؤه يكون بمنزلة شرط فاسد, والنكاح لا يحتمل شرطا فاسدا فيلغو الاستثناء ويلتحق بالعدم كأنه لم يستثن رأسا, وكذلك إذا وهب جارية واستثنى ما في بطنها أو خالع أو صالح من دم العمد؛ لأن هذه التصرفات لا تبطلها الشروط الفاسدة ولو تزوج امرأة على جارية فاستحقت وهلكت قبل التسليم فلها قيمتها؛ لأن التسمية قد صحت لكون المسمى مالا متقوما معلوما فالعقد انعقد موجب التسليم بالاستحقاق والهلاك؛ لأنه عجز عن تسليمها فتجب قيمتها بخلاف البيع إذا هلك المبيع قبل التسليم إلى المشتري أنه لا يغرم البائع قيمته, وإنما يسقط الثمن لا غير؛ لأن هلاك المبيع يوجب بطلان البيع, وإذا بطل البيع لم يبق وجوب التسليم, فلا تجب القيمة ثم تفسير مهر المثل هو أن يعتبر مهرها بمهر مثل نسائها من أخواتها لأبيها وأمها أو لأبيها وعماتها وبنات أعمامها في بلدها وعصرها على مالها وجمالها وسنها وعقلها ودينها؛ لأن الصداق يختلف باختلاف البلدان وكذا يختلف باختلاف المال والجمال والسن والعقل والدين فيزداد مهر المرأة؛ لزيادة مالها وجمالها وعقلها ودينها وحداثة سنها فلا بد من المماثلة بين المرأتين في هذه الأشياء ليكون الواجب لها مهر مثل نسائها إذ لا يكون مهر المثل بدون المماثلة بينهما, ولا يعتبر مهرها بمهر أمها ولا بمهر خالتها إلا أن تكون من قبيلتها من بنات أعمامها؛ لأن المهر يختلف بشرف النسب, والنسب من الآباء لا من الأمهات فإنما يحصل لها شرف النسب من قبيل أبيها أو قبيلته لا من قبل أمها وعشيرتها والله أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يجب به المهر وبيان وقت وجوبه وكيفية وجوبه وما يتعلق بذلك من الأحكام فنقول: وبالله التوفيق المهر في النكاح الصحيح يجب بالعقد؛ لأنه إحداث الملك, والمهر يجب بمقابلة إحداث الملك؛ ولأنه عقد معاوضة وهو معاوضة البضع بالمهر فيقتضي وجوب العوض كالبيع, سواء كان المهر مفروضا

 

ج / 2 ص -288-       في العقد أو لم يكن عندنا, وعند الشافعي إن كان مفروضا لا يجب بنفس العقد, وإنما يجب بالفرض أو بالدخول على ما ذكرنا فيما تقدم, وفي النكاح الفاسد يجب المهر لكن لا بنفس العقد بل بواسطة الدخول؛ لعدم حدوث الملك قبل الدخول أصلا وعدم حدوثه بعد الدخول مطلقا؛ ولانعدام المعاوضة قبل الدخول رأسا وانعدامها بعد الدخول مطلقا؛ لما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه ويجب عقيب العقد بلا فصل لما ذكرنا أنه يجب بإحداث الملك, والملك يحدث عقيب العقد بلا فصل؛ ولأن المعاوضة المطلقة تقتضي ثبوت الملك في العوضين في وقت واحد وقد ثبت الملك في أحد العوضين وهو البضع عقيب العقد فيثبت في العوض الآخر عقيبه تحقيقا للمعاوضة المطلقة إلا أنه يجب بنفس العقد وجوبا موسعا, وإنما يتضيق عند المطالبة كالثمن في باب البيع أنه يجب بنفس البيع وجوبا موسعا, وإنما يتضيق عند مطالبة البائع. وإذا طالبت المرأة بالمهر يجب على الزوج تسليمه أولا؛ لأن حق الزوج في المرأة متعين, وحق المرأة في المهر لم يتعين بالعقد, وإنما يتعين بالقبض فوجب على الزوج التسليم عند المطالبة ليتعين كما في البيع أن المشتري يسلم الثمن أولا, ثم يسلم البائع المبيع إلا أن الثمن في باب البيع إذا كان دينا يقدم تسليمه على تسليم المبيع ليتعين, وإن كان عينا يسلمان معا وههنا يقدم تسليم المهر على كل حال, سواء كان دينا أو عينا؛ لأن القبض والتسلم ههنا معا متعذر ولا تعذر في البيع, وإذا ثبت هذا فنقول: للمرأة قبل دخول الزوج بها أن تمنع الزوج عن الدخول حتى يعطيها جميع المهر ثم تسلم نفسها إلى زوجها, وإن كانت قد انتقلت إلى بيت زوجها لما ذكرنا أن بذلك يتعين حقها فيكون تسليما بتسليم, ولأن المهر عوض عن بضعها كالثمن عوض عن المبيع وللبائع حق حبس المبيع لاستيفاء الثمن فكان للمرأة حق حبس نفسها؛ لاستيفاء المهر, وليس للزوج منعها عن السفر والخروج من منزله وزيارة أهلها قبل إيفاء المهر؛ لأن حق الحبس إنما يثبت لاستيفاء المستحق فإذا لم يجب عليها تسليم النفس قبل إيفاء المهر لم يثبت للزوج حق الاستيفاء فلا يثبت له حق الحبس, وإذا أوفاها المهر فله أن يمنعها من ذلك كله إلا من سفر الحج إذا كان عليها حجة الإسلام ووجدت محرما, وله أن يدخل بها لأنه إذا أوفاها حقها يثبت له حق الحبس لاستيفاء المعقود عليه فإن أعطاها المهر إلا درهما واحدا, فلها أن تمنع نفسها وأن تخرج من مصرها حتى تقبضه؛ لأن حق الحبس لا يتجزأ فلا يبطل إلا بتسليم كل البدل كما في البيع. ولو خرجت لم يكن للزوج أن يسترد منها ما قبضت؛ لأنها قبضته بحق لكون المقبوض حقا لها, والمقبوض بحق لا يحتمل النقض هذا إذا كان المهر معجلا, بأن تزوجها على صداق عاجل أو كان مسكوتا عن التعجيل والتأجيل؛ لأن حكم المسكوت حكم المعجل؛ لأن هذا عقد معاوضة فيقتضي المساواة من الجانبين, والمرأة عينت حق الزوج فيجب أن يعين الزوج حقها, وإنما يتعين بالتسليم فأما إذا كان مؤجلا بأن تزوجها على مهر آجل فإن لم يذكر الوقت لشيء من المهر أصلا بأن قال: تزوجتك على ألف مؤجلة, أو ذكر وقتا مجهولا جهالة متفاحشة بأن قال: تزوجتك على ألف إلى وقت الميسرة أو هبوب الرياح أو إلى أن تمطر السماء فكذلك؛ لأن التأجيل لم يصح لتفاحش الجهالة فلم يثبت الأجل ولو قال: نصفه معجل ونصفه مؤجل كما جرت العادة في ديارنا ولم يذكر الوقت للمؤجل اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: لا يجوز الأجل ويجب حالا كما إذا قال: تزوجتك على ألف مؤجلة. وقال بعضهم: يجوز ويقع ذلك على وقت وقوع الفرقة بالطلاق أو الموت وروي عن أبي يوسف ما يؤيد هذا القول وهو أن رجلا كفل لامرأة عن زوجها نفقة كل شهر, ذكر في كتاب النكاح أنه يلزمه نفقة شهر واحد في الاستحسان, وذكر عن أبي يوسف أنه يلزمه نفقة كل شهر ما دام النكاح قائما بينهما, فكذلك ههنا وإن ذكر وقتا معلوما للمهر فليس لها أن تمنع نفسها في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف أخيرا لها أن تمنع نفسها, سواء كانت المدة قصيرة أو طويلة بعد أن كانت معلومة أو مجهولة جهالة متقاربة كجهالة الحصاد والدياس "وجه" قول أبي يوسف أن من حكم المهر أن يتقدم تسليمه على تسليم النفس بكل حال ألا ترى

 

ج / 2 ص -289-       أنه لو كان معينا أو غير معين وجب تقديمه فلما قبل الزوج التأجيل كان ذلك رضا بتأخير حقه في القبض بخلاف البائع إذا أجل الثمن أنه ليس له أن يحبس المبيع ويبطل حقه في الحبس بتأجيل الثمن؛ لأنه ليس من حكم الثمن تقديم تسليمه على تسليم المبيع لا محالة ألا ترى أن الثمن إذا كان عينا يسلمان معا فلم يكن قبول المشتري التأجيل رضا منه بإسقاط حقه في القبض. وجه قولهما أن المرأة بالتأجيل رضيت بإسقاط حق نفسها فلا يسقط حق الزوج كالبائع إذا أجل الثمن أنه يسقط حق حبس المبيع بخلاف ما إذا كان التأجيل إلى مدة مجهولة جهالة متفاحشة؛ لأن التأجيل ثمة لم يصح فلم يثبت الأجل فبقي المهر حالا. وأما قوله: من شأن المهر أن يتقدم تسليمه على تسليم النفس فنقول: نعم إذا كان معجلا أو مسكوتا عن الوقت فأما إذا كان مؤجلا تأجيلا صحيحا فمن حكمه أن يتأخر تسليمه عن تسليم النفس؛ لأن تقديم تسليمه ثبت حقا لها؛ لأنه ثبت تحقيقا للمعاوضة المقتضية للمساواة حقا لها, فإذا أجلته فقد أسقطت حق نفسها فلا يسقط حق زوجها؛ لانعدام الإسقاط منه والرضا بالسقوط, لهذا المعنى سقط حق البائع في الحبس بتأجيل الثمن كذا هذا ولو كان بعضه حالا وبعضه مؤجلا أجلا معلوما فله أن يدخل بها إذا أعطاها الحال بالإجماع أما عندهما؛ فلأن الكل لو كان مؤجلا لكان له أن يدخل بها فإذا كان البعض معجلا وأعطاها ذلك أولى, والفقه ما ذكرنا أن الزوج ما رضي بإسقاط حقه فلا يسقط حقه. وأما عند أبي يوسف فلأنه لما عجل البعض فلم يرض بتأخير حقه عن القبض؛ لأنه لو رضي بذلك لم يكن لشرط التعجيل فائدة بخلاف ما إذا كان الكل مؤجلا؛ لأنه لما قبل التأجيل فقد رضي؛ بتأخير حقه. ولو لم يدخل بها حتى حل أجل الباقي فله أن يدخل بها إذا أعطاها الحال لما قلنا, ولو كان الكل مؤجلا أجلا معلوما وشرط أن يدخل بها قبل أن يعطيها كله فله ذلك عند أبي يوسف أيضا؛ لأنه لما شرط الدخول لم يرض بتأخير حقه في الاستمتاع. ولو كان المهر مؤجلا أجلا معلوما فحل الأجل ليس لها أن تمنع نفسها لتستوفي المهر على أصل أبي حنيفة ومحمد؛ لأن حق الحبس قد سقط بالتأجيل, والساقط لا يحتمل العود كالثمن في المبيع, وعلى أصل أبي يوسف لها أن تمنع نفسها؛ لأن لها أن تمنع قبل حلول الأجل فبعده أولى. ولو كان المهر حالا فأخرته شهرا ليس لها أن تمنع عندهما وعنده لها ذلك لأن هذا تأجيل طارئ فكان حكمه حكم التأجيل المقارن, وقد مر الكلام فيه ولو دخل الزوج بها برضاها وهي مكلفة فلها أن تمنع نفسها حتى تأخذ المهر, ولها أن تمنعه أن يخرجها من بلدها في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: ليس لها ذلك وعلى هذا الخلاف إذا خلا بها. وجه قولهما أنها بالوطء مرة واحدة أو بالخلوة الصحيحة سلمت جميع المعقود عليه برضاها, وهي من أهل التسليم فبطل حقها في المنع كالبائع إذا سلم المبيع, ولا شك في الرضا وأهلية التسليم, والدليل على أنها سلمت جميع المعقود عليه أن المعقود عليه في هذا الباب في حكم العين, ولهذا يتأكد جميع المهر بالوطء مرة واحدة, ومعلوم أن جميع البدل لا يتأكد بتسليم بعض المعقود عليه وما يتكرر من الوطآت ملتحق بالاستخدام فلا يقابله شيء من المهر, ولأبي حنيفة أن المهر مقابل بجميع ما يستوفى من منافع البضع في جميع الوطآت التي توجد في هذا الملك لا بالمستوفى بالوطأة الأولى خاصة؛ لأنه لا يجوز إخلاء شيء من منافع البضع عن بدل يقابله احتراما للبضع وإبانة لخطره, فكانت هي بالمنع ممتنعة عن تسليم ما يقابله بدل فكان لها ذلك بالوطء في المرة الأولى فكان لها أن تمنعه عن الأول حتى تأخذ مهرها, فكذا عن الثاني والثالث إلا أن المهر يتأكد بالوطء مرة واحدة؛ لأنه موجود معلوم وما وراءه معدوم مجهول فلا يزاحمه في الانقسام ثم عند الوجود يتعين قطعا فيصير مزاحما فيأخذ قسطا من البدل كالعبد إذا جنى جناية يجب دفعه بها فإن جنى جناية أخرى, فالثانية تزاحم الأولى عند وجودها في وجوب الدفع بها. وكذا الثالثة والرابعة إلى ما لا يتناهى بخلاف البائع إذا سلم المبيع قبل قبض الثمن أو بعدما قبض شيئا منه ثم أراد أن يسترد أنه ليس له ذلك؛ لأنه سلم كل المبيع فلا يملك الرجوع فيما سلم, وههنا ما سلمت كل المعقود عليه بل البعض دون البعض؛ لأن المعقود عليه منافع البضع وما سلمت كل المنافع بل بعضها دون البعض, فهي بالمنع تمتنع عن تسليم ما لم يحصل مسلما بعد, فكان لها ذلك كالبائع إذا

 

ج / 2 ص -290-       سلم بعض المبيع قبل استيفاء الثمن كان له حق حبس الباقي ليستوفي الثمن كذا هذا, وكان أبو القاسم الصفار يفتي في منعها نفسها بقول أبي يوسف ومحمد وفي السفر بقول أبي حنيفة وبعد إيفاء المهر كان له أن ينقلها حيث شاء وحكى الفقيه أبو جعفر الهندواني عن محمد بن سلمة أنه كان يفتي أن بعد تسليم المهر ليس لزوجها أن يسافر بها قال أبو يوسف: ولو وجدت المرأة المهر زيوفا أو ستوقا فردت أو كان المقبوض عرضا اشترته من الزوج بالمهر فاستحق بعد القبض, وقد كان دخل بها فليس لها أن تمنع نفسها في جميع ذلك, وهذا على أصلهما مستقيم؛ لأن من أصلهما أن التسليم من غير قبض المهر يبطل حق المنع, وهذا تسليم من غير قبض؛ لأن ذلك القبض بالرد والاستحقاق انتقض والتحق بالعدم فصار كأنها لم تقبضه وقبل القبض الجواب هكذا عندهما. وأما عند أبي حنيفة فينبغي أن يكون لها أن تمنع نفسها, ثم فرق أبو يوسف بين هذا وبين المنع أنه إذا استحق الثمن من يد البائع أو وجده زيوفا أو ستوقا فرده له أن يسترد المبيع فيحبسه؛ لأن البائع بعد الاسترداد يمكنه الحبس على الوجه الذي كان قبل ذلك. وأما ههنا لا يمكنه لأنه استوفى بعض منافع البضع فلا يكون هذا الحبس مثل الأول فلا يعود حقها في الحبس ومما يلتحق بهذا الفصل أن للمرأة أن تهب مهرها للزوج دخل بها أو لم يدخل؛ لقوله عز وجل: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وليس لأحد من أوليائها الاعتراض عليها, سواء كان أبا أو غيره؛ لأنها وهبت خالص ملكها وليس لأحد في عين المهر حق فيجوز, ويلزم بخلاف ما إذا زوجت نفسها وقصرت عن مهر مثلها أن للأولياء حق الاعتراض في قول أبي حنيفة؛ لأن الأمهار حق الأولياء فقد تصرفت في خالص حقهم؛ ولأنها ألحقت الضرر بالأولياء بإلحاق العار والشنار بهم, فلهم دفع هذا الضرر بالاعتراض والفسخ. وليس للأب أن يهب مهر ابنته عند عامة العلماء. وقال بعضهم: له ذلك وتمسكوا بقوله تعالى: {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} والأب بيده عقدة النكاح, ولنا أن المهر ملك المرأة وحقها؛ لأنه بدل بضعها, وبضعها حقها وملكها, والدليل عليه قوله عز وجل: {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً} أضاف المهر إليها فدل أن المهر حقها وملكها, وقوله عز وجل: {طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً} وقوله تعالى: منه أي: من الصداق؛ لأنه هو المكنى السابق أباح للأزواج التناول من مهور النساء إذا طابت أنفسهن بذلك, ولذا علق سبحانه وتعالى الإباحة بطيب أنفسهن, فدل ذلك كله على أن مهرها ملكها وحقها, وليس لأحد أن يهب ملك الإنسان بغير إذنه؛ ولهذا لا يملك الولي هبة غيره من أموالها فكذا المهر. وأما الآية الشريفة فقد قيل: إن المراد من الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج كذا روي عن علي رضي الله عنه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما, ويجوز أن يحمل قول من صرف التأويل إلى الولي على بيان نزول الآية على ما قيل: إن حين النزول كان المهور للأولياء, ودليله قول شعيب لموسى: عليهما الصلاة والسلام {إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ} شرط المهر لنفسه لا لابنته ثم نسخ بما تلونا من الآيات وللمولى أن يهب صداق أمته ومدبرته وأم ولده من زوجها؛ لأن المهر ملكه, وليس له أن يهب مهر مكاتبته, ولو وهب لا يبرأ الزوج. ولا يدفعه إلى المولى؛ لأن مهر المكاتبة لها لا للمولى؛ لأنه من أكسابها, وكسب المكاتب له لا لمولاه, وتجوز الزيادة في المهر إذا تراضيا بها والحط عنه إذا رضيت به؛ لقوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ} رفع الجناح فيما تراضيا به الزوجان بعد الفريضة وهو التسمية, وذلك هو الزيادة في المهر والحط عنه, وأحق ما تصرف إليه الآية الزيادة؛ لأنه ذكر لفظة التراضي وأنه يكون بين اثنين ورضا المرأة كان في الحط؛ ولأن الزيادة تلحق العقد ويصير كأن العقد ورد على الأصل والزيادة جميعا كالخيار في باب البيع والأجل فيه, فإن من اشترى من آخر عبدا بيعا باتا ثم إن أحدهما جعل لصاحبه الخيار يوما جاز ذلك حتى لو نقض البيع جاز نقضه, ويصير ذلك كالخيار المشروط في أصل البيع. وكذا إذا اشترى عبدا بألف درهم حالة, ثم إن البائع أجل المشتري في الثمن شهرا جاز التأجيل, ويصير كأنه كان مسمى في العقد كذا ههنا, ولا يثبت خيار الرؤية في المهر حتى لو تزوج امرأة على عبد بعينه أو جارية بعينها ولم تره ثم رأته ليس لها أن ترده بخيار الرؤية؛ لأن النكاح لا ينفسخ برده فلو ردت لرجعت عليه بعبد آخر وثبت لها فيه خيار الرؤية فترده ثم ترجع عليه بآخر

 

ج / 2 ص -291-       إلى ما لا يتناهى فلم يكن الرد مفيدا لخلوه عن العاقبة الحميدة فكان سفها فلا يثبت لها حق الرد, وكذلك الخلع والإعتاق على مال والصلح عن دم العمد لما قلنا: بخلاف البيع أنه يثبت فيه خيار الرؤية؛ لأن البيع ينفسخ برد المبيع ويرجع بالثمن فكان الرد مفيدا لذلك افترقا, وهل يثبت خيار العيب في المهر؟ ينظر في ذلك إن كان العيب يسيرا لا يثبت, وإن كان فاحشا يثبت, وكذلك هذا في بدل الخلع والإعتاق على مال والصلح عن دم العمد بخلاف البيع والإجارة وبدل الصلح على مال أنه يرد بالعيب اليسير والفاحش؛ لأن هناك ينفسخ العقد برده, وههنا لا ينفسخ وإذا لم ينفسخ فيقبض مثله فربما يجد فيه عيبا يسيرا أيضا؛ لأن الأعيان لا تخلو عن قليل عيب عادة فيرده ثم يقبض مثله فيؤدي إلى ما لا يتناهى فلا يفيد الرد, وهذا المعنى لا يوجد في البيع والإجارة؛ لأنه ينفسخ العقد بالرد فكان الرد مفيدا؛ ولأن حق الرد بالعيب إنما يثبت استدراكا للفائت وهو صفة السلامة المستحقة بالعقد, والعيب إذا كان يسيرا لا يعرف الفوات بيقين؛ لأن العيب اليسير يدخل تحت تقويم المقومين لا يخلو عنه فمن مقوم يقومه بدون العيب بألف, ومن مقوم يقومه مع العيب بألف أيضا, فلا يعلم فوات صفة السلامة بيقين فلا حاجة إلى الاستدراك بالرد بخلاف العيب الفاحش؛ لأنه لا يختلف فيه المقومون فكان الفوات حاصلا بيقين فتقع الحاجة إلى استدراك الفائت بالرد إلا أن هذا المعنى الأخير يشكل بالبيع وأخواته, فإن العيب اليسير فيها يوجب حق الرد, وإن كان هذا المعنى موجودا فيها فالأصح هو الوجه الأول ولا شفعة في المهر؛ لأن من شرائط ثبوت حق الشفعة معاوضة المال بالمال لما نذكره في كتاب الشفعة إن شاء الله تعالى, والنكاح معاوضة البضع بالمال فلا يثبت فيه حق الشفعة.

"فصل": "وأما" بيان ما يتأكد به المهر فالمهر يتأكد بأحد معان ثلاثة. الدخول والخلوة الصحيحة وموت أحد الزوجين, سواء كان مسمى أو مهر المثل حتى لا يسقط شيء منه بعد ذلك إلا بالإبراء من صاحب الحق, أما التأكد بالدخول فمتفق عليه, والوجه فيه أن المهر قد وجب بالعقد وصار دينا في ذمته, والدخول لا يسقطه؛ لأنه استيفاء المعقود عليه, واستيفاء المعقود عليه, يقرر البدل لا أن يسقطه كما في الإجارة؛ ولأن المهر يتأكد بتسليم المبدل من غير استيفائه لما نذكر فلأن يتأكد بالتسليم مع الاستيفاء أولى. "وأما" التأكد بالخلوة فمذهبنا. وقال الشافعي: لا يتأكد المهر بالخلوة حتى لو خلا بها خلوة صحيحة ثم طلقها قبل الدخول بها في نكاح فيه تسمية يجب عليه كمال المسمى عندنا. وعنده نصف المسمى وإن لم يكن في النكاح تسمية يجب عليه كمال مهر المثل عندنا, وعنده يجب عليه المتعة, وعلى هذا الاختلاف وجوب العدة بعد الخلوة قبل الدخول عندنا تجب, وعنده لا تجب واحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أوجب الله تعالى نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية؛ لأن المراد من المس هو الجماع ولم يفصل بين حال وجود الخلوة, وعدمها فمن أوجب كل المفروض فقد خالف النص, وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ} أي: ولم تفرضوا لهن فريضة فمتعوهن أوجب تعالى لهن المتعة في الطلاق في نكاح لا تسمية فيه مطلقا من غير فصل بين حال وجود الخلوة وعدمها, وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} فدلت الآية الشريفة على نفي وجوب العدة ووجوب المتعة قبل الدخول من غير فصل؛ ولأن تأكد المهر يتوقف على استيفاء المستحق بالعقد وهو منافع البضع واستيفاؤها بالوطء ولم يوجد, ولا ضرورة لها في التوقف؛ لأن الزوج لا يخلو إما أن يستوفي أو يطلق, فإن استوفى تأكد حقها. وإن طلق يفوت عليها نصف المهر لكن بعوض هو خير لها؛ لأن المعقود عليه يعود عليها سليما مع سلامة نصف المهر لها بخلاف الإجارة أنه تتأكد الأجرة فيها بنفس التخلية ولا يتوقف التأكد على استيفاء المنافع؛ لأن في التوقف هناك ضررا بالآجر؛ لأن الإجارة مدة معلومة فمن الجائز أن يمنع المستأجر من استيفاء المنافع مدة الإجارة بعد التخلية فلو توقف تأكد الأجرة على حقيقة الاستيفاء, وربما لا يستوفي لفائت المنافع عليه مجانا

 

ج / 2 ص -292-       بلا عوض فيتضرر به الآجر فأقيم التمكن من الانتفاع مقام استيفاء المنفعة دفعا للضرر عن الآجر, وههنا لا ضرر في التوقف على ما بينا فتوقف التأكد على حقيقة الاستيفاء ولم يوجد فلا يتأكد, ولنا قوله عز وجل: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ}. نهى سبحانه وتعالى الزوج عن أخذ شيء مما ساق إليها من المهر عند الطلاق, وأبان عن معنى النهي لوجود الخلوة كذا قال القراء: إن الإفضاء هو الخلوة دخل بها أو لم يدخل, ومأخذ اللفظ دليل على أن المراد منه الخلوة الصحيحة؛ لأن الإفضاء مأخوذ من الفضاء من الأرض وهو الموضع الذي لا نبات فيه ولا بناء فيه ولا حاجز يمنع عن إدراك ما فيه فكان المراد منه الخلوة على هذا الوجه, وهي التي لا حائل فيها ولا مانع من الاستمتاع عملا بمقتضى اللفظ, فظاهر النص يقتضي أن لا يسقط شيء منه بالطلاق إلا أن سقوط النصف بالطلاق قبل الدخول وقبل الخلوة في نكاح فيه تسمية وإقامة المتعة مقام نصف مهر المثل في نكاح لا تسمية فيه ثبت بدليل آخر فبقي حال ما بعد الخلوة على ظاهر النص. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كشف خمار امرأته ونظر إليها وجب الصداق دخل بها أو لم يدخل" وهذا نص في الباب. وروي عن زرارة بن أبي أوفى أنه قال: قضى الخلفاء الراشدون المهديون أنه إذا أرخى الستور وأغلق الباب فلها الصداق كاملا وعليها العدة دخل بها أو لم يدخل بها, وحكى الطحاوي في هذه المسألة إجماع الصحابة من الخلفاء الراشدين وغيرهم؛ ولأن المهر قد وجب بنفس العقد إما في نكاح فيه تسمية فلا شك فيه, وإما في نكاح لا تسمية فيه فلما ذكرنا في مسألة المفوضة إلا أن الوجوب بنفس العقد ثبت موسعا ويتضيق عند المطالبة, والدين المضيق واجب القضاء. قال النبي: صلى الله عليه وسلم: "الدين مضيق", ولأن المهر متى صار ملكا لها بنفس العقد, فالملك الثابت لإنسان لا يجوز أن يزول إلا بإزالة المالك أو بعجزه عن الانتفاع بالمملوك حقيقة إما لمعنى يرجع إلى المالك أو لمعنى يرجع إلى المحل ولم يوجد شيء من ذلك فلا يزول إلا عند الطلاق قبل الدخول وقبل الخلوة سقط النصف بإسقاط الشرع غير معقول المعنى إلا بالطلاق؛ لأن الطلاق فعل الزوج, والمهر ملكها, والإنسان لا يملك إسقاط حق الغير عن نفسه؛ ولأنها سلمت المبدل إلى زوجها فيجب على زوجها تسليم البدل إليها كما في البيع والإجارة, والدليل على أنها سلمت المبدل أن المبدل هو ما يستوفى بالوطء وهو المنافع إلا أن المنافع قبل الاستيفاء معدومة, فلا يتصور تسليمها لكن لها محل موجود وهو العين وأنها متصور التسليم حقيقة فيقام تسليم العين مقام تسليم المنفعة كما في الإجارة وقد وجد تسليم المحل؛ لأن التسليم هو جعل الشيء سالما للمسلم إليه, وذلك برفع الموانع وقد وجد؛ لأن الكلام في الخلوة الصحيحة وهي عبارة عن التمكن من الانتفاع ولا يتحقق التمكن إلا بعد ارتفاع الموانع كلها فثبت أنه وجد منها تسليم المبدل, فيجب على الزوج تسليم البدل؛ لأن هذا عقد معاوضة وأنه يقتضي تسليما بإزاء التسليم كما يقتضي ملكا بإزاء ملك تحقيقا بحكم المعاوضة. كما في البيع والإجارة وأما الآية فقال بعض أهل التأويل: إن المراد من المسيس هو الخلوة فلا تكون حجة على أن فيها إيجاب نصف المفروض لا إسقاط النصف الباقي ألا ترى أن من كان في يده عبد فقال: نصف هذا العبد لفلان لا يكون ذلك نفيا للنصف الباقي, فكان حكم النصف الباقي مسكوتا عنه فبقيت على قيام الدليل, وقد قام الدليل على البقاء وهو ما ذكرنا فيبقى. وأما قوله: التأكد إنما يثبت باستيفاء المستحق فممنوع بل كما يثبت باستيفاء المستحق يثبت بتسليم المستحق كما في الإجارة, وتسليمه بتسليم محله وقد حصل ذلك بالخلوة الصحيحة على ما بينا ثم تفسير الخلوة الصحيحة هو أن لا يكون هناك مانع من الوطء لا حقيقي ولا شرعي ولا طبعي. أما المانع الحقيقي فهو أن يكون أحدهما مريضا مرضا يمنع الجماع أو صغيرا لا يجامع مثله أو صغيرة لا يجامع مثلها أو كانت المرأة رتقاء أو قرناء؛ لأن الرتق والقرن يمنعان من الوطء وتصح خلوة الزوج, إن كان الزوج عنينا أو خصيا؛ لأن العنة والخصاء لا يمنعان من الوطء فكانت خلوتهما كخلوة غيرهما, وتصح خلوة المجبوب في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا تصح "وجه" قولهما أن الجب يمنع من الوطء فيمنع صحة الخلوة كالقرن والرتق ولأبي حنيفة أنه

 

ج / 2 ص -293-       يتصور منه السحق والإيلاد بهذا الطريق ألا ترى لو جاءت امرأته بولد يثبت النسب منه بالإجماع, واستحقت كمال المهر إن طلقها, وإن لم يوجد منه الوطء المطلق فيتصور في حقه ارتفاع المانع من وطء مثله فتصح خلوته وعليها العدة أما عنده فلا يشكل؛ لأن الخلوة إذا صحت أقيمت مقام الوطء في حق تأكد المهر ففي حق العدة أولى؛ لأنه يحتاط في إيجابها. وأما عندهما فقد ذكر الكرخي أن عليها العدة عندهما أيضا, وقال أبو يوسف: إن كان المجبوب ينزل فعليها العدة؛ لأن المجبوب قد يقذف بالماء فيصل إلى الرحم ويثبت نسب ولده فتجب العدة احتياطا, فإن جاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه ووجب لها جميع الصداق؛ لأن الحكم بثبات النسب يكون حكما بالدخول فيتأكد المهر على قولهما أيضا, وإن كان لا ينزل فلا عدة عليها فإن جاءت بولد لأقل من ستة أشهر ثبت نسبه وإلا فلا يثبت كالمطلقة قبل الدخول وكالمعتدة إذا أقرت بانقضاء العدة, وأما المانع الشرعي فهو أن يكون أحدهما صائما صوم رمضان أو محرما بحجة فريضة أو نفل أو بعمرة أو تكون المرأة حائضا أو نفساء؛ لأن كل ذلك محرم للوطء فكان مانعا من الوطء شرعا, والحيض والنفاس يمنعان منه طبعا أيضا؛ لأنهما أذى, والطبع السليم ينفر عن استعمال الأذى. وأما في غير صوم رمضان فقد روى بشر عن أبي يوسف أن صوم التطوع وقضاء رمضان والكفارات والنذور لا يمنع صحة الخلوة. وذكر الحاكم الجليل في مختصره أن نفل الصوم كفرضه فصار في المسألة روايتان "وجه" رواية المختصر أن صوم التطوع يحرم الفطر من غير عذر فصار كحج التطوع, وذا يمنع صحة الخلوة كذا هذا. "وجه" رواية بشر أن صوم غير رمضان مضمون بالقضاء لا غير فلم يكن قويا في معنى المنع بخلاف صوم رمضان فإنه يجب فيه القضاء والكفارة وكذا حج التطوع فقوي المانع "ووجه" آخر من الفرق بين صوم التطوع وبين صوم رمضان أن تحريم الفطر في صوم التطوع من غير عذر غير مقطوع به لكونه محل الاجتهاد. وكذا لزوم القضاء بالإفطار فلم يكن مانعا بيقين, وحرمة الإفطار في صوم رمضان من غير عذر مقطوع بها. وكذا لزوم القضاء فكان مانعا بيقين. "وأما" المانع الطبعي فهو أن يكون معهما ثالث؛ لأن الإنسان يكره أن يجامع امرأته بحضرة ثالث ويستحي فينقبض عن الوطء بمشهد منه, وسواء كان الثالث بصيرا أو أعمى يقظانا أو نائما بالغا أو صبيا بعد أن كان عاقلا رجلا أو امرأة أجنبية أو منكوحته؛ لأن الأعمى إن كان لا يبصر فيحس والنائم يحتمل أن يستيقظ ساعة فساعة, فينقبض الإنسان عن الوطء مع حضوره, والصبي العاقل بمنزلة الرجل يحتشم الإنسان منه كما يحتشم من الرجل, وإذا لم يكن عاقلا فهو ملحق بالبهائم لا يمتنع الإنسان عن الوطء لمكانه ولا يلتفت إليه, والإنسان يحتشم من المرأة الأجنبية ويستحي. وكذا لا يحل لها النظر إليهما فينقبضان لمكانها, وإذا كان هناك منكوحة له أخرى أو تزوج امرأتين فخلا بهما فلا يحل لها النظر إليهما فينقبض عنها, وقد قالوا: إنه لا يحل لرجل أن يجامع امرأته بمشهد امرأة أخرى, ولو كان الثالث جارية له, فقد روي أن محمدا كان يقول: أولا تصح خلوته ثم رجع وقال: لا تصح "وجه" قوله الأول: أن الأمة ليست لها حرمة الحرة فلا يحتشم المولى منها؛ ولذا يجوز لها النظر إليه فلا تمنعه عن الوطء. "وجه" قوله الأخير: أن الأمة إن كان يجوز لها النظر إليه لا يجوز لها النظر إليها, فتنقبض المرأة لذلك وكذا قالوا: لا يحل له الوطء بمشهد منها كما لا يحل بمشهد امرأته الأخرى. ولا خلوة في المسجد والطريق والصحراء وعلى سطح لا حجاب عليه؛ لأن المسجد يجمع الناس للصلاة ولا يؤمن من الدخول عليه ساعة فساعة وكذا الوطء في المسجد حرام قال الله عز وجل {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ} والطريق ممر الناس لا تخلو عنهم عادة, وذلك يوجب الانقباض فيمنع الوطء. وكذا الصحراء والسطح من غير حجاب؛ لأن الإنسان ينقبض عن الوطء في مثله؛ لاحتمال أن يحصل هناك ثالث أو ينظر إليه أحد معلوم ذلك بالعادة. ولو خلا بها في حجلة أو قبة فأرخى الستر عليه فهو خلوة صحيحة؛ لأن ذلك في معنى البيت. ولا خلوة في النكاح الفاسد لأن الوطء فيه حرام فكان المانع الشرعي قائما, ولأن الخلوة مما يتأكد به المهر, وتأكده بعد وجوبه يكون ولا يجب بالنكاح الفاسد شيء فلا يتصور التأكد, والله عز وجل أعلم ثم في كل موضع صحت الخلوة وتأكد المهر وجبت العدة

 

ج / 2 ص -294-       لأن الخلوة الصحيحة لما أوجبت كمال المهر فلأن توجب العدة أولى؛ لأن المهر خالص حق العبد, وفي العدة حق الله تعالى فيحتاط فيها وفي كل موضع فسدت فيه الخلوة لا يجب كمال المهر, وهل تجب العدة؟ ينظر في ذلك إن كان الفساد لمانع حقيقي لا تجب؛ لأنه لا يتصور الوطء مع وجود المانع الحقيقي منه, وإن كان المانع شرعيا أو طبعيا تجب؛ لأن الوطء مع وجود هذا النوع من المانع ممكن فيتهمان في الوطء فتجب العدة عند الطلاق احتياطا والله عز وجل الموفق. وأما التأكد بموت أحد الزوجين فنقول: لا خلاف في أن أحد الزوجين إذا مات حتف أنفه قبل الدخول في نكاح فيه تسمية أنه يتأكد المسمى, سواء كانت المرأة حرة أو أمة؛ لأن المهر كان واجبا بالعقد, والعقد لم ينفسخ بالموت بل انتهى نهايته لأنه عقد للعمر فتنتهي نهايته عند انتهاء العمر, وإذا انتهى يتأكد فيما مضى, ويتقرر بمنزلة الصوم يتقرر بمجيء الليل فيتقرر الواجب, ولأن كل المهر لما وجب بنفس العقد صار دينا عليه, والموت لم يعرف مسقطا للدين في أصول الشرع فلا يسقط شيء منه بالموت كسائر الديون. وكذا إذا قتل أحدهما, سواء كان قتله أجنبي أو قتل أحدهما صاحبه أو قتل الزوج نفسه. فأما إذا قتلت المرأة نفسها, فإن كانت حرة لا يسقط عن الزوج شيء من المهر بل يتأكد المهر عندنا, وعند زفر والشافعي يسقط المهر. "وجه" قولهما أنها بالقتل فوتت على الزوج حقه في المبدل فيسقط حقها في البدل كما إذا ارتدت قبل الدخول أو قبلت ابن زوجها أو أباه. "ولنا" أن القتل إنما يصير تفويتا للحق عند زهوق الروح؛ لأنه إنما يصير قتلا في حق المحل عند ذلك, والمهر في تلك الحالة ملك الورثة فلا يحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها أو أجنبي بخلاف الردة والتقبيل؛ لأن المهر وقت التقبيل والردة كان ملكها فاحتمل السقوط بفعلها كما إذا قتلها زوجها أو قتل المولى أمته سقط مهرها في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف ومحمد: لا يسقط بل يتأكد. "وجه" قولهما أن الموت مؤكد للمهر وقد وجد الموت؛ لأن المقتول ميت بأجله فيتأكد بالموت كما إذا قتلها أجنبي أو قتلها زوجها وكالحرة إذا قتلت نفسها؛ ولأن الموت إنما أكد المهر؛ لأنه ينتهي به النكاح, والشيء إذا انتهى نهايته يتقرر, وهذا المعنى موجود في القتل لأنه ينتهي به النكاح فيتقرر به المبدل, وتقرر المبدل يوجب تقرر البدل ولأبي حنيفة أن من له البدل فوت المبدل على صاحبه, وتفويت المبدل على صاحبه يوجب سقوط البدل كالبائع إذا أتلف المبيع قبل القبض أنه يسقط الثمن لما قلنا كذا هذا, ولا شك أنه وجد تفويت المبدل ممن يستحق البدل؛ لأن المستحق للمبدل هو المولى وقد أخرج المبدل عن كونه مملوكا للزوج, والدليل على أن هذا يوجب سقوط البدل أن الزوج لا يرضى بملك البدل عليه بعد فوات المبدل عن ملكه فكان إيفاء البدل عليه بعد زوال المبدل عن ملكه إضرارا به, والأصل في الضرر أن لا يكون فكان إقدام المولى على تفويت المبدل عن ملك الزوج, والحالة هذه إسقاطا للبدل دلالة فصار كما لو أسقطه نصا بالإبراء بخلاف الحرة إذا قتلت نفسها؛ لأنها وقت فوات المبدل لم تكن مستحقة للبدل لانتقاله إلى الورثة على ما بينا, والإنسان لا يملك إسقاط حق غيره, وههنا بخلافه؛ ولأن المهر وقت فوات المبدل على الزوج ملك المولى وحقه. والإنسان يملك التصرف في ملك نفسه استيفاء وإسقاطا فكان محتملا للسقوط بتفويت المبدل دلالة كما كان محتملا للسقوط بالإسقاط نصا بالإبراء, وهو الجواب عما إذا قتلها زوجها أو أجنبي؛ لأنه لا حق للأجنبي ولا للزوج في مهرها فلا يحتمل السقوط بإسقاطهما, ولهذا لا يحتمل السقوط بإسقاطهما نصا فكيف يحتمل السقوط من طريق الدلالة ؟. والدليل على التفرقة بين هذه الفصول أن قتل الحرة نفسها لا يتعلق به حكم من أحكام الدنيا فصار كموتها حتف أنفها حتى قال أبو حنيفة ومحمد: إنها تغسل ويصلى عليها كما لو ماتت حتف أنفها, وقتل المولى أمته يتعلق به وجوب الكفارة, وقتل الأجنبي إياها يتعلق به وجوب القصاص إن كان عمدا, والدية والكفارة إن كان خطأ فلم يكن قتلها بمنزلة الموت هذا إذا قتلها المولى فأما إذا قتلت نفسها فعن أبي حنيفة فيه روايتان روى أبو يوسف عنه أنه لا مهر لها, وروى محمد عنه أن لها المهر وهو قولهما: "وجه" الرواية الأولى أن قتلها نفسها بمنزلة قتل المولى إياها بدليل أن جنايتها كجنايته في باب الضمان؛ لأنها مضمونة بمال المولى ولو قتلها المولى يسقط المهر

 

ج / 2 ص -295-       عنده فكذا إذا قتلت نفسها. "وجه" الرواية الأخرى أن البدل حق المولى وملكه فتفويت المبدل منها لا يوجب بطلان حق المولى بخلاف جناية المولى, والدليل على التفرقة بين الجنايتين أن جنايتها على نفسها هدر بدليل أنه لا يتعلق بها حكم من أحكام الدنيا فالتحقت بالعدم وصارت كأنها ماتت حتف أنفها بخلاف جناية المولى عليها, فإنها مضمونة بالكفارة, وهي من أحكام الدنيا فكانت جنايته عليها معتبرة فلا تجعل بمنزلة الموت والله عز وجل الموفق. وإذا تأكد المهر بأحد المعاني التي ذكرناها لا يسقط بعد ذلك, وإن كانت الفرقة من قبلها؛ لأن البدل بعد تأكده لا يحتمل السقوط إلا بالإبراء كالثمن إذا تأكد بقبض المبيع. وأما إذا مات أحد الزوجين في نكاح لا تسمية فيه فإنه يتأكد مهر المثل عند أصحابنا وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما وعن علي رضي الله عنه أن لها المتعة وبه أخذ الشافعي إلا أنه قال: متعتها ما استحقت من الميراث لا غير, احتج من قال بوجوب المتعة بقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} وقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ} إلى قوله عز وجل: {فَمَتِّعُوهُنَّ} أمر سبحانه وتعالى بالمتعة من غير فصل بين حال الموت وغيرها, والنص وإن ورد في الطلاق لكنه يكون واردا في الموت ألا ترى أن النص ورد في صريح الطلاق ثم ثبت حكمه في الكتابات من الإبانة والتسريح والتحريم ونحو ذلك كذا ههنا. "ولنا" ما روينا عن معقل بن سنان "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات عنها زوجها قبل أن يدخل بها بمهر المثل"؛ ولأن المعنى الذي له وجب كل المسمى بعد موت أحد الزوجين في نكاح فيه تسمية موجود في نكاح لا تسمية فيه, وهو ما ذكرنا فيما تقدم ولا حجة له في الآية؛ لأن فيها إيجاب المتعة في الطلاق لا في الموت فمن ادعى إلحاق الموت بالطلاق فلا بد له من دليل آخر.

"فصل": وأما بيان ما يسقط به كل المهر, فالمهر كله يسقط بأسباب أربعة :. منها: الفرقة بغير طلاق قبل الدخول بالمرأة وقبل الخلوة بها, فكل فرقة حصلت بغير طلاق قبل الدخول وقبل الخلوة تسقط جميع المهر, سواء كانت من قبل المرأة أو من قبل الزوج, وإنما كان كذلك لأن الفرقة بغير طلاق تكون فسخا للعقد, وفسخ العقد قبل الدخول يوجب سقوط كل المهر؛ لأن فسخ العقد رفعه من الأصل وجعله كأن لم يكن, وسنبين الفرقة التي تكون بغير طلاق والتي تكون بطلاق إن شاء الله تعالى في موضعها, ومنها: الإبراء عن كل المهر قبل الدخول وبعده إذا كان المهر دينا لأن الإبراء إسقاط, والإسقاط ممن هو من أهل الإسقاط في محل قابل للسقوط يوجب السقوط, ومنها: الخلع على المهر قبل الدخول وبعده ثم إن كان المهر غير مقبوض سقط عن الزوج, وإن كان مقبوضا ردته على الزوج, وإن كان خالعها على مال سوى المهر يلزمها ذلك المال ويبرأ الزوج عن كل حق وجب لها عليه بالنكاح كالمهر والنفقة الماضية في قول أبي حنيفة؛ لأن الخلع وإن كان طلاقا بعوض عندنا لكن فيه معنى البراءة لما نذكره إن شاء الله تعالى في مسألة المخالعة والمبارأة في كتاب الطلاق في بيان حكم الخلع وعمله إن شاء الله تعالى ومنها: هبة كل المهر قبل القبض عينا كان أو دينا وبعده إذا كان عينا. وجملة الكلام في هبة المهر أن المهر لا يخلو إما أن يكون عينا وهو أن يكون معينا مشارا إليه مما يصح تعيينه, وإما أن يكون دينا وهو أن يكون في الذمة كالدراهم والدنانير معينة كانت أو غير معينة والمكيلات والموزونات في الذمة والحيوان في الذمة كالعبد والفرس والعرض في الذمة كالثوب الهروي, والحال لا يخلو إما أن يكون قبل القبض وإما أن يكون بعد القبض وهبت كل المهر أو بعضه, فإن وهبته كل المهر قبل القبض ثم طلقها قبل الدخول بها فلا شيء له عليها, سواء كان المهر عينا أو دينا في قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: يرجع عليها بنصف المهر إن كان دينا وبه أخذ الشافعي. "وجه" قول زفر: أنها بالهبة تصرفت في المهر بالإسقاط وإسقاط الدين استهلاكه, والاستهلاك يتضمن القبض فصار كأنها قبضت ثم وهبت, ولنا أن الذي يستحقه الزوج بالطلاق قبل القبض عاد إليه من جهتها بسبب لا يوجب الضمان؛ لأنه يستحق نصف المهر فقد عاد إليه بالهبة

 

ج / 2 ص -296-       والهبة لا توجب الضمان فلا يكون له حق الرجوع عليها بالنصف كالنصف الآخر, وإن وهبت بعد القبض فإن كان الموهوب عينا فقبضه ثم وهبه منها لم يرجع عليها بشيء لأن ما تستحقه بالطلاق قبل الدخول هو نصف الموهوب بعينه وقد رجع إليه بعقد لا يوجب الضمان فلم يكن له الرجوع عليها, وإن كانت دينا في الذمة فإن كان حيوانا أو عرضا فكذلك لا يرجع عليها بشيء؛ لأن الذي تستحقه بالطلاق قبل الدخول نصف ذلك الشيء بعينه من العبد والثوب فصار كأنه تعين بالعقد, وإن كان دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة أو مكيلا أو موزونا سوى الدراهم والدنانير فقبضته ثم وهبته منه ثم طلقها يرجع عليها بمثل نصفه؛ لأن المستحق بالطلاق ليس هو الذي وهبته بعينه, بل مثله بدليل أنها كانت مخيرة في الدفع إن شاءت دفعت ذلك بعينه وإن شاءت دفعت مثله كما كان الزوج مخيرا في الدفع إليها بالعقد فلم يكن العائد إليه عين ما يستحقه بالطلاق قبل الدخول فصار كأنها وهبت مالا آخر, ولو كان كذلك لرجع عليها بمثل نصف الصداق كذا هذا. وقال زفر: في الدراهم والدنانير إذا كانت معينة فقبضتها ثم وهبتها ثم طلقها أنه لا رجوع للزوج عليها بشيء بناء على أن الدراهم والدنانير عنده تتعين بالعقد فتتعين بالفسخ أيضا كالعروض, وعندنا لا تتعين بالعقد فلا تتعين بالفسخ, والمسألة ستأتي في كتاب البيوع, وكذلك إذا كان المهر دينا فقبضت الكل ثم وهبت البعض فللزوج أن يرجع عليها بنصف المقبوض؛ لأن له أن يرجع عليها إذا وهبت الكل فإذا وهبت البعض أولى, وإذا قبضت النصف ثم وهبت النصف الباقي أو وهبت الكل ثم طلقها قبل الدخول بها قال أبو حنيفة: لا يرجع الزوج عليها بشيء. وقال أبو يوسف ومحمد: يرجع عليها بربع المهر "وجه" قولهما: أن المستحق للزوج بالطلاق قبل الدخول نصف المهر, فإذا قبضت النصف دون النصف فقد استحق النصف مشاعا فيما في ذمته وفيما قبضت, فكان نصف النصف وهو ربع الكل في ذمته ونصف النصف فيما قبضت إلا أنها إذا لم تكن وهبته حتى طلقها لم يرجع عليها بشيء؛ لأنه صار ما في ذمته قصاصا بماله عليها, فإذا وهبت بقي حقه في نصف ما في يدها وهو الربع فيرجع عليها بذلك, ولأبي حنيفة أن الذي يستحقه الزوج بالطلاق قبل الدخول ما في ذمته بدليل أنها لو لم تكن وهبت وطلقها لم يرجع عليها بشيء وقد عاد إليه ما كان في ذمته بسبب لا يوجب الضمان وهو الهبة, فلا يكون له الرجوع بشيء. ولو كان المهر جارية فولدت بعد القبض أو جنى عليها فوجب الأرش أو كان شجرا فأثمر أو دخله عيب ثم وهبته منه ثم طلقها قبل الدخول بها رجع عليها بنصف القيمة؛ لأن حق الزوج ينقطع عن العين بهذه العوارض بدليل أنه لا يجوز له أخذها مع الزيادة, وإذا كان حقه منقطعا عنها لم يعد إليه بالهبة ما استحقه بالطلاق, فكان له قيمتها, وإذا حدث به عيب فالحق وإن لم ينقطع عن العين به لكن يجوز له تركه مع العيب فلم يكن الحق متعلقا بالعين على سبيل اللزوم ولم يكن الواصل إلى الزوج عين ما يستحقه بالطلاق. ولو كانت الزيادة في بدنها فوهبتها له ثم طلقها كان له أن يضمنها في قول أبي يوسف وأبي حنيفة خلافا لمحمد بناء على أن الزيادة المتصلة لا تمنع التنصيف عندهما, وعنده تمنع, وإذا باعته المهر أو وهبته على عوض ثم طلقها رجع عليها بمثل, نصفه فيما له مثل وبنصف القيمة فيما لا مثل له؛ لأن المهر عاد إلى الزوج بسبب يتعلق به الضمان فوجب له الرجوع, وإذا ثبت له الرجوع ضمنها كما لو باعته من أجنبي ثم اشتراه الزوج من الأجنبي ثم إن كانت باعت قبل القبض فعليها نصف القيمة يوم البيع؛ لأنه دخل في ضمانها بالبيع, وإن كانت قبضت ثم باعت فعليها نصف القيمة يوم القبض؛ لأنه دخل في ضمانها بالقبض والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يسقط به نصف المهر فما يسقط به نصف المهر نوعان :. نوع يسقط به نصف المهر صورة ومعنى, ونوع يسقط به نصف المهر معنى والكل صورة, أما النوع الأول فهو الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية المهر, والمهر دين لم يقبض بعد. وجملة الكلام فيه أن الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية قد يسقط به عن الزوج نصف المهر, وقد يعود به إليه النصف وقد يكون له به مثل النصف صورة ومعنى أو معنى لا صورة, وبيان هذه الجملة أن المهر المسمى إما أن يكون دينا وإما أن يكون عينا, وكل ذلك لا يخلو إما أن يكون مقبوضا وإما أن يكون غير

 

ج / 2 ص -297-       مقبوض, فإن كان دينا فلم يقبضه حتى طلقها قبل الدخول بها سقط نصف المسمى بالطلاق وبقي النصف هذا طريق عامة المشايخ. وقال بعضهم: إن الطلاق قبل الدخول يسقط جميع المسمى وإنما يجب نصف آخر ابتداء على طريقة المتعة لا بالعقد إلا أن هذه المتعة مقدرة بنصف المسمى, والمتعة في الطلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه غير مقدرة بنصف مهر المثل, وإلى هذا الطريق ذهب الكرخي والرازي وكذا روي عن إبراهيم النخعي أنه قال في الذي طلق قبل الدخول وقد سمى لها: إن لها نصف المهر, وذلك متعتها واحتجوا بقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ} أوجب الله تعالى المتعة في الطلاق قبل الدخول من غير فصل بين ما إذا كان في النكاح تسمية أو لم يكن؛ إلا أن هذه المتعة قدرت بنصف المسمى بدليل آخر وهو قوله عز وجل: {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}, ولأن النكاح انفسخ بالطلاق قبل الدخول؛ لأن المعقود عليه عاد سليما إلى المرأة, وسلامة المبدل لأحد المتعاقدين يقتضي سلامة البدل للآخر كما في الإقالة في باب البيع قبل القبض, وهذا لأن المبدل إذا عاد سليما إلى المرأة فلو لم تسلم البدل إلى الزوج لاجتمع البدل والمبدل في ملك واحد في عقد المعاوضة وهذا لا يجوز, ولهذا المعنى سقط الثمن عن المشتري بالإقالة قبل القبض كذا المهر, ولعامة المشايخ قوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أوجب سبحانه وتعالى نصف المفروض, فإيجاب نصف آخر على طريق المتعة إيجاب ما ليس بمفروض, وهذا خلاف النص, ولأن الطلاق تصرف في الملك بالإبطال وضعا؛ لأنه موضوع لرفع القيد وهو الملك فكان تصرفا في الملك ثم إذا بطل الملك لا يبقى النكاح في المستقبل وينتهي لعدم فائدة البقاء ويتقرر فيما مضى بمنزلة الإعتاق؛ لأنه إسقاط الملك فيكون تصرفا في الملك ثم السبب ينتهي في المستقبل؛ لعدم فائدة البقاء, ويتقرر فيما مضى كذا الطلاق. وكان ينبغي أن لا يسقط شيء من المهر كما لا يسقط بالموت إلا أن سقوط النصف ثبت بدليل؛ ولأن المهر يجب بإحداث ملك المتعة جبرا للذل بالقدر الممكن وبالطلاق لا يتبين أن الملك لم يكن إلا أنه سقط بالنص. وأما النص فقد قيل: إنه منسوخ بالنص الذي في سورة البقرة وهو قوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} الآية أو يحمل الأمر بالتمتع على الندب والاستحباب أو يحمل على الطلاق في نكاح لا تسمية فيه عملا بالدلائل, وقولهم: "الطلاق فسخ النكاح" ممنوع بل هو تصرف في الملك بالقطع والإبطال فيظهر أثره في المستقبل كالإعتاق, وبه تبين أن المعقود عليه ما عاد إلى المرأة؛ لأن المعقود عليه هو ملك المتعة وأنه لا يعود إلى المرأة بل يبطل ملك الزوج عن المتعة بالطلاق ويصير لها في المستقبل إلا أن يعود, أو يقال: إن الطلاق قبل الدخول يشبه الفسخ لما قالوا, ويشبه الإبطال لما قلنا: وشبه الفسخ يقتضي سقوط كل البدل كما في الإقالة قبل القبض, وشبه الإبطال يقتضي أن لا يسقط شيء من البدل كما في الإعتاق قبل القبض فيتنصف توفير الحكم على الشبهين عملا بهما بقدر الإمكان, والدليل على صحة هذا الطريق ما ظهر من القول عن أصحابنا فيمن تزوج امرأة على خمس من الإبل السائمة وسلمها إلى المرأة فحال عليها الحول ثم طلقها قبل الدخول بها أنه يسقط عنها نصف الزكاة. ولو سقط المسمى كله ثم وجب نصفه بسبب آخر لسقط كل الزكاة؛ ولأن القول بسقوط كل المهر ثم يوجب نصفه غير مفيد, والشرع لا يرد بما لا فائدة فيه والله عز وجل أعلم. ولو شرط مع المسمى الذي هو مال ما ليس بمال بأن تزوجها على ألف درهم, وعلى أن يطلق امرأته الأخرى أو على أن لا يخرجها من بلدها ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى وسقط الشرط؛ لأن هذا شرط إذا لم يقع الوفاء به يجب تمام مهر المثل, ومهر المثل لا يثبت في الطلاق قبل الدخول فسقط اعتباره فلم يبق إلا المسمى فيتنصف, وكذلك إن شرط مع المسمى شيئا مجهولا كما إذا تزوجها على ألف درهم وكرامتها أو على ألف درهم وأن يهدي إليها هدية ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف المسمى؛ لأنه إذا لم يف بالكرامة والهدية يجب تمام مهر المثل, ومهر المثل لا مدخل له في الطلاق قبل الدخول فسقط اعتبار هذا الشرط, وكذلك لو تزوجها على ألف أو على ألفين حتى وجب مهر المثل في قول أبي حنيفة, وفي قولهما: الأقل ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الألف بالإجماع

 

ج / 2 ص -298-       أما عند أبي حنيفة فلأن الواجب هو مهر المثل وأنه لا يثبت في الطلاق قبل الدخول. وأما عندهما فلأن الواجب هو الأقل فيتنصف, وكذلك لو تزوجها على ألف إن لم يكن له امرأة وعلى ألفين إن كانت له امرأة حتى فسد الشرط التالي عند أبي حنيفة فطلقها قبل الدخول, فلها نصف الأقل لما قلنا. وعندهما الشرطان جائزان فأيهما وجد فلها نصف ذلك بالطلاق قبل الدخول. ولو تزوجها على أقل من عشرة ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف ما سمى وتمام خمسة دراهم؛ لأن تسمية ما دون العشرة تسمية للعشرة عندنا فكأنه تزوجها على ذلك الشيء وتمام عشرة دراهم, وإن كان قد قبضته فإن كان دراهم أو دنانير معينة أو غير معينة أو كان مكيلا أو موزونا في الذمة فقبضته وهو قائم في يدها فطلقها فعليها رد نصف المقبوض وليس عليها رد عين ما قبضت؛ لأن عين المقبوض لم يكن واجبا بالعقد فلا يكن واجبا بالفسخ. وأما على أصل زفر فالدراهم والدنانير تتعين بالعقد فتتعين بالفسخ فعليها رد نصف عين المقبوص إن كان قائما, وإن كان عبدا وسطا أو ثوبا وسطا فسلمه إليها ثم طلقها قبل الدخول بها فعليها رد نصف المقبوض؛ لأن العبد لا مثل له, والأصل فيما لا مثل له أنه لا يجب في الذمة إلا أنه وجب الوسط منه في الذمة وتحملت الجهالة فيه لما ذكرنا فيما تقدم, فإذا تعين بالقبض كان إيجاب نصف العين أعدل من إيجاب المثل أو القيمة فوجب عليها رد نصف عين المقبوض كما لو كان معينا فقبضته ولا يملكه الزوج بنفس الطلاق لما نذكر, وهذا إذا كان المهر دينا فقبضته أو لم تقبضه حتى ورد الطلاق قبل الدخول. فأما إذا كان عينا بأن كان معينا مشارا إليه مما يحتمل التعيين كالعبد والجارية وسائر الأعيان فلا يخلو إما إن كان بحاله لم يزد ولم ينقص وإما إن زاد أو نقص فإن كان بحاله لم يزد ولم ينقص فإن كان غير مقبوض فطلقها قبل الدخول بها عاد الملك في النصف إليه بنفس الطلاق, ولا يحتاج للعود إليه إلى الفسخ والتسليم منها حتى لو كان المهر أمة فأعتقها الزوج قبل الفسخ والتسليم ينفذ إعتاقه في نصفها بلا خلاف, وإن كان مقبوضا لا يعود الملك في النصف إليه بنفس الطلاق ولا ينفسخ ملكها في النصف حتى يفسخه الحاكم أو تسلمه المرأة. وذكر ذلك في الزيادات وزاد عليه الفسخ من الزوج وهو أن يقول: "قد فسخت" هذا جواب ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه ينفسخ ملكها في النصف بنفس الطلاق وهو قول زفر حتى لو كان المهر أمة فأعتقها قبل الفسخ والتسليم جاز إعتاقها في جميعها, ولا يجوز إعتاق الزوج فيها وعلى قول أبي يوسف لا يجوز إعتاقها إلا في النصف ويجوز إعتاق الزوج في نصفها. "وجه" قول أبي يوسف أن الموجب للعود هو الطلاق, وقد وجد فيعود ملك الزوج كالبيع إذا فسخ قبل القبض أنه يعود ملك البائع بنفس الفسخ كذا هذا وجه قولهما: أن العقد وإن انفسخ بالطلاق فقد بقي القبض بالتسليط الحاصل بالعقد وأنه من أسباب الملك عندنا فكان سبب الملك قائما, فكان الملك قائما فلا يزول إلا بالفسخ من القاضي؛ لأنه فسخ سبب الملك أو بتسليمها؛ لأن تسليمها نقض للقبض حقيقة أو بفسخ الزوج على رواية الزيادات؛ لأنه بمنزلة المقبوض بحكم عقد فاسد, وكل واحد من العاقدين بسبيل من فسخ عقد البيع الفاسد, وصار كما لو اشترى عبدا بجارية فقبض العبد ولم يسلم الجارية حتى هلكت الجارية في يده أنه ينفسخ العقد في الجارية ويبقى الملك في العبد المقبوض إلى أن يسترده, كأنه مقبوض بحكم عقد فاسد كذا هذا؛ ولأن المهر بدل يملك بالعقد ملكا مطلقا فلا ينفسخ الملك فيه بفعل أحد العاقدين كالثمن في باب البيع بخلاف ما قبل القبض لأن غير القبض ليس بمملوك ملكا مطلقا هذا إذا كان المهر بحاله لم يزد ولم ينقص. فأما إذا زاد فالزيادة لا تخلو إما إن كانت في المهر أو على المهر فإن كانت على المهر بأن سمى الزوج لها ألفا ثم زادها بعد العقد مائة ثم طلقها قبل الدخول بها فلها نصف الألف وبطلت الزيادة في ظاهر الرواية, وروي عن أبي يوسف أن لها نصف الألف ونصف الزيادة أيضا. "وجه" رواية أبي يوسف قوله عز وجل: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} والزيادة مفروضة فيجب تنصيفها في الطلاق قبل الدخول؛ ولأن الزيادة تلتحق بأصل العقد على أصل أصحابنا كالزيادة في الثمن في باب البيع, ويجعل كأن العقد ورد على الأصل والزيادة جميعا فيتنصف بالطلاق قبل الدخول كالأصل. وجه ظاهر الرواية أن هذه الزيادة لم تكن مسماة في العقد حقيقة, وما لم يكن مسمى في العقد فورود

 

ج / 2 ص -299-       الطلاق قبل الدخول يبطله كمهر المثل. وأما قوله: الزيادة تلتحق بأصل العقد قلنا: الزيادة على المهر لا تلتحق بأصل العقد لأنها وجدت متأخرة عن العقد حقيقة, وإلحاق المتأخر عن العقد بالعقد خلاف الحقيقة فلا يصار إليه إلا لحاجة, والحاجة إلى ذلك في باب البيع؛ لكونه عقد معاينة ومبادلة المال بالمال فتقع الحاجة إلى الزيادة دفعا للخسران, وليس النكاح عقد معاينة ولا مبادلة المال بالمال ولا يحترز به عن الخسران فلا ضرورة إلى تغيير الحقيقة. وأما النص فالمراد منه الفرض في العقد لأنه هو المتعارف فينصرف المطلق إليه, والدليل عليه قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ} فدل أن الزيادة ليست بفريضة وإن كانت في المهر, فالمهر لا يخلو إما أن يكون في يد الزوج وإما أن يكون في يد المرأة فإن كان في يد الزوج, فالزيادة لا تخلو إما إن كانت متصلة بالأصل وإما إن كانت منفصلة عنه, والمتصلة لا تخلو من أن تكون متولدة من الأصل كالسمن والكبر والجمال والبصر والسمع والنطق, كانجلاء بياض العين وزوال الخرس والصمم, والشجر إذا أثمر والأرض إذا زرعت أو غير متولدة منه كالثوب إذا صبغ والأرض إذا بني فيها بناء. وكذا المنفصلة لا تخلو إما إن كانت متولدة من الأصل كالولد والوبر والصوف إذا جز والشعر إذا أزيل والثمر إذا جد والزرع إذا حصد أو كانت في حكم المتولد منه كالأرش والعقر وأما إن كانت غير متولدة منه ولا في حكم المتولد كالهبة والكسب فإن كانت الزيادة متولدة من الأصل أو في حكم المتولد فهي مهر, سواء كانت متصلة بالأصل أو منفصلة عنه حتى لو طلقها قبل الدخول بها يتنصف الأصل والزيادة جميعا بالإجماع؛ لأن الزيادة تابعة للأصل لكونها نماء الأصل, والأرش بدل جزء هو مهر فليقم مقامه, والعقر بدل ما هو في حكم الجزء فكان بمنزلة المتولد من المهر, فإذا حدثت قبل القبض وللقبض شبه بالعقد فكان وجودها عند القبض كوجودها عند العقد فكانت محلا للفسخ, وإن كانت غير متولدة من الأصل فإن كانت متصلة بالأصل فإنها تمنع التنصيف وعليها نصف قيمة الأصل؛ لأن هذه الزيادة ليست بمهر لا مقصودا ولا تبعا؛ لأنها لم تتولد من المهر فلا تكون مهرا فلا تتنصف, ولا يمكن تنصيف الأصل بدون تنصيف الزيادة فامتنع التنصيف فيجب عليها نصف قيمة الأصل يوم الزيادة؛ لأنها بالزيادة صارت قابضة للأصل فتعتبر قيمته يوم حكم بالقبض, وإن كانت منفصلة عن الأصل فالزيادة ليست بمهر, وهي كلها للمرأة في قول أبي حنيفة ولا تتنصف ويتنصف الأصل, وعند أبي يوسف ومحمد هي مهر فتتنصف مع الأصل. "ووجه" قولهما: أن هذه الزيادة تملك بملك الأصل فكانت تابعة للأصل فتتنصف مع الأصل كالزيادة المتصلة والمنفصلة المتولدة من الأصل كالسمن والولد, ولأبي حنيفة أن هذه الزيادة ليست بمهر لا مقصودا ولا تبعا, أما مقصودا فظاهر؛ لأن العقد ما ورد عليها مقصودا. وكذا هي غير مقصودة بملك الجارية؛ لأنه لا يقصد بتملك الجارية الهبة لها. وأما تبعا؛ فلأنها ليست بمتولدة من الأصل فدل أنها ليست بمهر لا قصدا ولا تبعا, وإنما هي مال المرأة فأشبهت سائر أموالها بخلاف الزيادة المتصلة المتولدة والمنفصلة المتولدة؛ لأنها نماء المهر فكانت جزءا من أجزائه فتتنصف كما يتنصف الأصل. ولو آجر الزوج المهر بغير إذن المرأة فالأجرة له؛ لأن المنافع ليست بأموال متقومة بأنفسها عندنا, وإنما تأخذ حكم المالية والتقوم بالعقد, والعقد صدر من الزوج فكانت الأجرة له كالغاصب إذا آجر المغصوب, ويتصدق بالأجرة؛ لأنها مال حصل بسبب محظور وهو التصرف في ملك الغير بغير إذنه فيتمكن فيه الخبث فكان سبيله التصدق به هذا إذا كان المهر في يد الزوج فحدثت فيه الزيادة. فأما إذا كان في يد المرأة أي: قبل الفرقة, فإن كانت الزيادة متصلة متولدة من الأصل فإنها تمنع التنصيف في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وللزوج عليها نصف القيمة يوم سلمه إليها. وقال محمد: لا تمنع ويتنصف الأصل مع الزيادة, واحتج بقوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} جعل سبحانه وتعالى في الطلاق قبل الدخول في نكاح فيه فرض نصف المفروض فمن جعل فيه نصف قيمة المفروض فقد خالف النص, وإذا وجب تنصيف أصل المفروض ولا يمكن تنصيفه إلا بتنصيف الزيادة فيجب تنصيف الزيادة ضرورة, ولأن هذه الزيادة

 

ج / 2 ص -300-       تابعة للأصل من كل وجه؛ لأنها قائمة به, والأصل مهر فكذا الزيادة بخلاف الزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل؛ لأنها ليست بتابعة محضة؛ لأن الولد بالانفصال صار أصلا بنفسه فلم يكن مهرا وبخلاف الزيادة المتصلة في الهبة أنها تمنع من الرجوع والاسترداد؛ لأن حق الرجوع في الهبة ليس بثابت بيقين لكونه محل الاجتهاد فلا يمكن إلحاق الزيادة بحالة العقد فتعذر إيراد الفسخ عليها فيمنع الرجوع. وجه قولهما: أن هذه الزيادة لم تكن موجودة عند العقد ولا عند ما له شبه بالعقد وهو القبض فلا يكون لها حكم المهر فلا يمكن فسخ العقد فيها بالطلاق قبل الدخول؛ لأن الفسخ إنما يرد على ما ورد عليه العقد والعقد لم يرد عليه أصلا فلا يرد عليه الفسخ كالزيادة المنفصلة المتولدة من الأصل, ولأنه لو نقض العقد, فإما أن يرد نصف الأصل مع نصف الزيادة أو بدون الزيادة لا سبيل إلى الثاني؛ لأنه لا يتصور رد الأصل بدون رد الزيادة المتصلة ولا سبيل إلى الأول؛ لأنه يؤدي إلى الربا؛ لأنها إذا لم تكن محلا للفسخ لعدم ورود العقد عليها كان أخذ الزيادة منها أخذ مال بلا عوض في عقد المعاوضة, وهذا تفسير الربا؛ ويجب نصف قيمة المفروض لا نصف المفروض؛ لأن المفروض صار بمنزلة الهالك. وأما الآية الكريمة فلا حجة له فيها؛ لأن مطلق المفروض ينصرف إلى المفروض المتعارف وهو الأثمان دون السلع, والأثمان لا تحتمل الزيادة والنقصان وعلى هذا الاختلاف الزيادة المتصلة في البيع إذا اختلفا أنها تمنع التحالف, عند أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد لا تمنع ولو هلكت هذه الزيادة في يد الزوج ثم طلقها فلها نصف الأصل؛ لأن المانع من التنصيف قد ارتفع, وإن كانت متصلة غير متولدة من الأصل فإنها تمنع التنصيف, وعليها نصف قيمة الأصل لما بينا فيما تقدم, وإن كانت الزيادة منفصلة متولدة من الأصل فإنها تمنع التنصيف في قول أصحابنا الثلاثة, وعليها رد نصف قيمة الأصل إلى الزوج وقال زفر: لا تمنع ويتنصف الأصل مع الزيادة, وإن كانت منفصلة غير متولدة من الأصل فهي لها خاصة والأصل بينهما نصفان بالإجماع. "وجه" قول زفر: أن الزيادة تابعة للأصل؛ لأنها متولدة منه فتتنصف مع الأصل كالزيادة الحادثة قبل القبض "ولنا" أن هذه الزيادة لم تكن عند العقد ولا عند القبض فلم تكن مهرا, والفسخ إنما يرد على ما له حكم المهر فلا تتنصف وتبقى على ملك المرأة كما كانت قبل الطلاق, ولا يمكن تنصيف الأصل بدون الزيادة, وهو رد نصف الجارية بدون الولد؛ لأنها لا يصير لها فضل أصل فسخ العقد فيه ما لم يكن لها ذلك, والأصل أن لا تبدل من غير بدل, وذلك وصف الربا وأنه حرام فإذا تعذر تنصيف المفروض لمكان الربا يجعل المفروض كالهالك؛ لأنه في حق كونه معجوز التسليم إلى الزوج بمنزلة الهالك فيجب نصف القيمة ليزول معنى الربا, والله عز وجل أعلم. وكذلك لو ارتدت أو قبلت ابن زوجها قبل الدخول بها بعدما حدثت الزيادة في يد المرأة, فذلك كله لها وعليها رد قيمة الأصل يوم قبضت كذا ذكر أبو يوسف في الأصل وهو قول محمد. وروي عن أبي يوسف أنها ترد الأصل والزيادة ففرق بين الردة والتقبيل وبين الطلاق فقال في الطلاق: ترد نصف قيمة الأصل, وفي الردة والتقبيل ترد الأصل والزيادة جميعا. "ووجه" الفرق أن الردة والتقبيل فسخ العقد من الأصل, وجعل إياه كأن لم يكن فصار كمن باع عبدا بجارية وقبض الجارية ولم يدفع العبد حتى ولدت ثم مات العبد قبل أن يدفعه أنه يأخذ الجارية وولدها؛ لانفساخ العقد من الأصل بموت العبد في يد بائعه كذا هذا بخلاف الطلاق فإنه إطلاق وحل للعقد وليس بفسخ فينحل العقد وتطلق أو يرتفع من حين الطلاق لا من الأصل. "وجه" ظاهر الرواية أن المعقود عليه في الفصلين جميعا أعني الطلاق والردة يعود سليما إلى المرأة كما كان إلا أن الطلاق قبل الدخول طلاق من وجه وفسخ من وجه, فأوجب عود نصف البدل عملا بالشبهين, والردة والتقبيل كل واحد منهما فسخ من كل وجه فيوجب عود الكل إلى الزوج هذا كله إذا حدثت الزيادة قبل الطلاق. فأما إذا حدثت بعد الطلاق بأن طلقها, ثم حدثت الزيادة فلا يخلو إما أن حدثت بعد القضاء بالنصف للزوج, وإما أن حدثت قبل القضاء وكل ذلك قبل القبض أو بعده فإن حدثت قبل القبض, فالأصل والزيادة بينهما نصفان سواء وجد القضاء أو لم يوجد؛ لأنه كما وجد الطلاق عاد نصف المهر إلى الزوج بنفس الطلاق وصار بينهما نصفين فالزيادة حدثت على

 

 

ج / 2 ص -301-       ملكيهما, فتكون بينهما, وإن حدثت بعد القبض, فإن كانت بعد القضاء بالنصف للزوج, فكذلك الجواب؛ لأنه لما قضى به, فقد عاد نصف المهر إلى الزوج, فحصلت الزيادة على الملكين, فكانت بينهما, وإن كان قبل القضاء بالنصف للزوج, فالمهر في يدها كالمقبوض بعقد فاسد؛ لأن الملك كان لها, وقد فسخ ملكها في النصف بالطلاق حتى لو كان المهر عبدا. فأعتقه بعد الطلاق قبل القضاء بالنصف للزوج جاز إعتاقها, ولو أعتقه الزوج لا ينفذ, وإن قضى القاضي له بعد ذلك كالبائع إذا أعتق العبد المبيع بيعا فاسدا أنه لا ينفذ عتقه, وإن رد عليه بعد ذلك كذا ههنا هذا الذي ذكرنا حكم الزيادة "وأما" حكم النقصان, فحدوث النقصان في المهر لا يخلو إما أن يكون في يد الزوج, وإما أن يكون في يد المرأة, فإن كان في يد الزوج, فلا يخلو من خمسة أوجه. إما أن يكون بفعل أجنبي, وإما أن يكون بآفة سماوية, وإما أن يكون بفعل الزوج, وإما أن يكون بفعل المهر, وإما أن يكون بفعل المرأة, وكل ذلك لا يخلو إما أن يكون قبل قبض المهر, أو بعده, والنقصان فاحش أو غير فاحش, فإن كان النقصان بفعل أجنبي, وهو فاحش قبل القبض؛ فالمرأة بالخيار إن شاءت أخذت العبد الناقص, وأتبعت الجاني بالأرش, وإن شاءت تركت, وأخذت من الزوج قيمة العبد يوم العقد, ثم يرجع الزوج على الأجنبي بضمان النقصان, وهو الأرش أما ثبوت الخيار؛ فلأن المعقود عليه, وهو المهر قد تغير قبل القبض؛ لأنه صار بعضه قيمة, ويعتبر المعقود عليه قبل القبض, فوجب الخيار كتغير المبيع قبل القبض, فإن اختارت أخذ العبد أتبعت الجاني بالأرش؛ لأن الجناية حصلت على ملكها, وإن اختارت أخذ القيمة؛ أتبع الزوج الجاني بالأرش؛ لأنه يملك العين بأداء الضمان, فقام مقام المرأة, فكان الأرش له, وليس لها أن تأخذ العبد ناقصا, وتضمن الزوج الأرش؛ لأنها لما اختارت أخذه, فقد أبرأت الزوج من ضمانه, وإن كان النقصان بآفة سماوية, فالمرأة بالخيار, إن شاءت أخذته ناقصا, ولا شيء لها غير ذلك, وإن شاءت تركته, وأخذت قيمته يوم العقد؛ لأن المهر مضمون على الزوج بالعقد, والأوصاف لا تضمن بالعقد لعدم, ورود العقد عليها موصوفا, فلا يظهر الضمان في حقها, وإنما يظهر في حق الأصل لورود العقد عليه, وإنما ثبت لها الخيار لتغير المعقود عليه, وهو المهر عما كان عليه, وهذا يثبت الخيار كالمبيع إذا انتقص في يد البائع أنه يتخير المشتري فيه كذا هذا. وإن كان النقصان بفعل الزوج ذكر في ظاهر الرواية أن المرأة بالخيار إن شاءت أخذته ناقصا, وأخذت معه أرش النقصان, وإن شاءت أخذت قيمته يوم العقد كذا ذكر في ظاهر الرواية, وفرق بين هذا, وبين البائع إذا جنى على المبيع قبل القبض. وروي عن أبي حنيفة أن الزوج إذا جنى على المهر؛ فهي بالخيار إن شاءت أخذته ناقصا, ولا شيء لها غير ذلك, وإن شاءت أخذت القيمة, وسوي بينه, وبين المبيع "ووجه" التسوية بينهما, أن المهر مضمون على الزوج بالنكاح لم يستقر ملكها فيه كالمبيع في يد البائع, ثم الحكم في البيع هذا كذا في النكاح. "ووجه" الفرق في ظاهر الرواية أن الأوصاف, وهي الأتباع إن كانت لا تضمن بالعقد, فإنها تضمن بالإتلاف؛ لأنها تصير مقصودة بالإتلاف, فتصير مضمونة إلا أن المبيع, لا يمكن جعله مضمونا بالقيمة؛ لأنه مضمون بضمان آخر, وهو الثمن, والمحل الواحد لا يكون مضمونا بضمانين, والمهر غير مضمون على الزوج بملك النكاح بل بالقيمة, ألا ترى أنه لو أتلف المهر لا يبطل ملك النكاح, ولكن تجب عليه القيمة, فكذا إذا أتلف الجزء, وإن كان النقصان بفعل المهر بأن جنى المهر على نفسه, ففيه روايتان في رواية حكم هذا النقصان ما هو حكم النقصان بآفة سماوية؛ لأن جناية الإنسان على نفسه هدر, فالتحقت بالعدم, فكانت كالآفة السماوية, وفي رواية حكمه حكم جناية الزوج؛ لأن المهر مضمون في يد الضامن, وهو الزوج, وجناية المضمون في يد الضامن كجناية الضامن كالعبد المغصوب إذا جنى على نفسه في يد الغاصب, وإن كان النقصان بفعل المرأة, فقد صارت قابضة بالجناية, فجعل كأن النقصان حصل في يدها كالمشتري إذا جنى على المبيع في يد البائع أنه يصير قابضا له كذا ههنا إذا كان النقصان فاحشا. فأما إذا كان يسيرا, فلا خيار لها كما إذا كان هذا العيب به يوم العقد, ثم إن كان هذا النقصان بآفة سماوية أو بفعل المرأة أو بفعل المهر؛ فلا شيء لها, وإن كان بفعل الأجنبي تتبعه بنصف النقصان. وكذا إن كان بفعل الزوج هذا إذا حدث النقصان

 

ج / 2 ص -302-       في يد الزوج. فأما إذا حدث في يد المرأة, فهذا أيضا لا يخلو من الأقسام, التي وصفناها, فإن حدث بفعل أجنبي وهو فاحش قبل الطلاق, فالأرش لها, فإن طلقها الزوج, فله نصف القيمة يوم قبضت, ولا سبيل له على العين؛ لأن الأرش بمنزلة الولد, فيمنع التنصيف كالولد, وإن كانت جناية الأجنبي عليه بعد الطلاق, فللزوجة نصف العبد, وهو بالخيار في الأرش إن شاء أخذ نصفه من المرأة, واعتبرت القيمة يوم القبض, وإن شاء أتبع الجاني, وأخذ منه نصفه؛ لأن حق الفسخ, وعود النصف إليه استقر بالطلاق, وتوقف على قضاء القاضي أو التراضي, فصار في يدها كالمقبوض ببيع فاسد, فصار مضمونا عليها, وكذلك إن حدث بفعل الزوج, فجنايته كجناية الأجنبي؛ لأنه جنى على ملك غيره, ولا يد له فيه, فصار كالأجنبي, والحكم في الأجنبي ما وصفنا, وإن حدث بآفة سماوية قبل الطلاق؛ فالزوج بالخيار إن شاء أخذ نصفه ناقصا, ولا شيء له غير ذلك, وإن شاء أخذ نصف القيمة يوم القبض؛ لأن حقه معها عند الفسخ كحقه معها عند العقد. ولو حدث نقصان في يده بآفة سماوية كان لها الخيار بين أن تأخذه ناقصا أو قيمته, فكذا حق الزوج معها عند الفسخ, وإن كان ذلك بعد الطلاق, فللزوج أن يأخذ نصفه, ونصف الأرش لما ذكرنا أنه بعد الطلاق يبقى في يدها كالمقبوض بحكم بيع فاسد؛ لأن الملك لها, وحق الغير في الفسخ مستقر, فصار بمنزلة المقبوض ببيع فاسد, وإن شاء أخذ قيمته يوم قبضت, وكذلك إن حدث بفعل المرأة, فالزوج بالخيار إن شاء أخذ نصفه, ولا شيء له من الأرش, وإن شاء أخذ نصف قيمته عبدا عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: للزوج أن يضمنها الأرش "وجه" قوله أن المهر مضمون عليها بالقبض, والأوصاف, وهي الأتباع, فتضمن بالقبض, ولا تضمن بالعقد, وكذلك يقول زفر في النقصان الحادث بغير فعلها لهذا المعنى. "ولنا" أن المرأة جنت على ملك نفسها, وجناية الإنسان على ملك نفسه غير مضمونة عليه بخلاف ما إذا حدث بفعل الزوج على الرواية المشهورة؛ لأن الزوج جنى على ملك غيره, وجناية الإنسان على ملك غيره مضمونة عليه, وقد خرج الجواب عما قال زفر؛ لأن قبضها صادف ملك نفسها, وقبض الإنسان ملك نفسه لا يوجب الضمان عليه, وإن كان ذلك بعد الطلاق, فعليها نصف الأرش لما ذكرنا أن حق الفسخ قد استقر, وكذلك إن حدث بفعل المهر, فالزوج بالخيار على الروايتين جميعا إن شاء؛ أخذ نصفه ناقصا, وإن شاء أخذ نصف القيمة؛ لأنا إن جعلنا جناية المهر كالآفة السماوية لم تكن مضمونة, وإن جعلناها كجناية المرأة لم تكن مضمونة أيضا, فلم تكن مضمونة أيضا على الروايتين هذا إذا كان النقصان فاحشا. فأما إن كان غير فاحش, فإن كان بفعل الأجنبي أو بفعل الزوج, لا يتنصف؛ لأن الأرش يمنع التنصيف, وإن كان بآفة سماوية أو بفعلها أو بفعل المهر أخذ النصف, ولا خيار له, والله تعالى الموفق. "وأما" النوع الثاني, وهو ما يسقط به نصف المهر معنى, والكل صورة: فهو كل طلاق تجب فيه المتعة. فيقع الكلام في مواضع في بيان الطلاق الذي تجب فيه المتعة, والذي تستحب فيه, وفي تفسير المتعة, وفي بيان من تعتبر المتعة بحاله. أما الأول, فالطلاق الذي تجب فيه المتعة نوعان: أحدهما أن يكون قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه, ولا فرض بعده أو كانت التسمية فيه فاسدة, وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك: لا تجب المتعة, ولكن تستحب, فمالك لا يرى وجوب المتعة أصلا, واحتج بأن الله سبحانه وتعالى قيد المتعة بالمتقي, والمحسن بقوله {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} {حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ}, والواجب لا يختلف فيه المحسن, والمتقي, وغيرهما, فدل أنها ليست بواجبة. "ولنا" قوله تعالى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ}, ومطلق الأمر لوجوب العمل, والمراد من قوله عز وجل أو تفرضوا أي: ولم تفرضوا ألا ترى أنه عطف عليه قوله تعالى {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}, ولو كان الأول بمعنى ما لم تمسوهن, وقد فرضوا لهن أو لم يفرضوا لما عطف عليه المفروض, وقد تكون أو بمعنى الواو. وقال: الله عز وجل {لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}: ولا كفورا وقوله تعالى {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} "وعلى" كلمة إيجاب, وقوله تعالى {حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} وليس في ألفاظ الإيجاب كلمة أوكد من قولنا حق عليه؛ لأن الحقية تقتضي الثبوت, وعلى كلمة إلزام, وإثبات, فالجمع بينهما يقتضي التأكيد, وما ذكره مالك كما يلزمنا

 

ج / 2 ص -303-       يلزمه؛ لأن المندوب إليه أيضا لا يختلف فيه المتقي, والمحسن, وغيرهما, ثم نقول: الإيجاب على المحسن, والمتقي لا ينفي الإيجاب على غيرهما ألا ترى أنه سبحانه وتعالى أخبر أن القرآن هدى للمتقين, ثم لم ينف أن يكون هدى للناس كلهم كذا هذا, والدليل على أن المتعة ههنا واجبة أنها بدل الواجب, وهو نصف مهر المثل, وبدل الواجب واجب؛ لأنه يقوم مقام الواجب, ويحكي حكايته ألا ترى أن التيمم لما كان بدلا عن الوضوء, والوضوء واجب كان التيمم واجبا, والدليل على أن المتعة تجب بدلا عن نصف المهر, أن بدل الشيء ما يجب بسبب الأصل عند عدمه كالتيمم مع الوضوء, وغير ذلك, والمتعة بالسبب الذي يجب به مهر المثل, وهو النكاح لا الطلاق؛ لأن الطلاق مسقط للحقوق لا موجب لها لكن عند الطلاق يسقط نصف مهر المثل, فتجب المتعة بدلا عن نصفه, وهذا طريق محمد, فإن الرهن بمهر المثل يكون رهنا بالمتعة عنده حتى إذا هلك تهلك المتعة. وأما أبو يوسف: فإنه لا يجعله رهنا بها حتى إذا هلك الرهن يهلك بغير شيء, والمتعة باقية عليه, فلا يكون وجوبها بطريق البدل عنده بل يوجبها ابتداء بظواهر النصوص التي ذكرنا أو يوجبها بدلا عن البضع بالاستدلال بنصف المسمى في نكاح فيه تسمية, والثاني أن يكون قبل الدخول في نكاح لم يسم فيه المهر, وإنما فرض بعده, وهذا قول أبي حنيفة, ومحمد, وهو قول أبي يوسف الأخير, وكان يقول: أولا يجب نصف المفروض كما إذا كان المهر مفروضا في العقد, وهو قول مالك, والشافعي, واحتجوا بقوله عز وجل {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أوجب تعالى نصف المفروض في الطلاق قبل الدخول مطلقا من غير فصل بين ما إذا كان الفرض في العقد أو بعده؛ ولأن الفرض بعد العقد كالفرض في العقد. ثم المفروض في العقد يتنصف, فكذا المفروض بعده, ولهما قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} أوجب المتعة في المطلقات قبل الدخول عاما, ثم خصت منه المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية عند وجوده, فبقيت المطلقة قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه عند وجوده على أصل العموم, وقوله تعالى {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} أي: ولم تفرضوا لهن فريضة لما ذكرنا فيما تقدم, وهو منصرف إلى الفرض في العقد؛ لأن الخطاب ينصرف إلى المتعارف, والمتعارف هو الفرض في العقد لا متأخرا عنه, وبه تبين أن الفرض المذكور في قوله تعالى: {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} منصرف إلى المفروض في العقد؛ لأنه هو المتعارف, وبه نقول إن المفروض في العقد يتنصف بالطلاق قبل الدخول؛ ولأن مهر المثل قد وجب بنفس العقد لما ذكرنا فيما تقدم, فكان الفرض بعده تقديرا لما وجب بالعقد, وهو مهر المثل, ومهر المثل يسقط بالطلاق قبل الدخول, وتجب المتعة, فكذا ما هو بيان وتقدير له إذ هو تقدير لذلك الواجب. وكذا الفرقة بالإيلاء, واللعان, والجب, والعنة, فكل فرقة جاءت من قبل الزوج قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه, فتوجب المتعة؛ لأنها توجب نصف المسمى في نكاح فيه تسمية, والمتعة عوض عنه كردة الزوج, وإباية الإسلام, وكل فرقة جاءت من قبل المرأة, فلا متعة لها؛ لأنه لا يجب بها المهر أصلا, فلا تجب بها المتعة. والمخيرة إذا اختارت نفسها قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه, فلها المتعة؛ لأن الفرقة جاءت من قبل الزوج؛ لأن البينونة مضافة إلى الإبانة السابقة, وهي فعل الزوج. "وأما" الذي تستحب فيه المتعة, فهو الطلاق بعد الدخول, والطلاق قبل الدخول في نكاح فيه تسمية, وهذا عندنا. وقال: الشافعي المتعة في الطلاق بعد الدخول واجبة, واحتج بقوله تعالى {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} جعل سبحانه وتعالى للمطلقات متاعا فاللام الملك عاما إلا أنه خصصت منه المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية, فبقيت المطلقة قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه, والمطلقة بعد الدخول على ظاهر العموم, ولنا ما ذكرنا أن المتعة وجبت بالنكاح بدلا عن البضع إما بدلا عن نصف المهر أو ابتداء, فإذا استحقت المسمى أو مهر المثل بعد الدخول, فلو وجبت المتعة؛ لأدى إلى أن يكون لملك واحد بدلان وإلى الجمع بين البدل, والأصل في حالة واحدة, وهذا ممتنع؛ ولأن المطلقة قبل الدخول في نكاح فيه تسمية لا تجب لها المتعة بالإجماع, فالمطلقة بعد الدخول أولى؛ لأن الأولى تستحق بعض المهر

 

ج / 2 ص -304-       والثانية تستحق الكل فاستحقاق بعض المهر لما منع عن استحقاق المتعة فاستحقاق الكل أولى. وأما الآية الكريمة, فيحمل ذكر المتاع فيها على الندب, والاستحباب, ونحن به نقول إنه يندب الزوج إلى ذلك كما يندب إلى أداء المهر على الكمال في غير المدخول بها أو يحمل على النفقة والكسوة في حال قيام العدة؛ ولأن كل ذلك متاع إذ المتاع اسم لما ينتفع به عملا بالدلائل كلها بقدر الإمكان, وكل فرقة جاءت من قبل الزوج بعد الدخول تستحب فيها المتعة إلا أن يرتد أو يأبى الإسلام؛ لأن الاستحباب طلب الفضيلة, والكافر ليس من أهل الفضيلة. "وأما" تفسير المتعة الواجبة, فقد قال أصحابنا: إنها ثلاثة أثواب درع, وخمار, وملحفة وهكذا روي عن الحسن, وسعيد بن المسيب, وعطاء, والشعبي, وعن عبد الله ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: أرفع المتعة الخادم, ثم دون ذلك الكسوة, ثم دون ذلك النفقة. وقال الشافعي: ثلاثون درهما له ما روي عن أبي مجلز أنه قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما أخبرني عن المتعة, وأخبرني عن قدرها, فإني موسر, فقال: اكس كذا اكس كذا اكس كذا قال: فحسبت ذلك, فوجدته قدر ثلاثين درهما, فدل أنها مقدرة بثلاثين درهما. "ولنا" قوله تعالى في آية المتعة {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ}, والمتاع اسم للعروض في العرف؛ ولأن لإيجاب الأثواب نظيرا في أصول الشرع, وهو الكسوة التي تجب لها حال قيام النكاح والعدة, وأدنى ما تكتسي به المرأة, وتستتر به عند الخروج ثلاثة أثواب, ولا نظير لإيجاب الثلاثين, فكان إيجاب ما له نظير أولى, وقول عبد الله بن عمر دليلنا؛ لأنه أمره بالكسوة لا بدراهم مقدرة إلا أنه اتفق أن قيمة الكسوة بلغت ثلاثين درهما, وهذا لا يدل على أن التقدير فيها بالثلاثين. ولو أعطاها قيمة الأثواب دراهم, أو دنانير تجبر على القبول؛ لأن الأثواب ما وجبت لعينها بل من حيث إنها مال, كالشاة في خمس من الإبل في باب الزكاة. وأما بيان من تعتبر المتعة بحاله, فقد اختلف العلماء فيه قال بعضهم.: قدر المتعة يعتبر بحال الرجل في يساره, وإعساره, وهو قول أبي يوسف بعضهم: تعتبر بحال المرأة في يسارها, وإعسارها, وقال بعضهم: تعتبر بحالهما جميعا وقال بعضهم: المتعة الواجبة تعتبر بحالها, والمستحبة تعتبر بحاله. "وجه" قول من اعتبر حال الرجل قوله تعالى {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} جعل المتعة على قدر حال الرجل في يساره, وإعساره "وجه" قول من قال: باعتبار حالها أن المتعة بدل بضعها, فيعتبر حالها, وهذا أيضا وجه من يقول المتعة الواجبة تعتبر بحالها, وقوله المتعة المستحبة تعتبر بحاله لا معنى له؛ لأن التقدير في الواجب لا في المستحب "وجه" من اعتبر حالهما أن الله تعالى اعتبر في المتعة شيئين أحدهما: حال الرجل في يساره, وإعساره بقوله عز وجل {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}. والثاني: أن يكون مع ذلك بالمعروف بقوله {مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ} فلو اعتبرنا فيها حال الرجل دون حالها عسى أن لا يكون بالمعروف؛ لأنه يقتضي أنه لو تزوج رجل امرأتين إحداهما شريفة, والأخرى مولاة دنيئة, ثم طلقهما قبل الدخول بهما, ولم يسم لهما أن يستويا في المتعة باعتبار حال الرجل, وهذا منكر في عادات الناس لا معروف, فيكون خلاف النص, ثم المتعة الواجبة لا تزاد على نصف مهر المثل بل هو نهاية المتعة لا مزيد عليه؛ لأن الحق عند التسمية آكد, وأثبت منه عند عدم التسمية؛ لأن الله تعالى أوجب المتعة على قدر احتمال ملك الزوج بقوله عز وجل {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}, فأوجب نصف المسمى مطلقا احتمله وسع الزوج, وملكه أو لا. وكذا في وجوب كمال مهر المثل, وسقوطه, ووجوب المتعة في نكاح لا تسمية فيه, وعدم أحد الزوجين اختلاف بين العلماء ولا خلاف في وجوب كمال المسمى من ذلك في نكاح فيه تسمية دل أن الحق أوكد, وأثبت عند التسمية, ثم لا يزاد هناك على نصف المسمى, فلأن لا يزاد ههنا على نصف مهر المثل أولى؛ ولأن المتعة بدل عن نصف مهر المثل, ولا يزاد البدل على الأصل, ولا ينقص من خمسة دراهم؛ لأنها تجب على طريق العوض, وأقل عوض يثبت في النكاح نصف العشرة, والله أعلم.

"فصل": وأما حكم. اختلاف الزوجين في المهر. فجملة الكلام فيه أن الاختلاف في المهر إما أن يكون في حال حياة الزوجين, وإما أن يكون بعد موت أحدهما بين الحي منهما, وورثة الميت, وإما أن يكون بعد موتهما بين ورثتهما, فإن كان

 

ج / 2 ص -305-       في حال حياة الزوجين. فأما إن كان قبل الطلاق. وأما إن كان بعده, فإن كان قبل الطلاق, فإن كان الاختلاف في أصل التسمية يجب مهر المثل؛ لأن الواجب الأصلي في باب النكاح هو مهر المثل؛ لأنه قيمة البضع, وقيمة الشيء مثله من كل وجه, فكان هو العدل, وإنما التسمية تقدير لمهر المثل. فإذا لم تثبت التسمية لوقوع الاختلاف فيها, وجب المصير إلى الموجب الأصلي, وإن كان الاختلاف في قدر المسمى أو جنسه أو نوعه أو صفته, فالمهر لا يخلو إما أن يكون دينا, وإما أن يكون عينا, فإن كان دينا, فإما أن يكون من الأثمان المطلقة, وهي الدراهم, والدنانير. وأما إن كان من المكيلات, والموزونات, والمذروعات الموصوفة في الذمة, فإن كان من الأثمان المطلقة, فاختلفا في قدره بأن قال الزوج: تزوجتك على ألف درهم. وقالت المرأة: تزوجتني على ألفين أو قال الزوج: تزوجتك على مائة دينار. وقالت المرأة: على مائتي دينار تحالفا, ويبدأ بيمين الزوج, فإن نكل أعطاها ألفين, وإن حلف تحلف المرأة, فإن نكلت أخذت ألفا, وإن حلفت يحكم لها بمهر المثل إن كان مهر مثلها مثل ما قالت أو أكثر, فلها ما قالت وإن كان مهر مثلها مثل ما قال الزوج أو أقل, فلها ما قال, وإن كان مهر مثلها أقل مما قالت أو أكثر مما قال, فلها مهر مثلها, وهذا قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف: لا يتحالفان, والقول قول الزوج في هذا كله إلا أن يأتي بمستنكر جدا, والحاصل أن أبا حنيفة, ومحمدا يحكمان مهر المثل, وينهيان الأمر إليه, وأبو يوسف لا يحكمه بل يجعل القول قول الزوج مع يمينه إلا أن يأتي بشيء مستنكر, وقد اختلف في تفسير المستنكر قيل: هو أن يدعي أنه تزوجها على أقل من عشرة دراهم, وهذا التفسير يروى عن أبي يوسف رحمه الله؛ لأن هذا القدر مستنكر شرعا إذ لا مهر في الشرع أقل من عشرة, وقيل هو أن يدعي أنه تزوجها على ما لا يزوج مثلها به عادة, وهذا يحكى عن أبي الحسن؛ لأن ذلك مستنكر عرفا, وهو الصحيح من التفسير؛ لأنهما اختلفا في مقدار المهر المسمى, وذلك اتفاق منهما على أصل المهر المسمى, وما دون العشرة لم يعرف مهرا في الشرع بلا خلاف بين أصحابنا, وقد روي عن أبي يوسف في المتبايعين إذا اختلفا في مقدار الثمن, والسلعة هالكة أن القول قول المشتري ما لم يأت بشيء مستنكر. وجه قول أبي يوسف أن القول قول المنكر في الشرع, والمنكر هو الزوج؛ لأن المرأة تدعي عليه زيادة مهر, وهو ينكر ذلك, فكان القول قوله مع يمينه كما في سائر المواضع, والدليل عليه أن المتعاقدين في باب الإجارة إذا اختلفا في مقدار المسمى لا يحكم بأجر المثل بل يكون القول قول المستأجر مع يمينه لما قلنا كذا هذا, ولهما أن القول في الشرع والعقل قول من يشهد له الظاهر, والظاهر يشهد لمن يوافق قوله مهر المثل؛ لأن الناس في العادات الجارية يقدرون المسمى بمهر المثل, ويبنونه عليه لا برضا الزوج بالزيادة عليه, والمرأة, وأولياؤها لا يرضون بالنقصان عنه, فكانت التسمية تقديرا لمهر المثل, وبناء عليه, فكان الظاهر شاهدا لمن يشهد له مهر المثل, فيحكم مهر المثل, فإن كان ألفين, فلها ذلك؛ لأن الظاهر شاهد لها, وإن كان أكثر من ألفين لا يزاد عليه؛ لأنها رضيت بالنقصان, وإن كان مهر مثلها ألفا, فلها ألف؛ لأن الظاهر شاهد للزوج, وإن كان أقل من ذلك لا ينقص عن ألف؛ لأن الزوج رضي بالزيادة, وإن كان مهر مثلها أكثر مما قال, وأقل مما قالت, فلها مهر المثل؛ لأنه هو الواجب الأصلي, وإنما التسمية تقدير له لما قلنا, فلا يعدل عنه إلا عند ثبوت التسمية وصحتها, فإذا لم يثبت لوقوع الاختلاف؛ وجب الرجوع إلى الموجب الأصلي, وتحكيمه, وإنما يتحالفان؛ لأن كل واحد منهما مدع من وجه, ومنكر من وجه أما الزوج؛ فلأن المرأة تدعي عليه زيادة ألف, وهو منكر. وأما المرأة؛ فلأن الزوج يدعي عليها تسليم النفس عند تسليم الألف إليها, وهي تنكر, فكان كل واحد منهما مدعيا من وجه, ومنكرا من وجه, فيتحالفان لقوله صلى الله عليه وسلم "واليمين على من أنكر", ويبدأ بيمين الزوج؛ لأنه أشد إنكارا أو أسبق إنكارا من المرأة؛ لأنه منكر قبل تسليم النفس, وبعده, ولا إنكار من المرأة بعد تسليم النفس, وقبل التسليم هو أسبق إنكارا؛ لأن المرأة تقبض المهر أولا, ثم تسلم نفسها, فتطالبه بأداء المهر إليها, وهو ينكر, فكان هو أسبق إنكارا, فكانت البداية بالتحليف منه أولى لما قلنا في اختلاف المتبايعين ذكر الكرخي التحالف في هذه الفصول الثلاثة, وأنكر الجصاص التحالف إلا في فصل واحد, وهو ما إذا لم يشهد مهر المثل لدعواهما بأن كان مهر مثلها أكثر مما قال الزوج, وأقل مما قالت المرأة. وكذا في الجامع الصغير

 

ج / 2 ص -306-       لم يذكر التحالف إلا في هذا الفصل. وجهه أن الحاجة إلى التحالف فيما لا شهادة للظاهر, فإذا كان مهر المثل مثل ما يدعيه أحدهما كان الظاهر شاهدا له, فلا حاجة إلى التحالف, والظاهر لا يشهد لأحدهما في الثالث, فتقع الحاجة إلى التحالف. وجه ما ذكره الكرخي أن مهر المثل لا يثبت إلا بعد سقوط اعتبار التسمية, والتسمية لا يسقط اعتبارها إلا بالتحالف؛ لأن الظاهر لا يكون حجة على الغير, فتقع الحاجة إلى التحالف, ثم إذا وجب التحالف, وبدئ بيمين الزوج, فإن نكل يقضى عليه بألفين؛ لأن النكول حجة يقضى بها في باب الأموال بلا خلاف بين أصحابنا, ولا خيار للزوج, وهو أن يعطيها مكان الدراهم دنانير؛ لأن تسمية الألفين قد تثبت بالنكول؛ لأنه بمنزلة الإقرار, ومن شأن المسمى أن لا يكون للزوج العدول عنه إلى غيره إلا برضا المرأة, وإن حلف تحلف المرأة, فإن نكلت لم يقض على الزوج إلا بالألف, ولا خيار له لما قلنا في نكول الزوج, وإن حلفت يحكم مهر المثل, فإن كان مهر مثلها ألفا قضي لها على الزوج بألف, ولا خيار له؛ لأن تسمية الألف قد تثبت بتصادقهما, فيمنع الخيار, وإن كان مهر مثلها ألفين قضي لها بألفين, وله الخيار في أخذ الألفين دون الآخر لثبوت تسمية أحد الألفين بتصادقهما دون الآخر, وإن كان مهر مثلها ألفا وخمسمائة قضي لها بألف وخمسمائة, ولا خيار له في قدر الألف بتصادقهما, وله الخيار في قدر الخمسمائة؛ لأنه لم تثبت تسمية هذا القدر, فكان سبيلها سبيل مهر المثل, فكان له الخيار فيها, ولا يفسخ العقد بعد التحالف في قول عامة العلماء. وقال ابن أبي ليلى: يفسخ كما في البيع؛ لأن كل واحد منهما عقد لا يجوز بغير بدل, ولنا الفرق بين البيع والنكاح, وهو أنه لما سقط اعتبار التسمية في باب البيع يبقى البيع بلا ثمن, والبيع بلا ثمن بيع فاسد, واجب الرفع رفعا للفساد, وذلك بالفسخ بخلاف النكاح, فإن ترك التسمية أصلا في النكاح لا يوجب فساده, فسقوط اعتباره بجهالة المسمى بالتعارض أولى, فلا حاجة إلى الفسخ, فهو الفرق, هذا إذا لم يقم لأحدهما بينة. فأما إذا قامت لأحدهما بينة, فإنه يقضى ببينته؛ لأنها قامت على أمر جائز الوجود, ولا معارض لها, فتقبل, ولا يحكم مهر المثل؛ لأن تحكيمه ضروري, ولا ضرورة عند قيام البينة, ولا خيار للزوج؛ لأن التسمية تثبت بالبينة, وأنها تمنع الخيار, وإن أقاما جميعا البينة, فإن كان مهر مثلها ألف درهم يقضى ببينتها؛ لأنها تظهر زيادة ألف, فكانت مظهرة, وبينة الزوج لم تظهر شيئا؛ لأنها قامت على ألف, والألف كان ظاهرا بتصادقهما, أو نقول بينة المرأة أكثر إظهارا, فكان القضاء بها أولى, ولا خيار للزوج في الألفين؛ لأن تسمية أحد الألفين تثبت بتصادقهما, وتسمية الآخر تثبت بالبينة, والتسمية تمنع الخيار, وإن كان مهر مثلها ألفين, فقد اختلف المشايخ فيه قال: بعضهم يقضى ببينتها أيضا؛ لأنها تظهر زيادة ألف لم تكن ظاهرة بتصادقهما, وإن كانت ظاهرة بشهادة مهر المثل لكن هذا الظاهر لا يكون حجة على الغير ألا ترى أنه لا يقضى به بدون اليمين أو البينة, وتصادقهما حجة بنفسه, فكانت بينتها هي المظهرة أو كانت أكثر إظهارا, وبينة الزوج ليست بمظهرة؛ لأن الألف كان ظاهرا بتصادقهما أو هي أقل إظهارا, فكان القضاء ببينتها أولى. وقال بعضهم: يقضى ببينة الزوج؛ لأن بينة الزوج تظهر حط الألف عن مهر المثل, وذلك ألفان لثبوت الألفين بشهادة مهر المثل, فيظهر حط عن مهر المثل بشهادته, وبينتها لا تظهر شيئا؛ لأن أحد الألفين كان ظاهرا بتصادقهما, والآخر كان ظاهرا بشهادة مهر المثل أو يظهر صفة التعيين للألفين؛ لأن الثابت بشهادة مهر المثل أو يظهر صفة التعيين لهما, وبينته مظهرة للأصل, فكان القضاء ببينته أولى, وإن كان مهر مثلها ألفا, وخمسمائة بطلت البينتان للتعارض؛ لأن مهر المثل لا يشهد لأحدهما, فكانت كل واحدة منهما مظهرة, وليس القضاء بإحداهما أولى من الأخرى فبطلت, فبقي الحكم بمهر المثل, ولا خيار له في قدر الألف؛ لأن البينتين التحقتا بالعدم للتعارض, فبقي هذا القدر مسمى بتصادقهما, وله خيار في قدر الخمسمائة لثبوته على وجه مهر المثل, وكذلك إن كان دينا موصوفا في الذمة بأن تزوجها على مكيل موصوف, أو موزون موصوف, أو مذروع موصوف, فاختلفا في قدر الكيل أو الوزن أو الذرع, فالاختلاف فيه كالاختلاف في قدر الدراهم, والدنانير, ولهذا يتحالفان, ويحكم مهر المثل في قول أبي حنيفة, ومحمد؛ لأن القدر في المكيل والموزون معقود عليه. وكذا في المذروع إذا كان في الذمة, وإن لم يكن معقودا عليه بل كان جاريا مجرى الصفة إذا كان عينا؛ لأن ما في الذمة غائب مذكور يختلف أصله باختلاف

 

ج / 2 ص -307-       وصفه, فجرى الوصف فيما في الذمة مجرى الأصل, ولهذا كان الاختلاف في صفة المسلم فيه موجبا للتحالف, فكان اختلافهما في الوصف بمنزلة اختلافهما في الأصل, وذلك يوجب التحالف كذا هذا, وعند أبي يوسف لا يتحالفان, والقول قول الزوج مع يمينه, وإن كان الاختلاف في جنس المسمى بأن قال الزوج: تزوجتك على عبد, فقالت: على جارية أو قال الزوج: تزوجتك على كر شعير, فقالت: على كر حنطة أو على ثياب هروية أو قال: على ألف درهم. وقالت: على مائة دينار, أو في نوعه كالتركي مع الرومي, والدنانير المصرية مع الصورية أو في صفته من الجودة, والرداءة, فالاختلاف فيه كالاختلاف في العينين إلا الدراهم, والدنانير, فإن الاختلاف فيهما كالاختلاف في الألف, والألفين, وإنما كان كذلك؛ لأن كل واحد من الجنسين, والنوعين, والموصوفين لا يملك إلا بالتراضي بخلاف الدراهم, والدنانير, فإنهما, وإن كانا جنسين مختلفين لكنهما في باب مهر المثل يقضى من جنس الدراهم, والدنانير, فجاز أن يستحق المائة دينار من غير تراض بخلاف العبد؛ لأن مهر المثل لا يقضى من جنسه, فلم يجز أن يملك من غير تراض, فيقضى بقدر قيمته هذا إذا كان المهر دينا فأما إذا كان عينا. فإن اختلفا في قدره فإن كان مما يتعلق العقد بقدره بأن تزوجها على طعام بعينه, فاختلفا في قدره, فقال الزوج: تزوجتك على هذا الطعام بشرط أنه كر وقالت المرأة: تزوجتني عليه بشرط أنه كران, فهي مثل الاختلاف في الألف, والألفين, وإن كان مما لا يتعلق العقد بقدره بأن تزوجها على ثوب بعينه كل ذراع منه يساوي عشرة دراهم فاختلفا, فقال الزوج: تزوجتك على هذا الثوب بشرط أنه ثمانية أذرع, فقالت: بشرط أنه عشرة أذرع لا يتحالفان, ولا يحكم مهر المثل, والقول قول الزوج بالإجماع, ووجه الفرق بين الطعام, والثوب أن القدر في باب الطعام معقود عليه حقيقة وشرعا أما الحقيقة؛ فلأن المعقود عليه عين, وذات حقيقة. وأما الشرع, فإنه إذا اشترى طعاما على أنه عشرة أقفزة, فوجده أحد عشر لا يطيب له الفضل, والاختلاف في المعقود عليه يوجب التحالف. فأما القدر في باب الثوب, وإن كان من أجزاء الثوب حقيقة لكنه جار مجرى الوصف, وهو صفة الجودة شرعا؛ لأنه يوجب صفة الجودة لغيره من الأجزاء ألا ترى أن من اشترى ثوبا على أنه عشرة أذرع, فوجده أحد عشر طاب له الفضل, والاختلاف في صفة المعقود عليه إذا كان عينا لا يوجب التحالف كما إذا اختلفا في صفة الجودة في العين, والأصل أن ما يوجب فوات بعضه نقصانا في البقية, فهو جار مجرى الصفة, وما لا يوجب فوات بعضه نقصانا في الباقي لا يكون جاريا مجرى الصفة, وإن اختلفا في جنسه, وعينه كالعبد والجارية بأن قال الزوج: تزوجتك على هذا العبد. وقالت المرأة على هذه الجارية, فهو مثل الاختلاف في الألف, والألفين إلا في فصل واحد, وهو ما إذا كان مهر مثلها مثل قيمة الجارية أو أكثر, فلها قيمة الجارية لا عينها؛ لأن تمليك الجارية لا يكون إلا بالتراضي, ولم يتفقا على تمليكها, فلم يوجد الرضا من صاحب الجارية بتمليكها, فتعذر التسليم, فيقضى بقيمتها بخلاف ما إذا اختلفا في الدراهم أو الدنانير, فقال الزوج: تزوجتك على ألف درهم. وقالت المرأة على مائة دينار أن الاختلاف فيه كالاختلاف في الألف, والألفين على معنى أن مهر مثلها إن كان مثل مائة دينار أو أكثر, فلها المائة دينار لما مر أن مهر المثل يقضى من جنس الدراهم, والدنانير, فلا يشترط فيه التراضي بخلاف العبد, فإن مهر المثل لا يقضى من جنسه, فلا يجوز أن يملك من غير مراضاة, ولا يكون لها أكثر من قيمتها, وإن كان مهر مثلها أكثر من قيمتها؛ لأنها رضيت بهذا القدر, وما كان القول فيه أي من العين قول الزوج, فهلك, فاختلفا في قدر قيمته, فالقول فيه قول الزوج أيضا؛ لأن المسمى مجمع عليه, فكانت القيمة دينا عليه, والاختلاف إذا وقع في قدر الدين, فالقول قول المديون كما في سائر الديون هذا كله إذا اختلفا قبل الطلاق. ولو اختلفا بعد الطلاق, فإن كان بعد الدخول أو قبل الدخول بعد الخلوة, فالجواب في الفصول كلها كالجواب فيما لو اختلفا حال قيام النكاح؛ لأن الطلاق بعد الدخول أو قبل الدخول بعد الخلوة مما لا يوجب سقوط مهر المثل, وإن كان قبل الدخول بها, وقبل الخلوة, فإن كان المهر دينا, فاختلفا في الألف, والألفين, فالقول قول الزوج, ويتنصف ما يقول الزوج كذا ذكر في كتاب النكاح والطلاق, ولم يذكر الاختلاف كذا ذكر الطحاوي أنه يتنصف ما يقول الزوج, ولم يذكر الخلاف. وذكر الكرخي, وحكى الإجماع, فقال:

 

ج / 2 ص -308-       لها نصف الألف في قولهم. وذكر محمد في الجامع الصغير. وقال: ينبغي أن يكون القول قول المرأة إلى متعة مثلها, والقول قول الزوج في الزيادة على قياس قول أبي حنيفة, ووجهه أن المسمى لم يثبت لوقوع الاختلاف فيه, والطلاق قبل الدخول في نكاح لا تسمية فيه يوجب المتعة, ويحكم متعة مثلها؛ لأن المرأة ترضى بذلك, والزوج لا يرضى بالزيادة, فكان القول قوله في الزيادة, والصحيح هو الأول؛ لأنه لا سبيل إلى تحكيم مهر المثل ههنا؛ لأن مهر المثل لا يثبت في الطلاق قبل الدخول, فتعذر تحكيمه, فوجب إثبات المتيقن, وهو نصف الألف, ومتعة مثلها لا تبلغ ذلك عادة, فلا معنى لتحكيم المتعة على إقرار الزوج بالزيادة, وقيل لا خلاف بين الروايتين في الحقيقة, وإنما اختلف الجواب لاختلاف وضع المسألة, فوضع المسألة في كتاب النكاح في الألف, والألفين, ولا وجه لتحكيم المتعة؛ لأن الزوج أقر لها بخمسمائة, وهي تزيد على متعة مثلها عادة, فقد أقر الزوج لها بمتعة مثلها, وزيادة, فكان لها ذلك, ووضعها في الجامع الكبير في العشرة والمائة بأن قال الزوج: تزوجتك على عشرة دراهم. وقالت المرأة: تزوجتني على مائة درهم, ومتعة مثلها عشرون, ففي هذه الصورة يكون الزوج مقرا لها بخمسة دراهم, وذلك أقل من متعة مثلها عادة, فكان لها متعة مثلها, وإن كان المهر عينا كما في مسألة العبد, والجارية, فلها المتعة إلا أن يرضى الزوج أن يأخذ نصف الجارية بخلاف ما إذا اختلفا في الألف, والألفين؛ لأن نصف الألف هناك ثابتة بيقين لاتفاقهما على تسمية الألف, فكان القضاء بنصفها حكما بالمتيقن, والملك في نصف الجارية ليس بثابت بيقين؛ لأنهما لم يتفقا على تسمية أحدهما, فلم يمكن القضاء بنصف الجارية إلا باختيارهما, فإذا لم يوجد سقط البدلان, فوجب الرجوع إلى المتعة هذا إذا كان الاختلاف في حياة الزوجين, فإن كان في حياة أحدهما بعد موت الآخر بينه وبين ورثة الميت, فكذلك الجواب أن القول قول المرأة إلى تمام مهر مثلها إن كانت حية, وقول ورثتها إن كانت ميتة, والقول قول الزوج, وورثته في الزيادة عندهما, وعند أبي يوسف القول قول, ورثة الزوج إلا أن يأتوا بشيء مستنكر, وإن كان الاختلاف بين ورثة الزوجين, فإن اختلفوا في أصل التسمية, وكونها, فقد قال أبو حنيفة لا أقضي بشيء حتى تقوم البينة على أصل التسمية, وعندهما يقضى بمهر المثل كما في حال الحياة. وجه قولهما أن التسمية إذا لم تثبت لاختلافهما, وجب مهر المثل بالعقد, فيبقى بعد موتهما كالمسمى, وصار كأنه تزوجها, ولم يسم لها مهرا, ثم ماتا, وجواب أبي حنيفة هناك أنه لا يقضى بشيء حتى تقوم البينة على التسمية أما قولهما أن مهر المثل يجب بالعقد عند عدم التسمية, فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أنه وجب لكنه لم يبق إذ المهر لا يبقى بعد موت الزوجين عادة, وهذا قول أبي حنيفة في المسألة بل الظاهر هو الاستيفاء والإبراء هذا هو العادة بين الناس, فلا يثبت البقاء إلا بالبينة, والثاني: لئن سلمنا أنه بقي لكنه تعذر القضاء به؛ لأن موضوع المسألة عند التقادم, وعند التقادم لا يدرى ما حالها, ومهر المثل يقدر بحالها, فيتعذر التقدير على أن اعتبار مهرها بمهر مثل نساء عشيرتها, فإذا ماتا, فالظاهر موت نساء عشيرتها, فلا يمكن التقدير "وجه" قول أبي حنيفة في هذه المسألة مشكل, ولو اختلفت الورثة في قدر المهر, فالقول قول ورثة الزوج عند أبي حنيفة. وعند أبي يوسف القول قول, ورثة الزوج إلا أن يأتوا بشيء مستنكر جدا, وعند محمد القول قول, ورثة المرأة إلى قدر مهر مثلها كما في حال الحياة ولو بعث الزوج إلى امرأته شيئا, فاختلفا, فقالت المرأة: هو هدية. وقال الزوج: هو من المهر, فالقول قول الزوج إلا في الطعام الذي يؤكل؛ لأن الزوج هو المملك, فكان أعرف بجهة تمليكه, فكان القول قوله إلا فيما يكذبه الظاهر, وهو الطعام الذي يؤكل؛ لأنه لا يبعث مهرا عادة.

"فصل": ومما يتصل بهذا اختلاف الزوجين في متاع البيت, ولا بينة لأحدهما. وجملة الكلام فيه أن الاختلاف في متاع البيت إما أن يكون بين الزوجين في حال حياتهما, وإما أن يكون بين ورثتهما بعد وفاتهما, وإما أن يكون في حال حياة أحدهما, وموت الآخر, فإن كان في حال حياتهما, فإما أن يكون في حال قيام النكاح, وإما أن يكون بعد زواله بالطلاق, فإن كان في حال قيام النكاح, فما كان يصلح للرجال كالعمامة, والقلنسوة, والسلاح وغيرها, فالقول فيه قول الزوج؛ لأن الظاهر شاهد له, وما يصلح للنساء مثل الخمار والملحفة والمغزل ونحوها, فالقول فيه قول الزوجة؛ لأن الظاهر شاهد لها

 

ج / 2 ص -309-       وما يصلح لهما جميعا كالدراهم, والدنانير, والعروض والبسط والحبوب ونحوها فالقول فيه قول الزوج. وهذا قول أبي حنيفة, ومحمد. وقال أبو يوسف: القول قول المرأة إلى قدر جهاز مثلها في الكل, والقول قول الزوج في الباقي. وقال زفر: في قول المشكل بينهما نصفان, وفي قول آخر, وهو قول مالك, والشافعي الكل بينهما نصفان. وقال: ابن أبي ليلى القول قول الزوج في الكل إلا في ثياب بدن المرأة. وقال الحسن: القول قول المرأة في الكل إلا في ثياب بدن الرجل "وجه" قول الحسن أن يد المرأة على ما في داخل البيت أظهر منه في يد الرجل, فكان الظاهر لها شاهدا إلا في ثياب بدن الرجل؛ لأن الظاهر يكذبها في ذلك, ويصدق الزوج "وجه" قول ابن أبي ليلى أن الزوج أخص بالتصرف فيما في البيت, فكان الظاهر شاهدا له إلا في ثياب بدنها, فإن الظاهر يصدقها فيه, ويكذب الرجل "وجه" قول زفر أن يد كل واحد من الزوجين إذا كانا حرين ثابتة على ما في البيت, فكان الكل بينهما نصفين, وهو قياس قوله إلا أنه خص المشكل بذلك في قول؛ لأن الظاهر يشهد لأحدهما في المشكل "وجه" قول أبي يوسف أن الظاهر يشهد للمرأة إلى قدر جهاز مثلها؛ لأن المرأة لا تخلو عن الجهاز عادة, فكان الظاهر شاهدا لها في ذلك القدر, فكان القول في هذا القدر قولها, والظاهر يشهد للرجل في الباقي, فكان القول قوله في الباقي "وجه" قولهما أن يد الزوج على ما في البيت أقوى من يد المرأة؛ لأن يده يد متصرفة, ويدها يد حافظة, ويد التصرف أقوى من يد الحفظ كاثنين يتنازعان في دابة, وأحدهما راكبها, والآخر متعلق بلجامها أن الراكب أولى إلا أن فيما يصلح لها عارض هذا الظاهر ما هو أظهر منه, فسقط اعتباره, وإن اختلفا بعد ما طلقها ثلاثا أو بائنا, فالقول قول الزوج؛ لأنها صارت أجنبية بالطلاق, فزالت يدها, والتحقت بسائر الأجانب هذا إذا اختلف الزوجان قبل الطلاق أو بعده "فأما" إذا ماتا, فاختلف, ورثتهما, فالقول قول ورثة الزوج في قول أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف القول قول ورثة المرأة إلى قدر جهاز مثلها, وقول ورثة الزوج في الباقي؛ لأن الوارث يقوم مقام المورث, فصار كأن المورثين اختلفا بأنفسهما, وهما حيان, وإن مات أحدهما, واختلف الحي وورثة الميت, فإن كان الميت هو المرأة, فالقول قول الزوج عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأنها لو كانت حية لكان القول قوله, فبعد الموت أولى. وعند أبي يوسف القول قول, ورثتها إلى قدر جهاز مثلها, وإن كان الميت هو الزوج, فالقول قولها عند أبي حنيفة في المشكل, وعند أبي يوسف في قدر جهاز مثلها, وعند محمد القول قول, ورثة الزوج "وجه" قولهما ظاهر؛ لأن الوارث قائم مقام المورث, ولأبي حنيفة أن المتاع كان في يدهما في حياتهما؛ لأن الحرة من أهل الملك واليد, فينبغي أن يكون بينهما نصفين كما قال زفر؛ لأن يد الزوج كانت أقوى, فسقطت يدها بيد الزوج, فإذا مات الزوج, فقد زال المانع, فظهرت يدها على المتاع. ولو طلقها في مرضه ثلاثا أو بائنا, فمات, ثم اختلفت هي, وورثة الزوج, فإن مات بعد انقضاء العدة, فالقول قول ورثة الزوج؛ لأن القول قول الزوج في المشكل بعد الطلاق, فكان القول قول ورثته بعده أيضا, وإن مات قبل انقضاء العدة, فالقول قولها عند أبي حنيفة في المشكل. وعند أبي يوسف في قدر جهاز مثلها, وعند محمد القول قول ورثة الزوج؛ لأن العدة إذا كانت قائمة كان النكاح قائما من وجه, فصار كما لو مات الزوج قبل الطلاق, وبقيت المرأة, وهناك القول قولها عند أبي حنيفة في المشكل وعند أبي يوسف في قدر جهاز مثلها, وعند محمد القول قول ورثة الزوج كذا ههنا هذا كله إذا كان الزوجان حرين أو مملوكين أو مكاتبين. فأما إذا كان أحدهما حرا, والآخر مملوكا أو مكاتبا, فعند أبي حنيفة القول قول الحر, وعندهما إن كان المملوك محجورا, فكذلك. وأما إذا كان مأذونا أو مكاتبا, فالجواب فيه, وفيما إذا كانا حرين سواء "وجه" قولهما أن المكاتب في ملك اليد بمنزلة الحر بل هو حر يدا, ولهذا كان أحق بمكاسبه. وكذا المأذون المديون, فصار كما لو اختلفا, وهما حران, ولأبي حنيفة أن كل واحد منهما مملوك أما المأذون, فلا شك فيه. وكذا المكاتب؛ لأنه عبد ما بقي عليه درهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم والعبد اسم للمملوك, والمملوك لا يكون من أهل الملك, فلا تصلح يده دليلا على الملك, فلا تصلح معارضة ليد الحر, فبقيت يده دليل الملك من غير معارض بخلاف الحرين. ولو كان الزوج حرا, والمرأة أمة أو مكاتبة أو مدبرة أو أم ولد, فأعتقت, ثم اختلفا في متاع البيت, فما أحدثا من الملك قبل العتق, فهو

 

ج / 2 ص -310-       للزوج؛ لأنه حدث في وقت لم تكن المرأة فيه من أهل الملك, وما أحدثا من الملك بعد العتق, فالجواب فيه, وفي الحرين سواء. ولو كان الزوج مسلما, والمرأة ذمية, فالجواب فيه كالجواب في الزوجين المسلمين؛ لأن الكفر لا ينافي أهلية الملك بخلاف الرق. وكذا لو كان البيت ملكا لأحدهما لا يختلف الجواب؛ لأن العبرة لليد لا للملك هذا كله إذا لم تقر المرأة أن هذا المتاع اشتراه لي زوجي, فإن أقرت بذلك سقط قولها؛ لأنها أقرت بذلك لزوجها, ثم ادعت الانتقال, فلا يثبت الانتقال إلا بدليل, وقد مرت المسألة.

"فصل": ومنها الكفاءة في إنكاح غير الأب, والجد من الأخ, والعم, ونحوهما الصغير, والصغيرة, وفي إنكاح الأب, والجد اختلاف أبي حنيفة مع صاحبيه. وأما الطوع فليس بشرط لجواز النكاح عندنا خلافا للشافعي, فيجوز نكاح المكره عندنا. وعنده لا يجوز, وهذه من مسائل كتاب الإكراه, وكذلك الجد ليس من شرائط جواز النكاح حتى يجوز نكاح الهازل؛ لأن الشرع جعل الجد, والهزل في باب النكاح سواء قال النبي: صلى الله عليه وسلم "ثلاث جدهن جد, وهزلهن جد الطلاق والعتاق والنكاح" وكذلك العمد عندنا حتى يجوز نكاح الخاطئ وهو الذي يسبق على لسانه كلمة النكاح من غير قصده. وعند الشافعي شرط, والصحيح قولنا؛ لأن الثابت بالخطأ ليس إلا القصد, وأنه ليس بشرط لجواز النكاح بدليل نكاح الهازل, وكذلك الحل أعني كونه حلالا غير محرم أو كونها حلالا غير محرمة ليس بشرط لجواز النكاح عندنا, وعند الشافعي شرط حتى يجوز نكاح المحرم, والمحرمة عندنا لكن لا يحل وطؤها في حال الإحرام, وعنده لا يجوز "وجه" قوله أن الجماع من محظورات الإحرام, فكذا النكاح؛ لأنه سبب داع إلى الجماع, ولهذا حرمت الدواعي على المحرم كما حرم عليه الجماع, ولنا ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة رضي الله عنها وهو حرام", وأدنى ما يستدل بفعل النبي صلى الله عليه وسلم هو الجواز, ولا يعارض هذا ما روى زيد بن الأصم "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ميمونة, وهو حلال بسرف", وأجمعوا على أنه ما تزوجها إلا مرة واحدة, فيقع التعارض؛ لأن الأخذ برواية ابن عباس رضي الله عنهما أولى لوجهين أحدهما: أنه يثبت أمرا عارضا, وهو الإحرام إذ الحل أصل, والإحرام عارض, فتحمل رواية زيد على أنه بنى الأمر على الأصل, وهو الحل تحسينا للظن بالروايتين, فكان راوي الإحرام معتمدا على حقيقة الحال, وراوي الحل بانيا الأمر على الظاهر, فكانت رواية من اعتمد حقيقة الحال أولى, ولهذا رجحنا قول الجارح على المزكي كذا هذا, والثاني أن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أفقه, وأتقن من زيد, والترجيح بفقه الراوي, وإتقانه ترجيح صحيح على ما عرف في أصول الفقه؛ ولأن المعاني التي لها حسن النكاح في غير حال الإحرام موجودة في حال الإحرام, فكان الفرق بين الحالين في الحكم مع وجود المعنى الجامع بينهما مناقضة, وما ذكره من المعنى يبطل بنكاح الحائض والنفساء, فإنه جائز بالإجماع, وإن كان النكاح سببا داعيا إلى الجماع, والله عز وجل أعلم.

 

ج / 2 ص -311-       "فصل": ثم كل نكاح جاز بين المسلمين, وهو الذي استجمع شرائط الجواز التي وصفناها, فهو جائز بين أهل الذمة. وأما ما, فسد بين المسلمين من الأنكحة, فإنها منقسمة في حقهم منها ما يصح, ومنها ما يفسد, وهذا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: كل نكاح, فسد في حق المسلمين, فسد في حق أهل الذمة حتى لو أظهروا النكاح بغير شهود يعترض عليهم, ويحملون على أحكامنا, وإن لم يرفعوا إلينا. وكذا إذا أسلموا يفرق بينهما عنده, وعندنا لا يفرق بينهما, وإن تحاكما إلينا أو أسلما بل يقران عليه "وجه" قولهم إنهم لما قبلوا عقد الذمة, فقد التزموا أحكامنا ورضوا بها, ومن أحكامنا أنه لا يجوز النكاح بغير شهود, ولهذا لم يجز نكاحهم المحارم في حكم الإسلام؛ ولأن تحريم النكاح بغير شهود في شريعتنا ثبت بخطاب الشرع على سبيل العموم بقوله صلى الله عليه وسلم "لا نكاح إلا بشهود". والكفار مخاطبون بشرائع هي حرمات في الصحيح من الأقوال, فكانت حرمة النكاح بغير شهود ثابتة في حقهم. "ولنا" أنهم كانوا يتدينون النكاح بغير شهود, والكلام فيه, ونحن أمرنا بتركهم, وما يدينون إلا ما استثني من عقودهم كالزنا, وهذا غير مستثنى منها

فيصح في حقهم كما يصح منهم تملك الخمر, والخنزير, وتمليكهما, فلا يعترض عليهم كما لا يعترض في الخمر والخنزير؛ ولأن الشهادة ليست بشرط بقاء النكاح على الصحة بدليل أنه لا يبطل بموت الشهود, فلا يجوز أن يكون شرط ابتداء العقد في حق الكافر؛ لأن في الشهادة معنى العبادة قال الله: تعالى {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ}, فلا يؤاخذ الكافر بمراعاة هذا الشرط في العقد؛ ولأن نصوص الكتاب العزيز مطلقة عن شرط الشهادة, والتقييد بالشهادة في نكاح المسلم ثبت بدليل, فمن ادعى التقييد بها في حق الكافر يحتاج إلى الدليل. "وأما" قوله إنهم بالذمة التزموا أحكام الإسلام, فنعم لكن جواز أنكحتهم بغير شهود من أحكام الإسلام, وقوله تحريم النكاح بغير شهود عام ممنوع بل هو خاص في حق المسلمين لوجود المخصص لأهل الذمة, وهو عمومات الكتاب. ولو تزوج ذمي ذمية في عدة من ذمي جاز النكاح في قول أبي حنيفة, وهذا, والنكاح بغير شهود سواء عندنا حتى لا يعترض عليهما بالتفريق, وإن ترافعا إلينا. ولو أسلما يقران على ذلك. وقال أبو يوسف, ومحمد, وزفر, والشافعي: النكاح فاسد يفرق بينهما "وجه" قولهم على نحو ما ذكرنا لزفر في النكاح بغير شهود, وهو أنهم بقبول الذمة التزموا أحكامنا, ومن أحكامنا المجمع عليها, فساد نكاح المعتدة؛ ولأن الخطاب بتحريم نكاح المعتدة عام قال تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ}, والكفار مخاطبون بالحرمات, وكلام أبي حنيفة على نحو ما تقدم أيضا؛ لأن في ديانتهم عدم وجوب العدة, والكلام فيه, فلم يكن هذا نكاح المعتدة في اعتقادهم, ونحن أمرنا بأن نتركهم, وما يدينون. وكذا عمومات النكاح من الكتاب العزيز, والسنة مطلقة عن هذه الشريطة أعني الخلو عن العدة, وإنما عرف شرطا في نكاح المسلمين بالإجماع, وقوله عز وجل {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} خطاب للمسلمين, أو يحمل عليه عملا بالدلائل كلها صيانة لها عن التناقض؛ ولأن العدة فيها معنى العبادة, وهي حق الزوج أيضا من وجه قال الله تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}, فمن حيث هي عبادة لا يمكن إيجابها على الكافرة؛ لأن الكفار لا يخاطبون بشرائع هي عبادات أو قربات. وكذا من حيث هي حق الزوج؛ لأن الكافر لا يعتقده حقا لنفسه بخلاف المسلم إذا تزوج كتابية في عدة من مسلم أنه لا يجوز؛ لأن المسلم يعتقد العدة حقا واجبا, فيمكن الإيجاب لحقه إن كان لا يمكن لحق الله تعالى من حيث هي عبادة, ولهذا قلنا إنه ليس للزوج المسلم أن يجبر امرأته الكافرة على الغسل من الجنابة والحيض والنفاس؛ لأن الغسل من باب القربة, وهي ليست مخاطبة بالقربات, وله أن يمنعها من الخروج من البيت؛ لأن الإسكان حقه, وأما نكاح المحارم, والجمع بين خمس نسوة, والجمع بين الأختين, فقد ذكر الكرخي أن ذلك كله فاسد في حكم الإسلام بالإجماع؛ لأن, فساد هذه الأنكحة في حق المسلمين ثبت لفساد قطيعة الرحم, وخوف الجور في قضاء الحقوق من النفقة, والسكنى, والكسوة, وغير ذلك, وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم, والكافر إلا أنه مع الحرمة, والفساد لا يتعرض لهم قبل المرافعة, وقبل الإسلام؛ ولأنهم دانوا ذلك, ونحن أمرنا أن نتركهم, وما يدينون كما لا يتعرض لهم في عبادة غير الله تعالى, وإن كانت محرمة, وإذا ترافعا إلى القاضي, فالقاضي يفرق بينهما كما يفرق بينهما بعد الإسلام؛ لأنهما إذا ترافعا, فقد تركا ما داناه, ورضيا بحكم الإسلام, ولقوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ}, وأما إذا لم يترافعا, ولم يوجد الإسلام أيضا, فقد قال أبو حنيفة, ومحمد إنهما يقران على نكاحهما, ولا يعترض عليهما بالتفريق. وقال أبو يوسف: يفرق بينهما الحاكم إذا علم ذلك سواء ترافعا إلينا أو لم يترافعا. ولو رفع أحدهما دون الآخر قال أبو حنيفة: لا يعترض عليهما ما لم يترافعا جميعا. وقال محمد: إذا رفع أحدهما يفرق بينهما أما الكلام في المسألة الأولى, فوجه قول أبي يوسف ظاهر قوله تعالى {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما أنزله مطلقا عن شرط المرافعة, وقد أنزل سبحانه وتعالى حرمة هذه الأنكحة, فيلزم الحكم بها مطلقا؛ ولأن الأصل في الشرائع هو العموم في حق الناس كافة إلا أنه تعذر تنفيذها في دار الحرب لعدم الولاية, وأمكن في دار الإسلام, فلزم التنفيذ فيها, وكان النكاح فاسدا, والنكاح الفاسد زنا من وجه, فلا يمكنون منه كما لا يمكنون من الزنا في دار الإسلام, ولأبي حنيفة, ومحمد قوله تعالى {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ}, والآية حجة له في المسألتين جميعا أما في المسألة الأولى؛ فلأنه شرط المجيء للحكم عليهم, وأثبت

 

ج / 2 ص -312-       سبحانه وتعالى التخيير بين الحكم والإعراض إلا أنه قام الدليل على نسخ التخيير, ولا دليل على نسخ شرط المجيء, فكان حكم الشرط باقيا, ويحمل المطلق على المقيد لتعذر العمل بهما, وإمكان جعل المقيد بيانا للمطلق. وأما في المسألة الثانية؛ فلأنه سبحانه, وتعالى شرط مجيئهم للحكم عليهم, فإذا جاء أحدهما دون الآخر, فلم يوجد الشرط, وهو مجيئهم, فلا يحكم بينهم. وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب إلى مجوس هجر إما أن تذروا الربا أو تأذنوا بحرب من الله ورسوله", ولم يكتب إليهم في أنكحتهم شيئا. ولو كان التفريق مستحقا قبل المرافعة لكتب به كما كتب بترك الربا. وروي أن المسلمين لما فتحوا بلاد فارس, ولم يتعرضوا لأنكحتهم, وما روي أن عمر رضي الله عنه كتب أن يفرق بينهم وبين أمهاتهم لا يكاد يثبت؛ لأنه لو ثبت لنقل على طريق الاستفاضة لتوفر الدواعي إلى نقلها, فلما لم ينقل دل أنه لم يثبت أو يحمل على أنه كتب, ثم رجع عنه, ولم يعمل به؛ ولأن ترك التعرض, والإعراض ثبت حقا لهما, فإذا رفع أحدهما, فقد أسقط حق نفسه, فبقي حق الآخر. "وجه" قول محمد أنه لما رفع أحدهما, فقد رضي بحكم الإسلام, فيلزم إجراء حكم الإسلام في حقه, فيتعدى إلى الآخر كما إذا أسلم أحدهما إلا أن أبا حنيفة يقول الرضا بالحكم ليس نظير الإسلام بدليل أنه لو رضي, ثم رجع عنه قبل الحكم عليه لم يلزمه بحكم الإسلام, وبعد ما أسلم لا يمكنه أن يأبى الرضا بأحكام الإسلام, وإذا لم يكن ذلك أمرا لازما ضروريا, فلا يتعدى إلى غيره, وجعل رضاه في حق الغير كالعدم بخلاف الإسلام. وذكر القاضي الإمام أبو زيد أن إنكاح المحارم صحيح فيما بينهم في قول أبي حنيفة بدليل أن الذمي إذا تزوج بمحارمه, ودخل بها لم يسقط إحصانه عنده حتى لو قذفه إنسان بالزنا بعد ما أسلم يحد قاذفه عنده. ولو كان النكاح فاسدا لسقط إحصانه؛ لأن الدخول في النكاح الفاسد يسقط الإحصان كما في سائر الأنكحة الفاسدة, وكذلك لو ترافعا إلينا, فطلبت المرأة النفقة, فإن القاضي يقضي بالنفقة في قول أبي حنيفة, فدل أن نكاح المحارم, وقع صحيحا فيما بينهم في حكم الإسلام, واتفقوا على أنه لو تزوج حربي أختين في عقدة, واحدة أو على التعاقب, ثم فارق إحداهما قبل الإسلام, ثم أسلم أن نكاح الباقية صحيح, ومعلوم أن الباقي غير الثابت. ولو وقع نكاحها فاسدا حال وقوعه لما أقر عليه بعد الإسلام, وكذلك لو تزوج خمسا في عقد متفرقة, ثم فارق الأولى منهن, ثم أسلم بقي نكاح الأربع على الصحة. ولو وقع فاسدا من الأصل لما انقلب صحيحا بالإسلام بل كان يتأكد الفساد, فثبت أن هذه الأنكحة, وقعت صحيحة في حقهم في حكم الإسلام, ثم يفرق بينهما بعد الإسلام؛ لأنه لا صحة لها في حق المسلمين. ولو طلق الذمي امرأته ثلاثا أو خالعها, ثم قام عليها كقيامه عليها قبل الطلاق يفرق بينهما, وإن لم يترافعا؛ لأن العقد قد بطل بالطلقات الثلاث وبالخلع؛ لأنه يدين بذلك, فكان إقراره على قيامه عليها إقرارا على الزنا, وهذا لا يجوز. ولو تزوج ذمي ذمية على أن لا مهر لها, وذلك في دينهم جائز صح ذلك, ولا شيء لها في قول أبي حنيفة سواء دخل بها أو لم يدخل بها طلقها أو مات عنها أسلما أو أسلم أحدهما. وعند أبي يوسف, ومحمد لها مهر مثلها, ثم إن طلقها بعد الدخول أو بعد الخلوة بها أو مات عنها تأكد ذلك, وإن طلقها قبل الدخول بها أو قبل الخلوة سقط مهر المثل, ولها المتعة كالمسلمة. ولو تزوج حربي حربية في دار الحرب على أن لا مهر لها جاز ذلك, ولا شيء لها في قولهم جميعا, والكلام في الجانبين على نحو ما ذكرنا في المسائل المتقدمة هما يقولان: إن حكم الإسلام قد لزم الزوجين الذميين لالتزامهما أحكامنا, ومن أحكامنا أنه لا يجوز النكاح من غير مال بخلاف الحربيين؛ لأنهما ما التزما أحكامنا وأبو حنيفة يقول: إن في ديانتهم جواز النكاح بلا مهر, ونحن أمرنا بأن نتركهم, وما يدينون إلا فيما وقع الاستثناء في عقودهم كالربا, وهذا لم يقع الاستثناء عنه, فلا نتعرض لهم, ويكون جائزا في حقهم في حكم الإسلام كما يجوز لهم في حكم الإسلام تملك الخمور, والخنازير, وتمليكها هذا إذا تزوجها, وبقي المهر. فأما إذا تزوجها, وسكت عن تسميته بأن تزوجها, ولم يسم لها مهرا, فلها مهر المثل في ظاهر رواية الأصل, فإنه ذكر في الأصل أن الذمي إذا تزوج ذمية بميتة, أو دم أو بغير شيء أن النكاح جائز, ولها مهر مثلها, فظاهر قوله أو بغير شيء يشعر بالسكوت عن التسمية إلا بالنفي, فيدل على وجوب مهر المثل حال السكوت عن التسمية, ففرق أبو حنيفة بين السكوت, وبين النفي, وحكي عن الكرخي أنه قال: قياس قول أبي حنيفة أنه

 

ج / 2 ص -313-       لا فرق بين حالة السكوت, وبين النفي, ووجهه أنه لما جاز النكاح في ديانتهم بمهر, وبغير مهر لم يكن في نفس العقد ما يدل على التزام المهر, فلا بد لوجوبه من دليل, وهو التسمية, ولم توجد, فلا يجب بخلاف نكاح المسلمين؛ لأنه لا جواز له بدون المهر, فكان ذلك العقد التزاما للمهر "ووجه" الفرق بين السكوت, وبين النفي على ظاهر الرواية أنه لما سكت عن تسمية المهر لم تعرف ديانته النكاح بلا مهر, فيجعل إقدامه على النكاح التزاما للمهر كما في حق المسلمين, وإذا نفى المهر نصا دل أنه يدين النكاح, ويعتقده جائزا بلا مهر, فلا يلزمه حكم نكاح أهل الإسلام بل يترك, وما يدينه, فهو الفرق, ثم ما صلح مهرا في نكاح المسلمين, فإنه يصلح مهرا في نكاح أهل الذمة لا شك فيه؛ لأنه لما جاز نكاحنا عليه كان نكاحهم عليه أجوز, وما لا يصلح مهرا في نكاح المسلمين لا يصلح مهرا في نكاحهم أيضا إلا الخمر, والخنزير؛ لأن ذلك مال متقوم في حقهم بمنزلة الشاة, والخل في حق المسلمين, فيجوز أن يكون مهرا في حقهم في حكم الإسلام, فإن تزوج ذمي ذمية على خمر أو خنزير, ثم أسلما أو أسلم أحدهما, فإن كان الخمر, والخنزير بعينه, ولم يقبض, فليس لها إلا العين, وإن كان بغير عينه بأن كان في الذمة, فلها في الخمر القيمة, وفي الخنزير مهر مثلها, وهو قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: لها مهر مثلها سواء كان بعينه أو بغير عينه. وقال محمد لها القيمة سواء كان بعينه أو بغير عينه, ولا خلاف في أن الخمر والخنزير إذا كان دينا في الذمة ليس لها غير ذلك "وجه" قولهما في أنه لا يجوز أن يكون لها العين أن الملك في العين, وإن ثبت لها قبل الإسلام لكن في القبض معنى التمليك؛ لأنه مؤكد للملك؛ لأن ملكها قبل القبض واه غير متأكد ألا ترى أنه لو هلك عند الزوج كان الهلاك عليه. وكذا لو تعيب, وبعد القبض كان ذلك كله عليها, فثبت أن الملك قبل القبض غير متأكد, فكان القبض مؤكدا للملك, والتأكيد إثبات من وجه, فكان القبض تمليكا من وجه والمسلم منهي عن ذلك, ولهذا لو اشترى ذمي من ذمي خمرا, ثم أسلما أو أسلم أحدهما قبل القبض ينتقض البيع, ولأبي حنيفة أن المرأة تملك المهر قبل القبض ملكا تاما إذ الملك نوعان: ملك رقبة, وملك يد, وهو ملك التصرف, ولا شك أن ملك الرقبة ثابت لها قبل القبض, وكذلك ملك التصرف؛ لأنها تملك التصرف في المهر قبل القبض من كل وجه, فلم يبق إلا صورة القبض, والمسلم غير منهي عن صورة قبض الخمر والخنزير وإقباضهما كما إذا غصب مسلم من مسلم خمرا أن الغاصب يكون مأمورا بالتسليم, والمغصوب منه يكون مأذونا له في القبض. وكذا الذمي إذا غصب منه الخمر, ثم أسلم, وكمسلم أودعه الذمي خمرا, ثم أسلم الذمي أن له أن يأخذ الخمر من المودع يبقى هذا القدر, وهو أنه دخل المهر في ضمانها بالقبض لكن هذا لا يوجب ثبوت ملك لها لما ذكرنا أن ملكها تام قبل القبض مع ما أن دخوله في ضمانها أمر عليها, فكيف يكون ملكا لها بخلاف المبيع فإن ملك الرقبة, وإن كان ثابتا قبل القبض, فملك التصرف لم يثبت, وإنما يثبت بالقبض, وفيه معنى التمليك, والتملك, والإسلام يمنع من ذلك هذا إذا كانا عينين, فإن كانا دينين, فليس لها إلا العين بالإجماع؛ لأن الملك في هذه العين التي تأخذها ما كان ثابتا لها بالعقد بل كان ثابتا في الدين في الذمة, وإنما يثبت الملك في هذا المعين بالقبض, والقبض تملك من وجه, والمسلم ممنوع من ذلك "وجه" قول أبي يوسف أن الإسلام لما منع القبض, والقبض حكم العقد جعل كأن المنع كان ثابتا, وقت العقد فيصار إلى مهر المثل كما لو كانا عند العقد مسلمين وجه قول محمد أن العقد وقع صحيحا, والتسمية في العقد قد صحت إلا أنه تعذر التسليم بسبب الإسلام لما في التسليم من التمليك من وجه على ما بينا, والمسلم ممنوع من ذلك, فيوجب القيمة كما لو هلك المسمى قبل القبض, وأبو حنيفة يوجب القيمة في الخمر لما قاله محمد, وهو القياس في الخنزير أيضا إلا أنه استحسن في الخنزير أيضا, وأوجب مهر المثل؛ لأن الخنزير حيوان. ومن تزوج امرأة على حيوان في الذمة يخير بين تسليمه, وبين تسليم قيمة الوسط منه بل القيمة هي الأصل في التسليم؛ لأن الوسط يعرف بها على ما ذكرنا فيما تقدم, فكان إيفاء قيمة الخنزير بعد الإسلام حكم إيفاء الخنزير من وجه, ولا سبيل إلى إيفاء العين بعد الإسلام, فلا سبيل إلى إيفاء القيمة بخلاف الخمر؛ لأن قيمتها لم تكن واجبة قبل الإسلام ألا ترى أنه لو جاء الزوج بالقيمة لا تجبر المرأة على القبول, فلم يكن لبقائها حكم بقاء الخمر من وجه لذلك افترقا هذا كله إذا لم يكن المهر مقبوضا قبل الإسلام, فإن كان مقبوضا, فلا شيء

 

ج / 2 ص -314-       للمرأة؛ لأن الإسلام متى ورد, والحرام مقبوض يلاقيه بالعفو؛ لأن الملك قد ثبت على سبيل الكمال بالعقد والقبض في حال الكفر, فلا يثبت بعد الإسلام ملك, وإنما يوجد, دوام الملك, والإسلام لا ينافيه, كمسلم تخمر عصيره أنه لا يؤمر بإبطال ملكه فيها, وكما في نزول تحريم الربا. وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل مكة أبطل من الربا ما لم يقبض, ولم يتعرض صلى الله عليه وسلم لما قبض بالفسخ, وهو أحد تأويلات قوله عز وجل {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} أمر سبحانه بترك ما بقي من الربا, والأمر بترك ما بقي من الربا هو النهي عن قبضه, والله عز وجل الموفق. ولو تزوجها على ميتة أو دم ذكر في الأصل أن لها مهر مثلها, وذكر في الجامع الصغير أنه لا شيء لها منهم, ووفق بين الروايتين, فحمل ما ذكره في الأصل على الذميين, وما ذكره في الجامع على الحربيين, ومنهم من جعل في المسألة روايتين "وجه" رواية الأصل أنه لما تزوجها على الميتة والدم, فلم يرض باستحقاق بضعها إلا ببدل, وقد تعذر استحقاق المسمى؛ لأنه ليس بمال في حق أحد, فكان لها مهر المثل كالمسلمة "وجه" رواية الجامع الصغير أنها لما رضيت بالميتة مع أنها ليست بمال كان ذلك منها دلالة الرضا باستحقاق بضعها بغير عوض أصلا كما إذا تزوجها على أن لا مهر لها, والله عز وجل أعلم.

"فصل": ثم كل عقد إذا عقده الذمي كان فاسدا, فإذا عقده الحربي؛ كان فاسدا أيضا؛ لأن المعنى المفسد لا يوجب الفصل بينهما, وهو ما ذكرنا فيما تقدم. ولو تزوج كافر بخمس نسوة أو بأختين, ثم أسلم, فإن كان تزوجهن في عقدة واحدة فرق بينه وبينهن, وإن كان تزوجهن في عقد متفرقة صح نكاح الأربع, وبطل نكاح الخامسة, وكذا في الأختين يصح نكاح الأولى, وبطل نكاح الثانية, وهذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: يختار من الخمس أربعا, ومن الأختين واحدة سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقد استحسانا, وبه أخذ الشافعي احتج, محمد بما روي "أن غيلان أسلم, وتحته عشر نسوة, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار أربعا منهن". وروي "أن قيس بن الحارث أسلم, وتحته ثمان نسوة, فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعا". وروي "أن, فيروز الديلمي أسلم, وتحته أختان, فخيره رسول الله صلى الله عليه وسلم", ولم يستفسر أن نكاحهن كان دفعة واحدة أو على الترتيب. ولو كان الحكم يختلف لاستفسر, فدل أن حكم الشرع فيه هو التخيير مطلقا, ولأبي حنيفة, وأبي يوسف أن الجمع محرم على المسلم والكافر جميعا؛ لأن حرمته ثبتت لمعنى معقول, وهو خوف الجور في إيفاء حقوقهن, والإفضاء إلى قطع الرحم على ما ذكرنا فيما تقدم, وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين المسلم, والكافر إلا أنه لا يتعرض لأهل الذمة مع قيام الحرمة؛ لأن ذلك ديانتهم, وهو غير مستثنى من عهودهم, وقد نهينا عن التعرض لهم عن مثله بعد إعطاء الذمة, وليس لنا ولاية التعرض لأهل الحرب, فإذا أسلم, فقد زال المانع, فلا يمكن من استيفاء الجمع بعد الإسلام, فإذا كان تزوج الخمس في عقدة واحدة, فقد حصل نكاح كل واحدة منهن جميعا إذ ليست إحداهن بأولى من الأخرى, والجمع محرم, وقد زال المانع من التعرض, فلا بد من الاعتراض بالتفريق, وكذلك إذا تزوج الأختين في عقدة واحدة؛ لأن نكاح واحدة منهما جعل جمعا إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى, والإسلام يمنع من ذلك, ولا مانع من التفريق فيفرق. فأما إذا كان تزوجهن على الترتيب في عقد متفرقة, فنكاح الأربع منهن, وقع صحيحا؛ لأن الحر يملك التزوج بأربع نسوة مسلما كان أو كافرا, ولم يصح نكاح الخامسة لحصوله جمعا, فيفرق بينهما بعد الإسلام, وكذلك إذا كان تزوج الأختين في عقدتين, فنكاح الأولى, وقع صحيحا إذ لا مانع من الصحة, وبطل نكاح الثانية لحصوله جمعا, فلا بد من التفريق بعد الإسلام. وأما الأحاديث, ففيها إثبات الاختيار للزوج المسلم لكن ليس فيها أن له أن يختار ذلك بالنكاح الأول أو بنكاح جديد, فاحتمل أنه أثبت له الاختيار لتجدد العقد عليهن, ويحتمل أنه أثبت له الاختيار ليمسكهن بالعقد الأول, فلا يكون حجة مع الاحتمال مع ما أنه قد روي أن ذلك قبل تحريم الجمع, فإنه روي في الخبر أن غيلان أسلم, وقد كان تزوج في الجاهلية. وروي عن مكحول أنه قال: كان ذلك قبل نزول الفرائض, وتحريم الجمع ثبت بسورة النساء الكبرى, وهي

 

ج / 2 ص -315-       مدنية. وروي "أن, فيروز لما هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: له إن تحتي أختين, فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم ارجع, فطلق إحداهما" ومعلوم أن الطلاق إنما يكون في النكاح الصحيح, فدل أن ذلك العقد وقع صحيحا في الأصل, فدل أنه كان قبل تحريم الجمع, ولا كلام فيه, وعلى هذا الخلاف إذا تزوج الحربي بأربع نسوة, ثم سبي هو, وسبين معه أن عند أبي حنيفة, وأبي يوسف يفرق بينه, وبين الكل سواء تزوجهن في عقدة واحدة أو في عقد متفرقة؛ لأن نكاح الأربع, وقع صحيحا؛ لأنه كان حرا وقت النكاح, والحر يملك التزوج بأربع نسوة مسلما كان أو كافرا إلا أنه تعذر الاستيفاء بعد الاسترقاق لحصول الجمع من العبد في حال البقاء بين أكثر من اثنتين, والعبد لا يملك الاستيفاء, فيقع جمعا بين الكل, ففرق بينه, وبين الكل, ولا يخير فيه كما إذا تزوج رضيعتين, فأرضعتهما امرأة بطل نكاحهما, ولا يخير كذا هذا. وعند محمد يخير فيه, فيختار اثنتين منهن كما يخير الحر في أربع نسوة من نسائه. ولو كان الحربي تزوج أما وبنتا, ثم أسلم, فإن كان تزوجهما في عقدة واحدة, فنكاحهما باطل, وإن كان تزوجهما متفرقا, فنكاح الأولى جائز, ونكاح الأخرى باطل في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف كما قالا في الجمع بين الخمس, والجمع بين الأختين. وقال محمد: نكاح البنت هو الجائز سواء تزوجهما في عقدة واحدة أو في عقدتين, ونكاح الأم باطل؛ لأن مجرد عقد الأم لا يحرم البنت, وهذا إذا لم يكن دخل بواحدة منهما. ولو أنه كان دخل بهما جميعا, فنكاحهما جميعا باطل بالإجماع؛ لأن مجرد الدخول يوجب التحريم سواء دخل بالأم أو بالبنت, ولو لم يدخل بالأولى, ولكن دخل بالثانية, فإن كانت الأولى بنتا, والثانية أما؛ فنكاحهما جميعا باطل بالإجماع؛ لأن نكاح البنت يحرم الأم, والدخول بالأم يحرم البنت. ولو كان دخل بإحداهما, فإن كان دخل بالأولى, ثم تزوج الثانية, فنكاح الأولى جائز, ونكاح الثانية باطل بالإجماع. ولو تزوج الأم أولا, ولم يدخل بها, ثم تزوج البنت, ودخل بها, فنكاحهما جميعا باطل في قول أبي حنيفة وأبي يوسف إلا أنه يحل له أن يتزوج بالبنت, ولا يحل له أن يتزوج بالأم, وعند محمد نكاح البنت هو الجائز, وقد دخل بها, وهي امرأته, ونكاح الأم باطل.

"فصل": وأما شرائط اللزوم, فنوعان: في الأصل نوع هو شرط وقوع النكاح لازما, ونوع هو شرط بقائه على اللزوم. "أما" الأول, فأنواع: منها أن يكون الولي في إنكاح الصغير والصغيرة هو الأب والجد, فإن كان غير الأب والجد من الأولياء كالأخ والعم لا يلزم النكاح حتى يثبت لهما الخيار بعد البلوغ, وهذا قول أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط, ويلزم نكاح غير الأب والجد من الأولياء حتى لا يثبت لهما الخيار "وجه" قول أبي يوسف إن هذا النكاح صدر من ولي, فيلزم كما إذا صدر عن الأب والجد وهذا؛ لأن ولاية الإنكاح, ولاية نظر في حق المولى عليه فيدل ثبوتها على حصول النظر, وهذا يمنع ثبوت الخيار؛ لأن الخيار لو ثبت إنما يثبت لنفي الضرر ولا ضرر, فلا يثبت الخيار, ولهذا لم يثبت في نكاح الأب, والجد كذا هذا, ولهما ما روي "أن قدامة بن مظعون زوج بنت أخيه عثمان بن مظعون من عبد الله بن عمر رضي الله عنه فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد البلوغ, فاختارت نفسها" حتى روي أن ابن عمر قال: إنها انتزعت مني بعد ما ملكتها, وهذا نص في الباب؛ ولأن أصل القرابة إن كان يدل على أصل النظر؛ لكونه دليلا على أصل الشفقة, فقصورها يدل على قصور النظر لقصور الشفقة بسبب بعد القرابة, فيجب اعتبار أصل القرابة بإثبات أصل الولاية, واعتبار القصور بإثبات الخيار تكميلا للنظر, وتوفيرا في حق الصغير بتلافي التقصير لو وقع, ولا يتوهم التقصير في إنكاح الأب, والجد لوفور شفقتهما لذلك لزم إنكاحهما, ولم يلزم إنكاح الأخ والعم على أن القياس في إنكاح الأب والجد أن لا يلزم إلا أنهم استحسنوا في ذلك لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تزوج عائشة رضي الله عنها وبلغت لم يعلمها بالخيار بعد البلوغ. ولو كان الخيار ثابتا لها, وذلك حقها لأعلمها به, وهل يلزم إذا زوجها الحاكم ذكر في الأصل ما يدل على أنه لا يلزم, فإنه قال: إذا زوجها غير الأب والجد, فلها الخيار, والحاكم غير الأب والجد هكذا قول محمد أن لها الخيار, وروى خالد بن صبيح المروزي عن أبي حنيفة أنه لا خيار لها "وجه" هذه الرواية أن ولاية الحاكم أعم من ولاية الأخ والعم؛ لأنه يملك التصرف في النفس والمال جميعا, فكانت, ولايته شبيهة بولاية

 

ج / 2 ص -316-       الأب والجد, وولايتهما ملزمة كذلك ولاية الحاكم "وجه" رواية الأصل أن, ولاية الأخ والعم أقوى من ولاية الحاكم بدليل أنهما يتقدمان عليه حتى لا يزوج الحاكم مع وجودهما, ثم ولايتهما غير ملزمة, فولاية الحاكم أولى, وإذا ثبت الخيار لكل واحد منهما, وهو اختيار النكاح أو الفرقة, فيقع الكلام بعد هذا في موضعين أحدهما: في بيان وقت ثبوت الخيار, والثاني في بيان ما يبطل به الخيار أما الأول, فالخيار يثبت بعد البلوغ لا قبله حتى لو رضيت بالنكاح قبل البلوغ لا يعتبر, ويثبت الخيار بعد البلوغ؛ لأن أهلية الرضا تثبت بعد البلوغ لا قبله, فيثبت الخيار بعد البلوغ لا قبله. وأما الثاني, فما يبطل به الخيار نوعان: نص ودلالة أما النص, فهو صريح الرضا بالنكاح نحو أن تقول رضيت بالنكاح, واخترت النكاح أو أجزته, وما يجري هذا المجرى, فيبطل خيار الفرقة, ويلزم النكاح. وأما الدلالة, فنحو السكوت من البكر عقيب البلوغ؛ لأن سكوت البكر دليل الرضا بالنكاح لما ذكرنا فيما تقدم أن البكر لغلبة حيائها تستحي عن إظهار الرضا بالنكاح. فأما سكوت الثيب, فإن كان وطئها قبل البلوغ, فبلغت وهي ثيب, فسكتت عقيب البلوغ, فلا يبطل به الخيار؛ لأنها لا تستحي عن إظهار الرضا بالنكاح عادة؛ لأن بالثيابة قل حياؤها, فلا يصح سكوتها دليلا على الرضا بالنكاح, فلا يبطل خيارها إلا بصريح الرضا بالنكاح أو بفعل أو بقول يدل على الرضا نحو التمكين من الوطء وطلب المهر, والنفقة, وغير ذلك. وكذا سكوت الغلام بعد البلوغ؛ لأن الغلام لا يستحي عن إظهار الرضا بالنكاح إذ ذاك دليل الرجولية, فلا يسقط خياره إلا بنص كلامه أو بما يدل على الرضا بالنكاح من الدخول بها, وطلب التمكن منها, وإدرار النفقة عليها, ونحو ذلك, ثم العلم بالنكاح شرط بطلان الخيار من طريق الدلالة حتى لو لم تكن عالمة بالنكاح لا يبطل الخيار؛ لأن بطلان الخيار لوجود الرضا منها دلالة, والرضا بالشيء قبل العلم به لا يتصور إذ هو استحسان الشيء. ومن لم يعلم بشيء كيف يستحسنه, فإذا كانت عالمة بالنكاح, ووجد منها دليل الرضا بالنكاح بطل خيارها, ولا يمتد هذا الخيار إلى آخر المجلس بل يبطل بالسكوت من البكر بخلاف خيار العتق, وخيار المخيرة؛ لأن التخيير هناك, وجد من العبد, وهو الزوج أو المولى أما في الزوج, فظاهر. وكذا في المولى؛ لأن الخيار يثبت بالعتق, والعتق حصل بإعتاقه, والتخيير من العبد تمليك فيقتضي جوابا في المجلس, فيمتد إلى آخر المجلس كخيار القبول في البيع بخلاف خيار البلوغ؛ لأنه ما ثبت بصنع العبد بل بإثبات الشرع, فلم يكن تمليكا, فلا يمتد إلى آخر المجلس, وإن لم تكن عالمة بالنكاح, فلها الخيار حين تعلم بالنكاح, ثم خيار البلوغ يثبت للذكر والأنثى, وخيار العتق لا يثبت إلا للمعتقة؛ لأن خيار البلوغ يثبت لقصور الولاية وذا لا يختلف بالذكورة والأنوثة, وخيار العتق ثبت لزيادة الملك عليها بالعتق, وذا يختص بها. وكذا خيار البلوغ للذكر والأنثى إذا كانت الأنثى ثيبا لا يبطل بالقيام عن المجلس, وخيار العتق, والمخيرة يبطل والفرق على نحو ما ذكرنا من خيار البكر وخيار العتق, وخيار المخيرة أن الأول يبطل بالسكوت, والثاني لا يبطل. وأما العلم بالخيار, فليس بشرط, والجهل به ليس بعذر؛ لأن دار الإسلام دار العلم بالشرائع, فيمكن الوصول إليها بالتعلم, فكان الجهل بالخيار في غير موضعه, فلا يعتبر, ولهذا لا يعذر العوام في دار الإسلام بجهلهم بالشرائع بخلاف خيار العتق, فإن العلم بالخيار هناك شرط, والجهل به عذر, وإن كان دار الإسلام دار العلم بالشرائع, والأحكام؛ لأن الوصول إليها ليس من طريق الضرورة بل بواسطة التعلم, والأمة لا تتمكن من التعلم؛ لأنها لا تتفرغ لذلك لاشتغالها بخدمة مولاها بخلاف الحرة, ثم إذا اختار أحدهما الفرقة, فهذه الفرقة لا تثبت إلا بقضاء القاضي بخلاف خيار العتق, فإن المعتقة إذا اختارت نفسها تثبت الفرقة بغير قضاء القاضي "وجه" الفرق أن أصل النكاح ههنا ثابت, وحكمه نافذ, وإنما الغائب وصف الكمال, وهو صفة اللزوم, فكان الفسخ من أحد الزوجين رفع الأصل بفوات الوصف, وفوات الوصف لا يوجب رفع الأصل لما فيه من جعل الأصل تبعا للوصف, وليس له هذه الولاية, وبه حاجة إلى ذلك, فلا بد من رفعه إلى من له الولاية العامة, وهو القاضي؛ ليرفع النكاح دفعا لحاجة الصغير الذي بلغ, ونظرا له بخلاف خيار المعتق؛ لأن الملك ازداد عليها بالعتق, ولها أن لا ترضى بالزيادة, فكان لها أن تدفع الزيادة, ولا يمكن دفعها إلا

 

ج / 2 ص -317-       باندفاع ما كان ثابتا, فيندفع الثابت ضرورة دفع الزيادة, وهذا يمكن إذ ليس بعض الملك تابعا لبعض, فلا تقع الحاجة إلى قضاء القاضي, ونظير الفصلين الرد بالعيب قبل القبض وبعده أن الأول يثبت بدون قضاء القاضي, والثاني لا يثبت عند عدم التراضي منهما إلا بقضاء القاضي, والله عز وجل أعلم. ولو زوج ابنته ابن أخيه, فلا خيار لها بالإجماع؛ لأن النكاح صدر عن الأب. وأما ابن الأخ, فله الخيار في قول أبي حنيفة, ومحمد لصدور النكاح عن العم, وعند أبي يوسف لا خيار له, والمسألة قد مرت. ولو أعتق أمته, ثم زوجها, وهي صغيرة, فلها خيار البلوغ؛ لأن ولاية الولاء دون ولاية القرابة, فلما ثبت الخيار ثمة, فلأن يثبت ههنا أولى, ولو زوجها, ثم أعتقها, وهي صغيرة, فلها إذا بلغت خيار العتق لا خيار البلوغ؛ لأن النكاح صادفها, وهي رقيقة.

"فصل": ومنها كفاءة الزوج في إنكاح المرأة الحرة البالغة العاقلة نفسها من غير رضا الأولياء بمهر مثلها, فيقع الكلام في هذا الشرط في أربعة مواضع: أحدها: في بيان أن الكفاءة في باب النكاح هل هي شرط لزوم النكاح في الجملة؟ أم لا ؟. والثاني: في بيان النكاح الذي الكفاءة من شرط لزومه, والثالث: في بيان ما تعتبر فيه الكفاءة, والرابع: في بيان من يعتبر له الكفاءة, أما الأول: فقد قال عامة العلماء: أنها شرط. وقال الكرخي: ليست بشرط أصلا, وهو قول مالك, وسفيان الثوري, والحسن البصري, واحتجوا بما روي "أن أبا طيبة خطب إلى بني بياضة, فأبوا أن يزوجوه فقال رسول الله: صلى الله عليه وسلم أنكحوا أبا طيبة إن لا تفعلوا تكن فتنة في الأرض, وفساد كبير" وروي أن "بلالا رضي الله عنه خطب إلى قوم من الأنصار, فأبوا أن يزوجوه, فقال له رسول الله: صلى الله عليه وسلم قل لهم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمركم أن تزوجوني" أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتزويج عند عدم الكفاءة. ولو كانت معتبرة لما أمر؛ لأن التزويج من غير كفء غير مأمور به. "وقال: صلى الله عليه وسلم ليس لعربي على عجمي, فضل إلا بالتقوى" وهذا نص؛ ولأن الكفاءة لو كانت معتبرة في الشرع لكان أولى الأبواب بالاعتبار بها باب الدماء؛ لأنه يحتاط فيه ما لا يحتاط في سائر الأبواب, ومع هذا لم يعتبر حتى يقتل الشريف بالوضيع, فههنا أولى, والدليل عليه أنها لم تعتبر في جانب المرأة, فكذا في جانب الزوج. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا يزوج النساء إلا الأولياء, ولا يزوجن إلا من الأكفاء, ولا مهر أقل من عشرة دراهم" ولأن مصالح النكاح تختل عند عدم الكفاءة؛ لأنها لا تحصل إلا بالاستفراش, والمرأة تستنكف عن استفراش غير الكفء, وتعير بذلك, فتختل المصالح؛ ولأن الزوجين يجري بينهما مباسطات في النكاح لا يبقى النكاح بدون تحملها عادة, والتحمل من غير الكفء أمر صعب يثقل على الطباع السليمة, فلا يدوم النكاح مع عدم الكفاءة, فلزم اعتبارها, ولا حجة لهم في الحديثين؛ لأن الأمر بالتزويج يحتمل أنه كان ندبا لهم إلى الأفضل, وهو اختيار الدين, وترك الكفاءة فيما سواه, والاقتصار عليه, وهذا لا يمنع جواز الامتناع. وعندنا الأفضل اعتبار الدين, والاقتصار عليه, ويحتمل أنه كان أمر إيجاب أمرهم بالتزويج منهما مع عدم الكفاءة تخصيصا لهم بذلك كما خص أبا طيبة بالتمكين من شرب دمه صلى الله عليه وسلم وخص خزيمة بقبول شهادته, وحده, ونحو ذلك, ولا شركة في موضع الخصوصية حملنا الحديثين على ما قلنا توفيقا بين الدلائل. وأما الحديث الثالث, فالمراد به أحكام الآخرة إذ لا يمكن حمله على أحكام الدنيا لظهور فضل العربي على العجمي في كثير من أحكام الدنيا, فيحمل على أحكام الآخرة, وبه نقول, والقياس على القصاص غير سديد؛ لأن القصاص شرع لمصلحة الحياة, واعتبار الكفاءة فيه يؤدي إلى تفويت هذه المصلحة؛ لأن كل أحد يقصد قتل عدوه الذي لا يكافئه, فتفوت المصلحة المطلوبة من القصاص, وفي اعتبار الكفاءة في باب النكاح تحقيق المصلحة المطلوبة من النكاح من الوجه الذي بينا, فبطل الاعتبار. وكذا الاعتبار بجانب المرأة لا يصح أيضا؛ لأن الرجل لا يستنكف عن استفراش المرأة الدنيئة؛ لأن الاستنكاف عن المستفرش لا عن المستفرش, والزوج مستفرش, فيستفرش الوطيء والخشن.

"فصل": وأما الثاني فالنكاح الذي الكفاءة فيه شرط لزومه هو إنكاح المرأة نفسها من غير رضا الأولياء لا يلزم

 

 

ج / 2 ص -318-       حتى لو زوجت نفسها من غير كفء من غير رضا الأولياء لا يلزم. وللأولياء حق الاعتراض؛ لأن في الكفاءة حقا للأولياء؛ لأنهم ينتفعون بذلك ألا ترى أنهم يتفاخرون بعلو نسب الختن, ويتعيرون بدناءة نسبه, فيتضررون بذلك, فكان لهم أن يدفعوا الضرر عن أنفسهم بالاعتراض كالمشتري إذا باع الشقص المشفوع, ثم جاء الشفيع كان له أن يفسخ البيع, ويأخذ المبيع بالشفعة دفعا للضرر عن نفسه كذا هذا. ولو كان التزويج برضاهم يلزم حتى لا يكون لهم حق الاعتراض؛ لأن التزويج من المرأة تصرف من الأهل في محل هو خالص حقها, وهو نفسها, وامتناع اللزوم كان لحقهم المتعلق بالكفاءة, فإذا رضوا, فقد أسقطوا حق أنفسهم, وهم من أهل الإسقاط, والمحل قابل للسقوط, فيسقط. ولو رضي به بعض الأولياء سقط حق الباقين في قول أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف لا يسقط. وجه قوله أن حقهم في الكفاءة ثبت مشتركا بين الكل, فإذا رضي به أحدهم, فقد أسقط حق نفسه, فلا يسقط حق الباقين كالدين إذا وجب لجماعة, فأبرأ بعضهم لا يسقط حق الباقين لما قلنا كذا هذا؛ ولأن رضا أحدهم لا يكون أكثر من رضاها, فإن زوجت نفسها من غير كفء بغير رضاهم لا يسقط حق الأولياء برضاها, فلأن لا يسقط برضا أحدهم أولى, ولهما أن هذا حق واحد لا يتجزأ ثبت بسبب لا يتجزأ, وهو القرابة, وإسقاط بعض ما لا يتجزأ إسقاط لكله؛ لأنه لا بعض له, فإذا أسقط واحد منهم لا يتصور بقاؤه في حق الباقين كالقصاص إذا وجب لجماعة, فعفا أحدهم عنه أنه يسقط حق الباقين كذا هذا؛ ولأن حقهم في الكفاءة ما ثبت لعينه بل لدفع الضرر, والتزويج من غير كفء وقع إضرارا بالأولياء من حيث الظاهر, وهو ضرر عدم الكفاءة, فالظاهر أنه لا يرضى به أحدهم إلا بعد علمه بمصلحة حقيقية هي أعظم من مصلحة الكفاءة وقف هو عليها, وغفل عنها الباقون لولاها لما رضي, وهي دفع ضرر الوقوع في الزنا على تقدير الفسخ. وأما قوله الحق ثبت مشتركا بينهم, فنقول على الوجه الأول ممنوع بل ثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره؛ لأن ما لا يتجزأ لا يتصور فيه الشركة كحق القصاص, والأمان بخلاف الدين, فإنه يتجزأ فتتصور فيه الشركة؟ وبخلاف ما إذا زوجت نفسها من غير كفء بغير رضا الأولياء؛ لأن هناك الحق متعدد, فحقها خلاف جنس حقهم؛ لأن حقها في نفسها, وفي نفس العقد, ولا حق لهم في نفسها, ولا في نفس العقد, وإنما حقهم في دفع الشين عن أنفسهم, وإذا اختلف جنس الحق, فسقوط أحدهما لا يوجب سقوط الآخر. وأما على الوجه الثاني, فمسلم لكن هذا الحق ما ثبت لعينه بل لدفع الضرر, وفي إبقائه لزوم أعلى الضررين, فسقط ضرورة, وكذلك الأولياء لو زوجوها من غير كفء برضاها يلزم النكاح لما قلنا. ولو زوجها أحد الأولياء من غير كفء برضاها من غير رضا الباقين يجوز عند عامة العلماء خلافا لمالك بناء على أن ولاية الإنكاح ولاية مستقلة لكل واحد منهم عندنا, وعنده ولاية مشتركة, وقد ذكرنا المسألة في شرائط الجواز, وهل يلزم قال أبو حنيفة, ومحمد: يلزم. وقال أبو يوسف, وزفر, والشافعي: لا يلزم, وجه قولهم على نحو ما ذكرنا فيما تقدم أن الكفاءة حق ثبت للكل على الشركة, وأحد الشريكين إذا أسقط حق نفسه لا يسقط حق صاحبه كالدين المشترك, وجه قولهما أن هذا حق واحد لا يتجزأ ثبت بسبب لا يتجزأ, ومثل هذا الحق إذا ثبت لجماعة يثبت لكل واحد منهم على الكمال كأن ليس معه غيره كالقصاص والأمان؛ ولأن إقدامه على النكاح مع كمال الرأي برضاها مع التزام ضرر ظاهر بالقبيلة وبنفسه, وهو ضرر عدم الكفاءة بلحوق العار والشين دليل كونه مصلحة في الباطن, وهو اشتماله على دفع ضرر أعظم من ضرر عدم الكفاءة, وهو ضرر عار الزنا أو غيره لولاه لما فعل. وأما إنكاح الأب, والجد الصغير والصغيرة, فالكفاءة فيه ليست بشرط للزومه عند أبي حنيفة كما أنها ليست بشرط الجواز عنده, فيجوز ذلك, ويلزم لصدوره ممن له كمال نظر لكمال الشفقة بخلاف إنكاح الأخ والعم من غير الكفء أنه لا يجوز بالإجماع؛ لأنه ضرر محض على ما بينا في شرائط الجواز. وأما إنكاحهما من الكفء, فجائز عندنا خلافا للشافعي لكنه غير لازم في قول أبي حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف لازم, والمسألة قد مرت.

"فصل": وأما الثالث في بيان ما تعتبر فيه الكفاءة, فما تعتبر فيه الكفاءة أشياء. منها النسب, والأصل فيه قول النبي

 

ج / 2 ص -319-       صلى الله عليه وسلم "قريش بعضهم أكفاء لبعض, والعرب بعضهم أكفاء لبعض, حي بحي, وقبيلة بقبيلة, والموالي بعضهم أكفاء لبعض, رجل برجل"؛ لأن التفاخر, والتعيير يقعان بالأنساب, فتلحق النقيصة بدناءة النسب, فتعتبر فيه الكفاءة, فقريش بعضهم أكفاء لبعض على اختلاف قبائلهم حتى يكون القرشي الذي ليس بهاشمي كالتيمي, والأموي والعدوي, ونحو ذلك كفئا للهاشمي لقوله صلى الله عليه وسلم "قريش بعضهم أكفاء لبعض" وقريش تشتمل على بني هاشم, والعرب بعضهم أكفاء لبعض بالنص, ولا تكون العرب كفئا لقريش لفضيلة قريش على سائر العرب, ولذلك اختصت الإمامة بهم قال النبي: صلى الله عليه وسلم "الأئمة من قريش" بخلاف القرشي أنه يصلح كفئا للهاشمي, وإن كان للهاشمي من الفضيلة ما ليس للقرشي لكن الشرع أسقط اعتبار تلك الفضيلة في باب النكاح عرفنا ذلك بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجماع الصحابة رضي الله عنهم, فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم زوج ابنته من عثمان رضي الله عنه وكان أمويا لا هاشميا, وزوج علي رضي الله عنه ابنته من عمر رضي الله عنه ولم يكن هاشميا بل عدويا, فدل أن الكفاءة في قريش لا تختص ببطن دون بطن, واستثنى محمد رضي الله عنه بيت الخلافة, فلم يجعل القرشي الذي ليس بهاشمي كفئا له, ولا تكون الموالي أكفاء للعرب لفضل العرب على العجم, والموالي بعضهم أكفاء لبعض بالنص, وموالي العرب أكفاء لموالي قريش لعموم قوله "والموالي بعضهم أكفاء لبعض رجل برجل" ثم مفاخرة العجم بالإسلام لا بالنسب. ومن له أب واحد في الإسلام لا يكون كفئا لمن له آباء كثيرة في الإسلام؛ لأن تمام التعريف بالجد, والزيادة على ذلك لا نهاية لها, وقيل هذا إذا كان في موضع قد طال عهد الإسلام وامتد. فأما إذا كان في موضع كان عهد الإسلام قريبا بحيث لا يعير بذلك, ولا يعد عيبا يكون بعضهم كفئا لبعضهم؛ لأن التعيير إذا لم يجبر بذلك, ولم يعد عيبا لم يلحق الشين والنقيصة, فلا يتحقق الضرر.

"فصل": ومنها الحرية؛ لأن النقص, والشين بالرق, فوق النقص, والشين بدناءة النسب, فلا يكون القن, والمدبر, والمكاتب كفئا للحرة بحال, ولا يكون مولى العتاقة كفئا لحرة الأصل, ويكون كفئا لمثله؛ لأن التفاخر يقع بالحرة الأصلية, والتعيير يجري في الحرية العارضة المستفادة بالإعتاق. وكذا من له أب واحد في الحرية لا يكون كفئا لمن له أبوان, فصاعدا في الحرية. ومن له أبوان في الحرية لا يكون كفئا لمن له آباء كثيرة في الحرية كما في إسلام الآباء؛ لأن أصل التعريف بالأب, وتمامه بالجد, وليس وراء التمام شيء. وكذا مولى الوضيع لا يكون كفئا لمولاة الشريف حتى لا يكون مولى العرب كفئا لمولاة بني هاشم حتى لو زوجت مولاة بني هاشم نفسها من مولى العرب كان لمعتقها حق الاعتراض؛ لأن الولاء بمنزلة النسب قال النبي: صلى الله عليه وسلم "الولاء لحمة كلحمة النسب".

"فصل": ومنها المال, فلا يكون الفقير كفئا للغنية؛ لأن التفاخر بالمال أكثر من التفاخر بغيره عادة, وخصوصا في زماننا هذا؛ ولأن للنكاح تعلقا بالمهر والنفقة تعلقا لازما, فإنه لا يجوز بدون المهر, والنفقة لازمة, ولا تعلق له بالنسب والحرية, فلما اعتبرت الكفاءة ثمة, فلأن تعتبر ههنا أولى, والمعتبر فيه القدرة على مهر مثلها, والنفقة, ولا تعتبر الزيادة على ذلك حتى أن الزوج إذا كان قادرا على مهر مثلها, ونفقتها يكون كفئا لها, وإن كان لا يساويها في المال هكذا روي عن أبي حنيفة وأبي يوسف, ومحمد في ظاهر الروايات وذكر في غير رواية الأصول أن تساويهما في الغنى شرط تحقق الكفاءة في قول أبي حنيفة, ومحمد خلافا لأبي يوسف؛ لأن التفاخر يقع في الغنى عادة, والصحيح هو الأول؛ لأن الغنى لا ثبات له؛ لأن المال غاد ورائح, فلا تعتبر المساواة في الغنى. ومن لا يملك مهرا, ولا نفقة لا يكون كفئا؛ لأن المهر عوض ما يملك بهذا العقد, فلا بد من القدرة عليه, وقيام الازدواج بالنفقة, فلا بد من القدرة عليها؛ ولأن من لا قدرة له على المهر, والنفقة يستحقر, ويستهان في العادة كمن له نسب دنيء, فتختل به المصالح كما تختل عند دناءة النسب, وقيل المراد من المهر قدر المعجل عرفا وعادة دون ما في الذمة؛ لأن ما في الذمة يسامح فيه بالتأخير إلى وقت اليسار, فلا يطلب به للحال عادة, والمال غاد ورائح. وروي عن أبي يوسف أنه إذا ملك النفقة يكون كفئا, وإن لم يملك المهر هكذا روى الحسن بن أبي

 

ج / 2 ص -320-       مالك عنه, فإنه روى عنه أنه قال: سألت أبا يوسف عن الكفء, فقال: الذي يملك المهر, والنفقة, فقلت, وإن كان يملك المهر دون النفقة, فقال: لا يكون كفئا, فقلت, فإن ملك النفقة دون المهر, فقال: يكون كفئا, وإنما كان كذلك؛ لأن المرء يعد قادرا على المهر بقدرة أبيه عادة, ولهذا لم يجز دفع الزكاة إلى ولد الغني إذا كان صغيرا, وإن كان فقيرا في نفسه؛ لأنه يعد غنيا بمال أبيه, ولا يعد قادرا على النفقة بغنى أبيه؛ لأن الأب يتحمل المهر الذي على ابنه, ولا يتحمل نفقة زوجته عادة. وقال: بعضهم إذا كان الرجل ذا جاه كالسلطان والعالم, فإنه يكون كفئا, وإن كان لا يملك من المال إلا قدر النفقة لما ذكرنا أن المهر تجري فيه المسامحة بالتأخير إلى وقت اليسار, والمال يغدو, ويروح, وحاجة المعيشة تندفع بالنفقة.

"فصل": ومنها الدين في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف حتى لو أن امرأة من بنات الصالحين إذا زوجت نفسها من فاسق كان للأولياء حق الاعتراض عندهما؛ لأن التفاخر بالدين أحق من التفاخر بالنسب, والحرية والمال, والتعيير بالفسق أشد وجوه التعيير. وقال محمد: لا تعتبر الكفاءة في الدين؛ لأن هذا من أمور الآخرة, والكفاءة من أحكام الدنيا, فلا يقدح فيها الفسق إلا إذا كان شيئا, فاحشا بأن كان الفاسق ممن يسخر منه, ويضحك عليه, ويصفع, فإن كان ممن يهاب منه بأن كان أميرا قتالا يكون كفئا؛ لأن هذا الفسق لا يعد شيئا في العادة, فلا يقدح في الكفاءة, وعن أبي يوسف أن الفاسق إذا كان معلنا لا يكون كفئا, وإن كان مستترا يكون كفئا.

"فصل": وأما الحرفة, فقد ذكر الكرخي أن الكفاءة في الحرف, والصناعات معتبرة عند أبي يوسف, فلا يكون الحائك كفئا للجوهري والصيرفي, وذكر أن أبا حنيفة بنى الأمر فيها على عادة العرب أن مواليهم يعملون هذه الأعمال لا يقصدون بها الحرف, فلا يعيرون بها, وأجاب أبو يوسف على عادة أهل البلاد أنهم يتخذون ذلك حرفة, فيعيرون بالدنيء من الصنائع, فلا يكون بينهم خلاف في الحقيقة. وكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي اعتبار الكفاءة في الحرفة, ولم يذكر الخلاف, فتثبت الكفاءة بين الحرفتين في جنس واحد كالبزاز مع البزاز, والحائك مع الحائك, وتثبت عند اختلاف جنس الحرف إذا كان يقارب بعضها بعضا كالبزاز مع الصائغ, والصائغ مع العطار, والحائك مع الحجام, والحجام مع الدباغ, ولا تثبت فيما لا مقاربة بينهما كالعطار مع البيطار, والبزاز مع الخراز, وذكر في بعض نسخ الجامع الصغير أن الكفاءة في الحرف معتبرة في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف غير معتبرة إلا أن تكون فاحشة كالحياكة, والحجامة والدباغة, ونحو ذلك؛ لأنها ليست بأمر لازم واجب الوجود ألا ترى أنه يقدر على تركها, وهذا يشكل بالحياكة وأخواتها, فإنه قادر على تركها, ومع هذا يقدح في الكفاءة, والله تعالى الموفق, وأهل الكفر بعضهم أكفاء لبعض؛ لأن اعتبار الكفاءة لدفع النقيصة, ولا نقيصة أعظم من الكفر.

 

ج / 2 ص -321-       على اعتبار الكفاءة في جانبهن أصلا عندهما, ولا تكون دليلا على ذلك على الإطلاق بل في تلك الصورة خاصة استحسانا للعرف. ولو أظهر رجل نسبه لامرأة, فزوجت نفسها منه, ثم ظهر نسبه على خلاف ما أظهره, فالأمر لا يخلو إما أن يكون المكتوم مثل المظهر, وإما أن يكون أعلى منه, وإما أن يكون أدون, فإن كان مثله بأن أظهر أنه تيمي, ثم ظهر أنه عدوي, فلا خيار لها؛ لأن الرضا بالشيء يكون رضا بمثله, وإن كان أعلى منه بأن أظهر أنه عربي, فظهر أنه قرشي, فلا خيار لها أيضا؛ لأن الرضا بالأدنى يكون رضا بالأعلى من طريق الأولى, وعن الحسن ابن زياد أن لها الخيار؛ لأن الأعلى لا يحتمل منها ما يحتمل الأدنى, فلا يكون الرضا منها بالمظهر رضا بالأعلى منه, وهذا غير سديد؛ لأن الظاهر أنها ترضى بالكفء, وإن كان الكفء لا يحتمل منها ما يحتمل غير الكفء؛ لأن غير الكفء ضرره أكثر من نفعه, فكان الرضا بالمظهر رضا بالأعلى منه من طريق الأولى, وإن كان أدون منه بأن أظهر أنه قرشي, ثم ظهر أنه عربي, فلها الخيار, وإن كان كفئا لها بأن كانت المرأة عربية؛ لأنها إنما رضيت بشرط الزيادة, وهي زيادة مرغوب فيها, ولم تحصل, فلا تكون راضية بدونها, فكان لها الخيار. وروي أنه لا خيار لها؛ لأن الخيار لدفع النقص, ولا نقيصة؛ لأنه كفء لها هذا إذا فعل الرجل ذلك. فأما إذا, فعلت المرأة بأن أظهرت امرأة نسبها لرجل, فتزوجها, ثم ظهر بخلاف ما أظهرت, فلا خيار للزوج سواء تبين أنها حرة أو أمة؛ لأن الكفاءة في جانب النساء غير معتبرة, ويتصل بهذا ما إذا تزوج رجل امرأة على أنها حرة, فولدت منه, ثم أقام رجل البينة على أنها أمته, فإن المولى بالخيار إن شاء أجاز النكاح, وإن شاء أبطله؛ لأن النكاح حصل بغير إذن المولى, فوقف على إجازته, ويغرم العقر؛ لأنه وطئ جارية غير مملوكة له حقيقة, فلا يخلو عن عقوبة أو غرامة, ولا سبيل إلى إيجاب العقوبة للشبهة, فتجب الغرامة, وأما الولد, فإن كان المغرور حرا؛ فالولد حر بالقيمة لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ذلك, فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى بذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد, فيكون إجماعا؛ ولأن الاستيلاد حصل بناء على ظاهر النكاح إذ لا علم للمستولد بحقيقة الحال, فكان المستولد مستحقا للنظر, والمستحق مستحقا للنظر أيضا؛ لأنه ظهر كون الجارية ملكا له, فتجب مراعاة الحقين بقدر الإمكان, فراعينا حق المستولد في صورة الأولاد, وحق المستحق في معنى الأولاد رعاية للجانبين بقدر الإمكان, وتعتبر قيمته يوم الخصومة؛ لأنه وقت سبب وجوب الضمان, وهو منع الولد عن المستحق له؛ لأنه علق عبدا في حقه, ومنع عنه يوم الخصومة. ولو مات الولد قبل الخصومة لا يغرم قيمته؛ لأن الضمان يجب بالمنع, ولم يوجد المنع من المغرور؛ ولأنه لا صنع له في موته, وإن كان الابن ترك مالا, فهو ميراث لأبيه؛ لأنه ابنه, وقد مات حرا, فيرثه, ولا يغرم للمستحق شيئا؛ لأن الميراث ليس ببدل عن الميت, وإن كان الابن قتله رجل, وأخذ الأب الدية, فإنه يغرم قيمته للمستحق؛ لأن الدية بدل عن المقتول, فتقوم مقامه كأنه حي, وإن كان رجل ضرب بطن الجارية, فألقت جنينا ميتا يغرم الضارب الغرة خمسمائة, ثم يغرم المستولد للمستحق, فإن كان الولد ذكرا, فنصف عشر قيمته, وإن كان أنثى, فعشر قيمتها, وإن كان المغرور عبدا, فالأولاد يكونون أرقاء للمستحق في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وعند محمد يكونون أحرارا, ويكونون أولاد المغرور "وجه" قول محمد أن هذا ولد المغرور حقيقة لانخلاقه من مائه, وولد المغرور حر بالقيمة بإجماع الصحابة رضي الله عنهم, ولهما أن القياس أن يكون الولد ملك المستحق؛ لأن الجارية تبين أنها ملكه, فيتبين أن الولد حدث على ملكه؛ لأن الولد يتبع الأم في الحرية, والرق إلا أنا تركنا القياس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم, وهم إنما قضوا بحرية الولد في المغرور الحر, فبقي الأمر في غيره مردودا إلى أصل القياس, ثم المغرور هل يرجع بما غرم على الغار, والغار لا يخلو إما أن يكون أجنبيا, وإما أن يكون مولى الجارية, وإما أن يكون هي الجارية, فإن كان أجنبيا فإن كان حرا, فغره بأن قال: تزوج بها, فإنها حرة أو لم يأمره بالتزويج لكنه زوجها على أنها حرة أو قال: هي حرة, وزوجها منه, فإنه يرجع على الغار بقيمة الأولاد؛ لأنه صار ضامنا له ما يلحقه من الغرامة في ذلك النكاح, فيرجع عليه بحكم الضمان, ولا يرجع عليه بالعقر؛ لأنه ضمنه بفعل نفسه, فلا يرجع على أحد. ولو قال: هي حرة, ولم يأمره بالتزويج, ولم يزوجها منه لا يرجع على المخبر بشيء؛ لأن

 

ج / 2 ص -322-       معنى الضمان, والالتزام لا يتحقق بهذا القدر, وإن كان الغار عبد الرجل, فإن كان مولاه لم يأمره بذلك يرجع عليه بعد العتاق, وإن كان أمره بذلك رجع عليه للحال إلا إذا كان مكاتبا أو مكاتبة, فإنه يرجع عليه بعد العتاق؛ لأن أمر المولى بذلك لا يصح, وإن كان المولى هو الذي غره, فلا يضمن المغرور من قيمة الأولاد شيئا؛ لأنه لو ضمن للمولى لكان له أن يرجع على المولى بما ضمن, فلا يفيد وجوب الضمان, وإن كانت الأمة هي التي غرته؛ فإن كان المولى لم يأمرها بذلك, فإن المغرور يرجع على الأمة بعد العتاق لا للحال؛ لأنه دين لم يظهر في حق المولى, وإن كان أمرها بذلك يرجع على الأمة للحال؛ لأنه ظهر, وجوبه في حق المولى هذا إذا غره أحد أما إذا لم يغره أحد, ولكنه ظن أنها حرة, فتزوجها, فإذا هي أمة, فإنه لا يرجع بالعقر على أحد لما قلنا, والأولاد أرقاء لمولى الأمة؛ لأن الجارية ملكه, والله أعلم.

"فصل": ومنها كمال مهر المثل في إنكاح الحرة العاقلة البالغة نفسها من غير كفء بغير رضا الأولياء في قول أبي حنيفة حتى لو زوجت نفسها من كفء بأقل من مهر مثلها مقدار ما لا يتغابن فيه الناس بغير رضا الأولياء, فللأولياء حق الاعتراض عنده, فإما أن يبلغ الزوج إلى مهر مثلها أو يفرق بينهما, وعند أبي يوسف, ومحمد هذا ليس بشرط, ويلزم النكاح بدونه حتى يثبت للأولياء حق الاعتراض, وهاتان المسألتان أعني هذه المسألة. والمسألة المتقدمة عليها, وهي ما إذا زوجت نفسها من غير كفء, وبغير رضا الأولياء لا شك أنهما يتفرعان على أصل أبي حنيفة وزفر, وإحدى الروايتين عن أبي يوسف, ورواية الرجوع عن محمد؛ لأن النكاح جائز. وأما على أصل محمد في ظاهر الرواية عنه, وإحدى الروايتين عن أبي يوسف, فلا يجوز هذا النكاح, فيشكل التفريع, فتصور المسألة فيما إذا أذن الولي لها بالتزويج, فزوجت نفسها من غير كفء أو من كفء بأقل من مهر مثلها, وذكر في الأصل صورة أخرى, وهي ما إذا أكره الولي, والمرأة على النكاح من غير كفء أو من كفء بأقل من مهر مثلها, ثم زال الإكراه, ففي المسألة الأولى لكل واحد منهما أعني الولي والمرأة حق الاعتراض, وإن رضي أحدهما لا يبطل حق الآخر, وفي المسألة الثانية لها حق الاعتراض, فإن رضيت بالنكاح, والمهر, فللولي أن يفسخ في قول أبي حنيفة, وفي قول محمد, وأبي يوسف الأخير ليس له أن يفسخ, وتصور المسألة على أصل الشافعي فيما إذا أمر الولي رجلا بالتزويج, فزوجها من غير كفء برضاها أو من كفء بمهر قاصر برضاها "وجه" قول أبي يوسف, ومحمد أن المهر حقها على الخلوص كالثمن في البيع, والأجرة في الإجارة, فكانت هي بالنقص متصرفة في خالص حقها, فيصح, ويلزم كما إذا أبرأت زوجها عن المهر؛ ولهذا جاز الإبراء عن الثمن في باب البيع, والبيع بثمن بخس كذا هذا, ولأبي حنيفة أن للأولياء حقا في المهر؛ لأنهم يفتخرون بغلاء المهر, ويتعيرون ببخسه, فيلحقهم الضرر بالبخس, وهو ضرر التعيير, فكان لهم دفع الضرر عن أنفسهم بالاعتراض, ولهذا يثبت لهم حق الاعتراض بسبب عدم الكفاءة كذا هذا؛ ولأنها بالبخس عن مهر مثلها أضرت بنساء قبيلتها؛ لأن مهور مثلها عند تقادم العهد تعتبر بها, فكانت بالنقص ملحقة الضرر بالقبيلة, فكان لهم دفع هذا الضرر عن أنفسهم بالفسخ, والله أعلم.

"فصل": ومنها خلو الزوج عن عيب الجب, والعنة عند عدم الرضا من الزوجة بهما عند عامة العلماء. وقال بعضهم: عيب العنة لا يمنع لزوم النكاح, واحتجوا بما روي "أن امرأة رفاعة أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقالت: يا رسول الله إني كنت تحت رفاعة, فطلقني آخر التطليقات الثلاث, وتزوجت عبد الرحمن بن الزبير, فوالله ما, وجدت معه إلا مثل الهدبة, فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقال: لعلك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته, ويذوق عسيلتك" فوجه الاستدلال أن تلك المرأة ادعت العنة على زوجها, ورسول الله صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الخيار, ولو لم يقع النكاح لازما لا ثبت؛ ولأن هذا العيب لا يوجب, فوات المستحق بالعقد بيقين, فلا يوجب الخيار كسائر أنواع العيوب بخلاف الجب, فإنه يفوت المستحق بالعقد بيقين. "ولنا" إجماع الصحابة رضي الله عنهم, فإنه روي عن عمر رضي الله عنه أنه قضى في العنين أنه يؤجل سنة, فإن قدر عليها, وإلا أخذت منه الصداق كاملا, وفرق بينهما, وعليها العدة. وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه مثله, وروي عن علي رضي الله عنه أنه قال: يؤجل سنة, فإن وصل إليها, وإلا فرق

 

ج / 2 ص -323-       بينهما, وكان قضاؤهم بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد منهم, فيكون إجماعا؛ ولأن الوطء مرة واحدة مستحق على الزوج للمرأة بالعقد, وفي إلزام العقد عند تقرر العجز عن الوصول تفويت المستحق بالعقد عليها, وهذا ضرر بها, وظلم في حقها, وقد قال الله تعالى {وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا ضرر, ولا ضرار في الإسلام" فيؤدي إلى التناقض, وذلك محال؛ لأن الله تعالى أوجب على الزوج الإمساك بالمعروف أو التسريج بإحسان, بقوله تعالى عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} ومعلوم أن استيفاء النكاح عليها مع كونها محرومة الحظ من الزوج ليس من الإمساك بالمعروف في شيء, فتعين عليه التسريح بالإحسان, فإن سرح بنفسه, وإلا ناب القاضي منابه في التسريح؛ ولأن المهر عوض في عقد النكاح, والعجز عن الوصول يوجب عيبا في العوض؛ لأنه يمنع من تأكده بيقين لجواز أن يختصما إلى قاض لا يرى تأكد المهر بالخلوة, فيطلقها, ويعطيها نصف المهر, فيتمكن في المهر عيب, وهو عدم التأكد بيقين, والعيب في العوض يوجب الخيار كما في البيع, ولا حجة لهم في الحديث؛ لأن تلك المقالة منها لم تكن دعوى العنة بل كانت كناية عن معنى آخر, وهو دقة القضيب, والاعتبار بسائر العيوب لا يصح؛ لأنها لا توجب فوات المستحق بالعقد لما نذكر في تلك المسألة إن شاء الله تعالى, وهذا يوجب ظاهرا وغالبا؛ لأن العجز يتقرر بعدم الوصول في مدة السنة ظاهرا, فيفوت المستحق بالعقد ظاهرا, فبطل الاعتبار, وإذا عرف هذا, فإذا رفعت المرأة زوجها, وادعت أنه عنين, وطلبت الفرقة, فإن القاضي يسأله هل وصل إليها أو لم يصل؟ فإن أقر أنه لم يصل أجله سنة سواء كانت المرأة بكرا أو ثيبا, وإن أنكر, وادعى الوصول إليها, فإن كانت المرأة ثيبا, فالقول قوله مع يمينه أنه وصل إليها؛ لأن الثيابة دليل الوصول في الجملة, والمانع من الوصول من جهته عارض إذ الأصل هو السلامة عن العيب, فكان الظاهر شاهدا له إلا أنه يستحلف دفعا للتهمة, وإن قالت أنا بكر نظر إليها النساء وامرأة واحدة تجزي؛ لأن البكارة باب لا يطلع عليه الرجال, وشهادة النساء بانفرادهن في هذا الباب مقبولة للضرورة, وتقبل فيه شهادة الواحدة كشهادة القابلة على الولادة؛ ولأن الأصل حرمة النظر إلى العورة, وهو العزيمة لقوله تعالى {وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ}, وحق الرخصة يصير مقضيا بالواحدة؛ ولأن الأصل أن ما قبل قول النساء فيه بانفرادهن لا يشترط فيه العدد كرواية الإخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والثنتان أوثق؛ لأن غلبة الظن بخبر العدد أقوى, فإن قلن هي ثيب, فالقول قول الزوج مع يمينه لما قلنا, وإن قلن هي بكر, فالقول قولها. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن القول قولها من غير يمين؛ لأن البكارة فيها أصل, وقد تفوت شهادتهن بشهادة الأصل, وإذا ثبت أنه لم يصل إليها إما بإقراره أو بظهور البكارة أجله القاضي حولا؛ لأنه ثبت عنته, والعنين يؤجل سنة لإجماع الصحابة على ذلك؛ ولأن عدم الوصول قبل التأجيل يحتمل أن يكون للعجز عن الوصول, ويحتمل أن يكون لبغضه إياها مع القدرة على الوصول, فيؤجل حتى لو كان عدم الوصول للبغض يطؤها في المدة ظاهرا, وغالبا دفعا للعار, والشين عن نفسه, وإن لم يطأها حتى مضت المدة يعلم أن عدم الوصول كان للعجز. وأما التأجيل سنة؛ فلأن العجز عن الوصول يحتمل أن يكون خلقة ويحتمل أن يكون من داء أو طبيعة غالبة من الحرارة أو البرودة أو الرطوبة أو اليبوسة, والسنة مشتملة على الفصول الأربعة, والفصول الأربعة مشتملة على الطبائع الأربع, فيؤجل سنة لما عسى أن يوافقه بعض فصول السنة, فيزول المانع, ويقدر على الوصول. وروي عن عبد الله بن نوفل أنه قال: يؤجل عشرة أشهر, وهذا القول مخالف لإجماع الصحابة رضي الله عنهم, فإنهم أجلوا العنين سنة, وقد اختلف الناس في عبد الله بن نوفل أنه صحابي أو تابعي, فلا يقدح خلافه في الإجماع مع الاحتمال؛ ولأن التأجيل سنة لرجاء الوصول في الفصول الأربعة, ولا تكمل الفصول إلا في سنة تامة, ثم يؤجل سنة شمسية بالأيام أو قمرية بالأهلة ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن في ظاهر الرواية يؤجل سنة قمرية بالأهلة قال: وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه يؤجل سنة شمسية, وحكى الكرخي عن أصحابنا أنهم قالوا يؤجل سنة شمسية, ولم يذكر الخلاف "وجه" هذا القول, وهو رواية الحسن عن أبي حنيفة أن الفصول الأربعة لا تكمل إلا بالسنة الشمسية؛ لأنها تزيد على القمرية

 

ج / 2 ص -324-       بأيام, فيحتمل زوال العارض في المدة التي بين الشمسية, والقمرية, فكان التأجيل بالسنة الشمسية أولى, ولظاهر الرواية الكتاب والسنة أما الكتاب, فقوله تعالى {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جعل الله عز وجل بفضله, ورحمته الهلال معرفا للخلق الأجل والأوقات والمدد ومعرفا وقت الحج؛ لأنه لو جعل معرفة ذلك بالأيام لاشتد حساب ذلك عليهم, ولتعذر عليهم معرفة السنين والشهور والأيام. وأما السنة, فما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في الموسم. وقال: صلى الله عليه وسلم في خطبته "ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرا أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى, وشعبان ثلاثة سرد, وواحد فرد" والشهر في اللغة اسم للهلال يقال رأيت الشهر أي: رأيت الهلال, وقيل: سمي الشهر شهرا لشهرته, والشهرة للهلال, فكان تأجيل الصحابة رضي الله عنهم العنين سنة, والسنة اثنا عشر شهرا, والشهر اسم للهلال تأجيلا للهلالية, وهي السنة القمرية ضرورة, وأول السنة حين يترافعان, ولا يحسب على الزوج ما قبل ذلك لما روي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى شريح أن يؤجل العنين سنة من يوم يرتفع إليه لما ذكرنا أن عدم الوصول قبل التأجيل يحتمل أن يكون للعجز, ويحتمل أن يكون لكراهته إياها مع القدرة على الوصول, فإذا أجله الحاكم, فالظاهر أنه لا يمتنع عن وطئها إلا لعجزه خشية العار والشين فإذا أجل سنة, فشهر رمضان وأيام الحيض تحسب عليه, ولا يجعل له مكانها؛ لأن الصحابة رضي الله عنهم أجلوا العنين سنة واحدة مع علمهم بأن السنة لا تخلو عن شهر رمضان, ومن زمان الحيض فلو لم يكن ذلك محسوبا من المدة؛ لأجلوا زيادة على السنة. ولو مرض الزوج في المدة مرضا لا يستطيع معه الجماع أو مرضت هي, فإن استوعب المرض السنة كلها يستأنف له سنة أخرى, وإن لم يستوعب, فقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف أن المرض إن كان نصف شهر أو أقل احتسب عليه, وإن كان أكثر من نصف شهر لم يحتسب عليه بهذه الأيام, وجعل له مكانها, وكذلك الغيبة, وروى ابن سماعة عنه رواية أخرى أنه إذا صح في السنة يوما أو يومين أو صحت هي احتسب عليه بالسنة, وروى ابن سماعة عن محمد أن المرض إذا كان أقل من شهر يحتسب عليه, وإن كان شهرا فصاعدا لا يحتسب عليه بأيام المرض, ويجعل له مكانها, والأصل في هذا أن قليل المرض مما لا يمكن اعتباره؛ لأن الإنسان لا يخلو عن ذلك عادة, ويمكن اعتبار الكثير, فجعل أبو يوسف على إحدى الروايتين, وهي الرواية الصحيحة عنه نصف الشهر, وما دونه قليلا, والأكثر من النصف كثيرا استدلالا بشهر رمضان, فإنه محسوب عليه, ومعلوم أنه إنما يقدر على الوطء في الليالي دون النهار, والليالي دون النهار تكون نصف شهر وكان ذلك دليلا على أن المانع إذا كان نصف شهر, فما دونه يعتد به, وهذا الاستدلال يوجب الاعتداد بالنصف, فما دونه إما لا ينفي الاعتداد بما فوقه, وإما على الرواية الأخرى, فنقول أنه لما صح زمانا يمكن الوطء فيه, فإذا لم يطأها, فالتقصير جاء من قبله, فيجعل كأنه صح جميع السنة بخلاف ما إذا مرض جميع السنة؛ لأنه لم يجد زمانا يتمكن من الوطء فيه, فتعذر الاعتداد بالسنة في حقه, ومحمد جعل ما دون الشهر قليلا, والشهر فصاعدا كثيرا؛ لأن الشهر أدنى الآجل, وأقصى العاجل, فكان في حكم الكثير, وما دونه في حكم القليل. وقال أبو يوسف: إن حجت المرأة حجة الإسلام بعد التأجيل لم يحتسب على الزوج مدة الحج؛ لأنه لا يقدر على منعها من حجة الإسلام شرعا, فلم يتمكن من الوطء فيها شرعا, وإن حج الزوج احتسبت المدة عليه؛ لأنه يقدر على أن يخرجها مع نفسه أو يؤخر الحج؛ لأن جميع العمر وقته. وقال محمد: إن خاصمته, وهو محرم يؤجل سنة بعد الإحلال؛ لأنه لا يتمكن من الوطء شرعا مع الإحرام, فتبتدأ المدة من وقت يمكنه الوطء فيه شرعا, وهو ما بعد الإحلال, وإن خاصمته, وهو مظاهر, فإن كان يقدر على الإعتاق أجل سنة من حين الخصومة إلا أنه إذا كان قادرا على الإعتاق كان قادرا على الوطء بتقديم الإعتاق كالمحدث قادر على الصلاة بتقديم الطهارة, وإن كان لا يقدر على ذلك أجل أربعة عشر شهرا؛ لأنه يحتاج إلى تقديم صوم شهرين, ولا يمكنه الوطء فيهما, فلا يعتد بهما من الأجل, ثم يمكنه الوطء بعدهما, فإن أجل سنة, وليس بمظاهر, ثم ظاهر في السنة لم يزد على المدة بشيء؛ لأنه كان يقدر على ترك الظهار, فلما ظاهر, فقد منع نفسه عن

 

ج / 2 ص -325-       الوطء باختياره, فلا يجوز إسقاط حق المرأة, وإن كانت امرأة العنين رتقاء أو قرناء؛ لا يؤجل؛ لأنه لا حق للمرأة في الوطء لوجود المانع من الوطء, فلا معنى للتأجيل, وإن كان الزوج صغيرا لا يجامع مثله, والمرأة كبيرة, ولم تعلم المرأة, فطالبت بالتأجيل لا يؤجل بل ينتظر إلى أن يدرك, فإذا أدرك يؤجل سنة؛ لأنه إذا كان لا يجامع لا يفيد التأجيل, ولأن حكم التأجيل إذا لم يصل إليها في المدة هو ثبوت خيار الفرقة, وفرقة العنين طلاق, والصبي لا يملك الطلاق؛ ولأن للصبي زمانا يوجد منه الوطء فيه ظاهرا وغالبا, وهو ما بعد البلوغ, فلا يؤجل للحال, وإن كان الزوج كبيرا مجنونا, فوجدته عنينا قالوا: إنه لا يؤجل كذا ذكر الكرخي؛ لأن التأجيل للتفريق عند عدم الدخول, وفرقة العنين طلاق, والمجنون لا يملك الطلاق. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه ينتظر حولا, ولا ينتظر إلى إفاقته بخلاف الصبي؛ لأن الصغر مانع من الوصول, فيستأنى إلى أن يزول الصغر, ثم يؤجل سنة. فأما الجنون, فلا يمنع الوصول؛ لأن المجنون يجامع, فيؤجل للحال, والصحيح ما ذكره الكرخي أنه لا يؤجل أصلا لما ذكرنا, وإذا مضى أجل العنين, فسأل القاضي أن يؤجله سنة أخرى لم يفعل إلا برضا المرأة؛ لأنه قد ثبت لها حق التفريق, وفي التأجيل تأخير حقها, فلا يجوز من غير رضاها, ثم إذا أجل العنين سنة, وتمت المدة, فإن اتفقا على أنه قد, وصل إليها, فهي زوجته, ولا خيار لها, وإن اختلفا, وادعت المرأة أنه لم يصل إليها, وادعى الزوج الوصول, فإن كانت المرأة ثيبا, فالقول قوله مع يمينه لما قلنا, وإن كانت بكرا نظر إليها النساء, فإن قلن هي بكر, فالقول قولها, وإن قلن هي ثيب؛ فالقول قوله لما ذكرنا وإن وقع للنساء شك في أمرها, فإنها تمتحن, واختلف المشايخ في طريق الامتحان قال بعضهم: تؤمر بأن تبول على الجدار, فإن أمكنها بأن ترمي ببولها على الجدار, فهي بكر, وإلا فهي ثيب. وقال بعضهم: تمتحن ببيضة الديك, فإن وسعت فيها, فهي ثيب, وإن لم تسع فيها, فهي بكر, وإذا ثبت أنه لم يطأها إما باعترافه, وإما بظهور البكارة, فإن القاضي يخيرها, فإن الصحابة رضي الله عنهم خيروا امرأة العنين, ولنا فيهم قدوة, فإن شاءت اختارت الفرقة, وإن شاءت اختارت الزوج إذا استجمعت شرائط ثبوت الخيار, فيقع الكلام في الخيار في مواضع في بيان شرائط ثبوت الخيار, وفي بيان حكم الخيار, وفي بيان ما يبطله.

"فصل": أما شرائط الخيار, فمنها عدم الوصول إلى هذه المرأة أصلا ورأسا في هذا النكاح حتى لو وصل إليها مرة واحدة, فلا خيار لها؛ لأنه وصل إليها حقها بالوطء مرة واحدة, والخيار لتفويت الحق المستحق, ولم يوجد, فإن وصل إلى غير امرأته التي أجل لها, وكان وصل إلى غيرها قبل أن ترافعه, فوصوله إلى غيرها لا يبطل حقها في التأجيل والخيار؛ لأنه لم يصل إليها حقها, فكان لها التأجيل, والخيار ومنها أن لا تكون عالمة بالعيب وقت النكاح حتى لو تزوجت, وهي تعلم أنه عنين, فلا خيار لها؛ لأنها إذا كانت عالمة بالعيب لدى التزويج, فقد رضيت بالعيب كالمشتري إذا كان عالما بالعيب عند البيع, والرضا بالعيب يمنع الرد كما في البيع وغيره, فإن تزوجت, وهي لا تعلم, فوصل إليها مرة, ثم عن, ففارقته, ثم تزوجته بعد ذلك, فلم يصل إليها, فلها الخيار؛ لأن العجز لم يتحقق, فلم تكن راضية بالعيب, والوصول في أحد العقدين لا يبطل حقها في العقد الثاني, فإن أجله القاضي, فلم يصل ففرق بينهما, ثم تزوجها, فلا خيار لها؛ لأن العيب قد تقرر بعدم الوصول في المدة, فتقرر العجز, فكان التزوج بعد استقرار العيب, والعلم به دليل الرضا بالعيب.

 

ج / 2 ص -326-       "فصل": وأما حكم الخيار, فهو تخيير المرأة بين الفرقة, وبين النكاح, فإن شاءت اختارت الفرقة, وإن شاءت اختارت الزوج, فإن اختارت المقام مع الزوج؛ بطل حقها. ولم يكن لها خصومة في هذا النكاح أبدا لما ذكرنا أنها رضيت بالعيب, فسقط خيارها, وإن اختارت الفرقة, فرق القاضي بينهما كذا ذكره الكرخي, ولم يذكر الخلاف, وظاهر هذا الكلام يقتضي أنه لا تقع الفرقة بنفس الاختيار. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه تقع الفرقة بنفس الاختيار في ظاهر الرواية, ولا يحتاج إلى القضاء كخيار المعتقة, وخيار المخيرة, وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه لا تقع الفرقة ما لم يقل القاضي: فرقت بينكما, وجعله بمنزلة خيار البلوغ هكذا ذكر, وذكر في بعض المواضع أن في قول أبي حنيفة ما روى الحسن عنه وما ذكره الحسن عنه, وما ذكر في ظاهر الرواية قولهما "وجه" رواية الحسن أن هذه الفرقة فرقة

بطلان بلا خلاف بين أصحابنا, وإنما المخالف فيه الشافعي, فإنها فسخ عنده, والمسألة إن شاء الله تعالى تأتي في موضعها من هذا الكتاب. والمرأة لا تملك الطلاق, وإنما يملكه الزوج إلا أن القاضي يقوم مقام الزوج؛ ولأن هذه الفرقة يختص بسببها القاضي, وهو التأجيل؛ لأن التأجيل لا يكون إلا من القاضي, فكذا الفرقة المتعلقة به كفرقة اللعان. "وجه" المذكور في ظاهر الرواية أن تخيير المرأة من القاضي تفويض الطلاق إليها, فكان اختيارها الفرقة تفريقا من القاضي من حيث المعنى لا منها, والقاضي يملك ذلك لقيامه مقام الزوج, وهذه الفرقة تطليقة بائنة؛ لأن الغرض من هذا التفريق تخليصها من زوج لا يتوقع منه إيفاء حقها دفعا للظلم والضرر عنها, وذا لا يحصل إلا بالبائن؛ لأنه لو كان رجعيا يراجعها الزوج من غير رضاها, فيحتاج إلى التفريق ثانيا وثالثا, فلا يفيد التفريق فائدته, ولها المهر كاملا, وعليها العدة بالإجماع إن كان الزوج قد خلا بها, وإن كان لم يخل بها, فلا عدة عليها, ولها نصف المهر إن كان مسمى, والمتعة إن لم يكن مسمى, وإذا. فرق القاضي بالعنة, ووجبت العدة, فجاءت بولد ما بينها وبين سنتين لزمه الولد؛ لأن المعتدة إذا جاءت بولد من وقت الطلاق إلى سنتين ثبت النسب؛ لأن الحكم بوجوب العدة حكم بشغل الرحم, وشغل الرحم يمتد إلى سنتين عندنا, فيثبت النسب إلى سنتين, فإن قال الزوج: كنت قد وصلت إليها, فإن أبا يوسف قال: يبطل الحاكم الفرقة, وكفى بالولد شاهدا, ومعنى هذا الكلام أنه لما ثبت النسب, فقد ثبت الدخول, وأنه يوجب إبطال الفرقة؛ ولأنه لو شهد شاهدان بالدخول بعد تفريق القاضي لا يبطل الفرقة. وكذا هذا وكذا إذا ثبت النسب؛ لأن شهادة النسب على الدخول أقوى من شهادة شاهدين عليه, وكذلك لو فرق القاضي بينها, وبين المجبوب, فجاءت بولد بينها وبين سنتين ثبت نسبه؛ لأن خلوة المجبوب توجب العدة, والنسب يثبت من المجبوب إلا أنه لا تبطل الفرقة ههنا؛ لأن ثبوت النسب من المجبوب لا يدل على الدخول؛ لأنه لا يتصور منه حقيقة, وإنما يقذف بالماء, فكان العلوق بقذف الماء, فإذا لم يثبت الدخول لم تثبت الفرقة, فإن فرق بالعنة, فإن أقام الزوج البينة على إقرار المرأة قبل الفرقة أنه قد وصل إليها أبطل الفرقة؛ لأن الشهادة على إقرارها بمنزلة إقرارها عند القاضي. ولو كانت أقرت قبل التفريق لم يثبت حكم الفرقة. وكذا إذا شهد على إقرارها بأن أقرت بعد الفرقة أنه كان وصل إليها قبل الفرقة لم تبطل الفرقة؛ لأن إقرارها تضمن إبطال قضاء القاضي, فلا تصدق على القاضي في إبطال قضائه, فلا تقبل وإن كان زوج الأمة عنينا, فالخيار في ذلك إلى المولى عند أبي حنيفة, وأبي يوسف وقال محمد الخيار إلى الأمة "وجه" قوله أن الخيار إنما يثبت لفوات الوطء, وذلك حق الأمة, فكان الخيار إليها كالحرة, ولها أن المقصود من الوطء هو الولد, والولد ملك المولى وحده؛ ولأن اختيار الفرقة أو المقام مع الزوج تصرف منها على نفسها, ونفسها بجميع أجزائها ملك المولى, فكان ولاية التصرف له.

"فصل": وأما بيان ما يبطل به الخيار, فما يبطل به الخيار نوعان: نص, ودلالة, فالنص هو التصريح بإسقاط الخيار, وما يجري مجراه نحو أن تقول أسقطت الخيار أو رضيت بالنكاح أو اخترت الزوج ونحو ذلك سواء كان ذلك بعد تخيير القاضي أو قبله, والدلالة هي أن تفعل ما يدل على الرضا بالمقام مع الزوج بأن خيرها القاضي. فأقامت مع الزوج مطاوعة له في المضجع, وغير ذلك؛ لأن ذلك دليل الرضا بالنكاح, والمقام مع الزوج, ولو فعلت ذلك بعد مضي الأجل قبل تخيير القاضي لم يكن ذلك رضا؛ لأن إقامتها معه بعد المدة قد تكون لاختياره, وقد تكون للاختيار بحاله, فلا تكون دليل الرضا مع الاحتمال. وهل يبطل خيارها بالقيام عن المجلس؟ ذكر الكرخي أن ابن سماعة, وبشرا قالا عن أبي يوسف إذا خيرها الحاكم, فأقامت معه أو قامت من مجلسها قبل أن تختار أو قام الحاكم أو أقامها عن مجلسها بعض أعوان القاضي, ولم تقل شيئا, فلا خيار لها, وهذا يدل على أن خيارها يتقيد بالمجلس, وهو مجلس التخيير, ولم يذكر الخلاف. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه لا يقتصر على المجلس في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف, ومحمد أنهما قالا: يقتصر على المجلس كخيار المخيرة "وجه" ما روي عن أبي يوسف ومحمد أن تخيير القاضي ههنا قائم مقام تخيير الزوج, ثم خيار المخيرة بتخيير الزوج يبطل بقيامها عن المجلس, فكذا خيار هذه. وكذا إذا قام الحاكم عن المجلس قبل أن تختار؛ لأن مجلس التخيير قد بطل بقيام

 

ج / 2 ص -327-       الحاكم. وكذا إذا أقامها عن مجلسها بعض أعوان القاضي قبل الاختيار؛ لأنها كانت قادرة على الاختيار قبل الإقامة, فدل امتناعها مع القدرة على الرضا بالنكاح. وجه ظاهر الرواية, وهو الفرق بين هذا الخيار وبين خيار المخيرة أن خيار المخيرة إنما اقتصر على المجلس؛ لأن الزوج بالتخيير ملكها الطلاق إذ المالك للشيء هو الذي يتصرف فيه باختياره ومشيئته, فكان التخيير من الزوج تمليكا للطلاق, وجواب التمليك يقتصر على المجلس؛ لأن المملك يطلب جواب التمليك في المجلس عادة, ولهذا يقتصر القبول على المجلس في البيع كذا ههنا, والتخيير من القاضي تفويض الطلاق, وليس بتمليك؛ لأنه لا يملك الطلاق بنفسه؛ لأن الزوج ما ملكه الطلاق, وإنما فوض إليه التطليق, وولاه ذلك, فيلي التفويض لا التمليك, وإذا لم يملك بنفسه, فكيف يملكه من غيره, فهو الفرق بين التخييرين, والله أعلم, والمؤخذ والخصي في جميع ما, وصفنا مثل العنين لوجود الآلة في حقهما, فكانا كالعنين, وكذلك الخنثى. وأما المجبوب, فإنه إذا عرف أنه مجبوب إما بإقراره أو بالمس, فوق الإزار, فإن كانت المرأة عالمة بذلك وقت النكاح, فلا خيار لها لرضاها بذلك, وإن لم تكن عالمة به؛ فإنها تخير للحال, ولا يؤجل حولا؛ لأن التأجيل لرجاء الوصول, ولا يرجى منه الوصول, فلم يكن التأجيل مفيدا, فلا يؤجل, وإن اختارت الفرقة, وفرق القاضي بينهما أو لم يفرق على الاختلاف الذي ذكرنا, فلها كمال المهر, وعليها كمال العدة إن كان قد خلا بها في قول أبي حنيفة, وعندهما لها نصف المهر, وعليها كمال العدة, وإن كان لم يخل بها, فلها نصف المهر, ولا عدة عليها بالإجماع, وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم.

"فصل": وأما خلو الزوج عما سوى هذه العيوب الخمسة من الجب, والعنة والتأخذ والخصاء والخنوثة, فهل هو شرط لزوم النكاح؟ قال أبو حنيفة, وأبو يوسف ليس بشرط, ولا يفسخ النكاح به. وقال محمد: خلوه من كل عيب لا يمكنها المقام معه إلا بضرر كالجنون والجذام والبرص, شرط لزوم النكاح حتى يفسخ به النكاح, وخلوه عما سوى ذلك ليس بشرط, وهو مذهب الشافعي. "وجه" قول محمد أن الخيار في العيوب الخمسة إنما ثبت لدفع الضرر عن المرأة وهذه العيوب في إلحاق الضرر بها فوق تلك؛ لأنها من الأدواء المتعدية عادة, فلما ثبت الخيار بتلك, فلأن يثبت بهذه أولى بخلاف ما إذا كانت هذه العيوب في جانب المرأة؛ لأن الزوج, وإن كان يتضرر بها لكن يمكنه دفع الضرر عن نفسه بالطلاق, فإن الطلاق بيده, والمرأة لا يمكنها ذلك؛ لأنها لا تملك الطلاق, فتعين الفسخ طريقا لدفع الضرر, ولهما أن الخيار في تلك العيوب ثبت لدفع ضرر فوات حقها المستحق بالعقد, وهو الوطء مرة واحدة, وهذا الحق لم يفت بهذه العيوب؛ لأن الوطء يتحقق من الزوج مع هذه العيوب, فلا يثبت الخيار هذا في جانب الزوج. "وأما" في جانب المرأة, فخلوها عن العيب ليس بشرط للزوم النكاح بلا خلاف بين أصحابنا حتى لا يفسخ النكاح بشيء من العيوب الموجودة فيها. وقال الشافعي: خلو المرأة عن خمسة عيوب بها شرط اللزوم, ويفسخ النكاح بها, وهي الجنون والجذام والبرص والرتق والقرن, واحتج بما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "فر من المجذوم فرارك من الأسد" والفسخ طريق الفرار. ولو لزم النكاح لما أمر بالفرار, وروي "أنه صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة, فوجد بياضا في كشحها فردها وقال: لها الحقي بأهلك". ولو وقع النكاح لازما لما رد؛ ولأن مصالح النكاح لا تقوم مع هذه العيوب أو تختل بها؛ لأن بعضها مما ينفر عنها الطباع السليمة وهو الجذام والجنون والبرص فلا تحصل الموافقة فلا تقوم المصالح أو تختل وبعضها مما يمنع من الوطء وهو الرتق والقرن, وعامة مصالح النكاح يقف حصولها على الوطء, فإن العفة عن الزنا والسكن والولد لا يحصل إلا بالوطء ولهذا يثبت الخيار في العيوب الأربعة كذا ههنا. "ولنا" أن النكاح لا يفسخ بسائر العيوب, فلا يفسخ بهذه العيوب أيضا؛ لأن المعنى يجمعها, وهو أن العيب لا يفوت ما هو حكم هذا العقد من جانب المرأة, وهو الازدواج الحكمي, وملك الاستمتاع, وإنما يختل, ويفوت به بعض ثمرات العقد, وفوات جميع ثمرات هذا العقد لا يوجب حق الفسخ بأن مات أحد الزوجين عقيب العقد حتى يجب عليه كمال المهر, ففوات بعضها أولى وهذا؛ لأن الحكم الأصلي للنكاح هو الازدواج الحكمي, وملك الاستمتاع شرع مؤكدا له, والمهر يقابل

 

ج / 2 ص -328-       إحداث هذا الملك, وبالفسخ لا يظهر أن إحداث الملك لم يكن, فلا يرتفع ما يقابل, وهو المهر, فلا يجوز الفسخ, ولا شك أن هذه العيوب لا تمنع من الاستمتاع أما الجنون, والجذام, والبرص, فلا يشكل, وكذلك الرتق والقرن؛ لأن اللحم يقطع والقرن يكسر, فيمكن الاستمتاع بواسطة لهذا المعنى لم يفسخ بسائر العيوب كذا هذا. وأما الحديث الأول, فنقول بموجبه أنه يجب الاجتناب عنه, والفرار يمكن بالطلاق لا بالفسخ, وليس فيه تعيين طريق الاجتناب والفرار, وأما الثاني, فالصحيح من الرواية أنه قال: لها الحقي بأهلك, وهذا من كنايات الطلاق عندنا, والكلام في الفسخ والرد المذكور فيه قول الراوي, فلا يكون حجة أو تحمله على الرد بالطلاق عملا بالدلائل صيانة لها عن التناقض, والله تعالى الموفق. وخلو النكاح من خيار الرؤية ليس بشرط للزوم النكاح حتى لو تزوج امرأة, ولم يرها لا خيار له إذا رآها بخلاف البيع. وكذا خلوه عن خيار الشرط سواء جعل الخيار للزوج أو للمرأة أو لهما ثلاثة أيام أو أقل أو أكثر حتى لو تزوج بشرط الخيار بطل الشرط, وجاز النكاح.

"فصل": وأما الثاني, فشرط بقاء النكاح لازما نوعان: نوع يتعلق بالزوج في نكاح زوجته, ونوع يتعلق بالمولى في نكاح أمته أما. الذي يتعلق بالزوج في نكاح زوجته, فعدم تمليكه الطلاق منها أو من غيرها بأن يقول لامرأته اختاري أو أمرك بيدك ينوي الطلاق أو طلقي نفسك أو أنت طالق إن شئت أو يقول لرجل طلق امرأتي إن شئت كذا عدم التطليق بشرط, والإضافة إلى وقت؛ لأنه بالتمليك جعل النكاح بحال لا يتوقف زواله على اختياره بعد الجعل. وكذا بالتعليق, والإضافة, وهذا معنى عدم بقاء النكاح لازما. "وأما". الذي يتعلق بالمولى في نكاح أمته, فهو أن لا يعتق أمته المنكوحة حتى لو أعتقها لا يبقى العقد لازما, وكان لها الخيار, وهو المسمى بخيار العتاقة. والكلام فيه في مواضع في بيان شرط ثبوت هذا الخيار, وفي بيان وقت ثبوته, وفي بيان ما يبطل به. أما الأول فلثبوت هذا الخيار شرائط منها: وجود النكاح وقت الإعتاق حتى لو أعتقها, ثم زوجها من إنسان, فلا خيار لها لانعدام النكاح وقت الإعتاق. ولو أعتقها, ثم زوجها, وهي صغيرة, فلها خيار البلوغ لا خيار العتق لما قلنا, ومنها أن يكون التزويج نافذا حتى لو زوجت الأمة نفسها من إنسان بغير إذن مولاها, ثم أعتقها المولى, فلا خيار لها, وأما كون الزوج رقيقا وقت الإعتاق, فهل هو شرط ثبوت الخيار لها؟ قال أصحابنا: ليس بشرط, ويثبت الخيار لها سواء كان زوجها حرا أو عبدا. وقال الشافعي: شرط, ولا خيار لها إذا كان زوجها حرا, واحتج بما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "زوج بريرة كان عبدا, فخيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو كان حرا ما خيرها" وهذا نص في الباب, والظاهر أنها إنما قالت ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ولأن الخيار في العبد إنما ثبت لدفع الضرر, وهو ضرر عدم الكفاءة وضرر لزوم نفقة الأولاد وضرر نقصان المعاشرة لكون العبد مشغولا بخدمة المولى, وشيء من ذلك لم يوجد في الحر, فلا يثبت الخيار "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه "قال لبريرة حين أعتقت ملكت بضعك, فاختاري" وروي ملكت أمرك, وروي ملكت نفسك, والاستدلال به من وجهين: أحدهما بنصه, والآخر بعلة النص أما الأول: فهو أنه خيرها رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أعتقت, وقد روي أن زوجها كان حرا, فإن قيل روينا عن عائشة رضي الله عنها أن زوجها كان عبدا, فتعارضت الروايتان, فسقط الاحتجاج بهما, فالجواب أن ما روينا مثبت للحرية, وما رويتم مبق للرق, والمثبت أولى؛ لأن البقاء قد يكون باستصحاب الحال, والثبوت يكون بناء على الدليل لا محالة, فمن قال: كان عبدا احتمل أنه اعتمد استصحاب الحال. ومن قال: كان حرا بنى الأمر على الدليل لا محالة, فصار كالمزكيين جرح أحدهما شاهدا, والآخر زكاه أنه يؤخذ بقول الجارح لما قلنا كذا هذا؛ ولأن ما روينا موافق للقياس, وما رويتم مخالف له لما نذكره إن شاء الله تعالى, فالموافق للقياس أولى. "وأما" الثاني, فهو أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل ملكها بضعها أو أمرها أو نفسها علة لثبوت الخيار لها؛ لأنه أخبر أنها ملكت بضعها, ثم أعقبه بإثبات الخيار لها بحرف التعقيب, وملكها نفسها مؤثر في رفع الولاية في الجملة؛ لأن الملك اختصاص, ولا اختصاص مع ولاية الغير, والحكم إذا ذكر عقيب وصف له أثر

 

ج / 2 ص -329-       في الجملة في جنس ذلك الحكم في الشرع كان ذلك تعليقا لذلك الحكم بذلك الوصف في أصول الشرع كما في قوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}, وقوله عز وجل {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}, وكما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سها, فسجد" وروي أن ماعزا زنى, فرجم, ونحو ذلك, والحكم يتعمم بعموم العلة, ولا يتخصص بخصوص المحل كما في سائر العلل الشرعية, والعقلية, وزوج بريرة, وإن كان عبدا؛ لكن النبي صلى الله عليه وسلم لما بنى الخيار فيه على معنى عام وهو ملك البضع يعتبر عموم المعنى لا خصوص المحل, والله الموفق؛ ولأن بالإعتاق يزداد ملك النكاح عليها؛ لأنه يملك عليها عقدة زائدة لم يكن يملكها قبل الإعتاق بناء على أن الطلاق بالبناء على أصل أصحابنا, والمسألة, فريعة ذلك الأصل, ولها أن لا ترضى بالزيادة؛ لأنها تتضرر بها, ولها ولاية رفع الضرر عن نفسها, ولا يمكنها رفع الزيادة إلا برفع أصل النكاح, فبقيت لها ولاية رفع النكاح, وفسخه ضرورة رفع الزيادة, وقد خرج الجواب عن قوله أنه لا ضرر فيه لما بينا من وجه الضرر؛ ولأنه لو لم يثبت لها الخيار, وبقي النكاح لازما لأدى ذلك إلى أن يستوفي الزوج منافع بضع حرة جبرا ببدل استحقه غيرها بالعقد, وهذا لا يجوز كما لو كان الزوج عبدا؛ ولأن القول ببقاء هذا النكاح لازما يؤدي إلى استيفاء منافع بضع الحرة من غير بدل تستحقه الحرة, وهذا لا يجوز؛ لأنها لا ترضى باستيفاء منافع بضعها إلا ببدل تستحقه هي, فلو لم يثبت الخيار لها لصار الزوج مستوفيا منافع بضعها, وهي حرة جبرا عليها من غير رضاها ببدل استحقه مولاها, وهذا لا يجوز؛ لهذا المعنى ثبت لها الخيار إذا كان زوجها عبدا كذا إذا كان حرا. وكذا اختلف في أن كونها رقيقة وقت النكاح هل هو شرط أم لا؟ قال أبو يوسف: ليس بشرط, ويثبت لها الخيار سواء كانت رقيقة وقت النكاح, فأعتقها المولى أو كانت حرة وقت النكاح, ثم طرأ عليها الرق, فأعتقها حتى أن الحربية إذا تزوجت في دار الحرب, ثم سبيا معا, ثم أعتقت, فلها الخيار عنده. وقال محمد: هو شرط, ولا خيار لها. وكذا المسلمة إذا تزوجت مسلما, ثم ارتدا, ولحقا بدار الحرب, ثم سبيت, وزوجها معها فأسلما, ثم أعتقت الأمة, فهو على هذا الاختلاف, فمحمد, فرق بين الرق الطارئ على النكاح, وبين المقارن إياه, وأبو يوسف سوى بينهما وجه الفرق لمحمد أنها إذا كانت رقيقة وقت النكاح, فالنكاح ينعقد موجبا للخيار عند الإعتاق, وإذا كانت حرة؛ فنكاح الحرة لا ينعقد موجبا للخيار, فلا يثبت الخيار بطريان الرق بعد ذلك؛ لأنه لا يوجب خللا في الرضا, ولأبي يوسف أن الخيار يثبت بالإعتاق؛ لأن زيادة الملك تثبت به؛ لأنها توجب العتق, والعتق موجب الإعتاق, ولا يثبت بالنكاح؛ لأن النكاح السابق ما انعقد موجبا للزيادة؛ لأنه صادف الأمة, ونكاح الأمة لا يوجب زيادة الملك, فالحاصل أن أبا يوسف يجعل زيادة الملك حكم الإعتاق, ومحمد يجعلها حكم العقد السابق عند وجود الإعتاق, وعلى هذا الأصل يخرج قول أبي يوسف أن خيار العتق يثبت مرة بعد أخرى, وقول محمد أنه لا يثبت إلا مرة واحدة حتى لو أعتقت الأمة, فاختارت زوجها, ثم ارتد الزوجان معا, ثم سبيت, وزوجها معها, فأعتقت, فلها أن تختار نفسها عند أبي يوسف, وعند محمد ليس لها ذلك؛ لأن عند أبي يوسف الخيار ثبت بالإعتاق, وقد تكرر الإعتاق, فيتكرر الخيار, وعند محمد يثبت بالعقد, وأنه لم يتكرر, فلا يثبت إلا خيار واحد.

"فصل": وأما وقت ثبوته, فوقت علمها بالعتق وبالخيار, وأهلية الاختيار, فيثبت لها الخيار في المجلس الذي تعلم فيه بالعتق, وبأن لها الخيار, وهي من أهل الاختيار حتى لو أعتقها, ولم تعلم بالعتق أو علمت بالعتق, ولم تعلم بأن لها الخيار, فلم تختر لم يبطل خيارها ولها بمجلس العلم إذا علمت بهما بخلاف خيار البلوغ, فإن العلم بالخيار فيه ليس بشرط, وقد بينا الفرق بينهما فيما تقدم, وكذلك إذا أعتقها, وهي صغيرة, فلها خيار العتق إذا بلغت؛ لأنها وقت الإعتاق لم تكن من أهل الاختيار, وليس لها خيار البلوغ؛ لأن النكاح وجد في حالة الرق, والله عز وجل أعلم. ولو تزوجت مكاتبة بإذن المولى, فأعتقت, فلها الخيار عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر لا خيار لها "وجه" قوله أنه لا ضرر عليها؛ لأن النكاح وقع لها, والمهر مسلم لها "ولنا" ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم "خير بريرة, وكانت مكاتبة"؛ ولأن علة النص عامة على ما بينا. وكذا الملك يزداد عليها كما يزداد على القنة.

 

ج / 2 ص -330-       "فصل": وأما ما يبطل به, فهذا الخيار يبطل بالإبطال نصا, ودلالة من قول أو فعل يدل على الرضا بالنكاح على ما بينا في خيار الإدراك, ويبطل بالقيام عن المجلس؛ لأنه دليل الإعراض كخيار المخيرة, ولا يبطل بالسكوت بل يمتد إلى آخر المجلس إذا لم يوجد منها دليل الإعراض كخيار المخيرة؛ لأن السكوت يحتمل أن يكون لرضاها بالمقام معه, ويحتمل أن يكون للتأمل؛ لأن بالعتق ازداد الملك عليها, فتحتاج إلى التأمل, ولا بد للتأمل من زمان, فقدر ذلك بالمجلس كما في خيار المخيرة. وخيار القبول في البيع بخلاف خيار البلوغ أنه يبطل بالسكوت من البكر؛ لأن بالبلوغ ما ازداد الملك, فلا حاجة إلى التأمل, فلم يكن سكوتها للتأمل, فكان دليل الرضا, وفي خيار المخيرة ثبت المجلس بإجماع الصحابة رضي الله عنهم غير معقول؛ ولأنه لما ازداد الملك عليها جعلها العقد السابق في حق الزيادة بمنزلة إنشاء النكاح, فيتقيد بالمجلس, وإذا اختارت نفسها حتى وقت الفرقة كانت فرقة بغير طلاق لما نذكر إن شاء الله تعالى, فلا تفتقر هذه الفرقة إلى قضاء القاضي بخلاف الفرقة بخيار البلوغ, ووجه الفرق بينهما قد ذكرناه فيما تقدم, والله عز وجل أعلم, وأما بقاء الزوج قادرا على النفقة, فليس بشرط لبقاء النكاح لازما حتى لو عجز عن النفقة لا يثبت لها حق المطالبة بالتفريق, وهذا عندنا. وعند الشافعي شرط, ويثبت لها حق المطالبة بالتفريق احتج بقوله عز وجل {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أمر عز وجل بالإمساك بالمعروف, وقد عجز عن الإمساك بالمعروف؛ لأن ذلك بإيفاء حقها في الوطء, والنفقة, فتعين عليه التسريح بالإحسان, فإن فعل, وإلا ناب القاضي منابه في التسريح, وهو التفريق, ولأن النفقة عوض عن ملك النكاح, وقد فات العوض بالعجز, فلا يبقى النكاح لازما كالمشتري إذا وجد المبيع معيبا, والدليل عليه أن فوات العوض بالجب والعنة يمنع بقاءه لازما, فكذا, فوات المعوض؛ لأن النكاح عقد معاوضة. "ولنا" أن التفريق إبطال ملك النكاح على الزوج من غير رضاه, وهذا في الضرر, فوق ضرر المرأة بعجز الزوج عن النفقة؛ لأن القاضي يفرض النفقة على الزوج إذا طلبت المرأة الفرض, ويأمرها بالإنفاق من مال نفسها إن كان لها مال, وبالاستدانة إن لم يكن إلى وقت اليسار, فتصير النفقة دينا في ذمته بقضاء القاضي, فترجع المرأة عليه بما أنفقت إذا أيسر الزوج, فيتأخر حقها إلى يسار الزوج ولا يبطل, وضرر الإبطال فوق ضرر التأخير بخلاف التفريق بالجب, والعنة؛ ولأن هناك الضرر من الجانبين جميعا ضرر إبطال الحق؛ لأن حق المرأة يفوت عن الوطء, وضررها أقوى؛ لأن الزوج لا يتضرر بالتفريق كثير ضرر لعجزه عن الوطء. فأما المرأة, فإنها محل صالح للوطء, فلا يمكنها استيفاء حظها من هذا الزوج, ولا من زوج آخر لمكان هذا الزوج, فكان الرجحان لضررها, فكان أولى بالدفع. وأما الآية الكريمة, فقد قيل في التفسير أن الإمساك بالمعروف هو الرجعة, وهو أن يراجعها على قصد الإمساك, والتسريح بالإحسان هو أن يتركها حتى تنقضي عدتها مع ما أن الإمساك بالمعروف يختلف باختلاف حال الزوج ألا ترى إلى قوله عز وجل {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}, فالإمساك بالمعروف في حق العاجز عن النفقة بالتزام النفقة على أنه إن كان عاجزا عن الإمساك بالمعروف, فإنما يجب عليه التسريح بالإحسان إذا كان قادرا, ولا قدرة له على ذلك؛ لأن ذلك بالتطليق مع إيفاء حقها في نفقة العدة, وهو عاجز عن نفقة الحال, فكيف يقدر على نفقة العدة على أن لفظ التسريح محتمل يحتمل أن يكون المراد منه التفريق بإبطال النكاح, ويحتمل أن يكون المراد منه التفريق, والتبعيد من حيث المكان, وهو تخلية السبيل, وإزالة اليد إذ حقيقة التسريح هي التخلية, وذلك قد يكون بإزالة اليد والحبس, وعندنا لا يبقى له ولاية الحبس, فلا يكون حجة مع الاحتمال. وأما قوله النفقة عوض عن ملك النكاح فممنوع, فإن العوض ما يكون مذكورا في العقد نصا, والنفقة غير منصوص عليها, فلا تكون عوضا بل هي بمقابلة الاحتباس. وعندنا ولاية الاحتباس تزول عند العجز, ثم إن سلمنا أنه عوض لكن بقاء المعوض مستحقا يقف على استحقاق العوض في الجملة لا على وصول العوض للحال, والنفقة ههنا مستحقة في الجملة, وإن كانت لا تصل إليها للحال, فيبقى العوض حقا للزوج, والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان حكم النكاح, فنقول, وبالله التوفيق الكلام في هذا الفصل في موضعين: في الأصل أحدهما

 

ج / 2 ص -331-       في بيان حكم النكاح, والثاني: في بيان ما يرفع حكمه أما الأول, فالنكاح لا يخلو "إما" أن يكون صحيحا "وإما" أن يكون فاسدا, ويتعلق بكل واحد منهما أحكام "أما". النكاح الصحيح, فله أحكام بعضها أصلي, وبعضها من التوابع, أما الأصلية منها, فحل الوطء إلا في حالة الحيض والنفاس والإحرام وفي الظهار قبل التكفير لقوله سبحانه, وتعالى {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} نفى اللوم عمن لا يحفظ فرجه على زوجته فدل على حل الوطء إلا أن الوطء في حالة الحيض خص بقوله عز وجل {وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ}, والنفاس أخو الحيض, وقوله عز وجل {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}. والإنسان بسبيل من التصرف في حرثه مع ما أنه قد أباح إتيان الحرث بقوله عز وجل {فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ}, وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتقوا الله في النساء, فإنهن عندكم عوان لا يملكن شيئا اتخذتموهن بأمانة الله, واستحللتم فروجهن بكلمة الله" وكلمة الله المذكورة في كتابه العزيز لفظة الإنكاح والتزويج, فدل الحديث على حل الاستمتاع بالنساء بلفظة الإنكاح والتزويج, وغيرهما في معناهما, فكان الحل ثابتا؛ ولأن النكاح ضم وتزويج لغة, فيقتضي الانضمام, والازدواج, ولا يتحقق ذلك إلا بحل الوطء والاستمتاع؛ لأن الحرية تمنع من ذلك, وهذا الحكم وهو حل الاستمتاع مشترك بين الزوجين, فإن المرأة كما تحل لزوجها, فزوجها يحل لها قال عز وجل: {لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ}, وللزوج أن يطالبها بالوطء متى شاء إلا عند اعتراض أسباب مانعة من الوطء كالحيض والنفاس والظهار والإحرام وغير ذلك, وللزوجة أن تطالب زوجها بالوطء؛ لأن حله لها حقها كما أن حلها له حقه, وإذا طالبته يجب على الزوج, ويجبر عليه في الحكم مرة واحدة والزيادة على ذلك تجب فيما بينه, وبين الله تعالى من باب حسن المعاشرة واستدامة النكاح, فلا يجب عليه في الحكم عند بعض أصحابنا, وعند بعضهم يجب عليه في الحكم.

"فصل": ومنها حل النظر, والمس من رأسها إلى قدميها في حالة الحياة؛ لأن الوطء, فوق النظر والمس, فكان إحلاله إحلالا للمس, والنظر من طريق الأولى, وهل يحل الاستمتاع بها بما دون الفرج في حالة الحيض والنفاس؟ فيه خلاف ذكرناه في كتاب الاستحسان, وأما بعد الموت, فلا يحل له المس والنظر عندنا خلافا للشافعي, والمسألة ذكرناها في كتاب الصلاة.

"فصل": ومنها ملك المتعة, وهو اختصاص الزوج بمنافع بضعها وسائر أعضائها استمتاعا أو ملك الذات والنفس في حق التمتع على اختلاف مشايخنا في ذلك؛ لأن مقاصد النكاح لا تحصل بدونه ألا ترى أنه لولا الاختصاص الحاجز عن التزويج بزوج آخر لا يحصل السكن؛ لأن قلب الزوج لا يطمئن إليها, ونفسه لا تسكن معها, ويفسد الفراش لاشتباه النسب؛ ولأن المهر لازم في النكاح, وأنه عوض عن الملك لما ذكرنا فيما تقدم, فيدل على لزوم الملك في النكاح أيضا تحقيقا للمعاوضة, وهذا الحكم على الزوجة للزوج خاصة؛ لأنه عوض عن المهر, والمهر على الرجل, وقيل في تأويل قوله عز وجل {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أن الدرجة هي الملك.

 

ج / 2 ص -332-       الدخول أمرا باطنا, فيقام النكاح مقامه في إثبات النسب, ولهذا قال النبي: صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش, وللعاهر الحجر" وكذا لو تزوج المشرقي بمغربية, فجاءت بولد يثبت النسب, وإن لم يوجد الدخول حقيقة لوجود سببه, وهو النكاح.

"فصل": ومنها وجوب النفقة, والسكنى لقوله تعالى {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}, وقوله تعالى {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ}, وقوله {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ}, والأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأنها لا تمكن من الخروج للكسب لكونها عاجزة بأصل الخلقة لضعف بنيتها والكلام في سبب وجوب هذه النفقة, وشرط وجوبها, ومقدار الواجب منها نذكره إن شاء الله تعالى في كتاب النفقة.

"فصل": ومنها حرمة المصاهرة, وهي حرمة أنكحة فرق معلومة ذكرناهم فيما تقدم, وذكرنا دليل الحرمة إلا أن في بعضها تثبت الحرمة بنفس النكاح, وفي بعضها يشترط الدخول, وقد بينا جملة ذلك في مواضعها.

 

ج / 2 ص -333-       والمشروب, والملبوس, فإنه يسوي بينهما؛ لأن ذلك من الحاجات اللازمة, فيستوي فيه الحرة والأمة والمريض في وجوب القسم عليه كالصحيح لما روي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استأذن نساءه في مرض موته أن يكون في بيت عائشة رضي الله عنها" فلو سقط القسم بالمرض لم يكن للاستئذان معنى, ولا قسم على الزوج إذا سافر حتى لو سافر بإحداهما, وقدم من السفر, وطلبت الأخرى أن يسكن عندها مدة السفر, فليس لها ذلك؛ لأن مدة السفر ضائعة بدليل أن له أن يسافر وحده دونهن لكن الأفضل أن يقرع بينهن, فيخرج بمن خرجت قرعتها تطييبا لقلوبهن دفعا لتهمة الميل عن نفسه هكذا كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد السفر أقرع بين نسائه. وقال الشافعي: إن سافر بها بقرعة, فكذلك. فأما إذا سافر بها بغير قرعة, فإنه يقسم للباقيات, وهذا غير سديد؛ لأن بالقرعة لا يعرف أن لها حقا في حالة السفر أو لا, فإنها لا تصلح لإظهار الحق أبدا لاختلاف عملها في نفسها, فإنها لا تخرج على وجه واحد بل مرة هكذا, ومرة هكذا, والمختلف فيه لا يصلح دليلا على شيء. ولو وهبت إحداهما قسمها لصاحبتها أو رضيت بترك قسمها؛ جاز؛ لأنه حق ثبت لها, فلها أن تستوفي, ولها أن تترك, وقد روي أن سودة بنت زمعة رضي الله عنها لما كبرت, وخشيت أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت يومها لعائشة رضي الله عنها, وقيل فيها نزل قوله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلا جُنَاحَ عَلَيهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً وَالصُّلْحُ خَيْرٌ}, والمراد من الصلح هو الذي جرى بينهما كذا قاله ابن عباس رضي الله عنهما فإن رجعت عن ذلك, وطلبت قسمها, فلها ذلك؛ لأن ذلك كله كان إباحة منها, والإباحة لا تكون لازمة كالمباح له الطعام أنه يملك المبيح منعه, والرجوع عن ذلك. ولو بذلت واحدة منهن مالا للزوج؛ ليجعل لها في القسم أكثر مما تستحقه لا يحل للزوج أن يفعل, ويرد ما أخذه منها؛ لأنه رشوة؛ لأنه أخذ المال لمنع الحق عن المستحق, وكذلك لو بذل الزوج لواحدة منهن مالا لتجعل نوبتها لصاحبتها أو بذلت هي لصاحبتها مالا لتترك نوبتها لها لا يجوز شيء من ذلك, ويسترد المال؛ لأن هذا معاوضة القسم بالمال, فيكون في معنى البيع, وأنه لا يجوز كذا هذا, هذا إذا كان له امرأتان أو أكثر من ذلك. فأما إذا كانت له امرأة واحدة؛ فطالبته بالواجب لها ذكر القدوري رواية الحسن عن أبي حنيفة أنه قال: إذا تشاغل الرجل عن زوجته بالصيام أو بالصلاة أو بأمة اشتراها قسم لامرأته من كل أربعة أيام يوما, ومن كل أربع ليال ليلة, وقيل له تشاغل ثلاثة أيام, وثلاث ليال بالصوم أو بالأمة, وهكذا كان الطحاوي يقول: إنه يجعل لها يوما واحدا يسكن عندها وثلاثة أيام ولياليها يتفرغ للعبادة, وأشغاله "وجه" هذا القول ما ذكره محمد في كتاب النكاح أن امرأة رفعت زوجها إلى عمر رضي الله عنه وذكرت أنه يصوم النهار, ويقوم الليل, فقال: عمر رضي الله عنه ما أحسنك ثناء على بعلك, فقال: كعب يا أمير المؤمنين إنها تشكو إليك زوجها, فقال عمر رضي الله عنه: وكيف ذلك؟ فقال: كعب إنه إذا صام النهار, وقام الليل, فكيف يتفرغ لها, فقال عمر رضي الله عنه لكعب احكم بينهما, فقال: أراها إحدى نسائه الأربع يفطر لها يوما, ويصوم ثلاثة أيام, فاستحسن ذلك منه عمر رضي الله عنه وولاه قضاء البصرة ذكر محمد هذا في كتاب النكاح, ولم يذكر أنه يأخذ بهذا القول. وذكر الجصاص أن هذا ليس مذهبنا؛ لأن المزاحمة في القسم إنما تحصل بمشاركات الزوجات, فإذا لم يكن له زوجة غيرها لم تتحقق المشاركة, فلا يقسم لها, وإنما يقال له لا تداوم على الصوم, ووف المرأة حقها كذا قاله الجصاص وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أن أبا حنيفة كان يقول: أولا كما روى الحسن عنه لما أشار إليه كعب, وهو أن للزوج أن يسقط حقها عن ثلاثة أيام بأن يتزوج ثلاثا أخر سواها, فلما لم يتزوج, فقد جعل ذلك لنفسه, فكان الخيار له في ذلك, فإن شاء؛ صرف ذلك إلى الزوجات, وإن شاء؛ صرفه إلى صيامه, وصلاته, وأشغاله, ثم رجع عن ذلك. وقال: هذا ليس بشيء؛ لأنه لو تزوج أربعا, فطالبن بالواجب منه يكون لكل واحدة منهن ليلة من الأربع, فلو جعلنا هذا حقا لكل واحدة منهن لا يتفرغ لأعماله, فلم يوقت في هذا وقتا. وإن كانت المرأة أمة؛ فعلى قول أبي حنيفة أخيرا إن صح الرجوع لا شك أنه لا يقسم لها كما يقسم للحرة من طريق الأولى, وعلى قوله الأول, وهو قول الطحاوي يجعل لها ليلة من كل سبع ليال؛ لأن للزوج حق إسقاط حقها عن ستة أيام, والاقتصار على يوم

 

ج / 2 ص -334-       واحد بأن يتزوج عليها ثلاث حرائر؛ لأن للحرة ليلتين, وللأمة ليلة واحدة, فلما لم يتزوج, فقد جعل ذلك لنفسه فكان بالخيار إن شاء؛ صرف ذلك إلى الزوجات, وإن شاء؛ صرفه إلى الصوم والصلاة, وإلى أشغال نفسه, والإشكال عليه ما نقل عن أبي حنيفة, وما ذكره الجصاص أيضا, والله عز وجل الموفق.

"فصل": ومنها, وجوب طاعة الزوج على الزوجة إذا دعاها إلى الفراش لقوله تعالى {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} قيل: لها المهر والنفقة, وعليها أن تطيعه في نفسها, وتحفظ غيبته؛ ولأن الله عز وجل أمر بتأديبهن بالهجر والضرب عند عدم طاعتهن, ونهى عن طاعتهن بقوله عز وجل {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً}, فدل أن التأديب كان لترك الطاعة, فيدل على لزوم طاعتهن الأزواج.

"فصل": ومنها ولاية التأديب للزوج إذا لم تطعه فيما يلزم طاعته بأن كانت ناشزة, فله أن يؤدبها لكن على الترتيب, فيعظها أولا على الرفق واللين بأن يقول لها كوني من الصالحات القانتات الحافظات للغيب ولا تكوني من كذا وكذا, فلعل تقبل الموعظة, فتترك النشوز, فإن نجعت فيها الموعظة, ورجعت إلى الفراش وإلا هجرها. وقيل يخوفها بالهجر أولا والاعتزال عنها, وترك الجماع والمضاجعة, فإن تركت وإلا هجرها لعل نفسها لا تحتمل الهجر, ثم اختلف في كيفية الهجر قيل يهجرها بأن لا يجامعها, ولا يضاجعها على فراشه, وقيل يهجرها بأن لا يكلمها في حال مضاجعته إياها لا أن يترك جماعها ومضاجعتها؛ لأن ذلك حق مشترك بينهما, فيكون في ذلك عليه من الضرر ما عليها, فلا يؤدبها بما يضر بنفسه, ويبطل حقه, وقيل يهجرها بأن يفارقها في المضجع, ويضاجع أخرى في حقها وقسمها؛ لأن حقها عليه في القسم في حال الموافقة وحفظ حدود الله تعالى لا في حال التضييع وخوف النشوز والتنازع وقيل يهجرها بترك مضاجعتها, وجماعها لوقت غلبة شهوتها, وحاجتها لا في وقت حاجته إليها؛ لأن هذا للتأديب والزجر, فينبغي أن يؤدبها لا أن يؤدب نفسه بامتناعه عن المضاجعة في حال حاجته إليها, فإذا هجرها, فإن تركت النشوز, وإلا ضربها عند ذلك ضربا غير مبرح, ولا شائن, والأصل فيه قوله عز وجل {وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ}, فظاهر الآية وإن كان بحرف الواو الموضوعة للجمع المطلق لكن المراد منه الجمع على سبيل الترتيب, والواو تحتمل ذلك, فإن نفع الضرب, وإلا رفع الأمر إلى القاضي ليوجه إليهما حكمين حكما من أهله, وحكما من أهلها كما قال الله تعالى: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا}, وسبيل هذا سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق سائر الناس أن الآمر يبدأ بالموعظة على الرفق واللين دون التغليظ في القول, فإن قبلت, وإلا غلظ القول به, فإن قبلت, وإلا بسط يده فيه, وكذلك إذا ارتكبت محظورا سوى النشوز ليس فيه حد مقدر, فللزوج أن يؤدبها تعزيرا لها؛ لأن للزوج أن يعزر زوجته كما للمولى أن يعزر مملوكه.

 

ج / 2 ص -335-       ذلك إلى المولى. وقال أبو يوسف, ومحمد: إليها "وجه" قولهما أن قضاء الشهوة حقها, والعزل يوجب نقصانا في ذلك, ولأبي حنيفة أن كراهة العزل لصيانة الولد, والولد له لا لها, والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما النكاح الفاسد, فلا حكم له قبل الدخول, وأما بعد الدخول, فيتعلق به أحكام منها ثبوت النسب ومنها وجوب العدة, وهو حكم الدخول في الحقيقة ومنها وجوب المهر. والأصل فيه أن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة لانعدام محله أعني محل حكمه, وهو الملك؛ لأن الملك يثبت في المنافع, ومنافع البضع ملحقة بالأجزاء, والحر بجميع أجزائه ليس محلا للملك؛ لأن الحرية خلوص, والملك ينافي الخلوص؛ ولأن الملك في الآدمي لا يثبت إلا بالرق, والحرية تنافي الرق إلا أن الشرع أسقط اعتبار المنافي في النكاح الصحيح لحاجة الناس إلى ذلك, وفي النكاح الفاسد بعد الدخول لحاجة الناكح إلى درء الحد وصيانة مائه عن الضياع بثبات النسب ووجوب العدة وصيانة البضع المحترم عن الاستعمال من غير غرامة, ولا عقوبة توجب المهر, فجعل منعقدا في حق المنافع المستوفاة لهذه الضرورة, ولا ضرورة قبل استيفاء المنافع, وهو ما قبل الدخول, فلا يجعل منعقدا قبله, ثم الدليل على وجوب مهر المثل بعد الدخول ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أيما امرأة أنكحت نفسها بغير إذن مواليها, فنكاحها باطل, فإن دخل بها, فلها مهر مثلها" جعل صلى الله عليه وسلم لها مهر المثل فيما له حكم النكاح الفاسد, وعلقه بالدخول, فدل أن وجوبه متعلق به, ثم اختلف في تقدير هذا المهر, وهو المسمى بالعقر قال أصحابنا الثلاثة: لا يجب الأقل من مهر مثلها ومن المسمى. وقال زفر: يجب مهر المثل بالغا ما بلغ. وكذا هذا الخلاف في الإجارة الفاسدة. "وجه" قول زفر أن المنافع تتقوم بالعقد الصحيح والفاسد جميعا كالأعيان, فيلزم إظهار أثر التقوم, وذلك بإيجاب مهر المثل بالغا ما بلغ؛ لأنه قيمة منافع البضع, وإنما العدول إلى المسمى عند صحة التسمية, ولم تصح؛ لهذا المعنى أوجبنا كمال القيمة في العقد الفاسد كذا ههنا. "ولنا" أن العاقدين ما قوما المنافع بأكثر من المسمى, فلا تتقوم بأكثر من المسمى, فحصلت الزيادة مستوفاة من غير عقد, فلم تكن لها قيمة إلا أن مهر المثل إذا كان أقل من المسمى لا يبلغ به المسمى؛ لأنها رضيت بذلك القدر لرضاها بمهر مثلها, واختلف أيضا في وقت وجوب العدة أنها من أي وقت تعتبر قال أصحابنا الثلاثة: إنها تجب من حين يفرق بينهما. وقال زفر: من آخر وطء وطئها حتى لو كانت قد حاضت ثلاث حيض بعد آخر وطء وطئها قبل التفريق, فقد انقضت عدتها عنده "وجه" قوله أن العدة تجب بالوطء؛ لأنها تجب لاستبراء الرحم, وذلك حكم الوطء ألا ترى أنها لا تجب قبل الوطء, وإذا كان وجوبها بالوطء تجب عقيب الوطء بلا فصل كأحكام سائر العلل. "ولنا" أن النكاح الفاسد بعد الوطء منعقد في حق الفراش لما بينا, والفراش لا يزول قبل التفريق بدليل أنه لو وطئها قبل التفريق لا حد عليه, ولا يجب عليه بتكرار الوطء إلا مهر واحد. ولو وطئها بعد التفريق يلزمه الحد, ولو دخلته شبهة حتى امتنع وجوب الحد يلزمه مهر آخر, فكان التفريق في النكاح الفاسد بمنزلة الطلاق في النكاح الصحيح, فيعتبر ابتداء العدة منه كما تعتبر من وقت الطلاق في النكاح الصحيح والخلوة في النكاح الفاسد لا توجب العدة؛ لأنه ليس بنكاح حقيقة إلا أنه ألحق بالنكاح في حق المنافع المستوفاة حقيقة مع قيام المنافع لحاجة الناكح إلى ذلك, فيبقى في حق غير المستوفى على أصل العدم, ولم يوجد استيفاء المنافع حقيقة بالخلوة؛ ولأن الموجب للعدة في الحقيقة هو الوطء؛ لأنها تجب لتعرف براءة الرحم, ولم يوجد حقيقة إلا أنا أقمنا التمكين من الوطء في النكاح الصحيح مقامه في حق حكم يحتاط فيه لوجود دليل التمكن, وهو الملك المطلق, ولم يوجد ههنا بخلاف الخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح أنها توجب العدة إذا كان متمكنا من الوطء حقيقة, وإن كان ممنوعا عنه شرعا بسبب الحيض أو الإحرام أو الصوم أو نحو ذلك؛ لأن هناك دليل الإطلاق شرعا موجود وهو الملك المطلق إلا أنه منع منه لغيره, فكان التمكن ثابتا, ودليله موجود, فيقام مقام المدلول في موضع الاحتياط, وههنا بخلافه, ولا يوجب المهر أيضا؛ لأنه لما لم يجب بها العدة, فالمهر أولى؛ لأن العدة يحتاط في وجوبها, ولا يحتاط في وجوب المهر.

 

ج / 2 ص -336-       "فصل": وأما بيان ما يرفع حكم النكاح, فبيانه بيان ما تقع به الفرقة بين الزوجين, ولوقوع الفرقة بين الزوجين أسباب لكن الواقع ببعضها فرقة بطلاق, وبعضها فرقة بغير طلاق, وفي بعضها يقع فرقة بغير قضاء القاضي, وفي بعضها لا يقع إلا بقضاء القاضي, فنذكر جملة ذلك بتوفيق الله عز وجل منها. الطلاق بصريحه, وكناياته, وله كتاب مفرد, ومنها اللعان ولا تقع الفرقة إلا بتفريق القاضي عند أصحابنا. وكذا في كيفية هذه الفرقة خلاف بين أصحابنا نذكره إن شاء الله تعالى في كتاب اللعان, ومنها اختيار الصغير أو الصغيرة بعد البلوغ في خيار البلوغ, وهذه الفرقة لا تقع إلا بتفريق القاضي بخلاف الفرقة باختيار المرأة نفسها في خيار العتق أنها تثبت بنفس الاختيار, وقد بينا وجه الفرق فيما تقدم, والفرقة في الخيارين جميعا تكون فرقة بغير طلاق, بل تكون فسخا حتى لو كان الزوج لم يدخل بها, فلا مهر لها أما في خيار العتق, فلا شك فيه؛ لأن الفرقة وقعت بسبب وجد منها, وهو اختيارها نفسها, واختيارها نفسها لا يجوز أن يكون طلاقا؛ لأنها لا تملك الطلاق إلا إذا ملكت كالمخيرة, فكان فسخا, وفسخ العقد رفعه من الأصل, وجعله كأن لم يكن. ولو لم يكن حقيقة لم يكن لها مهر, فكذا إذا التحق بالعدم من الأصل. وكذا في خيار البلوغ إذا كان من له الخيار هو المرأة, فاختارت نفسها قبل الدخول بها لما قلنا. وأما إذا كان من له الخيار هو الغلام, فاختار نفسه قبل الدخول بها, فلا مهر لها أيضا, وهذا فيه نوع إشكال؛ لأن الفرقة جاءت من قبل الزوج, فيجب أن تكون فرقة بطلاق, ويتعلق بها نصف المهر والانفصال أن الشرع أثبت له الخيار, فلا بد أن يكون مفيدا. ولو كان ذلك طلاقا, ووجب عليه المهر لم يكن لإثبات الخيار معنى؛ لأنه يملك الطلاق, فإذا لا فائدة في الخيار إلا سقوط المهر. وإن كان قد دخل بها لا يسقط المهر؛ لأن المهر قد تأكد بالدخول, فلا يحتمل السقوط بالفرقة, كما لا يحتمل السقوط بالموت؛ ولأن الدخول استيفاء منافع البضع, وأنه أمر خفي, فلا يحتمل الارتفاع من الأصل بالفسخ بخلاف العقد, فإنه أمر شرعي, فكان محتملا للفسخ, ولأنه لو فسخ النكاح بعد الدخول لوجب عليه رد المنافع المستوفاة؛ لأنه عاد البدل إليه, فوجب أن يعود المبدل إليها, وهو لا يقدر على ردها, فلا يفسخ, وإذا لم يقدر على ردها يغرم قيمتها, وقيمتها هو المهر المسمى, فلا يفيد؛ ولأنه لما استوفى المنافع, فقد استوفى المعقود عليه, وهو المبدل, فلا يسقط البدل ومنها اختيار المرأة نفسها لعيب الجب, والعنة والخصاء والخنوثة, والتأخذ بتفريق القاضي أو بنفس الاختيار, على ما بينا, وأنه فرقة بطلان؛ لأن سبب ثبوتها حصل من الزوج, وهو المنع من إيفاء حقها المستحق بالنكاح, وأنه ظلم وضرر في حقها إلا أن القاضي قام مقامه في دفع الظلم, والأصل أن الفرقة إذا حصلت بسبب من جهة الزوج مختص بالنكاح أن تكون فرقة بطلان حتى لو كان ذلك قبل الدخول بها, وقبل الخلوة, فلها نصف المسمى إن كان في النكاح تسمية, وإن لم يكن فيه تسمية, فلها المتعة ومنها التفريق لعدم الكفاءة أو لنقصان المهر, والفرقة به فرقة بغير طلاق؛ لأنها فرقة حصلت لا من جهة الزوج, فلا يمكن أن يجعل ذلك طلاقا؛ لأنه ليس لغير الزوج ولاية الطلاق, فيجعل فسخا, ولا تكون هذه الفرقة إلا عند القاضي لما ذكرنا في الفرقة بخيار البلوغ ومنها إباء الزوج الإسلام بعد ما أسلمت زوجته في دار الإسلام, ومنها إباء الزوجة الإسلام بعد ما أسلم زوجها المشرك أو المجوسي في دار الإسلام. وجملة الكلام فيه أن الزوجين الكافرين إذا أسلم أحدهما في دار الإسلام, فإن كانا كتابيين, فأسلم الزوج, فالنكاح بحاله؛ لأن الكتابية محل لنكاح المسلم ابتداء, فكذا بقاء, وإن أسلمت المرأة لا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا, ولكن يعرض الإسلام على زوجها, فإن أسلم بقيا على النكاح, وإن أبى الإسلام, فرق القاضي بينهما؛ لأنه لا يجوز أن تكون المسلمة تحت نكاح الكافر, ولهذا لم يجز نكاح الكافر المسلمة ابتداء, فكذا في البقاء عليه, وإن كانا مشركين أو مجوسيين, فأسلم أحدهما أيهما كان يعرض الإسلام على الآخر, ولا تقع الفرقة بنفس الإسلام عندنا, فإن أسلم؛ فهما على النكاح, وإن أبى الإسلام؛ فرق القاضي بينهما؛ لأن المشركة لا تصلح لنكاح المسلم غير أن الإباء إن كان من المرأة يكون فرقة بغير طلاق؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها, وهو الإباء من الإسلام, والفرقة من قبل المرأة لا تصلح طلاقا؛ لأنها لا تلي الطلاق, فيجعل فسخا, وإن كان الإباء من الزوج يكون فرقة بطلاق

 

ج / 2 ص -337-       في قول أبي حنيفة, ومحمد وعند أبي يوسف يكون فرقة بغير طلاق, وهذا كله مذهب أصحابنا وقال الشافعي: إذا أسلم أحد الزوجين, وقعت الفرقة بنفس الإسلام غير أنه إن كان ذلك قبل الدخول تقع الفرقة للحال بعد الدخول, فلا تقع الفرقة حتى تمضي ثلاث حيض, فإن أسلم الآخر قبل مضيها؛ فالنكاح بحاله, وإن لم يسلم؛ بانت بمضيها أما الكلام مع الشافعي, فوجه قوله إن كفر الزوج يمنع من نكاح المسلمة ابتداء حتى لا يجوز للكافر أن ينكح المسلمة, وكذلك شرك المرأة, وتمجسها مانع من نكاح المسلم ابتداء بدليل أنه لا يجوز للمسلم نكاح المشركة, والمجوسية, فإذا طرأ على النكاح يبطله, فأشبه الطلاق. "ولنا" إجماع الصحابة رضي الله عنهم, فإنه روي أن رجلا من بني تغلب أسلمت امرأته, فعرض عمر رضي الله عنه عليه الإسلام, فامتنع, ففرق بينهما, وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, فيكون إجماعا. ولو وقعت الفرقة بنفس الإسلام لما وقعت الحاجة إلى التفريق؛ ولأن الإسلام لا يجوز أن يكون مبطلا للنكاح؛ لأنه عرف عاصما للأملاك, فكيف يكون مبطلا لها, ولا يجوز أن يبطل بالكفر أيضا؛ لأن الكفر كان موجودا منهما, ولم يمنع ابتداء النكاح, فلأن لا يمنع البقاء وأنه أسهل أولى إلا أنا لو بقينا النكاح بينهما لا تحصل المقاصد؛ لأن مقاصد النكاح لا تحصل إلا بالاستفراش, والكافر لا يمكن من استفراش المسلمة, والمسلم لا يحل له استفراش المشركة والمجوسية لخبثهما, فلم يكن في بقاء هذا النكاح فائدة, فيفرق القاضي بينهما عند إباء الإسلام؛ لأن اليأس عن حصول المقاصد يحصل عنده. وأما الكلام مع أصحابنا في كيفية الفرقة عند إباء الزوج الإسلام بعد ما أسلمت امرأته المشركة أو المجوسية أو الكتابية, فوجه قول أبي يوسف أن هذه فرقة يشترك في سببها الزوجان, ويستويان فيه, فإن الإباء من كل واحد منهما سبب الفرقة, ثم الفرقة الحاصلة بإبائها فرقة بغير طلاق, فكذا بإبائه لاستوائهما في السببية كما إذا ملك أحدهما صاحبه, ولهما أن الحاجة إلى التفريق عند الإباء لفوات مقاصد النكاح ولأن مقاصد النكاح إذا لم تحصل لم يكن في بقاء النكاح فائدة, فتقع الحاجة إلى التفريق, والأصل في التفريق هو الزوج؛ لأن الملك له, والقاضي ينوب منابه كما في الفرقة بالجب والعنة فكان الأصل في الفرقة هو فرقة الطلاق, فيجعل طلاقا ما أمكن, وفي إباء المرأة لا يمكن؛ لأنها لا تملك الطلاق, فيجعل فسخا ومنها ردة أحد الزوجين؛ لأن الردة بمنزلة الموت؛ لأنها سبب مفض إليه, والميت لا يكون محلا للنكاح, ولهذا لم يجز نكاح المرتد لأحد في الابتداء, فكذا في حال البقاء؛ ولأنه لا عصمة مع الردة, وملك النكاح لا يبقى مع زوال العصمة غير أن ردة المرأة تكون فرقة بغير طلاق بلا خلاف. وأما ردة الرجل, فهي فرقة بغير طلاق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وعند محمد فرقة بطلاق "وجه" قوله ظاهر؛ لأن الأصل أن الفرقة إذا حصلت بمعنى من قبل الزوج, وأمكن أن تجعل طلاقا تجعل طلاقا؛ لأن الأصل في الفرقة هو فرقة الطلاق, وأصل أبي يوسف ما ذكرنا أنه فرقة حصلت بسبب يشترك فيه الزوجان؛ لأن الردة من كل واحد منهما سبب لثبوت الفرقة, ثم الثابت بردتها فرقة بغير طلاق كذا بردته, ولأبي حنيفة أن هذه الفرقة, وإن كانت بسبب وجد من الرجل, وهو ردته إلا أنه لا يمكن أن تجعل الردة طلاقا؛ لأنها بمنزلة الموت, وفرقة الموت لا تكون طلاقا؛ لأن الطلاق تصرف يختص بما يستفاد بالنكاح, والفرقة الحاصلة بالردة فرقة واقعة بطريق التنافي؛ لأن الردة تنافي عصمة الملك, وما كان طريقه التنافي لا يستفاد بملك النكاح, فلا يكون طلاقا بخلاف الفرقة الحاصلة بإباء الزوج؛ لأنها تثبت بفوات مقاصد النكاح وثمراته, وذلك مضاف إلى الزوج, فيلزمه الإمساك بالمعروف, وإلا التسريح بالإحسان, فإذا امتنع عنه ألزمه القاضي الطلاق الذي يحصل به التسريح بالإحسان كأنه طلق بنفسه, والدليل على التفرقة بينهما أن فرقة الإباء لا تحصل إلا بالقضاء, وفرقة الردة تثبت بنفس الردة ليعلم أن ثبوتها بطريق التنافي, ثم الفرقة بردة أحد الزوجين تثبت بنفس الردة, فتثبت في الحال عندنا. وعند الشافعي إن كان قبل الدخول, فكذلك, وإن كان بعد الدخول تتأجل الفرقة إلى مضي ثلاث حيض, وهو على الاختلاف في إسلام أحد الزوجين هذا إذا ارتد أحد الزوجين. فأما إذا ارتدا معا لا تقع الفرقة بينهما استحسانا حتى لو أسلما معا, فهما على نكاحهما, والقياس أن تقع الفرقة, وهو قول زفر. وجه القياس أنه لو ارتد أحدهما لوقعت الفرقة

 

ج / 2 ص -338-       فكذا إذا ارتدا؛ لأن في ردتهما ردة أحدهما, وزيادة, وللاستحسان إجماع الصحابة رضي الله عنهم, فإن العرب لما ارتدت في زمن أبي بكر الصديق رضي الله عنه ثم أسلموا لم يفرق بينهم, وبين نسائهم, وكان ذلك بم حضر من الصحابة رضي الله عنهم, فإن قيل بم يعلم هناك أنهم ارتدوا, وأسلموا معا؟ فالجواب أنه لما لم يفرق بينهم وبين نسائهم فيما لم يعلم القران بل احتمل التقدم والتأخر في الردة, والإسلام ففيما علم أولى أن لا يفرق, ثم نقول الأصل في كل أمرين حادثين إذا لم يعلم تاريخ ما بينهما أن يحكم بوقوعهما معا كالغرقى, والحرقى والهدمى ولو تزوج مسلم كتابية يهودية أو نصرانية, فتمجست تثبت الفرقة؛ لأن المجوسية لا تصلح لنكاح المسلم ألا ترى أنه لا يجوز له نكاحها ابتداء, ثم إن كان ذلك قبل الدخول بها, فلا مهر لها, ولا نفقة؛ لأنها فرقة بغير طلاق, فكانت فسخا, وإن كان بعد الدخول بها, فلها المهر لما بينا فيما تقدم, ولا نفقة لها؛ لأن الفرقة جاءت من قبلها, والأصل أن الفرقة إذا جاءت من قبلها, فإن كان قبل الدخول بها؛ فلا نفقة لها ولا مهر, وإن جاءت من قبله قبل الدخول؛ يجب نصف المسمى إن كان المهر سمي, وإن لم يكن؛ تجب المتعة, وبعد الدخول يجب كل المهر, والنفقة. ولو كانت يهودية؛ فتنصرت أو نصرانية؛ فتهودت لم تثبت الفرقة, ولم يعترض عليه عندنا. وقال الشافعي: لا يمكن من القرار عليه, ولكن تجبر على أن تسلم أو تعود إلى دينها الأول, فإن لم تفعل حتى مضت ثلاث حيض, وقعت الفرقة كما في المرتد "وجه" قوله أنها كانت مقرة بأن الدين الذي انتقلت إليه باطل, فكان ترك الاعتراض تقريرا على الباطل, وأنه لا يجوز. "ولنا" أنها انتقلت من باطل إلى باطل, والجبر على العود إلى الباطل باطل, ولو كانت يهودية أو نصرانية؛ فصبأت لم تثبت الفرقة في قول أبي حنيفة, وفي قول أبي يوسف, ومحمد تثبت الفرقة بناء على أنه يجوز للمسلم نكاح الصابئية عنده, وعندهما لا يجوز, والمسألة مرت في موضعها ومنها إسلام أحد الزوجين في دار الحرب لكن لا تقع الفرقة في الحال بل تقف على مضي ثلاث حيض إن كانت ممن تحيض, وإن كانت ممن لا تحيض ثلاثة أشهر, فإن أسلم الباقي منهما في هذه المدة, فهما على النكاح, وإن لم يسلم حتى مضت المدة وقعت الفرقة؛ لأن الإسلام لا يصلح سببا لثبوت الفرقة بينهما, ونفس الكفر أيضا لا يصلح سببا لما ذكرنا من المعنى فيما تقدم, ولكن يعرض الإسلام على الآخر, فإذا أبى حينئذ يفرق, وكانت الفرقة حاصلة بالإباء, ولا يعرف الإباء إلا بالعرض, وقد امتنع العرض لانعدام الولاية, وقد مست الحاجة إلى التفريق إذ المشرك لا يصلح لنكاح المسلمة, فيقام شرط البينونة, وهو مضي ثلاث حيض إذ هو شرط البينونة في الطلاق الرجعي مقام العلة, وإقامة الشرط مقام العلة عند تعذر اعتبار العلة جائز في أصول الشرع, فإذا مضت مدة العدة, وهي ثلاث حيض صار مضي هذه المدة بمنزلة تفريق القاضي. وتكون فرقة بطلاق على قياس قول أبي حنيفة ومحمد وعلى قياس قول أبي يوسف بغير طلاق؛ لأنه فرقة بسبب الإباء حكما وتقديرا. وإذا وقعت الفرقة بعد مضي هذه المدة هل تجب العدة بعد مضيها؟ بأن كانت المرأة هي المسلمة, فخرجت إلى دار الإسلام, فتمت الحيض في دار الإسلام لا عدة عليها عند أبي حنيفة, وعندهما عليها العدة, والمسألة مذكورة فيما تقدم, وإن كان المسلم هو الزوج؛ فلا عدة عليها بالإجماع؛ لأنها حربية ومنها اختلاف الدارين عندنا بأن خرج أحد الزوجين إلى دار الإسلام مسلما أو ذميا, وترك الآخر كافرا في دار الحرب. ولو خرج أحدهما مستأمنا, وبقي الآخر كافرا في دار الحرب لا تقع الفرقة بالإجماع. وقال الشافعي: لا تقع الفرقة باختلاف الدارين, وهذا بناء على أصل, وهو أن اختلاف الدارين علة لثبوت الفرقة عندنا, وعنده ليس بعلة, وإنما العلة هي السبي, واحتج بما روي "أن زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم هاجرت من مكة إلى المدينة, وخلفت زوجها أبا العاص كافرا بمكة, فردها عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنكاح الأول" ولو ثبتت الفرقة باختلاف الدارين لما رد بل جدد النكاح؛ ولأن تأثير اختلاف الدارين في انقطاع الولاية, وانقطاع الولاية لا يوجب انقطاع النكاح, فإن النكاح يبقى بين أهل العدل والبغي, والولاية منقطعة. "ولنا" أن عند اختلاف الدارين يخرج الملك من أن يكون منتفعا به لعدم التمكن من الانتفاع عادة, فلم يكن في بقائه فائدة, فيزول كالمسلم إذا ارتد عن الإسلام, ولحق بدار الحرب أنه يزول ملكه عن أمواله, وتعتق أمهات أولاده ومدبروه لما قلنا كذا هذا بخلاف

 

ج / 2 ص -339-       أهل البغي مع أهل العدل؛ لأن أهل البغي من أهل الإسلام؛ ولأنهم مسلمون, فيخالطون أهل العدل, فكان إمكان الانتفاع ثابتا, فيبقى النكاح, وههنا بخلافه. وأما الحديث, فقد روي أنه ردها عليه بنكاح جديد, فتعارضت الروايتان, فسقط الاحتجاج به مع ما أن العمل بهذه الرواية أولى؛ لأنها تثبت أمرا لم يكن, فكان راوي الرد بالنكاح الأول استصحب الحال, فظن أنه ردها عليه بذلك النكاح الذي كان, وراوي النكاح الجديد اعتمد حقيقة الحال, وصار كاحتمال الجرح, والتعديل, ثم إن كان الزوج هو الذي خرج؛ فلا عدة على المرأة بلا خلاف لما ذكرنا أنه حربي, وإن كانت المرأة هي التي خرجت؛ فلا عدة عليها في قول أبي حنيفة خلافا لهما, وكذلك إذا خرج أحدهما ذميا؛ وقعت الفرقة؛ لأنه صار من أهل دار الإسلام, فصار كما لو خرج مسلما بخلاف ما إذا خرج أحدهما بأمان؛ لأن الحربي المستأمن من أهل دار الحرب, وإنما دخل دار الإسلام على سبيل العارية لقضاء بعض حاجاته لا للتوطن, فلا يبطل حكم دار الحرب في حقه كالمسلم إذا دخل دار الحرب بأمان؛ لأنه لا يصير بالدخول من أهل دار الحرب لما قلنا كذا هذا. ولو أسلما معا في دار الحرب أو صارا ذميين معا أو خرجا مستأمنين, فالنكاح على حاله لانعدام اختلاف الدارين عندنا, وانعدام السبي عنده, وعلى هذا يخرج ما إذا سبي أحدهما, وأحرز بدار الإسلام أنه تقع الفرقة بالإجماع لكن على اختلاف الأصلين عندنا باختلاف الدارين, وعنده بالسبي, وعندنا لا تثبت الفرقة قبل الإحراز بدار الإسلام. ولو سبيا معا لا تقع الفرقة عندنا لعدم اختلاف الدارين, وعنده تقع لوجود السبي, واحتج بقوله تعالى {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} حرم المحصنات, وهن ذوات الأزواج إذ هو معطوف على قوله عز وجل {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}, واستثنى المملوكات, والاستثناء من الحظر إباحة, ولم يفصل بين ما إذا سبيت وحدها أو مع زوجها؛ ولأن السبي سبب لثبوت ملك المتعة للسابي؛ لأنه استيلاء, ورد على محل غير معصوم, وأنه سبب لثبوت الملك في الرقبة؛ ولهذا يثبت الملك في المسبية بالإجماع, وملك الرقبة يوجب ملك المتعة, ومتى ثبت ملك المتعة للسابي؛ يزول ملك الزوج ضرورة بخلاف ما إذا اشترى أمة هي منكوحة الغير أنه لا يثبت للمشتري ملك المتعة, وإن ثبت له ملك الرقبة بالشراء؛ لأن ملك الزوج في الأمة ملك معصوم, وإثبات اليد على محل معصوم لا يكون سببا لثبوت الملك. "ولنا" أن ملك النكاح للزوج كان ثابتا بدليله مطلقا, وملك النكاح لا يجوز أن يزول إلا بإزالته أو لعدم فائدة البقاء إما لفوات المحل حقيقة بالهلاك أو تقديرا لخروجه من أن يكون منتفعا به في حق المالك, وإما لفوات حاجة المالك بالموت؛ لأن الحكم بالزوال حينئذ يكون تناقضا, والشرع منزه عن التناقض, ولم توجد الإزالة من الزوج, والمحل صالح, والمالك صالح حي محتاج إلى الملك, وإمكان الاستمتاع ثابت ظاهرا, وغالبا إذا سبيا معا, ولا يكون نادرا. وكذا إذا سبي أحدهما, والمسبي في دار الحرب؛ لأن احتمال الاسترداد من الكفرة أو استنقاذ الأسراء من الغزاة ليس بنادر, وإن لم يكن غالبا بخلاف ما إذا سبي أحدهما, وأخرج إلى دار الإسلام؛ لأن هناك لا فائدة في بقاء الملك لعدم التمكن من إقامة المصالح بالملك ظاهرا وغالبا لاختلاف الدارين. وأما قوله السبي ورد على محل غير معصوم, فنعم لكن الاستيلاء الوارد على محل غير معصوم إنما يكون سببا لثبوت الملك إذا لم يكن مملوكا لغيره, وملك الزوج ههنا قائم لما بينا, فلم يكن السبي سببا لثبوت الملك للسابي, فلا يوجب زوال ملك الزوج, والآية محمولة على ما إذا سبيت, وحدها لما ذكرنا من الدلائل ومنها الملك الطارئ لأحد الزوجين على صاحبه بأن ملك أحدهما صاحبه بعد النكاح أو ملك شقصا منه؛ لأن الملك المقارن يمنع من انعقاد النكاح, فالطارئ عليه يبطله, والفرقة الواقعة به فرقة بغير طلاق؛ لأنها فرقة حصلت بسبب لا من قبل الزوج, فلا يمكن أن تجعل طلاقا, فتجعل فسخا, ولا يحتاج إلى تفريق القاضي؛ لأنها فرقة حصلت بطريق التنافي لما بينا في المسائل المتقدمة أن الحقوق الثابتة بالنكاح لا يصح إثباتها بين المالك والمملوك, فلا تفتقر إلى القضاء كالفرقة الحاصلة بردة أحد الزوجين, وعلى هذا قالوا في القن, والمدبر والمأذون إذا اشتريا زوجتيهما لم يبطل النكاح؛ لأن الشراء لا يفيد لهما ملك المتعة, فلا يوجب بطلان النكاح. وقالوا أيضا في المكاتب إذا اشترى زوجته لا يبطل نكاحها؛ لأنه لا يملكها, وإنما يثبت له فيها حق الملك, وحق الملك يمنع ابتداء

 

ج / 2 ص -340-       النكاح, ولا يمنع البقاء كالعدة وهذا؛ لأن حق الملك هو الملك من. وجه, فكان ملكه فيها ثابتا من وجه دون وجه, فالنكاح إذا لم يكن منعقدا يقع الشك في انعقاده, فلا ينعقد بالشك, وإذا كان منعقدا يقع الشك في زواله, فلا يزول بالشك على الأصل المعهود أن غير الثابت بيقين لا يثبت بالشك, والثابت بيقين لا يزول بالشك لهذا المعنى منعت العدة من ابتداء النكاح, ولم تمنع البقاء كذا هذا, وقالوا فيمن زوج ابنته من مكاتبه, ثم مات لا يبطل النكاح بينهما حتى يعجز عن أداء بدل الكتابة. وقال الشافعي: ينفسخ النكاح بناء على أن المكاتب لا يورث عندنا, فلا يثبت الملك للوارث في المكاتب حقيقة, وإنما يثبت له حق الملك, وأنه لا يمنع بقاء النكاح, وعنده يورث, فيثبت الملك لها في زوجها, فيبطل النكاح "وجه" قوله أن الوارث يقوم مقام المورث في أملاكه, فيثبت له ما كان ثابتا للمورث, وملكه في المكاتب كان ثابتا له, فينتقل إلى الوارث, فيصير مملوكا له, فينفسخ النكاح. "ولنا" أن الحاجة مست إلى إبقاء ملك الميت في المكاتب؛ لأن عقد الكتابة أوجب له حق الحرية للحال على وجه يصير ذلك الحق حقيقة عند الأداء, ولهذا يثبت الولاء من قبله, فلو نقلنا الملك من الميت إلى الوارث لتعذر إثبات حقيقة الحرية عند الأداء لانعدام تعليق الحرية منه بالأداء, فمست الحاجة إلى استيفاء ملك الميت فيه لأجل الحق المستحق للمكاتب, فيمنع ثبوت الملك حقيقة للوارث, ويثبت له حق الملك لوجود سبب الثبوت, وهو القرابة, وشرطه, وهو الموت, وحق الملك يمنع ابتداء النكاح, ولا يمنع البقاء لما ذكرنا إلا إذا عجز عن أداء بدل الكتابة؛ لأنه إذا عجز ثبت الملك حقيقة للوارث, فيرتفع النكاح, وأما معتق البعض إذا اشترى زوجته لا يبطل النكاح في قول أبي حنيفة, وعندهما يبطل بناء على أن معتق البعض بمنزلة المكاتب عنده, وعندهما حر عليه دين, والله أعلم ومنها الرضاع الطارئ على النكاح كمن تزوج صغيرة, فأرضعتها أمه بانت منه؛ لأنها صارت أختا له من جهة الرضاع. وكذا إذا تزوج صبيتين رضيعتين, فجاءت امرأة, فأرضعتهما بانتا منه؛ لأنهما صارتا أختين وحرمة الأخت من الرضاع يستوي فيها السابق والطارئ. وكذا حرمة الجمع بين الأختين من الرضاعة, ونذكر إن شاء الله تعالى ما يتعلق بالرضاع المقارن والطارئ من المسائل في كتاب الرضاع ومنها المصاهرة الطارئة بأن وطئ أم امرأته أو ابنتها, والفرقة بها فرقة بغير طلاق؛ لأنها حرمة مؤبدة كحرمة الرضاع, والفرق في هذه الوجوه كلها بائنة؛ لأن المقصود في بعضها الخلاص, وأنه لا يحصل إلا بالبائن, وفي بعضها المحل ليس بقابل لبقاء النكاح, فافهم, والله الموفق.
"تم الجزء الثاني ويليه الجزء الثالث وأوله كتاب الايمان"