بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 3 ص -2-                                                                 "كتاب الأيمان":
الكلام في هذا الكتاب في أربعة مواضع في بيان. أنواع اليمين وفي بيان ركن كل نوع وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكمه وفي بيان أن اليمين بالله تعالى على نية الحالف أو المستحلف أما الأول: فاليمين في القسمة الأولى ينقسم إلى قسمين: يمين بالله سبحانه وهو المسمى بالقسم في عرف اللغة والشرع, ويمين بغير الله تعالى وهذا قول عامة العلماء. وقال أصحاب الظاهر هي قسم واحد وهو اليمين بالله تعالى فأما الحلف بغير الله عز وجل فليس بيمين حقيقة, وإنما سمي بها مجازا, حتى إن من حلف لا يحلف فحلف بالطلاق أو العتاق يحنث, وعند عامة العلماء لا يحنث. وجه قولهم: إن اليمين إنما يقصد بها تعظيم المقسم به ولهذا كانت عادة العرب القسم بما جل قدره وعظم خطره وكثر نفعه عند الخلق من السماء والأرض والشمس والقمر والليل والنهار ونحو ذلك, والمستحق للتعظيم بهذا النوع هو الله تعالى لأن التعظيم بهذا النوع عبادة ولا تجوز العبادة إلا لله تعالى. "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"من حلف بطلاق أو عتاق واستثنى فلا حنث عليه" سماه حلفا, والحلف واليمين من الأسماء المترادفة الواقعة على مسمى واحد, والأصل في إطلاق الاسم هو الحقيقة فدل أن الحلف بالطلاق والعتاق يمين حقيقة. وكذا مأخذ الاسم دليل عليه, لأنها أخذت من القوة, قال الله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} أي بالقوة ومنه سميت اليد اليمين يمينا لفضل قوتها على الشمال عادة. قال الشاعر:

رأيت عرابة الأوسي يسمو                    إلى الخيرات منقطع القرين

 إذا ما راية رفعت                              لمجد تلقاها عرابة باليمين

أي بالقوة, ومعنى القوة يوجد في النوعين جميعا وهو أن الحالف يتقوى بها على الامتناع من المرهوب وعلى التحصيل

 

ج / 3 ص -3-            في المرغوب. وذلك أن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل لما يتعلق به من اللذة الحاضرة فعقله يزجره عنه لما يتعلق به من العاقبة الوخيمة, وربما لا يقاوم طبعه فيحتاج إلى أن يتقوى على الجري على موجب العقل فيحلف بالله تعالى لما عرف من قبح هتك حرمة اسم الله تعالى. وكذا إذا دعاه عقله إلى فعل تحسن عاقبته وطبعه يستثقل ذلك فيمنعه عنه فيحتاج إلى اليمين بالله تعالى ليتقوى بها على التحصيل, وهذا المعنى يوجد في الحلف بالطلاق والعتاق لأن الحالف يتقوى به على الامتناع من تحصيل الشرط خوفا من الطلاق والعتاق الذي هو مستثقل على طبعه فثبت أن معنى اليمين يوجد في النوعين فلا معنى للفصل بين نوع ونوع, والدليل عليه أن محمدا سمى الحلف بالطلاق والعتاق في أبواب الأيمان من الأصل والجامع يمينا, وقوله حجة في اللغة ثم اليمين بالله تعالى منقسم ثلاثة أقسام في عرف الشرع يمين الغموس ويمين اللغو ويمين معقودة. وذكر محمد في أول كتاب الأيمان من الأصل وقال: الأيمان ثلاثة يمين مكفرة ويمين لا تكفر ويمين نرجو أن لا يؤاخذ الله بها صاحبها, وفسر الثالثة بيمين اللغو وإنما أراد محمد بقوله: الأيمان ثلاث الأيمان بالله تعالى لا جنس الأيمان لأن ذلك كثير فإن قيل كيف أخبر محمد عن انتفاء المؤاخذة بلغو اليمين بلفظة الترجي وانتفاء المؤاخذة بهذا النوع من اليمين مقطوع به بنص الكتاب وهو قوله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} فالجواب عنه من وجهين أحدهما: أن يمين اللغو هي اليمين الكاذبة لكن لا عن قصد بل خطأ أو غلطا على ما نذكر تفسيرها إن شاء الله تعالى والتحرز عن فعله ممكن في الجملة وحفظ النفس عنه مقدور فكان جائز المؤاخذة عليه لكن الله تعالى رفع المؤاخذة عليه رحمة وفضلا ولهذا يجب الاستغفار والتوبة عن فعل الخطإ والنسيان كذلك فذكر محمد لفظ الرجاء ليعلم أن الله تفضل برفع المؤاخذة في هذا النوع بعدما كان جائز المؤاخذة عليه. والثاني: أن المؤاخذة وإن كانت منتفية عن هذا النوع قطعا لكن العلم بمراد الله تعالى من اللغو المذكور غير مقطوع به بل هو محل الاجتهاد على ما نذكر إن شاء الله تعالى -. والعلم الحاصل عن اجتهاد علم غالب الرأي وأكثر الظن لا علم القطع فاستعمل محمد لفظة الرجاء لاحتمال أن لا يكون مراد الله تعالى من اللغو المذكور ما أفضى إليه اجتهاد محمد فكان استعمال لفظ الرجاء في موضعه. وذكر الكرخي وقال: اليمين على ضربين ماض ومستقبل وهذه القسمة غير صحيحة لأن من شرط صحتها أن تكون محيطة بجميع أجزاء المقسوم به ولم يوجد بخروج الحال عنها وأنها داخلة في يمين الغموس ويمين اللغو على ما نذكر تفسيرهما فكانت القسمة ناقصة والنقصان في القسمة من عيوب القسمة كالزيادة فكانت القسمة الصحيحة ما ذكرنا لوقوعها حاصرة جميع أجزاء المقسوم بحيث لا يشذ عنها جزء وكذا ما ذكر محمد صحيح إلا أنه بين كل نوع بنفسه وحكمه دفعة واحدة ونحن أخرنا بيان الحكم عن بيان النوع سوقا للكلام على الترتيب الذي ضمناه. أما يمين الغموس فهي الكاذبة قصدا في الماضي والحال على النفي أو على الإثبات وهي الخبر عن الماضي أو الحال فعلا أو تركا متعمدا للكذب في ذلك مقرونا بذكر اسم الله تعالى نحو أن يقول: والله ما فعلت كذا وهو يعلم أنه فعله, أو يقول: والله لقد فعلت كذا وهو يعلم أنه لم يفعله, أو يقول: والله ما لهذا علي دين وهو يعلم أن له عليه دينا فهذا تفسير يمين الغموس. "وأما" يمين اللغو فقد اختلف في تفسيرها, قال أصحابنا: هي اليمين الكاذبة خطأ أو غلطا في الماضي أو في الحال وهي أن يخبر عن الماضي أو عن الحال على الظن أن المخبر به كما أخبر وهو بخلافه في النفي أو في الإثبات, نحو قوله: والله ما كلمت زيدا وفي ظنه أنه لم يكلمه, أو والله لقد كلمت زيدا وفي ظنه أنه كلمه وهو بخلافه أو قال: والله إن هذا الجائي لزيد, إن هذا الطائر لغراب وفي ظنه أنه كذلك ثم تبين بخلافه وهكذا روى ابن رستم عن محمد أنه قال: اللغو أن يحلف الرجل على الشيء وهو يرى أنه حق وليس بحق. وقال الشافعي يمين اللغو هي اليمين التي لا يقصدها الحالف وهو ما يجري على ألسن الناس في كلامهم من غير قصد اليمين من قولهم: لا والله, وبلى والله, سواء كان في الماضي أو الحال أو المستقبل. "وأما" عندنا فلا لغو في المستقبل بل اليمين على أمر في المستقبل يمين معقودة وفيها الكفارة إذا حنث, قصد اليمين أو لم يقصد وإنما اللغو في الماضي والحال فقط, وما ذكر محمد على إثر حكايته عن أبي حنيفة أن اللغو ما يجري بين الناس من قولهم لا والله وبلى والله فذلك محمول عندنا على الماضي أو الحال وعندنا ذلك لغو فيرجع حاصل الخلاف بيننا وبين الشافعي في يمين

 

ج / 3 ص -4-              لا يقصدها الحالف في المستقبل عندنا ليس بلغو وفيها الكفارة وعنده هي لغو ولا كفارة فيها. وقال بعضهم: يمين اللغو هي اليمين على المعاصي نحو أن يقول والله لا أصلي صلاة الظهر ولا أصوم صوم شهر رمضان أو لا أكلم أبوي أو يقول والله لأشربن الخمر أو لأزنين أو لأقتلن فلانا. ثم منهم من يوجب الكفارة إذا حنث في هذه اليمين ومنهم من لا يوجب. وجه قول هؤلاء أن اللغو هو الإثم في اللغة قال الله تعالى: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ} أي كلاما فيه إثم, فقالوا: إن معنى قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أي لا يؤاخذكم الله بالإثم في أيمانكم على المعاصي بنقضها والحنث فيها لأن الله تعالى جعل قوله في سورة البقرة: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} صلة قوله عز وجل: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}. وقيل في القصة إن الرجل كان يحلف أن لا يصنع المعروف ولا يبر ولا يصل أقرباءه ولا يصلح بين الناس فإذا أمر بذلك يتعلل ويقول إني حلفت على ذلك فأخبر الله تعالى بقوله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} الآية لأنه لا مأثم عليهم بنقض ذلك اليمين وتحنيث النفس فيها وإن المؤاخذة بالإثم فيها بحفظها والإصرار عليها بقوله: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} وبقوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} ثم منهم من أوجب الكفارة لقوله تعالى في هذه الآية فكفارته إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي حلفتم وحنثتم ومنهم من لم يوجب فيها الكفارة أصلا لما نذكر إن شاء الله تعالى في بيان حكم اليمين. وجه قول الشافعي ما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها سئلت عن يمين اللغو فقالت: هي أن يقول الرجل في كلامه لا والله وبلى والله وعن عطاء رضي الله عنه أنه سئل عن يمين اللغو فقال: قالت عائشة: رضي الله عنها إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هو كلام الرجل في بيته لا والله وبلى والله" فثبت موقوفا ومرفوعا أن تفسير يمين اللغو ما قلنا من غير فصل بين الماضي والمستقبل فكان لغوا على كل حال إذا لم يقصده الحالف ولأن الله تعالى قابل يمين اللغو باليمين المكسوبة بالقلب بقوله عز وجل: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} والمكسوبة هي المقصودة فكان غير المقصودة داخلا في قسم اللغو تحقيقا للمقابلة. "ولنا" قوله تعالى: {لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} قابل يمين اللغو باليمين المعقودة وفرق بينهما في المؤاخذة ونفيها فيجب أن تكون يمين اللغو غير اليمين المعقودة تحقيقا للمقابلة, واليمين في المستقبل يمين معقودة سواء وجد القصد أو لا ولأن اللغو في اللغة اسم للشيء الذي لا حقيقة له. قال الله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} أي باطلا. وقال عز وجل خبرا عن الكفرة: {وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ} وذلك فيما قلنا وهو الحلف بما لا حقيقة له بل على ظن من الحالف أن الأمر كما حلف عليه والحقيقة بخلافه وكذا ما يجري على اللسان من غير قصد لكن في الماضي أو الحال فهو مما لا حقيقة له فكان لغوا ولأن اللغو لما كان هو الذي لا حقيقة له كان هو الباطل الذي لا حكم له فلا يكون يمينا معقودة لأن لها حكما. ألا ترى أن المؤاخذة فيها ثابتة وفيها الكفارة بالنص؟ فدل أن المراد من اللغو ما قلنا وهكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير يمين اللغو هي أن يحلف الرجل على اليمين الكاذبة وهو يرى أنه صادق وبه تبين أن المراد من قول عائشة رضي الله عنها وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمين اللغو ما يجري في كلام الناس لا والله وبلى والله في الماضي لا في المستقبل, والدليل عليه أنها فسرتها بالماضي في بعض الروايات. وروي عن مطر عن رجل قال دخلت أنا وعبد الله بن عمر على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن يمين اللغو فقالت قول الرجل فعلنا والله كذا وصنعنا والله كذا فتحمل تلك الرواية على هذا توفيقا بين الروايتين إذ المجمل محمول على المفسر "وأما" قوله: إن الله سبحانه وتعالى قابل اللغو باليمين المكسوبة فنقول: في تلك الآية قابلها بالمكسوبة, وفي هذه الآية قابلها بالمعقودة, ومتى أمكن حمل الآيتين على التوافق كان أولى من الحمل على التعارض فنجمع بين حكم الآيتين فنقول: يمين اللغو التي هي غير مكسوبة وغير معقودة, والمخالف عطل إحدى الآيتين فكنا أسعد حالا منه. "وأما" قوله تعالى: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} الآية فقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ذلك نهي عن الحلف على الماضي معناه: {وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا} أي لا تحلفوا أن

 

ج / 3 ص -5-            لا تبروا ويجوز إضمار حرف لا في موضع القسم وغيره قال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى} أي لا يؤتوا ويحتمل أن تكون الآية عامة أي لا تحلفوا لكي تبروا فتجعلوا الله عرضة بالحنث بعد ذلك بترك التعظيم بترك الوفاء باليمين, يقال فلان عرضة للناس أي لا يعظمونه ويقعون فيه فيكون هذا نهيا عن الحلف بالله تعالى إذا لم يكن الحالف على يقين من الإصرار على موجب اليمين وهو البر أو غالب الرأي والله عز وجل أعلم. "وأما" اليمين المعقودة فهي اليمين على أمر في المستقبل نفيا أو إثباتا نحو قوله والله لا أفعل كذا وكذا وقوله والله لأفعلن كذا.

                                                          "فصل":
"وأما" ركن اليمين بالله تعالى فهو اللفظ الذي يستعمل في اليمين بالله تعالى وأنه مركب من المقسم عليه والمقسم به ثم المقسم به قد يكون اسما وقد يكون صفة والاسم قد يكون مذكورا وقد يكون محذوفا والمذكور قد يكون صريحا وقد يكون كناية, أما الاسم صريحا فهو أن يذكر اسما من أسماء الله تعالى أي اسم كان سواء كان اسما خاصا لا يطلق إلا على الله تعالى نحو الله والرحمن أو كان يطلق على الله تعالى وعلى غيره كالعليم والحكيم والكريم والحليم ونحو ذلك لأن هذه الأسماء وإن كانت تطلق على الخلق ولكن تعين الخالق مرادا بدلالة القسم إذ القسم بغير الله تعالى لا يجوز فكان الظاهر أنه أراد به اسم الله تعالى حملا لكلامه على الصحة إلا أن ينوي به غير الله تعالى فلا يكون يمينا لأنه نوى ما يحتمله كلامه فيصدق في أمر بينه وبين ربه. وحكي عن بشر المريسي فيمن قال والرحمن أنه إن قصد اسم الله تعالى فهو حالف وإن أراد به سورة الرحمن فليس بحالف فكأنه حلف بالقرآن وسواء كان القسم بحرف الباء أو الواو أو التاء بأن قال بالله أو تالله لأن القسم بكل ذلك من عادة العرب وقد ورد به الشرع أيضا قال الله تعالى:
{وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} وقال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وقال تعالى خبرا عن إخوة يوسف: {قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ} وقال عز وجل: {تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ} وقال عز وجل: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ} وقال عز وجل: {وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ} وقد روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليدع" إلا أن الباء هي الأصل وما سواها دخيل قائم مقامها, فقول الحالف بالله أي أحلف بالله لأن الباء حرف إلصاق وهو إلصاق الفعل بالاسم وربط الفعل بالاسم, والنحويون يسمون الباء حرف إلصاق وحرف الربط وحرف الآلة والتسبيب فإنك إذا قلت كتبت بالقلم فقد ألصقت الفعل بالاسم وربطت أحدهما بالآخر فكان القلم آلة الكتابة وسببا يتوصل به إليها فإذا قال بالله فقد ألصق الفعل المحذوف وهو قوله: احلف بالاسم وهو قوله: بالله وجعل اسم الله آلة للحلف وسببا يتوصل به إليه إلا أنه لما كثر استعمال هذه اللفظة أسقط قوله أحلف واكتفي بقوله بالله كما هو دأب العرب من حذف البعض وإبقاء البعض عند كثرة الاستعمال إذا كان فيما بقي دليل على المحذوف كما في قولهم باسم الله ونحو ذلك وإنما خفض الاسم لأن الباء من حروف الخفض والواو قائم مقامه فصار كأن الباء هو المذكور وكذا التاء قائم مقام الواو فكان الواو هو المذكور إلا أن الباء تستعمل في جميع ما يقسم به من أسماء الله وصفاته وكذا الواو. فأما التاء فإنه لا يستعمل إلا في اسم الله تعالى تقول تالله ولا تقول تالرحمن وتعزة الله تعالى لمعنى يذكر في النحو ولو لم يذكر شيئا من هذه الأدوات بأن قال الله لا أفعل كذا يكون يمينا لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حلف ركانة بن زيد أو زيد بن ركانة حين طلق امرأته ألبتة وقال: الله ما أردت بالبت إلا واحدة" وبه تبين أن الصحيح ما قاله الكوفيون وهو أن يكون بالكسر لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر الله بالكسر وهو أفصح العرب صلى الله عليه وسلم وكذا روي عن ابن عمر وغيره من الصحابة أنه سأله واحد وقال له كيف أصبحت قال: خير عافاك الله بكسر الراء ولو قال لله هل يكون يمينا لم يذكر هذا في الأصل وقالوا إنه يكون يمينا لأن الراء توضع موضع اللام يقال آمن بالله وآمن له بمعنى. قال الله تعالى في قصة فرعون: {آمَنْتُمْ لَهُ} وفي موضع آخر: {آمَنْتُمْ بِهِ} والقصة واحدة ولو قال وربي ورب العرش أو رب العالمين كان حالفا لأن هذا من الأسماء الخاصة بالله تعالى لا يطلق على غيره. "وأما" الصفة فصفات الله تعالى مع أنها كلها لذاته على ثلاثة أقسام منها ما لا يستعمل في عرف الناس وعاداتهم إلا في الصفة نفسها فالحلف بها يكون يمينا, "ومنها" ما يستعمل في الصفة وفي

 

ج / 3 ص -6-              غيرها استعمالا على السواء فالحلف بها يكون يمينا أيضا, "ومنها" ما يستعمل في الصفة وفي غيرها لكن استعمالها في غير الصفة هو الغالب فالحلف بها لا يكون يمينا, وعن مشايخنا من قال ما تعارفه الناس يمينا يكون يمينا إلا ما ورد الشرع بالنهي عنه وما لم يتعارفوه يمينا لا يكون يمينا, وبيان هذه الجملة إذا قال وعزة الله وعظمة الله وجلاله وكبريائه يكون حالفا لأن هذه الصفات إذا ذكرت في العرف والعادة لا يراد بها إلا نفسها فكان مراد الحالف بها الحلف بالله تعالى وكذا الناس يتعارفون الحلف بهذه الصفات ولم يرد الشرع بالنهي عن الحلف بها. وكذا لو قال وقدرة الله تعالى وقوته وإرادته ومشيئته ورضاه ومحبته وكلامه يكون حالفا لأن هذه الصفات وإن كانت تستعمل في غير الصفة كما تستعمل في الصفة لكن الصفة تعينت مرادة بدلالة القسم إذ لا يجوز القسم بغير اسم الله تعالى وصفاته فالظاهر إرادة الصفة بقرينة القسم وكذا الناس يقسمون بها في المتعارف فكان الحلف بها يمينا, ولو قال ورحمة الله أو غضبه أو سخطه لا يكون هذا يمينا لأنه يراد بهذه الصفات آثارها عادة لا نفسها فالرحمة يراد بها الجنة قال الله تعالى: {فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} والغضب والسخط يراد به أثر الغضب والسخط عادة وهو العذاب والعقوبة لا نفس الصفة فلا يصير به حالفا إلا إذا نوى به الصفة. وكذا العرب ما تعارفت القسم بهذه الصفات فلا يكون الحلف بها يمينا وكذا وعلم الله لا يكون يمينا استحسانا والقياس أن يكون يمينا وهو قول الشافعي لأن علم الله تعالى صفة كالعزة والعظمة. "ولنا" أنه يراد به المعلوم عادة يقال اللهم اغفر لنا علمك فينا أي معلومك منا ومن زلاتنا ويقال هذا علم أبي حنيفة أي معلومه لأن علم أبي حنيفة قائم بأبي حنيفة لا يزايله, ومعلوم الله تعالى قد يكون غير الله تعالى من العالم بأعيانها وأعراضها والمعدومات كلها لأن المعدوم معلوم فلا يكون الحلف به يمينا إلا إذا أراد به الصفة. وكذا العرب لم تتعارف القسم بعلم الله تعالى فلا يكون يمينا بدون النية. وسئل محمد عمن قال وسلطان الله فقال لا أرى من يحلف بهذا أي لا يكون يمينا وذكر القدوري أنه إن أراد بالسلطان القدرة يكون حالفا كما لو قال وقدرة الله وإن أراد المقدور لا يكون حالفا لأنه حلف بغير الله ولو قال وأمانة الله ذكر في الأصل أنه يكون يمينا وذكر ابن سماعة عن أبي يوسف أنه لا يكون يمينا وذكر الطحاوي عن أصحابنا جميعا أنه ليس بيمين. وجه ما ذكره الطحاوي أن أمانة الله فرائضه التي تعبد عباده بها من الصلاة والصوم وغير ذلك قال الله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإنْسَانُ} فكان حلفا بغير اسم الله عز وجل فلا يكون يمينا. "وجه" ما ذكره في الأصل أن الأمانة المضافة إلى الله تعالى عند القسم يراد بها صفته ألا ترى أن الأمين من أسماء الله تعالى وأنه اسم مشتق من الأمانة؟ فكان المراد بها عند الإطلاق خصوصا في موضع القسم صفة الله ولو قال وعهد الله فهو يمين لأن العهد يمين لما يذكر فصار كأنه قال ويمين الله وذلك يمين فكذا هذا. ولو قال باسم الله لا أفعل كذا يكون يمينا كذا روي عن محمد لأن الاسم والمسمى واحد عند أهل السنة والجماعة فكان الحلف بالاسم حلفا بالذات كأنه قال بالله, ولو قال ووجه الله فهو يمين كذا روى ابن سماعة عن أبي يوسف عن أبي حنيفة لأن الوجه المضاف إلى الله تعالى يراد به الذات قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي ذاته. وقال عز وجل: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإكْرَامِ} أي ذاته وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة أن الرجل إذا قال ووجه الله لا أفعل كذا ثم فعل أنها ليست بيمين. وقال ابن شجاع إنها ليست من أيمان الناس إنما هي حلف السفلة, وروى المعلى عن محمد إذا قال لا إله إلا الله لا أفعل كذا وكذا لا يكون يمينا إلا أن ينوي يمينا. وكذا قوله سبحان الله والله أكبر لا أفعل كذا لأن العادة ما جرت بالقسم بهذا اللفظ وإنما يذكر هذا قبل الخبر على طريق التعجب فلا يكون يمينا إلا إذا نوى اليمين فكأنه حذف حرف القسم فيكون حالفا وعن محمد فيمن قال وملكوت الله وجبروت الله إنه يمين لأنه من صفاته التي لا تستعمل إلا في الصفة فكان الحلف به يمينا كقوله وعظمة الله وجلاله وكبريائه. ولو قال وعمر الله لا أفعل كذا كان يمينا لأن هذا حلف ببقاء الله وهو لا يستعمل إلا في الصفة وكذا الحلف به متعارف قال الله عز وجل: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} وقال طرفة

 

ج / 3 ص -7-                            لعمرك إن الموت ما أخطأ الفتى      لك الطول المرجى وتبناه باليد

ولو قال وايم الله لا أفعل كذا كان يمينا لأن هذا من صلات اليمين عند البصريين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في زيد بن حارثة رضي الله عنه حين أمره في حرب مؤتة وقد بلغه الطعن: "وايم الله لخليق للإمارة" وعند الكوفيين هو جمع اليمين تقديره وأيمن الله إلا أن النون أسقطت عند كثرة الاستعمال للتخفيف كما في قوله تعالى: {حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} والأيمن جمع يمين فكأنه قال ويمين الله وإنه حلف بالله تعالى لأن العرب تعارفته يمينا قال امرؤ القيس:

فقلت يمين الله أبرح قاعدا             وإن قطعت رأسي لديك وأوصالي

حلفت لها بالله حلفة فاجر             لناموا فما إن من حديث ولا صالي.

وقالت عنيزة:

فقالت يمين الله ما لك حيلة               وما أن أرى عنك الغواية تنجلي

  فقد استعمل امرؤ القيس يمين الله وسماه حلفا بالله. ولو قال وحق الله لا يكون حالفا في قول أبي حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف وروي عنه رواية أخرى أنه يكون يمينا ووجهه أن قوله وحق الله وإن كان إضافة الحق إلى الله تعالى لكن الشيء قد يضاف إلى نفسه في الجملة والحق من أسماء الله تعالى فكأنه قال والله الحق, ولهما أن الأصل أن يضاف الشيء إلى غيره لا إلى نفسه فكان حلفا بغير الله تعالى فلا يكون يمينا ولأن الحق المضاف إلى الله تعالى يراد به الطاعات والعبادات لله تعالى في عرف الشرع ألا ترى أنه "سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل له ما حق الله على عباده فقال أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا" والحلف بعبادة الله وطاعته لا يكون يمينا ولو قال والحق يكون يمينا لأن الحق من أسماء الله تعالى قال الله تعالى: {وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ} وقيل إن نوى به اليمين يكون يمينا وإلا فلا لأن اسم الحق كما يطلق على الله تعالى يطلق على غيره فيقف على النية ولو قال حقا, لا رواية فيه واختلف المشايخ قال محمد بن سلمة لا يكون يمينا لأن قوله حقا بمنزلة قوله صدقا وقال أبو مطيع هو يمين لأن الحق من أسماء الله تعالى فقوله حقا كقوله والحق. ولو قال أقسم بالله أو أحلف أو أشهد بالله أو أعزم بالله كان يمينا عندنا وعند الشافعي لا يكون يمينا إلا إذا نوى اليمين لأنه يحتمل الحال ويحتمل الاستقبال فلا بد من النية "ولنا" أن صيغة أفعل للحال حقيقة وللاستقبال بقرينة السين وسوف وهو الصحيح فكان هذا إخبارا عن حلفه بالله للحال وهذا إذا ظهر المقسم به فإن لم يظهر بأن قال أقسم أو أحلف أو أشهد أو أعزم كان يمينا في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يكون يمينا. "وجه" قوله إنه إذا لم يذكر المحلوف به فيحتمل أنه أراد به الحلف بالله ويحتمل أنه أراد به الحلف بغير الله تعالى فلا يجعل حلفا مع الشك. "ولنا" أن القسم لما لم يجز إلا بالله عز وجل كان الإخبار عنه إخبارا عما لا يجوز بدونه كما في قوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا} ونحو ذلك ولأن العرب تعارفت الحلف على هذا الوجه قال الله تعالى: {يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ} ولم يقل بالله وقال سبحانه وتعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} فالله سبحانه وتعالى سماه يمينا بقوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} وقال تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} ولم يذكر بالله ثم سماه قسما والقسم لا يكون إلا بالله تعالى في عرف الشرع واستدل محمد بقوله: {وَلا يَسْتَثْنُونَ} فقال أفيكون الاستثناء إلا في اليمين؟ وفيه نظر لأن الاستثناء لا يستدعي تقدم اليمين لا محالة وإنما يستدعي الإخبار عن أمر يفعله في المستقبل كما قال تعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} وقوله أعزم معناه أوجب فكان إخبارا عن الإيجاب في الحال وهذا معنى اليمين وكذا لو قال عزمت لا أفعل كذا كان حالفا وكذا لو قال آليت لا أفعل كذا لأن الألية هي اليمين وكذا لو قال علي نذر أو نذر الله فهو يمين لقوله صلى الله عليه وسلم "من نذر وسمى فعليه الوفاء بما سمى ومن نذر ولم يسم فعليه كفارة يمين". وقال صلى الله عليه وسلم: "النذر يمين وكفارته كفارة اليمين" وروي أن عبد الله بن الزبير قال لتنتهين عائشة عن بيع رباعها أو لأحجرن عليها فبلغ ذلك عائشة فقالت: أوقال ذلك؟ قالوا: نعم: فقالت: لله علي نذر إن كلمته أبدا فأعتق عن يمينها عبدا وكذا قوله علي يمين أو يمين الله في قول

ج / 3 ص -8-            أصحابنا الثلاثة. وقال زفر له علي يمين لا يكون يمينا. "وجه" قوله على ما ذكرنا فيما تقدم أن اليمين قد يكون بالله وقد يكون بغير الله تعالى فلا ينعقد يمينا بالشك. "ولنا" أن قوله علي يمين أي يمين الله إذ لا يجوز اليمين بغير الله تعالى وقوله يمين الله دون قوله علي يمين فكيف معه؟ أو يقال معنى قوله علي يمين أو يمين الله أي علي موجب يمين الله إلا أنه حذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه طلبا للتخفيف عند كثرة الاستعمال ولو قال علي عهد الله أو ذمة الله أو ميثاقه فهو يمين لأن اليمين بالله تعالى هي عهد الله على تحقيق أو نفيه ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ} ثم قال سبحانه وتعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} وجعل العهد يمينا, والذمة هي العهد ومنه أهل الذمة أي أهل العهد والميثاق والعهد من الأسماء المترادفة وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "كان إذا بعث جيشا قال في وصيته إياهم وإن أرادوكم أن تعطوهم ذمة الله وذمة رسوله فلا تعطوهم" أي عهد الله وعهد رسوله ولو قال إن فعل كذا فهو يهودي أو نصراني أو مجوسي أو بريء عن الإسلام أو كافر أو يعبد من دون الله أو يعبد الصليب أو نحو ذلك مما يكون اعتقاده كفرا فهو يمين استحسانا والقياس أنه لا يكون يمينا وهو قول الشافعي. وجه القياس أنه علق الفعل المحلوف عليه بما هو معصية فلا يكون حالفا كما لو قال إن فعل كذا فهو شارب خمرا أو آكل ميتة. وجه الاستحسان أن الحلف بهذه الألفاظ متعارف بين الناس فإنهم يحلفون بها من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا من غير نكير ولو لم يكن ذلك حلفا لما تعارفوا لأن الحلف بغير الله تعالى معصية فدل تعارفهم على أنهم جعلوا ذلك كناية عن الحلف بالله عز وجل وإن لم يعقل. وجه الكناية فيه كقول العرب لله علي أن أضرب ثوبي حطيم الكعبة إن ذلك جعل كناية عن التصدق في عرفهم وإن لم يعقل وجه الكناية فيه كذا هذا, هذا إذا أضاف اليمين إلى المستقبل فأما إذا أضاف إلى الماضي بأن قال هو يهودي أو نصراني إن فعل كذا لشيء قد فعله فهذا يمين الغموس بهذا اللفظ ولا كفارة فيه عندنا لكنه هل يكفر؟ لم يذكر في الأصل وعن محمد بن مقاتل الرازي أنه يكفر لأنه علق الكفر بشيء يعلم أنه موجود فصار كأنه قال هو كافر بالله وكتب نصر بن يحيى إلى ابن شجاع يسأله عن ذلك فقال لا يكفر وهكذا روي عن أبي يوسف أنه لا يكفر وهو الصحيح لأنه ما قصد به الكفر ولا اعتقده وإنما قصد به ترويح كلامه وتصديقه فيه ولو قال عصيت الله إن فعلت كذا أو عصيته في كل ما افترض علي فليس بيمين لأن الناس ما اعتادوا الحلف بهذه الألفاظ. ولو قال هو يأكل الميتة أو يستحل الدم أو لحم الخنزير أو يترك الصلاة والزكاة إن فعل كذا فليس شيء من ذلك يمينا لأنه ليس بإيجاب بل هو إخبار عن فعل المعصية في المستقبل بخلاف قوله هو يهودي أو نحوه لأن ذلك إيجاب في الحال وكذلك لو دعا على نفسه بالموت أو عذاب النار بأن قال عليه عذاب الله إن فعل كذا أو قال أماته الله إن فعل كذا لأن هذا ليس بإيجاب بل دعاء على نفسه ولا يحلف بالآباء والأمهات والأبناء ولو حلف بشيء من ذلك لا يكون يمينا لأنه حلف بغير الله تعالى والناس وإن تعارفوا الحلف بهم لكن الشرع نهى عنه وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر" وروي عنه أنه قال صلى الله عليه وسلم "من حلف بغير الله فقد أشرك" ولأن هذا النوع من الحلف لتعظيم المحلوف وهذا النوع من التعظيم لا يستحقه إلا الله تعالى. ولو قال ودين الله أو طاعته أو شرائعه أو أنبيائه وملائكته أو عرشه لم يكن يمينا لأنه ومن الناس من قال الحلف بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام وغيرهم يمين وهذا غير سديد للحديث ولأنه حلف بغير الله فلا يكون قسما كالحلف بالكعبة كذا لو قال وبيت الله أو حلف بالكعبة أو بالمشعر الحرام أو بالصفا أو بالمروة أو بالصلاة أو الصوم أو الحج لأن كل ذلك حلف بغير الله عز وجل وكذا الحلف بالحجر الأسود والقبر والمنبر لما قلنا ولا يحلف بالسماء ولا بالأرض ولا بالشمس ولا بالقمر والنجوم ولا بكل شيء سوى الله تعالى وصفاته العلية لما قلنا وقد قال أبو حنيفة لا يحلف إلا بالله متجردا بالتوحيد والإخلاص. ولو قال وعبادة وحمد الله فليس بيمين لأنه حلف بغير الله ألا ترى أن العبادة والحمد فعلك. ولو قال بالقرآن أو بالمصحف أو بسورة كذا من القرآن فليس بيمين لأنه حلف بغير الله تعالى "وأما" المصحف فلا شك فيه وأما

 

ج / 3 ص -9-            القرآن وسورة كذا فلأن المتعارف من اسم القرآن الحروف المنظومة والأصوات المقطعة بتقطيع خاص لا كلام الله الذي هو صفة أزلية قائمة بذاته تنافي السكوت والآفة. ولو قال بحدود الله لا يكون يمينا كذا ذكر في الأصل واختلفوا في المراد بحدود الله قال بعضهم يراد به الحدود المعروفة من حد الزنا والسرقة الشرب والقذف. وقال بعضهم يراد بها الفرائض مثل الصوم والصلاة وغيرهما وكل ذلك حلف بغير الله تعالى فلا يكون يمينا وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت ولا بحد من حدود الله ولا تحلفوا إلا بالله ومن حلف له بالله فليرض ومن لم يرض فليس منا" ولو قال عليه غضب الله أو سخطه أو لعنته إن فعل كذا لم يكن يمينا لأنه دعاء على نفسه بالعذاب والعقوبة والطرد عن الرحمة فلا يكون حالفا كما لو قال عليه عذاب الله وعقابه وبعده عن رحمته ومن مشايخنا بالعراق من قال في تخريجه القسم بالصفات: أن الصفات على ضربين صفة للذات وصفة للفعل وفصل بينهما بالنفي والإثبات وهو أن ما يثبت ولا ينفى فهو صفة للذات كالعلم والقدرة ونحوهما وما يثبت وينفى فهو صفة الفعل كالتكوين والإحياء والرزق ونحو ذلك, وجعل الرحمة والغضب من صفات الفعل فجعل صفة الذات قديمة وصفة الفعل حادثة فقال الحلف بصفة الذات يكون حلفا بالله فيكون يمينا, والحلف بصفة الفعل يكون حلفا بغير الله تعالى فلا يكون يمينا والقول بحدوث صفات الفعل مذهب المعتزلة والأشعرية إلا أنهم اختلفوا في الحد الفاصل بين الصفتين ففصلت المعتزلة بما ذكره هذا القائل من النفي والإثبات والأشعرية فصلت بلزوم النقيصة وعدم اللزوم وهو أنه ما يلزم بنفيه نقيصة فهو من صفات الذات وما لا يلزم بنفيه نقيصة فهو من صفات الفعل مع اتفاق الفريقين على حدوث صفات الفعل. وإنما اختلفت عباراتهم في التحديد لأجل الكلام, فكلام الله تعالى محدث عند المعتزلة لأنه ينفى ويثبت فكان من صفات الفعل فكان حادثا وعند الأشعرية أزلي لأنه يلزم بنفيه نقيصة فكان من صفات الذات فكان قديما, ومذهبنا وهو مذهب أهل السنة والجماعة أن صفات الله أزلية والله تعالى موصوف بها في الأزل سواء كانت راجعة إلى الذات أو إلى الفعل فهذا التخريج وقع معدولا به عن مذهب أهل السنة والجماعة وإنما الطريقة الصحيحة والحجة المستقيمة في تخريج هذا النوع من المسائل ما سلكنا والله تعالى الموفق للسداد والهادي إلى سبيل الرشاد وهذا الذي ذكرنا إذا ذكر اسم الله تعالى في القسم مرة واحدة فأما إذا كرر فجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو إما أن ذكر المقسم به وهو اسم الله تعالى ولم يذكر المقسم عليه حتى ذكر اسم الله تعالى ثانيا ثم ذكر المقسم عليه "وأما" إن ذكرهما جميعا ثم أعادهما جميعا وكل ذلك لا يخلو من أن يكون بحرف العطف أو يكون بدونه. فإن ذكر اسم الله تعالى ولم يذكر المقسم عليه حتى كرر اسم الله تعالى ثم ذكر المقسم عليه فإن لم يدخل بين الاسمين حرف العطف كان يمينا واحدة بلا خلاف سواء كان الاسم مختلفا أو متفقا فالمختلف نحو أن يقول والله الرحمن ما فعلت كذا وكذا لأنه لم يذكر حرف العطف, والثاني يصلح صفة للأول علم أنه أراد به الصفة فيكون حالفا بذات موصوف لا باسم الذات على حدة وباسم الصفة على حدة, والمتفق نحو أن يقول: الله والله ما فعلت كذا لأن الثاني لا يصلح نعتا للأول ويصلح تكريرا وتأكيدا له فيكون يمينا واحدة إلا أن ينوي به يمينين ويصير قوله: الله ابتداء يمين بحذف حرف القسم وأنه قسم صحيح على ما بينا فيما تقدم. وإن أدخل بين القسمين حرف عطف بأن قال: والله والرحمن لا أفعل كذا, ذكر محمد في الجامع أنهما يمينان, وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة, وأبي يوسف, وروى الحسن بن زياد عن أبي حنيفة, أنه يكون يمينا واحدة وبه أخذ زفر وقد روي هذا أيضا عن أبي يوسف في غير رواية الأصول. وجه رواية المذكور في الجامع أنه لما عطف أحد الاسمين على الآخر فكان الثاني غير الأول لأن المعطوف غير المعطوف عليه فكان كل واحد منهما يمينا على حدة بخلاف ما إذا لم يعطف لأنه إذا لم يعطف أحدهما على الآخر يجعل الثاني صفة للأول لأنه يصلح صفة لأن الاسم يختلف ولهذا يستحلف القاضي بالأسماء والصفات من غير حرف العطف فيقول والله الرحمن الرحيم الطالب المدرك ولا يجوز أن يستحلف مع حرف العطف لأنه ليس على المدعى عليه إلا يمين واحدة. وجه رواية

 

ج / 3 ص -10-         الحسن أن حرف العطف قد يستعمل للاستئناف وقد يستعمل للصفة فإنه يقال فلان العالم والزاهد والجواد والشجاع فاحتمل المغايرة واحتمل الصفة فلا تثبت يمين أخرى مع الشك والحاصل أن أهل اللغة اختلفوا في هذه المسألة في أن هذا يكون يمينا واحدة أو يكون يمينين, ولقب المسألة أن إدخال القسم على القسم قبل تمام الكلام هل يجوز؟ قال بعضهم: لا يجوز وهو قول أبي علي الفسوي والخليل حتى حكى سيبويه عن الخليل أن قوله عز وجل: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى} يمين واحدة. وقال بعضهم: يجوز وهو قول الزجاج والفراء حتى قال الزجاج إن قوله عز وجل: {ص} قسم, وقوله عز وجل: {وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ} قسم آخر, والحجج وتعريف ترجيح أحد القولين على الآخر تعرف في كتب النحو, وقد قيل في ترجيح القول الأول على الثاني إنا إذا جعلناهما يمينا واحدة لا نحتاج إلى إدراج جواب آخر بل يصير قوله لا أفعل مقسما عليه بالاسمين جميعا ولو جعلنا كل واحد منهما قسما على حدة لاحتجنا إلى إدراج ذكر المقسم عليه لأحد الاسمين فيصير كأنه قال والله والله لا أفعل كذا فعلى قياس ما ذكر محمد في الجامع يكون يمينين, وروى محمد في النوادر أنه يمين واحدة كأنه استحسن, وحمله على التكرار لتعارف الناس, وهكذا ذكر في المنتقى عن محمد أنه إذا قال والله والله والله لا أفعل كذا القياس أن يكون ثلاثة أيمان بمنزلة قوله والله والرحمن والرحيم وفيه قبح وينبغي في الاستحسان أن يكون يمينا واحدة هكذا ذكر, ولو قال والله والله لا أفعل كذا ذكر محمد أن القياس أن يكون عليه كفارتان ولكنى أستحسن فأجعل عليه كفارة واحدة وهذا كله في الاسم المتفق, ترك محمد القياس وأخذ بالاستحسان لمكان العرف لما زعم أن معاني كلام الناس عليه, هذا إذا ذكر المقسم به ولم يذكر, المقسم عليه حتى ذكر اسم الله ثانيا. فأما إذا ذكرهما جميعا ثم أعادهما فإن كان بحرف العطف بأن قال والله لا أفعل كذا والرحمن لا أفعل كذا أو قال والله لا أفعل كذا والله لا أفعل كذا فلا شك أنهما يمينان سواء كان ذلك في مجلسين أو في مجلس واحد حتى لو فعل كان عليه كفارتان وكذا لو أعادهما بدون حرف العطف بأن قال والله لا أفعل كذا وقال والله لا أفعل كذا لأنه لما أعاد المقسم عليه مع الاسم الثاني علم أنه أراد به يمينا أخرى إذ لو أراد الصفة أو التأكيد لما أعاد المقسم عليه, ولو قال والله لا أفعل كذا أو قال والله لا أفعل كذا. وقال أردت بالثاني الخبر عن الأول ذكر الكرخي أنه يصدق لأن الحكم المتعلق باليمين بالله تعالى هو وجوب الكفارة وأنه أمر بينه وبين الله تعالى ولفظه محتمل في الجملة وإن كان خلاف الظاهر فكان مصدقا فيما بينه وبين الله عز وجل وروي عن أبي حنيفة أنه لا يصدق فإن المعلى روى عن أبي يوسف أنه قال: في رجل حلف في مقعد واحد بأربعة أيمان أو أكثر أو بأقل فقال أبو يوسف: سألت أبا حنيفة عن ذلك فقال لكل يمين كفارة, ومقعد واحد ومقاعد مختلفة واحد فإن قال: عنى بالثانية الأولى لم يصدق في اليمين بالله تعالى ويصدق في اليمين بالحج والعمرة والفدية وكل يمين قال فيها علي كذا والفرق أن الواجب في اليمين القرب في لفظ الحالف؛ لأن لفظه يدل على الوجوب وهو قوله علي كذا وصيغة هذا صيغة الخبر فإذا أراد بالثانية الخبر عن الأول صح بخلاف اليمين بالله تعالى فإن الواجب في اليمين بالله تعالى ليس في لفظ الحالف لأن لفظه لا يدل على الوجوب وإنما يجب بحرمة اسم الله وكل يمين منفردة بالاسم فينفرد بحكمها فلا يصدق أنه أراد بالثانية الأولى. وروي عن محمد أنه قال في رجل: قال: هو يهودي إن فعل كذا وهو نصراني إن فعل كذا وهو مجوسي إن فعل كذا وهو مشرك إن فعل كذا لشيء واحد قال: عليه لكل شيء من ذلك يمين. ولو قال: هو يهودي هو نصراني هو مجوسي هو مشرك فهو يمين واحدة وهذا على الأصل الذي ذكرنا أنه إذا ذكر المقسم به مع المقسم عليه ثم أعاده فالثاني غير الأول في قولهم جميعا وإذا ذكر المقسم به وكرره من غير حرف العطف فهو يمين واحدة في قولهم جميعا. 

                                                               "فصل":
 "وأما" شرائط ركن اليمين بالله تعالى فأنواع بعضها يرجع إلى الحالف, وبعضها يرجع إلى المحلوف عليه, وبعضها يرجع إلى نفس الركن, أما الذي يرجع إلى الحالف فأنواع منها: أن يكون عاقلا بالغا فلا يصح يمين الصبي والمجنون وإن كان عاقلا؛ لأنها تصرف إيجاب وهما ليسا من أهل الإيجاب ولهذا لم يصح نذرهما, "ومنها" أن يكون مسلما

 

ج / 3 ص -11-         فلا يصح يمين الكافر وهذا عندنا وعند الشافعي ليس بشرط حتى لو حلف الكافر على يمين ثم أسلم فحنث فلا كفارة عليه عندنا وعنده تجب الكفارة إلا أنه إذا حنث في حال الكفر لا تجب عليه الكفارة بالصوم بل بالمال. وجه قوله: إن الكافر من أهل اليمين بالله تعالى بدليل أنه يستحلف في الدعاوى والخصومات وكذا يصح إيلاؤه ولو لم يكن أهلا لما انعقد كإيلاء الصبي والمجنون. وكذا هو من أهل اليمين بالطلاق والعتاق فكان من أهل اليمين بالله تعالى كالمسلم بخلاف الصبي والمجنون. "ولنا" أن الكفارة عبادة والكافر ليس من أهلها. والدليل على أن الكفارة عبادة أنها لا تتأدى بدون النية وكذا لا تسقط بأداء الغير عنه وهما حكمان مختصان بالعبادات إذ غير العبادة لا تشترط فيه النية ولا يختص سقوطه بأداء من عليه كالديون ورد المغصوب ونحوها والدليل عليه أن للصوم فيها مدخلا على وجه البدل وبدل العبادة يكون عبادة والكافر ليس من أهل العبادات فلا تجب بيمينه الكفارة فلا تنعقد يمينه كيمين الصبي والمجنون وإنما يستحلف في الدعاوى لأن المقصود من الاستحلاف التحرج عن الكذب كالمسلم فاستويا فيه وإنما يفارق المسلم فيما هو عبادة وهكذا نقول في الإيلاء إنه لا يصح في حق وجوب الكفارة؛ لأن الإيلاء يتضمن حكمين: وجوب الكفارة على تقدير القربان, ووقوع الطلاق بعد انقضاء المدة إذا لم يقربها في المدة, والكفارة حق الله تعالى فلا يؤاخذ به الكافر, والطلاق حق العبد فيؤاخذ به. "وأما" الحرية فليست بشرط فتصح يمين المملوك إلا أنه لا يجب عليه للحال الكفارة بالمال؛ لأنه لا ملك له وإنما يجب عليه التكفير بالصوم وللمولى أن يمنعه من الصوم وكذا كل صوم وجب بمباشرة سبب الوجوب من العبد كالصوم المنذور به؛ لأن المولى يتضرر بصومه والعبد لا يملك الإضرار بالمولى ولو أعتق قبل أن يصوم يجب عليه التكفير بالمال؛ لأنه استفاد أهلية الملك بالعتق وكذا الطواعية ليست بشرط عندنا فيصح من المكره؛ لأنها من التصرفات التي لا تحتمل الفسخ فلا يؤثر فيه الإكراه كالطلاق والعتاق والنذر وكل تصرف لا يحتمل الفسخ. وعند الشافعي شرط وهي من مسائل الإكراه وكذا الجد والعمد فتصح من الخاطئ والهازل عندنا خلافا للشافعي."وأما" الذي يرجع إلى المحلوف عليه فهو أن يكون متصور الوجود حقيقة عند الحلف هو شرط انعقاد اليمين على أمر في المستقبل وبقاؤها أيضا متصور الوجود حقيقة بعد اليمين شرط بقاء اليمين حتى لا ينعقد اليمين على ما هو مستحيل الوجود حقيقة ولا يبقى إذا صار بحال يستحيل وجوده, وهذا قول أبي حنيفة ومحمد وزفر وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط لانعقاد اليمين ولا لبقائها وإنما الشرط أن تكون اليمين على أمر في المستقبل "وأما" كونه متصور الوجود عادة فهل هو شرط انعقاد اليمين ؟. قال أصحابنا الثلاثة: ليس بشرط فينعقد على ما يستحيل وجوده عادة بعد أن كان لا يستحيل وجوده حقيقة. وقال زفر: هو شرط لا تنعقد اليمين بدونه وبيان هذه الجملة إذا قال: والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز فإذا لا ماء فيه لم تنعقد اليمين في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر لعدم شرط الانعقاد وهو تصور شرب الماء الذي حلف عليه وعند أبي يوسف تنعقد لوجود الشرط وهو الإضافة إلى أمر في المستقبل وإن كان يعلم أنه لا ماء فيه تنعقد عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا تنعقد وهو رواية عن أبي حنيفة أنه لا تنعقد علم أو لم يعلم وعلى هذا الخلاف إذا وقت وقال والله لأشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم ولا ماء في الكوز أنه لا تنعقد عند أبي حنيفة ومحمد وزفر وعند أبي يوسف تنعقد وعلى هذا الخلاف إذا قال والله لأقتلن فلانا وفلان ميت وهو لا يعلم بموته أنه لا تنعقد عندهم خلافا لأبي يوسف وإن كان عالما بموته تنعقد عندهم خلافا لزفر. ولو قال والله لأمسن السماء أو لأصعدن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا تنعقد عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر لا تنعقد, أما الكلام مع أبي يوسف فوجه قوله: إن الحالف جعل شرط عدم حنثه القتل والشرب في المطلق وفي الموقت عدم الشرب في المدة وقد تأكد العدم فتأكد شرط الحنث فيحنث كما في قوله والله لأمسن السماء أو لأحولن هذا الحجر ذهبا ولهما أن اليمين تنعقد للبر؛ لأن البر هو موجب اليمين وهو المقصود الأصلي من اليمين أيضا؛ لأن الحالف بالله تعالى يقصد بيمينه تحقيق البر والوفاء بما عهد وإنجاز ما وعد ثم

 

ج / 3 ص -12-           الكفارة تجب لدفع الذنب الحاصل بتفويت البر وهو الحنث فإذا لم يكن البر متصور الوجود حقيقة لا يتصور الحنث فلم يكن في انعقاد اليمين فائدة فلا تنعقد والدليل على أن البر غير متصور الوجود من هذه اليمين حقيقة أنه إذا كان عنده أن في الكوز ماء وأن الشخص حي فيمينه تقع على الماء الذي كان فيه وقت اليمين وعلى إزالة حياة قائمة وقت اليمين والله تعالى وإن كان قادرا على خلق الماء في الكوز ولكن هذا المخلوق لا يكون ذلك الماء الذي وقعت يمينه عليه وفي مسألة القتل زالت تلك الحياة على وجه لا يتصور عودها بخلاف ما إذا كان عالما بذلك؛ لأنه إذا كان عالما به فإنما انعقد يمينه على ماء آخر يخلقه الله تعالى وعلى حياة أخرى يحدثها الله تعالى إلا أن ذلك على نقض العادة فكان العجز عن تحقيق البر ثابتا عادة فيحنث بخلاف قوله والله لأمسن السماء ونحوه لأن هناك البر متصور الوجود في نفسه حقيقة بأن يقدره الله تعالى على ذلك كما أقدر الملائكة وغيرهم من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا أنه عاجز عن ذلك عادة فلتصور وجوده حقيقة انعقدت وللعجز عن تحقيقه عادة حنث ووجبت الكفارة "وأما" الكلام مع زفر في اليمين على مس السماء ونحوه فهو يقول المستحيل عادة يلحق بالمستحيل حقيقة وفي المستحيل حقيقة لا تنعقد كذا في المستحيل عادة, "ولنا" أن اعتبار الحقيقة والعادة واجب ما أمكن وفيما قلناه اعتبار الحقيقة والعادة جميعا وفيما قاله اعتبار العادة وإهدار الحقيقة فكان ما قلناه أولى ولو قال والله لأمسن السماء اليوم يحنث في آخر اليوم عند أبي حنيفة ومحمد وفي قياس قول أبي يوسف أنه يحنث في الحال وقد روي عن أبي يوسف ما يدل عليه فإنه قال في رجل حلف ليشربن ماء دجلة كله اليوم قال أبو حنيفة لا يحنث حتى يمضي اليوم. وقال أبو يوسف يحنث الساعة فإن قال في يمينه غدا لم يحنث حتى يمضي اليوم في قول أبي حنيفة لأن الانعقاد يتعلق بآخر اليوم عنده. فأما أبو يوسف فقال يحنث في أول جزء من أجزاء الغد لأن شرط البر غير منتظر فكأنه قال لها أنت طالق في غد والله عز وجل أعلم  هذا إذا لم يكن المحلوف عليه متصور الوجود حقيقة أو عادة وقت اليمين حتى انعقدت اليمين بلا خلاف ثم فات فالحلف لا يخلو إما أن يكون مطلقا عن الوقت "وأما" أن يكون موقتا بوقت وكل ذلك لا يخلو إما أن يكون في الإثبات أو في النفي فإن كان مطلقا في الإثبات بأن قال والله لآكلن هذا الرغيف أو لأشربن الماء الذي في هذا الكوز أو لأدخلن هذه الدار أو لآتين البصرة فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين لا يحنث لأن الحنث في اليمين المطلقة يتعلق بفوات البر في جميع البر فما داما قائمين لا يقع اليأس عن تحقيق البر فلا يحنث فإذا هلك أحدهما يحنث لوقوع العجز عن تحقيقه غير أنه إذا هلك المحلوف عليه يحنث وقت هلاكه وإذا هلك الحالف يحنث في آخر جزء من أجزاء حياته لأن الحنث في الحالين بفوات البر. ووقت فوات البر في هلاك المحلوف عليه وقت هلاكه, وفي هلاك الحالف آخر جزء من أجزاء حياته وإن كان في النفي بأن قال والله لا آكل هذا الرغيف أو لا أشرب الماء الذي في هذا الكوز فلم يأكل ولم يشرب الماء حتى هلك أحدهما فقد بر في يمينه لوجود شرط البر وهو عدم الأكل والشرب, وإن كان موقتا بوقت فالوقت نوعان موقت نصا وموقت دلالة أما الموقت نصا فإن كان في الإثبات بأن قال والله لآكلن هذا الرغيف اليوم أو لأشربن هذا الماء الذي في هذا الكوز اليوم أو لأدخلن هذه الدار ونحو ذلك فما دام الحالف والمحلوف عليه قائمين والوقت قائما لا يحنث لأن البر في الوقت مرجو فتبقى اليمين وإن كان الحالف والمحلوف عليه قائمين ومضى الوقت يحنث في قولهم جميعا لأن اليمين كانت مؤقتة بوقت فإذا لم يفعل المحلوف عليه حتى مضى الوقت وقع اليأس عن فعله في الوقت ففات البر عن الوقت فيحنث. وإن هلك الحالف في الوقت والمحلوف عليه قائم فمضى الوقت لا يحنث بالإجماع لأن الحنث في اليمين المؤقتة بوقت يقع في آخر أجزاء الوقت وهو ميت في ذلك الوقت والميت لا يوصف بالحنث وإن هلك المحلوف عليه والحالف قائم والوقت باق فيبطل اليمين في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر وعند أبي يوسف لا تبطل ويحنث واختلفت الرواية عنه في وقت الحنث أنه يحنث للحال أو عند غروب الشمس روي عنه أنه يحنث عند غروب الشمس وروي عنه أنه يحنث للحال, قيل: وهو الصحيح من مذهبه وإن كان

 

ج / 3 ص -13-         في النفي فمضى الوقت والحالف والمحلوف عليه قائمان فقد بر في يمينه لوجود شرط البر وكذلك إن هلك الحالف والمحلوف عليه في الوقت لما قلنا وإن فعل المحلوف عليه في الوقت حنث لوجود شرط الحنث وهو الفعل في الوقت والله عز وجل أعلم. "وأما" الموقت دلالة فهو المسمى يمين الفور وأول من اهتدى إلى جوابها أبو حنيفة ثم كل من سمعه استحسنه وما رآه المؤمنون حسنا فهو عند الله حسن وهو أن يكون اليمين مطلقا عن الوقت نصا, ودلالة الحال تدل على تقييد الشرط بالفور بأن خرج جوابا لكلام أو بناء على أمر نحو أن يقول لآخر: تعال تغد معي, فقال: والله لا أتغدى فلم يتغد معه ثم رجع إلى منزله فتغدى لا يحنث استحسانا والقياس أن يحنث وهو قول زفر وجه القياس أنه منع نفسه عن التغدي عاما فصرفه إلى البعض دون البعض تخصيص للعموم. "ولنا" أن كلامه خرج جوابا للسؤال فينصرف إلى ما وقع السؤال عنه والسؤال وقع عن الغداء المدعو إليه فينصرف الجواب إليه كأنه أعاد السؤال. وقال والله لا أتغدى الغداء الذي دعوتني إليه وكذا إذا قامت امرأته لتخرج من الدار فقال لها إن خرجت فأنت طالق فقعدت ثم خرجت بعد ذلك لا يحنث استحسانا لأن دلالة الحال تدل على التقييد بتلك الخرجة كأنه قال إن خرجت هذه الخرجة فأنت طالق ولو قال لها إن خرجت من هذه الدار على الفور أو في هذا اليوم فأنت طالق بطل اعتبار الفور لأنه ذكر ما يدل على أنه ما أراد به الخرجة المقصود إليها وإنما أراد الخروج المطلق عن الدار في اليوم حيث زاد على قدر الجواب وعلى هذا يخرج ما إذا قيل له إنك تغتسل الليلة في هذه الدار من جنابة فقال إن اغتسلت فعبدي حر ثم اغتسل لا عن جنابة ثم قال: عنيت به الاغتسال عن جنابة أنه يصدق لأنه أخرج الكلام مخرج الجواب ولم يأت بما يدل على إعراضه عن الجواب فيقيد بالكلام السابق ويجعل كأنه إعادة. ولو قال إن اغتسلت فيها الليلة عن جنابة فأنت حر أو قال إن اغتسلت الليلة في هذه الدار فعبدي حر ثم قال عنيت الاغتسال عن جنابة لا يصدق في القضاء لأنه زاد على القدر المحتاج إليه من الجواب حيث أتى بكلام مفيد مستقل بنفسه فخرج عن حد الجواب وصار كلاما مبتدأ فلا يصدق في القضاء لكن يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه يحتمل أنه أراد به الجواب ومع هذا زاد على قدره وهذا وإن كان بخلاف الظاهر لكن كلامه يحتمله في الجملة وعلى هذا يخرج ما قاله ابن سماعة: سمعت محمدا يقول في رجل قال لآخر إن ضربتني ولم أضربك وما أشبه ذلك فهذا على الفور قال وقوله: "لم" يكون على وجهين على قبل وعلى بعد فإن كانت على بعد فهي على الفور ولو قال إن كلمتني فلم أجبك فهذا على بعد وهو على الفور وإن قال إن ضربتني ولم أضربك فهو عندنا على أن يضرب الحالف قبل أن يضرب المحلوف عليه فإن أراد به بعد ونوى ذلك فهو على الفور وهكذا روي عن محمد وجملة هذا أن هذه اللفظة قد تدخل على الفعل الماضي وقد تدخل على المستقبل فما كان معاني كلام الناس عليه حمل عند الإطلاق عليه وإن كانت مستعملة في الوجهين على السواء يتميز أحدهما بالنية فإذا قال إن ضربتني ولم أضربك فقد حمله محمد على الماضي كأنه رأى معاني كلام الناس عليه عند الإطلاق فكأنه قال إن ضربتني من غير مجازاة لما كان مني من الضرب فعبدي حر ويحتمل الاستقبال أيضا فإذا نواه حمل عليه. وقوله إن كلمتني ولم أجبك فهذا على المستقبل لأن الجواب لا يتقدم الكلام فحمل على الاستقبال ويكون على الفور لأنه يراد به الفور عادة. وروي عن محمد فيمن قال كل جارية يشتريها فلا يطؤها فهي حرة قال هذا يطؤها ساعة يشتريها فإن لم يفعل فهي حرة لأن الفاء تقتضي التعقيب ولو قال مكان هذا إن لم يطأها فهذا على ما بينه وبين الموت فمتى وطئها بر لأن كلمة إن كلمة شرط فلا تقتضي التعجيل قال هشام عن أبي يوسف فإن قال لغلامه إن لم تأتني حتى أضربك فأنت حر فجاء من ساعته فلم يضربه قال متى ما ضربه فإنه يبر في يمينه ولا يعتق إلا أن ينوي ساعة أمره بذلك لما ذكرنا أن إن للشرط فلا تقتضي التعجيل إذا لم يكن في الكلام ما يدل عليه ولو قال إن لم أشتر اليوم عبدا فأعتقه فعلي كذا فاشترى عبدا فوهبه ثم اشترى آخر فأعتقه قال محمد إنما وقعت يمينه على العبد الأول فإذا أمسى ولم يعتقه حنث لأن تقدير كلامه إن اشتريت عبدا فعلي عتقه فإن لم أعتقه فعلي حجة وهذا قد استحقه الأول فلم يدخل الثاني في اليمين. قال

 

ج / 3 ص -14-         هشام عن محمد فيمن قال لآخر إن مت ولم أضربك فكل مملوك لي حر فمات الحالف ولم يضربه قال محمد لا يعتقون لأن من شرط الحنث أن يكون بعد الموت ولا ملك له في ذلك الوقت فلا يعتقون وإن قال إن لم أضربك فكل مملوك لي حر لا يحنث حتى يخرج نفسه فيحنث قبل خروج نفسه يعني في آخر جزء من أجزاء حياته فيعتقون حينئذ لأن شرط الحنث ترك الضرب وإنه يتحقق في تلك الحالة ولو قال إن لم أدخل هذه الدار حتى أموت فغلامه حر فلم يدخلها حتى مات لم يعتق وكذلك قال محمد فيمن قال إن لم أضربك فيما بيني وبين أن أموت فعبدي حر فلم يضربه حتى مات عتق العبد قبل أن يموت لأن في الأول حنث بعد الموت. وقال محمد في الزيادات فيمن قال لرجل امرأته طالق إن لم تخبر فلانا بما صنعت حتى يضربك فعبدي حر فأخبره فلم يضربه بر في يمينه لأنه جعل شرط البر الإخبار لأنه سبب صالح للضرب جزاء له على صنعه والإخبار مما لا يمتد ولا يضرب له المدة فتعذر جعله للغاية فجعل للجزاء وقوله حتى يضربك بيان الغرض بمعنى ليضربك فيصير معناه إن لم أتسبب لضربك فإذا أخبر بصنيعه فقد سبب لضربه فبر في يمينه وكذلك إذا قال إن لم آتك حتى تغديني أو إن لم أضربك حتى تضربني فعبدي حر فأتاه فلم يغده أو ضربه ولم يضربه بر في يمينه لأن التغدية لا تصلح غاية للإتيان لكونها داعية إلى زيادة الإتيان وكذلك الضرب يدعو إلى زيادة الضرب لا إلى تركه وإنهائه فلا يجعل غاية ويجعل جزاء لوجود شرطه ولو قال إن لم ألزمك حتى تقضيني حقي أو إن لم أضربك حتى يدخل الليل أو حتى تشتكي يدي أو حتى تصيح أو حتى يشفع لك فلان أو حتى ينهاني فلان فترك الملازمة قبل أن يقضى حقه أو ترك الضرب قبل وجود هذه الأسباب حنث لأن كلمة حتى ههنا للغاية إذ المعقود عليه فعل ممتد وهو الملازمة والضرب في قضاء الدين مؤثر في إنهاء الملازمة إذ هو المقصود من الملازمة, والشفاعة والصياح والنهي وغيرها مؤثر في ترك الضرب وإنهائه فصارت للغاية لوجود شرطها. ولو نوى به الجزاء يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما يحتمله كلامه, ولا يصدق في القضاء لأنه أراد به التخفيف على نفسه فكان متهما, وإن قال إن لم آتك اليوم حتى أتغدى عندك أو إن لم آتك حتى أضربك فعبدي حر فأتاه فلم يتغد عنده أو لم يضربه حتى مضى اليوم حنث لأن كلمة حتى ههنا للعطف لأن الفعلين جميعا من جانب واحد وهو الحالف فيصير كأنه قال إن لم آتك اليوم فأضربك أو فأتغدى عندك فإن لم يوجدا جميعا لا يبر بخلاف قوله حتى تغديني لأن هناك أحد الفعلين من غيره فكان عوض فعله فلا يحنث بعدمه وإن لم يوقت باليوم فأتاه ولم يتغد لم يحنث لأن البر موجود بأن يأتيه ويتغدى أو يتغدى من غير إتيان ووقت البر متسع فلا يحنث كما لو صرح به. وقال إن لم آتك فأتغدى عندك ولو قال ذلك لا يحنث ما دام حيا كذلك هذا وحكى هشام عن أبي يوسف أن من قال لأمته إن تجيئيني الليلة حتى أجامعك مرتين فأنت حرة فجاءته فجامعها مرة وأصبح حنث في يمينه وهذا وقوله إن لم تجيئيني الليلة فأجامعك مرتين سواء فيصير المجيء والمجامعة مرتين شرطا للبر فإذا انعدم يحنث فإن لم يوقت بالليل لا يحنث وله أن يجامعها في أي وقت شاء لأن وقت البر يتسع عند عدم التوقيت وقال ابن سماعة عن محمد إذا قال إن ركبت دابتك فلم أعطك دابتي فعبدي حر قال هذا على الفور إذا ركب دابته فينبغي أن يعطيه دابة نفسه ساعتئذ وكذلك إذا قال إن دخلت دارك فلم أجلس فيها لأن الفاء للتعقيب فيقتضي وجود ما دخلت عليه عقيب الشرط قال ولو قال إن رأيت فلانا فلم آتك به فعبدي حر فرآه أول ما رآه مع الرجل الذي قال له إن رأيته فلم آتك به فإن الحالف حانث الساعة لأن يمينه وقعت على أول رؤية ويستحيل أن يأتيه بمن هو معه قال القدوري وقد كان يجب أن لا يحنث عند أبي حنيفة ومحمد كما قالا فيمن قال له إن رأيت فلانا فلم أعلمك بذلك فعبدي حر فرآه أول ما رآه مع الرجل الذي قال له ذلك لم يحنث عند أبي حنيفة ومحمد لأن العلم بمن قد علمه محال. وكذلك الإتيان بمن معه فيصير كمن قال لأشربن الماء الذي في هذا الكوز ولا ماء فيه ولو أن رجلا قال إن لقيتك فلم أسلم عليك فإن سلم عليه ساعة يلقاه وإلا حنث وكذلك إن قال إن استعرت دابتك فلم تعرني لأن هذا على المجازاة يدا بيد وليس هذا مثل قوله إن دخلت الدار فإن لم أكلم فلانا فهذا متى ما كلمه بر والأصل فيه أن يجيء في هذا الباب

 

ج / 3 ص -15-         أمور تشتبه فإن لم في معنى فلم يحمل على معظم معاني كلام الناس ولو قال إن أتيتني فلم آتك أو إن زرتني فلم أزرك أو إن أكرمتني فلم أكرمك فهذا على الأبد وهو في هذا الوجه مثل فإن لم لأن الزيارة لا تتعقب الزيارة عادة فكان المقصود هو الفعل فإن قيل أتيتني فلم آتك فالأمر في هذا مشتبه قد يكون بمعنى إن لم آتك قبل إتيانك وقد يكون بمعنى إن لم آتك بعد إتيانك فكان محتملا للأمرين فيحمل على ما كان الغالب من معاني كلام الناس عليه فإن لم يكن فهو على ما نوى أي ذلك نوى من قبل أو بعد حملا على ما نوى وإن لم تكن له نية يلحق بالمشتبه الذي لا يعرف له معنى. فأما الذي يعرف من معناه أنه قبل أو بعد فهو على الذي يعرف في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى إذا لم يكن له نية فإن نوى خلاف ما يعرف لم يدين في الحكم ودين فيما بينه وبين الله تعالى فالذي الظاهر منه قبل كقوله إن خرجت من باب الدار ولم أضربك والذي ظاهره بعد مثل قوله إن أعطيتني كذا ولم أكافئك بمثله والمحتمل كقوله إن كلمتك ولم تكلمني فهذا يحتمل قبل وبعد فأيهما فعل لم يكن للحالف فيه وإن كان نوى أحد الفعلين فهو على ما نوى وإن كان قبل ذلك فنطق يكون هذا جوابا له فهو على الجواب والله عز وجل الموفق "وأما" الذي يرجع إلى نفس الركن فخلوه عن الاستثناء نحو أن يقول إن شاء الله تعالى أو إلا أن يشاء الله أو ما شاء الله أو إلا أن يبدو لي غير هذا أو إلا أن أرى غير هذا أو إلا أن أحب غير هذا أو قال إن أعانني الله أو يسر الله أو قال بمعونة الله أو بتيسيره ونحو ذلك فإن قال شيئا من ذلك موصولا لم تنعقد اليمين وإن كان مفصولا انعقدت وسيأتي الكلام في الاستثناء وشرائطه في كتاب الطلاق. ولو قال إلا أن أستطيع فإن عنى استطاعة الفعل وهو المعنى الذي يقصد فلا يحنث أبدا لأنها مقارنة للفعل عندنا فلا توجد ما لم يوجد الفعل, وإن عنى به استطاعة الأسباب وهي سلامة الآلات والأسباب والجوارح والأعضاء فإن كانت له هذه الاستطاعة فلم يفعل حنث وإلا فلا وهذا لأن لفظ الاستطاعة يحتمل كل واحد من المعنيين لأنه يستعمل فيهما. قال الله تعالى: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ} وقال: {إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً} والمراد منه استطاعة الفعل. وقال الله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وقال عز وجل: {فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً} والمراد منه استطاعة سلامة الأسباب والآلات فأي ذلك نوى صحت نيته وإن لم يكن له نية يحمل على استطاعة الأسباب وهو أن لا يمنعه مانع من العوارض والاشتغال لأنه يراد بها ذلك في العرف والعادة فعند الإطلاق ينصرف إليه والله عز وجل أعلم. 
                                                            

                                                                "فصل":
"وأما" حكم اليمين بالله تعالى فيختلف باختلاف اليمين أما يمين الغموس فحكمها وجوب الكفارة لكن بالتوبة والاستغفار لأنها جرأة عظيمة حتى قال: الشيخ أبو منصور الماتريدي كان القياس عندي أن المتعمد بالحلف على الكذب يكفر لأن اليمين بالله تعالى جعلت للتعظيم لله تعالى والحالف بالغموس مجترئ على الله عز وجل مستخف به ولهذا نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحلف بالآباء والطواغيت لأن في ذلك تعظيما لهم وتبجيلا فالوزر له في الجراءة على الله أعظم وهذا لأن التعمد بالحلف كاذبا على المعرفة بأن الله عز وجل يسمع استشهاده بالله كاذبا مجترئ على الله سبحانه وتعالى ومستخف به وإن كان غيره يزعم أنه ذكر على طريق التعظيم وسبيل هذا سبيل أهل النفاق أن إظهارهم الإيمان بالله سبحانه وتعالى استخفاف بالله تعالى لما كان اعتقادهم بخلاف ذلك وإن كان ذلك القول تعظيما في نفسه وصدقا في الحقيقة تلزمهم العقوبة لما فيه من الاستخفاف وكذا هذا ولكن نقول لا يكفر بهذا لأن فعله وإن خرج مخرج الجراءة على الله تعالى والاستخفاف به من حيث الظاهر لكن غرضه الوصول إلى مناه وشهوته لا القصد إلى ذلك وعلى هذا يخرج قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى في سؤال السائل إن العاصي يطيع الشيطان ومن أطاع الشيطان فقد كفر كيف لا يكفر العاصي؟ فقال لأن فعله وإن خرج مخرج الطاعة للشيطان لكن ما فعله قصدا إلى طاعته وإنما يكفر بالقصد إذ الكفر عمل القلب لا بما يخرج فعله فعل معصية فكذلك الأول. "وأما" الكفارة المعهودة وهي الكفارة بالمال فلا تجب عندنا, وعند الشافعي تجب احتج بقوله تعالى:
{لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} نفى المؤاخذة باليمين اللغو في

 

ج / 3 ص -16-         الأيمان وأثبتها بما كسب القلب, ويمين الغموس مكسوبة بالقلب فكانت المؤاخذة ثابتة بها إلا أن الله تعالى أبهم المؤاخذة في هذه الآية الشريفة أنها بالإثم أو بالكفارة المعهودة لكن فسر في الأخرى أن المؤاخذة بالكفارة المعهودة وهي قوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية فعلم أن المراد من المؤاخذة المذكورة في تلك الآية هذه المؤاخذة, وبقوله عز وجل: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} الآية أثبت المؤاخذة في اليمين المعقودة بالكفارة المعهودة, ويمين الغموس معقودة لأن اسم العقد يقع على عقد القلب وهو العزم والقصد وقد وجد بقوله عز وجل في آخر الآية الكريمة: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} جعل الكفارة المعهودة كفارة الأيمان على العموم خص منه يمين اللغو فمن ادعى تخصيص العموم فعليه الدليل مع ما أن أحق ما يراد به الغموس لأنه علق الوجوب بنفس الحلف دون الحنث وذلك هو الغموس إذ الوجوب في غيره يتعلق بالحنث. "ولنا" قوله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ} الآية وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مالا لقي الله وهو عليه غضبان" وروي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على منبري هذا بيمين آثمة تبوأ مقعده من النار" والاستدلال بالنصوص أن الله تعالى جعل موجب الغموس العذاب في الآخرة فمن أوجب الكفارة فقد زاد على النصوص فلا يجوز إلا بمثلها وما روي عن نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم أنه قال للمتلاعنين بعد فراغهما من اللعان: "الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب" دعاهما إلى التوبة لا إلى الكفارة المعهودة ومعلوم أن حاجتهما إلى بيان الكفارة المعهودة لو كانت واجبة كانت أشد من حاجتهما إلى بيان كذب أحدهما وإيجاب التوبة لأن وجوب التوبة بالذنب يعرفه كل عاقل بمجرد العقل من غير معونة السمع, والكفارة المعهودة لا تعرف إلا بالسمع فلما لم يبين مع أن الحال حال الحاجة إلى البيان دل أنها غير واجبة. وكذا الحديث الذي روي في الخصمين أنه قضى لأحدهما وذكر فيه الوعيد الشديد أن يأخذه وهو غير الحق في ذلك ثم أمرهما صلى الله عليه وسلم بالاستهام وأن يحلل كل واحد منهما صاحبه ولم يبين الكفارة والموضع موضع الحاجة إلى البيان لو كانت واجبة فعلم أنها غير واجبة ولأن وجوب الكفارة المعهودة حكم شرعي فلا يعرف إلا بدليل شرعي وهو النص أو الإجماع أو القياس ولم يوجد وأقوى الدلائل في نفي الحكم نفي دليله أما الإجماع فظاهر الانتفاء وكذا النص القاطع لأن أهل الديانة لا يختلفون في موضع فيه نص قاطع, والنص الظاهر وجب العمل به أيضا وإن كان لا يجب الاعتقاد قطعا فلا يقع الاختلاف ظاهرا في الاستدلال باليمين المعقودة ومن شرطه التساوي ولم يوجد لأن الذنب في يمين الغموس أعظم وما صلح لدفع أدنى الذنبين لا يصلح لرفع أعلاهما, ولهذا قال: إسحاق في يمين الغموس أجمع المسلمون على أنه لا يجب الكفارة فيها فقول من يوجبها ابتداء شرع ونصب حكم على الخلق وهو لم يشرك في حكمه أحدا ولا حجة له في قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} لأن مطلق المؤاخذة في الجنايات يراد بها المؤاخذة في الآخرة لأنها حقيقة المؤاخذة والجزاء. فأما المؤاخذة في الدنيا فقد تكون خيرا وتكفيرا فلا تكون مؤاخذة معنى ونحن به نقول: إن المؤاخذة بيمين الغموس ثابتة في الآخرة ولأن قوله تعالى يؤاخذكم إخبار أنه يؤاخذ. فأما قضية المؤاخذة فليست بمذكورة فيستدعي نوع مؤاخذة, والمؤاخذة بالاسم مرادة من هذه الآية فلا يكون غيره مرادا إذا. "وأما" قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ} فالمراد منه اليمين على أمر في المستقبل, لأن العقد هو الشد والربط في اللغة, ومنه عقد الحبل وعقد الحمل, وانعقاد الرق وهو ارتباط بعضه ببعض وقد يذكر ويراد به العهد وكل ذلك لا يتحقق إلا في المستقبل, ولأن الآية قرئت بقراءتين بالتشديد والتخفيف, والتشديد لا يحتمل إلا عقد اللسان وهو عقد القول والتخفيف يحتمل العقد باللسان والعقد بالقلب وهو العزم والقصد, فكانت قراءة التشديد محكمة في الدلالة على إرادة العقد باللسان والقراءة بالتخفيف محتملة فيرد المحتمل إلى المحكم ليكون عملا بالقراءتين على الموافقة

 

ج / 3 ص -17-         والدليل على أن المراد من الآية الكريمة اليمين على أمر في المستقبل أنه علق الكفارة فيها بالحلف والحنث عرفنا ذلك بقراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه إذا حلفتم وحنثتم والحنث لا يتصور إلا في اليمين على أمر في المستقبل. وكذا قوله تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} وحفظ اليمين إنما يتصور في المستقبل لأن ذلك تحقيق البر والوفاء بالعهد وإنجاز الوعد وهذا لا يتصور في الماضي والحال والله عز وجل الموفق. "وأما" يمين اللغو فلا كفارة فيها بالتوبة ولا بالمال بلا خلاف بيننا وبين الشافعي لأن قوله تعالى: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ} أدخل كلمة النفي على المؤاخذة فيدل على انتفاء المؤاخذة فيها بالإثم والكفارة جميعا, وإنما اختلفا في تفسيرها واختلف قول من فسرها باليمين على المعاصي في وجوب الكفارة على ما بينا ثم الحالف باللغو إنما لا يؤاخذ في اليمين بالله تعالى. فأما اليمين بغير الله تعالى من الطلاق والعتاق فإنه يؤاخذ به حتى يقع الطلاق والعتاق وإن كان ظاهر الآية الكريمة في نفي المؤاخذة عاما عرفنا ذلك بالخبر والنظر, أما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد" وذكر الطلاق والعتاق, واللاغي لا يعدو هذين فدل أن اللغو غير داخل في اليمين بالطلاق والعتاق "وأما" النظر فهو أن الطلاق والعتاق مما يقع معلقا ومنجزا ومتى علق بشرط كان يمينا فأعظم ما في اللغو أنه يمنع انعقاد اليمين وارتباط الجزاء بالشرط فيبقى مجرد ذكر صيغة الطلاق والعتاق من غير شرط فيعمل في إفادة موجبهما بخلاف اليمين بالله تعالى فإن هناك إذا لغا المحلوف عليه يبقى مجرد قوله والله فلا يجب به شيء فثبت بما ذكرنا أن المراد بالآية اللغو في اليمين بالله تعالى لا في اليمين بغير الله تعالى من الطلاق والعتاق, وسائر الأجزية.
وأما حكم اليمين المعقودة وهي اليمين على المستقبل فاليمين على المستقبل لا يخلو إما أن يكون على فعل واجب "وأما" أن يكون على ترك المندوب "وأما" أن يكون على ترك المباح أو فعله فإن كان على فعل واجب بأن قال والله لأصلين صلاة الظهر اليوم أو لأصومن رمضان فإنه يجب عليه الوفاء به ولا يجوز له الامتناع عنه لقوله صلى الله عليه وسلم
"من حلف أن يطيع الله فليطعه" ولو امتنع يأثم ويحنث ويلزمه الكفارة وإن كان على ترك الواجب أو على فعل معصية بأن قال والله لا أصلي صلاة الفرض أو لا أصوم رمضان أو قال والله لأشربن الخمر أو لأزنين أو لأقتلن فلانا أو لا أكلم والدي ونحو ذلك فإنه يجب عليه للحال الكفارة بالتوبة والاستغفار ثم يجب عليه أن يحنث نفسه ويكون بالمال لأن عقد هذه اليمين معصية فيجب تكفيرها بالتوبة والاستغفار في الحال كسائر الجنايات التي ليس فيها كفارة معهودة وعلى هذا يحمل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير" أي عليه أن يحنث نفسه لقوله صلى الله عليه وسلم "من حلف أن يعصي الله تعالى فلا يعصه". وترك المعصية بتحنيث نفسه فيها فيحنث به ويكفر بالمال وهذا قول عامة العلماء. وقال الشعبي لا تجب الكفارة المعهودة في اليمين على المعاصي وإن حنث نفسه فيها لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا حلف أحدكم على يمين فرأى ما هو خير منها فليأته فإنه لا كفارة بها" ولأن الكفارة شرعت لرفع الذنب والحنث في هذه اليمين ليس بذنب لأنه واجب فلا تجب الكفارة لرفع الذنب ولا ذنب. "ولنا" قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} إلى قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} من غير فصل بين اليمين على المعصية وغيرها والحديث المعروف وهو ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال" من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه" وما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه فقد روي عنه خلافه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا حلف أحدكم بيمين ثم رأى خيرا مما حلف عليه فليكفر عن يمينه وليفعل الذي هو خير" فوقع التعارض بين حديثيه فبقي الحديث المعروف لنا بلا تعارض, ولأن الأمة أجمعت على أن الكفارة لا يمتنع وجوبها لعذر في الحانث بل يتعلق بمطلق الحنث سواء كان الحانث ساهيا أو خاطئا أو نائما أو مغمى عليه أو مجنونا فلا يمتنع وجوبها لأجل المعصية, ولأن الكفارة إنما وجبت في اليمين على المباحات: إما لأن الحنث فيها يقع خلفا في الوعد ونقضا للعهد لأن الحالف وعد أن يفعل وعاهد الله على ذلك فإذا حنث فقد صار بالحنث مخلفا في الوعد ناقضا للعهد

 

ج / 3 ص -18-         فوجبت الكفارة ليصير الحلف مستورا كأنه لم يكن أو لأن الحنث منه يخرج مخرج الاستخفاف بالاستشهاد باسم الله تعالى من حيث الصورة متى قوبل ذلك بعقده السابق لا من حيث الحقيقة إذ المسلم لا يباشر المعصية قصدا لمخالفة الله تعالى وإرادة الاستخفاف بأمره ونهيه, فوجب عليه التكفير جبرا لما هتك من حرمة اسم الله تعالى صورة لا حقيقة وسترا وكل واحد من الوجهين موجود ههنا فيجب. "وأما" قولهم الكفارة شرعت لرفع الذنب فنعم, لكن لم قلتم إنه لا ذنب؟ وقولهم الحنث واجب ؟, قلنا بلى لك من حيث إنه ترك المعصية لا من حيث إنه نقض اليمين التي هي عهد مع الله تعالى بل الحنث من هذه الجهة ذنب فيحتاج إلى التكفير بالمال وإن كان على ترك المندوب بأن قال والله لا أصلي نافلة ولا أصوم تطوعا ولا أعود مريضا ولا أشيع جنازة ونحو ذلك, فالأفضل له أن يفعل ويكفر عن يمينه بالحديث الذي روينا, وإن كان على مباح تركا أو فعلا كدخول الدار ونحوه فالأفضل له البر وله أن يحنث نفسه ويكفر, ثم الكفارة تجب في اليمين المعقودة على المستقبل سواء قصد اليمين أو لم يقصد عندنا بأن كانت على أمر في المستقبل, وعند الشافعي لا بد من قصد اليمين لتجب الكفارة واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد الطلاق والعتاق والنكاح" فتخصيص هذه الأشياء بالذكر في التسوية بين الجد والهزل منها دليل على أن حكم الجد والهزل يختلف في غيرها ليكون التخصيص مفيدا. "ولنا" قوله تعالى: {وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ} أثبت المؤاخذة بالكفارة المعهودة في اليمين المعقودة مطلقا عن شرط القصد إذ العقد هو الشد والربط والعهد على ما بينا وقوله عز وجل: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي حلفتم وحنثتم جعل أحد الأشياء المذكورة كفارة الأيمان على العموم عند وجود الحلف والحنث وقد وجد. "وأما" الحديث فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق واليمين" مع ما أن روايته الأخرى مسكوتة عن غير الأشياء المذكورة إذ لا يتعرض لغيرها بالنفي ولا بالإثبات فلا يصح الاحتجاج به والله عز وجل أعلم.ثم وقت وجوب الكفارة في اليمين المعقودة على المستقبل هو وقت وجود الحنث فلا يجب إلا بعد الحنث عند عامة العلماء. وقال قوم وقته وقت وجود اليمين فتجب الكفارة بعقد اليمين من غير حنث واحتجوا بقوله تعالى: {ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان} وقوله عز وجل: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} وقوله عز وجل: {فَكَفَّارَتُهُ} أي كفارة ما عقدتم من الأيمان لأن الإضافة تستدعي مضافا إليه سابقا ولم يسبق غير ذلك العقد فيصرف إليه وكذا في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} أضاف الكفارة إلى اليمين وعلى ذلك تنسب الكفارة إلى اليمين فيقال كفارة اليمين, والإضافة تدل على السببية في الأصل وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرا منها فليكفر عن يمينه ثم ليأت الذي هو خير" والاستدلال بالحديث من وجهين أحدهما: أنه أمر بالتكفير بعد اليمين قبل الحنث ومطلق الأمر يحمل على الوجوب, والثاني أنه قال عليه الصلاة والسلام "فليكفر عن يمينه" أضاف التكفير إلى اليمين فكذا في الرواية الأخرى "فليأت الذي هو خير وليكفر يمينه" أمر بتكفير اليمين لا بتكفير الحنث فدل أن الكفارة لليمين ولأن الله تعالى نهى عن الوعد إلا بالاستثناء بقوله عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} ومعلوم أن ذلك النهي في اليمين أوكد وأشد ممن حلف على شيء بلا ثنيا فقد صار عاصيا بإتيان ما نهي عنه فتجب الكفارة لدفع ذلك الإثم عنه. "ولنا" أن الواجب كفارة والكفارة تكون للسيئات إذ من البعيد تكفير الحسنات, فالسيئات تكفر بالحسنات. قال الله سبحانه وتعالى: {إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ} وعقد اليمين مشروع قد أقسم رسول الله صلى الله عليه وسلم في غير موضع وكذا الرسل المتقدمة عليهم الصلاة والسلام قال الله تعالى خبرا عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام أنه قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ} وقال خبرا عن أولاد يعقوب عليهم الصلاة والسلام أنهم: {قالوا تالله تفتأ تذكر يوسف} وكذا أيوب عليه الصلاة والسلام كان حلف أن يضرب امرأته فأمره الله سبحانه وتعالى بالوفاء بقوله تعالى: {وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ} والأنبياء عليهم الصلاة والسلام معصومون عن

 

ج / 3 ص -19-         الكبائر والمعاصي فدل أن نفس اليمين ليست بذنب وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا حلفتم فاحلفوا بالله". وقال صلى الله عليه وسلم "لا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت فمن كان حالفا فليحلف بالله أو ليذر" أمر صلى الله عليه وسلم باليمين بالله تعالى فدل أن نفس اليمين ليس بذنب فلا يجب التكفير لها وإنما يجب للحنث؛ لأنه هو المأثم في الحقيقة ومعنى الذنب فيه أنه كان عاهد الله أن يفعل كذا, فالحنث يخرج مخرج نقض العهد منه فيأثم بالنقض لا بالعهد ولذلك قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ} الآية ولأن عقد اليمين يخرج مخرج التعظيم والتبجيل لله تعالى وجعله مفزعا إليه ومأمنا عنه فيمتنع أن تجب الكفارة محوا له وسترا وتبين بطلان قولهم إن الحالف يصير عاصيا بترك الاستثناء في اليمين لأن الأنبياء صلوات الله عليهم تركوا الاستثناء في اليمين ولم يجز وصفهم بالمعصية فدل أن ترك الاستثناء في اليمين ليس بحرام وإن كان تركه في مطلق الوعد منهيا عنه كراهة وذلك والله عز وجل أعلم لوجهين أحدهما أن الوعد إضافة الفعل إلى نفسه بأن يقول أفعل غدا كذا وكل فعل يفعله تحت مشيئة الله تعالى فإن فعله لا يتحقق لأحد إلا بعد تحقيق الله تعالى منه, ولا يتحقق منه الاكتساب لذلك إلا بإقداره فيندب إلى قران الاستثناء بالوعد ليوفق على ذلك ويعصم عن الترك وفي اليمين يذكر الاستشهاد باسم الله تعالى على طريق التعظيم, قد استغاث بالله تعالى وإليه فزع فيتحقق التعظيم الذي يحصل به الاستثناء وزيادة فلا معنى للاستثناء الثاني أن اليمين شرعت لتأكيد المحلوف عليه خصوصا في البيعة, وقران الاستثناء في مثل ذلك يبطل المعنى الذي وضع له العقد, بخلاف الوعد المطلق. "وأما" الآية الكريمة فتأويلها من وجهين أحدهما أي يؤاخذكم الله بمحافظة ما عقدتم من الأيمان والوفاء بها كقوله عز وجل: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} فإن تركتم ذلك فكفارته كذا وكذلك قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} فتركتم المحافظة ألا ترى أنه قال عز وجل: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} والمحافظة تكون بالبر والثاني أن يكون على إضمار الحنث أي ولكن يؤاخذكم بحنثكم فيما عقدتم وكذا في قوله: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} أي إذا حلفتم وحنثتم كما في قوله: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} معناه فحلف ففدية من صيام وقوله عز وجل: {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} معناه فتحلل, وقوله عز وجل: {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} أي فأفطر فعدة من أيام أخر لأن ظاهر الملفوظ وهو القدر الذي هو سبب التخفيف لا يصلح سببا للوجوب فصار استعمال الرخصة مضمرا فيه, كذلك ههنا لا تصلح اليمين التي هي تعظيم الرب جل جلاله سببا لوجوب التكفير فيجب إضمار ما هو صالح وهو الحنث "وأما" إضافة الكفارة إلى اليمين فليست للوجوب بها بل على إرادة الحنث كإضافة كفارة الفطر إلى الصيام وإضافة الدم إلى الحج والسجود إلى السهو وإن لم يكن ما أضيف إليه سببا كذا هذا وأما الحديث فقد روي بروايات: روي "فليأت الذي هو خير وليكفر يمينه" وروي "فليكفر يمينه وليأت الذي هو خير" وروي "فليأت الذي هو خير ثم ليكفر يمينه" وهو على الروايات كلها حجة عليهم لا لهم لأن الكفارة لو كانت واجبة بنفس اليمين لقال عليه الصلاة والسلام من حلف على يمين فليكفر من غير التعرض لما وقع عليه اليمين أنه ماذا ولما لزم الحنث إذا كان خيرا ثم بالتكفير فلما خص اليمين على ما كان الحنث خيرا من البر بالنقض والكفارة علم أنها تختص بالحنث دون اليمين نفسها وأنها لا تجب بعقد اليمين دون الحنث, واختلف في جوازها قبل الحنث قال أصحابنا: لا يجوز. وقال الشافعي: يجوز التكفير بالمال قبل الحنث. فأما التكفير بالصوم فلا يجوز قبل الحنث بالإجماع وجه قوله: إنه كفر بعد وجود سبب الوجوب فيجوز كما لو كفر بالمال بعد الجرح قبل الموت والدليل على أنه كفر بعد وجود سبب الوجوب أن اليمين سبب وجوب الكفارة بدليل أن الكفارة تضاف إلى اليمين يقال كفارة اليمين. وقال الله تعالى: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} والحكم إنما يضاف إلى سببه هو الأصل فدل أن اليمين سبب لوجوب الكفارة فكان هذا تكفيرا بعد وجود سبب الوجوب فيجوز كما في موضع الإجماع والدليل على جواز التكفير بالمال قبل الحنث ما روي أن رسول الله

 

ج / 3 ص -20-         صلى الله عليه وسلم كفر قبل الحنث وذلك أنه لما رأى حمزة رضي الله عنه سيد الشهداء قد مثل وجرح جراحات عظيمة اشتد ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقسم أن يفعل كذلك بكذا كذا من قريش فنزل النهي عن الوفاء بذلك وكفر عن يمينه وذلك تكفير قبل الحنث لأن الحنث في مثل هذه اليمين لا يتحقق إلا في الوقت الذي لا يحتمل البر فيه حقيقة وذلك عند موته فدل على جواز التكفير للأمة قبل الحنث إذ هو صلى الله عليه وسلم قدوة "ولنا" أن السبب ما يكون مفضيا إلى المسبب إذ هو في اللغة اسم لما يتوصل به إلى الشيء, واليمين مانعة من الحنث لكون الحنث خلفا في الوعد ونقضا للعهد وقد قال الله تعالى: {وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً} ولكونه استخفافا باسم الله تعالى من حيث الصورة, وكل ذلك مانع من الحنث فكانت اليمين مانعة من الحنث فكانت مانعة من الوجوب إذ الوجوب شرط الحنث بلا خلاف بيننا فكيف يكون سببا للوجوب ؟, ولهذا لم يجز تعجيل التكفير بالصوم كذا بالمال بخلاف التكفير بعد الجرح قبل الموت لأن الجرح سبب للموت لكونه مفضيا إلى فوات الحياة عادة فكان تكفيرا بعد وجود السبب فجاز "وأما" إضافة الكفارة إلى اليمين فعلى إضمار الحنث فيكون الحنث بعد اليمين سببا لا قبله والحنث يكون سببا والدليل عليه أنه سماه كفارته لقوله عز وجل: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ} وهي اسم لما يكفر بالذنب ولا ذنب إلا ذنب الحنث فكان المراد منه إذا حلفتم وحنثتم كما يقرأ ابن مسعود رضي الله عنه فإن قيل الكفارة تجب بنفس اليمين أصل الوجوب لكن يجب أداؤها عند الحنث كالزكاة تجب عند وجود النصاب, لكن يجب الأداء عند الحول, وقوله صلى الله عليه وسلم "لا زكاة في مال حتى يحول عليه الحول" لنفي وجوب الأداء لا لنفي أصل الوجوب, فالجواب أنه لا وجوب إلا وجوب الفعل. فأما وجوب غير الفعل فأمر لا يعقل على ما عرف في موضعه على أنه لو كان كذلك لجاز التكفير بالصوم؛ لأنه صام بعد الوجوب فعلم أن الوجوب غير ثابت أصلا ورأسا, فإن قيل: يجوز أن يسمى كفارة قبل وجوبها كما يسمى ما يعجل من المال زكاة قبل الحول وكما يسمى المعجل كفارة بعد الجراحة قبل الموت فلا حاجة إلى الحنث في جوازها, فالجواب أنه لا خلاف في أن الكفارة الحقيقية وهي الكفارة الواجبة بعد الحنث مرادة بالآية فامتنع أن يراد بها ما يسمى كفارة مجازا لعرضية الوجوب لاستحالة كون اللفظ الواحد منتظما الحقيقة والمجاز. "وأما" تكفير النبي صلى الله عليه وسلم فنقول ذلك في المعنى كان تكفيرا بعد الحنث لأنه تكفير بعد العجز عن تحصيل البر فيكون تكفيرا بعد الحنث من حيث المعنى كمن حلف لآتين البصرة فمات يلزمه الكفارة لتحقق العجز بالموت وبيان ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم معصوم عن المعصية والوفاء بتلك اليمين معصية إذ هو نهي عن ذلك فكانت يمينه قبل النهي عن الذي حلف عليه فكانت منعقدة على فعل مباح ولما نهي صلى الله عليه وسلم عن تحصيل ذلك الفعل وصار ذلك معصية صار إنشاء وعاجزا عن البر فصار حانثا وإن كان ذلك الفعل ممكن الوجود في نفسه فكان وقت يأسه وقت النهي لا وقت الموت أما في حق غير النبي صلى الله عليه وسلم وقت اليأس والعجز حقيقة هو وقت الموت إذ غير النبي صلى الله عليه وسلم غير معصوم عن المعاصي فلا يتحقق العجز لتصور وجود البر مع وصف العصيان فهو الفرق والله عز وجل أعلم 
                                                   

                                                              "فصل":
وأما بيان أن اليمين بالله عز وجل على نية الحالف أو المستحلف فقد روي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة عن حماد عن إبراهيم أنه قال اليمين على نية الحالف إذا كان مظلوما, وإن كان ظالما فعلى نية المستحلف وذكر الكرخي أن هذا قول أصحابنا جميعا وذكر القدوري أنه إن أراد به اليمين على الماضي فهو صحيح لأن المؤاخذة في اليمين على الماضي بالإثم فمتى كان الحالف ظالما كان آثما في يمينه وإن نوى به غير ما حلف عليه لأنه يتوصل باليمين إلى ظلم غيره وقد روى أبو أمامة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
"من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه حرم الله عليه الجنة وأوجب عليه النار قالوا: وإن كان شيئا يسيرا قال صلى الله عليه وسلم وإن كان قضيبا من أراك قالها

 

ج / 3 ص -21-         ثلاثا" وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "من حلف على يمين وهو فيها فاجر ليقتطع بها مال امرئ مسلم لقي الله تعالى وهو عليه غضبان" "وأما" إذا كان مظلوما فهو لا يقتطع بيمينه حقا فلا يأثم وإن نوى غير الظاهر قال "وأما" اليمين على المستقبل إذا قصد بها الحالف معنى دون معنى فهو على نيته دون نية المستحلف لأنه عقد وهو العاقد فينعقد على ما عقده.

                                                              "فصل":
وأما اليمين بغير الله عز وجل فهي في الأصل نوعان أحدهما ما ذكرنا وهو. اليمين بالآباء والأبناء والأنبياء والملائكة صلوات الله عليهم والصوم والصلاة وسائر الشرائع والكعبة والحرم وزمزم والقبر والمنبر ونحو ذلك ولا يجوز الحلف بشيء من ذلك لما ذكرنا وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"إذا حلفتم فاحلفوا بالله" ولو حلف بذلك لا يعتد به ولا حكم له أصلا. والثاني. بالشرط والجزاء وهذا النوع ينقسم إلى قسمين يمين بالقرب ويمين بغير القرب أما. اليمين بالقرب فهي أن يقول إن فعلت كذا فعلي صلاة أو صوم أو حجة أو عمرة أو بدنة أو هدي أو عتق رقبة أو صدقة ونحو ذلك وقد اختلف في حكم هذه اليمين أنه هل يجب الوفاء بالمسمى بحيث لا يخرج عن عهدته إلا به أو يخرج عنها بالكفارة مع الاتفاق على أنها يمين حقيقة حتى إنه لو حلف لا يحلف؟ فقال ذلك يحنث بلا خلاف لوجود ركن اليمين وهو ما ذكره ووجود معنى اليمين أيضا وهو القوة على الامتناع من تحصيل الشرط خوفا من لزوم المذكور ونذكر حكم هذا النوع إن شاء الله في كتاب النذر لأن هذا التصرف يسمى أيضا نذرا معلقا بالشرط لوجود معنى النذر وهو التزامه القربة عند وجود الشرط. "وأما" اليمين بغير القرب فهي الحلف بالطلاق والعتاق فلا بد من. بيان ركنه وبيان شرائط الركن وبيان حكمه وبيان ما يبطل به الركن, أما الركن فهو ذكر شرط وجزاء مربوط بالشرط معلق به في قدر الحاجة إلى معرفة المسمى بالشرط والجزاء ومعرفة معناهما, أما المسمى بالشرط فما دخل فيه حرف من حروف الشرط وهي إن وإذا, وإذ ما, ومتى, ومتى ما ومهما وأشياء أخر ذكرها أهل النحو واللغة. وأصل حروفه أن الخفيفة وغيرها داخل عليها لأنها لا تستعمل إلا في الشرط وما سواها من الحروف يستعمل فيه وفي غيره وهو الوقت وهذا أمارة الأصالة والتبعية. وذكر الكرخي مع هذه الحروف كلما وعدها من حروف الشرط, وإنها ليست بشرط في الحقيقة فإن أهل اللغة لم يعدوها من حروف الشرط لكن فيها معنى الشرط وهو توقف الحكم على وجود ما دخلت عليه لذلك سماه شرطا, وفي قوله كل امرأة أتزوجها فهي طالق, وقوله كل عبد اشتريته فهو حر إنما توقف الطلاق والعتاق على الزواج والشراء لا على طريق التعليق بالشرط بل لأنه أوقع الطلاق والعتاق على امرأة متصفة بأنه تزوجها وعلى عبد متصف بأنه اشتراه ويحصل الاتصاف بذلك عند التزوج والشراء. "وأما" معنى الشرط فهو العلامة ومنه أشراط الساعة أي علاماتها, ومنه الشرطي والشراط والمشرط فسمي ما جعله الحالف علما لنزول الجزاء شرطا حتى لو ذكره لمقصود آخر لا يكون شرطا على ما نذكر إن شاء الله تعالى. وأما المسمى بالجزاء فما دخل فيه حرف التعليق وهي حرف الفاء إذا كان متأخرا في الذكر عن الشرط كقوله إن دخلت الدار فأنت طالق. فأما إذا كان الجزاء متقدما فلا حاجة إلى حرف الفاء بل يتعلق بالشرط بدون حرف التعليق لأنه قد يعقب قوله أنت طالق ما يبين أنه يمين فيخرج به من أن يكون تطليقا إلى كونه يمينا وتعليقا فلا حاجة في مثل هذا إلى حرف التعليق بخلاف حروف الشرط فإنها لازمة للشرط سواء تقدم ذكرها على الجزاء أو تأخر وإنما اختصت الفاء بالجزاء؛ لأنها حرف يقتضي التعقيب من غير تراخ كقول القائل جاءني زيد فعمرو والجزاء يتعقب الشرط بلا تراخ "وأما" معنى الجزاء فجزاء الشرط ما علق بالشرط ثم قد يكون مانعا من تحصيل الشرط إذا كان الشرط مرغوبا عنه لوقاحة عاقبته, وقد يكون حاملا على تحصيله لحسن عاقبته لكن الحمل والمنع من الأغراض المطلوبة من اليمين ومن ثمراتها بمنزلة الربح بالبيع والولد بالنكاح فانعدامهما لا يخرج التصرف عن كونه يمينا كانعدام الربح في البيع والولد في النكاح لأن وجود التصرف بوجود ركنه, لا لحصول المقصود منه كوجود البيع والنكاح وغيرهما

 

ج / 3 ص -22-         وركن اليمين هما الشرط والجزاء فإذا وجد كان التصرف يمينا ولأن المرجع في معرفة الأسامي إلى أهل اللغة وأنهم يسمون الشرط والجزاء يمينا من غير مراعاة معنى الحمل والمنع دل أن ذلك ليس بشرط لوقوع التصرف يمينا, وبيان هذه الجملة في مسائل: إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق أو قال لعبده إن دخلت الدار فأنت حر أو. وقال إذا أو إذا ما أو متى أو متى ما أو حيثما أو مهما كان يمينا لوجود الشرط والجزاء حتى لو حلف لا يحلف فقال ذلك يحنث, ولو قال أنت طالق غدا أو رأس شهر كذا لا يكون يمينا لانعدام حروف الشرط بل هو إضافة الطلاق إلى الغد والشهر لأنه جعل الغد والشهر ظرفا لوقوع الطلاق لأن معناه في غد وفي شهر ولا يكون ذلك ظرفا لوقوع الطلاق إلا بوقوع الطلاق ولو قال إذا جاء غد فأنت طالق أو قال إذا مضى غد أو إذا جاء رمضان أو إذا ذهب رمضان أو إذا طلعت الشمس أو غربت كان يمينا عند أصحابنا, وعند الشافعي لا يكون يمينا لانعدام معنى اليمين وهو المنع أو الحمل إذ لا يقدر الحالف على الامتناع من مجيء الغد ولا على الإتيان به فلم يكن يمينا بخلاف دخول الدار وكلام زيد, ولأن الشرط ما في وجوده في المستقبل خطر وهو أن يكون فيما يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد, والغد يأتي لا محالة فلا يصلح شرطا فلم يكن يمينا. "ولنا" أنه وجد ذكر شرط وجزاء معلق بالشرط فكان يمينا, ومعنى المنع أو الحمل من أغراض اليمين وثمراتها, وحقائق الأسامي تتبع حصول المسميات بذواتها وذلك بأركانها لا بمقاصدها المطلوبة منها على ما بينا والله عز وجل الموفق "وأما" قوله: إن الشرط ما في وجوده في المستقبل خطر وهو أن يكون مما يجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد, والغد يأتي لا محالة فالجواب عنه من وجهين أحدهما ممنوع أن هذا من شرط كونه شرطا بل من شرط أن يكون جائز الوجود في المستقبل, ونعني به أن لا يكون مستحيل الوجود وقد وجد ههنا فكان التصرف يمينا على أن جواز العدم إن كان شرطا فهو موجود ههنا لأن مجيء الغد ونحوه ليس مستحيل العدم حقيقة لجواز قيام الساعة في كل لمحة كما قال تعالى: {وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} وهذا لأن الساعة وإن كان لها شرائط لا تقوم إلا بعد وجودها ولم يوجد شيء من ذلك في يومنا هذا فيقع الأمن عن قيام الساعة قبل مجيء الغد ونحو ذلك لكن هذا يوجب الأمن عن القيام, إما لا يمنع تصور القيام في نفسه لأن خبر الصادق عن امرأته لا يوجد يقتضي أنه لا يوجد, إما لا يقتضي أن لا يتصور وجوده في نفسه حقيقة ولهذا قلنا إن خلاف المعلوم مقدور العبد حتى يتعلق به التكليف وإن كان لا يوجد فكان مجيء الغد جائز العدم في نفسه لا مستحيل العدم فكان شرط كونه شرطا وهو جواز العدم حقيقة موجودا فكان يمينا, ولو قال لامرأته أنت طالق إن شئت أو أردت أو أحببت أو رضيت أو هويت لم يكن يمينا حتى لو كان حلف لا يحلف لا يحنث بهذه المقالة لما ذكرنا أن الشرط معناه العلامة وهو ما جعله الحالف علما لنزول الجزاء, والحالف ههنا ما جعل قوله إن شئت علما لوقوع الطلاق بل جعله لتمليك الطلاق منها كأنه قال ملكتك طلاقك, أو قال لها اختاري أو أمرك بيدك. ألا ترى أنه اقتصر على المجلس؟ وما جعل علما لوقوع الطلاق لا يقتصر على المجلس كقوله أنت طالق إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا وهذا لأن العلم المحض ما يدل على حصول الطلاق فحسب فأما ما يتعلق وجوده به فإنه لا يكون علما بل يكون علة لحصوله, والمشيئة مما يحصل به الطلاق بدليل أن الزوج لو قال لزوجته إن شئت طلاقك فطلقي وإذا لم يوجد معنى الشرط لم تكن المشيئة المذكورة شرطا فلم يوجد أحد ركني اليمين وهو الشرط فلم توجد اليمين فلا يحنث, وكذلك لو قال لها أنت طالق إن شئت أنا لم يكن يمينا حتى لا يحنث في يمينه إذا حلف لا يحلف. ولو قال لها إذا حضت وطهرت فأنت طالق لم يكن يمينا لأن الحالف ما جعل هذا الشرط علما لنزول الجزاء بل جعله إيقاع الطلاق على وجه السنة, لأن مثل هذا الكلام يذكر عادة كأنه قال أنت طالق للسنة. وكذا إذا قال إذا حضت حيضة فأنت طالق لأن الحيضة اسم للكامل فصار بمنزلة قوله إذا حضت وطهرت فأنت طالق وما زاد على هذا يعرف في الجامع, ولو حلف لا يحلف فقال كل امرأة لي تدخل هذه الدار فهي طالق أو قال لامرأته كلما دخلت هذه الدار فأنت طالق يحنث لا لوجود تعليق الطلاق بالدخول لتعذر التعليق لانعدام حرفه بل لضرورة

 

ج / 3 ص -23-         وجود الاتصاف على ما بينا والتعليق بالدخول ظرف في وجود الاتصاف فصار من حيث إنه تعلق به بواسطة الاتصاف شبيه الشرط لا أن يكون شرطا ثم في كلمة "كل" إذا دخلت مرة فطلقت ثم دخلت ثانيا لم تطلق, وفي كلمة "كلما" تطلق في كل مرة تدخل, وإنما كان كذلك لأن كلمة "كل" كلمة عموم وإحاطة لما دخلت عليه, وفي المسألة الأولى دخلت في العين وهي المرأة لا في الفعل وهو الدخول, فإذا دخلت مرة فقد انحلت اليمين فلا يحنث بدخولها ثانيا وأما في المسألة الثانية فإنما دخلت الكلمة على فعل الدخول لأن كلمة ما ترجع مع ما بعدها من الفعل مصدرا لغة, يقال: بلغني ما قلت وأعجبني ما صنعت أي قولك وصنعك فصارت الكلمة داخلة على المصدر لا على من وقع عليه المصدر فيقتضي تعميم المصدر. قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} يتجدد التبدل عند تجدد النضج وإن كان المحل متحدا فصار الطلاق متعلقا بكل دخول وقد وجد الدخول في المرة الثانية والثالثة فطلقت ثلاثا فلو أنها تزوجت بزوج آخر بعد ذلك ثم تزوجها الأول فدخلت الدار لا يقع الطلاق عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر وسنذكر المسألة في كتاب الطلاق ولو عقد اليمين على التزوج بكلمة كلما فطلقت ثلاثا بكل تزوج ثم تزوجها بعد زوج آخر طلقت؛ لأنه أضاف الطلاق إلى الملك, والطلاق المضاف إلى الملك يتعلق بوجود الملك بخلاف الدخول, ولو قال لامرأته أنت طالق لو دخلت الدار كان يمينا كما لو قال إن دخلت الدار وإذا دخلت لأن كلمة لو تذكر لتوقف المذكور على وجود ما دخلت عليه قال الله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} وقال عز وجل: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} فكانت في معنى الشرط لتوقف الجزاء على وجود الشرط وإن لم يكن شرطا حقيقة, ولو قال أنت طالق, لو حسن خلقك سوف أراجعك لم يكن يمينا ويقع الطلاق الساعة لأن "لو" ما دخلت على الطلاق وإنما دخلت على ترقب الرجعة فيقع الطلاق في الحال كما لو قال: أنت طالق, إن حسن خلقك راجعتك, وكذلك لو قال أنت طالق, لو قدم أبوك راجعتك كما لو قال أنت طالق, إن دخلت الدار راجعتك, وهذا كله ليس بيمين بل هو عدة, وروى ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال لامرأته أنت طالق لو دخلت الدار لطلقتك لم تطلق الساعة وإن دخلت الدار لم تطلق حتى يطلقها فإن لم يطلقها طلقت قبل موته أو موتها بلا فصل لأن هذا رجل حلف بطلاق امرأته لطلقها إذا دخلت الدار فإن لم يطلقها فهي طالق كأنه قال لأطلقنك إذا دخلت الدار فإن دخلت الدار فلم أطلقك فأنت طالق ولو قال ذلك لا تطلق للحال وإذا دخلت الدار ولم يطلقها حتى ماتت أو مات طلقت في آخر جزء من أجزاء حياته لفوات شرط البر في ذلك الوقت فيقع الطلاق ذلك الوقت كما لو قال لها أنت طالق إن لم آت البصرة فمات قبل أن يأتيها كذا هذا, ونظيره إذا قال لامرأته عبدي حر لو دخلت الدار لأضربنك إذ معناه لأضربنك إذا دخلت الدار فإن دخلت ولم أضربك فعبدي حر والله عز وجل الموفق وروى المعلى عن محمد إذا قال لامرأته أنت طالق لولا دخولك الدار أو أنت طالق لولا مهرك علي أو أنت طالق لولا شرفك فهذا كله استثناء ولا يقع عليها الطلاق ومعناه أنه في معنى الاستثناء من حيث إنه يمنع وقوع الطلاق كالاستثناء يمنع ثبوت الحكم في المستثنى والأصل أن هذه الكلمة تستعمل في امتناع الشيء لوجود غيره قال الله عز وجل: {وَلَوْلا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ} الآية. وقال سبحانه وتعالى: {وَلَوْلا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ} ويقال في العرف لولا المطر لجئتك فصار معنى هذا الكلام لولا دخولك الدار لطلقتك فلا يقع عليها الطلاق, وكذلك لو قال طلقتك لولا دخولك الدار, وكذلك لو قال لولا دخولك الدار قد طلقتك أمس وكذلك لو كان مكان "قد" لقد في هذه الوجوه كلها وكذلك لو قال أنت طالق أمس لولا دخولك الدار أي لولا دخولك الدار أمس لطلقتك. وقال ابن سماعة سمعت أبا يوسف يقول في رجل قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار فهذا يخبر أنه دخل الدار وأكد ذلك باليمين كأنه قال أنت طالق إن لم أكن دخلت الدار فإن كان لم يدخل طلقت وإن كان دخل لم تطلق لأن هذا ليس بشرط بل هو خبر عن الماضي أكده باليمين فإن كان كاذبا طلقت وإن كان صادقا لم تطلق, ولو قال أنت طالق لا دخلت الدار فهذا مثل قوله أنت طالق إن

 

ج / 3 ص -24-         دخلت الدار فلا تطلق حتى تدخل لأن لا حرف نفي أكده بالحلف فكأنه نفى دخولها وأكد ذلك بتعليق الطلاق بدخولها ولو قال أنت طالق إن دخلت الدار فإنها تطلق الساعة؛ لأن قوله دخلت ليس بتعليق بل هو إخبار عن دخولها الدار كأنه جعل الدخول علة لكنه حذف حرف العلة وسواء كانت دخلت الدار أو لم تدخل يقع الطلاق لأن التعليل بعلة لم توجد لا يمنع وقوع الطلاق لأن العلة لم تصح وبقى الإيقاع صحيحا, وروى ابن سماعة عن محمد في رجل قال لامرأته أنت طالق وإن دخلت الدار فهي طالق الساعة لما يذكر ولو قال أنت طالق الساعة وإن دخلت الدار كانت طالقا الساعة واحدة وإن دخلت الدار أخرى لأنه طلقها تطليقة الساعة وعطف الشرط عليها بلا جزاء فيضمن فيه الجزاء فيصير كأنه قال أنت طالق الساعة وطالق إن دخلت الدار فيقع في الحال واحدة وبعد الدخول أخرى. ولو قال أنت طالق لدخولك الدار فهي طالق الساعة واحدة؛ لأنه أوقع الطلاق ثم جعل الدخول المتقدم عليه علة لإيقاع الطلاق, ومن أوقع الطلاق لعلة وقع, وجدت العلة أو لم توجد لما بينا, وكذلك لو قال أنت طالق لحيضتك لما قلنا, ولو قال بحيضتك أو في حيضتك أو بدخولك الدار أو لدخولك الدار لم تطلق حتى تحيض أو تدخل لأن الباء حرف إلصاق فيقتضي إلصاق الطلاق بالحيضة والدخول فيتعلق بهما, وفي كلمة ظرف دخلت على ما لا يصلح ظرفا فتجعل شرطا لمناسبة بينهما نذكرها في كتاب الطلاق وذكر محمد في الجامع: إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق تطلق في القضاء حين تكلمه به, وجملة الكلام في هذا أن الأمر لا يخلو إما إن قدم الشرط أو إما إن أخر, فإن قدم فهو على أربعة أوجه أما إن قال إن دخلت الدار فأنت طالق أو قال إن دخلت الدار أنت طالق أو قال إن دخلت الدار وأنت طالق أو قال وإن دخلت الدار أنت طالق, وإن أخر الشرط فهو على ثلاثة أوجه أما إن قال أنت طالق إن دخلت الدار أو قال أنت طالق وإن دخلت الدار أو قال أنت طالق فإن دخلت الدار, فإن قال إن دخلت الدار أنت طالق, فالجواب ما ذكره محمد أنها تطلق في القضاء حين تكلم به لأنه ما علق الطلاق لانعدام حرف التعليق وهو حرف الفاء وكان تنجيزا لا تعليقا وإن عنى به التعليق دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه عنى ما يحتمله كلامه نحو إضمار حرف الفاء في الجزاء. قال الشاعر:

من يفعل الحسنات الله يشكرها                والشر بالشر عند الله مثلان

أي فالله يشكرها ولا يدين في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر وهذا جواب ظاهر الرواية, وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنها لا تطلق حتى تدخل الدار ووجهه أن يحذف حرف الجزاء تصحيحا للشرط إذ لو لم يحذف للغا, ولو قال إن دخلت الدار وأنت طالق تطلق للحال لانعدام حرف التعليق والواو غير موضوعة للتعليق ولو عنى به التعليق لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما لا يحتمله كلامه لأن الواو لا تحتمل التعليق ولو أدرج فيه الفاء يصير تقدير كلامه أنت دخلت الدار فوأنت طالق وهذا لغو ولو قدم وأخر لا يستقيم أيضا لأنه يصير كأنه قال وأنت طالق إن دخلت الدار, والواو لا يبتدأ بها, وما يذكره أهل اللغة أن الواو قد تكون للاستئناف فمرادهم أن يبتدأ كلام بعد تقدم جملة مفيدة من غير أن تكون الجملة الثانية تشارك الأولى. فأما ابتداء الكلام من غير أن يتقدمه شيء بالواو فغير موجود ولا جائز, وإن قال وإن دخلت الدار أنت طالق طلقت للحال لانعدام دلالة التعليق وحرفه, على أن الواو في مثل هذا تذكر للتحقيق كما يقال لا تسافرن وإن كان الطريق مخوفا ولو نوى التعليق لا يصدقه القاضي لأنه عدول عن الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى ما يحتمله كلامه لأنه نوى إضمار حرف الفاء فصار كأنه قال وإن دخلت الدار فأنت طالق, وتلغو الواو هذا إذا قدم الشرط. فأما إذا أخر فقال أنت طالق إن دخلت الدار لا تطلق ما لم تدخل الدار لأنه عقب الإيجاب بما أخرجه عن كونه إيجابا إلى كونه يمينا فلا حاجة في مثل هذا إلى حرف التعليق ولو قال أنت طالق وإن دخلت الدار فهي طالق حين تكلم به لأن هذا يوجب التأكيد على ما بينا يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم "من قال لا إله إلا الله دخل الجنة وإن زنا وإن سرق" ولو قال: عنيت به

ج / 3 ص -25-         التعليق لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لما ذكرنا أن الواو لا تحتمل التعليق. وذكر الكرخي أنه يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأن الواو تجعل زائدة كما في قوله تعالى: {حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ} إلى قوله: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ} قيل معناه اقترب الوعد والواو زيادة لأن قوله اقترب جواب حتى إذا والجواب عن هذا أن الواو في كلام العرب لم تجئ زائدة في موضع تصلح للعطف أو للتحقيق فلا يمكن أن تجعل ههنا زائدة على أنا نقول إن كثيرا من محققي أهل اللغة جعل الواو زائدة في موضع ما وكانوا يقولون: تقدير الآية عندهم حتى إذا فتحت يأجوج ومأجوج وهم من كل حدب ينسلون فتحت واقترب الوعد فكانت الواو للعطف على الجواب المضمر, ولو قال أنت طالق فإن دخلت الدار, لا رواية لهذا, قالوا ولقائل أن يقول تطلق للحال لأن الفاء صارت فاصلة لأنها كانت لغوا واللغو من الكلام يجعل بمنزلة السكوت, ولقائل أن يقول يتعلق الطلاق بالدخول لأن الفاء وإن كان مستغنى عنها في الحال إلا أنها في الجملة حرف تعليق فلا يجوز أن تجعل مانعة من التعليق موجبة للانفصال, ولو قال أنت طالق إن ولم يذكر فعلا هل يتعلق أم لا؟ ذكر هذه المسألة في ظاهر الرواية وذكر في النوادر على قول محمد يقع للحال لأنه لم يذكر ما يتعلق به وعلى قول أبي يوسف لا يقع الطلاق للحال لأنه لما ذكر حرف الشرط علم أنه لم يرد به التطليق وإنما أراد به اليمين والتعليق والله عز وجل أعلم. ولو قال لامرأته أنت طالق في الدار أو في مكة فالأصل فيه أن كلمة في مكة ظرف فإن دخلت على ما يصلح ظرفا تجري على حقيقتها وإن دخلت على ما لا يصلح ظرفا تجعل مجازا عن الشرط لمناسبة بين الظرف وبين الشرط, ثم الظرف نوعان ظرف زمان وظرف مكان فإن دخلت على المكان وقع الطلاق في ذلك المكان وفي غيره بأن قال لامرأته أنت طالق في الدار أو في مكة وقع الطلاق وإن لم تكن المرأة في الدار ولا في مكة لأن الطلاق لا يختص بمكان دون مكان فإذا وقع في مكان وقع في الأماكن كلها, وإن دخلت على الزمان فإن كان ماضيا يقع الطلاق في الحال نحو أن يقول أنت طالق في الأمس أو في العام الماضي لأن إنشاء الطلاق في الزمان الماضي لا يتصور فيجعل إخبارا أو تلغو الإضافة إلى الماضي ويبقى قوله أنت طالق فيقع في الحال وكذلك إذا كان حاضرا بأن قال أنت طالق في هذا الوقت أو في هذه الساعة يقع في الحال, وإن كان مستقبلا لا يقع حتى يأتي بأن قال أنت طالق في غد أو في الشهر الآتي لأن الطلاق يحتمل الاختصاص بوقت دون وقت فإذا جعل الغد ظرفا له لا يقع قبله. ولو قال أنت طالق في دخولك الدار أو في قيامك أو في قعودك يتعلق بهذه الأفعال لأن الفعل لا يصلح ظرفا ويصلح شرطا فتحمل الكلمة على الشرط مجازا. وكذا لو قال أنت طالق في ذهابك إلى مكة لأن الذهاب فعل وكذا إذا قال بذهابك لأن الباء حرف إلصاق فيقتضي إلصاق الطلاق بالذهاب وذلك بتعليقه به فيتعلق به, ولو قال أنت طالق في الشمس وهي في الظل كانت طالقا لأن الشمس لا تصلح ظرفا للطلاق ولا شرطا له. فإما أن تلغو ويراد بها مكان الشمس والطلاق لا يحتمل التخصيص بمكان دون مكان. ولو قال أنت طالق في صومك كانت طالقا حين يطلع الفجر إذا نوت الصوم لأن الصوم فعل وهو الإمساك وإنه لا يصلح ظرفا فتجعل الكلمة مجازا عن الشرط, والفعل يصلح شرطا فإذا وجد في أول الجزء مع النية في وقته من أهله فقد وجد الصوم الشرعي فوجد الشرط فيقع الطلاق. ولو قال أنت طالق في صلاتك لم تطلق حتى تركع وتسجد سجدة لأن الصلاة فعل أيضا فلا تصلح ظرفا كالصوم إلا أنها اسم لأفعال مختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود والمتركب من أشياء مختلفة لا ينطلق عليه الاسم بوجود بعضها كالأبلق المتركب من السواد والبياض والسكنجبين المتركب عن السكر والخل ونحو ذلك فما لم توجد الأفعال التي وصفنا لا ينطلق عليها اسم فعل الصلاة فلا يحنث بنفس الشروع بخلاف الصوم فإنه اسم لأفعال متفقة الأجزاء وهي الإمساكات, وما تركب من أجزاء متفقة متجانسة ينطلق اسم كله على بعضه لغة كاسم الماء أنه كما ينطلق على ماء البحر ينطلق على قطرة منه فكان الإمساك في أول النهار إمساكا حقيقة فيقع الطلاق بمجرد الشروع فهو الفرق بينهما. ولو قال أنت طالق في حيضك أو في طهرك فإن كان موجودا وقع وإلا فلا يقع ويتوقف على وجوده لأن المراد منه وقت الحيض والطهر أي في الوقت الذي تكونين حائضا أو طاهرة فيه

 

ج / 3 ص -26-         ونظير هذه المسائل ما ذكره محمد في الجامع إذا قال أنت طالق في ثلاثة أيام طلقت حين تكلم به. ولو قال أنت طالق في أكلك هذا الرغيف لا يقع الطلاق ما لم تفرغ من أكل جميع الرغيف والفرق أن في المسألة الأولى دخلت كلمة الظرف على الزمان وهو يصلح ظرفا فجعل جميع الوقت ظرفا لكونها طالقا ولا يكون كذلك إلا إذا كان وقع الطلاق في أوله, وفي الثانية علق الطلاق بفعل الأكل لأن الفعل لا يصلح ظرفا ويصلح شرطا فصار معلقا الطلاق بفعل الأكل والمعلق بالشرط لا ينزل ما لم ينزل كمال شرطه, وما يقوله مشايخنا: إن الطلاق متى أضيف إلى وقت ممتد يقع عند أوله ومتى علق بفعل ممتد يقع عند آخره, هذا صورته وعلته. ولو قال لها أنت طالق في مجيء ثلاثة أيام فإن قال ذلك ليلا فكلما طلع الفجر من اليوم الثالث يقع الطلاق لأنه علق الطلاق بمجيء ثلاثة أيام ولا يوجد ذلك إلا بمجيء كل واحد منها, ومجيء اليوم يكون بطلوع الفجر ولو قال ذلك في ضحوة من يوم حلف فإنما يقع الطلاق عند وجود طلوع الفجر من اليوم الرابع لأن اليوم الذي حلف فيه لم يكن معتبرا لتقدم مجيئه على الشرط, والشيء يتعلق بما يجيء لا بما مضى. ولو قال أنت طالق في مضي ثلاثة أيام إن قال ذلك ليلا لا يقع الطلاق ما لم تغرب الشمس من اليوم الثالث لأن مضي الشيء يكون بانقضاء جزئه الأخير فمضي الأيام يكون بانقضاء الجزء الأخير منها وذلك يوجد في هذه الساعة وإن قال ذلك في وقت ضحوة من النهار لا تطلق حتى يجيء تلك الساعة من اليوم الرابع لأنه به يتم مضي ثلاثة أيام بالساعات فالعبرة في المضي به لا للأيام الكاملة, وفي المجيء لأوائلها هذا هو المتعارف. ولو قال إن شتمتك في المسجد فعبدي حر فإنه يعتبر في هذا كون الشاتم في المسجد حتى يحنث سواء كان المشتوم في المسجد أو غيره ولو قال إن ضربتك أو قتلتك في المسجد يعتبر فيه مكان المضروب والمقتول إن كان في المسجد حنث وإلا فلا, والأصل فيه أن كل فعل له أثر في المفعول يعتبر فيه مكان المفعول, وما لا أثر له يظهر في المفعول لا يعتبر فيه مكانه بل مكان الفاعل وعلة هذا الأصل تذكر في الجامع إن شاء الله تعالى

                                                             "فصل":
وأما شرائط الركن فأنواع بعضها يرجع إلى الحالف وبعضها يرجع إلى المحلوف عليه وهو الشرط وبعضها يرجع إلى المحل المحلوف بطلاقه وعتاقه, وبعضها يرجع إلى نفس الركن, أما الذي يرجع إلى الحالف فما ذكرنا في الطلاق والعتاق وكلما هو شرط جواز الطلاق والعتاق فهو شرط انعقاد اليمين بهما وما لا فلا, وسنبين جملة ذلك في كتاب الطلاق والعتاق. "وأما" الذي يرجع إلى المحلوف عليه وهو الشرط فمنها أن يكون أمرا في المستقبل فلا يكون التعليق بأمر كائن يمينا بل يكون تنجيزا حتى لو قال لامرأته أنت طالق إن كانت السماء فوقنا يقع الطلاق في الحال, وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته وهي حائض أو مريضة إذا حضت أو مرضت فأنت طالق أن ذلك على حيض مستقبل ومرض مستقبل وهو حيض آخر يوجد في المستقبل أو مرض آخر لا على الحال, فإن عينت ما يحدث من هذا الحيض وما يزيد من هذا المرض فهو كما نوى لأن الحيض ذو أجزاء تحدث حالا فحالا, وكذلك المرض يزداد, ويكون ذلك حيضا ومرضا فإذا نوى ذلك فقد نوى ما يحتمله لفظه فيصدق, فإن قال فإن حضت غدا فأنت طالق وهو يعلم أنها حائض فهذا على هذه الحيضة إذا دام الحيض منها إلى أن ينشق الفجر من الغد بعد أن تكون تلك الساعة تمام الثلاثة أو أكثر؛ لأنه إذا علم بحيضها استحال أن يعني بيمينه حدوث حيضة أخرى في غد فتعين أنه أراد استمرار هذه الحيضة ودوامها وإنما اعتبر بتلك الساعة لتمام الثلاثة أو أكثر لأن الحيض إذا انقطع فيما دونها فليس بحيض فلا يوجد شرط اليمين وإن كان لا يعلم بحيضها فهو على حيض مستقبل ويدين في القضاء؛ لأنه إذا لم يعلم بحيضها فالظاهر أنه أراد حدوث الحيض وكذلك هذه الوجوه في المرض. وكذلك المحموم إذا قال إن حميت أو المصدوع إذا قال إن صدعت وكذلك الرعاف وإن كان صحيحا فقال إن صحيت فامرأتي طالق وكان صحيحا حين سكت طلقت امرأته وهو كبصير قال إن أبصرت وكسميع قال إن سمعت لأن الصحة عرض يحدث ساعة فساعة فالموجود في الزمان الثاني غير الموجود في الزمان الأول وقد حدثت له الصحة حين ما فرغ من هذا الكلام فوجد شرط الحنث ولا

 

ج / 3 ص -27-         يمكن شرط صحة أخرى في المستقبل كالحيض والمرض فتقع يمينه على ما يحدث عقيب الكلام وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته إذا قمت أو قعدت أو ركبت أو لبست فأنت طالق وهي قائمة أو قاعدة أو راكبة أو لابسة أنه إذا مكث ساعة بعد اليمين مقدار ما يقدر على تركها حنث وكذلك السكنى إذا لم يأخذ في النقلة من ساعته لأن الدوام على هذه الأفعال يعنى به تجدد أمثالها يسمى باسم هذه الأفعال فقد وجد ما تناوله الاسم عقيب اليمين فيحنث. "وأما" الدخول بأن قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق وهي داخلة فهذا لا يكون إلا على دخول مستقبل فإن نوى الذي هو فيه لا يحنث لأن الدخول هو الانفصال من خارج إلى داخل وهذا لا يحتمل التجدد فلا يثبت الاسم في حالة البقاء أعني الثاني في زمان وجوده. وكذلك إذا قال لها إن خرجت وهي خارجة لأن الخروج ضد الدخول وهو الانفصال من داخل إلى خارج وأنه لا يتجدد في الثاني من زمان وجوده فلا يثبت الاسم بخلاف القيام والركوب واللبس ونحوهما يوضح الفرق أنه يقال قمت يوما وركبت يوما ولبست يوما ولا يقال دخلت الدار يوما ولا خرجت من الدار يوما على إرادة المكث, وكذلك الحبل إذا قال للحبلى إذا حبلت فأنت طالق فهذا يقع على حبل مستقبل لأنه يراد به ابتداء العلوق عرفا وعادة, ولو قال إن أكلت أو ضربت فهو على الحادث, كل شيء أكله بعد يمينه أو ضربه بعد يمينه يحنث لأن الضرب يتجدد. وذكر في الأصل إذا قال لها أنت طالق ما لم تحيضي أو ما لم تحبلي وهي حبلى أو حائض في حال الحلف فهي طالق حين سكت, إلا أن يكون ذلك منها حين سكت لأنه جعل حدوث الحيض والحبل شرط البر فما لم يوجد عقيب اليمين يحنث وإن عنى به ما فيه من الحيض دين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في الحبل لأن الحيض ذو أجزاء فجاز أن يسمى ما يحدث من أجزائه باسم الابتداء. فأما الحبل فليس بذي أجزاء ألا ترى أن الحيض يزداد والحبل ليس بمعنى يحتمل الزيادة فلا يصدق أصلا والله عز وجل أعلم. "ومنها" أن يكون المذكور في المستقبل متصور الوجود حقيقة لا عادة هو شرط انعقاد اليمين فإن كان مما يستحيل وجوده حقيقة لا ينعقد كما إذا قال لامرأته إن ولج الجمل في سم الخياط فأنت طالق وإن اجتمع الضدان فأنت طالق لأن مثل هذا الكلام يذكر لتأكيد النفي أي طلاقك أمر لا يكون أصلا ورأسا كما لا يلج الجمل في سم الخياط ولا يجتمع الضدان قال الله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي لا يدخلونها رأسا وعلى هذا يخرج ما إذا قال إن لم أشرب الماء الذي في هذا الكوز فامرأته طالق أو عبده حر أو قال إن لم أقتل فلانا ولا ماء في الكوز وفلان ميت وهو يعلم بذلك أو لا يعلم به وقد ذكرنا جملة هذا وتفصيله وما فيه من الاتفاق والاختلاف وما يتصل بذلك من المسائل في اليمين بالله تعالى وأما الذي يرجع إلى المحل المحلوف بطلاقه وعتاقه فقيام الملك فيه والإضافة إلى الملك أو إلى سبب الملك, وسنبين ذلك في كتاب الطلاق والعتاق ونذكر ذلك كله. وأما الذي يرجع إلى نفس الركن فما ذكرنا في اليمين بالله تعالى وهو عدم إدخال الاستثناء عليه فإذا أدخل عليه الاستثناء أبطله بأن قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق إن شاء الله تعالى أو قال ما شاء الله تعالى أو قال بمشيئة الله تعالى أو قال إلا أن يشاء الله أو قال بإرادة الله أو بقضاء الله تعالى أو بقدرته ولو قال إن أعانني الله أو بمعونة الله وأراد به الاستثناء يكون مستثنيا فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصدق في القضاء لأن الشيء بعد وجوده لا يحتمل الإعانة عليه فلا يمكن حمله على التعليق بالشرط فيجعل مجازا عن الاستثناء, وكذلك إذا قال إن يسر الله تعالى أو قال بتيسير الله تعالى ونوى الاستثناء. وسنذكر شرائط صحة الاستثناء في كتاب الطلاق ونذكر أن منها أن يكون الاستثناء موصولا بالكلام المتقدم وهو أن لا يكون بينهما فاصل إلا أن يكون الفصل لضرورة وعلى هذا ما روي عن ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق ثلاثا فاعلمي ذلك إلا بإذني أو قال إن شاء الله أنه يصح الاستثناء فلا تطلق وإن خرجت من الدار لأن حرف الفاء حرف عطف فيقتضي تعلق ما دخلت عليه الجملة المتقدمة فيصير الكل كلاما واحدا فلا يكون فاصلا, وإن قال اعلمي ذلك أو اذهبي لم يصح الاستثناء لأنه لم يوجد ما يوجب تعلق المذكور بالكلام الأول فصار كلاما مبتدأ فكان

 

ج / 3 ص -28-         فاصلا قاطعا للاستثناء فيتعلق الطلاق بالخروج. وقال القدوري وينبغي على قول أبي حنيفة أن لا يصح الاستثناء ويقع الطلاق في الفصلين جميعا بناء على أصله فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا وثلاثا إن شاء الله تعالى. "ومنها" أن لا يدخل بين الشرط والجزاء حائل, فإذا دخل لم يكن يمينا وتعليقا بل يكون تنجيزا وعلى هذا يخرج إدخال النداء في وسط الكلامين أنه يكون فاصلا مانعا من التعليق أولا وجملة الكلام فيه أن النداء أنواع ثلاثة نداء بالقذف بأن يقول يا زانية, ونداء بالطلاق بأن يقول يا طالق, ونداء بالعلم بأن يقول يا زينب أو يا عمرة, وكل واحد من الأنواع الثلاثة على ثلاثة أوجه إما أن ذكر النداء في أول الكلام "وأما" أن ذكره في أوسطه "وأما" أن ذكره في آخره وكل ذلك ينقسم إلى قسمين إما أن علق بشرط وهو دخول الدار ونحوه "وأما" أن نجز وأدخل فيه الاستثناء فقال إن شاء الله تعالى أما النداء بالقذف إذا ذكره في أول التعليق بالشرط لا يمنع من التعليق ويكون قذفا صحيحا بأن قال لامرأته يا زانية أنت طالق إن دخلت الدار. لأن قوله يا زانية وإن كان موضوعا للنداء لكنه وصف لها بالزنا من حيث المعنى لأنه اسم مشتق من حيث المعنى وهو الزنا والاسم المشتق من معنى يقتضي وجود ذلك المعنى لا محالة كسائر الأسماء المشتقة من المعاني من المتحرك والساكن ونحو ذلك سواء كان الاسم موضوعا للنداء أو غيره فصار بوصفه إياها بالزنا ونسبة الزنا إليها قاذفا لها بالزنا وهي زوجته وموجب قذف الزوجات اللعان عند استجماع شرائط اللعان ثم صار معلقا طلاقها بدخول الدار بقوله أنت طالق إن دخلت الدار فيتعلق به وهذا لأنه ناداها لتتنبه لسماع كلامه فلما تنبهت خاطبها باليمين وهي تعليق طلاقها بدخول الدار وكذا لو قال يا زانية أنت طالق إن شاء الله تعالى صار قاذفا لما قلنا ولا يقع الطلاق لدخول الاستثناء فيه. ولو بدأ بالنداء في الطلاق فقال يا طالق أنت طالق إن دخلت الدار وقع الطلاق بقوله يا طالق لأنه وصفها بالطلاق فيقتضي تقدم ثبوت الطلاق على وصفه إياها لضرورة صحة الوصف وتعلق طلاق آخر بدخول الدار لما ذكرنا في الفصل الأول, وكذا لو قال يا طالق أنت طالق إن شاء الله تعالى يقع الطلاق بقوله يا طالق ولم يقع الثاني لدخول الاستثناء عليه, ولو بدأ بالنداء بالعلم فقال يا عمرة أنت طالق إن دخلت الدار لا يقع شيء وتعلق الطلاق بالدخول لأنه بندائه إياها بالعلم نبهها على سماع كلامه ثم علق طلاقها بالدخول. وكذا لو قال يا عمرة أنت طالق يا عمرة إن شاء الله تعالى لا يقع شيء لما ذكرنا, هذا إذا بدأ بالنداء إما بالقذف أو بالطلاق أو بالعلم. فأما إذا أتى بالنداء في وسط الكلام في التعليق بالشرط بأن قال لها أنت طالق يا زانية إن دخلت الدار, فقد روى ابن سماعة عن محمد أنه لا يصير فاصلا ويتعلق الطلاق بدخول الدار ويصير قاذفا ويجب اللعان, وكان أبو يوسف يقول بهذا القول ثم رجع. وقال يقع الطلاق للحال ولا يصير قاذفا حتى لا يجب اللعان. وذكر محمد في الجامع أن الطلاق يتعلق بدخول الدار ولا يصير النداء فاصلا بين الشرط والجزاء مانعا من التعليق, ولا يصير قاذفا ولا يجب اللعان. قال المشايخ: ما ذكره ابن سماعة عن محمد هو قوله الأخير, وما ذكره محمد في الجامع قول أبي حنيفة, فحصل في المسألة ثلاثة أقوال على قول أبي حنيفة تعلق القذف وبطل في نفسه وتعلق الطلاق, وعلى قول محمد تعلق الطلاق ولم يتعلق القذف بل تحقق للحال, وعلى قول أبي يوسف تعلق القذف فبطل في نفسه ولم يتعلق الطلاق بل تنجز. "وجه" قول أبي يوسف أنه لما ذكر قوله إن دخلت الدار عقيب قوله يا زانية فقد علق القذف بالشرط, والقذف لا يتعلق بالشرط لأنه وصف الشخص بالزنا كقوله قائمة وقاعدة أنه وصفها بالقيام والقعود ووصف الشيء بصفة يكون إخبارا عن وجود الصفة فيه والإخبار مما لا يتعلق بالشرط حتى يكون صادقا عند وجوده كاذبا عند عدمه أو مخبرا عند وجوده غير مخبر عند عدمه, وإذا لم يتعلق صار لغوا فصار حائلا بين الشرط والجزاء فينزل الجزاء, لكن مع هذا لا يصير قاذفا لأنه قصد تعليق القذف بالشرط ومن قصد تعليق شيء بشرط لا يكون مثبتا له في الحال فلم يصر قاذفا, وعند وجود الشرط لا يصير قاذفا أيضا لأنه لم يتعلق به حتى ينزل عند وجوده. "وجه" ما روى ابن سماعة عن محمد أن قوله يا زانية وإن لم يتعلق ولكنه مع هذا لا يصير لغوا لأنه لتأكيد الخطاب الموجود بقوله أنت طالق فصار مؤكدا لباب الخطاب فالتحق به فصار كأنه قال أنت يا زانية إن دخلت الدار طالق

 

ج / 3 ص -29-         فتعلق الطلاق بالدخول وبقي القذف متحققا ألا ترى أنه لو قال أنت طالق يا عمرة إن دخلت الدار صح التعليق؟ ولم يصر قوله يا عمرة فاصلا كذا ههنا. "وجه" قول أبي حنيفة: إن تعليق الطلاق بالشرط قد صح لما مر في كلام محمد والقذف لم يتحقق لأنه ذكر عقيبه الشرط, والقذف متى علق بالشرط لا يقصد الإنسان تحقيقه للحال واليا بعد وجود الشرط على ما مر, وكان القاضي الجليل يقول تعليق القذف بالشرط يكون تبعيدا للقذف كما يقول الرجل إن فعلت كذا فامرأته زانية أو أمه زانية يريد بذلك تبعيد الفعل ولن يتحقق تبعيد الفعل إلا بتبعيد الاتصاف بالزنا عن أمه وامرأته وبمثل هذا يحصل الوصف بالإحصان دون الوصف بالزنا وإلحاق العار به والله عز وجل أعلم  وكذا لو قال أنت طالق يا زانية إن شاء الله تعالى فهو على هذا الخلاف, ولو كان النداء بالطلاق بأن قال أنت طالق يا طالق إن دخلت الدار هذا أيضا على الخلاف بين أبي يوسف ومحمد إلا أن أبا حنيفة يفرق بين هذا وبين النداء بالزنا بقوله يا زانية ويقول يقع الطلاق منجزا بقوله أنت طالق ولا يتعلق بدخول الدار ويصير كقوله يا طالق فاصلا, ووجه الفرق أن قوله يا طالق وإن كان نداء فهو إيقاع الطلاق فكان قوله أنت طالق يا طالق إيقاعا عقيب إيقاع من غير عطف البعض على البعض والشرط اتصل بآخر الإيقاعين دون الأول منهما فبقي الأول تنجيزا بخلاف قوله يا زانية فإنه نداء وتأكيد لما تقدم من تاء الخطاب لا إيقاع فلم يتعلق به فلم يصر حائلا فلم يمنع من تعلق الشرط بالجزاء, ولو قال أنت طالق يا طالق إن شاء الله هذا أيضا على ما ذكرنا من الخلاف بينهم والفرق لأبي حنيفة بين هذا وبين قوله أنت طالق يا زانية إن شاء الله ولو كان النداء بالعلم بأن قال أنت طالق يا عمرة إن دخلت الدار فههنا يتعلق الطلاق بالشرط بالإجماع وأبو يوسف يحتاج إلى الفرق بين هذا وبين قوله يا زانية, والفرق أن قوله يا عمرة لا يفيد إلا ما يفيده قوله أنت فكان تأكيدا له فالتحق به فلم يصر فاصلا. وأما قوله يا زانية ففيه زيادة أمر لا تفيده تاء الخطاب وهو إثبات وصف الزنا ويتعلق به شرعا حكم وهو الحد أو اللعان في الجملة فلا يمكن أن يجعل تكرارا للتاء الموضوعة للخطاب فكان معتبرا في نفسه فلم يصر ملتحقا بتاء الخطاب فبقي فاصلا. فأما فيما نحن فيه بخلافه على ما مر, ولو قال أنت طالق يا عمرة إن شاء الله لا يقع الطلاق لما مر, هذا إذا أتى بالنداء في أول الكلام أو وسطه. فأما إذا أتى به في آخر الكلام أما في النداء بالزنا بأن قال أنت طالق إن دخلت الدار يا زانية فإن الطلاق يتعلق بالدخول لأنه علق الطلاق بالدخول ثم ناداها بعد ذلك فصار قاذفا ولم يوجد بعد القذف شرط ليقال أنه قصد تعليق القذف بعد تحقيقه. وكذا في قوله أنت طالق إن شاء الله يا زانية بطل الطلاق وتحقق القذف, وفي قوله أنت طالق إن دخلت الدار يا طالق تعلق الأول بالدخول ووقع بقوله يا طالق طلاق لدخول الشرط في الأول دون قوله يا طالق. وكذا لو قال أنت طالق إن شاء الله يا طالق. وكذا قوله أنت طالق إن دخلت الدار يا عمرة, فهذا رجل علق الطلاق بدخول الدار ثم ناداها ونبهها بالنداء على اليمين والخطاب فصح التعليق وكذا لو قال أنت طالق إن شاء الله يا عمرة لا يقع شيء لما مر. قال أبو حنيفة. ولو قال لامرأته ولم يدخل بها أنت طالق يا زانية ثلاثا فهي ثلاث ولا حد ولا لعان. وقال أبو يوسف هي طالق واحدة وعليه الحد أبو حنيفة لم يفرق بين المدخول بها وغير المدخول بها لأن قوله يا زانية نداء فلا يفصل بين العدد وهو قوله ثلاثا وبين أصل الإيقاع وهو قوله أنت طالق وإذا لم يفصل فيوقف الوقوع على آخر الكلام وهو قوله ثلاثا فتبين فلا يمكن إلحاق اللعان بعد البينونة وأبو يوسف يقول: إن قوله يا زانية يفصل بين الإيقاع والعدد فبانت بقوله أنت طالق فصادفها قوله يا زانية وهي أجنبية فيجب عليه الحد ويلغو قوله ثلاثا قال أبو يوسف ولا يشبه هذا المدخول بها إذا قال لها أنت طالق يا زانية ثلاثا أنها تبين بثلاث ولا حد ولا لعان لأنا وإن اعتبرنا قوله يا زانية فاصلا فإنه لا يمنع إلحاق الثلاث به, فإنه لو قال لها أنت طالق وسكت فقيل له كم؟ فقال: ثلاثا فكذا إذا فصل بقوله يا زانية. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف إذا قال لها قبل الدخول بها أنت طالق ثلاثا أو قال أنت طالق إن دخلت الدار فماتت بعد قوله أنت طالق قبل قوله إن دخلت الدار فهذا باطل لا يلزمه طلاق لأن العدد إذا قرن بالتطليق كان الواقع هو العدد وهي عند ذلك ليست بمحل لوقوع الطلاق عليها, والشرط إذا لحق بآخر الكلام يتوقف أول الكلام

 

ج / 3 ص -30-         على آخره ولا يفصل آخر الكلام عن أوله وقد حصل آخر الكلام وهي أجنبية. ولو قال أنت طالق ثلاثا يا عمرة فماتت قبل أن يقول يا عمرة فالطلاق لازم لأن قوله يا عمرة نداء ليس بشرط ولا عدد يتوقف الوقوع عليه فلا يتوقف والله عز وجل أعلم

                                                           "فصل":
وأما حكم هذه اليمين فحكمها واحد وهو وقوع الطلاق أو العتاق المعلق عند وجود الشرط فتبين أن حكم هذه اليمين وقوع الطلاق والعتاق المعلق بالشرط, ثم نبين أعيان الشروط التي تعلق بها الطلاق والعتاق على التفصيل, ومعنى كل واحد منهما حتى إذا وجد ذلك المعنى يوجد الشرط فيقع الطلاق والعتاق وإلا فلا, أما الأول فلأن اليمين بالطلاق والعتاق هو تعليق الطلاق والعتاق بالشرط ومعنى تعليقهما بالشرط وهو إيقاع الطلاق والعتاق في زمان ما بعد الشرط لا يعقل له معنى آخر, فإذا وجد ركن الإيقاع مع شرائطه لا بد من الوقوع عند الشرط. فأما عدم الوقوع عند عدم الشرط فليس حكم التعليق بالشرط عندنا بل هو حكم العدم الأصلي لأن الوقوع لم يكن ثابتا في الأصل, والثبوت على حسب الإثبات, والحالف لم يثبت إلا بعد الشرط فبقي حكمه باقيا على أصل العدم لا أن يكون العدم موجب التعليق بالشرط بل موجبه الوقوع عند وجود الشرط فقط ثم الشرط إن كان شيئا واحدا يقع الطلاق عند وجوده بأن قال لامرأته إن دخلت هذه الدار فأنت طالق أو أنت طالق إن دخلت هذه الدار يستوي فيه تقديم الشرط في الذكر وتأخيره وسواء كان الشرط معينا أو مبهما بأن قال إن دخلت هذه الدار أو هذه فأنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار أو هذه وكذلك إذا كان وسط الجزاء بأن قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق أو هذه الدار لأن كلمة أو ههنا تقتضي التخيير فصار كل فعل على حياله شرطا فأيهما وجد وقع الطلاق, وكذلك لو أعاد الفعل مع آخر بأن قال إن دخلت هذه الدار أو دخلت هذه سواء أخر الشرط أو قدمه أو وسطه. وروى ابن سماعة عن محمد فيمن قال إن دخلت هذه الدار أو هذه الدار وإن دخلت هذه فعبدي حر أن اليمين على أن يدخل إحدى الأوليين ويدخل الثالثة فأي الأوليين دخل ودخل الثالثة حنث لأنه جعل شرط حنثه دخول إحدى الأوليين ودخول الثالثة لأنه ذكر إحدى الأوليين بكلمة أو فيتناول إحداهما ثم جمع دخول الثالثة إلى دخول إحداهما لوجود حرف الجمع وهو الواو في قوله وإن دخلت هذه فصار دخول الثالثة مع دخول إحدى الأوليين شرطا واحدا فإذا وجد حنث هذا إذا أدخل كلمة أو بين شرطين في يمين واحدة. فأما إذا أدخلها بين إيقاع ويمين أو بين يمينين كما روى ابن سماعة وبشر عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته أنت طالق ثلاثا أو والله لأضربن هذا الخادم اليوم فضرب الخادم من يومه فقد بر في يمينه وبطل الطلاق لأنه خير نفسه بين الطلاق وبين الضرب في اليوم فإذا وجد أحدهما انتفى الآخر فإذا مضى اليوم قبل أن يضرب الخادم فقد حنث في يمينه ويخير فإن شاء أوقع الطلاق وإن شاء ألزم نفسه اليمين؛ لأنه قد حنث في أحد الأمرين وهو المبهم فكان إليه التعيين فإن قال في اليوم قبل مضيه قد اخترت أن أوقع الطلاق لزمه وبطلت اليمين لأنه خير نفسه بين الإيقاع وبين اليمين فإذا أوقع فقد سقطت اليمين ولو قال قد اخترت التزام اليمين وأبطلت الطلاق فإن الطلاق لا يبطل حتى لو مضى اليوم قبل أن يضرب الخادم حنث في يمينه لأن اختيار التزام اليمين لا يبطل اليمين لأن اليمين لا يجب على الإنسان بالالتزام حتى يبطل بالاختيار فبقيت اليمين على حالها. ولو قال لامرأته أنت طالق ثلاثا أو والله لأضربن فلانة فماتت فلانة قبل أن يضربها فقد حنث في يمينه وهو مخير إن شاء ألزم نفسه الطلاق وإن شاء الكفارة لأن شرط البر فات بموتها فحنث في إحدى اليمينين ولو كان الرجل هو الميت والمحلوف على ضربها حية فقد وقع الحنث على الرجل والطلاق وقد مات قبل أن يبين فلا يقع الطلاق عليها ولها الميراث لأنه لما كان مخيرا بين الطلاق والتزام الكفارة لا يقع الطلاق بالشك ولا يجبره الحاكم على البيان لأن أحدهما وهو الكفارة لا يدخل تحت الحكم فلا يقدر الحاكم على إلزامه ولكن يلزمه فيما بينه وبين الله تعالى ولو كان بدل الكفارة طلاق أخرى فقال أنت طالق ثلاثا أو هذه فههنا يجبره الحاكم حتى يبين لأن الواقع طلاق وإنه

 

ج / 3 ص -31-         مما يدخل في الحكم, ولو قال أنت طالق أو علي حجة أو عمرة لم يجبره الحاكم على الاختيار إنما يفتي في الوقوع أن يوقع أيهما شاء ويبطل الأخرى, ولو قال أنت طالق ثلاثا أو فلانة علي حرام يعني اليمين فإنه يخير تخيير الفتوى ولا يجبره القاضي حتى يمضي أربعة أشهر قبل أن يقرب لأنه لا يقدر على أن يسقط ذلك عن نفسه بالكفارة فإذا مضت أربعة أشهر قبل أن يقرب يخير تخيير حكم ويقال له أوقع طلاق الإيلاء على التي حرمت أو طلاق الكلام على التي تكلمت بطلاقها لأن الطلاق لا بد أن يقع على إحداهما فخير فيه تخيير الحاكم. وقال محمد في الجامع إذا قال والله لا أدخل هذه الدار أو لا أدخل هذه فإن دخل إحداهما حنث لأن كلمة أو إذا دخلت بين شيئين تناولت كل واحد على الانفراد قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً}. قال والله لا أدخل هذه الدار أبدا أو لأدخلن هذه الدار الأخرى اليوم فإن دخل الأولى حنث وإن لم يدخلها ولم يدخل الأخرى حتى مضى اليوم حنث لأنه خير نفسه في اليمين أن لا يدخل الدار الأولى أو يدخل الأخرى في اليوم فإن دخل الأخرى في اليوم بر في يمينه وإن مضى اليوم حنث في إحدى اليمينين قال ابن سماعة في نوادره سمعت محمدا قال في رجل قال عبده حر إن لم يدخل هذه الدار اليوم فإن لم يدخلها اليوم دخل هذه قال محمد ليس هذا باستثناء واليمين على حالها ولا أبالي وصل هذا الكلام أو فصله فإن لم يدخل الدار الأولى اليوم حنث لأن قوله فإن لم يدخلها ليس بلفظ تخيير فبقيت اليمين الأولى بحالها والله عز وجل أعلم هذا إذا كان الشرط شيئا واحدا فإن كان شيئين بأن عطف أحدهما على الآخر بحرف العطف لا ينزل إلا عند وجود الشرطين لأنه علقهما بهما فلو نزل عند وجود أحدهما لنزل من غير صنعه. وهذا لا يجوز سواء قدم الشرطين على الجزاء في الذكر أو أخرهما أو وسط الجزاء بأن قال لها إن دخلت هذه الدار وهذه الدار فأنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار وهذه الدار أو قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق وهذه الدار لا يقع الطلاق إلا عند دخول الدارين جميعا أما إذا قدم الشرطين على الجزاء أو أخرهما عنه فلأنه جمع بين الشرطين بحرف الجمع والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع ولو جمع بينهما بلفظ الجمع بأن قال إن دخلت هاتين الدارين فأنت طالق أو أنت طالق إن دخلت هاتين الدارين لا يقع الطلاق إلا عند دخول الدارين جميعا كذا هذا وإنما استوى فيه تقديم الشرطين وتأخيرهما لأن الجزاء يتعلق بالشرط كيفما كان فكان التقديم والتأخير فيه سواء وأما إذا وسط الجزاء فلأن الشيء يعطف على جنسه لا على غير جنسه فلا يصح عطف الشرط على الجزاء فيجعل معطوفا على الشرط, وكذلك إذا كان العطف بحرف الفاء بأن قال إن دخلت هذه الدار فهذه الدار أنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار فهذه الدار أو قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فهذه الدار فهذا كله سواء ولا يقع الطلاق إلا عند دخول هذين الدارين جميعا كما في الفصل الأول إلا أن هناك لا يراعى الترتيب في دخول الدارين وههنا يراعى وهو أن تدخل الدار الثانية بعد دخولها الأولى وإلا فلا يقع الطلاق لأن الواو والفاء وإن كانت كل واحدة منهما حرف عطف وجمع لكن الواو للجمع المطلق والفاء للجمع المقيد وهو الجمع على سبيل التعقيب لذلك لزم مراعاة الترتيب في الثاني دون الأول. وكذلك إن كان العطف بكلمة ثم بأن قال إن دخلت هذه الدار ثم هذه الدار فأنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار ثم هذه الدار أو قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم هذه الدار فهذه والفاء سواء في أنه يراعى الترتيب في الدخول في كل واحدة منهما إلا أن ههنا لا بد وأن يكون دخول الدار الثانية متراخيا عن دخول الأولى لأن كلمة ثم للترتيب والتعقيب مع التراخي هذا إذا كرر حرف العطف بدون الفعل فإن كرر مع الفعل فإن كان بالواو بأن قال إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار فأنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار ودخلت هذه الدار فهذا وما إذا كرر حرف العطف بدون الفعل سواء؛ لأن الواو للجمع المطلق فيقتضي اجتماع الشرطين فيستوي فيه إعادة الفعل وعدم الإعادة وإن كانت بالفاء فقال إن دخلت هذه الدار فدخلت هذه الدار الأخرى فأنت طالق أو قال أنت طالق إن دخلت هذه الدار فدخلت هذه الدار الأخرى فقد ذكر ابن سماعة عن أبي يوسف أنه فرق بين الفاء وبين الواو في هذه الأوجه

 

ج / 3 ص -32-         فقال في الأول يقع الطلاق عند دخول الدارين من غير مراعاة الترتيب, وفي الثاني لا يقع إلا أن يكون المذكور بالفاء آخرا حتى لو دخلت الدار الثانية قبل الأولى ثم دخلت الأولى لا يحنث. ووجه الفرق ما ذكرنا أن الواو تقتضي الجمع المطلق من غير شرط الترتيب والفاء تقتضي التعقيب فيستدعي تأخر الفعل الثاني عن الأول وقد ذكر ابن سماعة عن محمد في هذا زيادة تفصيل فقال في رجل قال لامرأته إن دخلت دار فلان فدخلت هذه الدار فأنت طالق ولم يدخل بها ثم طلقها فدخلت دار فلان ثم تزوجها فدخلت الدار الثانية لم تطلق كأنه جعل دخول دار فلان شرطا لانعقاد اليمين فإنما يصير حالفا حين دخلت الدار الأولى ولا ملك له في ذلك الوقت فيصير حالفا بطلاق امرأة لا يملكها فلا تطلق وإن دخلت الدار الثانية وهي امرأته لم لم تنعقد اليمين؟ وقد روي عن أبي يوسف مثل هذه في مسألة أخرى فقال إذا قال لامرأتين له إذا غشيت هذه فإذا غشيت هذه الأخرى فعبدي حر فليس الحلف على الأولى إنما تنعقد عليه اليمين في الثانية إذا غشي الأولى ويكون موليا من الثانية إذا غشي الأولى, والفاء في هذه المواضع لا تشبه الواو فدل ذلك على أنه جعل غشيان الأولى شرطا لانعقاد اليمين في الثانية. ولو قال لامرأته قبل الدخول بها أنت طالق إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار أو وسط الجزاء بأن قال إن دخلت هذه الدار فأنت طالق وإن دخلت هذه الدار فإن أبا يوسف ومحمدا قالا: أي الدارين دخلت طلقت وسقطت اليمين ولا تطلق بدخول الدار الأخرى لأنه لما أعاد حرف الشرط مع الفعل فلم يكن عطفا على الأولى في الشرط بل صار ذلك يمينا أخرى أضمر فيها الجزاء فأيهما وجد نزل الجزاء وانحلت اليمين لأن جزاء الثاني لم يبق وإن قدم الشرطين على الجزاء فقال إن دخلت هذه الدار وإن دخلت هذه الدار فأنت طالق فإنها لا تطلق حتى تدخل الدارين جميعا وهو قول محمد, روى ابن سماعة عنه وذكر محمد في الجامع. وقال هو إحدى الروايتين عن أبي يوسف وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه سوى بين ذلك فقال: أي الدارين دخلت طلقت كما في الأولى. وجه قول محمد أنه لما عطف الشرط على الشرط قبل الجزاء دل ذلك على أنها يمين واحدة لأن الكلام الأول وهو قوله إن دخلت هذه الدار ليس بتام لأنه لا جزاء له فقوله بعد ذلك وإن دخلت هذه الدار يكون شرطا على حدة إلا أنه لم يذكر له جزاء فكان جزاء الأول جزاء الثاني فأيهما وجد نزل الجزاء وتبطل اليمين الأخرى؛ لأنه لم يبق لها جزاء بخلاف الفصل الأول لأن هناك اليمين قد تمت بذكر الجزاء فلما أعاد حرف الشرط مع الفعل دل ذلك على أنه كلام مبتدأ. وجه قول أبي يوسف أن تقديم الشرط على الجزاء وتأخيره عنه في باب اليمين سواء, ولو قدمه كان الجواب هكذا فكذا إذا أخر والله عز وجل أعلم, ولو كرر الشرط وعلق به جزاء واحد فإن كرر بدون حرف العطف بأن قال إن تزوجت فلانة إن تزوجت فلانة فهي طالق فاليمين انعقدت بالقول الثاني, والقول الأول لغو, وكذلك إذا متى وإن إذا وإن متى, وكذلك إن بدأ بإذا وأخر إن, أو قال إذا ثم قال متى, لأن الشرط لا يتعلق به حكم إلا بانضمام الجزاء إليه وقد ضم الجزاء إلى الشرط الثاني لأنه موصول به حقيقة فيقطع عن الأول فبقي الأول من غير جزاء فلغا, وإن قدم الجزاء فقال أنت طالق إن تزوجتك انعقدت اليمين بالكلام الأول, والكلام الثاني لغو, لأن الجزاء تعلق بالشرط الأول, والثاني غير معطوف عليه فبقي شرطا لا جزاء له فلغا ولو قال إذا تزوجتك فأنت طالق إن تزوجتك فإنما انعقدت اليمين بالكلام الآخر والكلام الأول لغو, لأن إن شرط محض ألا ترى أنه لا يستعمل إلا في الشرط وإذ قد يستعمل في الوقت ولا بد من تعليق الطلاق بأحدهما فتعليقه بالشرط المحض أولى. وذكر محمد في الجامع في رجل قال لدار واحدة إن دخلت هذه الدار فعبدي حر إن دخلت هذه الدار فدخلها دخلة واحدة فإنه ينبغي في القياس أن لا يحنث حتى يدخل الدار دخلتين ولكنا نستحسن ونجعله حانثا بالدخلة الأولى. "وجه" القياس أن تكرار الشرط يمكن أن يحمل على فائدة وهو أنه أراد به العطف إلا أنه حذف حرف العطف فصار الشرط دخولها مرتين. "وجه" الاستحسان أن التكرار يجعل ردا للكلام الأول لأن الغرض من هذه اليمين المنع, والظاهر أن الإنسان يمنع نفسه من أصل الدخول دون التكرار إلا أن يعني دخلتين فيكون على ما عنى لأن الظاهر أن الإنسان لا يتكلم

 

ج / 3 ص -33-         بشيء إلا لفائدة تتعلق به فقد نوى ظاهر كلامه فيصدق, وإن كرر بحرف العطف فقال إن تزوجتك وإن تزوجتك أو قال إن تزوجتك فإن تزوجتك أو إذا تزوجتك ومتى تزوجتك لا يقع الطلاق حتى يتزوجها مرتين, لأنه لما عطف أحد الشرطين على الآخر فقد علق الجزاء بهما فيتعلق بهما, ولو قدم الطلاق فقال أنت طالق إن تزوجتك فإن تزوجتك فهذا على تزويج واحد وهو مخالف للباب الأول, لأن الكلام الأول تم بالجزاء والشرط فإذا أعاد الشرط بعد تمام الكلام لم يتعلق به حكم, ولو قال إن تزوجتك فأنت طالق وإن تزوجتك طلقت بكل واحد من التزويجين؛ لأنه عطف التزويج على الجزاء فصار الجزاء مضمرا فيه كأنه قال إن تزوجتك فأنت طالق, والله عز وجل أعلم. ولو قال كلما دخلت هذه الدار وكلمت فلانا فعبد من عبيدي حر فدخلت الدار دخلات وكلمت فلانا مرة واحدة لا يعتق إلا عبد واحد لأنه جعل شرط العتق دخول الدار وكلام فلان فإذا تكرر أحد الشرطين ولم يوجد الآخر إلا مرة واحدة فقد تم شرط يمين واحدة ووجد بعض شرط يمين أخرى فلا يعتق إلا عبد واحد, ولو قال كلما دخلت هذه الدار فإن كلمت فلانا فأنت طالق فدخلت الدار ثلاث دخلات ثم كلمت فلانا مرة طلقت امرأته ثلاثا؛ لأنه جعل الجملة المذكورة بعد حرف الفاء من ذكر الشرط والجزاء جزاء الدخول, والجزاء يتكرر بتكرر الشرط إذا كان الشرط مذكورا بكلمة كلما ويصير كأنه علق عند كل دخول طلاقها بكلامها فإذا كلمت فلانا مرة تطلق ثلاثا إذ الفعل الواحد يصلح شرطا في أيمان كثيرة فيحنث في جميعها. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف ما يجري مجرى الشرح للمسألة الأولى أنه قال لو قال كلما دخلت هذه الدار وكلمت فلانا فأنت طالق فهذا عليهما جميعا فإن دخلت الدار ثلاث دخلات ثم كلمت فلانا مرة طلقت واحدة لأن الواو للجمع فيصير الدخول والكلام جميعا شرطا, وتكرار بعض الشرط لا يتعلق به حنث فإن عادت فكلمت فلانا قبل أن تدخل الدار الرابعة طلقت أخرى لأنه تم شرط يمين أخرى فإن عادت فكلمت فلانا الثالثة طلقت أخرى لتمام شرط اليمين الثالثة قال وكذلك لو بدأت بكلام فلان فكلمته ثلاث مرات ثم دخلت الدار دخلة طلقت واحدة فإن عادت فدخلتها الثانية قبل الكلام طلقت أخرى فإن عادت فدخلت الثالثة طلقت أيضا ثنتين؛ لأنه لا يراعى فيه الترتيب وأنه لا فرق بين تقديم أحد الشرطين على الآخر وبين تأخيره. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف ما يجري مجرى شرح المسألة الثانية أنه قال لو قال كلما دخلت هذه الدار فإن كلمت فلانا فأنت طالق فإن اليمين في هذا كله إنما تنعقد بدخول الدار فكلما دخلت دخلة انعقدت يمين فإن كلمت فلانا طلقت فإن عادت فدخلت الدار ثم كلمت فلانا طلقت أخرى فإن عادت فدخلت الدار ثم كلمت فلانا طلقت أخرى ولو بدأت فدخلت الدار ثلاث دخلات ثم كلمت فلانا مرة طلقت ثلاث مرات؛ لأنه جعل دخول الدار شرط انعقاد اليمين فينعقد عند كل دخلة يمين لمكان كلمة كلما فقد انعقدت عليها أيمان فانحلت بشرط واحد. قال ولو بدأت بكلام فلان لم ينعقد به يمين ولم يقع به طلاق حتى تكلم فلانا بعد دخول الدار؛ لأنه جعل الدخول شرط انعقاد اليمين فما لم تدخل لا ينعقد فلا يقع بالكلام طلاق. قال: وسمعت أبا يوسف قال: ولو قال كلما دخلت هذه الدار فكلما كلمت فلانا فأنت طالق قال فهذا عليها ويكون الفاء جزاء فإن بدأت فدخلت الدار ثلاث دخلات ثم كلمت فلانا مرة طلقت ثلاثا ولو دخلت الدار ثم كلمت فلانا ثلاث مرات طلقت ثلاثا؛ لأن اليمين قد انعقدت بدخول الدار فإذا تكرر شرطها يتكرر الحنث؛ لأن كلما للتكرار, والله عز وجل أعلم. ولو قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق وفلانة لامرأته طلقت امرأته الساعة ولا ينتظر به التزويج؛ لأن كلمة كل ليست كلمة شرط لما قلنا لكن فيها معنى الشرط من حيث إنه يتوقف نزول الجزاء على امرأة موصوفة بصفة أنها متزوجة, وفلانة غير موصوفة بهذه الصفة فلا يقف طلاقها عليها ولو قال كل امرأة من نسائي تدخل الدار فهي طالق وفلانة سمى بعض نسائه فإن الطلاق يقع عليها الساعة قبل أن دخل الدار لما ذكرنا فإن دخلت الدار وهي في العدة طلقت أخرى لأنها قد دخلت في عموم قوله كل امرأة من نسائي تدخل الدار ولو قال أنت ومن دخل الدار من نسائي طالق

 

ج / 3 ص -34-         كانت طالقا ساعة سكت لما ذكرنا أنه أوقع الطلاق على الموصوف وهذه غير موصوفة ولو دخلت هي في هذه العدة طلقت أخرى لما بينا, ولو قال لامرأته أنت طالق وفلانة إن تزوجتها لم يقع الطلاق على امرأته حتى يتزوج بالأخرى لأنه علق طلاقها بالشرط وهو التزوج لإتيانه بكلمة الشرط نصا فيتعلق به بخلاف الفصل الأول, ولو قال لعبده أنت حر ومن دخل الدار من عبيدي عتق الأول للحال لما ذكرنا فإن عني أن عتقه معلق بدخول الدار لم يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر لانعدام التعليق بالشرط حقيقة وهو متهم فيه لما فيه من التخفيف عليه فلا يصدقه القاضي, والله تعالى الموفق. وذكر محمد في الجامع في رجل له امرأتان فقال لإحداهما أنت طالق إن دخلت هذه الدار لا بل هذه فإن دخلت الأولى الدار طلقتا ولا تطلق الثانية قبل ذلك؛ لأن قوله لإحداهما أنت طالق إن دخلت هذه الدار تعليق طلاقها بشرط الدخول, وقوله: "لا" رجوع عن تعليق طلاقها بالشرط, وقوله "بل" إثبات تعليق طلاق هذه بالشرط, والرجوع لا يصح, والإثبات صحيح فبقيت فيتعلق طلاقها بالشرط, ولو قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لا بل غلامي فلان حر عتق عبده الساعة؛ لأن قوله لا بل غلامي فلان حر جملة تامة لكونها مبتدأ وخبرا فلا تفتقر إلى ما تقدم من الشرط فلا يتعلق به بخلاف ما إذا قال إن تزوجت فلانة فهي طالق لا بل فلانة وهي امرأته أن امرأته لا تطلق الساعة؛ لأن قوله لا بل فلانة غير مستقل بنفسه بل هو مفتقر إلى الكلام الأول وذلك متعلق بالشرط فيتعلق هذا أيضا, ولو قال لعبده أنت حر إن دخلت الدار لا بل فلان لعبد له آخر لا يعتق الثاني إلا بعد دخول الدار لأنه استدرك بكلام غير مستقل فتعلق بالشرط. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره لو أن رجلا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق لا بل هذه فدخلت الأولى الدار طلقتا ثلاثا؛ لأن قوله لا بل هذه غير مستقل فأضمر فيه الشرط فصار طلاقها جزاء الدخول كطلاق الأولى, والجزاء في حق الأولى ثلاث تطليقات كذا في حق الثانية, ولو قال أنت طالق وطالق وطالق لا بل هذه وقع على الثانية واحدة وعلى الأولى ثلاث لأنه يضمر في حق الثانية ما يستقل به الكلام والكلام يستقل بإضمار تطليقة واحدة ألا ترى أن التطليقات ههنا متفرقة فصار كأنه قال لا بل هذه طالق بخلاف الفصل الأول؛ لأن هناك علق الثلاث جملة بالدخول فلا بد من اعتبارها جملة واحدة على حسب التعليق فصارت تلك الكلمة مستدركة في حق الثانية, ولو قال لامرأته أنت طالق إن كلمت فلانا لا بل هذه فكان على الكلام لا على الطلاق وهذا خلاف ما ذكره محمد في الجامع ويجوز أن يكون قول أبي يوسف لأنه نسقها على الكلام فتعلق طلاقها بكلام فلان, فإن قال إن كلمت فلانا فأنت طالق لا بل هذه فقوله لا بل هذه على الطلاق؛ لأنه نسقها على الجزاء فتعلق طلاقها بما تعلق به طلاق الأخرى, قال بشر عن أبي يوسف فيمن قال كل امرأة أتزوجها فهي طالق إن دخلت الدار فتزوج امرأة ثم دخل الدار ثم تزوج أخرى فإن الطلاق يقع على التي تزوج قبل الدخول ولا يقع على التي تزوج بعد الدخول, وكذلك محمد في الجامع؛ لأنه أوقع الطلاق على امرأة موصوفة بأنه تزوجها قبل الدخول والموصوفة بهذه الصفة التي تزوجها قبل الدخول لا بعد الدخول فلا تطلق المتزوجة بعد الدخول, ونظيره إذا قال كل امرأة لي عمياء طالق إن دخلت الدار فدخل ثم عميت امرأته لا تطلق كذا هذا, ولو بدأ بالدخول فقال إن دخلت الدار فكل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة ثم دخل الدار ثم تزوج أخرى فإن الطلاق يقع على التي تزوج بعد الدخول ولا يقع على التي تزوج قبل الدخول؛ لأنه جعل دخول الدار شرط انعقاد اليمين الثانية فصار كأنه قال عند الدخول كل امرأة أتزوجها فهي طالق فلا يدخل في ذلك ما تزوج من قبل. قال أبو يوسف فإن نوى ما تزوج قبل أو بعد في المسألتين جميعا فليس يقع على ما نوى ولا يلزمه ذلك؛ لأنه نوى ما لا يحتمله لفظه. قال بشر ولو قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق إن دخلت الدار فدخل الدار ثم تزوج لا يقع الطلاق فإن دخل الدار ثانيا وقع الطلاق لأنه عقد اليمين على دخول بعد التزوج لا على دخول قبله فلم يكن الدخول قبل التزوج معقودا عليه فلا تنحل به اليمين, فإذا وجد الدخول الثاني وهو المعقود عليه وقع به الطلاق ولو قال كل امرأة أتزوجها إلى سنة فهي طالق إن كلمت فلانا فهو

 

ج / 3 ص -35-         على ما يتزوج في الوقت, سواء كان قبل الكلام أو بعده, كذا ذكر محمد في الجامع لأنه لما قال كل امرأة أتزوجها إلى سنة فلا بد وأن يكون للتوقيت فائدة فلو اختصت اليمين بما يتزوج قبل الكلام بطل معنى التوقيت فيصير الكلام شرطا لوقوع الطلاق المعلق بالتزوج, ولو بدأ بالكلام فقال إن كلمت فلانا فكل امرأة أتزوجها إلى سنة فهي طالق فهذا يقع على ما بعد الكلام, والتوقيت وعدم التوقيت فيه سواء, لأنه لما بدأ بالكلام فقد جعل الكلام شرطه انعقاد اليمين فلا يدخل فيه المزوجة قبل الكلام ويكون فائدة التوقيت تخصيص العقد بمن تزوج في المدة دون ما بعدها, والله عز وجل أعلم. ولو عطف الحالف على يمينه بعد السكوت فالأصل فيه ما روي عن أبي يوسف أنه قال إذا عطف على يمينه بعد السكوت ما يوسع على نفسه لم يقبل قوله كما لا يقبل في الاستثناء بعد السكوت وإن عطف بما شدد على نفسه جاز وإذا ثبت هذا الأصل فقال ابن سماعة سمعت أبا يوسف قال في رجل قال إن دخلت فلانة الدار فهي طالق ثم سكت سكتة ثم قال وهذه يعني امرأة له أخرى فإنها تدخل في اليمين؛ لأن الواو للجمع فكأنه قال وهذه طالق إن دخلت تلك الدار وفي هذا تشديد على نفسه, وكذلك إن قال إن دخلت هذه الدار لأنه عطف على الشرط وفيه تشديد؛ لأن هذا يقتضي وقوع الطلاق على الأولى بدخول كل واحدة من الدارين وفي هذا تشديد على نفسه وكذلك لو نجز فقال هذه طالق ثم سكت ثم قال وهذه طلقت الثانية؛ لأنه جمع بينهما في الإيقاع وهذا تشديد على نفسه, ولو قال لامرأته أنت طالق إن دخلت الدار ثم سكت ثم قال وهذه يعني دارا أخرى فليس له ذلك فإن دخلت الأولى طلقت؛ لأن قوله وهذه يعني دارا أخرى يقتضي زيادة في شرط اليمين الأولى لأنه إذا علق الطلاق بدخول دارين لا يقع بإحداهما وهو لا يملك تغيير شرط اليمين بعد السكوت ولأن في هذا توسيعا على نفسه فلا يجوز بعد السكوت كالاستثناء, والله عز وجل أعلم. "وأما" بيان أعيان الشروط التي تعلق بها الطلاق والعتاق فالشروط التي تعلق بها الطلاق والعتاق لا سبيل إلى حصرها لكثرتها لتعلقها باختيار الفاعل فنذكر القدر الذي ذكره أصحابنا في كتبهم, والمذكور من الشروط في كتبهم نوعان:. أفعال حسية: وأمور شرعية, أما النوع الأول: فالدخول والخروج والكلام والإظهار والإفشاء والإعلام والكتم والإسرار والإخفاء والبشارة والقراءة ونحوها والأكل والشرب والذوق والغداء والعشاء واللبس والسكنى والمساكنة والإيواء والبيتوتة والاستخدام والمعرفة وقبض الحق والاقتضاء والهدم والضرب والقتل وغيرها. والنوع الثاني: وهو وما يقع منها على الصحيح والفاسد وعلى الصحيح دون الفاسد كالعطية والهبة والكسوة والركوب والجلوس والصدقة والإعارة والقرض والبيع والإجارة والشراء والتزوج والصلاة والصوم وأشياء أخر متفرقة نجمعها في فصل واحد في آخر الكتاب, والأصل في هذه الشروط أن يراعى فيها لفظ الحالف في دلالته على المعنى لغة وما يقتضيه من الإطلاق والتقييد والتعميم والتخصيص إلا أن يكون معاني كلام الناس بخلافه فيحمل اللفظ عليه ويكون ذلك حقيقة عرفية وإنها تقضي على الحقيقة الوضعية. والأصل فيه ما روي أن رجلا جاء إلى ابن عباس رضي الله عنهما وقال: إن صاحبا لنا مات وأوصى ببدنة أفتجزئ عنه البقرة؟ فقال ابن عباس: رضي الله عنهما ممن صاحبكم؟ فقال السائل: من بني رباح, فقال ابن عباس: رضي الله عنهما متى اقتنت بنو رباح البقر إنما البقر للأزد وذهب وهم صاحبكم إلى الإبل فهذا الحديث أصل أصيل في حمل مطلق الكلام على ما يذهب إليه أوهام الناس ولأن العرف وضع طارئ على الوضع الأصلي, والاصطلاح جار من أهل اللغة, فالظاهر أن المتكلم يقصد بكلامه ذلك فيحمل عليه مطلق اللفظ, وبهذا يبطل قول الشافعي: "إن الأيمان محمولة على الحقائق" يؤيد ما قلنا أن الغريم يقول لغريمه: والله لأجرنك في الشوك يريد به شدة المطل دون الحقيقة وقول مالك: "الأيمان محمولة على ألفاظ القرآن" غير سديد أيضا بدليل أن من حلف لا يجلس في سراج فجلس في الشمس لا يحنث, وإن سمى الله تعالى الشمس سراجا بقوله عز وجل: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} وكذا من حلف لا يجلس على بساط فجلس على الأرض لا يحنث وإن سماها الله سبحانه وتعالى في القرآن العظيم بساطا بقوله عز وجل: {وَاللَّهُ

 

ج / 3 ص -36-         جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطاً} وكذا من حلف لا يمس وتدا فمس جبلا لا يحنث وإن سمى الله عز وجل الجبل وتدا بقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَاداً} فثبت أن ما قاله مالك غير صحيح, والله أعلم.

                                                     "فصل":
 أما الحلف على الدخول فالدخول اسم للانفصال من العورة إلى الحصن, فإن حلف لا يدخل هذه الدار وهو فيها فمكث بعد يمينه لا يحنث استحسانا, والقياس أن يحنث, ذكر القياس والاستحسان في الأصل. وجه القياس أن المداومة على الفعل حكم إنشائه كما في الركوب واللبس, بأن حلف لا يركب ولا يلبس وهو راكب ولابس فمكث ساعة أنه يحنث لما قلنا, كذا هذا. وجه الاستحسان الفرق بين الفصلين وهو أن الدوام على الفعل لا يتصور حقيقة؛ لأن الدوام هو البقاء, والفعل المحدث عرض, والعرض مستحيل البقاء فيستحيل دوامه, وإنما يراد بالدوام تجدد أمثاله وهذا يوجد في الركوب واللبس ولا يوجد في الدخول؛ لأنه اسم للانتقال من العورة إلى الحصن, والمكث قرار فيستحيل أن يكون انتقالا يحققه أن الانتقال حركة والمكث سكون وهما ضدان, والدليل على التفرقة بين الفصلين أنه يقال ركبت أمس واليوم ولبست أمس واليوم من غير ركوب ولبس مبتدإ ولا يقال دخلت أمس واليوم إلا لدخول مبتدإ وكذا من دخل دارا يوم الخميس ومكث فيها إلى يوم الجمعة فقال والله ما دخلت هذه الدار يوم الجمعة بر في يمينه لذلك افترقا. ولو حلف لا يركب أو لا يلبس وهو راكب أو لابس فنزل من ساعته أو نزع من ساعته لا يحنث عندنا خلافا لزفر. وجه قوله أن شرط حنثه الركوب واللبس وقد وجد منه بعد يمينه وإن قل. "ولنا" أن ما لا يقدر الحالف على الامتناع من يمينه فهو مستثنى منه دلالة؛ لأن قصد الحالف من الحلف البر, والبر لا يحصل إلا باستثناء ذلك القدر, وسواء دخل تلك الدار ماشيا أو راكبا؛ لأن اسم الدخول ينطلق على الكل. ألا ترى أنه يقال دخلت الدار ماشيا ودخلتها راكبا, ولو أمر غيره فحمله فأدخله حنث؛ لأن الدخول فعل لا حقوق له فكان فعل المأمور مضافا إليه كالذبح والضرب ونحو ذلك على ما نذكره إن شاء الله تعالى في موضعه, وإن احتمله غيره فأدخله بغير أمره لم يحنث؛ لأن هذا يسمى إدخالا لا دخولا لما ذكرنا أن الدخول انتقال والإدخال نقل, ولم يوجد ما يوجب الإضافة إليه وهو الأمر, وسواء كان راضيا بنقله أو ساخطا لأن الرضا لا يجعل الفعل مضافا إليه فلم يوجد منه الشرط وهو الدخول, وسواء كان قادرا على الامتناع أو لم يكن قادرا عليه عند عامة مشايخنا. وقال بعضهم إن كان يقدر على الامتناع فلم يمتنع يحنث لأنه لما لم يمتنع مع القدرة كان الدخول مضافا إليه, والصحيح قول العامة لأنه لم يوجد منه الدخول حقيقة وامتناعه مع القدرة إن جاز أن يستدل به على رضاه بالدخول لكن الرضا يكون بالأمر, وبدون الأمر لا يكفي لإضافة الفعل إليه فانعدم الدخول حقيقة وتقديرا, وسواء دخلها من بابه أو من غيره لأنه جعل شرط الحنث مطلق الدخول وقد وجد, ولو نزل على سطحها حنث؛ لأن سطح الدار من الدار إذ الدار اسم لما أحاط به الدائرة, والدائرة أحاطت بالسطح. وكذا لو أقام على حائط من حيطانها لأن الحائط مما تدور عليه الدائرة فكان كسطحها, ولو قام على ظلة لها شارعة أو كنيف شارع فإن كان مفتح ذلك إلى الدار يحنث وإلا فلا لأنه إذا كان مفتحه إلى الدار يكون منسوبا إلى الدار فيكون من جملة الدار وإلا فلا وإن قام على أسكفة الباب فإن كان الباب إذا أغلق كانت الأسكفة خارجة عن الباب لم يحنث لأنه خارج وإن كان أغلق الباب كانت الأسكفة داخلة الباب حنث؛ لأنه داخل لأن الباب يغلق على ما في داخل الدار لا على ما في الخارج, وإن أدخل الحالف إحدى رجليه ولم يدخل الأخرى لم يحنث؛ لأنه لم ينتقل كله بل بعضه وقد روي عن بريدة رضي الله عنه أنه قال: "كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فقال لي: إني لأعلم آية لم تنزل على نبي بعد سليمان بن داود عليه الصلاة والسلام إلا علي فقلت وما هي يا رسول الله؟ فقال: لا أخرج من المسجد حتى أعلمكها فلما أخرج إحدى رجليه فقلت في نفسي لعله قد نسي فقال لي: بم تفتتح القراءة؟ فقلت: ببسم الله الرحمن الرحيم فقال صلى الله عليه وسلم هي هي" فلو كان هذا القدر خروجا لكان تأخير التعليم إليه خلفا في الوعد ولا يتوهم ذلك بالأنبياء عليهم الصلاة والسلام ودل الحديث على أن التسمية آية من القرآن؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم سماها آية, ومن

 

ج / 3 ص -37-         أصحابنا من قال موضوع هذه المسألة في دار داخلها وخارجها سطح واحد فإن كانت الدار منهبطة فأدخل إليها إحدى رجليه حنث؛ لأن أكثره حصل فيها وللأكثر حكم الكل, فإن أدخل رأسه ولم يدخل قدميه أو تناول منها لم يحنث لأن ذلك ليس بدخول. ألا ترى أن السارق لو فعل ذلك لا يقطع؟ ولو حلف لا يدخل دارا فدخل خرابا قد كان دارا وذهب بناؤها لا يحنث, ولو كانت حيطانها قائمة فدخل يحنث, ولو عين فقال أدخل هذه الدار فذهب بناؤها لا يحنث ولو كانت حيطانها قائمة ودخل يحنث ولو عين فقال: لا أدخل هذه الدار فذهب بناؤها بعد يمينه ثم دخلها يحنث في قولهم؛ لأن قوله دارا وإن ذكر مطلقا لكن المطلق ينصرف إلى المتعارف وهي الدار المبنية فيراعى فيه الاسم والصفة وهي البناء؛ لأنه جار مجرى الصفة فما لم يوجد لا يحنث, وقوله هذه الدار إشارة إلى المعين الحاضر فيراعى فيه ذات المعين لا صفته لأن الوصف للتعريف والإشارة كافية للتعريف وذات الدار قائمة بعد الانهدام؛ لأن الدار في اللغة اسم للعرصة, والعرصة قائمة, والدليل على أن الدار اسم للعرصة بدون البناء قول النابغة:

 يا دار مية بالعلياء فالسند              أقوت فطال عليها سالف الأبد

إلا الأواري لأيا ما أبينها                  والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد

سماها دارا بعدما خلت من أهلها وخربت ولم يبق فيها إلا الأواري والنؤي ولو أعيد البناء فدخلها يحنث, أما في المعين فلا شك فيه لأنه لو دخلها بدون البناء يحنث فمع البناء أولى. "وأما" في المنكر فلوجود الاسم والصفة وهي البناء وإن بنيت مسجدا أو حماما أو بستانا فدخله لا يحنث؛ لأن اسم الدار قد بطل ألا ترى أنه لا يسمى دارا فبطلت اليمين, ولو أعادها دارا فدخلها لا يحنث لأنها غير الدار الأولى وعن أبي يوسف إذا قال: والله لا أدخل هذا المسجد فهدم فصار صحراء ثم دخله فإنه يحنث قال هو مسجد وإن لم يكن مبنيا, ولأن المسجد عبارة عن موضع السجود وذلك موجود في الخراب, ولهذا قال أبو يوسف إن المسجد إذا خرب واستغنى الناس عنه أنه يبقى مسجدا إلى يوم القيامة, ولو حلف لا يدخل هذا البيت أو بيتا فدخله بعد ما انهدم ولا بناء فيه لا يحنث لأن البيت اسم مشتق من البيتوتة سمي بيتا لأنه يبات فيه ولا يبات إلا في البناء ولهذا تسمي العرب الأخبية بيوتا فصار البناء فيه في حق استحقاق الاسم ملتحقا بذات المسمى كاسم الطعام للمائدة والشراب للكأس والعروس للأريكة فيزول الاسم بزواله, ولو بنى بيتا آخر فدخله لا يحنث أيضا في المعين لأن المعاد عين أخرى غير الأول فلا يحنث بالدخول فيه, وفي غير المعين حنث لوجود الشرط وهو دخول البيت ولو انهدم السقف وحيطانه قائمة فدخله يحنث في المعين ولا يحنث في المنكر لأن السقف بمنزلة الصفة فيه وهي في الحاضر لغو وفي الغائب معتبرة, ولو حلف لا يدخل في هذا الفسطاط وهو مضروب في موضع فقلع وضرب في موضع آخر فدخل فيه يحنث, وكذلك القبة من العيدان ونحوه, وكذلك درج من عيدان بدار أو منبر؛ لأن الاسم في هذه الأشياء لا يزول بنقلها من مكان إلى مكان. ومن هذا الجنس من حيث المعنى إذا حلف لا يجلس إلى هذه الأسطوانة أو إلى هذا الحائط فهدما ثم بنيا بنقضهما لم يحنث؛ لأن الحائط إذا هدم زال الاسم عنه وكذا الأسطوانة فبطلت اليمين وكذا إذا حلف لا يكتب بهذا القلم فكسره ثم براه فكتب به؛ لأن غير المبري لا يسمى قلما وإنما يسمى أنبوبا فإذا كسر فقد زال الاسم فبطلت اليمين وكذلك إذا حلف على مقص فكسره ثم جعله مقصا غير ذلك؛ لأن الاسم قد زال بالكسر وكذلك كل سكين وسيف وقدر كسر ثم صنع مثله, ولو نزع مسمار المقص ولم يكسره ثم أعاد فيه مسمارا آخر حنث؛ لأن الاسم لم يزل بزوال المسمار, وكذلك إذا نزع نصاب السكين وجعل عليه نصابا آخر؛ لأن السكين اسم للحديد ولو حلف على قميص لا يلبسه أو قباء محشوا أو مبطنا أو جبة مبطنة أو محشوة أو قلنسوة أو خفين فنقض ذلك كله ثم أعاده يحنث؛ لأن الاسم بقي بعد النقض, يقال قميص منقوض وجبة منقوضة واليمين المنعقدة على العين لا تبطل بتغير الصفة مع بقاء اسم العين, وكذلك لو حلف لا يركب هذا السرج ففتقه ثم أعاده, ولو حلف لا يركب هذه السفينة فنقضها ثم استأنف بذلك الخشب فركبها لا يحنث لأنها لا تسمى سفينة بعد النقض,

 

ج / 3 ص -38-         وزوال الاسم يبطل اليمين, ولو حلف لا ينام على هذا الفراش ففتقه وغسله ثم حشاه بحشو وخاطه ونام عليه حنث؛ لأن فتق الفراش لا يزيل الاسم عنه, ولو حلف لا يلبس شقة خز بعينها فنقضها وغزلت وجعلت شقة أخرى لم يحنث لأنها إذا نقضت صارت خيوطا وزال الاسم عن المحلوف عليه, ولو حلف على قميص لا يلبسه فقطعه جبة محشوة فلبسه لا يحنث؛ لأن الاسم قد زال فزالت اليمين, ولو حلف لا يقرأ في هذا المصحف فخلعه ثم لف ورقه وغرز دفتيه ثم قرأ فيه يحنث؛ لأن اسم المصحف باق وإن فرق, ولو حلف على نعل لا يلبسها فقطع شراكها وشركها بغيره ثم لبسها حنث؛ لأن اسم النعل يتناولها بعد قطع الشراك, ولو حلفت امرأة لا تلبس هذه الملحفة فخيط جانباها فجعلت درعا وجعل لها جيبا ثم لبستها لم تحنث لأنها درع وليست بملحفة فإن أعيدت ملحفة فلبستها حنثت لأنها عادت ملحفة بغير تأليف ولا زيادة ولا نقصان فهي على ما كانت عليه. وقال ابن سماعة عن محمد في رجل حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه طائفة فدخلها لم يحنث؛ لأن اليمين وقعت على بقعة معينة فلا يحنث بغيرها, ولو قال مسجد بني فلان ثم زيد فيه فدخل ذلك الموضع الذي زيد فيه حنث, وكذلك الدار لأنه عقد يمينه على الإضافة وذلك موجود في الزيادة. وعن أبي يوسف إذا قال: والله لا أدخل هذا المسجد فهدم فصار صحراء ثم دخله فإنه يحنث قال هو مسجد وإن لم يكن مبنيا, ولأن المسجد عبارة عن موضع السجود وذلك موجود في الخراب, ولهذا قال أبو يوسف إن المسجد إذا خرب واستغنى الناس عنه أنه يبقى مسجدا إلى يوم القيامة, ولو حلف لا يدخل هذا البيت أو بيتا فدخله بعد ما انهدم ولا بناء فيه لا يحنث لأن البيت اسم مشتق من البيتوتة سمي بيتا لأنه يبات فيه ولا يبات إلا في البناء ولهذا تسمي العرب الأخبية بيوتا فصار البناء فيه في حق استحقاق الاسم ملتحقا بذات المسمى كاسم الطعام للمائدة والشراب للكأس والعروس للأريكة فيزول الاسم بزواله, ولو بنى بيتا آخر فدخله لا يحنث أيضا في المعين لأن المعاد عين أخرى غير الأول فلا يحنث بالدخول فيه, وفي غير المعين حنث لوجود الشرط وهو دخول البيت ولو انهدم السقف وحيطانه قائمة فدخله يحنث في المعين ولا يحنث في المنكر لأن السقف بمنزلة الصفة فيه وهي في الحاضر لغو وفي الغائب معتبرة, ولو حلف لا يدخل في هذا الفسطاط وهو مضروب في موضع فقلع وضرب في موضع آخر فدخل فيه يحنث, وكذلك القبة من العيدان ونحوه, وكذلك درج من عيدان بدار أو منبر؛ لأن الاسم في هذه الأشياء لا يزول بنقلها من مكان إلى مكان. ومن هذا الجنس من حيث المعنى إذا حلف لا يجلس إلى هذه الأسطوانة أو إلى هذا الحائط فهدما ثم بنيا بنقضهما لم يحنث؛ لأن الحائط إذا هدم زال الاسم عنه وكذا الأسطوانة فبطلت اليمين وكذا إذا حلف لا يكتب بهذا القلم فكسره ثم براه فكتب به؛ لأن غير المبري لا يسمى قلما وإنما يسمى أنبوبا فإذا كسر فقد زال الاسم فبطلت اليمين وكذلك إذا حلف على مقص فكسره ثم جعله مقصا غير ذلك؛ لأن الاسم قد زال بالكسر وكذلك كل سكين وسيف وقدر كسر ثم صنع مثله, ولو نزع مسمار المقص ولم يكسره ثم أعاد فيه مسمارا آخر حنث؛ لأن الاسم لم يزل بزوال المسمار, وكذلك إذا نزع نصاب السكين وجعل عليه نصابا آخر؛ لأن السكين اسم للحديد ولو حلف على قميص لا يلبسه أو قباء محشوا أو مبطنا أو جبة مبطنة أو محشوة أو قلنسوة أو خفين فنقض ذلك كله ثم أعاده يحنث؛ لأن الاسم بقي بعد النقض, يقال قميص منقوض وجبة منقوضة واليمين المنعقدة على العين لا تبطل بتغير الصفة مع بقاء اسم العين, وكذلك لو حلف لا يركب هذا السرج ففتقه ثم أعاده, ولو حلف لا يركب هذه السفينة فنقضها ثم استأنف بذلك الخشب فركبها لا يحنث لأنها لا تسمى سفينة بعد النقض,  وزوال الاسم يبطل اليمين, ولو حلف لا ينام على هذا الفراش ففتقه وغسله ثم حشاه بحشو وخاطه ونام عليه حنث؛ لأن فتق الفراش لا يزيل الاسم عنه, ولو حلف لا يلبس شقة خز بعينها فنقضها وغزلت وجعلت شقة أخرى لم يحنث لأنها إذا نقضت صارت خيوطا وزال الاسم عن المحلوف عليه, ولو حلف على قميص لا يلبسه فقطعه جبة محشوة فلبسه لا يحنث؛ لأن الاسم قد زال فزالت اليمين, ولو حلف لا يقرأ في هذا المصحف فخلعه ثم لف ورقه وغرز دفتيه ثم قرأ فيه يحنث؛ لأن اسم المصحف باق وإن فرق, ولو حلف على نعل لا يلبسها فقطع شراكها وشركها بغيره ثم لبسها حنث؛ لأن اسم النعل يتناولها بعد قطع الشراك, ولو حلفت امرأة لا تلبس هذه الملحفة فخيط جانباها فجعلت درعا وجعل لها جيبا ثم لبستها لم تحنث لأنها درع وليست بملحفة فإن أعيدت ملحفة فلبستها حنثت لأنها عادت ملحفة بغير تأليف ولا زيادة ولا نقصان فهي على ما كانت عليه. وقال ابن سماعة عن محمد في رجل حلف لا يدخل هذا المسجد فزيد فيه طائفة فدخلها لم يحنث؛ لأن اليمين وقعت على بقعة معينة فلا يحنث بغيرها, ولو قال مسجد بني فلان ثم زيد فيه فدخل ذلك الموضع الذي زيد فيه حنث, وكذلك الدار لأنه عقد يمينه على الإضافة وذلك موجود في الزيادة. ولو حلف لا يدخل من باب هذه الدار فدخلها من غير الباب لم يحنث لعدم الشرط وهو الدخول من الباب فإن نقب للدار بابا آخر فدخل يحنث لأنه عقد يمينه على الدخول من باب منسوب إلى الدار وقد وجد والباب الحادث كذلك فيحنث, وإن عنى به الباب الأول يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن لفظه يحتمله ولا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر حيث أراد بالمطلق المقيد, وإن عين الباب فقال لا أدخل من هذا الباب فدخل من باب آخر لا يحنث وهذا مما لا شك فيه لأنه لم يوجد الشرط. ولو حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا يسكنها فلان بملك أو إجارة أو إعارة فهو سواء يحنث في يمينه, ذكر ذلك أبو يوسف, وذكر محمد في الأصل وضع المسألة في المستأجر وهذا قول أصحابنا. وقال الشافعي: لا يحنث. وجه قوله أن قوله دار فلان إضافة ملك إذ الملك في الدار للآجر وإنما المستأجر ملك المنفعة فلا يتناوله اليمين. "ولنا" أن الدار المسكونة بالإجارة والإعارة تضاف إلى المستأجر والمستعير عرفا وعادة والدليل عليه أيضا ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه: "مر بحائط فأعجبه فقال لمن هذا؟ فقال رافع بن خديج: لي يا رسول الله استأجرته" أضافه إلى نفسه ولم ينكر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد ثبتت الإضافة عرفا وشرعا. فأما إذا حلف لا يدخل دارا لفلان فدخل دارا له قد آجرها لغيره قال محمد يحنث لأنه حلف على دار يملكها فلان والملك له سواء كان يسكنها أو لا يسكنها. وروى هشام عن محمد أنه لا يحنث؛ لأنها تضاف إلى الساكن بالسكنى فسقط إضافة الملك, والجواب أنه غير ممتنع أن تضاف دار واحدة إلى المالك بجهة الملك وإلى الساكن بجهة السكنى؛ لأن عند اختلاف الجهة تذهب الاستحالة, فإن قال لا أدخل حانوتا لفلان فدخل حانوتا له قد آجره فإن كان فلان ممن له حانوت يسكنه فإنه لا يحنث بدخول هذا الحانوت؛ لأنه

 

ج / 3 ص -39-         يضاف إلى ساكنه ولا يضاف إلى مالكه, وإن كان المحلوف عليه لا يعرف بسكنى حانوت يحنث لأنا نعلم أنه أراد به إضافة الملك لا إضافة السكنى كما يقال حانوت الأمير, وإن كان لا يسكنها الأمير, وإن حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا بين فلان وبين آخر فإن كان فلان فيها ساكنا حنث, وإن لم يكن ساكنا لا يحنث؛ لأنه إذا كان ساكنا فيها كانت مضافة إليه بالسكنى وإن لم يملك شيئا منها فإذا ملك نصفها أولى وإذا لم يسكن فيها كانت الإضافة إضافة الملك والكل غير مضاف إليه, وفرق بين هذا وبين ما إذا حلف لا يزرع أرضا لفلان فزرع أرضا بينه وبين غيره أنه يحنث؛ لأن كل جزء من الأرض يسمى أرضا وبعض الدار لا يسمى دارا, ولو حلف لا يدخل بيت فلان ولا نية له فدخل داره وفلان فيها ساكن لا يحنث حتى يدخل البيت لأن البيت اسم لموضع يبات فيه عادة ولا يبات في صحن الدار عادة فإن نواه يصدق؛ لأنه تشدد على نفسه. وقال ابن رستم: قال محمد في رجل حلف لا يدخل دار رجل بعينه مثل دار عمرو بن حريث وغيرها من الدور المشهورة بأربابها فدخل الرجل وقد كان باعها عمرو بن حريث أو غيره ممن تنسب قبل اليمين إليه ثم دخلها الحالف بعد ذلك حنث لأن الدور المشهورة إنما تضاف إلى أربابها على طريق النسبة لا على طريق الملك وزوال الملك لا يوجب بطلان اليمين, وإن كانت هذه اليمين على دار من هذه الدور التي ليست لها نسبة تعرف بها لم يحنث في يمينه؛ لأنه يراد بهذه الإضافة الملك لا النسبة فإذا زال الملك زالت الإضافة. وقال ابن رستم عن محمد في رجل حلف لا يدخل هذه الحجرة فكسرت الحجرة فدخلها بعدما كسرت لا يحنث وليست الحجرة كالدار لأن الحجرة اسم لما حجر بالبناء فكان كالبيت فإذا انهدمت فقد زال الاسم. وقال ابن رستم عن محمد في رجل حلف لا يدخل دار فلان فصعد السطح يحنث؛ لأن سطح الدار منها إلا أن يكون نوى صحن الدار فلا يحنث فيما بينه وبين الله؛ لأنهم قد يذكرون الدار ويريدون به الصحن دون غيره فقد نوى ما يحتمله كلامه ولو حلف لا يدخل هذا المسجد فصعد فوقه حنث؛ لأن سطح المسجد من المسجد ألا ترى لو انتقل المعتكف إليه لا يبطل اعتكافه؟ فإن كان فوق المسجد مسكن لا يحنث؛ لأن ذلك ليس بمسجد ولو انتقل المعتكف إليه بطل اعتكافه ولو حلف لا يدخل هذه الدار إلا مجتازا قال ابن سماعة روي عن أبي يوسف أنه إن دخل وهو لا يريد الجلوس فإنه لا يحنث لأنه عقد يمينه على كل دخول واستثنى دخولا بصفة وهو ما يقصد به الاجتياز وقد دخل على الصفة المستثناة فإن دخل يعود مريضا ومن رأيه الجلوس عنده حنث؛ لأنه دخل لا على الصفة المستثناة, فإن دخل لا يريد الجلوس ثم بدا له بعد ما دخل فجلس لا يحنث لأنه لم يحنث حين دخوله لوجوده على الوصف المستثنى ولم يوجد الدخول بعد ذلك إذ المكث ليس بدخول فلا يحنث وذكر في الأصل إذا حلف لا يدخل هذه الدار إلا عابر سبيل فدخلها ليقعد فيها أو ليعود مريضا فيها أو ليطعم فيها ولم يكن له نية حين حلف فإنه يحنث ولكن إن دخلها مجتازا ثم بدا له فقعد فيها لم يحنث لأن عابر السبيل هو المجتاز فإذا دخلها لغير اجتياز حنث قال إلا أن ينوي لا يدخلها يريد النزول فيها فإن نوى ذلك فإنه يسعه؛ لأنه قد يقال دخلت عابر سبيل بمعنى أني لم أدم على الدخول ولم أستتر فقد نوى ما يحتمله كلامه. ولو حلف لا يطأ هذه الدار بقدمه فدخلها راكبا يحنث؛ لأنه قد يراد به الدخول في العرف لا مباشرة قدمه الأرض. ألا ترى أنه لو كان في رجله حذاء نعل يحنث؟ فعلم أن المراد منه الدخول, وإن حلف لا يضع قدمه في هذه الدار فدخلها راكبا حنث لأن وضع القدم في عرف الاستعمال صار عبارة عن الدخول فإن كان نوى أن لا يضع قدمه ماشيا فهو على ما نوى؛ لأنه نوى حقيقة كلامه فيصدق, وكذلك إذا دخلها ماشيا وعليه حذاء أو لا حذاء عليه لما قلنا. وروى هشام عن محمد فيمن حلف لا يدخل هذه الدار فدخل حانوتا مشرعا من هذه الدار إلى الطريق وليس له باب في الدار فإنه يحنث؛ لأنه من جملة ما أحاطت به الدائرة. قال هشام: وسألت أبا يوسف إن دخل بستانا في تلك الدار قال لا يحنث وهذا محمول على بستان متصل بالدار فإن كان في وسط الدار يحنث لإحاطة الدائرة به, هكذا روي عن محمد. وقال ابن سماعة في نوادره عن محمد في رجل حلف لا يدخل دار فلان فحفر سربا فبلغ داره وحفر تحت دار فلان حتى جاوزها فدخل الحالف ذلك السرب حتى مضى فيه تحت دار فلان فإنه لا يحنث

 

ج / 3 ص -40-         إلا أن يكون من هذه القناة مكان مكشوف إلى الدار يستقي منه أهل الدار فدخل الحالف القناة فبلغ ذلك المكشوف فيحنث, وإن لم يبلغ لم يحنث, وإن كان المكشوف شيئا قليلا لا ينتفع به أهل الدار وإنما هو للضوء فمر الحالف بالقناة حتى بلغ الموضع فليس بحانث لأن القناة تحت الدار إذا لم يكن منفذ لا تعد من الدار؛ لأن المقصود من دخول داره إما كرامة "وأما" هتك حرمة وذاك لا يوجد فيما لا منفذ له, وإذا كان لها منفذ يستقى منه الماء فإنه يعد من مرافق الدار بمنزلته بئر الماء فإذا بلغ إليه كان كمن دخل في بئر داره, وإذا كان لا ينتفع به إلا للضوء لا يكون من مرافق الدار فلا يصير بدخوله داخلا في الدار فلا يحنث, ولو دخل فلان سربا تحت داره وجعله بيوتا وجعل له أبوابا إلى الطريق فدخلها رجل حلف لا يدخل دار فلان فهو حانث؛ لأن السرب تحت الدار من بيوت الدار, ولو عمد فلان إلى بيت من داره أو بيتين فسد أبوابهما من قبل داره وجعل أبوابها إلى دار الحالف فدخل الحالف هذين البيتين فإنه لا يحنث؛ لأنه لما جعل أبوابهما إلى دار الحالف فقد صارت منسوبة إلى الدار الأخرى. وقال ابن سماعة في السرب: إذا كان بابه إلى الدار ومحتفره في دار أخرى إنه من الدار التي مدخله إليها وبابه إليها لأنه بيت من بيوتها. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل حلف لا يدخل بغداد فانحدر من الموصل في سفينة فمر بدجلة لا يحنث, فإن خرج فمضى فمشى على الجسر حنث, وإن قدم إلى الشط ولم يخرج لم يحنث, ولم يكن مقيما إن كان أهله ببغداد, وإن خرج إلى الشط حنث. وقال ابن سماعة عن محمد إذا انحدر في سفينة من الموصل إلى البصرة فمر في شط الدجلة فهو حانث فصارت المسألة مختلفة بينهما. وجه قول محمد أن الدجلة من البلد بدليل أنه لو عقد عليها جسر كانت من البلد فكذا إذا حصل في هذا الموضع في سفينة, ولأبي يوسف أن موضع الدجلة ليس موضع قرار فلا يكون مقصودا بعقد اليمين على الدخول فلا تنصرف اليمين إليه. قال بشر عن أبي يوسف في رجل قال لامرأته إن دخلت هذه الدار ولم تعطني ثوب كذا فأنت طالق فدخلت الدار ثم أعطته الثوب بعد ذلك فإن الطلاق يقع عليها, وإن كانت أعطته الثوب قبل أن تدخل لم يقع عليها الطلاق لأنه جعل شرط وقوع الطلاق دخولها الدار لا على صفة الإعطاء, وهو أن لا يكون الزوج معطى حال الدخول؛ لأن هذه الواو للحال بمنزلة قوله إن دخلت الدار وأنت راكبة أنه يعتبر كونها راكبة حال الدخول ولا يعتبر الركوب بعده كذا هذا, وكذلك لو قال: إن خرجت ولم تأكلي أو خرجت وليس عليك إزار أو خرجت ولم تتخمري لما قلنا, ولو قال لها إن لم تعطني هذا الثوب ودخلت هذه الدار فأنت طالق ولا نية له فإن الطلاق لا يقع عليها حتى يجتمع الأمران جميعا وهو أن لا تعطيه الثوب إلى أن يموت أحدهما أو يهلك الثوب ويدخل الدار فإذا اجتمع هذان وقع الطلاق وإلا فلا؛ لأنه جعل ترك العطية والدخول جميعا شرطا لوقوع الطلاق؛ لأن قوله ودخلت الدار شرط معطوف على ترك العطية وليس بوصف له؛ فيتعلق وقوع الطلاق بوجودهما ثم لا يتحقق الترك إلا بموت أحدهما أو بهلاك الثوب, فإذا مات أحدهما أو هلك الثوب ودخلت الدار فقد وجد الشرطان فيحنث, ولو قال: والله لا تدخلين هذه الدار ولا تعطيني هذا الثوب فأيهما فعلت حنث؛ لأن كلمة النفي دخلت على كل واحد منهما على الانفراد فيقتضي انتفاء كل واحد منهما على الانفراد كما في قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ومن هذا الجنس ما روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال: والله لا أشتري بهذا الدرهم غير لحم فاشترى بنصفه لحما وبنصفه خبزا يحنث استحسانا ولا يحنث في القياس. وجه القياس أنه جعل شرط حنثه أن يشتري بجميع الدرهم غير اللحم وما اشترى بجميعه بل ببعضه فلم يوجد شرط الحنث فلا يحنث. وجه الاستحسان أن مبنى الأيمان على العادة وعادة الناس أنهم يريدون بمثل هذا الكلام أن يشتري الحالف بجميع الدرهم اللحم ولم يشتر بجميعه اللحم فيحنث, فإن كان نوى أن لا يشتري به كله غير اللحم لم يحنث, ويدين في القضاء لأنه نوى ظاهر كلامه فيصدق, ولو قال: والله لا أشتري بهذا الدرهم إلا لحما فلا يحنث حتى يشتري بالدرهم كله غير لحم وهذا يؤيد وجه القياس في المسألة الأولى؛ لأن إلا وغير كلاهما من ألفاظ الاستثناء, وإنا نقول: قضية القياس هذا في المسألة الأولى ألا ترى أنه لو نوى أن يشتري به كله غير اللحم صدق في القضاء لأنا تركنا هذا القياس هناك

 

ج / 3 ص -41-         للعرف والعادة ولا عرف ههنا يخالف القياس فعمدنا للقياس فيه, ولو قال: والله لا أشتري بهذا الدرهم إلا ثلاثة أرطال لحم فاشترى ببعض الدرهم لحما أقل من ثلاثة أرطال وببقيته غير لحم حنث؛ لأن قوله والله لا أشتري بهذا الدرهم يقع على كل شراء بهذا الدرهم ثم استثنى من هذه الجملة شراء بصفة وهو أن يشتري به ثلاثة أرطال ولم يوجد فلم يوجد المستثنى فبقي ما شراه داخلا في اليمين فيحنث به, ومن هذا القبيل ما إذا قال لرجلين: والله لا تبيتان إلا في بيت فبات أحدهما في بيت والآخر في بيت آخر حنث لأنه جعل شرط حنثه بيتوتتهما جميعا في غير بيت واحد وقد باتا في غير بيت واحد لأنهما باتا في بيتين فوجد شرط الحنث فهو الفرق. وذكر محمد في الجامع في رجل قال: إن كنت ضربت هذين الرجلين إلا في دار فلان فعبدي حر وقد ضرب واحدا منهما في دار فلان وواحدا في غيرها فإنه لا يحنث لأنه جعل شرط حنثه ضربهما في غير دار فلان ولم يوجد, ولو قال: إن لم أكن ضربته هذين السوطين في دار فلان فعبدي حر, والمسألة بحالها حنث؛ لأن شرط الحنث أن يجتمع الشرطان في دار فلان ولم يجتمعا فيحنث, ولو حلف لا يدخل على فلان فدخل عليه بيته فإن قصده بالدخول يحنث, وإن لم يقصده لا يحنث, وكذلك إذا دخل عليه بيت غيره, وإنما اعتبر القصد ليكون داخلا عليه؛ لأن الإنسان إنما يحلف أن لا يدخل على غيره استخفافا به وتركا لإكرامه عادة وذا لا يكون إلا مع القصد. وذكر الكرخي عن ابن سماعة في نوادره خلاف هذا فقال في رجل قال والله لا أدخل على فلان بيتا فدخل بيتا على قوم وفيهم فلان ولم يعلم به الحالف فإنه حانث بدخوله فلم يعتبر القصد للدخول على فلان لاستحالة القصد بدون العلم, ووجهه أنه جعل شرط الحنث الدخول على فلان والعلم بشرط الحنث ليس بشرط في الحنث كمن حلف لا يكلم زيدا فكلمه وهو لا يعرف أنه زيد, وظاهر المذهب ما تقدم, ولو علم أنه فيهم فدخل ينوي الدخول على القوم لا عليه لا يحنث فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه إذا قصد غيره لم يكن داخلا عليه ولا يصدق في القضاء؛ لأن الظاهر دخوله على الجماعة وما في اعتقاده لا يعرفه القاضي, فإن دخل عليه في مسجد أو ظلة أو سقيفة أو دهليز دار لم يحنث لأن ذلك يقع على الدخول المعتاد وهو الذي يدخل الناس بعضهم على بعض ولا يكون ذلك إلا في البيوت, فإن دخل عليه في فسطاط أو خيمة أو بيت شعر لم يحنث إلا أن يكون الحالف من أهل البادية لأنهم يسمون ذلك بيتا, والتعويل في هذا الباب على العرف والعادة وقال ابن سماعة عن محمد: إذا حلف لا يدخل على فلان هذه الدار فدخل الدار وفلان في بيت من الدار لا يحنث وإن كان في صحن الدار يحنث؛ لأنه لا يكون داخلا عليه إلا إذا شاهده. ألا ترى أن السقاء يدخل دار الأمير ولا يقال إنه دخل على الأمير, وفي الأول شاهده وفي الثاني لم يشاهده, وكذا لو حلف لا يدخل على فلان هذه القرية أنه لا يكون داخلا عليه إلا إذا دخل في بيته وتخصيص القرية يمنع وقوع الحنث بالدخول في غيرها. وقال ابن رستم عن محمد: إذا قال: والله لا أدخل على فلان ولم يذكر بيتا ولا غيره فدخل فسطاطا أو دارا حنث وهذا محمول على أن من عادة فلان أن يدخل عليه في الفساطيط وإن دخل عليه في المسجد أو الكعبة أو الحمام لا يحنث؛ لأن المقصود بهذه اليمين الامتناع من الدخول في المواضع التي يكرم الناس بالدخول عليه فيها وهذا لا يوجد في الحمام والكعبة والمسجد. قال محمد: ولو دخل على فلان بيته وهو يريد رجلا غيره يزوره لم يحنث؛ لأنه لم يدخل على فلان لما لم يقصده, وإن لم يكن له نية حنث؛ لأنه يكون داخلا على كل من في الدار فيحنث كمن حلف لا يسلم على رجل فسلم على جماعة وهو فيهم ولا نية له. قال بشر: سمعت أبا يوسف يقول فيمن قال لامرأته إن دخلت هذه الدار وخرجت منها فأنت طالق فاحتملها إنسان وهي كارهة فأدخلها ثم خرجت من قبل نفسها ثم دخلتها ولم تخرج وقع الطلاق؛ لأن الواو لا تقتضي الترتيب؛ لأنها للجمع المطلق ولا عادة في تقدم أحد الشرطين على الآخر فيتعلق الطلاق بوجودهما من غير مراعاة الترتيب, وكذلك القيام والقعود والسكوت والكلام والصوم والإفطار ونحو ذلك لما قلنا, ولو قال لها إن حضت وطهرت فأنت طالق فطهرت من هذا الحيض ثم حاضت لم يقع الطلاق حتى تطهر, ولا يقع الطلاق في هذا الموضع حتى يتقدم الحيض الطهر, وكذلك إذا قال لها إذا حبلت وولدت وهي حبلى, وكذلك إذا قال إذا زرعت

 

ج / 3 ص -42-         وحصدت لا بد من تقدم الزرع الحصاد, والحمل الولادة, والحيض الطهر؛ لأن أحد الأمرين يتعقب الآخر عادة فلزم مراعاة الترتيب بالعادة, ولو قال لامرأته إن تزوجتك وطلقتك فعبدي حر ولا نية له فطلقها واحدة بائنة ثم تزوجها عتق عبده؛ لأنها لا تحتمل التزوج للحال لكونها زوجة له وتحتمل الطلاق فيراعى فيه معنى الجمع المطلق لا الترتيب, ومتى طلقها وتزوجها فقد جمع بينهما فوجد الشرط.

                                                          "فصل":
وأما الحلف على الخروج فالخروج هو الانفصال من الحصن إلى العورة على مضادة الدخول, فلا يكون المكث بعد الخروج خروجا كما لا يكون المكث بعد الدخول دخولا لانعدام حده وحقيقته, ثم الخروج كما يكون من البلدان والدور والمنازل والبيوت يكون من الأخبية والفساطيط والخيم والسفن لوجود حده كالدخول والخروج من الدور المسكونة أن يخرج الحالف بنفسه ومتاعه وعياله, كما إذا حلف لا يسكن, والخروج من البلدان والقرى أن يخرج الحالف ببدنه خاصة وهذا يشهد لقول من قال من أصحابنا: إن من حلف لا يسكن في بلد فخرج بنفسه دون عياله لا يحنث, والتعويل في هذا على العرف, فإن من خرج من الدار وأهله ومتاعه فيها لا يعد خارجا من الدار. ويقال: لم يخرج فلان من الدار إذا كان أهله ومتاعه فيها, ومن خرج من البلد يعد خارجا من الدار وإن كان أهله ومتاعه فيه. وقال هشام سمعت أبا يوسف قال: إذا قال والله لا أخرج وهو في بيت من الدار فخرج إلى صحن الدار لم يحنث لأن الدار والبيت في حكم بقعة واحدة فالحلف على الخروج المطلق يقتضي الخروج منهما جميعا فما لم يوجد لا يحنث إلا أن تكون نيته أن لا يخرج من البيت فإذا خرج إلى صحن الدار حنث؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه وهو الانفصال من داخل إلى خارج وفيه تشديد على نفسه, فإن قال: نويت الخروج إلى مكة أو خروجا من البلد فإنه لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى تخصيص المكان وهو ليس بمذكور, وغير المذكور لا يحتمل نية التخصيص, وكذلك قال محمد في الجامع: لو قال إن خرجت فعبدي حر. وقال عنيت به السفر إلى بغداد دون ما سواها لم يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى لما قلنا. وقال هشام: سألت محمدا عن رجل حلف لا يخرج من الري إلى الكوفة فخرج من الري يريد مكة وطريقه على الكوفة. قال محمد إن كان حين خرج من الري نوى أن يمر بالكوفة فهو حانث وإن كان حين خرج من الري نوى أن لا يمر بها ثم بدا له بعدما خرج وصار من الري إلى الموضع الذي تقصر فيه الصلاة أن يمر بالكوفة فمر بها لم يحنث؛ لأن النية تعتبر حين الخروج, وفي الفصل الأول وجدت نية الخروج إلى الكوفة لأنه لما نوى أن يخرج إلى مكة ويمر فقد نوى الخروج إلى الكوفة وإلى غيرها فيحنث, وفي الفصل الثاني لم توجد النية وقت الخروج فلا يحنث, وإن كان نيته أن لا يخرج إلى الكوفة خاصة ليست إلى غيرها ثم بدا له الحج فخرج ونوى أن يمر بالكوفة. قال محمد: هذا لا يحنث فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه نوى تخصيص ما في لفظه. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال لامرأته إن خرجت من هذه الدار إلا إلى المسجد فأنت طالق فخرجت تريد المسجد ثم بدا لها فذهبت إلى غير المسجد لم تطلق لأنه جعل الخروج إلى المسجد مستثنى من اليمين ولما خرجت تريد المسجد فقد تحقق الخروج إلى المسجد فوجد الخروج المستثنى فبعد ذلك وإن قصدت غير المسجد لكن لا يوجد الخروج بل المكث في الخارج وإنه ليس بخروج لعدم حده فلا يحنث. وقال عمر بن أسد: سألت محمدا عن رجل حلف ليخرجن من البلدة ما الخروج؟ قال إذا جعل البيوت خلف ظهره؛ لأن من حصل في هذه المواضع جاز له القصر, ولا يجوز له القصر إلا بالخروج من البلد فعلم أنه خرج من البلد. قال عمر: سألت محمدا عن رجل قال لامرأته إن خرجت في غير حق فأنت طالق فخرجت في جنازة والدها أو أخ لا تطلق, وكذلك كل ذي رحم محرم, وكذلك خروجها إلى العرس أو خروجها فيما يجب عليها؛ لأن الحق المذكور في هذا الموضع لا يراد به الواجب عادة وإنما يراد به المباح الذي لا مأثم فيه, ولو قال لها إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق فخرجت منها من الباب أي باب كان ومن أي موضع كان من فوق حائط أو سطح أو نقب حنث لوجود الشرط وهو الخروج من الدار, ولو قال إن خرجت من باب هذه الدار فخرجت من أي باب كان من

 

ج / 3 ص -43-         الباب القديم أو الحادث بعد اليمين حنث لوجود الشرط وهو الخروج من باب الدار, ولا يحنث بالخروج من السطح أو فوق الحائط أو النقب لعدم الشرط, ولو عين بابا في اليمين يتعين, ولا يحنث بالخروج من غيره؛ لأن التعيين مقيد في الجملة فيعتبر, ولو قال إن خرجت من هذه الدار إلا في أمر كذا فهذا, وقوله إلا بإذني واحد, وسنذكره إن شاء الله تعالى ولو قال إن خرجت من هذه الدار مع فلان فأنت طالق فخرجت وحدها أو مع فلان آخر ثم خرج فلان ولحقها لم يحنث؛ لأن كلمة مع للقران فيقتضي مقارنتها في الخروج ولم يوجد لأن المكث بعد الخروج ليس بخروج لانعدام حده, ولو قال إن خرجت من هذه الدار فأنت طالق فصعدت الصحراء إلى بيت علو أو كنيف شارع إلى الطريق الأعظم لا يحنث؛ لأن هذا في العرف لا يسمى خروجا من الدار, ولو حلف لا يخرج من هذه الدار فخرج منها ماشيا أو راكبا أو أخرجه رجل بأمره أو بغير أمره أو أخرج إحدى رجليه فالجواب فيه كالجواب في الدخول وقد ذكرناه, ولو حلف لا يخرج إلى مكة فخرج من بلده يريد مكة حنث؛ لأن خروجه من بيته هو انفصال من داخل بلده إلى خارجه على نية الحج وقد وجد, وقد ذكرنا تفسير خروجه من بلده وهو أن يجعل بيوت بلده خلف ظهره, ولو قال لا آتي مكة فخرج إليها لا يحنث ما لم يدخلها؛ لأن إتيان الشيء هو الوصول إليه, ولو قال: لا يذهب إلى مكة فلا رواية فيه, واختلف المشايخ: قال بعضهم: هو والخروج سواء وقال بعضهم: هو والإتيان سواء. ولو قال: أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني أو بأمري أو برضائي أو بعلمي أو قال: إن خرجت من هذه الدار بغير إذني أو أمري أو رضائي أو علمي فهو على كل مرة عندهم جميعا, وههنا ثلاث مسائل: إحداها: هذه, والثانية: أن يقول أنت طالق إن خرجت من هذه الدار حتى آذن لك أو آمر أو أرضى أو أعلم والثالثة: أن يقول أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أو آمر أو أعلم أو أرضى أما المسألة الأولى فالجواب ما ذكرنا أن ذلك يقع على الإذن في كل مرة حتى لو أذن لها مرة فخرجت ثم عادت ثم خرجت بغير إذن حنث, وكذلك لو أذن لها مرة فقبل أن يخرج نهاها عن الخروج ثم خرجت بعد ذلك يحنث, وإنما كان كذلك لأنه جعل كل خروج شرطا لوقوع الطلاق واستثنى خروجا موصوفا بكونه ملتصقا بالإذن لأن الباء في قوله إلا بإذني حرف إلصاق هكذا قال أهل اللغة. ولا بد من شيئين يلتصقان بآلة الإلصاق كما في قولك كتبت بالقلم وضربت بالسيف التصق الضرب بالسيف والكتابة بالقلم وليس ههنا شيء مظهر يلتصق به الإذن فلا بد من أن يضمر كما في قوله: "بسم الله" إنه يضمر فيه أبتدئ, وفي باب الحلف قوله: "بالله لأفعلن كذا" أنه يضمر فيه أقسم لتكون الباء ملصقة للاسم بقوله أبتدئ, واسم الله في باب الحلف بقوله أقسم بالله, ولا بد لكل مضمر من دليل عليه, إما حال "وأما" لفظ مذكور لأن الوصول إلى ما خفي غير ممكن إلا بواسطة الحال ولا حال هنا يدل على إضمار شيء فأضمرنا ما دل عليه اللفظ المذكور في صدر الكلام وهو قوله: "إن خرجت" وليس ذلك إلا الخروج فصار تقدير الكلام: إن خرج فلان من هذه الدار خروجا إلا خروجا بإذني, والمصدر الأول في موضع النفي فيعم فيصح استثناء الثاني منه لأنه بعض المستثنى منه, وهو خروج موصوف بصفة الالتصاق بالإذن فقد نفى كل خروج واستثنى خروجا موصوفا بكونه ملتصقا بالإذن فبقي كل خروج غير موصوف بهذه الصفة تحت المستثنى منه وهو الخروج العام الذي هو شرط وقوع الطلاق فإذا وجد خروج اتصل به الإذن لم يكن شرطا لوقوع الطلاق, وإذا وجد خروج غير متصل به الإذن كان شرطا لوقوع الطلاق, كما إذا قال لها أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا بملحفة إن كل خروج يوصف بهذه الصفة وهو أن يكون بملحفة يكون مستثنى من اليمين فلا يحنث به, وكل خروج لا يكون بهذه الصفة يبقى تحت عموم اسم الخروج فيحنث به كذا هذا, فإن أراد بقوله إلا بإذني مرة واحدة يدين فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء أيضا في قول أبي حنيفة ومحمد وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي أيضا عنه أنه لا يدين في القضاء لأنه نوى خلاف الظاهر؛ لأن ظاهر هذا الكلام يقتضي تكرار الإذن في كل مرة لما بينا "وجه" ظاهر الرواية أن تكرار الإذن ما ثبت بظاهر اللفظ وإنما ثبت بإضمار الخروج فإذا نوى مرة واحدة فقد نوى ما يقتضيه ظاهر كلامه

 

ج / 3 ص -44-         فيصدق, ثم في قوله إلا بإذني لو أراد الخروج لا يحنث, وتقدر المرأة على الخروج في كل وقت من غير حنث, فالحيلة فيه أن يقول الزوج لها: أذنت لك أبدا أو أذنت لك الدهر كله أو كلما شئت الخروج فقد أذنت لك, وكذلك لو قال لها أذنت لك عشرة أيام فدخلت مرارا في العشرة لا يحنث, فلو أنه أذن لها إذنا عاما ثم نهاها عن الخروج هل يعمل نهيه؟ قال محمد: يعمل نهيه ويبطل إذنه حتى إنها لو خرجت بعد ذلك بغير إذنه يحنث. وقال أبو يوسف: لا يعمل فيه نهيه ورجوعه عن الإذن "وجه" قول محمد أنه لو أذن لها مرة ثم نهاها صح نهيه حتى لو خرجت بعد النهي يحنث فكذا إذا أذن لها في كل مرة وجب أن يعمل نهيه ويرتفع الإذن بالنهي "وجه" قول أبي يوسف أن الإذن الموجود على طريق العموم في الخرجات كلها مما يبطل الشرط لأن شرط وقوع الطلاق الخروج الذي ليس بموصوف بكونه ملتصقا بالإذن وهذا لا يتصور بعد الإذن العام؛ لأن كل خروج يوجد بعده لا يوجد إلا ملتصقا بالإذن فخرج الشرط من أن يكون متصور الوجود ولا بقاء لليمين بدون الشرط كما لا بقاء لها بدون الجزاء لأنها تتركب من الشرط والجزاء فلم يبق اليمين فوجد النهي العام ولا يمين فلم يعمل, بخلاف الإذن الخاص بمرة واحدة ثم النهي عنها؛ لأن هناك بالإذن بالخروج مرة لم ترتفع اليمين فجاء النهي واليمين باقية فصح النهي "وأما" المسألة الثانية فجوابها أن ذلك على الإذن مرة واحدة حتى لو أذن لها مرة فخرجت ثم عادت ثم خرجت بغير إذن لا يحنث. وكذا إذا أذن لها مرة ثم نهاها قبل أن تخرج ثم خرجت بعد ذلك لا يحنث؛ لأن كلمة حتى كلمة غاية وهي بمعنى إلى, وكلمة إلى كلمة انتهاء الغاية فكذا كلمة حتى. ألا ترى أنه لا فرق بين قوله حتى آذن وبين قوله إلى أن آذن ومعنى قوله حتى أن آذن, وكلمة أن مضمرة؛ لأن حتى لما كانت من عوامل الأسماء وما كان من عوامل الأسماء لا يدخل الأفعال ألبتة فلم يكن بد من إضمار أن لتصير هي بالفعل الذي هو صلتها بمنزلة المصدر, تقول أحب أن تقوم أي أحب قيامك, فيكون قوله حتى آذن أي حتى إذني وهو قوله إلى إذني ولهذا أدخلوا كلمة أن بعد إلى فقالوا: إلى أن آذن إلا أن هناك اعتادوا الإظهار مع إلى وههنا مع حتى اعتادوا الإضمار, وإذا كان كذلك صار وجود الإذن منه غاية لحظر الخروج, والمضروب له الغاية ينتهي عند وجود الغاية فينتهي حظر الخروج ومنعه باليمين عند وجود الإذن مرة واحدة بخلاف الأول فإن أراد بقوله حتى آذن في كل مرة فهو على ما نوى في قولهم جميعا, ويجعل حتى مجازا عن إلى لوجود معنى الانتهاء في الاستثناء على ما بينا, وفيه تشديد على نفسه فيصدق. "وأما" المسألة الثالثة فلا يجوز فيها فالجواب في قوله حتى آذن في قول العامة. وقال الفراء: الجواب فيها كالجواب في قوله إلا بإذني. وجه قوله أن كلمة إلا استثناء فلا بد من تقديم المستثنى منه عليها وتأخير المستثنى عنها, وإن مع الفعل المستقبل بمنزلة المصدر على ما مر فصار تقدير الكلام: "إن خرجت من الدار إلا خروجا بإذني" وهذا ليس بكلام مستقيم فلا بد من إدراج حتى يصح الكلام فندرج الباء ويجعل معناه إلا خروجا بإذني, وإسقاط الباء في اللفظ مع ثبوتها في التقدير جائز في اللغة كما روي عن رؤبة بن العجاج أنه قيل له كيف أصبحت؟ فقال خير عافاك الله أي بخير. وكذا يحذفون الباء في القسم فيقولون: الله مكان قولهم بالله, وإنما اختلفوا في الخفض والنصب وإذا كان هذا جائزا أدرجت لضروة تصحيح الكلام, والدليل عليه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} أي إلا بإذن لكم حتى كان محتاجا إلى الإذن في كل مرة فكذا فيما نحن فيه, "ولنا" أن هذا الكلام لما لم يكن بنفسه صحيحا لما قاله الفراء ولا بد من القول بتصحيحه, ولكن تصحيحه على التقدير الذي قاله الفراء, وأمكن تصحيحه أيضا بجعله إلا بمعنى حتى وإلى لأن كلمة إلا كلمة استثناء وما وراء كلمة الاستثناء وهو المستثنى منه ينتهي عند كلمة الاستثناء وعند وجود المستثنى, فصارت كلمة الاستثناء على هذا التقدير للغاية, فأقيم مقام الغاية فصار كأنه قال: إن خرجت من هذه الدار إلى إذني أو حتى إذني, وهذا أولى مما قاله الفراء لأن تصحيح الكلام بجعل كلمة قائمة مقام أخرى أولى من التصحيح بطريق الإضمار؛ لأن جعل الكلمة قائمة مقام أخرى وإن كان فيه ضرب تغيير لكن التغيير تصرف في الوصف. والإضمار إثبات أصل الكلام, والتصرف في الوصف بالتغيير والتبديل أولى

 

ج / 3 ص -45-         من إثبات الأصل بلا شك فكان هذا أولى على أن فيما قاله إضمار شيئين: أحدهما: الباء, والآخر: الجالب للباء وهو قوله إلا خروجا وليس فيما ذهبنا إليه إدراج شيء بل إقامة ما فيه معنى الغاية مقام الغاية, ولا شك أن هذا أدون فكان التصحيح به أولى, ولهذا كان معنى قوله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} أي إلى أن تقطع قلوبهم, والله عز وجل أعلم أي إلى وقت تقطع قلوبهم وهو حالة الموت وفي قوله  عز وجل: {إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ} إنما احتيج إلى الإذن في كل مرة لا بمقتضى اللفظ بل بدليل آخر وهو أن دخول دار الغير بغير إذنه حرام ألا يرى أنه قال عز وجل في آخر قوله تعالى: {إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ} ومعنى الأذى موجود في كل ساعة فشرط الإذن في كل مرة, والله عز وجل أعلم, فإن قال إلا بإذن فلان فمات المحلوف على إذنه بطلت اليمين عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف هي على حالها, وهذا فرع اختلافهم فيمن حلف ليشربن الماء الذي في هذا الكوز وليس في الكوز ماء أنه لا تنعقد اليمين في قول: أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف تنعقد بناء على أصل ذكرناه فيما تقدم أن تصور وجود المحلوف عليه حقيقة في المستقبل شرط انعقاد اليمين, وبقاؤه متصور الوجود حقيقة شرط بقاء اليمين عندهما, وعنده ليس بشرط فإن أذن لها بالخروج من حيث لا تسمع فخرجت بغير الإذن يحنث عند أبي حنيفة ومحمد, ولا يحنث عند أبي يوسف. وجه قوله أن الإذن يتعلق بالإذن؛ لأنه كلامه وقد وجد فأما السماع فإنما يتعلق بالمأذون فلا يعتبر لوجود الإذن كما لو وقع الإذن بحيث يجوز أن تسمع وهي نائمة؛ لأنه كلامه؛ ولأن شرط الحنث خروج غير مأذون فيه مطلقا, وهذا مأذون فيه من وجه لوجود كلام الإذن فلم يوجد شرط الحنث؛ ولأن المقصود من الإذن أن لا تخرج وهو كاره وقد زالت الكراهة بقوله: أذنت وإن لم تسمع ولهما أن الإذن إعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام وقوله: أذنت لك بحيث لا تسمع لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا فلم يوجد خروج مأذون فيه فلم يوجد الخروج المستثنى فيحنث؛ ولأن هذه اليمين اشتملت على الحظر والإطلاق فإن قوله إن خرجت من هذه الدار يجري مجرى الحظر والمنع, وقوله إلا بإذني يجري مجرى الإطلاق, وحكم الحظر والإطلاق من الشارع, والشرائع لا تثبت بدون البلوغ, كذا من الحالف ألا ترى أنه قيل في قوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} إنه نزل في قوم شربوا الخمر بعد نزول تحريم الخمر قبل علمهم به. وذكر محمد في الزيادات أن الوكيل لا يصير وكيلا قبل علمه بالوكالة حتى يقف تصرفه على إجازة الموكل, والتوكيل إذن وإطلاق, ولهما أن الإذن إعلام قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} أي إعلام وقوله: أذنت لك بحيث لا تسمع لا يكون إعلاما فلا يكون إذنا فلم يوجد خروج مأذون فيه فلم يوجد الخروج المستثنى فيحنث, ولأن الخروج مذكور في محل النفي فيعم كل خروج إلا الخروج المستثنى وهو الخروج المأذون فيه مطلقا وهو أن يكون مأذونا فيه من كل وجه ولم يوجد فلم يكن هذا خروجا مستثنى فبقي داخلا تحت عموم الخروج فيحنث بخلاف ما إذا ما كانت نائمة فأذن لها بحيث يجوز أن تسمع؛ لأن مثل هذا يعد سماعا عرفا وعادة, كما إذا أذن لها وهي تسمع إلا أنها غافلة, ومسألتنا مفروضة فيما إذا أذن لها من حيث لا تسمع عادة ومثل هذا لا يعد سماعا في العرف فهو الفرق بين الفصلين. وقيل إن النائم يسمع؛ لأن ذلك بوصول الصوت إلى صماخ أذنه والنوم لا يمنع منه وإنما يمنع من فهم المسموع فصار كما لو كلمه وهو يقظان لكنه غافل وحكى ابن شجاع أنه لا خلاف في هذه المسألة أنه لا يحنث لأنه قد عقد على نفسه بالإذن وقد أذن. قال وإنما الخلاف بينهم في الأمر. وروى نصر بن يحيى عن أبي مطيع عن أبي حنيفة مثل قول أبي يوسف, إلا أن أبا سليمان حكى الخلاف في الإذن, والله عز وجل أعلم. ابن سماعة عن محمد لو أن رجلا قال لعبده: إن خرجت من هذه الدار إلا بإذني فأنت حر, ثم قال: له أطع فلانا في جميع ما يأمرك به فأمره فلان بالخروج فخرج فالمولى حانث لوجود شرط الحنث وهو الخروج بغير إذن المولى؛ لأن المولى لم يأذن له بالخروج وإنما أمره بطاعة فلان, وكذلك لو قال المولى لرجل: ائذن له في الخروج فأذن له الرجل فخرج لأنه لم يأذن له بالخروج وإنما أمر فلانا بالإذن, وكذلك لو قال له: قل: يا فلان مولاك قد أذن لك في

 

ج / 3 ص -46-         الخروج فقال له فخرج, فإن المولى حانث لأنه لم يأذن له وإنما أمر فلانا بالإذن, ولو قال المولى لعبده بعد يمينه: ما أمرك به فلان فقد أمرتك به فأمره الرجل بالخروج فخرج, فالمولى حانث؛ لأن مقصود المولى من هذا أنه لا يخرج إلا برضاه, فإذا قال: ما أمرك به فلان فقد أمرتك به فهو لا يعلم أن فلانا يأمره بالخروج, والرضا بالشيء بدون العلم به لا يتصور, فلم يعلم كون هذا الخروج مرضيا به, فلم يعلم كونه مستثنى فبقي تحت المستثنى منه, ولو قال المولى للرجل: قد أذنت له في الخروج فأخبر الرجل به العبد لم يحنث المولى لأن الإذن من المولى قد وجد إلا أنه لم يبلغ العبد, فإذا أخبره به فقد بلغه فلا يحنث. ولو قال لامرأته إن خرجت إلا بإذني ثم قال لها إن بعت خادمك فقد أذنت لك لم يكن منه هذا إذنا؛ لأنه مخاطرة يجوز أن تبيع ويجوز أن لا تبيع فلا يعد ذلك رضا. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال لها إن خرجت إلا بأمري فالأمر على أن يأمرها ويسمعها أو يرسل بذلك رسوله إليها, فإن أشهد قوما أنه قد أمرها ثم خرجت فهو حانث, فقد فرق أبو يوسف بين الأمر وبين الإذن حيث لم يشترط في الإذن إسماعها, وإرسال الرسول به وشرط ذلك في الأمر, ووجه الفرق له أن حكم الأمر لا يتوجه على المأمور بدون العلم به كما في أمر الشرع, والمقصود من الإذن هو الرضا, وهو أن لا تخرج مع كراهته, وهذا يحصل بنفس الإذن بدون العلم به. قال محمد: ولو غضبت وتهيأت للخروج فقال: دعوها تخرج ولا نية له فلا يكون هذا إذنا إلا أن ينوي الإذن؛ لأن قوله دعوها ليس بإذن نصا بل هو أمر بترك التعرض لها وذلك بأن لا تمنع من الخروج أو بتخلية سبيلها فلا يحصل إذنا بدون النية, ولو قال لها في غضبه: اخرجي ولا نية له كان على الإذن؛ لأنه نص على الأمر إلا أن ينوي به اخرجي حتى تطلقي فيكون تهديدا, والأمر يحتمل التهديد كما في أمر الشرع. قال الله تعالى: {اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ} فإذا نوى التهديد وفيه تشديد عليه صحت نيته. ولو قال: عبده حر إن دخل هذه الدار إلا إن نسي فدخلها ناسيا ثم دخل بعد ذلك ذاكرا لم يحنث, وهذا على ما ذكرنا من قول العامة في قوله: أنت طالق إن خرجت من هذه الدار إلا أن آذن لك أن قوله إلا أن لانتهاء الغاية بمنزلة قوله حتى, فلما دخلها ناسيا فقد انتهت اليمين فلا يتصور الحنث بدخول هذه الدار بهذه اليمين بحال. ولو قال: إن دخل هذه الدار إلا ناسيا فدخلها ناسيا ثم دخلها ذاكرا حنث؛ لأنه عقد يمينه على كل دخول وحظر على نفسه ومنعها منه واستثنى منه دخولا بصفة وهو أنه يكون عن نسيان فبقي ما سواه داخلا تحت اليمين فيحنث به. قال ابن سماعة عن محمد في رجل قال: عبدي حر إن دخلت هذه الدار دخلة إلا أن يأمرني فلان فأمره فلان مرة واحدة فإنه لا يحنث إن دخل هذه الدخلة ولا بعدها وقد سقطت اليمين, وهذا على أن الأمر واحد لما ذكرنا أن إلا أن لانتهاء الغاية كحتى فإذا وجد الأمر مرة واحدة انحلت اليمين. ولو قال إن دخلت هذه الدار دخلة إلا أن يأمرني بها فلان فأمره فدخل ثم دخل بعد ذلك بغير أمره فإنه يحنث, ولا بد ههنا من الأمر في كل مرة؛ لأنه وصل الأمر بالدخلة بحرف الوصل وهي حرف الباء فلا بد من الأمر في كل دخلة كما لو قال: إلا بأمر فلان. قال هشام عن محمد في رجل حلف لا تخرج امرأته إلا بعلمه فأذن لها أن تخرج فخرجت بعد ذلك وهو لا يعلم فهو جائز؛ لأن قوله إلا بعلمي أي إلا بإذني وقد خرجت فكان خروجا مستثنى فلا يحنث. وإذا حلف رجل على زوجته أو مولى على عبده أن لا يخرج من داره إلا بإذنه, أو سلطان حلف رجلا أن لا يخرج من كورة إلا بإذنه ثم بانت المرأة من الزوج أو خرج العبد من ملك المولى أو عزل السلطان عن عمله فكان الخروج بغير إذن من واحد منهم فلا حنث على الحالف, وتقع اليمين على الحال التي يملك الحالف فيها الإذن, فإن زالت تلك الحالة سقطت اليمين, وإنما كان كذلك لأن غرض المستحلف من ذلك تنفيذ ولايته, وهو أن لا يخرج من له عليه ولاية إلا بأمره فيتقيد بحال قيام الولاية فإذا زالت زالت اليمين, فإن عادت المرأة إلى ملك الزوج أو العبد إلى ملك المولى أو أعيد السلطان إلى ولايته لا تعاد اليمين لأنها قد سقطت لما بينا فلا تحتمل العود, وكذلك الغريم إذا حلف المطلوب أن لا يخرج من بلده إلا بإذنه فاليمين مقيدة بحال قيام الدين فإن قضاه المطلوب أو أبرأ الطالب سقطت اليمين, فإن عاد عليه ذلك الدين أو غيره لم تعد اليمين لأن غرض المستحلف أن لا يخرج لأجل ذلك الدين الذي له عليه وقت الحلف, فإذا أسقط ذلك

 

ج / 3 ص -47-         بطل اليمين فلا يحتمل العود, وعلى هذا قالوا في عامل استحلف رجلا أن يرفع إليه كل من علم به من فاسق أو داعر أو سارق في محلته ولم يعلم من ذلك حتى عزل العامل عن عمله ثم علم فليس عليه أن يرفعه وقد خرج عن يمينه, وبطلت عنه لأنها تقيدت بحال عمله بدلالة الغرض؛ لأن غرض العامل أن يرفع إليه مادام واليا فإذا زالت ولايته ارتفعت اليمين فإن عاد العامل عاملا بعد عزله لم يكن عليه أيضا أن يرفع ذلك إليه؛ لأن اليمين قد بطلت فلا تعود سواء عاد عاملا بعد ذلك أو لم يعد, ولو كان الحالف علم ببعض ما استحلف عليه فأخر رفع ذلك حتى عزل العامل حنث في يمينه, ولم ينفعه رفع ذلك إليه بعد عزله؛ لأن الرفع تقيد بحال قيام الولاية, فإذا زالت الولاية فقد فات شرط البر. قال محمد في الزيادات: إلا أن يعني أن يرفع إليهم على كل حال في السلطان وغيره, وأدينه فيما بينه وبين الله عز وجل وفي القضاء؛ لأنه نوى ظاهر كلامه وهو العموم فيصدق ديانة وقضاء. وقال محمد في الزيادات: إذا حلف أن لا تخرج امرأته من هذه الدار ولا عبده فبانت منه أو خرج العبد عن ملكه ثم خرجت حنث, ولا يتقيد بحال قيام الزوجية والملك لانعدام دلالة التقييد وهي قوله إلا بإذنه فيعمل بعموم اللفظ, فإن عنى به ما دامت امرأته يدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه عنى ما يحتمله لفظه, ولا يدين في القضاء لأنه نوى تخصيص العموم, وإنه خلاف الظاهر, وكذلك من طولب بحق فحلف أن لا يخرج من دار مطالبه حنث بالخروج, زال ذلك الحق أو لم يزل لما قلنا, وإن أرادت المرأة أن تخرج وقد أخذت في ذلك أو العبد أو أراد الرجل أن يضرب عبده وقد نهض لذلك فقال: أنت طالق إن خرجت, أو قال المولى: أنت حر إن خرجت, أو قال رجل للضارب: عبدي حر إن ضربته فكفوا عن ذلك فقد سقطت اليمين حتى لو خرج المحلوف عليه بعد ذلك, أو ضرب الرجل عبده لا يحنث الحالف؛ لأن غرضه من هذه اليمين المنع من الخروج في الحال, أو الضرب فتقيدت بالحال بدلالة الغرض فتزول اليمين بزوال الحالف, فلا يتصور الحنث بالخروج بعد ذلك وهذه من مسائل يمين الفور, ونظائرها تأتي إن شاء الله تعالى في مواضعها.

                                                          "فصل":
وأما الحلف على الكلام فالمحلوف عليه وهو الكلام قد يكون مؤبدا, وقد يكون مطلقا, وقد يكون مؤقتا, أما المؤبد فهو أن يحلف أن لا يكلم فلانا أبدا فهو على الأبد لا شك فيه, لأنه نص عليه. "وأما" المطلق فهو أن يحلف أن لا يكلم فلانا ولا يذكر الأبد وهذا أيضا على الأبد حتى لو كلمه في أي وقت, كلمه في ليل أو نهار وفي أي مكان كان وعلى أي حال حنث؛ لأنه منع نفسه من كلام فلان ليبقى الكلام من قبله على العدم, ولا يتحقق العدم إلا بالامتناع من الكلام في جميع العمر, فإن نوى شيئا دون شيء بأن نوى يوما أو وقتا أو بلدا أو منزلا لا يدين في القضاء ولا فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه نوى تخصيص ما ليس بملفوظ فلا يصدق رأسا ولا يحنث حتى يكون منه كلام مستأنف بعد اليمين فينقطع عنها, فإن كان موصولا لم يحنث؛ بأن قال: إن كلمتك فأنت طالق فاذهبي أو فقومي فلا يحنث بقوله فاذهبي أو فقومي. كذا قال أبو يوسف لأنه متصل باليمين, وهذا؛ لأن قوله لا أكلم أو إن كلمتك يقع على الكلام المقصود باليمين وهو ما يستأنف بعد تمام الكلام الأول, وقوله فاذهبي أو فقومي وإن كان كلاما حقيقة فليس بمقصود باليمين فلا يحنث به, ولأنه لما ذكره بحرف العطف دل أنه ليس بكلام مبتدإ. وكذا إذا قال: واذهبي لما قلنا, فإن أراد به كلاما مستأنفا يصدق؛ لأنه كلام حقيقة وفيه تشديد على نفسه, وإن أراد بقوله فاذهبي الطلاق فإنها تطلق بقوله فاذهبي لأنه من كنايات الطلاق, ويقع عليها تطليقة أخرى باليمين؛ لأنه لما نوى به الطلاق فقد صار كلاما مبتدأ فيحنث به, وإن كان في الحال التي حلف ما يدل على تخصيص اليمين كانت خاصة؛ بأن قال له رجل كلم لي زيدا اليوم في كذا فيقول: والله لا أكلمه, يقع هذا على اليوم دون غيره بدلالة الحال, وعلى هذا قالوا: لو قال ائتني اليوم, فقال: امرأتي طالق إن أتيتك فهذا على اليوم. وكذا إذا قال: ائتني في منزلي, فحلف بالطلاق لا يأتيه فهو على المنزل, وهذا إذا لم يطل الكلام بين دلالة التخصيص وبين اليمين, فإن طال كانت اليمين على الأبد, فإن قال: لم لا تلقني في المنزل وقد أسأت في تركك لقائي وقد أتيتك غير مرة فلم ألقك, فقال الآخر: امرأته طالق إن أتاك فهذا على الأبد وعلى كل منزل؛ لأن

 

ج / 3 ص -48-         الكلام كثير فيما بين ابتدائه بذكر المنزل وبين المنزل وبين الحلف فانقطعت اليمين عنه وصارت يمينا مبتدأة, فإن نوى هذا الإتيان في المنزل دين فيما بينه وبين الله تعالى ولم يدين في القضاء لأنه يحتمله كلامه, لكنه خلاف الظاهر. ولو صلى الحالف خلف المحلوف عليه فسها الإمام فسبح به الحالف أو فتح عليه بالقراءة لم يحنث؛ لأن هذا لا يسمى كلاما في العرف وإن كان كلاما في الحقيقة. ألا ترى أن الكلام العرفي يبطل الصلاة به؟ وهذا لا يبطلها, وقد قالوا فيمن حلف لا يتكلم فصلى: أن القياس أن يحنث؛ لأن التكبير والقراءة كلام حقيقة, وفي الاستحسان لا يحنث لأنه لا يسمى كلاما عرفا. ألا ترى أنهم يقولون فلان لا يتكلم في صلاته وإن كان قد قرأ فيها, ولو قرأ القرآن خارج الصلاة يحنث؛ لأنه تكلم حقيقة. وقيل: هذا إذا كان الحالف من العرب, فإن كان الحالف من العجم أو كان لسانه غير لسان العرب لا يحنث, سواء قرأ في الصلاة أو خارج الصلاة؛ لأنه لا يعد متكلما ولو سبح تسبيحة أو كبر أو هلل خارج الصلاة يحنث عندنا, وعند الشافعي لا يحنث, والصحيح قولنا, لأنه وجد الكلام حقيقة إلا أنا تركنا الحقيقة حالة الصلاة بالعرف ولا عرف خارج الصلاة. وقيل: هذا في عرفهم. فأما في عرفنا فلا يحنث خارج الصلاة أيضا لأنه لا يسمى كلاما في الحالين جميعا, ولو فتح عليه في غير الصلاة حنث لأنه كلام حقيقة إلا أنه ترك الحقيقة في الصلاة للعرف, فإن كان الإمام هو الحالف والمحلوف عليه خلفه فسلم لم يحنث بالتسليمة الأولى وإن كان على يمينه ونواه لأنه في الصلاة, وسلام الصلاة لا يعد كلاما كتكبيرها والقراءة فيها. ألا ترى أنه لا يفسد الصلاة؟ ولو كان من كلام الناس لكان مفسدا, وإن كان على يساره فنواه اختلف المشايخ فيه, قد قال بعضهم: يحنث. وقال بعضهم: لا يحنث, وإن كان المقتدي هو الحالف فكذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف بناء على أن المقتدي لا يصير خارجا عن الصلاة بسلام الإمام عندهما, وعند محمد يحنث لأنه خارج عن صلاته بسلام الإمام عنده, فقد تكلم كلاما خارج الصلاة فيحنث, ولو مر الحالف على جماعة فيهم المحلوف عليه فسلم عليهم حنث لأنه كلم جماعتهم بالسلام, فإن نوى القوم دونه لم يحنث فيما بينه وبين الله تعالى لأن ذكر الكل على إرادة البعض جائز, ولا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر, ولو نبه الحالف المحلوف عليه من النوم حنث وإن لم ينتبه لأن الصوت يصل إلى سمع النائم لكنه لا يفهم فصار كما لو كلمه وهو غافل, ولأن مثل هذا يسمى كلاما في العرف كتكلم الغافل فيحنث, ولو دق عليه الباب فقال من هذا أو من أنت؟ حنث لأنه كلمه بالاستفهام, ولو كان في مكانين فدعاه أو كلمه فإن كان ذلك بحيث يسمع مثله لو أصغى إليه فإنه يحنث وإن لم يسمعه, وإن كان في موضع لا يسمع في مثله عادة فإن أصغى إليه لبعد ما بينهما لم يحنث لأن الموضع إذا كان قريبا بحيث يسمع مثله عادة يسمى مكلما إياه لما ذكرناه وإن لم يسمع لعارض وليس كذلك إذا كان بعيدا, ولأنه إذا كان قريبا يحمل على أنه وصل الصوت إلى سمعه لكنه لم يفهمه فأشبه الغافل, وإذا كان بعيدا لا يصل إليه رأسا, وقالوا فيمن حلف لا يكلم إنسانا فكلم غيره وهو يقصد أن يسمعه لم يحنث؛ لأن مثل هذا لا يسمى مكلما إياه إذا لم يقصده بالكلام. ولو حلف لا يكلم امرأته فدخل داره وليس فيها غيرها فقال من وضع هذا؟ أو أين هذا؟ ؟ حنث؛ لأنه كلمها حيث استفهم وليس هناك غيرها لئلا يكون لاغيا, فإن كان في الدار غيرها لم يحنث لجواز أنه استفهم غيرها, فإن قال ليت شعري من وضع هذا؟ لم يحنث لأنه لم يكلمها وإنما كلم نفسه. ولو حلف لا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا فانتهى الكتاب إليه, أو أرسل إليه رسولا فبلغ الرسالة إليه لا يحنث؛ لأن الكتابة لا تسمى كلاما. وكذا الرسالة. "وأما" الموقت فنوعان: معين ومبهم "أما" المعين: فنحو أن يحلف الرجل بالليل لا يكلم فلانا يوما فيحنث بكلامه من حين حلف إلى أن تغيب الشمس من الغد فيدخل في يمينه بقية الليل, حتى لو كلمه فيما بقي من الليل أو في الغد يحنث؛ لأن قوله لا أكلم فلانا يقع على الأبد ويقتضي منع نفسه عن كلام فلان أبدا لولا قوله يوما فكان قوله يوما لإخراج ما وراءه عن اليمين فيبقى زمان ما بعد اليمين بلا فصل داخلا تحتها فيدخل فيها بقية تلك الليلة. وكذلك لو حلف بالنهار لا يكلمه ليلة أنه يحنث بكلامه من حين حلف إلى طلوع الفجر لما قلنا, ولو حلف في بعض النهار لا يكلمه يوما فاليمين على بقية اليوم والليلة المستقبلة إلى مثل تلك الساعة التي حلف فيها من

 

ج / 3 ص -49-         الغد لأنه حلف على يوم منكر فلا بد من استيفائه, ولا يمكن استيفاؤه إلا بإتمامه من اليوم الثاني فيدخل الليل من طريق التبع, وكذلك إذا حلف ليلا لا يكلمه ليلة فاليمين من تلك الساعة إلى أن يجيء مثلها من الليلة المقبلة, ويدخل النهار الذي بينهما في ذلك لأنه حلف على ليلة منكرة فلا بد من الاستيفاء منها وذلك فيما قلنا. فإن قال في بعض اليوم: والله لا أكلمك اليوم فاليمين على باقي اليوم, فإذا غربت الشمس سقطت اليمين, وكذلك إذا قال بالليل: والله لا أكلمك الليلة فإذا طلع الفجر سقطت لأنه حلف على زمان معين لأنه أدخل لام التعريف على اليوم والليلة فلا يتناول غير المعرف, بخلاف قوله يوما؛ لأنه ذكر اليوم منكرا فلا بد من استيفائه وذلك من اليوم الثاني, ولو حلف لا يكلمه شهرا يقع على ثلاثين يوما, ولو قال الشهر يقع على بقية الشهر, ولو حلف لا يكلمه السنة يقع على بقية السنة, ولو قال: والله لا أكلمك اليوم ولا غدا فاليمين على بقية اليوم وعلى غد ولا تدخل الليلة التي بينهما في اليمين, روى ذلك ابن سماعة عن أبي يوسف ومحمد لأنه أفرد كل واحد من الوقتين بحرف النفي فيصير كل واحد منهما منفيا على الانفراد, أصله قوله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} فلا تدخل الليلة المتخللة بين الوقتين. ولو قال: والله لا أكلمك اليوم وغدا دخلت الليلة التي بين اليوم والغد في يمينه؛ لأن ههنا جمع بين الوقت الثاني وبين الأول بحرف الجمع وهو الواو فصار وقتا واحدا فدخلت الليلة المتخللة. وروى بشر عن أبي يوسف أن الليلة لا تدخل؛ لأنه عقد اليمين على النهار ولا ضرورة توجب إدخال الليل فلا يدخل, ولو حلف لا يكلمه يومين تدخل فيه الليلة سواء كان قبل طلوع الفجر أو بعده, وكذلك الجواب في الليل, ولو قال: والله لا أكلمك يوما ولا يومين فهو مثل قوله والله لا أكلمك ثلاثة أيام في قول أبي حنيفة ومحمد, حتى لو كلمه في اليوم الأول أو الثاني أو الثالث يحنث, وكذلك روى بشر عن أبي يوسف, هكذا ذكر الكرخي في مختصره. وذكر محمد في الجامع أنه على يومين حتى لو كلمه في اليوم الأول أو الثاني يحنث, وإن كلمه في اليوم الثالث لا يحنث. وجه ما ذكره الكرخي ظاهر لأنه عطف اليومين على اليوم والمعطوف غير المعطوف عليه فاقتضى يومين آخرين غير الأول فصار كأنه قال: والله لا أكلم فلانا يوما ويومين, أو قال ثلاثة أيام. وجه ما ذكره محمد في الجامع أن كل واحد منهما يمين مفردة لانفراد كل واحد منهما بكلمة النفي, والواو للجمع بين اليمينين, وصار تقديره أكلم فلانا يوما ولا أكلمه يومين لئلا تلغو كلمة النفي فصار لكل يمين مدة على حدة فصار على اليوم الأول يمينان وعلى اليوم الثاني يمين واحد, بخلاف ما إذا قال: والله لا أكلم فلانا يوما ويومين فكلمه في اليوم الثالث أنه يحنث, لأنه لما لم يعد كلمة النفي فلم يوجد ما يدل على أنه أراد نفي الكلام في كل مرة على حدة ليكون يمينين فبقي يمينا واحدة, والواو للجمع بين المدتين كما لو جمع بين المدتين بكلمة الجمع فقال: والله لا أكلم فلانا ثلاثة أيام, والدليل على التفرقة بينهما أنه لو قال: والله لا أكلم زيدا ولا عمرا فكلم أحدهما يحنث, ولو قال: والله لا أكلم زيدا وعمرا فما لم يكلمهما لا يحنث. وقال بشر عن أبي يوسف لو قال: والله لا أدخل الدار يوما ويوما فهو مثل حلفه على يومين. قال أبو يوسف: ولا يشبه هذا قوله ولا أدخلها اليوم وغدا, لأن قوله يوما ويوما عطف زمان منكر على زمان منكر فصار كقوله يومين فيدخل الليل, وقوله اليوم وغدا عطف زمان معين على زمان معين ولا ضرورة إلى إدخال الليل فيه فلا يدخل, ولو قال: والله لا أكلم زيدا يوما والله لا أكلمه يومين والله لا أكلمه ثلاثة أيام فاليوم الأول من حين فرغ من اليمين الثالثة عليه ثلاثة أيام, واليوم الثاني عليه يمينان: الثانية والثالثة, واليوم الثالث عليه يمين واحدة وهي الثالثة, لأن كل يمين ذكرها تختص بما يعقبها فانعقدت اليمين الأولى على الكلام في يوم عقيب اليمين, والثانية في يومين عقيب اليمين, والثالثة في ثلاثة أيام عقيب اليمين, فانعقدت على الكلام في اليوم الأول ثلاثة أيمان, وعلى الثاني يمينان, وعلى الثالث واحدة, ونظير هذه المسائل ما روى داود بن رشيد عن محمد فيمن قال والله لا أكلمك اليوم سنة, أو لا أكلمك اليوم شهرا؛ فعليه أن يدع كلامه في ذلك اليوم شهرا وفي ذلك اليوم سنة حتى يكمل كلما دار ذلك اليوم في ذلك الشهر أو في تلك السنة؛ لأن اليوم الواحد يستحيل أن يكون شهرا أو سنة فلم يكن ذلك مراد الحالف فكان مراده أن لا يكلمه في مثله شهرا أو سنة, فإن قال: لا أكلمك اليوم عشرة أيام وهو في يوم السبت فهذا على سبتين؛

 

ج / 3 ص -50-         لأن اليوم لا يكون عشرة أيام فلم يكن ذلك مرادا فيقع على عشرة أيام لأنه لا يدور في عشرة أيام أكثر من سبت واحد, وكذلك لو قال: والله لا أكلمك السبت مرتين كان على سبتين؛ لأن السبت لا يكون يومين فكان المراد منه مرتين, وكذلك لو قال: لا أكلمك يوم السبت ثلاثة أيام كان كلها يوم السبت لما بينا, ولو قال لا أكلمك يوما ما أو لا أكلمك يوم السبت يوما فله أن يجعله أي يوم شاء لأنه عقد يمينه على يوم شائع في أيام, فكان التعيين إليه. وقال ابن سماعة عن محمد فيمن قال لا أكلمك يوما بين يومين ولا نية له قال: فكل يوم بين يومين, وهو عندي بمنزلة قوله لا أكلمك يوما فيكون على يوم من ساعة حلف, والله عز وجل أعلم "وأما" المبهم: فنحو أن يحلف أن لا يكلم فلانا زمنا أو حينا أو الزمان أو الحين فإن لم يكن له نية يقع على ستة أشهر؛ لأن الحين يذكر ويراد به الوقت القصير. قال الله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} قيل: حين تمسون صلاة المغرب والعشاء, وحين تصبحون صلاة الفجر, ويذكر ويراد به الوقت الطويل. قال الله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْأِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} قيل: المراد منه أربعون سنة, ويذكر ويراد به الوسط. قال الله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} قيل: أي ستة أشهر من وقت طلوعها إلى وقت إدراكها. قال ابن عباس رضي الله عنهما: هي النخلة, ثم عند الإطلاق لا يحمل على الوقت القصير؛ لأن اليمين تعقد للمنع ولا حاجة إلى اليمين للمنع في مثل هذه المدة؛ لأنه يمنع بدون اليمين, ولا يحمل على الطويل؛ لأنه لا يراد ذلك عادة, ومن أراد ذلك بلفظة الأبد فتعين الوسط. وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه حمله على ذلك, ولأن كل واحد من الطرفين في غاية البعد عن صاحبه والوسط قريب منهما فيحمل عليه, وإذا ثبت هذا في الحين ثبت في الزمان لكونهما من الأسماء المترادفة, وعن ثعلب أن الزمان في كلام العرب ستة أشهر, وإن نوى الحالف شيئا مما ذكرنا فهو على ما نوى؛ لأنه نوى ما يحتمله كلامه ولفظه لما بينا, ومنهم من قال يصدق في الوقت اليسير في الحين ولا يصدق في الزمان؛ لأنه قد ثبت استعمال اللفظ في اليسير في الحين كما في قوله تعالى: {فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} ولم يثبت في الزمان. وذكر الكرخي في الجامع عن أبي حنيفة أنه يدين في الزمان والحين في كل ما نوى من قليل أو كثير وهو الصحيح. وروي عن أبي يوسف أنه لا يدين فيما دون ستة أشهر في القضاء, ولو قال: لا أكلمه دهرا والدهر فقال أبو حنيفة: إن كانت له نية فهو على ما نوى, وإن لم تكن له نية فلا أدري ما الدهر ؟. وقال أبو يوسف ومحمد: إذا قال دهرا فهو ستة أشهر, وإذا قال الدهر فهو على الأبد, ومن مشايخنا من قال: لا خلاف في الدهر المعروف أنه الأبد, وإنما توقف أبو حنيفة رضي الله عنه في الدهر المنكر فإنه قال: إذا قال دهرا لا أدري ما هو؟ وذكر في الجامع الكبير أن قوله: الدهر ينصرف إلى جميع العمر ولم يذكر فيه الخلاف, وقوله دهرا لا يدرى تفسيره, وفي الجامع الصغير أشار إلى التوقف في الدهر المعرف أيضا فإنه قال: والدهر لا أدري ما هو. وروى بشر عن أبي يوسف عن أبي حنيفة في قوله دهرا والدهر أنهما سواء فهما جعلا قوله دهرا كالحين والزمان لأنه يستعمل استعمال الحين والزمان, يقال: ما رأيتك من دهر وما رأيتك من حين على السواء, فإذا أدخل عليه الألف واللام صار عبارة عن جميع الزمان. وروي عن أبي يوسف أن قوله الدهر يقع على ستة أشهر لكنه خلاف ظاهر الرواية عنهما وأبو حنيفة كأنه رأى الاستعمال مختلفا فلم يعرف مراد المتكلم عند إطلاق الاسم فتوقف. وقال لا أدري أي لا أدري بماذا يقدر إذ لا نص فيه عن أحد من أرباب اللسان؟ بخلاف الحين والزمان فإن فيهما نصا عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه فسر قوله تعالى: {تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا} بستة أشهر والزمان والحين ينبئان عن معنى واحد, وهذا على قول من قال من مشايخنا إنه توقف في المنكر لا في المعرف أو لم يعرف حقيقة معناه لغة فتوقف فيه, والتوقف فيما لا يعرف لعدم دليل المعرفة ولتعارض الأدلة وانعدام ترجيح البعض على البعض أمارة كمال العلم وتمام الورع, فقد روي أن ابن عمر رضي الله عنهما سئل عن شيء فقال لا أدري, وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "سئل عن أفضل البقاع فقال: لا أدري فلما نزل جبريل عليه الصلاة والسلام سأله فعرج إلى السماء ثم هبط فقال: سألت ربي عز وجل عن أفضل البقاع فقال: المساجد, وأفضل أهلها من جاءها أولا وانصرف آخرا وشر أهلها من جاءها آخرا

 

ج / 3 ص -51-         وانصرف أولا". ولو قال: يوم أكلم فلانا فامرأته طالق ولا نية له فكلمه ليلا أو نهارا يحنث. وكذا إذا قال يوم أدخل هذه الدار لأن اليوم إذا قرن بفعل غير ممتد يراد به مطلق الوقت في متعارف أهل اللسان. قال الله عز وجل.: {وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ} الآية ومن ولى دبره بالليل يلحقه الوعيد كما لو ولى بالنهار فإن نوى به الليل خاصة دين في القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه. وروي عن أبي يوسف أنه لا يدين لأن اللفظ جعل عبارة عن مطلق الوقت في عرف الاستعمال فلا يصدق في الصرف عنه, وإن قال ليلة أكلم فلانا أو ليلة يقدم فلان فأنت طالق فكلمه نهارا أو قدم نهارا لا تطلق لأن الليلة في اللغة اسم لسواد الليل, يقال لليلة المظلمة: ليلة ليلاء وليل أليل, ولا عرف ههنا يصرف اللفظ عن مقتضاه لغة حتى لو ذكر الليالي حملت على الوقت المطلق لأنهم تعارفوا استعمالها في الوقت المطلق, معروف ذلك في أشعارهم كما قالوا ليالي لاقتنا جذام وحمير ولو قال لامرأته يوم يقدم فلان فأمرك بيدك فقدم فلان ليلا لا يكون لها من الأمر شيء لأن ذكر اليوم في حال الأمر ذكر يراد به الوقت المعين, لأن ذكر الأمر يقتضي الوقت لا محالة وهو المجلس, لأن الصحابة رضي الله عنهم جعلوا للمخيرة الخيار ما دامت في مجلسها, فقد وقتوا للأمر وقتا, فإذا كان كذلك استغني عن الوقت فيقع ذكر اليوم على بياض النهار, فإذا قدم نهارا صار الأمر بيدها علمت أو لم تعلم, ويبطل بمضي الوقت لأن هذا أمر موقت فيبطل بمضي الوقت, والعلم ليس بشرط؛ كما إذا قال أمرك بيدك اليوم فمضى اليوم أنه يخرج الأمر من يدها. "وأما" في الأمر المطلق فيقتصر على مجلس علمها, ولو قال ليلة يقدم فلان فأمرك بيدك فقدم نهارا لم يثبت لها ذلك الأمر لما ذكرنا أن الليلة عبارة عن سواد الليل. وذكر في الجامع: إذا قال: والله لا أكلمك الجمعة فله أن يكلمه في غير يوم الجمعة لأن الجمعة اسم ليوم مخصوص كما لو قال لا أكلمك يوم الجمعة, وكذلك لو قال: جمعا له أن يكلمه في غير يوم الجمعة لأن الجمع جمع وهي يوم الجمعة فلا يتناول غيره بخلاف ما إذا قال لا أكلمه أياما أنه يدخل فيه الليالي لأنا إنما عرفنا ذلك بعرف الاستعمال. قال الله تعالى في قصة زكريا عليه الصلاة والسلام: {ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً} وقال تعالى في موضع آخر: {ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً} والقصة واحدة ومثل هذا الاستعمال لم يوجد في مثل قوله جمعا, ثم إذا قال: والله لا أكلمك جمعا فهو على ثلاث جمع لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة عندنا فيحمل عليه لكونه متيقنا, وإذا قال: الجمع فهو على عشر جمع في قول أبي حنيفة, وكذلك الأيام والأزمنة والأحايين والشهور والسنون أن ذلك يقع على عشرة أيام وعشرة أحايين أو أزمنة وعشرة أشهر وعشرة سنين. وقال أبو يوسف ومحمد في الجمع والسنين إنه يقع على الأبد. وكذا في الأحايين والأزمنة وفي الأيام على سبعة, وفي الشهور على اثني عشر, والأصل عندهما فيما دخل عليه حرف التعريف وهو اللام من أسماء الجمع أن ينظر إن كان هناك معهود ينصرف إليه كالسبعة في الأيام والاثني عشر في الشهور, وإن لم يكن هناك معهود ينصرف إلى جميع الجنس فيستغرق العمر كالسنين والأحايين والأزمنة, والأصل عند أبي حنيفة أنه ينصرف ذلك إلى أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد وذلك عشرة "وجه" قولهما أن اللفظ المعرف إذا لم يصرف إلى الجنس فإما أن يصرف إلى المعهود "وأما" أن يصرف إلى بعض الجنس, والصرف إلى المعهود أولى لأنه لا يحتاج فيه إلى الإدراج وفي الصرف إلى البعض يحتاج إلى إدراج لفظة البعض فكان الصرف إلى المعهود أولى, والمعهود في الأيام السبعة التي يتركب منها الأسبوع وهي من السبت إلى الجمعة, وفي الشهور الاثني عشر التي تركب منها السنة, وإذا لم يكن هناك معهود فالصرف إلى الجنس أولى فيصرف إليه ولأبي حنيفة: استعمال أرباب أهل اللغة وأهل اللسان في الجموع فإن أقصى ما يطلق عليه لفظ الجمع عند اقترانه بالعدد هو العشرة, ويقال: ثلاثة رجال وأربعة رجال وعشرة رجال, ثم إذا جاوز العشرة يقال: أحد عشر رجلا وعشرون رجلا ومائة رجل وألف رجل ولأن لفظ الجمع يطلق على كل قدر من هذه الأقدار التي ذكرنا إلى العشرة في حالة الإبهام والتعيين جميعا, ويطلق على ما وراءها من الأقدار في حالة الإبهام ولا يطلق في حالة التعيين, والاسم متى كان ثابتا لشيء في حالين كان أثبت مما هو اسم له في حال دون حال بل يكون نازلا من الأول منزلة المجاز من الحقيقة فكان الصرف إلى ما هو اسم له في

 

ج / 3 ص -52-         الحالين أولى فلهذا اقتصر على العشرة, ولو حلف لا يكلمه أياما فقد ذكر في الأصل أنه على عشرة أيام في قول أبي حنيفة, وسواء بينه وبين الإمام. وذكر في الجامع أنه على ثلاثة أيام ولم يذكر فيها الخلاف وهو الصحيح لأنه ذكر لفظ الجمع منكرا فيقع على أدنى الجمع الصحيح, وهو ثلاثة عندنا, ولو قال لا أكلمك سنين فهو على ثلاث سنين في قولهم جميعا لما ذكرنا في الأيام, ولو حلف لا يكلمه العمر فهو على جميع العمر إذا لم تكن له نية, ولو قال عمرا فعن أبي يوسف روايتان: في رواية يقع على يوم, وفي رواية يقع على ستة أشهر كالحين, وهو الأظهر, ولو حلف لا يكلمه حقبا فهو على ثمانين سنة لأنه اسم له, ولو حلف لا يكلمه أياما كثيرة فهو على عشرة أيام في قياس قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف مثله لأنه أدخل الكثرة على اسم الجمع فصار كما لو ذكر فاللام الجنس. وذكر في الجامع الصغير أن على قول أبي يوسف ومحمد يقع على سبعة أيام, ولو قال لا أكلمك كذا وكذا يوما فهو على أحد وعشرين لأنه أقل عدد يعطف على عدد بحرف العطف, ولو قال كذا كذا يوما فهو على أحد عشر يوما, ولو حلف لا يكلمه بضعة عشر يوما فهو على ثلاثة عشر يوما لأن البضع من ثلاثة إلى تسعة فيحمل على أقلها, ولو حلف لا يكلمه إلى بعيد يقع على شهر فصاعدا, ولو حلف لا يكلمه إلى قريب ولا نية له فهو على أقل من شهر, ولو حلف لا يكلمه عاجلا ولا نية له فهو على أقل من شهر لأن الشهر في حكم الكثير لأنه يجعل أجلا في الديون فكان بعيدا وآجلا وما دونه عاجلا, ولو حلف لا يكلمه مليا يقع على شهر كالبعيد سواء إلا أن يعني به غيره. وذكر الكرخي قال والله لأهجرنك مليا فهو على شهر وأكثر, فإن نوى أقل من ذلك لم يدين في القضاء لأنه جاء في تأويل قوله,: {وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً} أي طويلا وهذا يقتضي ما زاد على شهر, ولو حلف أن لا يكلمه الشتاء فأول ذلك إذا لبس الناس الحشو والفراء وآخر ذلك إذا ألقوها على البلد الذي حلف فيه, والصيف على ضده, وهو من حين إلقاء الحشو إلى لبسه, والربيع آخر الشتاء ومستقبل الصيف إلى أن ييبس العشب, والخريف فصل بين الشتاء والصيف, والمرجع في ذلك كله إلى اللغة. وقال خلف بن أيوب: سألت محمدا عن رجل حلف لا يكلم رجلا إلى الموسم. قال: يكلمه إذا أصبح يوم النحر لأنه أول الموسم. وقال أبو يوسف يكلمه إذا زالت الشمس يوم عرفة لأنه وقت الركن الأصلي وهو الوقوف بعرفة. وقال عمر وعن محمد: غرة الشهر ورأس الشهر أول ليلة ويومها, وأول الشهر إلى ما دون النصف, وآخره إلى مضي خمسة عشر يوما, وقد روي عن أبي يوسف فيمن قال: لله علي أن أصوم أول يوم من آخر الشهر وآخر يوم من أول الشهر فعليه صوم اليوم الخامس عشر والسادس عشر لأن الخامس عشر آخر أوله والسادس عشر أول آخره, إذا قال والله لأكلمنك أحد يومين أو لأخرجن أحد يومين, أو قال: اليومين, أو قال: أحد أيامي فهذا كله على أقل من عشرة أيام, إن كلمه قبل العشرة أو خرج قبل العشرة لم يحنث, ويدخل في ذلك الليل والنهار لأن مثل هذا لا يراد به يومان بأعيانهما وإنما يذكر على طريق التقريب على طريق العشرة وما دونها في حكم الزمان الحاضر, فإن قال أحد يومي هذين فهذا على يومه ذلك والغد لأنه أشار إلى اليومين والإشارة تقع على المعين. ولو حلف لا يكلم فلانا وفلانا هذه السنة إلا يوما فإن جمع كلامهما في يوم له استثناه لا يحنث لأن اليوم الذي يكلمهما فيه مستثنى من اليمين, فإن كلم أحدهما في يوم والآخر في يوم حنث لأن المستثنى يوم يكلمهما جميعا فيه ولو يوجد فقد كلمهما في غير اليوم المستثنى فيحنث فإن كلم أحدهما ثم كلمهما جميعا في يوم لم يحنث لأن اليوم الذي كلمهما فيه مستثنى, وشرط الحنث في غيره كلامهما لا كلام أحدهما, وإن كلمهما في يوم آخر لم يحنث لأن الاستثناء وقع على يوم منكر يكلمهما فيه فكأنه قال إلا يوم أكلمهما فيه, ولو استثنى يوما معروفا فكلم أحدهما فيه والآخر في الغد لم يحنث لأن شرط الحنث في غير اليوم المستثنى كلامهما ولم يوجد فلم يوجد الشرط بل بعضه. وقال محمد إذا قال: لا أكلمهما إلا يوما لم يحنث بكلامهما في يوم واحد وإن كلمهما في يوم آخر حنث لأنه لم يستثن إلا يوما واحدا وقد وجد فصارت اليمين بعده مطلقة. وروى هشام عن محمد إذا قال لا أكلمك شهرا إلا يوما أو قال غير يوم أنه على ما نوى, وإن لم تكن له نية فله أن يتحرى أي يوم شاء لأنه استثنى يوما منكرا وكل يوم من الشهر يصلح للاستثناء, فإن قال نقصان يوم فهذا على تسعة

 

ج / 3 ص -53-         وعشرين يوما لأن نقصان الشهر يكون من آخره, والله عز وجل أعلم, ولو حلف لا يكلم فلانا أو فلانا فكلم أحدهما حنث لأن كلمة أو إذا ذكرت عقيب كلمة النفي أوجبت انتفاء كل واحد من المذكورين على الانفراد. قال الله تعالى: {وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} أي ولا كفورا, وكذلك لو قال: ولا فلانا لأن كلمة النفي إذا أعيدت تناولت كل واحد من المذكورين على حياله قال الله تعالى: {فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} ولو حلف لا يكلم فلانا وفلانا لم يحنث حتى يكلمهما لأن حرف الواو للجمع, والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع, فكأنه حلف لا يكلمهما, فقد علق الجزاء بشرطين فلا ينزل عند وجود أحدهما دون الآخر, ولو حلف لا يكلم فلانا وفلانا أو فلانا فإن كلم أحد الأولين لا يحنث ما لم يكلمهما, وإن كلم الثالث حنث لأنه جعل شرط الحنث كلام الأولين جميعا أو كلام الثالث, فأي ذلك وجد حنث, ولو قال: لا أكلم هذا أو هذا وهذا فإن كلم الأول حنث, وإن كلم أحد الآخرين لم يحنث لأنه جعل شرط الحنث كلام الأول أولا ثم الآخرين فيراعى شرطه, ولو حلف لا يكلم الناس أو لا يكلم بني آدم فكلم واحدا منهم يحنث لأنه لا يمكن حمله على الجنس والعموم لأن الحالف إنما يمنع نفسه عما في وسعه, وليس في وسعه تكليم الناس كلهم, فلم يكن ذلك مراده, وإلى هذا أشار محمد في الجامع فقال: ألا ترى أنه لا يقدر أن يكلم بني آدم كلهم, وليس ههنا معهود يصرف اللفظ إليه فتعين الصرف إلى بعض الجنس, ويضمر فيه لفظة البعض, وإن عنى به الكل لا يحنث أبدا, ويكون مصدقا فيما بينه وبين الله عز وجل وفي القضاء أيضا, لأنه نوى حقيقة كلامه وهي الجنس. وروي عن أبي يوسف أنه لا يدين في القضاء لأنه لا يراد الجنس بهذا الكلام فقد نوى خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء وعلى هذا إذا حلف لا يتزوج النساء أو لا يشتري العبيد, ولو حلف لا يبتدئ فلانا بكلامه أبدا فالتقيا فسلم كل واحد منهما على صاحبه معا لم يحنث الحالف لعدم شرط الحنث وهو ابتداؤه فلانا بالكلام لأن ذلك بتكليمه قبل تكليم صاحبه ولم يوجد, وكذلك لو قال إن كلمتك قبل أن تكلمني فإنه لما خرج كلاماهما معا فلم يكلم الحالف قبل تكليمه فلم يوجد شرط الحنث, ولو قال إن كلمتك حتى تكلمني فتكلما معا لم يحنث في قول أبي يوسف. وقال محمد يحنث. وجه قوله: إن الحالف بقوله إن كلمتك منع نفسه عن تكليمه مطلقا وجعل تكليم صاحبه إياه غاية لانحلال اليمين, فإذا كلمه قبل وجود الغاية حنث, ولأبي يوسف أن غرض الحالف من هذا الكلام أن يمنع نفسه عن تكليم المحلوف عليه قبل كلامه ولم يوجد ذلك فصار كأنه قال: إن بدأتك, وعلى هذا الخلاف إذا قال لا أكلمك إلا أن تكلمني لأن كلمة "إلا أن" إذا دخلت على ما يتوقت كانت بمعنى حتى. قال الله تعالى: {لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ} وكذلك لو حلف لا يدخل هذه الدار حتى يدخلها فلان وحلف الآخر على مثل ذلك فدخلا جميعا لم يحنث عند أبي يوسف, ويحنث عند محمد, والله عز وجل أعلم.

                                                              "فصل":
وأما الحلف على الإظهار والإفشاء والإعلان والكتمان والإسرار والإخفاء والإخبار والبشارة والقراءة ونحوها إذا حلف لا أظهر سرك لفلان أو لا أفشي, أو حلف ليكتمن سره أو ليسترنه أو ليخفينه فكلم فلانا بسره أو كتب إليه فبلغه الكتاب, أو أرسل إليه رسولا فبلغه الرسالة, أو سأله فلان عن ذلك. وقال أكان من الأمر كذا فأشار الحالف برأسه أي نعم فهو حانث لوجود شرط الحنث وهو إظهار السر إذ الإظهار إثبات الظهور وذلك لا يقف على العبارة بل يحصل بالدلالة والإشارة. ألا ترى أنه يقال ظهر لي اعتقاد فلان إذا فعل ما يدل على اعتقاده وكذا الإشارة بالرأس عقيب السؤال يثبت به ظهور المشار إليه فكان إظهارا, فإن نوى به الكلام أو الكتاب دون الإيماء دين في ذلك لأنه نوى تخصيص ما في لفظه فيدين فيما بينه وبين الله عز وجل. وكذلك لو حلف لا يعلم فلانا بمكان فلان فسأله المحلوف عليه أفلان في موضع كذا وكذا؟ فأومأ برأسه أي نعم يحنث لوجود شرط الحنث وهو الإعلام إذ هو إثبات العلم الذي يحد بأنه صفة يتجلى بها المذكور لمن قامت هي به فإن نوى به الإخبار بالكلام أو بالكتاب يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى تخصيص العموم وإنه جائز, وإن كان خلاف الظاهر فيصدق فيما بينه وبين الله

 

ج / 3 ص -54-         تعالى ولا يصدق في القضاء لمخالفته الظاهر, ولو كان مكان الإعلام إخبار بأن حلف لا يخبر فلانا بمكان فلان لا يحنث إلا بالكلام أو بالكتاب أو بالرسالة, ولو أومأ برأسه لا يحنث. وكذا لو ذهب به حتى أوقفه على رأس فلان لا يحنث لأن شرط الحنث هو الإخبار, والإشارة ليست بخبر وكذا الإيقاف على رأسه إذ الخبر من أقسام الكلام. ألا ترى أنهم قالوا أقسام الكلام أربعة: أمر ونهي وخبر واستخبار, ويحد بأنه كلام عري عن معنى التكليف والإشارة ليست بكلام فلم تكن خبرا. والإيقاف على رأسه من باب الإعلام لا من باب الخبر, وكل خبر إعلام وليس كل إعلام خبرا, والدليل عليه أن الكتاب إذا قرئ على إنسان. وقيل له أهو كما كتب فيه فأشار برأسه أي نعم لا يصير مقرا, وكل إقرار إخبار. وكذا لو حلف لا يقر لفلان بمال فقيل له ألفلان عليك ألف درهم؟ فأشار برأسه أي نعم لا يكون ذلك منه إقرارا. وكذا إذا قرأ على إنسان كتاب الأخبار فقيل له أهو كما قرأت عليك؟ فأومأ برأسه أي نعم لا يصير مقرا, وكل إقرار إخبار. وكذا إذا قرأ على إنسان كتاب الأخبار فقيل له أهو كما قرأت عليك؟ فأومأ برأسه أي نعم ليس له أن يروي عنه بحدثنا ولا بأخبرنا فدل أن الإيماء ليس بإخبار, ولو نوى بالإخبار الإظهار أو الإعلام يحنث إذا أومأ لأنه جعله مجازا عن الإظهار لمناسبة بينهما, وفيه تشديد على نفسه فيصدق, ثم في يمين الإظهار والإعلام لو أراد الحالف أن لا يحنث ويحصل العلم والظهور ينبغي أن يقال له إنا نعد عليك أمكنة أو أشياء من الأسرار فإن لم تتكلم بمكان فلان ولا سره فقل لنا ليس كما تقولون. وإن تكلمنا بسره أو بمكانه فاسكت ففعل ذلك لا يحنث لانعدام شرط الحنث وهو الإظهار والإعلام لما ذكرنا أن الإظهار هو إثبات الظهور, والإعلام هو إثبات العلم ولم يوجد, لأن الظهور والعلم حصل من غير صنعه, وهذه الحيلة منقولة عن أبي حنيفة, والقصة مشهورة, وكذلك لو حلف لا يدلهم ففعل مثل ذلك فهذا ليس بدلالة لأن الحالف حلف على فعل نفسه وهو الدلالة لا على فعلهم وهو الاستدلال, والموجود ههنا فعلهم لا فعله فلم يوجد شرط الحنث فلا يحنث, ولو أومأ إليهم برأسه أو أشار إليهم كان ذلك دلالة إلا أن يعني بالدلالة الخبر باللسان أو بالكتاب فيكون على ما عنى لأن اسم الدلالة يقع على الفعل والقول لوجود معناها فيهما, فإذا نوى به أحدهما فقد نوى تخصيص ما في لفظه فيصدق, والبشارة حكمها حكم الخبر في أنها لا تتناول إلا الكلام أو الكتاب لأنها خبر إلا أنها خبر موصوف بصفة وهو الخبر الذي يؤثر في بشرة وجه المخبر له بإظهار أثر السرور, وقد يستعمل فيما يؤثر في بشرته بإظهار أثر الحزن مجازا كما في قوله  عز وجل: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} لكن عند الإطلاق يقع على الأول, وإنما يقع على الثاني بالقرينة. وكذا الإقرار بأن حلف أن لا يقر لفلان بحقه فهو على مثل الخبر, ولا يحنث بالإشارة لأن الإقرار إخبار عن الماضي, ثم يقع الفرق بين البشارة والإعلام وبين الإخبار من حيث إن الإعلام والبشارة يشترط لثبوتها الصدق, فلا يثبتان بالكذب ولا بما علمه المخاطب قبل الإعلام والبشارة, سواء وصل ذلك بحرف الباء أو بكلمة إن حتى إنه لو قال لغيره إن أعلمتني أن فلانا قدم أو قال إن أعلمتني بقدوم فلان فأخبره كاذبا لا يحنث لأن الإعلام إثبات العلم والكذب لا يفيد العلم. وكذا لو كان المخاطب عالما بقدومه لأن إثبات الثابت محال. وكذا في البشارة لأنها اسم لخبر سار والكذب لا يسر, وإذا كان عالما بقدومه فالسرور كان حاصلا وتحصيل الحاصل مستحيل. "وأما" الخبر فإن وصله بحرف الباء بأن قال: إن أخبرتني بقدوم فلان فالجواب فيه وفي الإعلام والبشارة سواء, وإن وصله بكلمة إن بأن قال: إن أخبرتني أن فلانا قدم فأخبره كاذبا أو أخبره بعدما كان علم المخاطب بقدومه بإخبار غيره يحنث, والفرق يعرف في الجامع الكبير, ولو حلف لا يتكلم بسر فلان ولا بمكانه فكتب أو أشار لا يحنث لأن الكتابة والإشارة ليست بكلام وإنما تقوم مقامه. ألا ترى أن الله تعالى أنزل إلينا كتابا؟ ولا يقال إن الله تعالى في العرف كلمنا؟ فإن سئل عنه فقال نعم فقد تكلم؛ لأن قوله نعم لا يستقل بنفسه ويضمر فيه السؤال كما في قوله تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُوا نَعَمْ} أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقا, فقد أتي بكلام دال على المراد, ولو حلف لا يستخدم فلانة فاستخدمها بكلام أو أمرها بشيء من خدمة أو أشار إليها بالخدمة فقد استخدمها فهو حانث لأن الاستخدام طلب الخدمة وقد وجد, ولو كانت هذه

 

ج / 3 ص -55-         الأيمان كلها وهو صحيح ثم خرس فصار لا يقدر على الكلام كانت أيمانه في هذا كله على الإشارة والكتاب في جميع ما وصفنا إلا في خصلة واحدة وهي أن يحلف أن لا يتكلم بسر فلان فلا يحنث إلا بالتكلم لأن الكلام العرفي اسم لحروف منظومة تدل على معنى مفهوم وذلك لو وجد في الإشارة والخبر والإفشاء والإظهار من الأخرس إنما يكون بالإشارة فيحنث بهما وكل شيء حنث فيه من هذه الأشياء بالإشارة فقال أشرت وأنا لا أريد الذي حلفت عليه فإن كان فعل ذلك جوابا بالشيء مما سئل عنه لم يصدق في القضاء لأن الإشارة فيها احتمال فإن كان هناك دلالة حال زال الاحتمال وإن لم يكن يرجع إلى نيته. وذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد إذا قال: والله لا أقول كذا لفلان فهو عندي مثل الخبر والبشارة. ألا ترى أن رجلا لو قال: والله لا أقول لفلان صبحك الله بخير ثم أرسل إليه رسولا فقال قل لفلان يقول لك فلان صبحك الله بخير فإنه حانث. قال ألا ترى أن القائل هو المرسل وأن الرسول هو القائل ذلك لفلان؟ ولو كان هو هذا الذي حلف عليه لم يحنث. ألا ترى أن الرجل يقول: قال الله عز وجل لنا في كتابه الكريم كذا؟ ولو قال: والله لا أكلم فلانا بهذا الأمر فهذا على الكلام بعينه لا يحنث بكتاب ولا رسول. ألا ترى أنك لا تقول كلمنا الله تعالى بكذا؟ وأما الحديث فهو على المشافهة لأن ما سوى الكلام ليس بحديث. ولو قال أي عبيدي يبشرني بكذا فهو حر فبشروه جميعا عتقوا لوجود البشارة من كل واحد منهم لوجود حد البشارة وهو ما ذكرناه, ولو بشره واحد بعد واحد لم يعتق الثاني لأنه ليس بمبشر وإنما هو مخبر. ألا ترى أن خبر الثاني لا يؤثر في وجه المخبر, ولهذا قال ابن مسعود رضي الله عنه لما بلغه قول النبي صلى الله عليه وسلم "من أراد أن يقرأ القرآن غضا طريا كما أنزل فليقرأ بقراءة ابن أم عبد" وأخبره بذلك أبو بكر ثم عمر رضي الله عنهما فقال رضي الله عنه: بشرني به أبو بكر ثم أخبرني به عمر رضي الله عنهما, فإن أرسل إليه أحدهم رسولا فإن أضاف الرسول الخبر إلى المرسل فقال إن عبدك فلانا يخبرك بكذا عتق العبد لأن المرسل هو المبشر, وإن أخبر الرسول ولم يضف ذلك إلى العبد لم يعتق العبد لأن البشارة منه لا من المرسل, ولو حلف لا يكتب إلى فلان فأمر غيره فكتب فقد روى هشام عن محمد أنه قال سألني هارون الرشيد أمير المؤمنين أصلحه الله عن هذا فقلت: إن كان سلطانا يأمر بالكتاب ولا يكاد هو يكتب فإنه يحنث لأنه إذا كان لا يباشر الكتابة بنفسه عادة بل يستكتب غيره فيمينه تقع على العادة وهو الأمر بالكتابة. قال هشام: قلت لمحمد فما تقول إذا حلف لا يقرأ لفلان كتابا فنظر في كتابه حتى أتى آخره وفهمه ولم ينطق به؟ قال: سأل هارون أبا يوسف عن ذلك وقد كان ابتلي بشيء منه فقال لا يحنث, ولا أرى أنا ذلك, وقد روى خلف بن أيوب وداود بن رشيد وابن رستم أيضا عن محمد أنه يحنث, فأبو يوسف اعتبر الحقيقة لأنه لم يقرأه حقيقة إذ القراءة لا تكون إلا بتحريك اللسان بالحروف ولم يوجد. ألا ترى أن المصلي القادر على القراءة إذا لم يحرك لسانه بالحروف لا تجوز صلاته. وكذا لو حلف لا يقرأ سورة من القرآن فنظر فيها وفهمها ولم يحرك لسانه لم يحنث, ومحمد اعتبر العرف والعادة, ومعاني كلام الناس وهم إنما يريدون بمثل هذه اليمين الامتناع عن الوقوف على ما في الكتاب وقد وقف على ما فيه فيحنث. قال هشام عن محمد: إذا قرأ الكتاب إلا سطرا قال كأنه قرأه, قلت: فإن قرأ نصفه قال لا يعني لم يقرأه. قال محمد: إذا قرأ بعضه فإن أتى على المعاني التي يحتاج إليها فكأنه قد قرأه لأن تلك المعاني هي المقصودة بالكتاب, ولو حلف لا يقرأ سورة فترك منها حرفا حنث, وإن ترك آية طويلة لم يحنث لأنه يسمى قارئا للسورة مع ترك حرف منها ولا يسمى مع ترك ما هو في حكم الآية الطويلة. وروى ابن رستم عن محمد أنه قال: لا أبلغك مثل لا أخبرك, وكذلك أذكرك بشيء أو لا أذكرك شيئا, فإنه يحنث بالكتاب. فأما الذكر والإخبار والإعلام والإبلاغ على الكتاب والقول والكلام على الكتاب أيضا قال عمر وسألت محمدا عن رجل حلف لا يتمثل بشعر فتمثل بنصف بيت قال: لا يحنث. قال: قلت: فإن كان نصف البيت من شعر آخر؟ قال لا أدري ما هذا لا يحنث لأن الشعر ما ظهر فيه النظم وذلك لا يكون إلا في بيت. قال: وسألت محمدا عن رجل فارسي حلف أن يقرأ "الحمد" بالعربية فقرأها فلحن قال لا يحنث, وإن حلف رجل فصيح أن يقرأ "الحمد" بالعربية فقرأها فلحن

 

ج / 3 ص -56-         حنث إذا لم يكن لأحدهما نية لأن العربي إنما أراد بيمينه أن يقرأ بموضوع العرب وذلك المعرب دون الملحون. فأما العجمي فإنما يريد اللغة العربية دون العجمية والملحون يعد من العربية والله عز وجل أعلم.

                                                          "فصل":
وأما الحلف على الأكل والشرب والذوق والغداء والعشاء والسحور والضحوة والتصبح فلا بد من بيان معاني هذه الأشياء, فالأكل هو إيصال ما يحتمله المضغ بفيه إلى الجوف مضغ أو لم يمضغ كالخبز واللحم والفاكهة ونحوها, والشرب إيصال ما لا يحتمل المضغ من المائعات إلى الجوف مثل الماء والنبيذ واللبن والعسل والممخوض والسويق الممخوض وغير ذلك, فإن وجد ذلك يحنث وإلا فلا يحنث إلا إذا كان يسمى ذلك أكلا أو شربا في العرف والعادة فيحنث إذا عرف هذا فنقول إذا حلف لا يأكل كذا ولا يشربه فأدخله في فيه ومضغه ثم ألقاه لم يحنث حتى يدخله في جوفه لأنه بدون ذلك لا يكون أكلا وشربا بل يكون ذوقا لما نذكر معنى الذوق إن شاء الله تعالى في موضعه, قال هشام سألت محمدا عن رجل حلف لا يأكل هذه البيضة أو لا يأكل هذه الجوزة فابتلعها قال قد حنث لوجود حد الأكل وهو ما ذكرنا, ولو حلف لا يأكل عنبا أو رمانا فجعل يمضغه ويرمي بثفله ويبلع ماءه لم يحنث في الأكل ولا في الشرب لأن ذلك ليس بأكل ولا شرب بل هو مص. وإن عصر ماء العنب فلم يشربه به وأكل قشره وحصرمه فإنه يحنث لأن الذاهب ليس إلا الماء وذهاب الماء لا يخرجه من أن يكون أكلا له. ألا ترى أنه إذا مضغه وابتلع الماء أنه لا يكون أكلا بابتلاع الماء بل بابتلاع الحصرم فدل أن أكل العنب هو أكل القشر والحصرم منه وقد وجد فيحنث. وقال هشام عن محمد في رجل حلف لا يأكل سكرا فأخذ سكرة فجعلها في فيه فجعل يبلع ماءها حتى ذابت قال لم يأكل لأنه حين أوصلها إلى فيه وصلت وهي لا تحتمل المضغ. وكذا روي عن أبي يوسف فيمن حلف لا يأكل رمانا فمص رمانة أنه لا يحنث. ولو حلف لا يأكل هذا اللبن فأكله بخبز أو تمر أو حلف لا يأكل هذا الخل فأكله بخبز يحنث لأن أكل اللبن هكذا يكون وكذلك الخل لأنه من جملة الإدام فيكون أكله بالخبز كاللبن, فإن أكل ذلك بانفراده لا يحنث لأن ذلك شرب وليس بأكل, فإن صب على ذلك الماء ثم شربه لم يحنث في قوله لا آكل لعدم الأكل, ويحنث في قوله لا أشرب لوجود الشرب, وكذلك إن حلف لا يأكل هذا الخبز فجففه ثم دقه وصب عليه الماء فشربه لا يحنث لأن هذا شرب لا أكل, فإن أكله مبلولا أو غير مبلول يحنث لأن الخبز هكذا يؤكل عادة, وكذلك السويق إذا شربه بالماء فهو شارب وليس بآكل. ولو حلف لا يأكل طعاما فإن ذلك يقع على الخبز واللحم والفاكهة سوى التمر ونحو ذلك, ويقع على ما يؤكل على سبيل الإدام مع الخبز لأن الطعام في اللغة اسم لما يطعم إلا أنه في العرف اختص بما يؤكل بنفسه أو مع غيره عادة ولا يقع على الهليلج والسقمونيا وإن كان ذلك مطعوما في نفسه لأنه لا يؤكل عادة, وإن حلف لا يأكل من طعام فلان فأخذ من خله أو زيته أو كامخه أو ملحه فأكل بطعام نفسه يحنث لأن العادة قد جرت بأكل هذه الأشياء مع الخبز إداما له. قال النبي صلى الله عليه وسلم:
"نعم الإدام الخل" فكان طعاما عرفا فيحنث, فإن أخذ من نبيذ فلان أو مائه فأكل به خبزا لا يحنث لأنه لا يؤكل مع الخبز عادة فلا يسمى طعاما. وكذا قال أبو يوسف: الخل طعام والنبيذ والماء شراب. وقال محمد: الخل والملح طعام لما ذكرنا أن الخل والملح مما يؤكل مع غيره عادة, والنبيذ والماء لا يؤكل عادة. ولو حلف لا يشتري طعاما فإنه يقع على الحنطة ودقيقها, وكان ينبغي في القياس أن يقع على جميع المطعومات كما في اليمين على الأكل إلا أن في الاستحسان يقع على الحنطة ودقيقها لأن البيع لا يتم بنفسه بل بالبائع, وبائع الحنطة يسمى بائع الطعام في العرف, والأكل يتم بنفسه فيعتبر نفس الأكل دون غيره وصار هذا كمن حلف لا يشتري حديدا فاشترى سيفا لم يحنث لأن بائعه لا يسمى حدادا, ولو حلف لا يمس حديدا فمس سيفا يحنث لأن المس فعل يتم بنفسه وعلى هذا باب الزيادات. وروي عن أبي يوسف فيمن حلف لا يأكل طعاما فاضطر إلى ميتة فأكل منها لم يحنث. وقال الكرخي: وهو إحدى الروايتين عن محمد. وروى ابن رستم عن محمد أنه يحنث. وجه هذه الرواية أن الميتة في حال المخمصة طعام مباح في حق المضطر بمنزلة الطعام المباح في غير هذه الحالة فوجد شرط الحنث فيحنث. وجه قول أبي يوسف وإحدى

 

ج / 3 ص -57-         الروايتين عن محمد أن إطلاق اسم الطعام لا يتناوله لأنه لا يسمى طعاما عرفا وعادة لأنه لا يؤكل عادة, ومبنى الأيمان على معاني كلام الناس. وروي عن أبي يوسف في رجل حلف لا يأكل حراما فاضطر إلى ميتة فأكلها قال لا يحنث. وروي عنه أنه حانث في يمينه وإثمه موضوع. وجه هذه الرواية أن الميتة محرمة, والرخصة أثرها في تغيير الحكم وهو المؤاخذة لا في تغيير وصف الفعل وهو الحرمة كالمكره على أكل مال الغير. وجه الرواية الأولى وهي الصحيحة أن الميتة حال المخمصة مباحة مطلقا لا حظر فيها بوجه في حق المضطر, وأثر الرخصة في تغيير الحكم والوصف جميعا بدليل أنه لو امتنع حتى مات يؤاخذ به ولو بقيت الحرمة لم تثبت المؤاخذة كما لو امتنع من تناول مال الغير حالة المخمصة أو الإكراه. وقال خلف بن أيوب: سألت أسد بن عمر رضي الله عنهما في رجل حلف لا يأكل حراما فأكل لحم قرد أو كلب أو حدأة أو غراب قال لا يحنث إلا أن يعني ذلك فيحنث لأن مطلق الحرام هو ما تثبت حرمته بدليل مقطوع به وحرمة هذه الأشياء محل الاجتهاد. وقال خلف بن أيوب: سألت الحسن فقال: هذا كله حرام لقيام دليل الحرمة فيها, وإن لم يكن مقطوعا به. وروى المعلى عن أبي يوسف ومحمد فيمن حلف لا يركب حراما قال هذا على الزنا لأن الحرام المطلق ينصرف إلى الحرام لعينه وهو الزنا, ولأنه يراد به الزنا في العرف فينصرف إليه. وقال محمد فإن كان الحالف خصيا أو مجبوبا فهو على القبلة الحرام وما أشبهها. ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن حلف لا يطأ امرأة وطئا حراما فوطئ امرأته وقد ظاهر منها أو وهي حائض قال لا يحنث إلا أن ينوي ذلك لأن الحرمة تثبت بعارض الحيض والظهار ومطلق التحريم لا يقع على التحريم العارض. ابن رستم عن محمد فيمن حلف لا يأكل حراما فاشترى بدرهم غصبه من إنسان طعاما فأكله لم يحنث لأن مطلق اسم الحرام إنما يقع على ما كانت حرمته لحق الله تعالى وحرمة هذا لحق العبد, ولو غصب خبزا أو لحما فأكله يحنث بعرف الناس. ولو حلف لا يأكل من طعام اشتراه فلان فأكل من طعام اشتراه مع آخر حنث إلا أن يكون نوى شراءه وحده, وكذلك لو حلف لا يأكل من طعام ملكه فلان لأن بعض الطعام طعام حقيقة ويسمى طعاما عرفا أيضا بخلاف ما إذا حلف لا يدخل دار فلان فدخل دارا بينه وبين آخر أنه لا يحنث لأن بعض الدار لا يسمى دارا, وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا يملكه فلان أو يشتريه فلان فلبس ثوبا اشتراه فلان مع آخر لا يحنث لأن بعض الثوب لا يسمى ثوبا. ولو حلف لا يأكل إداما فالإدام كل ما يضطبع به مع الخبز عادة كاللبن والزيت والمرق والخل والعسل ونحو ذلك وما لا يضطبع به فليس بإدام مثل اللحم والشوى والجبن والبيض, وهذا قول أبي حنيفة وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وقال محمد وهو أحد الروايتين عن أبي يوسف إن كل ما يؤكل بالخبز فهو إدام مثل اللحم والشوى والبيض والجبن. وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أن الجوز اليابس إدام, واحتج محمد بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "سيد إدام أهل الجنة اللحم وسيد رياحين أهل الجنة الفاغية وهي ورد الحناء" وهذا نص ولأن الإدام من الائتدام وهو الموافقة. قال النبي صلى الله عليه وسلم لمغيرة حين أراد أن يتزوج امرأة: "لو نظرت إليها لكان أحرى أن يؤدم بينكما" أي يكون بينكما الموافقة, ومعنى الموافقة بين الخبز وبين هذه الأشياء في الأكل ظاهر فكانت إداما, ولأن الناس يأتدمون بها عرفا وعادة, ولأبي حنيفة أن معنى الإدام وهو الموافقة على الإطلاق, والكمال لا يتحقق إلا فيما لا يؤكل بنفسه مقصودا بل يؤكل تبعا لغيره عادة. "وأما" ما يؤكل بنفسه مقصودا فلا يتحقق فيه معنى الموافقة, وما لا يضطبع يؤكل بنفسه فيختل معنى الإدام فيه, واللحم ونحوه مما يؤكل بنفسه عادة مع أن من سكان البراري من لا يتغذى إلا باللحم وبه تبين أن إطلاق اسم الإدام عليه في الحديث على طريق المجاز. والبطيخ ليس بإدام في قولهم جميعا لأنه لا يحتمل الاضطباع به ولا يؤكل بالخبز عادة. وكذا البقل ليس بإدام في قولهم. ألا ترى أن آكله لا يسمى مؤتدما؟ وسئل محمد عن رجل حلف لا يأكل خبزا مأدوما؟ فقال الخبز المأدوم الذي يثرد ثردا يعني في المرق والخل وما أشبهه, فقيل له: فإن ثرده في ماء أو ملح فلم ير ذلك مأدوما لأن من أكل خبزا بماء لا يسمى مؤتدما في العرف. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف: إن تسمية هذه الأشياء على ما يعرف أهل تلك البلاد في كلامهم. ولو حلف لا يأكل

 

ج / 3 ص -58-         خبزا ولا نية له فهو على خبز الحنطة والشعير إلا إن كان الحالف في بلد لا يؤكل فيها إلا خبز الحنطة فإن يمينه تقع على خبز الحنطة لا غير, وإن أكل من خبز لوزينج وأشباه ذلك لا يحنث إلا أن يكون نواه, وإن أكل من خبز الذرة والأرز فإن كان من أهل بلاد ذلك طعامهم حنث, وإن كان من أهل الكوفة ونحوها ممن لا يأكل ذلك عامتهم لا يحنث إلا أن ينوي ذلك لأن اسم الخبز يقع على خبز الحنطة والشعير ولا يراد به خبز القطائف عند الإطلاق فلا يحمل عليه. وكذا خبز الأرز في البلاد التي لا يعتاد أكله فيها. ولو حلف لا يأكل لحما فأي لحم أكل من سائر الحيوان غير السمك يحنث, ثم يستوى فيه المحرم وغير المحرم والمطبوخ والمشوي والضعيف لأن اللحم اسم لأجزاء الحيوان الذي يعيش في البر فيحنث إذا أكل لحم ميتة أو خنزير أو إنسان أو لحم شاة ترك ذابحها التسمية على ذبحها عمدا أو أكل ذبيحة مجوسي أو مرتد أو لحم صيد ذبحه المحرم. ويستوي فيه لحم الغنم والبقر والإبل لأن اسم اللحم يتناول الكل, وإن أكل سمكا لا يحنث وإن سماه الله عز وجل لحما في القرآن العظيم بقوله تعالى: {لَحْماً طَرِيّاً} لأنه لا يراد به عند الإطلاق اسم اللحم, فإن الرجل يقول ما أكلت اللحم كذا وكذا يوما, وإن كان قد أكل سمكا. ألا ترى أن من حلف لا يركب دابة فركب كافرا لا يحنث وإن سماه الله عز وجل دابة بقوله  عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} وكذا لو حلف لا يخرب بيتا فخرب بيت العنكبوت لم يحنث وإن سماه الله سبحانه وتعالى بيتا في كتابه العزيز بقوله: {وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} وكذا كل شيء يسكن الماء فهو مثل السمك. ولو أكل أحشاء البطن مثل الكرش والكبد والفؤاد والكلى والرئة والأمعاء والطحال ذكر الكرخي أنه يحنث في هذا كله إلا في شحم البطن, وهذا الجواب على عادة أهل الكوفة في زمن أبي حنيفة وفي الموضع الذي يباع مع اللحم. "وأما" في البلاد التي لا يباع مع اللحم أيضا فلا يحنث به. فأما شحم البطن فليس بلحم ولا يتخذ منه ما يتخذ من اللحم ولا يباع مع اللحم أيضا, فإن نواه يحنث لأنه شدد على نفسه وكذلك الألية لا يحنث بأكلها لأنها ليست بلحم, فإن أكل شحم الظهر أو ما هو على اللحم حنث لأنه لحم لكنه لحم سمين. ألا ترى أنه يقال لحم سمين؟ وكذا يتخذ منه ما يتخذ من اللحم, وكذلك لو أكل رءوس الحيوانات ما خلا السمك يحنث لأن الرأس عضو من أعضاء الحيوان فكان لحمه كلحم سائر الأعضاء بخلاف ما إذا حلف لا يشتري لحما فاشترى رأسا أنه لا يحنث لأن مشتريه لا يسمى مشتري لحم وإنما يقال اشترى رأسا. ولو حلف لا يأكل شحما فاشترى شحم الظهر لم يحنث في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يحنث. وذكر في الجامع الصغير في رجل حلف لا يشتري شحما فأي شحم اشترى لم يحنث إلا أن يشتري شحم البطن. وكذا لو حلف لا يأكل شحما, ولهما قوله تعالى: {وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا} والمستثنى من جنس المستثنى منه فدل أن شحم الظهر شحم حقيقة ولأبي حنيفة أنه لا يسمى شحما عرفا وعادة بل يسمى لحما سمينا فلا يتناوله اسم الشحم عند الإطلاق, وتسمية الله تعالى إياه شحما لا يدل على دخوله تحت اليمين إذا لم يكن الاسم متعارفا لأن مطلق كلام الناس ينصرف إلى ما يتعارفونه كما ضربنا من الأمثلة في لحم السمك. وقال الله تعالى: {وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً} وقال  سبحانه وتعالى: {الْأَرْضَ بِسَاطاً} ثم لا يدخلان في اليمين على البساط والسراج كذا هذا, وقد قالوا فيمن حلف لا يشتري شحما ولا لحما فاشترى ألية أنه لا يحنث لأنها ليست بشحم ولا لحم. وقال عمرو عن محمد فيمن أمر رجلا أن يشتري له شحما فاشترى شحم الظهر أنه لا يجوز على الأمر, وهذا يدل على أن إطلاق اسم الشحم لا يتناول شحم الظهر كما قاله أبو حنيفة فيكون حجة على محمد. ولو حلف لا يأكل له لحم دجاج فأكل لحم ديك حنث لأن الدجاج اسم للأنثى والذكر جميعا. قال جرير:
لما مررت بدير الهند أرقني
صوت الدجاج وضرب بالنواقيس.
فأما الدجاجة فإنها اسم للأنثى, والديك اسم للذكر, واسم الإبل يقع على الذكور والإناث. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "في خمس من الإبل السائمة شاة" ولم يرد به أحد النوعين خاصة. وكذا اسم الجمل والبعير والجزور. وكذا هذه الأسامي الأربعة تقع على البخاتي والعراب وغير ذلك من أنواع الإبل واسم البختي لا يقع على العربي وكذا اسم العربي لا يقع

 

ج / 3 ص -59-         على البختي, واسم البقر يقع على الذكور والإناث. قال النبي صلى الله عليه وسلم "في ثلاثين من البقر تبيع أو تبيعة" وأراد به الذكور والإناث جميعا. وكذا اسم البقرة قال الله عز وجل: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً} وقيل إن بقرة بني إسرائيل كانت ذكرا وتأنيثها بالذكر بقوله تعالى: {قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ} لتأنيث اللفظ دون المعنى كما في قوله تعالى: {وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ} وقال سبحانه وتعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيهَا نَذِيرٌ} والشاة تقع على الذكر والأنثى قال النبي: "في أربعين شاة" والمراد منه الذكور والإناث. وكذا الغنم اسم جنس, والنعجة اسم للأنثى, والكبش للذكر, والفرس اسم للعراب ذكرها وأنثاها, والبرذون اسم لغير العراب من الطحارية ذكرها وأنثاها, وقالوا إن البرذون اسم للتركي ذكره وأنثاه والخيل اسم جنس يتناول الأفراس العراب والبراذين, والحمار اسم للذكر والحمارة والأتان اسم للأنثى, والبغل والبغلة كل واحد منهما اسم للذكر والأنثى. وإن حلف لا يأكل رأسا فإن نوى الرءوس كلها من السمك والغنم وغيرها فأي ذلك أكل حنث لأن اسم الرأس يقع على الكل, وإن لم يكن له نية فهو على رءوس الغنم والبقر خاصة في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد اليمين اليوم على رءوس الغنم خاصة, والأصل في هذا أن قوله لا آكل رأسا فبظاهره يتناول كل رأس لكنه معلوم أن العموم غير مراد لأن اسم الرأس يقع على رأس العصفور ورأس الجراد ويعلم أن الحالف ما أراد ذلك فكان ذلك المراد بعض ما يتناوله الاسم وهو الذي يكبس في التنور ويباع في السوق عادة, فكأن أبا حنيفة رأى أهل الكوفة يكبسون رءوس الغنم والبقر والإبل ويبيعونها في السوق فحمل اليمين على ذلك ثم رآهم تركوا رءوس الإبل واقتصروا على رءوس الغنم والبقر فحمل اليمين على ذلك, وأبو يوسف ومحمد دخلا بغداد وقد ترك الناس البقر واقتصروا على الغنم فحملا اليمين على ذلك فلم يكن بينهم خلاف في الحقيقة.
ولو حلف لا يأكل بيضا فإن نوى بيض كل شيء بيض السمك وغيره فأي ذلك أكل حنث وإن لم يكن له نية فهو على بيض الطير كله الإوز والدجاج وغيرهما ولا يحنث إذا أكل بيض السمك لأن اسم البيض يقع على الكل فإذا نوى فقد نوى ما يحتمله الاسم وإذا لم تكن له نية فيقع على ما له قشر وهو بيض الطير لأنه يراد به ذلك عند الإطلاق فيحمل عليه. ولو حلف لا يأكل طبيخا فالقياس ينصرف إلى كل ما يطبخ من اللحم وغيره لأنه طبيخ حقيقة إلا أنه صرف إلى اللحم خاصة وهو اللحم الذي يجعل في الماء ويطبخ ليسهل أكله للعرف ألا ترى أنه لا يقال لمن أكل الباقلاء إنه أكل الطبيخ وإن كان طبيخا حقيقة وإن أكل سمكا مطبوخا لا يحنث لأنه لا يسمى طبيخا في العرف فإن نوى بقوله لا يأكل طبيخا من اللحم وغيره فهو على ما نوى لأنه طبيخ حقيقة وفيه تشديد على نفسه وكذا إذا حلف لا يأكل شواء وهو ينوي كل شيء يشوى فأي ذلك أكل الحنث وإن لم يكن له نية فإنما يقع على اللحم خاصة لأن حقيقة الشواء هي ما يشوى بالنار ليسهل أكله إلا أن عند الإطلاق ينصرف إلى اللحم المشوي دون غيره للعرف ألا ترى أنه يصح أن يقال فلان لم يأكل الشواء وإن أكل الباذنجان المشوي والجزر المشوي ويسمى بائع اللحم المشوي شاويا فإن أكل سمكا مشويا لم يحنث لأنه لا يراد به ذلك عند الإطلاق وإن أكل قلية يابسة أو لونا من الألوان لا مرق فيه لا يحنث لأن هذا لا يسمى طبيخا وإنما يقال له لحم مقلي ولا يقال مطبوخ إلا للحم طبخ في الماء فإن طبخ من اللحم طبيخا له مرق فأكل من لحمه أو من مرقه يحنث لأنه يقال أكل الطبيخ وإن لم يأكل لحمه لأن المرق فيه أجزاء اللحم. قال ابن سماعة في اليمين على الطبيخ ينبغي أن يكون على الشحم أيضا لأنه قد يسمى طبيخا في العادة فإن طبخ عدسا بودك فهو طبيخ وكذلك إن طبخه بشحم أو ألية فإن طبخه بسمن أو زيت لم يكن طبيخا ولا يكون الأرز طبيخا ولا يكون الطباهج طبيخا ولا الجواذب طبيخا والاعتماد فيه على العرف. وقال داود بن رشيد عن محمد في رجل حلف لا يأكل من طبيخ امرأته فسخنت له قدرا قد طبخها غيرها أنه لا يحنث لأن الطبيخ فعيل من طبخ وهو الفعل الذي يسهل به أكل اللحم وذلك وجد من الأول منها.
ولو حلف لا يأكل الحلو فالأصل في هذا أن الحلو عندهم كل حلو ليس من جنسه حامض وما كان من جنسه حامض فليس بحلو والمرجع فيه إلى

 

ج / 3 ص -60-         العرف فيحنث بأكل الخبيص والعسل والسكر والناطف والرب والرطب والتمر وأشباه ذلك. وكذا روى المعلى عن محمد إذا أكل تينا رطبا أو يابسا يحنث لأنه ليس من جنسها حامض فخلص معنى الحلاوة فيه ولو أكل عنبا حلوا أو بطيخا حلوا أو رمانا حلوا أو إجاصا حلوا لو يحنث لأن من جنسه ما ليس بحلو فلم يخلص معنى الحلاوة فيه وكذا الزبيب ليس من الحلو لأن من جنسه ما هو حامض وكذلك إذا حلف لا يأكل حلاوة فهو مثل الحلوى. وإن حلف لا يأكل تمرا ولا نية له فأكل قضبا لا يحنث وكذلك إذا أكل بسرا مطبوخا أو رطبا لأن ذلك لا يسمى تمرا في العرف ولهذا يختص كل واحد باسم على حدة إلا أن ينوي ذلك لأنه تمر حقيقة وقد شدد على نفسه ولو أكل حيسا حنث لأنه اسم لتمر ينقع في اللبن ويتشرب فيه اللبن فكان الاسم باقيا له لبقاء عينه. وقيل هو طعام يتخذ من تمر ويضم إليه شيء من السمن أو غيره والغالب هو التمر فكأن أجزاء التمر بحالها فيبقى الاسم. ولو حلف لا يأكل بسرا فأكل بسرا مذنبا. ههنا أربع مسائل ثنتان متفق عليهما وثنتان مختلف فيهما أما الأوليان فإن من يحلف لا يأكل بسرا مذنبا أو حلف لا يأكل رطبا فأكل رطبا فيه شيء من البسر يحنث فيهما جميعا في قولهم لأن المذنب هو البسر الذي ذنب أي رطب ذنبه فكانت الغلبة للذي حلف عليه فكان الاسم باقيا "وأما" الأخريان فإن من يحلف لا يأكل رطبا فيأكل بسرا مذنبا أو يحلف لا يأكل بسرا فيأكل رطبا فيه شيء من البسر قال أبو حنيفة ومحمد يحنث. وقال أبو يوسف لا يحنث وجه قوله: إن الاسم للغالب في العرف والمغلوب في حكم المستهلك وكذا المقصود في الأكل هو الذي له الغلبة والغلبة للبسر في الأول وفي الثاني للرطب فلا يحنث ولهما أنه أكل ما حلف عليه وغيره لأنه يراه بعينه ويسميه باسمه فصار كما لو ميز أحدهما عن الآخر فقطعه وأكلهما جميعا "وأما" قوله إن أحدهما غالب فنعم لكن الغلبة إنما توجب استهلاك المغلوب في اختلاط الممازجة أما في اختلاط المجاورة فلا لأنه يراه بعينه فلا يصير مستهلكا فيه كما إذا حلف لا يأكل سويقا أو سمنا فأكل سويقا قد لت بسمن بحيث يستبين أجزاء السويق في السمن يحنث لقيام كل واحد منهما بعد الاختلاط بعينه كذا هذا. ولو حلف لا يأكل حبا فأي حب أكل من سمسم أو غيره مما يأكله الناس عادة يحنث لأن مطلق يمينه يقع عليه فإن عنى شيئا من ذلك بعينه أو سماه حنث فيه ولم يحنث في غيره لأنه نوى تخصيص الملفوظ فيصدق ديانة لا قضاء لأنه خلاف الظاهر ولا يحنث إذا ابتلع لؤلؤة لأن الأوهام لا تنصرف. إلى اللؤلؤة عند إطلاق اسم الحب, ولو حلف لا يأكل عنبا فأكل زبيبا لا يحنث لأن اسم العنب لا يتناوله ولو حلف لا يأكل جوزا فأكل منه رطبا أو يابسا حنث وكذلك اللوز والفستق والتين وأشباه ذلك لأن الاسم يتناول الرطب واليابس جميعا. ولو حلف لا يأكل فاكهة فأكل تفاحا أو سفرجلا أو كمثرى أو خوخا أو تينا أو إجاصا أو مشمشا أو بطيخا حنث وإن أكل قثاء أو خيارا أو جزرا لا يحنث وإن أكل عنبا أو رمانا أو رطبا لا يحنث في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد يحنث ولو أكل زبيبا أو حب الرمان أو تمرا لا يحنث بالإجماع وجه قولهما أن كل واحدة من هذه الأشياء تسمى فاكهة في العرف بل تعد من رءوس الفواكه ولأن الفاكهة اسم لما يتفكه به وتفكه الناس بهذه الأشياء ظاهر فكانت فواكه ولأبي حنيفة قوله تعالى: {فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبّاً وَعِنَباً وَقَضْباً وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً وَحَدَائِقَ غُلْباً وَفَاكِهَةً وَأَبّاً} عطف الفاكهة على العنب وقوله عز وجل: {فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ} عطف الرمان على الفاكهة والمعطوف غير المعطوف عليه هو الأصل لأن الفاكهة اسم لما يقصد بأكله التفكه وهو التنعم والتلذذ دون الشبع والطعام ما يقصد بأكله التغذي والشبع والتمر عندهم يؤكل بطريق التغذي والشبع. حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بيت لا تمر فيه جياع أهله". وقال عليه أفضل الصلاة والسلام يوم الفطر: "أغنوهم عن المسألة في مثل هذا اليوم" ثم ذكر في جملة ما تقع به الغنية التمر وفي بعضها الزبيب ولأن الفاكهة لا يختلف حكم رطبها ويابسها فما كان رطبه فاكهة كان يابسه فاكهة كالتين والمشمش والإجاص ونحو ذلك واليابس من هذه الأشياء ليس بفاكهة بالإجماع وهو الزبيب والتمر وحب الرمان فكذا رطبها وما ذكراه من العرف

 

ج / 3 ص -61-         ممنوع بل العرف الجاري بين الناس أنهم يقولون ليس في كرم فلان فاكهة إنما فيه العنب فحسب فالحاصل أن ثمر الشجر كلها فاكهة عندهما وعنده كذلك إلا ثمر النخل والكرم وشجر الرمان لأن سائر الثمار من التفاح والسفرجل والإجاص ونحوها يقصد بأكلها التفكه دون الشبع وكذا يابسها فاكهة كذا رطبها قال محمد التوت فاكهة لأنه يتفكه به والقثاء والخيار والجزر والباقلاء الرطب إدام وليس بفاكهة ألا ترى أنه لا يؤكل للتفكه وإن عنى بقوله لا آكل فاكهة العنب والرطب والرمان فأكل من ذلك شيئا حنث كذا ذكر في الأصل لأن هذه الأشياء مما يتفكه بها وإن كان لا يطلق عليها اسم الفاكهة. وقال محمد بسر السكر والبسر الأحمر فاكهة لأن ذلك مما يتفكه به. وقال أبو يوسف اللوز والعناب فاكهة رطب ذلك من الفاكهة الرطبة ويابسه من اليابسة لأن ذلك يؤكل على وجه التفكه قال والجوز رطبه فاكهة ويابسه إدام. وقال في الأصل وكذلك الفاكهة اليابسة فيدخل فيها الجوز واللوز وأشباههما وروى المعلى عن محمد أن الجوز اليابس ليس بفاكهة لأنه يؤكل مع الخبز غالبا. فأما رطبه فلا يؤكل إلا للتفكه وجه ما ذكر في الأصل أنه فاكهة ما ذكرنا أن رطبه ويابسه مما لا يقصد به الشبع فصار كسائر الفواكه وذكر المعلى عن محمد في رجل حلف لا يأكل من الثمار شيئا ولا نية له أن ذلك على الرطب واليابس فإن أكل تينا يابسا أو لوزا يابسا حنث فجعل الثمار كالفاكهة لأن أحد الاسمين كالآخر وقال المعلى قلت لمحمد فإن حلف لا يأكل من فاكهة العام أو من ثمار العام ولا نية له قال إن حلف في أيام الفاكهة الرطبة فهذا على الرطب فإن أكل من فاكهة ذلك العام شيئا يابسا لم يحنث وكذلك الثمرة وإن حلف في غير وقت الفاكهة الرطبة كانت يمينه على الفاكهة اليابسة من فاكهة ذلك العام وكان ينبغي في القياس إن كان وقت الفاكهة الرطبة أن يحنث في الرطب واليابس لأن اسم الفاكهة يتناولها إلا أنه استحسن لأن العادة في قولهم فاكهة العام إذا كان في وقت الرطب أنهم يريدون به الرطب دون اليابس فإذا مضى وقت الرطب فلا تقع اليمين إلا على اليابس فيحمل عليه والله عز وجل أعلم. ولو حلف لا يأكل من هذه الحنطة أو لا يأكل هذه الحنطة فإن عنى بها أن لا يأكلها حبا كما هي فأكل من خبزها أو من سويقها لم يحنث وإنما يحنث إذا قضمها وإن لم تكن له نية فكذلك عند أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد يحنث وهل يحنث عندهما إذا أكل عينها؟ ذكر محمد في الأصل عنهما ما يدل على أنه لا يحنث لأنه قال فيه إن اليمين تقع على ما يصنع الناس وذكر عنهما في الجامع الصغير ما يدل على أنه يحنث فإنه قال. وقال أبو يوسف ومحمد إن أكلها خبزا حنث أيضا فهذا يدل على أنه إذا قضمها يحنث عندهما كما يحنث إذا أكلها خبزا وجه قولهما أن المتعارف في إطلاق أكل الحنطة أكل المتخذ منها وهو الخبز لا أكل عينها يقال فلان يأكل من حنطة كذا أي من خبزها ومطلق الكلام يحمل على المتعارف خصوصا في باب الأيمان وجه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن اسم الحنطة لا يقع على الخبز حقيقة لأنها اسم لذات مخصوصة مركبة فيزول الاسم بزوال التركيب حقيقة فالحمل على الخبز يكون حملا على المجاز فكان صرف الكلام إلى الحقيقة أولى "وأما" قولهما: إن مطلق الكلام يحمل على المتعارف فنعم لكن على المتعارف عند أهل اللسان وهو المتعارف في الاستعمال اللغوي كما يقول مشايخ العراق لا على المتعارف من حيث الفعل كما يقول مشايخ بلخ بدليل أنه لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الآدمي أو الخنزير يحنث وإن لم يتعارف أكله لوجود التعارف في الاسم واستعمال اسم الحنطة في مسماها متعارف عند أهل اللسان إلا أنه يقل استعماله فيه لكن قلة الاستعمال فيه لقلة محل الحقيقة وهذا لا يوجب الحمل على المجاز كما في لحم الآدمي ولحم الخنزير على أن المتعارف فعل ثابت في الجملة لأن الحنطة تطبخ وتقلى فتؤكل مطبوخا وقليا وإن لم يكن في الكثرة مثل أكلها خبزا. ولو حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها حبات من شعير حنث ولو كان اليمين على الشراء لم يحنث لأن من اشترى حنطة فيها حبات شعير يسمى مشتري الحنطة لا مشتري الشعير وصرف الكلام إلى الحقيقة المستعملة في الجملة أولى من الصرف إلى المجاز وإن كان استعماله في المجاز أكثر لأن الحقيقة شاركت المجاز في أصل الاستعمال والمجاز ما شارك الحقيقة في الوضع رأسا فكان العمل

 

ج / 3 ص -62-         بالحقيقة أولى. ولو حلف لا يأكل من هذا الدقيق فأكل من خبزه ولم تكن له نية حنث لأن الدقيق هكذا يؤكل عادة ولا يستف إلا نادرا والنادر ملحق بالعدم فلم يكن له حقيقة مستعملة وله مجاز مستعمل وهو كل ما يتخذ منه فحمل عليه وإن نوى أن لا يأكل الدقيق بعينه لا يحنث بأكل ما يخبز منه لأنه نوى حقيقة كلامه. ولو حلف لا يأكل من هذا الكفرى شيئا فصار بسرا أو لا يأكل من هذا البسر شيئا فصار رطبا أو لا يأكل من هذا الرطب شيئا فصار تمرا أو لا يأكل من هذا العنب شيئا فصار زبيبا فأكله أو حلف لا يأكل من هذا اللبن شيئا فأكل من جبن صنع منه أو مصل أو أقط أو شيراز أو حلف لا يأكل من هذه البيضة فصارت فرخا فأكل من فرخ خرج منها أو حلف لا يذوق من هذه الخمر شيئا فصارت خلا لم يحنث في جميع ذلك. والأصل أن اليمين متى تعلقت بعين تبقى ببقاء العين وتزول بزوالها والصفة في العين المشار إليه غير معتبرة لأن الصفة لتمييز الموصوف من غيره والإشارة تكفى للتعريف فوقعت الغنية عن ذكر الصفة وغير المعين لا يحتمل الإشارة فيكون تعريفه بالوصف وإذا عرف هذا نقول العين بدلت في هذه المواضع فلا تبقى اليمين التي عقدت على الأول والعين في الرطب وإن لم تبدل لكن زال بعضها وهو الماء بالجفاف لأن اسم الرطب يستعمل على العين والماء الذي فيها فإذا جف فقد زال عنها الماء فصار آكلا بعض العين المشار إليها فلا يحنث كما لو حلف لا يأكل هذا الرغيف فأكل بعضه بخلاف ما إذا حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعد ما صار شيخا أنه يحنث لأن هناك العين قائمة وإنما الفائت هو الوصف لا بعض الشخص فيبقى كل المحلوف عليه فبقيت اليمين وفرق آخر أن الصفات التي في هذه الأعيان مما تقصد باليمين منعا وحملا كالرطوبة التي هي في التمر والعنب فإن المرطوب تضربه الرطوبات فتعلقت اليمين بها. والصبا والشباب مما لا يقصد بالمنع بل الذات هي التي تقصد فتعلقت اليمين بالذات دون هاتين الصفتين كما إذا حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباعه ثم كلمه أنه يحنث لما قلنا كذا هذا وكذا إذا حلف لا يأكل من لحم هذا الحولي فأكله بعدما صار كبشا أو من لحم هذا الجدي فأكله بعدما صار تيسا يحنث لما قلنا وكذلك لو حلف لا يجامع هذه الصبية فجامعها بعدما صارت امرأة يحنث لما قلنا ولو نوى في الفصول المتقدمة ما يكون من ذلك حنث لأنه شدد على نفسه ولو حلف لا يأكل من هذه الحد حبة فأكلها بعدما صارت بطيخا لا رواية فيه واختلف المشايخ فيه والله عز وجل أعلم. قال بشر عن أبي يوسف في رجل حلف لا يذوق من هذا اللبن شيئا أو لا يشرب فصب فيه ماء فذاقه أو شربه أنه إن كان اللبن غالبا حنث لأنه إذا كان غالبا يسمى لبنا وكذلك لو حلف على نبيذ فصبه في خل أو على ماء ملح فصب على ماء عذب والأصل في هذا أن المحلوف عليه إذا اختلط بغير جنسه تعتبر فيه الغلبة بلا خلاف بين أبي يوسف ومحمد غير أن أبا يوسف اعتبر الغلبة في اللون أو الطعم لا في الأجزاء فقال إن كان المحلوف عليه يستبين لونه أو طعمه حنث وإن كان لا يستبين له لون ولا طعم لا يحنث سواء كانت أجزاءه أكثر أو لم تكن واعتبر محمد غلبة الأجزاء فقال إن كانت أجزاء المحلوف عليه غالبا يحنث وإن كانت مغلوبة لا يحنث وجه قول محمد: إن الحكم يتعلق بالأكثر والأقل يكون تبعا للأكثر فلا عبرة به ولأبي يوسف أن اللون والطعم إذا كانا باقيين كان الاسم باقيا ألا ترى أنه يقال لبن مغشوش وخل مغشوش وإذا لم يبق له لون ولا طعم لا يبقي الاسم ويقال ماء فيه لبن وماء فيه خل فلا يحنث. وقال أبو يوسف فإن كان طعمهما واحدا أو لونهما واحدا فأشكل عليه تعتبر الغلبة من حيث الأجزاء فإن علم أن أجزاء المحلوف عليه هي الغالبة يحنث وإن علم أن الجزاء المخالط له أكثر لا يحنث وإن وقع الشك فيه ولا يدرى ذلك فالقياس أن لا يحنث لأنه وقع الشك في حكم الحنث فلا يثبت مع الشك وفي الاستحسان يحنث لأنه عند احتمال الوجود والعدم على السواء فالقول بالجود أولى احتياطا لما فيه من براءة الذمة بيقين وهذا يستقيم في اليمين بالله تعالى لأن الكفارة حق الله تعالى فيحتاط في إيجابها. فأما في اليمين بالطلاق والعتاق فلا يستقيم لأن ذلك حق العبد وحقوق العباد لا يجري فيها الاحتياط للتعارض فيعمل فيها بالقياس. ولو حلف لا يأكل سمنا فأكل سويقا قد لت بسمن ولا نية له ذكر محمد في الأصل أن أجزاء السمن

 

ج / 3 ص -63-         إذا كانت تستبين في السويق ويوجد طعمه يحنث وإن كان لا يوجد طعمه ولا يرى مكانه لم يحنث لأنها إذا استبانت لم تصر مستهلكة فكأنه أكل السمن بنفسه منفردا وإذا لم يستبن فقد صارت مستهلكة فلا يعتد بها وروى المعلى عن محمد أنه إن كان السمن مستبينا في السويق وكان إذا عصر سال السمن حنث وإن كان على غير ذلك لم يحنث وهذا لا يوجب اختلاف الرواية لإمكان التوفيق بين القولين لأنه إذا كان يحنث إذا عصر سال السمن لم يكن مستهلكا وإذا لم يسل كان مستهلكا وإذا اختلط المحلوف عليه بجنسه كاللبن المحلوف عليه إذا اختلط بلبن آخر قال أبو يوسف هذا والأول سواء وتعتبر فيه الغلبة وإن كان الغلبة لغير المحلوف عليه لم يحنث وقال محمد يحنث وإن كان مغلوبا فمن أصل محمد أن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه وإنما يصير مستهلكا بغير جنسه وإذا لم يصر مستهلكا بجنسه صار كأنه غير مغلوب. وقال المعلى عن محمد في رجل حلف لا يشرب من هذه الخمر فصبها في ماء فغلب على الخمر حتى ذهب لونها وطعمها فشربه لم يحنث فقد قال مثل قول أبي يوسف. ولو حلف على ماء من ماء زمزم لا يشرب منه شيئا فصب عليه ماء من غيره كثيرا حتى صار مغلوبا فشربه يحنث لما ذكرنا من أصله أن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه ولو صبه في بئر أو حوض عظيم لم يحنث قال لأني لا أدري لعل عيون البئر تغور بما صب فيها ولا أدري لعل اليسير من الماء الذي صب في الحوض العظيم لم يختلط به كله. ولو حلف لا يشرب هذا الماء العذب فصبه في ماء مالح فغلب عليه ثم شربه لم يحنث فجعل الماء مستهلكا بجنسه إذا كان على غير صفته قال وكذلك إذا حلف لا يشرب لبن ضأن فخلطه بلبن معز فإنه تعتبر الغلبة لأنهما نوعان فكانا كالجنسين قال الكرخي. ولو قال لا أشرب لبن هذه الشاة لشاة معز أو ضأن ثم خلطه بغيره من لبن ضأن أو معز حنث إذا شربه ولا تعتبر الكثرة والغلبة وعلل فقال لأنه ليس في يمينه ضأن ولو معز ومعناه أن يمينه وقعت على لبن واختلاطه بلبن آخر لا يخرجه من أن يكون لبنا واليمين في المسألة الأولى وقعت على لبن الضأن فإذا غلب عليه لبن المعز فقد استهلكت صفته واستشهد محمد للفرق بين المسألتين فقال ولا تشبه الشاة إذا حلف عليها بعينها حلفه على لبن المعز ألا يرى أنه لو قال والله لا أشتري رطبا فاشترى كباسة بسر فيها رطبتان أو ثلاث لم يحنث لأن هذا إنما هو الغالب. ولو قال والله لا أشتري هذه الرطبة لرطبة في كباسة ثم اشترى الكباسة حنث ونظير هذا ما ذكر ابن سماعة عن محمد في رجل قال والله لا آكل ما يجيء به فلان يعني ما يجيء به من طعام أو لحم أو غيره لك مما يؤكل فدفع الحالف إلى المحلوف عليه لحما ليطبخه فطبخه وألقي فيه قطعة من كرش بقر ثم طبخ القدر به فأكل الحالف من المرق قال محمد لا أراه يحنث إذا ألقي فيه من اللحم ما لا يطبخ وحده ويتخذ منه مرقة لقلته وإن كان مثل ذلك يطبخ ويكون له مرقة فإنه يحنث لأنه جعل اليمين على اللحم الذي يأتي به فلان وعلى مرقته لا تكون إلا بدسم اللحم الذي جاء به فإذا اختلط به لحم لا يكون له مرق لقلته فلم يأكل ما جاء به فلان وإذا كان مما يفرد بالطبخ ويكون له مرق والمرق جنس واحد فلم تعتبر فيه الغلبة وحنث. وقد قال محمد فيمن قال لا آكل مما يجيء به فلان فجاء فلان بلحم فشواه وجعل تحته أرزا للحالف فأكل الحالف من جوانبه حنث وكذلك لو جاء المحلوف عليه بحمص فطبخه فأكل الحالف من مرقته وفيه طعم الحمص حنث وكذلك لو جاء برطب فسال منه رب فأكل منه أو جاء بزيتون فعصر فأكل من زيته حنث. قال ابن سماعة عن أبي يوسف في رجل قال والله لا أكل من ثمرة هذا البستان وفيه نخل يحصى أو لا آكل من ثمرة هذا النخل وهي عشرة أو ثلاث أو لا آكل من ثمرة هاتين النخلتين أو من هاتين الرطبتين أو من هذه الثلاث التفاحات أو من هذين الرغيفين أو لا أشرب من لبن هاتين الشاتين فأكل بعض ذلك أو شرب بعضه فإنه يحنث لأنه منع نفسه من أكل بعض المذكور وشرب بعضه لأن كلمة من للتبعيض فإذا أكل البعض أو شرب حنث قال أبو يوسف ولو قال والله لا أشرب لبن هاتين الشاتين ولم يقل من فإنه لا يحنث حتى يشرب من لبن كل شاة لأنه حلف على شرب لبنهما فلا يحنث بشرب لبن إحداهما وإذا شرب جزءا من لبن كل واحدة منهما حنث لأن الإنسان لا يمكنه أن

 

ج / 3 ص -64-         يشرب جميع لبن الشاة فلا يقصد بيمينه منع نفسه عن ذلك فينعقد يمينه على البعض كما إذا حلف لا يشرب ماء البحر قال وإن كان لبن قد حلب فقال والله لا أشرب لبن هاتين الشاتين للبن بعينه فإن كان لبنا يقدر على شربه في مرة واحدة لم يحنث. بشرب بعضه وإن كان لبنا لا يستطيع شربه في مرة واحدة يحنث بشرب بعضه لأن يمينه وقعت على شرب الكل حقيقة فإذا استطاع شربه دفعة واحدة أمكن العمل بالحقيقة وإذا لم يستطع شربه دفعة يحمل على الجزء كما في ماء البحر وعلى هذا إذا قال لا آكل هذا الطعام وهو لا يقدر على أكله دفعة واحدة ونظير هذا ما قالوا فيمن قبض من رجل دينا عليه فوجد فيه درهمين زائفين فقال والله لا آخذ منهما شيئا فأخذ أحدهما حنث لأن كلمة من للتبعيض. وقال ابن رستم عن محمد إذا قال والله لا آكل لحم هذا الخروف فهذا على بعضه لأنه لا يمكن أكل كله مرة واحدة عادة وذكر في الأصل فيمن قال لا آكل هذه الرمانة فأكلها إلا حبة أو حبتين حنث في الاستحسان لأن ذلك القدر لا يعتد به فإنه يقال في العرف لمن أكل رمانة وترك منها حبة أو حبتين إنه أكل رمانة وإن ترك نصفها أو ثلثها أو ترك أكثر مما يجري في العرف أنه يسقط من الرمانة لم يحنث لأنه لا يسمى آكلا لجميعها. ولو قال والله لا أبيعك لحم هذا الخروف أو خابية الزيت فباع بعضها لم يحنث لأنه يمكن حمل اليمين ههنا على الحقيقة لأن بيع الكل ممكن. وقد قال ابن سماعة فيمن قال لا أشتري من هذين الرجلين أنه لا يحنث حتى يشتري منهما ولا يشبه هذا قوله لا آكل هذين الرغيفين لأن من للتبعيض ويمكن العمل بالتبعيض في الأكل ولا يمكن في الشراء لأن البيع لا يتبعض فيحمل على ابتداء الغاية فقد ذكر في الأصل والجامع فيمن حلف لا يتزوج النساء أو لم يكلم بني آدم أنه يقع على الواحد لتعذر الحمل على الكل فيحمل على بعض الجنس وقد ذكرناه فيما تقدم. حلف لا يأكل من كسب فلان فالكسب ما صار للإنسان أن يفعله كالإيجاب والقبول في البيع والإجارة والقبول في الهبة والصدقة والوصية والأخذ في المباحات. فأما الميراث فلا يكون كسبا للوارث لأنه يملكه من غير صنعه ولو مات المحلوف عليه وقد كسب شيئا فورثه رجل فأكل الحالف منه حنث لأن ما في يد الوارث يسمى كسب الميت بمعنى مكسوبه عرفا فلو انتقل عنه إلى غيره بغير الميراث لم يحنث لأنه صار للثاني بفعله فبطلت الإضافة إلى الأول. قال أبو يوسف وكذا لك إذا قال لا آكل مما ملكت أو مما يملك له أو من ملكك فإذا خرج من ملك المحلوف عليه إلى ملك غيره فأكل منه الحالف لم يحنث لأنه إذا ملكه الثاني لم يبق ملك الأول فلم يبق مضافا إليه بالملك قال وكذلك إذا حلف لا يأكل مما اشترى فلان أو مما يشتري فاشترى المحلوف لنفسه أو لغيره فأكل منه الحالف حنث فإن باعه المحلوف عليه من غيره بأمر المشترى له ثم أكل منه الحالف لم يحنث لأن الشراء إذا طرأ على الشراء بطلت الإضافة الأولى وتجددت إضافة أخرى لم تتناولها اليمين وإنما كان الشراء لغيره ولنفسه سواء لأن حقوق العقد تتعلق بالمشتري فكانت الإضافة إليه لا إلى المشترى له قال وكذلك لو حلف لا يأكل من ميراث فلان شيئا فمات فلان فأكل من ميراثه حنث فإن مات وارثه فأورث ذلك الميراث فأكل منه الحالف لم يحنث لنسخ الميراث الأخير الميراث الأول كذا ذكر لأن الميراث إذا طرأ على الميراث بطلت الإضافة الأولى ومن هذا القبيل ما قالوا. فيمن حلف لا يأكل مما زرع فلان فباع فلان زرعه فأكله الحالف عند المشتري حنث لأن الإضافة إلى الأول لا تبطل بالبيع فإن بذره المشتري وزرعه فأكل الحالف من هذا الزرع فإنه لا يحنث لأن الإضافة بالزرع إنما تكون إلى الثاني دون الأول وعلى هذا لو حلف لا يأكل من طعام يصنعه فلان أو من خبز يخبزه فلان فتناسخته الباعة ثم أكل الحالف منه فإنه يحنث لأنه يقال هو من خبز فلان ومن طبيخه وإن باعه وكذلك لو حلف لا يلبس ثوبا من نسج فلان فنسج فلان ثوبا فباعه لأن البيع لا يبطل الإضافة ولو كان ثوب خز فنقض ونسجه آخر ثم لبسه الحالف لم يحنث لأن النسج الثاني أبطل الإضافة الأولى ولو حلف لا يشتري ثوبا مسه فلان فمس فلان ثوبا وتناسخته الباعة فإنه يحنث إذا اشتراه لأن الإضافة بالمس لا تبطل البيع فصار كأنه قال لا أشتري ثوبا كان فلان مسه وقال بشر عن أبي يوسف في رجل حلف أن لا يأكل من هذه

 

ج / 3 ص -65-         الدراهم فاشترى بها طعاما فأكله حنث وإن بدلها بغيرها واشترى مما أبدل طعاما فأكله لم يحنث لأن الدراهم بعينها لا تحتمل الأكل وإنما أكلها في المتعارف أكل ما يشترى بها ولما اشترى ببدلها لم يوجد أكل ما اشترى بها فلا يحنث وكذلك لو حلف لا يأكل من ثمن هذا العبد فاشترى بثمنه طعاما فأكله. ولو حلف لا يأكل من ميراث أبيه شيئا وأبوه حي فمات أبوه فورث منه مالا فاشترى به طعاما فأكله ففي القياس ينبغي أن لا يحنث لأن الطعام المشترى ليس بميراث وفي الاستحسان يحنث لأن المواريث هكذا تؤكل ويسمى ذلك أكل الميراث عرفا وعادة فإن اشترى بالميراث شيئا فاشترى بذلك الشيء طعاما فأكله لم يحنث لأنه مشتر بكسبه وليس بمشتر بميراثه. وقال أبو يوسف في الميراث بعينه إذا حلف عليه فغيره واشترى به لم يحنث لما قلنا قال فإن كان قال لا آكل ميراثا يكون لفلان فكيف ما غيره فأكله حنث لأن اليمين المطلقة تعتبر فيها الصفة المعتادة وفي العادة أنهم يقولون لما ورثه الإنسان إنه ميراث وإن غيره وقال المعلى عن أبي يوسف إذا حلف لا يطعم فلانا مما ورث من أبيه شيئا فإن كان ورث طعاما فأطعمه منه حنث فإن اشترى بذلك الطعام طعاما فأطعمه منه لم يحنث لأن اليمين وقعت على الطعام الموروث فإذا باعه بطعام آخر فالثاني ليس بموروث وقد أمكن حمل اليمين على الحقيقة فلا تحمل على المجاز وإن كان ورث دراهم فاشترى بها طعاما فأطعمه منه حنث لأنه لا يمكن حمل اليمين على الحقيقة فحملت على المجاز. وقال هشام سمعت محمدا يقول في رجل معه دراهم حلف أن لا يأكلها فاشترى بها دنانير أو فلوسا ثم اشترى بالدنانير أو الفلوس طعاما فأكله لم يحنث فإن حلف لا يأكل هذه الدراهم فاشترى بها عرضا ثم باع ذلك العرض بطعام فأكله فإنه لا يحنث لأن العادة في قوله لا أشتري بهذه الدراهم الامتناع من إنفاقها في الطعام والنفقة تارة تكون بالابتياع وتارة بتصريفها بما ينفق فحملت اليمين على العادة. فأما ابتياع العروض بالدراهم فليس بنفقة في الطعام في العادة فلا تحمل اليمين عليه وهذا خلاف ما حكاه عن أبي يوسف. ابن رستم فيمن قال والله لا آكل من طعامك وهو يبيع الطعام فاشترى منه فأكل حنث لأن مثل هذه اليمين يراد بها منع النفس عن الابتياع قال محمد. ولو قال والله لا آكل من طعامك هذا الطعام بعينه فأهداه له فأكله لا يحنث في قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف ويحنث في قول محمد وهذا فرع اختلافهم فيمن قال لا أدخل دار فلان هذه فباعها فلان ثم دخلها والمسألة تجيء فيما بعد إن شاء الله تعالى قال محمد ولو حلف لا يأكل من طعامه فأكل من طعام مشترك بينهما حنث لأن كل جزء من الطعام يسمى طعاما فقد أكل من طعام المحلوف عليه. علي بن الجعد وابن سماعة عن أبي يوسف في رجل حلف لا يأكل من غلة أرضه ولا نية له فأكل من ثمن الغلة حنث لأن هذا في العادة يراد به استغلال الأرض فإن نوى أكل نفس ما يخرج منه فأكل من ثمنه دينته فيما بينه وبين الله تعالى ولم أدينه في القضاء قال القدوري وهذا على أصله فيمن حلف لا يشرب الماء ونوى الجنس أنه لا يصدق في القضاء فأما على الرواية الظاهرة فيصدق لأنه نوى حقيقة كلامه. وقال محمد في الجامع إذا حلف لا يأكل من هذه النخلة شيئا وأكل من ثمرها أو جمارها أو طلعها أو بسرها أو الدبس الذي يخرج من رطبها فإنه يحنث لأن النخلة لا يتأتى أكلها فحملت اليمين على ما يتولد منها والدبس اسم لما يسيل من الرطب لا المطبوخ منه ولو حلف لا يأكل من هذا الكرم شيئا فأكل من عنبه أو زبيبه أو عصيره حنث لأن المراد هو الخارج من الكرم إذ عين الكرم لا تحتمل الأكل كما في النخلة بخلاف ما إذا نظر إلى عنب فقال عبده حر إن أكل من هذا العنب فأكل من زبيبه أو عصيره أنه لا يحنث لأن العنب مما تؤكل عينه فلا ضرورة إلى الحمل على ما يتولد منه. وكذلك لو حلف لا يأكل من هذه الشاة فأكل من لبنها أو زبدها أو سمنها لم يحنث لأن الشاة مأكولة في نفسها فأمكن حمل اليمين على أجزائها فيحمل عليها لا على ما يتولد منها قال محمد. ولو أكل من ناطف جعل من ثمر النخلة أو نبيذ نبذ من ثمرها لم يحنث لأن كلمة من لابتداء الغاية وقد خرج هذا محذوف الصيغة عن حال الابتداء فلم يتناوله اليمين. ولو حلف لا يأكل من هذا اللبن فأكل من زبده أو سمنه لم يحنث لأن اللبن مأكول بنفسه فتحمل اليمين على نفسه دون ما يتخذ منه والله عز وجل أعلم. وأما الحلف على الشرب

 

ج / 3 ص -66-         فقد ذكرنا معنى الشرب أنه إيصال ما لا يحتمله المضغ من المائعات إلى الجوف حتى لو حلف لا يشرب فأكل لا يحنث. كما لو حلف لا يأكل فشرب لا يحنث لأن الأكل والشرب فعلان متغايران قال الله تبارك وتعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ} عطف الشرب على الأكل والمعطوف غير المعطوف عليه وإذا حلف لا يشرب ولا نية له فأي شراب شرب من ماء أو غيره يحنث لأنه منع نفسه عن الشرب عاما وسواء شرب قليلا أو كثيرا لأن بعض الشراب يسمى شرابا وكذا لو حلف لا يأكل طعاما فأكل شيئا يسيرا يحنث لأن قليل الطعام طعام ولو حلف لا يشرب نبيذا فأي نبيذ شرب حنث لعموم اللفظ وإن شرب سكرا لا يحنث لأن السكر لا يسمى نبيذا لأنه اسم لخمر التمر وهو الذي من ماء التمر إذا غلا واشتد وقذف بالزبد أو لم يقذف على الاختلاف وكذا لو شرب فضيخا لأنه لا يسمى نبيذا إذ هو اسم للمثلث يصب فيه الماء وكذا لو شرب عصيرا لأنه لا يسمى نبيذا. وإن حلف لا يشرب مع فلان شرابا فشربا في مجلس واحد من شراب واحد حنث وإن كان الإناء الذي يشربان فيه مختلفا وكذا لو شرب الحالف من شراب وشرب الآخر من شراب غيره وقد ضمهما مجلس واحد لأن المفهوم من الشرب مع فلان في العرف هو أن يشربا في مجلس واحد اتحد الإناء والشراب أو اختلفا بعد أن ضمهما مجلس واحد يقال شربنا مع فلان وشربنا مع الملك وإن كان الملك يتفرد بالشرب من إناء فإن نوى شرابا واحدا ومن إناء واحد يصدق لأنه نوى ما يحتمله لفظه. ولو حلف لا يشرب من دجلة أو من الفرات قال أبو حنيفة لا يحنث ما لم يشرب منه كرعا وهو أن يضع فاه عليه فيشرب منه فإن أخذ الماء بيده أو بإناء لم يحنث وعند أبي يوسف ومحمد يحنث شرب كرعا أو بإناء أو اغترف بيده. وجه قولهما أن مطلق اللفظ يصرف إلى المتعارف عند أهل اللسان والمتعارف عندهم أن من رفع الماء من الفرات بيده أو بشيء من الأواني أنه يسمى شاربا من الفرات فيحمل مطلق الكلام على غلبة المتعارف وإن كان مجازا بعد أن كان متعارفا كما لو حلف لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر أنه ينصرف ذلك إلى ما يخرج من الشجرة من الثمر وإلى ما يطبخ في القدر من الطعام كذلك ههنا ولأبي حنيفة أن مطلق الكلام محمول على الحقيقة وحقيقة الشرب من الفرات هو أن يكرع منه كرعا لأن كلمة من ههنا استعملت لابتداء الغاية بلا خلاف لتعذر حملها على التبعيض إذ الفرات اسم للنهر المعروف والنهر اسم لما بين ضفتي الوادي لا للماء الجاري فيه فكانت كلمة من ههنا لابتداء الغاية فتقتضي أن يكون الشرب من هذا المكان ولن يكون شربه منه إلا وأن يضع فاه عليه فيشرب منه وهو تفسير الكرع كما لو حلف لا يشرب من هذا الكوز ألا ترى أنه لو شرب من إناء أخذ فيه الماء من الفرات كان شاربا من ذلك الإناء حقيقة لا من الفرات والماء الواحد لا يشرب من مكانين من كل واحد منهما حقيقة ولهذا لو قال شربت من الإناء لا من الفرات كان مصدقا ولو قال على القلب كان مكذبا فدل أن الشرب من الفرات هو الكرع منه وأنه ممكن ومستعمل في الجملة وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "رأى قوما فقال هل عندكم من ماء بات في شن وإلا كرعنا" ويستعمله كثير في زماننا من أهل الرساتيق على أنه إن لم يكن فعلا مستعملا فذا لا يوجب كون الاسم منقولا عن الحقيقة بعد أن كان الاسم مستعملا فيه تسمية ونطقا كما لو حلف لا يأكل لحما فأكل لحم الخنزير أنه يحنث وإن كان لا يؤكل عادة لانطلاق الاسم عليه حقيقة تسمية ونطقا وبهذا تبين أن قلة الحقيقة وجودا لا يسلب اسم الحقيقة عن الحقيقة بخلاف ما إذا حلف لا يأكل من هذه الشجرة أو من هذا القدر لأن ههنا كما لا يمكن جعل هذه الكلمة لتبعيض ما دخلت عليه بخروج الشجرة والقدر من أن يكون محلا للأكل لا يمكن جعلها ابتداءين لغاية الأكل لأن حقيقة الأكل لا يحصل من المكان بل من اليد لأن المأكول مستمسك في نفسه والأكل عبارة عن البلع عن مضغ ولا يتأتى فيه المضغ بنفسه فلم يمكن جعلها لابتداء الغاية فأضمر فيه ما يتأتى فيه الأكل وهو الثمرة في الشجرة والمطبوخ في القدر فكان من للتبعيض وههنا أمكن جعلها لابتداء الغاية لأن الماء يشرب من مكان لا محالة لانعدام استمساكه في نفسه إذ الشرب هو البلع من غير مضغ وما يمكن ابتلاعه من غير مضغ لا يكون له في نفسه استمساك فلا بد من حامل له يشرب منه والله عز وجل أعلم ولو شرب من نهر يأخذ من

 

ج / 3 ص -67-         الفرات لم يحنث في قولهم جميعا أما عنده فلا يشكل لأن هذا النهر ليس بفرات فصار كما لو شرب من آنية "وأما" عندهما فلانهما يعتبران العرف والعادة ومن شرب من نهر يأخذ من الفرات لا يعرف شاربا من الفرات لأن الشرب من الفرات عندهما هو أخذ الماء المفضي إلى الشرب من الفرات ولم يوجد ههنا لأنه أخذ من نهر لا يسمى فراتا. ولو حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر أخذ الماء من الفرات فإن شرب منه بالاغتراف بالآنية أو بالاستقاء براوية يحنث بالإجماع وإن كرع منه يحنث في ظاهر الرواية وروي عن أبي يوسف أنه لا يحنث ووجهه أن النهر لما أخذ الماء من الفرات فقد صار مضافا إليه فانقطعت الإضافة إلى الفرات ووجه ظاهر الرواية منع نفسه عن شرب جزء من ماء الفرات لأن كلمة من دخلت في الماء صلة للشرب وهو قابل لفعل الشرب فكانت للتجزئة وبالدخول في نهر انشعب من الفرات لا تنقطع إليه النسبة كما لا تنقطع بالاغتراف بالآنية والاستقاء بالراوية ألا ترى أن ماء زمزم ينقل إلينا ونتبرك به ونقول شربنا من ماء زمزم ولو حلف لا يشرب من ماء دجلة فهذا وقوله لا أشرب من دجلة سواء لأنه ذكر الشرب من النهر فكان على الاختلاف. وروى المعلى عن محمد فيمن حلف لا يشرب من نهر يجري ذلك النهر إلى دجلة فأخذ من دجلة من ذلك الماء فشربه لم يحنث لأنه قد صار من ماء دجلة لزوال الإضافة إلى النهر الأول بحصوله في دجلة. ولو حلف لا يشرب من هذا الجب فهو على الاختلاف حتى لو اغترف من مائه في إناء آخر فشرب لم يحنث حتى يضع فاه على الجب في قول أبي حنيفة وعندهما يحنث ومن مشايخنا من قسم الجواب في الجب فقال إن كان ملآن فهو على الاختلاف لأن الحقيقة مقصورة الوجود وإن كان غير ملآن فاغترف يحنث بالإجماع لعدم تصور الحقيقة فتنصرف يمينه إلى المجاز. ولو حلف لا يشرب من هذا الكوز انصرفت يمينه إلى الحقيقة إجماعا لتصور الحقيقة عنده وعندهما للعرف فإن نقل الماء من كوز إلى كوز وشرب من الثاني لا يسمى شاربا من الكوز الأول وإن حلف لا يشرب من ماء هذا الجب فاغترف منه بإناء فشرب حنث بالإجماع لأنه عقد يمينه على ماء ذلك الجب وقد شرب من مائه فإن حول ماءه إلى جب آخر فشرب منه فالكلام فيه كالكلام فيمن حلف لا يشرب من ماء الفرات فشرب من نهر يأخذ الماء من الفرات وقد مر ولو قال لا أشرب من ماء هذا الجب فالكلام فيه كالكلام في قوله لا أشرب من ماء دجلة وقد ذكرناه ولو حلف لا يشرب من هذه البئر أو من مائها فاستقى منها وشرب حنث لأن الحقيقة غير متصورة الوجود فيصرف إلى المجاز. وقالوا فيمن حلف لا يشرب من ماء المطر فمدت الدجلة من المطر فشرب لم يحنث لأنه إذا حصل في الدجلة انقطعت الإضافة إلى المطر فإن شرب من ماء واد سال من المطر لم يكن فيه ماء قبل ذلك أو جاء من ماء مطر مستنقع في قاع حنث لأنه لما لم يضف إلى النهر بقيت الإضافة إلى المطر كما كانت. ولو حلف لا يشرب من ماء فرات فشرب من ماء دجلة أو نهر آخر أو بئر عذبة يحنث لأنه منع نفسه من شرب ماء عذب إذ الفرات في اللغة عبارة عن العذب قال الله عز وجل: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً} ولما أطلق الماء ولم يضفه إلى الفرات فقد جعل الفرات نعتا للماء وقد شرب من الماء المنعوت فيحنث وفي الفصل الأول أضاف الماء إلى الفرات وعرف الفرات بحرف التعريف فيصرف إلى النهر المعروف المسمى بالفرات. "وأما" الحلف على الذوق فالذوق هو إيصال المذوق إلى الفم ابتلعه أو لا بعد أن وجد طعمه لأنه من أحد الحواس الخمس الموضوعة للعلم بالمذوقات كالسمع والبصر والشم واللمس للعلم بالمسموعات والمبصرات والمشمومات والملموسات والعلم بالطعم يحصل بحصول الذوق في فمه سواء ابتلعه أو مجه فكل أكل فيه ذوق وليس كل ذوق أكلا إذا عرف هذا فنقول إذا حلف لا يذوق طعاما أو شرابا فأدخله في فيه حنث لحصول الذوق لوجود معناه وهو ما ذكرنا فإن قال أردت بقولي لا أذوقه لا آكله ولا أشربه دين فيما بينه وبين الله عز وجل ولا يدين في القضاء لأنه قد يراد بالذوق الأكل والشرب يقال في العرف ما ذقت اليوم شيئا وما ذقت إلا الماء ويراد به الأكل والشرب فإذا نوى ذلك لا يحنث فيما بينه وبين الله تعالى حتى يأكل أو يشرب لأنه نوى ما يحتمله كلامه ولا يصدق في القضاء لعدوله عن الظاهر. قال هشام وسألت محمدا عن رجل حلف

 

ج / 3 ص -68-         لا يذوق في منزل فلان طعاما ولا شرابا فذاق منه شيئا أدخله فاه ولم يصل إلى جوفه فقال محمد هذا على الذوق إلا أن يكون تقدم كلام قلت فإن كان قال له المحلوف عليه تغد عندي اليوم فحلف لا يذوق في منزله طعاما ولا شرابا فقال محمد هذا على الأكل ليس على الذوق وإنما كان كذلك لما بينا أن حقيقة الذوق هي اكتساب سبب العلم بالمذوق وقد يستعمل ذلك في الأكل والشرب فإن تقدمت هناك دلالة حال خرج الكلام عليه حملت اليمين عليها وإلا عملت بحقيقة اللفظ ولو حلف لا يذوق الماء فتمضمض للصلاة لا يحنث وإن حصل له العلم بطعم الماء لأن ذلك لا يسمى ذوقا عرفا وعادة إذ المقصود منه التطهير لا معرفة طعم المذوق. ولو حلف لا يأكل طعاما أو لا يشرب شرابا أو لا يذوق ونوى طعاما دون طعام أو شرابا دون شراب. فجملة الكلام في هذا أن الحالف لا يخلو إما أن ينوي تحصيص ما هو مذكور "وأما" أن نوى تخصيص ما ليس بمذكور فإن نوى تخصيص ما هو مذكور بأن ذكر لفظا عاما وأراد به بعض ما دخل تحت اللفظ العام من حيث الظاهر يصدق فيما بينه وبين الله تعالى ولا يصدق في القضاء لأن التكلم بالعام على إرادة الخاص جائز إلا أنه خلاف الظاهر لأن اللفظ وضع دلالة على العموم والظاهر من اللفظ الموضوع دلالة على العموم في اللغة إرادة العموم فكان نية الخصوص خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء وإن نوى تخصيص ما ليس بمذكور لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله عز وجل سواء كان التخصيص راجعا إلى الذات أو إلى الصفة أو إلى الحال لأن الخصوص والعموم من صفات الألفاظ دون المعاني فغير الملفوظ لا يحتمل التعميم والتخصيص والتقييد فإذا نوى التخصيص فقد نوى ما لا يحتمله كلامه فلم تصح نيته رأسا وإذا عرف هذا فتخرج عليه مسائل إذا قال إن أكلت طعاما أو شربت شرابا أو إن ذقت طعاما أو شرابا فعبدي حر, وقال عنيت اللحم أو الخبز فأكل غيره لا يصدق في القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى التخصيص من اللفظ المذكور في موضع العموم كما بينا فيما تقدم أن قوله إن أكلت طعاما بمعنى قوله لا آكل طعاما فيتناول بظاهره كل طعام فإذا نوى به بعض الأطعمة دون بعض فقد نوى الخصوص في اللفظ العام وأنه يحتمله لكنه خلاف الظاهر فلا يصدق قضاء ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل وإن قال إن أكلت أو ذقت أو شربت فعبدي حر وهو ينوي طعاما بعينه أو شرابا بعينه فأكل أو شرب غيره فإن عبده يعتق في القضاء وفيما بينه وبين الله عز وجل لأنه نوى التخصيص من غير المذكور إذ الطعام والشراب ليسا بمذكورين بل يثبتان بطريق الاقتضاء والمقتضى لا عموم له وعند الشافعي يدين فيما بينه وبين الله عز وجل ويزعم أن للمقتضى عموما والصحيح قولنا: لما ذكرنا أن العموم والخصوص من صفات الموجود دون المعدوم إذ المعدوم لا يحتمل الصفة حقيقة إلا أنه يجعل موجودا بطريق الضرورة لصحة الكلام فيبقي فيما وراءه على حكم العدم "وأما" التخصيص الراجع إلى الصفة والحال فنحو ما حكى بشر عن أبي يوسف في رجل قال والله لا أكلم هذا الرجل وهو قائم وعنى به وما دام قائما لكنه لم يتكلم بالقيام كانت نيته باطلة وحنث إن كلمه لأن الحال والصفة ليست بمذكورة فلا تحتمل التخصيص. ولو حلف لا يكلم هذا القائم يعنى به ما دام قائما وسعه فيما بينه وبين الله تعالى لورود التخصيص على الملفوظ وكذلك إذا قال والله لأضربن فلانا خمسين وهو ينوي بسوط بعينه فبأي سوط ضربه فقد خرج عن يمينه والنية باطلة لأن آلة الضرب ليست بمذكورة فبطلت نية التخصيص ونظير هذا ما حكى ابن سماعة عن محمد في رجل حلف, وقال والله لا أتزوج امرأة وهو ينوي كوفية أو بصرية فقال ليس في هذا نية فلا يصدق فيما بينه وبين الله عز وجل ولا في القضاء. ولو قال والله لا أتزوج امرأة يعني امرأة كان أبوها يعمل كذا وكذا فهذا كله لا تجوز فيه النية ولو قال والله لا أتزوج امرأة يعني امرأة عربية أو حبشية قال هذا جائز يدين فيما نواه فقد جعل قوله عربية أو حبشية بيان النوع وقوله كوفية أو بصرية وصفا فجوز تخصيص النوع ولم يجوز تخصيص الوصف لأن الصفة ليست بمذكورة والجنس مذكور وهو قوله امرأة لأنه يتناول كل امرأة لأنه في موضع النفي فتعمل نيته في نوع دون نوع لاشتمال اسم الجنس على الأنواع وقال ابن سماعة عن محمد في رجل قال والله لا أتزوج امرأة على ظهر الأرض ينوي امرأة بعينها قال يصدق فيما بينه

 

ج / 3 ص -69-         وبين الله تعالى لأن اللفظ عام يحتمل تخصيص جنس أفراد العموم إلا أنه خلاف الظاهر فلا يصدق في القضاء قال. ولو قال لا أشتري جارية ونوى مولدة فإن نيته باطلة لأنه ليس بتخصيص نوع من جنس وإنما هو تخصيص صفة فأشبه الكوفية والبصرية. ولو قال والله لا آكل الطعام أو لا أشرب الماء أو لا أتزوج النساء فيمينه على بعض الجنس لما بينا فيما تقدم وإن أراد به الجنس صدق لأنه نوى حقيقة كلامه. وأما الحلف على الغداء والعشاء فلا بد من معرفة معنى الغداء والعشاء ومعرفة وقتهما أما الأول فالغداء والعشاء كل واحد منهما عبارة عن أكل ما يقصد به الشبع عادة فيعتبر في ذلك العادة في كل بلد فما كان غداء عندهم حملت اليمين عليه ولهذا قالوا في أهل الحضر إذا حلفوا على ترك الغداء فشربوا اللبن لم يحنثوا لأنهم لا يتناولون ذلك للشبع عادة ولو حلف البدوي فشرب اللبن حنث لأن ذلك غداء في البادية وإذا حلف لا يتغدى فأكل غير الخبز من أرز أو تمر أو غيره حتى شبع لم يحنث ولم يكن ذلك غداء وكذلك إذا أكل لحما بغير خبز لم يحنث في قول أبي يوسف ومحمد. كذا ذكر الكرخي قال. وقالا ليس الغداء في مثل الكوفة والبصرة إلا على الخبز والمرجع في هذا إلى العادة فما كان غداء متعادا عند الحالف حنث وما لا فلا وروى هشام عن أبي حنيفة في أكل الهريسة والأرز أنه يحنث وروي عن أبي يوسف في الهريسة والفالوذج والخبيص أنه لا يحنث إلا أن يكون ذلك غداءه والأصل أن غداء كل بلد ما تعارفونه غداء فيعتبر عادة الحالف فيما يحلف عليه فإن كان الحالف كوفيا يقع على خبز الحنطة والشعير ولا يقع على اللبن والسويق وإن كان بدويا يقع على اللبن والسويق وإن كان حجازيا يقع على السويق وفي بلادنا يقع على خبز الحنطة "وأما" الثاني فنقول وقت الغداء من طلوع الفجر إلى وقت الزوال لأن الغداء عبارة عن أكل الغدوة وما بعد نصف النهار لا يكون غدوة والعشاء من وقت الزوال إلى نصف الليل لأنه مأخوذ من أكل العشية وأول أوقات العشاء ما بعد الزوال وقد روي "أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى صلاتي العشاء ركعتين" يريد الظهر والعصر وفي عرف ديارنا العشاء ما بعد وقت صلاة العصر "وأما" السحور فما بعد نصف الليل إلى طلوع الفجر لأنه مأخوذ من السحر وهو وقت السحر ولم يذكر في ظاهر الرواية مقدار الغداء والعشاء. وقد روى ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال لأمته إن لم تتعش الليلة فعبدي حر فأكلت لقمة واحدة لم تزد عليها فليس هذا بعشاء ولا يحنث حتى تأكل أكثر من نصف شبعها لأن من أكل لقمة يقول في العادة ما تغديت ولا تعشيت فإذا أكل أكثر أكله يسمى ذلك غداء في العادة وروى المعلى عن محمد فيمن حلف ليأتينه غدوة أنه إذا أتاه بعد طلوع الفجر إلى نصف النهار فقد بر وهو غدوة لما ذكرنا أن هذا وقت الغداء ولو قال ليأتينه ضحوة فهو من بعد طلوع الشمس من الساعة التي تحل فيها الصلاة إلى نصف النهار لأن هذا وقت صلاة الضحى قال محمد: إذا حلف لا يصبح, فالتصبيح عندي ما بين طلوع الشمس وبين ارتفاع الضحى الأكبر, فإذا ارتفع الضحى الأكبر ذهب وقت التصبيح لأن التصبيح تفعيل من الصبح والتفعيل للتكثير فيقتضي زيادة على ما يفيده الإصباح وروى المعلى عن محمد فيمن حلف لا يكلمه إلى السحر قال إذا دخل ثلث الليل الأخير فليكلمه لأن وقت السحر ما قرب من الفجر قال هشام عن محمد والمساء مساءان أحدهما إذا زالت الشمس ألا ترى أنك تقول إذا زالت الشمس كيف أمسيت؟ والمساء الأخير إذا غربت الشمس فإذا حلف بعد الزوال لا يفعل كذا حتى يمسي كان ذلك على غيبوبة الشمس لأنه لا يمكن حمل اليمين على المساء الأول فيحمل على الثاني والله عز وجل أعلم.

                                                             "فصل":
"وأما" الحلف على اللبس والكسوة إذا حلف لا يلبس قميصا أو سراويل أو رداء فاتزر بالسراويل أو القميص أو الرداء لم يحنث وكذا إذا أعتم بشيء من ذلك لأن المطلق تعتبر فيه العادة والاتزار والتعمم ليس بمعتاد في هذه الأشياء فلا يحنث. ولو حلف لا يلبس هذا القميص أو هذا الرداء فعلى أي حال لبس ذلك حنث وإن اتزر بالرداء وارتدى بالقميص أو اغتسل فلف القميص على رأسه وكذلك إذا حلف لا يلبس هذه العمامة فالقاها على عاتقه لأن اليمين إذا تعلقت بعين اعتبر فيها وجود الاسم ولا تعتبر فيها الصفة المعتادة لأن الصفة في الحاضر غير معتبرة

 

ج / 3 ص -70-         والاسم باق وهذا ليس بمعتاد فيحنث به. ولو حلف لا يلبس حريرا فلبس مصمتا لم يحنث لأن الثوب ينسب إلى اللحمة دون السداء لأنها هي الظاهرة منه والسداء ليس بظاهر ونظير مسائل الباب ما قال في الجامع فيمن حلف لا يلبس قميصين فلبس قميصا ثم نزعه ثم لبس آخر فإنه لا يحنث حتى يلبسهما معا لأن المفهوم من لبس القميصين في العرف هو أن يجمع بينهما. ولو قال والله لا ألبس هذين القميصين فلبس أحدهما ثم نزعه ولبس الآخر حنث لأن اليمين ههنا وقعت على عين فاعتبر فيها الاسم دون اللبس المعتاد وقالوا فيمن حلف لا يلبس شيئا ولا نية له فلبس درعا من حديد أو درع امرأة أو خفين أو قلنسوة أنه يحنث لأن ذلك كله يتناوله اسم اللبس. ولو حلف لا يلبس سلاحا فتقلد سيفا أو تنكب قوسا أو ترسا لم يحنث لأن هذا لا يسمى لبسا يقال تقلد السيف ولا يقال لبسه ولو لبس درعا من حديد أو غيره حنث لأن السلاح هكذا يلبس وقالوا حلف لا يلبس قطنا فلبس ثوب قطن يحنث لأن القطن لا يحتمل اللبس حقيقة فيحمل على لبس ما يتخذ منه فإن لبس قباء ليس بقطن وحشوه قطن لم يحنث إلا أن يعني الحشو لأن الحشو ليس بملبوس فلا تتناوله اليمين فإن لبس ثوبا من قطن وكتان حنث لأن اليمين على القطن تتناول ما يتخذ منه وبعض الثوب يتخذ منه روى بشر عن أبي يوسف في رجل حلف ليقطعن من هذا الثوب قميصا وسراويل فقطعه قميصا فلبسه ما شاء ثم قطع من القميص سراويل فلبسه فإنه يبر في يمينه لأن القميص يسمى ثوبا فقد قطع الثوب سراويل واسم الثوب لم يزل فلا يحنث وإن حلف على قميص ليقطعن منه قباء وسراويل فقطع منه قباء فلبسه أو لم يلبسه ثم قطع من القباء سراويل فإنه قد حنث في يمينه حين قطع القميص قباء لأنه قطع السراويل مما لا يسمى قميصا ويمينه أقتضت أن يقطع السراويل من قميص لا من قباء. وقال في الزيادات إذا قال عبده حر إن لم يجعل من هذا الثوب قباء وسراويل ولا نية له فجعله كله قباء وخاطه ثم نقض القباء وجعله سراويل فإنه لا يحنث إلا أن يكون عنى أن يجعل من بعضه هذا أو بعضه هذا وهو على الحالة الأولى. وقال عمرو عن محمد في رجل حلف لا يلبس هذا الثوب فقطعه سراويلين فلبس سراويل بعد سراويل لا يحنث. وقال محمد إذا صار سراويلين خرج من أن يكون ثوبا لأن لبس الثوب المشار إليه يلبس جميعه دفعة واحدة وروي عن محمد أنه قال سمعت أبا يوسف فيمن حلف لا يلبس هذا الثوب فأخذ منه قلنسوات فلبسها لم يحنث لأنه لما قطعه قلنسوات لم يبق اسم الثوب لأن القلنسوة لا تسمى ثوبا وإن قطعه قميصا ففضل منه فضلة عن القميص رقعة صغيرة يتخذ منها لبنة أو ما أشبه ذلك فإنه يحنث لأن هذا القدر مما لا يعتد به فكان لابسا كمن حلف لا يأكل رمانة فأكلها إلا حبة وكذا لو اتخذ من الثوب جوارب فلبسها لا يحنث لأنه لما قطعه جوارب زال اسم الثوب عنها. ولو حلف لا يلبس ثوبا من غزل فلانة فقطع بعضه فلبسه فإن كان لا يكون ما قطع إزارا أو رداء لم يحنث فإن بلغ ذلك حنث وإن قطعه سراويل فلبسه حنث لأن اسم الثوب إنما يقع على ما تستر به العورة وأدنى ذلك الإزار فما دونه ليس بلبس ثوب وكذا المرأة إذا حلفت لا تلبس ثوبا فلبست خمارا أو مقنعة لم تحنث والمراد بذلك الخمار الذي لم يبلغ مقدار الإزار فإذا بلغ ذلك الإزار حنث بلبسه وإن لم تستر به العورة وكذلك إذا لبس الحالف عمامة لم يحنث إلا أن يلف على رأسه ويكون قدر إزار أو رداء أو يقطع من مثلها قميصا أو درعا أو سراويل لأن العمامة إذا لم تبلغ مقدار الإزار فلابسها لا يسمى لابس ثوب فلم يحنث وإذا بلغت مقدار الإزار أو الرداء فقد لبس ما يسمى ثوبا إلا أنه ليس في موضع مخصوص من بدنه فهو كما لو لبس القميص على رأسه. ولو حلف لا يلبس من غزل فلانة ولم يقل ثوبا لم يحنث في التكة والزر والعروة واللبنة روي ذلك عن محمد لأن هذا ليس بلبس في العادة ولا يقال لمن كان عليه لابس. وقال أبو يوسف إن لبس رقعة في ثوب شبرا في شبر حنث لأن هذا عنده في حكم الكثير فصار لابسا له. وقال محمد إذا حلف لا يلبس ثوبا لا يحنث في العمامة والمقنعة ويحنث في السراويل وقد قالوا إذا حلف لا يلبس ثوبا من غزلها فلبس ثوب خز غزلته حنث لأن ذلك ينسب إلى الثوب فإنه كان كساء من غزلها سداه قطن فإن كان ذلك يسمى ثوبا حنث وإلا لم يحنث ولو حلف لا يلبس ثوبا من نسج فلان فنسجه غلمانه فإن كان فلان يعمل بيده لم يحنث إلا أن يلبس من

 

ج / 3 ص -71-         عمله وإن كان فلان لا يعمل بيده حنث لأن حقيقة النسج ما فعله الإنسان بنفسه فإن أمكن الحمل على الحقيقة يحمل عليها وإن لم يمكن يحمل على المجاز فإذا كان فلان لا ينسج بيده لم تكن الحقيقة مرادة باليمين فيحمل على المجاز وهو الأمر بالعمل وروى بشر عن أبي يوسف فيمن حلف لا يلبس شيئا من السواد قال هذا على ما يلبس مثله ولا يحنث في التكة والزر والعروة لأن ذلك ليس بلبس وإن حلف لا يكسو فلانا شيئا ولا نية له فكساه قلنسوة أو خفين أو جوربين حنث لأن الكسوة اسم لما يكسى به وذلك يوجد في القليل والكثير وروى عمرو عن محمد إذا حلف لا يكسو امرأة فبعث إليها مقنعة قال لا يحنث فجعل الكسوة عبارة عما يجزئ في كفارة اليمين وأجرى ذلك مجرى قوله لا ألبس ثوبا. ولو حلف لا يكسو فلانا ثوبا فأعطاه دراهم يشتري بها ثوبا لم يحنث لأنه لم يكسه وإنما وهب له دراهم وشاوره فيما يفعل بها ولو أرسل إليه بثوب كسوة حنث لأن الحقوق لا تتعلق بالرسول وإنما تتعلق بالمرسل.

                                                          "فصل":
 "وأما" الحلف على الركوب إذا حلف لا يركب دابة فهو على الدواب التي يركبها الناس في حوائجهم في مواضع إقامتهم فإن ركب بعيرا أو بقرة لم يحنث والقياس أن يحنث في ركوب كل حيوان لأن الدابة اسم لما يدب على وجه الأرض قال الله تعالى: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} وقال عز وجل: {إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} إلا أنهم استحسنوا وحملوا اليمين على ما يركبه الناس في الأمصار ولقضاء الحوائج غالبا وهو الخيل والبغال والحمير تخصيصا للعموم بالعرف والعادة لأنا نعلم أنه ما أراد به كل حيوان فحملنا مطلق كلامه على العادة ومعلوم أن الفيل والبقرة والبعير لا يركب لقضاء الحوائج في الأمصار عادة فإن نوى في يمينه الخيل خاصة دين فيما بينه وبين الله عز وجل لأن اللفظ يحتمله ولا يدين في القضاء لأنه خلاف ظاهر العموم وإن حلف لا يركب فرسا فركب برذونا أو حلف لا يركب برذونا فركب فرسا لم يحنث لأن الفرس عبارة عن العربي والبرذون عن الشهري فصار كمن حلف لا يكلم رجلا عربيا فكلم عجميا. ولو حلف لا يركب, وقال نويت الخيل لا يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله عز وجل لأن الركوب ليس بمذكور فلا يحتمل التخصيص فإن حلف لا يركب الخيل فركب برذونا أو فرسا يحنث لأن الخيل اسم جنس قال الله عز وجل: {وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً} وقال صلى الله عليه وسلم "الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة" والمراد به الجنس فيعم جميع أنواعه. ولو حلف لا يركب دابة وهو راكبها فمكث على حاله ساعة واقفا أو سائرا حنث لما ذكرنا أن الركوب يحتمل الابتداء ويتجدد أمثاله وكذلك لو حلف لا يلبس وهو لابس أو لا يجلس على هذا الفراش وهو جالس لما قلنا فإن نزل عقيب يمينه أو نزع أو قام لم يحنث عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم. ولو حلف لا يركب دابة فلان فركب دابة لعبد فلان وعليه دين أو لا دين عليه لا يحنث في قول أبي حنيفة وعند محمد يحنث أما إذا كان عليه دين فلأنه لا يملكها عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف هي مضافة إلى العبد دون المولى "وأما" إذا لم يكن عليه دين فهي مضافة إلى العبد فلم يحنث وعند محمد هي ملك المولى حقيقة فيحنث بركوبها ولو حلف لا يركب مركبا ولا نوى شيئا فركب سفينة أو محملا أو دابة بإكاف أو سرج حنث لوجود الركوب أما في الدابة بالسرج والإكاف فلا شك فيه "وأما" في السفينة فلأن الله تعالى سمى ذلك ركوبا بقوله عز وجل: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا} والله عز وجل أعلم.

                                                                "فصل":
 "وأما" الحلف على الجلوس فإذا حلف لا يجلس على الأرض فإنه لا يحنث إلا أن يجلس عليها وليس بينه وبينها غير ثيابه فإن كان بينه وبين الأرض حصير أو بورى أو بساط أو كرسي أو شيء بسطه لم يحنث لأن الجالس على الأرض من باشر الأرض ولم يحل بينه وبينها شيء هذا هو الجلوس على الأرض حقيقة إلا أن الجلوس عليها بما هو متصل به من ثيابه يسمى جلوسا على الأرض عرفا وإذا حال بينهما ما هو منفصل عنه من البساط والحصير لا يسمى جلوسا ألا ترى أنه يقال جلس على البساط والحصير لا على الأرض فإذا حلف لا يجلس على هذا الفراش أو هذا الحصير أو هذا البساط فجعل عليه مثله ثم جلس لم يحنث لأن الجلوس يضاف إلى الثاني دون الأول ألا ترى أن الطنفسة إذا جعلت على البوري لا يقال جلس على البوري بل يقال جلس على الطنفسة وكذلك إذا جعل الفراش

 

ج / 3 ص -72-         على الفراش أو البساط على البساط. وخالف أبو يوسف في الفراش خاصة فقال إذا حلف لا ينام على هذا الفراش فجعل فوقه فراشا آخر ونام عليه حنث لأنهما جميعا مقصودان بالنوم لأن ذلك إنما يجعل لزيادة التوطئة وأجمعوا على أنه لو حلف لا ينام على هذا الفراش فجعل فوقه قراما أو محبسا حنث لأن ذلك لا يمنع أن يقال نام على الفراش. ولو حلف لا يجلس على هذا السرير أو على هذا الدكان أو لا ينام على هذا السطح فجعل فوقه مصلى أو فرشا أو بساطا ثم جلس عليه حنث لأنه يقال جلس الأمير على السرير وإن كان فوقه فراش ويقال نام على السطح وإن كان نام على فراش فلو جعل فوق السرير سريرا أو بنى فوق الدكان دكانا أو فوق السطح سطحا لم يحنث لأن الجلوس يضاف إلى الثاني دون الأول وقال محمد إذا كان نوى مباشرته وهي أن لا يكون فوقه شيء لم يدين في القضاء يعنى به إذا حلف لا ينام على السرير فنام على الفراش فوق السرير لأنه نوى غير ظاهر كلامه ولو قال والله لا أنام على ألواح هذا السرير أو ألواح هذه السفينة ففرش على ذلك فراشا لم يحنث لأنه ما نام على ألواح وذكر في الأصل إذا حلف لا يمشي على الأرض فمشى عليها وفي رجله خف أو نعل يحنث لأن المشي على الأرض هكذا يكون عادة ألا ترى أنه لم يجعل بينه وبينها ما هو منفصل عنه وإن مشى على بساط لم يحنث لأنه يقال مشى على البساط وجاء في الشعر:

نحن بنات طارق                         نمشي على النمارق

ولو مشى على السطح حنث لأنه يقال هذه أرض السطح ويقال لمن على السطح لا تنم على الأرض.

                                                            "فصل":
"وأما" الحلف على السكنى والمساكنة والإيواء والبيتوتة أما السكنى فإذا حلف لا يسكن هذه الدار أما إن كان فيها ساكنا أو لم يكن فإن لم يكن فيها ساكنا فالسكنى فيها أن يسكنها بنفسه وينقل إليها من متاعه ما يتأثث به ويستعمله في منزله فإذا فعل ذلك فهو ساكن وحانث في يمينه لأن السكنى هي الكون في المكان على طريق الاستقرار فإن من جلس في المسجد وبات فيه لا يسمى ساكن المسجد ولو أقام فيه بما يتأثث به يسمى به فدل أن السكنى ما ذكرنا وذلك إنما يكون بما يسكن به في العادة وذلك ما قلنا وإن كان فيها ساكنا فحلف لا يسكنها فإنه لا يبر حتى ينتقل عنها بنفسه وأهله وولده الذين معه ومتاعه ومن كان يأويها لخدمته والقيام بأمره في منزله فإن لم يفعل ذلك ولم يأخذ في النقلة من ساعته وهي ممكنة حنث. ههنا ثلاثة فصول أحدها إذا حلف لا يسكن فانتقل بأهله ومتاعه في الحال لم يحنث في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر يحنث وهو على الخلاف الذي ذكرنا في الراكب حلف لا يركب واللابس حلف لا يلبس فنزل ونزع في الحال وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم والثاني إذا انتقل بنفسه ولم ينتقل بأهله ومتاعه قال أصحابنا يحنث. وقال الشافعي لا يحنث وجه قوله إن شرط حنثه سكناه ولم يسكن فلا يحنث كما لو حلف لا يسكن في بلد فخرج بنفسه وترك أهله فيه. وقال الشافعي محتجا علينا إذا خرجت من مكة وخلفت دفيترات بها أفأكون ساكنا بمكة "ولنا" أن سكنى الدار إنما يكون بما يسكن به في العادة لما ذكرنا أنه اسم للكون على وجه الاستقرار ولا يكون الكون على هذا الوجه إلا بما يسكن به عادة فإذا حلف لا يسكنها وهو فيها فالبر في إزالة ما كان به ساكنا فإذا لم يفعل حنث وهذا لأنه بقوله لا أسكن هذه الدار فقد منع نفسه عن سكنى الدار وكره سكناها لمعنى يرجع إلى الدار والإنسان كما يصون نفسه عما يكره يصون أهله عنه عادة فكانت يمينه واقعة على السكنى وما يسكن به عادة فإذا خرج بنفسه وترك أهله ومتاعه فيه ولم يوجد شرط البر فيحنث. والدفاتر لا يسكن بها في الدور عادة فبقاؤها لا يوجب بقاء السكنى فهذا كان تشنيعا في غير موضعه ولأن من حلف لا يسكن هذه الدار فخرج بنفسه وأهله ومتاعه فيها يسمى في العرف والعادة ساكن الدار ألا ترى أنه إذا قيل له وهو في السوق أين تسكن؟ يقول في موضع كذا وإن لم يكن هو فيه وبهذا فارق البلد لأنه لا يقال لمن بالبصرة إنه ساكن بالكوفة والثالث أنه إذا انتقل بنفسه وأهله وماله ومتاعه وترك من أثاثه شيئا يسيرا قال أبو حنيفة يحنث. وقال أبو يوسف إذا كان المتاع المتروك لا يشغل بيتا ولا بعض الدار لا يحنث ولست أجد في هذا حدا وإنما هو على الاستحسان وعلى ما يعرفه الناس. وقيل معنى قول أبي حنيفة إذا ترك

 

ج / 3 ص -73-         شيئا يسيرا يعني ما لا يعتد به ويسكن بمثله. فأما إذا خلف فيها وتدا أو مكنسة لم يحنث لأبي يوسف أن اليسير من الأثاث لا يعتد به لأنه يسكن بمثله فصار كالوتد ولأبي حنيفة إن شرط البر إزالة ما به صار ساكنا فإذا بقي منه شيء لم يوجد شرط البر بكماله فيحنث فإن منع من الخروج والتحول بنفسه ومتاعه وأوقعوه وقهروه لا يحنث وإن أقام على ذلك أياما لأنه ما يسكنها بل أسكن فيها فلا يحنث ولأن البقاء على السكنى يجري مجرى الابتداء ومن حلف لا يسكن هذه الدار وهو خارج الدار فحمل إليها مكرها لم يحنث كذا البقاء إذا كان بإكراه. وقال محمد إذا خرج من ساعته وخلف متاعه كله في المسكن فمكث في طلب المنزل أياما ثلاثا فلم يجد ما يستأجره وكان يمكنه أن يخرج من المنزل ويضع متاعه خارج الدار لا يحنث لأن هذا من عمل النقلة إذ النقلة محمولة على العادة والمعتاد هو الانتقال من منزل إلى منزل ولأنه ما دام في طلب المنزل فهو متشاغل بالانتقال كما لو خرج يطلب من يحمل رحله وقال محمد إن كان الساكن موسرا وله متاع كثير وهو يقدر على أنه يستأجر من ينقل متاعه في يوم فلم يفعل وجعل ينقل بنفسه الأول فالأول فمكث في ذلك سنة قال إن كان النقلان لا يفترانه لا يحنث لأن الحنث يقع بالاستقرار بالدار والمتشاغل بالانتقال غير مستقر ولأنه لا يلزمه الانتقال على أسرع الوجوه ألا ترى أنه بالانتقال المعتاد لا يحنث وإن كان غيره أسرع منه فإن تحول ببدنه. وقال ذلك أردت فإن كان حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكن فيها لا يدين في القضاء لأنه خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل لأنه نوى ما يحتمله كلامه وإن كان حلف وهو غير ساكن. وقال نويت الانتقال ببدني دين لأنه نوى ما يحتمله وفيه تشديد على نفسه "وأما" المساكنة فإذا كان رجل ساكنا مع رجل في دار فحلف أحدهما أن لا يساكن صاحبه فإن أخذ في النقلة وهي ممكنة وإلا حنث والنقلة على ما وصفت لك إذا كان ساكنا في الدار فحلف لا يسكنها لأن المساكنة هي أن يجمعهما منزل واحد فإذا لم ينتقل في الحال فالبقاء على المساكنة مساكنة فيحنث فإن وهب الحالف متاعه للمحلوف عليه أو أودعه أو أعاره ثم خرج في طلب منزل فلم يجد منزلا أياما ولم يأت الدار التي فيها صاحبه قال محمد إن كان وهب له المتاع وقبضه منه وخرج من ساعته وليس من رأيه العود إليه فليس بمساكن له فلا يحنث وكذلك إن أودعه المتاع ثم خرج لا يريد العود إلى ذلك المنزل وكذلك العارية لأنه إذا وهبه وأقبضه وخرج فليس بمساكن إياه بنفسه ولا بماله وإذا أودعه فليس بساكن به فلا يحنث وكذلك إن أودعه المتاع ثم خرج وإنما هو في يد المودع وكذلك إذا أعاره فلا يحنث ولو كان له في الدار زوجة فراودها على الخروج فأبت وامتنعت وحرص على خروجها واجتهد فلم تفعل فإنه لا يحنث إذا كانت هذه حالها لأنه لو بقي هو في الدار مكرها لم يحنث لعدم اختياره السكنى به فكذا إذا بقي ما يسكن به بغير اختياره وإذا حلف لا يساكن فلانا فساكنه في عرصة دار أو بيت أو غرفة حنث لأن المساكنة هي القرب والاختلاط فإذا سكنها في موضع يصلح للسكنى فقد وجد الفعل المحلوف عليه فيحنث فإن ساكنه في دار هذا في حجرة وهذا في حجرة أو هذا في منزل وهذا في منزل حنث إلا أن يكون دارا كبيرة قال أبو يوسف مثل دار الرقيق ونحوها ودار الوليد بالكوفة فإنه لا يحنث وكذا كل دار عظيمة فيها مقاصير ومنازل. وقال هشام عن محمد إذا حلف لا يساكن فلانا ولم يسم دارا فسكن هذا في حجرة وهذا في حجرة لم يحنث إلا أن يساكنه في حجرة واحدة قال هشام قلت فإن حلف لا يساكنه في هذه الدار فسكن هذا في حجرة وهذا في حجرة قال يحنث لمحمد أن الحجرتين المختلفتين كالدارين بدليل أن السارق من إحداهما إذا نقل المسروق إلى الأخرى قطع وليس كذلك إذا حلف لا يساكنه في دار لأنه حلف على أن لا يجمعهما دار واحدة وقد جمعتهما وإن كانا في حجرها ولأبي يوسف أن المساكنة هي الاختلاط والقرب فإذا كانا في حجرتين في دار صغيرة فقد وجد القرب فهو كبيتين من دار وإن كانا في حجرتين من دار عظيمة فلا يوجد القرب فهو كدارين في محلة فإن سكن هذا في بيت من دار وهذا في بيت وقد حلف لا يساكنه ولم يسم دارا حنث في قولهم لأن بيوت الدار الواحدة كالبيت الواحد ألا ترى أن السارق لو نقل المسروق

 

ج / 3 ص -74-         من أحد البيتين إلى الآخر لم يقطع. وقال أبو يوسف فإن ساكنه في حانوت في السوق يعملان فيه عملا أو يبيعان فيه تجارة فإنه لا يحنث وإنما اليمين على المنازل التي هي المأوى وفيها الأهل والعيال. فأما حوانيت البيع والعمل فليس يقع اليمين عليها إلا أنه ينوي أو يكون بينهما قبل اليمين بدل يدل عليها فتكون اليمين على ما تقدم من كلامهما ومعانيهما لأن السكنى عبارة عن المكان الذي يأوي إليه الناس في العادة ألا ترى أنه لا يقال فلان يسكن السوق وإن كان يتجر فيها فإنه جعل السوق مأواه قيل إنه يسكن السوق فإن كان هناك دلالة تدل على أنه أراد باليمين ترك المساكنة في السوق حملت اليمين على ذلك وإن لم يكن هناك دلالة فقال نويت المساكنة في السوق أيضا فقد شدد على نفسه قالوا إذا حلف لا يساكن فلانا بالكوفة ولا نية له فسكن أحدهما في دار والآخر في دار أخرى في قبيلة واحدة أو محلة واحدة أو درب فإنه لا يحنث حتى تجمعهما السكنى في دار لأن المساكنة هي المقاربة والمخالطة ولا يوجد ذلك إذا كانا في دارين وذكر الكوفة لتخصيص اليمين بها حتى لا يحنث بمساكنته في غيرها فإن قال نويت أن لا أسكن الكوفة والمحلوف عليه بالكوفة صدق لأنه شدد على نفسه وكذلك إذا حلف لا يساكنه في الدار فاليمين على المساكنة في دار واحدة على ما بينا ولو أن ملاحا حلف لا يساكن فلانا في سفينة واحدة ومع كل واحد منهما أهله ومتاعه واتخذها منزله فإنه يحنث وكذلك أهل البادية إذا جمعتهم خيمة. وإن تفرقت الخيام لم يحنث وإن تقاربت لأن السكنى محمولة على العادة وعادة الملاحين السكنى في السفن وعادة أهل البادية السكنى في الأخبية فتحمل يمينهم على عاداتهم "وأما" الإيواء فإذا حلف لا يأوي مع فلان أو لا يأوي في مكان أو دار أو في بيت فالإيواء الكون ساكنا في المكان فأوى مع فلان في مكان قليلا كان المكث أو كثيرا ليلا كان أو نهارا حنث وهو قول أبي يوسف الأخير وقول محمد إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك يوما أو أكثر فيكون على ما نوى وروى ابن رستم في رجل حلف بالطلاق لا يأويه وفلانا بيت وذلك لأن الإيواء عبارة عن المصير في الموضع قال الله عز وجل: {سَآوي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ} أي ألتجئ وذلك موجود في قليل الوقت وكثيره وقد كان قول أبي يوسف الأول: إن الإيواء مثل البيتوتة وإنه لا يحنث حتى يقيم في المكان أكثر الليل لأنهم يذكرون الإيواء كما يذكرون البيتوتة فيقولون فلان يأوي في هذه الدار كما يقولون يبيت فيها "وأما" إذا نوى أكثر من ذلك فالأمر على ما نوى لأن اللفظ محتمل فإنهم يذكرون الإيواء ويريدون به السكنى والمقام وقد روى ابن رستم عن محمد في رجل قال إن آواني وإياك بيت أبدا على طرفة عين في قول أبي يوسف الأخير وقولنا إلا أن يكون نوى أكثر من ذلك يوما أو أكثر فالأمر على ما نوى لأن اللفظ يوما أو أكثر. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف إذا حلف لا يأوي فلانا وقد كان المحلوف عليه في عيال الحالف ومنزله لا يحنث إلا أن يعيد المحلوف عليه مثل ما كان وإن لم يكن المحلوف عليه في عيال الحالف فهذا على نية الحالف إن نوى أن لا يعوله فهو كما نوى وكذلك إن نوى لا يدخله عليه بيته لأن قوله لا يأويه يذكر ويراد به ضمه إلى نفسه ومنزله وقد يراد به القيام بأمره فإن كان في اللفظ دليل على شيء وإلا يرجع إلى بيته فإن دخل المحلوف عليه بغير إذنه فرآه فسكت لم يحنث لأنه حلف على فعل نفسه فإذا لم يأمره لم يوجد فعله. وقال عمر وعن محمد الإيواء عند البيتوتة والسكنى فإن نوى المبيت فهو على ذهاب الأكثر من الليل وإن لم ينو شيئا فهو على ذهاب ساعة. "وأما" البيوتة فإذا حلف لا يبيت مع فلان أو لا يبيت في مكان كذا فالمبيت بالليل حتى يكون فيه أكثر من نصف الليل وإذا كان أقل لم يحنث وسواء نام في الموضع أو لم ينم لأن البيتوتة عبارة عن الكون في مكان أكثر من نصف الليل ألا يرى أن الإنسان يدخل على غيره ليلا يقيم عنده قطعة من الليل ولا يقال بات عنده وإذا أقام أكثر الليل يقال بات عنده ويقال فلان بائت في منزله وإن كان في أول الليل في غيره ولا يعتبر النوم لأن اللفظ لا يقتضيه لغة كما لا يقتضي اليقظة فلم يكن شرطا فيه وقال ابن رستم عن محمد في رجل حلف لا يبيت الليلة في هذه الدار وقد ذهب ثلثا الليل ثم بات بقية الليل قال لا يحنث لأن البيتوتة إذا كانت تقع على أكثر الليل فقد حلف على ما لا يتصور فلا تنعقد يمينه والله عز وجل أعلم.

 

ج / 3 ص -75-                                                                        "فصل":
وأما الحلف على الاستخدام فإذا حلف الرجل لا يستخدم خادمة له قد كانت تخدمه ولا نية له فجعلت الخادمة تخدمه من غير أن يأمرها حنث لأنه لما مكنها من الخدمة فقد تركها على الاستخدام السابق ولأنه لما لم يمنعها فقد استخدمها دلالة وإن لم يستخدم نصا صريحا ولو كان الحالف على خادمة لا يملكها فخدمته بغير أمره لا يحنث لعدم سبق الاستخدام ليكون التمكين من الخدمة إبقاء لها على الاستخدام ولتعذر جعل التمكين دلالة الاستخدام لأن استخدام جارية الغير بغير إذنه محظور فلا يكون إذنا به من طريق الدلالة فهو الفرق حتى لو كان نهى خادمته التي كانت تخدمه عن خدمته ثم خدمته بغير أمره قيل لم يحنث لأنه بالتمكين قطع استخدامها السابق فقد وجد منها بغير استخدام فلا يحنث ولو حلف لا تخدمه فلانة فخدمته بغير أمره أو بأمره وهي خادمته أو خادمة غيره حنث لأنه عقد اليمين على فعلها وهو خدمتها لا على فعله وهو استخدامه وقد خدمته. وكل شيء من عمل بيته فهو خدمته لأن الخدمة عبارة عن عمل البيت الذي يحتاج إليه في الغالب ولو حلف لا يستخدم خادمة لفلان فسألها وضوءا أو شرابا أو أومأ إليها ولم يكن له نية حين حلف حنث إن فعلت ذلك أو لم تفعل إلا أن يكون نوى حين حلف أن لا يستعين بها فتعينه فلا يحنث حتى تعينه لأنه عقه يمينه على فعله وهو الاستخدام وقد استخدم وإن لم تجبه فإن عنى أن تخدمه فقد نوى ما يحتمله كلامه فيصدق فيما بينه وبين الله تعالى وإن حلف لا يخدمني خادم لفلان فهو على الجارية والغلام والصغير الذي يخدم والكبير في ذلك سواء لأن اسم الخادم يجمع الذكر والأنثى والصغير والكبير إذا كان الصغير ممن يقدر على الخدمة والله عز وجل أعلم.

                                                            "فصل":
وأما الحلف على المعرفة فإذا حلف على إنسان أنه لا يعرفه وهو يعرفه بوجهه لكنه لا يعرف اسمه فقد بر في يمينه ولا يحنث لأنه إذا لم يعرف اسمه لم يعرفه بدليل ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه
"سأل رجلا عن رجل, وقال له هل تعرفه؟ فقال الرجل نعم فقال هل تدري ما اسمه؟ فقال لا فقال إنك لم تعرفه" ولأنه إذا لم يعرفه باسمه وإن عرفه بوجهه لم يكن عارفا به على الإطلاق بل من وجه دون وجه ومن شرط حنثه المعرفة على الإطلاق ولم توجد فلا يحنث. وقال خلف بن أيوب عن محمد في رجل تزوج امرأة ودخل بها ولا يدري ما اسمها فحلف إنه لا يعرفها قال لا يحنث لما بينا ولو أن رجلا ولد له مولود فأخرجه إلى جار له ولم يكن سماه بعد فحلف جاره هذا أنه لا يعرف هذا الصبي لا يحنث لأن معرفته بمعرفة اسمه فلا يعرف قبل التسمية.

                                                                   "فصل":
وأما الحلف على أخذ الحق وقبضه وقضائه واقتضائه إذا حلف الرجل ليأخذن من فلان حقه أو ليقبضن من فلان حقه فأخذ منه بنفسه أو أخذ منه وكيله أو أخذه من ضامن عنه أو محتال عليه بأمر المطلوب بر لأن حقوق القضاء لا ترجع إلى الفاعل فترجع إلى الآمر فكأن قبض وكيل الطالب قبضه معنى وكذا القبض من وكيل المطلوب أو كفيله أو المحتال بأمره عليه قبضا منه من حيث المعنى ولو قبض من رجل بغير أمر المطلوب أو كانت الكفالة أو الحوالة بغير أمره حنث في يمينه ولم يبر لأنه لم يقبض من المطلوب حقه حقيقة في الوجهين جميعا إلا أنه جعل قابضا عنه معنى في موضع الآمر وجعل القبض من الغير كالقبض منه فإذا لم يكن ذلك بأمره لم تكن إضافته إليه ولهذا لم يرجع إلى الدافع إليه بما أعطاه فلم يوجد منه قبض حقه فلم يبر وكذلك لو كان الحالف هو الذي عليه المال فحلف ليقضين فلانا حقه أو ليعطين فأعطاه بنفسه أو برسول أو بإحالة أو أمر من ضمنه له فأخذه الطالب بر الحالف في يمينه لأن حقوق القضاء لا تتعلق بالفاعل فتتعلق بالآمر. فكان هو القاضي والمعطي من حيث المعنى ولو كان ذلك بغير أمره حنث الحالف لأنه لم يقض حقه ولا أعطاه أصلا ورأسا ألا ترى أنه لا يرجع الدافع إليه وإن قال الحالف في هذين الوجهين أردت أن يكون ذلك بنفسي كان كما قال فإن لم يفعل ذلك بنفسه حنث لأنه شدد على نفسه وإن كان المطلوب حلف أن لا يعطيه فأعطاه على أحد هذه الوجوه حنث فإن قال إنما أردت أن لا أعطيه أنا بنفسي لم يدين في القضاء ودين فيما بينه وبين الله تعالى لأن العطاء بفعله وبفعل غيره سواء في القصد فتناوله اليمين فإذا نوى أن لا يعطيه بنفسه

 

ج / 3 ص -76-         فقد نوى خلاف الظاهر وأراد التخفيف على نفسه فلا يصدق في القضاء ولو أخذ به ثوبا أو عرضا فقبض العرض فهو بمنزلة القبض للمال لأنه يصير مستوفيا بأخذ العوض كما يصير مستوفيا بأخذ نفس الحق ولو حلف الطالب ليأخذن ماله منه أو ليقضينه أو ليستوفينه ولم يوقت وقتا فأبرأه من المال أو وهبه له حنث في يمينه لأن الإبراء ليس بقبض ولا استيفاء ففات شرط البر فحنث ولو كان وقت وقتا فقال اليوم أو إلى كذا وكذا فأبرأه قبل ذلك أو وهبه له لم يحنث عند أبي حنيفة ومحمد إذا جاوز ذلك الوقت وعند أبي يوسف يحنث بناء على أن اليمين الموقتة يتعلق انعقادها بآخر الوقت عندهما فكأنه قال في آخر الوقت لأقبضن منه ديني ولا دين عليه فلا تنعقد اليمين عندهما وتنعقد عند أبي يوسف فيحنث. أصل المسألة إذا حلف ليشربن الماء الذي في هذا الكوز اليوم فأهريق الماء قبل انقضاء اليوم وقد ذكرناها فيما تقدم فإن قبض الدين فوجده زيوفا أو نبهرجة فهو قبض وبر في يمينه سواء كان الحلف على القبض أو على الدفع لأنها من جنس حقه من حيث الأصل ألا ترى أنه يجوز أخذهما في ثمن الصرف فوقع بهما الاقتضاء وإن كانت ستوقة فليس هذا بقبض لأنها ليست من جنس الدراهم ولهذا لا يجوز التجوز بها في ثمن الصرف وكذلك لو رد الثوب الذي أخذ عن الدين بعيب أو استحق كان قد بر في يمينه وكان هذا قبضا لأن العيب لا يمنع صحة القبض وكذا المستحق يصح قبضه ثم يبطل لعدم الإجازة فانحلت اليمين فلا يتصور الحنث بعد ذلك وقد قالوا إذا اشترى بدينه بيعا فاسدا وقبضه فإن كان في قيمته وفاء بالحق فهو قابض لدينه ولا يحنث وإن لم يكن فيه وفاء حنث لأن المضمون في البيع الفاسد القيمة لا المسمى ولو غصب الحالف مالا مثل دينه بر لأنه وقع الاقتضاء به وكذلك لو استهلك له دنانير أو عروضا لأن القيمة تجب في ذمته فيصير قصاصا. وقال محمد إذا قال إن لم أتزن من فلان ما لي عليه أو لم أقبض ما لي عليه في كيس أو قال إن لم أقبض ما لي عليك دراهم أو بالميزان أو قال إن لم أقبض دراهم قضاء من الدراهم التي لي عليك فأخذ بذلك عرضا أو شيئا مما يوزن من الزعفران أو غيره فهو حانث لأنه لما ذكر الوزن والكيس والدراهم فقد وقعت يمينه على جنس حقه فإذا أخذ عوضا عنه حنث

                                                          "فصل":
وأما الحالف على الهدم قال ابن سماعة وسمعت أبا يوسف يقول في رجل قال والله لأهدمن هذه الدار فإن هدم سقوفها بر لأنه لا يقدر على أن يزيل اسم الدار بالهدم لأنه لو هدم جميع بنائها لكانت بذلك تسمى دار لما ذكرنا أنها اسم للعرصة فحملت اليمين على الكسر قال محمد إذا حلف لينقضن هذا الحائط أو ليهدمنه اليوم فنقض بعضه أو هدم بعضه ولم يهدم ما بقي حتى مضى اليوم يحنث قال والهدم عندنا أن يهدم حتى يبقي منه ما لا يسمى حائطا لأن الحائط يمكن هدمه حتى يزيل الاسم عنه فوقعت اليمين على ذلك بخلاف الدار فإن نوى هدم بعضه صدق ديانة لأن ذلك يسمى هدما بمعنى الكسر. ولو حلف ليكسرن هذا الحائط فكسر بعضه بر لأنه يقال له حائط مكسور فلا يعتبر ما يزيل به اسم الحائط فالحاصل أن ههنا ألفاظا ثلاثة الهدم والنقض والكسر والمسائل مبنية على معرفة معنى كل لفظ فالهدم اسم لإزالة البناء لأنه ضد البناء فإن فعل في الحائط فعلا ينظر إن بقي بعده ما يسمى مبنيا حنث لأنه لا وجود للشيء مع وجود ما يضاده وإن لم يبق ما يسمى مبنيا بر لتحقيقه في نفسه قال الله تعالى:
{وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ} والمراد منه استئصالها لا إحداث صدع أو وهن في أبنيتها وكذلك النقض يقال فلان نقض بيته كذا أي أزالها ولو نقض بعض الحائط أو هدم بعضه. وقال عنيت به بعضه يصدق فيما بينه وبين الله تعالى عز وجل لأنه نوى تخصيص العموم وإنه محتمل فلا يصدقه القاضي لأنه عدول عن الظاهر والكسر عبارة عن إحداث صدع أو شق فيما صلب من الأجسام بمنزلة الخرق فيما استرخى منها فإذا ثبت فيه هذا فقد بر في يمينه وإن بقي التركيب والله أعلم

                                                            "فصل":
وأما الحلف على الضرب والقتل قال المعلى سألت محمدا عن رجل حلف بطلاق امرأته ليضربنها حتى يقتلها أو حتى ترفع ميتة ولا نية له قال إن ضربها ضربا شديدا كأشد الضرب بر في يمينه لأنه يراد بمثل هذا القول في العادة

 

ج / 3 ص -77-         شدة الضرب دون الموت قال فإن حلف ليضربنها حتى يغشى عليها أو حتى تبول فما لم يوجد ذلك لم يبر في يمينه لأن هذا يحدث عند شدة الضرب غالبا فيراعى وجوده للبر. ولو حلف ليضربن غلامه في كل حق وباطل فمعنى ذلك أن يضربه في كل ما شكي بحق أو بباطل لأنه لا يمكن حمله على الحقيقة وهو الضرب عند كل حق وباطل لأن العبد لا يخلو من ذلك فإذا يكون عند الشكاية فإذا يكون المولى في ضربه أبدا فحمل الضرب على الشكاية للعرف ولا يكون الضرب في هذا عند الشكاية أي لا يحمل الضرب على فور الشكاية لأن اليمين الواقعة على فعل مطلق عن زمان لا تتوقت بزمان دون زمان بل تقع على العمر إلا أن يعني به الحال فيكون قد شدد على نفسه فإن شكي إليه فضربه ثم شكي إليه في ذلك الشيء مرة أخرى والمولى يعلم أنه في ذلك الشيء أو لا يعلم فذلك سواء وليس عليه أن يضربه للشكاية الثانية لأنه قد ضربه فيها مرة واحدة ولا يتعلق بالفعل الواحد الذي وقعت الشكاية عليه أكثر من ضرب واحد في العرف كما لو قال إن أخبرتني بكذا فلك درهم فأخبره مرة بعد مرة أنه لا يجب إلا درهم واحد وإن كان الثاني إخبارا كالأول كذا هذا. وقال المعلى سألت محمدا عن رجل حلف ليقتلن فلانا ألف مرة فقتله ثم قال إنما نويت أن آلي على نفسي بالقتل قال أدينه في القضاء لأن العادة أنهم يريدون بهذا تشديد القتل دون تكرره لعدم تصوره وقال ابن سماعة عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته إن لم أضربك حتى أتركك لا حية ولا ميتة فهذا على أن يضربها ضربا شديدا يوجعها فإذا فعل ذلك فقد بر لأن المراد منه أن لا يتركها حية سليمة ولا ميتة وذلك بالضرب الشديد فينصرف إليه. وقال محمد فيمن حلف بالطلاق لقد سمع فلانا يطلق امرأته ألف مرة وقد سمعه طلقها ثلاثا فإنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى لأن حكم الثلاث حكم الألف في الإيقاع ولأنه يراد بمثله أكثر عدد الطلاق في العادة وهو الثلاث ولو قال امرأته طالق إن لم يكن لقي فلانا ألف مرة وقد لقيه مرارا كثيرة لأن ذلك لا يكون ألف مرة وإنما أراد كثرة اللقاء ولم يرد العدد إني أدينه لأن مثل هذا يذكر في العادة والعرف للتكثير دون العدد المحصور وقد قال الله تعالى: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} وليس ذلك على عدد السبعين بل ذكره سبحانه وتعالى للتكثير كذا هذا. ولو قال والله لا أقتل فلانا بالكوفة أو قال والله لا أتزوج فلانة بالكوفة فضربه الحالف ببغداد فمات بالكوفة أو زوجه الولي امرأة كبيرة ببغداد فبلغها الخبر بالكوفة فأجازت حنث في اليمينين جميعا وكذلك لو حلف على الزمان فقال لا أفعل ذلك يوم الجمعة فمات يوم الجمعة أو أجازت النكاح يوم الجمعة حنث الحالف ولو كان حلف ليفعلن ذلك بالكوفة أو يوم الجمعة فكان ما ذكرنا بر في يمينه وإنما كان ذلك لأن الفعل الذي هو قتل إن وجد ببغداد ويوم السبت لكنه موصوف بصفة الإضافة إلى المخاطب وإنما يصير موصوفا بالإضافة وقت ثبوت أثره وهو زهوق الروح وذلك وجد بالكوفة يوم الجمعة فيحنث في يمينه ونظيره لو قال إن خلق الله تعالى لفلان ابنا في هذه السنة فعبدي حر فحصل له ولد في هذه السنة يحنث وإن كان خلق الله أزليا لكن الإضافة إلى المخلوق إنما تثبت عند وجود أثره وهو وجود الولد كذا ههنا والنكاح في الشرع اسم لما بعد الحل وذلك إنما يوجد عند الإجازة وكذلك العبد إذا اشترى عبدا بغير إذن مولاه ثم بلغ المولى فأجاز فإنه مشترى يوم أجازه المولى لأنه يوم ثبوت الملك. وقال محمد في البيع الموقوف والفاسد إنه بائع يوم باع ومشتر يوم اشترى وقال في القتل كما قال أبو يوسف لمحمد إن الملك عند الإجازة يتعلق بالعقد كما يتعلق به عند إسقاط الخيار ولأبي يوسف أن الأحكام لا تتعلق بالعقد الموقوف وإنما تتعلق بالإجازة ولو كانت الضربة قبل اليمين ومات بالكوفة أو يوم الجمعة لا يحنث في يمينه وإن وجد القتل المضاف إلى المخاطب يوم الجمعة لأن هذا القتل وجد منه قبل اليمين فلا يتصور امتناعه عن اتصافه بصفة الإضافة والإنسان لا يمنع نفسه عما ليس في وسعه الامتناع عنه إذ مقصود الحالف البر لا الحنث ولهذا لو حلف لا يسكن هذه الدار وهو ساكنها فأخذ في النقلة من ساعته لا يحنث فإن وجد السكنى وعرف بدلالة الحال أنه أراد منع نفسه عن قتل مضاف إلى مخاطب باشره بعد اليمين ونظيره ما ذكره محمد أنه لو قال لامرأته أنت طالق غدا ثم قال لها إن طلقتك فعبدي حر فجاء غد فطلقت لم يعتق عبده. ولو قال لها إن

 

ج / 3 ص -78-         طلقتك فعبدي حر ثم قال لها إذا جاء غد فأنت طالق فجاء غد وطلقت عتق عبده لهذا المعنى كذا هذا.

                                                            "فصل":
وأما الحلف على المفارقة والوزن وما أشبه ذلك إذا حلف لا يفارق غريمه حتى يستوفي ما عليه واشترى منه شيئا على أن البائع بالخيار ثم فارقه حنث لأن الثمن ما يستحق على المشتري فلم يصر مستوفيا فإن أخذ به رهنا أو كفيلا من غير براءة المكفول عنه ثم فارقه يحنث لأن الحق في ذمة الغريم بحاله لم يستوف فإن هلك الرهن قبل الافتراق بر في يمينه لأنه صار مستوفيا وإن هلك بعد الافتراق لا يبر لأنه فارقه قبل الاستيفاء فحنث. وقال أبو يوسف في رجل له على امرأة دين حلف أن لا يفارقها حتى يستوفي ثم تزوجها عليه وفارقها وكانت عقدة النكاح جائزة فقد بر في يمينه لأنه قد وجب في ذمته بالنكاح مثل دينه وصار قصاصا فجعل مستوفيا وإن كان النكاح فاسدا ولم يدخل بها حنث لأن المهر لا يجب بالنكاح الفاسد فلم يصر مستوفيا فإن دخل بها قبل أن يفارقها ومهر مثلها مثل الدين أو أكثر لم يحنث لأن المهر وجب عليه بالدخول فصار مستوفيا فإن كان العقد صحيحا فوقعت الفرقة بسبب من جهتها وسقط مهرها وفارقها لم يحنث لأن المهر الواجب بالعقد قد سقط وإنما عاد له دين بالفرقة بعد انحلال اليمين فلا يحنث ولو حلف ليزنن ما عليه فأعطاه عددا فكانت وازنة حنث لأنه حلف على الوزن والوزن فعله ولم يفعله. وقال ابن سماعة عن أبي يوسف إذا قال والله لا أقبضن ما لي عليك إلا جميعا وله عشرة دراهم وعلى الطالب لرجل خمسة دراهم فأمر الذي له الخمسة هذا الحالف أن يحتسب للمطلوب بالخمسة التي عليه وجعلها قصاصا ودفع فلان المطلوب إلى الحالف خمسة فكأنه قال إذا كان متوافرا فهو جائز فلا يحنث لأن الاستيفاء دفعة واحدة يقع على القبض في حالة واحدة وأن يعرف الوزن ألا ترى أن الدين إذا كان مالا كثيرا لا يمكنه دفعه في وزنة واحدة وقد قبض الخمسة حقيقة والخمسة بالمقاصة وقد روى ابن رستم عن محمد فيمن قال والله لا آخذ ما لي عليك إلا ضربة واحدة فوزن خمسمائة وأخذها ثم وزن خمسمائة قال فقد أخذها ضربة واحدة لأن هذا لا يعد متفرقا قال وكذلك لو جعل يزنها درهما درهما. وقال محمد في الجامع إذا كان له عليه ألف درهم فقال عبده حر إن أخذها اليوم منك درهما دون درهم فأخذ منها خمسة ولم يأخذ ما بقي لم يحنث لأن يمينه وقعت على أخذ الألف متفرقة في اليوم ولم يأخذ الألف بل بعض الألف ولو قال عبده حر إن أخذ منها اليوم درهما دون درهم فأخذ منها خمسة دراهم ولم يأخذ ما بقي حتى غربت الشمس يحنث حين أخذ الخمسة لأن يمينه ما وقعت على أخذ الكل متفرقا بل على أخذ البعض لأن كلمة من للتبعيض ولو قال عبده حر إن أخذها اليوم درهما دون درهم فأخذ في أول النهار بعضها وفي آخر النهار الباقي حنث لأنه أضاف الأخذ إلى الكل وقد أخذ الكل في يوم متفرقا. وقال أصحابنا إذا حلف لا يفارقه حتى يستوفي ما له عليه فهرب أو كابره على نفسه أو منعه منه إنسان كرها حتى ذهب لم يحنث الحالف لأنه حلف على فعل نفسه وهو مفارقته إياه ولم يوجد منه فعل المفارقة ولو كان قال لا تفارقني حتى آخذ ما لي عليك حنث لأنه حلف على فعل الغريم وقد وجد والله تعالى أعلم.

                                                           "فصل":
وأما الحلف على ما يضاف إلى غير الحالف بملك أو غيره فجملة الكلام فيه أن الحالف لا يخلو إما أن اقتصر على الإضافة وأما أن جمع بين الإضافة والإشارة والإضافة لا تخلو إما أن تكون إضافة ملك أو إضافة نسبة من غير ملك فإن اقتصر في يمينه على الإضافة والإضافة إضافة ملك فيمينه على ما في ملك فلان يوم فعل ما حلف عليه حتى يحنث سواء كان الذي أضافه إلى ملك فلان في ملكه يوم حلف أو لم يكن بأن حلف لا يأكل طعام فلان أو لا يشرب شراب فلان أو لا يدخل دار فلان أو لا يركب دابة فلان أو لا يلبس ثوب فلان أو لا يكلم عبد فلان ولم يكن شيء منها في ملكه ثم استحدث الملك فيها هذا جواب ظاهر الرواية في الأصل والزيادات وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عنه رواية أخرى أن الإضافة إذا كانت فيما يستحدث الملك فيه حالا فحالا في العادة فإن اليمين تقع على ما في ملكه يوم فعل كالطعام والشراب والدهن وإن كانت الإضافة فيما يستدام فيه الملك ولا يستحدث ساعة فساعة عادة فاليمين على ما كان في ملكه يوم حلف كالدار والعبد والثوب وذكر ابن سماعة في

 

ج / 3 ص -79-         نوادره عن محمد أن ذلك كله ما في ملكه يوم حلف ولا خلاف في أنه إذا حلف لا يكلم زوج فلانة أو امرأة فلان أو صديق فلان أو ابن فلان أو أخ فلان ولا نية له أن ذلك على ما كان يوم حلف ولا تقع على ما يحدث من الزوجية والصداقة والولد ففرق في ظاهر الرواية بين الإضافتين وسوى بينهما في النوادر وجه رواية النوادر أن الإضافة تقتضي الوجود حقيقة إذ الموجود يضاف لا المعدوم فلا تقع يمينه إلا على الموجود يوم الحلف ولهذا وقعت على الموجود في إحدى الإضافتين وهي إضافة النسبة كذا في الأخرى وجه ظاهر الرواية وهو الفرق بين الإضافتين أن في إضافة الملك عقد يمينه على مذكور مضاف إلى فلان بالملك مطلقا عن الجهة وهي أن يكون مضافا إليه بملك كان وقت الحلف أو بملك استحدث فلا يجوز تقييد المطلق إلا بدليل وقد وجدت الإضافة عند الفعل فيحنث وفي إضافة النسبة قام دليل التقييد وهي أن أعيانهم مقصودة باليمين لأجلهم عرفا وعادة لما تبين فانعقدت على الوجود وصار كما لو ذكرهم بأساميهم أو أشار إليهم فأما الملك فلا يقصد باليمين لذاته بل لمالك فيزول بزوال ملكه وأبو يوسف على ما روي عنه ادعى تقييد المطلق بالعرف. وقال استحداث الملك في الدار ونحوها غير متعارف بل هو في حكم الندرة حتى يقال الدار هي أول ما يشترى وآخر ما يباع وتقييد المطلق بالعرف جائز فتقييد اليمين فيها بالموجود وقت الحلف للعرف بخلاف الطعام والشراب ونحوهما لأن استحداث الملك فيها معتاد فلم يوجد دليل التقييد والجواب أن دعوى العرف على الوجه المذكور ممنوعة بل العرف مشترك فلا يجوز تقييد المطلق بعادة مشتركة ولو حلف لا يدخل دار فلان فالصحيح أنه على هذا الاختلاف لأن كل إضافة تقدر فيها اللام فكان الفصلان من الطعام والعبد ونحوهما على الاختلاف ثم في إضافة الملك إذا كان المحلوف عليه في ملك الحالف وقت الحلف فخرج عن ملكه ثم فعل لا يحنث بالإجماع. "وأما" في إضافة النسبة من الزوجة والصديق ونحوهما إذا طلق زوجته فبانت منه أو عادى صديقه ثم كلمه فقد ذكر في الجامع الصغير أنه لا يحنث وذكر في الزيادات أنه يحنث. وقيل ما ذكر في الجامع قول أبي حنيفة وأبي يوسف وما ذكر في الزيادات قول محمد المذكور في النوادر وجه المذكور في الزيادات أن يمينه وقعت على الموجود وقت الحلف فحصل تعريف الموجود بالإضافة فيتعلق الحكم بالعرف لا بالإضافة وجه ما ذكر في الجامع الصغير أن الإنسان قد يمنع نفسه عن تكليم امرأة لمعنى فيها وقد يمنع من تكليمها لمعنى في زوجها فلا يسقط اعتبار الإضافة مع لاحتمال وإن جمع بين الملك والإشارة بأن قال لا أكلم عبد فلان هذا أو لا أدخل دار فلان هذه أو لا أركب دابة فلان هذه أو لا ألبس ثوب فلان هذا فباع فلان عبده أو داره أو دابته أو ثوبه فكلم أو دخل أو ركب أو لبس لم يحنث في قول أبي حنيفة إلا أن يعني غير ذلك الشيء خاصة وعند محمد يحنث إلا أن يعني ما دامت ملكا لفلان فهما يعتبران الإشارة والإضافة جميعا وقت الفعل للحنث فما لم يوجدا لا يحنث ومحمد يعتبر الإشارة دون الإضافة "وأما" في إضافة النسبة فلا يشترط قيام الإضافة وقت الفعل للحنث بالإجماع حتى لو حلف لا يكلم زوجة فلان هذا أو صديق فلان هذا فبانت زوجته منه أو عادى صديقه فكلم يحنث. وجه قول محمد في مسألة الخلاف أن الإضافة والإشارة كل واحد منهما للتعريف والإشارة أبلغ في التعريف لأنها تخصص العين وتقطع الشركة فتلغو الإضافة كما في إضافة النسبة وكما لو حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعدما شاخ أنه يحنث لما قلنا كذا هذا ولهما أن الحالف لما جمع بين الإضافة والإشارة لزم اعتبارهما ما أمكن لأن تصرف العاقل واجب الاعتبار ما أمكن وأمكن اعتبار الإضافة ههنا مع وجود الإشارة لأنه باليمين منع نفسه عن مباشرته المحلوف والظاهر أن العاقل لا يمنع نفسه عن شيء منعا مؤكدا باليمين إلا لداع يدعوه إليه وهذه الأعيان لا تقصد بالمنع لذاتها بل لمعنى في المالك أما الدار ونحوها فلا شك فيه وكذا العبد لأنه لا يقصد بالمنع لخسته وإنما يقصد به مولاه وقد زال بزوال الملك عن المالك وصار كأنه قال مهما دامت لفلان ملكا بخلاف المرأة والصديق لأنهما يقصدان بالمنع لأنفسهما فتتعلق اليمين بذاتيهما والذات لا تتبدل بالبينونة والمعاداة فيحنث كما إذا حلف لا يكلم هذا الشاب فكلمه بعدما صار شيخا ولو حلف لا يكلم صاحب هذا الطيلسان فباع

 

ج / 3 ص -80-         الطيلسان فكلمه حنث لأن الطيلسان مما لا يقصد بالمنع وإنما يقصد ذات صاحبه وأنها باقية وذكر محمد في الزيادات إذا حلف لا يركب دواب فلان أو لا يلبس ثيابه أو لا يكلم غلمانه أن ذلك على ثلاثة لأن أقل الجمع الصحيح ثلاثة وكذلك لو قال لا آكل أطعمة فلان أو لا أشرب أشربة فلان أن ذلك على ثلاثة أطعمة وثلاثة أشربة لما قلنا ويعتبر قيام الملك فيها وقت الفعل لا وقت الحلف في ظاهر الروايات على ما بينا فإن قال أردت جميع ما في ملكه من الأطعمة لم يدين في القضاء لأنه خلاف ظاهر كلامه كذا ذكر القدوري وذكر في الزيادات أنه يدين في القضاء لأنه نوى حقيقة ما تلفظ به فيصدق في القضاء كما إذا حلف لا يتزوج النساء أو لا يشرب الماء أو لا يكلم الناس ونحو ذلك ونوى الجميع ولو كانت اليمين على إخوة فلان أو بني فلان أو نساء فلان لا يحنث ما لم يكلم الكل منهم عملا بحقيقة اللفظ ويتناول الموجودين وقت الحلف لأن هذه إضافة نسبة. وقال أبو يوسف إن كان ذلك مما يحصى فاليمين على جميع ما في ملكه لأنه صار معرفا بالإضافة ويمكن استيعابه فكان كالمعرف بالألف واللام وإن كان لا يحصى إلا بكتاب حنث بالواحد منه لأنه تعذر استغراق الجنس فيصرف إلى أدنى الجنس كقوله لا أتزوج النساء ومما يجانس مسائل الفصل الأول ما قال خلف بن أيوب سألت أسدا عن رجل حلف لا يتزوج بنت فلان أو بنتا لفلان فولدت له بنت ثم تزوجها أو قال والله لا أتزوج من بنات فلان ولا بنات له ثم ولد له أو قال والله لا أشرب من لبن بقرة فلان ولا بقرة له ثم اشترى بقرة فشرب من لبنها أو قال لصبي صغير والله لا أتزوج من بناتك فبلغ فولد له فتزوج منهن أيحنث أم لا ؟, وقال لا آكل من ثمرة شجرة فلان ولا شجرة لفلان ثم اشترى شجرة فأكل من ثمرها قال أما إذا حلف لا يتزوج بنت فلان ولا يشرب من لبن بقرة فلان ولا يأكل من ثمرة شجرة فلان فلا يحنث في شيء من هذا "وأما" قوله لا أتزوج بنتا من بنات فلان أو بنتا لفلان فإنه يحنث وتلزمه اليمين في قول أبي حنيفة "وأما" أنا فأقول لا يحنث لأنه حلف يوم حلف على ما لم يخلق حال حلف وسألت الحسن فقال مثل قول أبي حنيفة لأبي حنيفة أن قوله لا أتزوج بنت فلان يقتضي بنتا موجودة في الحال فلم تعقد اليمين على الإضافة وإذا قال بنتا لفلان فقد عقد اليمين على الإضافة فيعتبر وجودها يوم الحلف كقوله عبدا لفلان "وأما" أسد فاعتبر وجود المحلوف عليه وقت اليمين فما كان معدوما لا تصح الإضافة فيه فلا يحنث. وقال خلف سألت أسدا عن رجل حلف لا يتزوج امرأة من أهل هذه الدار وليس للدار أهل ثم سكنها قوم فتزوج منهم قال يحنث في قول أبي حنيفة ولا يحنث في قولي وهو على ما بينا من اعتبار الإضافة.

                                                       "فصل":
وأما الحلف على ما يخرج منه الحالف أو لا يخرج إذا قال إن دخل داري هذه أحد أو ركب دابتي أو ضرب عبدي ففعل ذلك الحالف لم يحنث لأن قوله أحد نكرة والحالف صار معرفة بياء الإضافة والمعرفة لا تدخل تحت النكرة لأن المعرفة ما يكون متميز الذات من بني جنسه والنكرة ما لا يكون متميز الذات عن بني جنسه بل يكون مسماه شائعا في جنسه أو نوعه ويستحيل أن يكون الشيء الواحد متميز الذات وغير متميز الذات وكذلك لو قال لرجل إن دخل دارك هذه أحد أو لبس ثوبك أو ضرب غلامك ففعله المحلوف عليه لم يحنث لأن المحلوف صار معرفة بكاف الخطاب فلا يدخل تحت النكرة وإن فعله الحالف حنث لأنه ليس بمعرفة لانعدام ما يوجب كونه معرفة فجاز أن يدخل تحت النكرة. ولو قال إن ألبست هذا القميص أحدا فلبسه المحلوف عليه لم يحنث لأنه صار معرفة بتاء الخطاب وإن ألبسه المحلوف عليه الحالف حنث لأن الحالف نكرة فيدخل تحت نكرة وإن قال إن مس هذا الرأس أحد وأشار إلى رأسه لم يدخل الحالف فيه وإن لم يضفه إلى نفسه بياء الإضافة لأن رأسه متصل به خلقة فكان أقوى من إضافته إلى نفسه بياء الإضافة ولو قال إن كلم غلام عبد الله بن محمد أحدا فعبدي حر فكلم الحالف وهو غلام الحالف واسمه عبد الله بن محمد حنث وطعن القاضي أبو حازم عبد الحميد العراقي في هذا في الجامع. وقال ينبغي أن لا يحنث لأن الحلف تحت اسم العلم والأعلام معارف وهي عند أهل النحو أبلغ في التعريف من الإشارة والمعرفة لا تدخل تحت النكرة وكذا عرفه بالإضافة إلى أبيه بقوله ابن محمد فامتنع دخوله تحت النكرة وجه ظاهر الرواية أنه

 

ج / 3 ص -81-         يجوز استعمال العلم في موضع النكرة لأن اسم الأعلام وإن كانت معارف لكن لا بد من سبق المعرفة من المتكلم والسامع حتى يجعل هذا اللفظ علما عنده وعند سبق المعرفة منهما بذلك إما بتعين المسمى بالعلم باسمه إذا لم يكن يزاحمه غيره والعلم واحتمال المزاحمة ثابت وإذا جاز استعمال العلم في موضع النكرة وقد وجد ههنا دليل انصراف التسمية إلى غير الحالف وهو أن الإنسان في العرف الظاهر من أهل اللسان أنه لا يذكر نفسه باسم العلم بل يضيف غلامه إليه بياء الإضافة فيقول غلامي فالظاهر أنه لم يرد نفسه وأنه ما دخل تحت العلم الذي هو معرفة فلم يخرج الحالف عن عموم هذه النكرة.

                                                             "فصل":
وأما النوع الثاني وهو الحلف على أمور شرعية وما يقع منها على الصحيح والفاسد أو على الصحيح دون الفاسد مثل البيع والشراء والهبة والمعارضة والعارية والنحلة والعطية والصدقة والقرض والتزويج والصلاة والصوم ونحو ذلك إذا حلف لا يشتري ذهبا ولا فضة فاشترى دراهم أو دنانير أو آنية أو تبرا أو مصوغ حلية أو غير ذلك مما هو ذهب أو فضة فإنه يحنث في قول أبي يوسف. وقال محمد لا يحنث في الدراهم والدنانير والأصل في جنس هذه المسائل أن أبا يوسف يعتبر الحقيقة ومحمد يعتبر العرف لمحمد أن اسم الذهب والفضة إذا أطلق لا يراد به الدرهم والدنانير في العرف ألا ترى أنها اختصت باسم على حدة فلا يتناولها مطلق اسم الذهب والفضة ولأبي يوسف أن اسم الذهب والفضة يقع على الكل لأنه اسم جنس وكونه مضروبا ومصوغا وتبرا أسماء أنواع له واسم الجنس يتناول الأنواع كاسم الآدمي والدليل عليه قوله تعالى:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} فدخل تحت هذا الوعيد كأثر المضروب وغيره. ولو حلف لا يشتري حديدا فهو على مضروب ذلك وتبره سلاحا كان أو غير سلاح بعد أن يكون حديدا في قول أبي يوسف. وقال محمد إن اشترى شيئا من الحديد يسمى بائعه حدادا يحنث وإن كان بائعه لا يسمى حدادا لا يحنث وبائع التبر لا يسمى حدادا فلا يتناولها مطلق اسم الحديد ولها اسم يخصها فلا يدخل تحت اليمين ولأبي يوسف أن الحديد اسم جنس فيتناول المعمول وغير المعمول. وقال أبو يوسف في باب الذهب والفضة إنه إن كان له نية دين فيما بينه وبين الله سبحانه. والنية في هذا واسعة لأنها تخصيص المذكور. وقال في باب الحديد لو قال عنيت التبر فاشترى إناء لم يحنث ولو قال عنيت قمقما فاشترى سيفا أو إبرا أو سكاكين أو شيئا من السلاح لم يحنث ويدين في القضاء وهذا مشكل على مذهبه لأن الاسم عنده عام فإذا نوى شيئا منه بعينه فقد عدل عن ظاهر العموم فينبغي أن لا يصدق في القضاء وإن صدق فيما بينه وبين الله تعالى. وقال محمد في الزيادات لو حلف لا يشتري حديدا ولا نية له فاشترى درع حديد أو سيفا أو سكينا أو ساعدين أو بيضة أو إبرا أو مسال لا يحنث وإن اشترى شيئا غير مضروب أو إناء من آنية الحديد أو مسامير وأقفالا أو كانون حديد يحنث قال لأن الذي يبيع السلاح والإبر والمسال لا يسمى حدادا والذي يبيع ما وصفت لك يسمى حدادا. وقال أبو يوسف إن اشترى باب حديد أو كانون حديد أو إناء حديد مكسور أو نصل سيف مكسور حنث فأبو يوسف اعتبر الحقيقة وهو أن ذلك كله حديد فتناوله اليمين ومحمد اعتبر العرف وهو أنه لا يسمى حديدا في العرف حتى لا يسمى بائعه حدادا قال أبو يوسف. ولو حلف لا يشتري صفرا فاشترى طشت صفر أو كوزا أو تورا حنث وكذلك عند محمد أما عند أبي يوسف فلاعتبار الحقيقة "وأما" عند محمد فلأن بائع ذلك يسمى صفارا. وقال محمد لو اشترى فلوسا لا يحنث لأنها لا تسمى صفرا في كلام الناس.
ولو حلف لا يشتري صوفا فاشترى شاة على ظهرها صوف لم يحنث والأصل فيه أن من حلف لا يشتري شيئا فاشترى غيره ودخل المحلوف عليه في البيع تبعا لم يحنث وإن دخل مقصودا يحنث والصوف ههنا لم يدخل في العقد مقصودا لأن التسمية لم تتناول الصوف وإنما دخل في العقد تبعا للشاة وكذلك لو حلف لا يشتري آجرا أو خشبا أو قصبا فاشترى دارا لم يحنث لأن البناء يدخل في العقد تبعا لدخوله في العقد بغير تسمية فلم يكن مقصودا بالعقد وإنما يدخل فيه تبعا وإن حلف لا يشتري ثمر نخل فاشترى أرضا فيها نخل مثمرة وشرط المشتري الثمرة يحنث لأن الثمرة دخلت في العقد مقصودة

 

ج / 3 ص -82-         لا على وجه التبع ألا ترى أنه لو لم يسمها لا تدخل في البيع؟ وكذلك لو حلف لا يشتري بقلا فاشترى أرضا فيها بقل واشترط المشتري البقل فإنه يحنث لدخول البقل في البيع مقصودا لا تبعا ولو حلف لا يشتري لحما فاشترى شاة حية لا يحنث لأن العقد يتناول لحمها لأن لحم الشاة الحية محرم لا يجوز العقد عليه. وكذلك إن حلف أن لا يشتري زيتا فاشترى زيتونا لأن العقد لم يقع على الزيت ألا ترى أنه ليس في ملك البائع؟ وعلى هذا قالوا فيمن حلف لا يشتري قصبا ولا خوصا فاشترى بوريا أو زنبيلا من خوص لم يحنث لأن الاسم لم يتناول ذلك وكذلك لو حلف لا يشتري جديا فاشترى شاة حاملا بجدي وكذلك لو حلف لا يشتري لبنا فاشترى شاة في ضرعها لبن وكذلك لو حلف لا يشتري مملوكا صغيرا فاشترى أمة حاملا وكذلك لو حلف لا يشتري دقيقا فاشترى حنطة وقالوا لو حلف لا يشتري شعيرا فاشترى حنطة فيها شعير لم يحنث لأن الشعير ليس بمعقود عليه مقصودا وإنما يدخل في العقد تبعا بخلاف ما إذا حلف لا يأكل شعيرا فأكل حنطة فيها شعير لأن الأكل فعل فإذا وقع في عينين لم تتبع إحداهما الأخرى. فأما الشراء فهو عقد وبعض العين مقصودة بالعقد وبعضها غير مقصودة وقد كان قول أبي يوسف الأول أنه إذا حلف لا يشتري صوفا فاشترى شاة على ظهرها صوف يحنث. ولو حلف لا يشتري لبنا فاشترى شاة في ضرعها لبن لم يحنث. وقال لأن الصوف ظاهر فتناوله العقد "وأما" اللبن فباطن فلم يتناوله ثم رجع فسوى بينهما لما بينا. ولو حلف لا يشتري دهنا فهو على دهن جرت عادة الناس أن يدهنوا به فإن كان مما ليس في العادة أن يدهنوا به مثل الزيت والبزر ودهن الأكارع لم يحنث لأن الدهن عبارة عما يدهن به والإيمان محمولة على العادة فحملت اليمين على الأدهان الطيبة وإن حلف لا يدهن بدهن ولا نية له فادهن بزيت حنث وإن ادهن بسمن لم يحنث لأن الزيت لو طبخ بالطيب صار دهنا فأجراه مجرى الأدهان من وجه ولم يجره مجراها من وجه حنث قال في الشراء لا يحنث وفي الأدهان يحنث. فأما السمن فإنه لا يدهن به بحال في الوجهين فلم يحنث. وكذلك دهن الخروع والبزور ولو اشترى زيتا مطبوخا ولا نية له حين حلف يحنث لأن الزيت مطبوخ بالنار والزئبق دهن يدهن به كسائر الأدهان ولو حلف لا يشتري بنفسجا أو حناء أو حلف لا يشمهما فهو على الدهن والورق في البابين جميعا وقد ذكر في الأصل إذا حلف لا يشتري بنفسجا أنه على الدهن دون الورق وهذا على عادة أهل الكوفة لأنهم إذا أطلقوا البنفسج أرادوا به الدهن. فأما في غير عرف الكوفة فالاسم على الورق فتحمل اليمين عليه والكرخي حمله عليهما وهو رواية عن أبي يوسف "وأما" الحناء والورد فهو على الورق دون الدهن إلا أن ينوي الدهن فيدين فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء لأن اسم الورد والحناء إذا أطلق يراد به الورق لا الدهن وذكر في الجامع الصغير أن البنفسج على الدهن والورد على ورق الورد وجعل في الأصل الخيري مثل الورد والحناء فحمله على الورق ولو حلف لا يشتري بزرا فاشترى دهن بزر حنث وإن اشترى حبا لم يحنث لأن إطلاق اسم البزر يقع على الدهن لا على الحب. ولو حلف لا يبيع أو لا يشتري فأمر غيره ففعل فجملة الكلام فيمن حلف على فعل فأمر غيره ففعل إن فعل المحلوف عليه لا يخلو إما أن يكون له حقوق أو لا حقوق له فإن كان له حقوق. فإما أن ترجع إلى الفاعل أو إلى الآمر أو لا فإن كان له حقوق ترجع إلى الفاعل كالبيع والشراء والإجارة والقسمة لا يحنث لأن حقوق هذه العقود إذا كانت راجعة إلى فاعلها لا إلى الآمر بها كانت العقود مضافة إلى الفاعل لا إلى الآمر على أن الفاعل هو العاقد في الحقيقة لأن العقد فعله وإنما للآمر حكم العقد شرعا لا لفعله. وعند بعض مشايخنا يقع الحكم له ثم ينتقل إلى الآمر فلم يوجد منه فعل المحلوف عليه فلا يحنث إلا إذا كان الحالف ممن لا يتولى العقود بنفسه فيحنث بالأمر لأنه إنما يمتنع عما يوجد منه عادة وهو الآمر بذلك لا الفعل بنفسه ولو كان الوكيل هو الحالف قالوا يحنث لما ذكرنا أن الحقوق راجعة إليه وأنه هو العاقد حقيقة لا الآمر وإن كانت حقوقه راجعة إلى الآمر أو كان مما لا حقوق له كالنكاح والطلاق والعتاق والكتابة والهبة والصدقة والكسوة والاقتضاء والقضاء

 

ج / 3 ص -83-         والحقوق والخصومة والشركة بأن حلف لا يشارك رجلا فأمر غيره فعقد عقد الشركة والذبح والضرب والقتل والبناء والخياطة والنفقة ونحوها فإذا حلف لا يفعل شيئا من هذه الأشياء ففعله بنفسه أو أمر غيره حنث لأن ما لا حقوق له أو ترجع حقوقه إلى الآمر لا إلى الفاعل يضاف إلى الآمر لا إلى الفاعل ألا ترى أن الوكيل بالنكاح لا يقول تزوجت وإنما يقول زوجت فلانا والوكيل بالطلاق يقول طلقت امرأة فلان فكان فعل المأمور مضافا إلى الآمر واختلفت الرواية عن أبي يوسف في الصلح. روى بشر بن الوليد عنه أن من حلف لا يصالح فوكل بالصلح لم يحنث لأن الصلح عقد معاوضة كالبيع وروى ابن سماعة عنه أنه يحنث لأن الصلح إسقاط حق كالإبراء فإن قال الحالف فيما لا ترجع حقوقه إلى الفاعل بل إلى الآمر كالنكاح والطلاق والعتاق نويت أن ألي ذلك بنفسي يدين فيما بينه وبين الله تعالى ولا يدين في القضاء لأن هذه الأفعال جعلت مضافة إلى الآمر لرجوع حقوقها إليه لا إلى الفاعل وقد نوى خلاف ذلك الظاهر فلا يصدق في القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى لأنه نوى المحتمل وإن كان خلاف الظاهر. ولو قال فيما لا حقوق له من الضرب والذبح عنيت أن ألي ذلك بنفسي يصدق فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء أيضا لأن الضرب والذبح من الأفعال الحقيقية وأنه بحقيقته وجد من المباشر وليس بتصرف حكي فيه لتغيير وقوعه حكما لغير المباشر فكانت العبرة فيه للمباشرة فإذا نوى به أن يلي بنفسه فقد نوى الحقيقة فيصدق قضاء وديانة ولو حلف لا يبيع من فلان شيئا فأوجب البيع لا يحنث ما لم يقبل المشتري ولو حلف لا يهب لفلان شيئا أو لا يتصدق عليه أو لا يعيره أو لا ينحل له أو لا يعطيه ثم وهب له أو تصدق عليه أو أعاره أو نحله أو أعطاه فلم يقبل المحلوف عليه يحنث عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر لا يحنث ونذكر المسألة والفرق بين الهبة وأخواتها وبين البيع في كتاب الهبة إن شاء الله تعالى "وأما" القرض فقد روي عن محمد أنه لا يحنث ما لم يقبل وعن أبي يوسف روايتان في رواية مثل قول محمد وفي رواية يحنث من غير قبول وجه هذه الرواية أن القرض لا تقف صحته على تسمية عوض فأشبه الهبة وجه الرواية الأخرى أن القرض يشبه البيع لأنه تمليك بعوض. وقد قال أبو يوسف على هذه الرواية لو حلف لا يستقرض من فلان شيئا فاستقرضه فلم يقرضه أنه حانث فرق بين القرض وبين الاستقراض لأن الاستقراض ليس بقرض بل هو طلب القرض كالسوم في باب البيع ولو حلف لا يبيع فباع بيعا فاسدا وقبل المشتري وقبض يحنث لأن اسم البيع يتناول الصحيح والفاسد وهو مبادلة شيء مرغوب بشيء مرغوب ولأن المقصود من البيع هو الوصول إلى العوض وهذا يحصل بالبيع الفاسد إذا اتصل به القبض لأنه يفيد الملك بعد القبض ولو باع بالميتة والدم لا يحنث لأنه ليس ببيع لانعدام معناه وهو ما ذكرنا ولانعدام حصول المقصود منه وهو الملك لأنه لا يقبل الملك ولو باع بيعا فيه خيار للبائع أو للمشتري لم يحنث في قول أبي يوسف وحنث في قول محمد وجه قول محمد أن اسم البيع كما يقع على البيع الثابت يقع على البيع الذي فيه خيار فإن كل واحد منهما يسمى بيعا في العرف إلا أن الملك فيه يقف على أمر زائد وهو الإجازة أو على سقوط الخيار فأشبه البيع الفاسد ولأبي يوسف أن شرط الخيار يمنع انعقاد البيع في حق الحكم فأشبه الإيجاب بدون القبول قال محمد سمعت أبا يوسف قال فيمن قال إن اشتريت هذا العبد فهو حر فاشتراه على أن البائع بالخيار ثلاثة أيام فمضت المدة الثلاث ووجب البيع يعتق وإنه على أصله صحيح لأن اسم البيع عنده لا يتناول البيع المشروط فيه الخيار فلا يصير مشتريا بنفس القبول بل عند سقوط الخيار والعبد في ملكه عند ذلك يعتق وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي في البيع بشرط خيار البائع أو المشتري أنه يحنث ولم يذكر الخلاف وأصل فيه أصلا وهو أن كل بيع يوجب الملك أو تلحقه الإجازة يحنث به وما لا فلا هذا إذا حلف على البيع والشراء بطلاق امرأته أو عتاق عبده بأن قال لامرأته: أنت طالق أو عبده حر. فأما إذا حلف على ذلك بعتق العبد المشترى أو المبيع فإن كان الحلف على الشراء بأن قال إن اشتريت هذا العبد فهو حر فاشتراه ينظر إن اشتراه شراء جائزا باتا عتق بلا شك وكذلك لو كان المشتري فيه بالخيار أما على قولهما فلا يشكل لأن خيار المشتري لا يمنع وقوع الملك له وأما على قول أبي حنيفة

 

ج / 3 ص -84-         فلأن المعلق بالشرط يصير كالمتكلم به عند الشرط فيصير كأنه أعتقه بعد ما اشتراه بشرط الخيار ولو أعتقه يعتق لأن إقدامه على الإعتاق يكون فسخا للخيار ولو اشتراه على أن البائع فيه بالخيار لا يعتق لأنه لم يملكه لأن خيار البائع يمنع زوال المبيع عن ملكه بلا خلاف وسواء أجاز البائع البيع أو لم يجز لأنه ملكه بالإجازة لا بالعقد وذكر الطحاوي أنه إذا أجاز البائع البيع يعتق لأن الملك يثبت عند الإجازة مستندا إلى وقت العقد بدليل أن الزيادة الحادثة بعد العتق قبل الإجازة تدخل في العقد هذا كله إن اشتراه شراء صحيحا فإن اشتراه شراء فاسدا فإن كان في يد البائع لا يعتق لأنه على ملك البائع بعد وإن كان في يد المشتري وكان حاضرا عنده وقت العقد لأنه صار قابضا له عقيب العقد فملكه وإن كان غائبا في بيته أو نحوه فإن كان مضمونا بنفسه كالمغصوب يعتق لأنه ملكه بنفس الشراء وإن كان أمانة أو كان مضمونا بغيره كالرهن لا يعتق لأنه لا يصير قابضا عقيب العقد هذا إذا كان الحلف على الشراء فإن كان على البيع فقال إن بعتك فأنت حر فباعه بيعا جائزا أو كان المشتري بالخيار لا يعتق لأنه زال ملكه عنه بنفس العقد والعقد لا يصح بدون الملك وإن كان الخيار للبائع يعتق لأنه كان في ملكه وقد وجد شرطه فيعتق ولو باعه بيعا فاسدا فإن كان في يد البائع أو في يد المشتري غائبا عنه بأمانة أو برهن يعتق لأنه لم يزل ملكه عنه وإن كان في يد المشتري حاضرا أو غائبا مضمونا بنفسه لا يعتق لأنه بالعقد زال ملكه عنه. ولو حلف لا يتزوج هذه المرأة فهو على الصحيح دون الفاسد حتى لو تزوجها نكاحا فاسدا لا يحنث لأن المقصود من النكاح الحل ولا يثبت بالفاسد لأنه لا يثبت بسببه وهو الملك بخلاف البيع فإن المقصود منه الملك وإنه يحصل بالفاسد وكذلك لو حلف لا يصلي ولا يصوم فهو على الصحيح حتى لو صلي بغير طهارة أو صام بغير نية لا يحنث لأن المقصود منه التقرب إلى الله سبحانه وتعالى ولا يحصل ذلك بالفاسد ولو كان ذلك كله في الماضي بأن قال إن كنت صليت أو صمت أو تزوجت فهو على الصحيح والفاسد. لأن الماضي لا يقصد به الحل والتقرب وإنما يقصد به الإخبار عن المسمى بذلك والاسم يطلق على الصحيح والفاسد فإن عنى به الصحيح دين في القضاء لأنه النكاح المعنوي. ولو حلف لا يصلي فكبر ودخل في الصلاة لم يحنث حتى يركع ويسجد سجدة استحسانا والقياس أن يحنث بنفس الشروع لأنه كما شرع فيه يقع عليه اسم المصلي فيحنث كما لو حلف لا يصوم فنوى الصوم وشرع فيه وجه الاستحسان وهو الفرق بين الصلاة وبين الصوم أن الحالف جعل شرط جنسه فعل الصلاة والصلاة في عرف الشرع اسم لعبادة متركبة من أفعال مختلفة من القيام والقراءة والركوع والسجود والمتركب من أجزاء مختلفة لا يقع اسم كله على بعضه كالسكنجبين ونحو ذلك فما لم توجد هذه الأفعال لا يوجد فعل الصلاة بخلاف الصوم لأن بصوم ساعة يحصل فعل صوم كامل لأنه اسم لعبادة مركبة من أجزاء متفقة وهي الإمساكات وما هذا حاله فاسم كله ينطلق على بعضه حقيقة كاسم الماء أنه كما ينطلق على ماء البحر ينطلق على قطرة منه وقطرة من خل من جملة دن من خل أنه يسمى خلا حقيقة فإذا صام ساعة فقد وجد منه فعل الصوم الذي منع نفسه منه فيحنث وبخلاف ما لو حلف لا يصلى صلاة أنه لا يحنث حتى يصلي ركعتين لأنه لما ذكر الصلاة فقد جعل شرط الحنث ما هو صلاة شرعا وأقل ما اعتبره الشرع من الصلاة ركعتان بخلاف الفصل الأول لأن ثمة شرط الحنث هناك فعل الصلاة وفعل الصلاة يوجد بوجود هذه الأفعال وما يوجد بعد ذلك إلى تمام ما يصير عبادة معهودة معتبرة شرعا تكرار لهذه الأفعال فلا تقف تسمية فعل الصلاة على وجوده وقد وجد ذلك كله في آية واحدة من كتاب الله عز وجل وهو قوله تعالى: {وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ} وأراد به الركعتين جميعا لأنه ورد في صلاة السفر ثم قال: {وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ} وأراد به ركعة واحدة لأن الطائفة الثانية لا يصلون إلا ركعة واحدة. ولو حلف لا يصوم يوما لا يحنث حتى يصوم يوما تاما لأنه جعل شرط الحنث صوما مقدرا باليوم لأنه جعل كل اليوم ظرفا له ولا يكون كل اليوم ظرفا له إلا باستيعاب الصوم جميع اليوم وكذا لو حلف لا يصوم صوما لأنه ذكر المصدر وهو الصوم والصوم اسم لعبادة مقدرة باليوم شرعا فيصرف إلى المعهود المعتبر في الشرع

 

ج / 3 ص -85-         بخلاف ما إذا حلف لا يصوم لأنه جعل فعل الصوم شرطا وبصوم ساعة واحدة وجد فعل الصوم ولو حلف لا يصلي الظهر لا يحنث حتى يتشهد بعد الأربع لأن الظهر أربع ركعات فما لم توجد الأربع لا توجد الظهر فلا يحنث ولو قال عبده حر إن أدرك الظهر مع الإمام فأدركه في التشهد ودخل معه حنث لأن إدراك الشيء لحوق آخره يقال أدرك فلان زمن النبي صلى الله عليه وسلم ويراد به لحوق آخره وروي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "من أدرك الإمام يوم الجمعة في التشهد فقد أدرك الجمعة" وروي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه انتهى يوما إلى الإمام فأدركه في التشهد فقال الله أكبر أدركنا معه الصلاة ولو حلف لا يصلي الجمعة مع الإمام فأدرك معه ركعة فصلاها معه ثم سلم الإمام وأتم هو الثانية لا يحنث لأنه لم يصل الجمعة مع الإمام إذ هي اسم للكل وهو ما صلى الكل مع الإمام ولو افتتح الصلاة مع الإمام ثم نام أو أحدث فذهب وتوضأ فجاء وقد سلم الإمام فاتبعه في الصلاة حنث وإن لم يوجد أداء الصلاة مقارنا للإمام لأن كلمة مع ههنا لا يراد بها حقيقة القرآن بل كونه تابعا له مقتديا به ألا ترى أن أفعاله وانتقاله من ركن إلى ركن لو حصل على التعاقب دون المقارنة عرف مصليا معه كذا ههنا وقد وجد لبقائه مقتديا به تابعا له ولو نوى حقيقة المقارنة صدق فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء لأنه نوى حقيقة كلامه. ولو حلف لا يحج حجة أو قال لا أحج ولم يقل حجة لم يحنث حتى يطوف أكثر طواف الزيادة لأن حجة اسم لعبادة ركبت من أجناس أفعال كالصلاة من الوقوف بعرفة وطواف الزيارة فما لم يوجد كل الطواف أو أكثره لا يوجد الحج فإن جامع فيها لا يحنث لأن الحج عبادة فيقع اليمين على الصحيح منه كالصلاة ولو حلف لا يعتمر فأحرم وطاف أربعة أشواط حنث لأن ركن العمرة هو الطواف وقد وجد لأن للأكثر حكم الكل. قال ابن سماعة سمعت أبا يوسف قال في رجل قال إن تزوجت امرأة بعد امرأة فهي طالق فتزوج واحدة ثم ثنتين في عقدة فإنه يقع الطلاق على إحدى الأخيرتين لأنه قد تزوج امرأة بعد امرأة وإن كان معها غيرها فوقع الطلاق على إحداهما فكان له التعيين ولو تزوج امرأتين في عقدة ثم تزوج امرأة بعدهما طلقت الأخيرة لأنه قد تزوج بها بعد امرأة والأوليان كل واحدة منهما لا توصف بأنها بعد الأخرى فكانت الأخرى هي المستحقة للشرط ولو قال إن تزوجت امرأة فهي طالق فتزوج صبية طلقت لأن غرضه بهذه اليمين هو الامتناع من النكاح فيتناول البالغة والصبية فصار قوله امرأة كقوله أنثى قال ابن سماعة عنه إن قال إن تزوجت امرأتين في عقدة فهما طالقتان فتزوج ثلاثا في عقدة فإنه تطلق امرأتان من نسائه فوقع على ثنتين من الثلاث لأنه قد تزوج باثنتين وإن كان معهما ثالثة وليس أحداهن بالطلاق بأولى من الأخرى فيرجع إلى تعيينه قال ابن سماعة عن أبي يوسف في نوادره في رجل قال والله لا أزوج ابنتي الصغيرة فتزوجها رجل بغير أمره فأجاز قال هو حانث لأن حقوق العقد لا تتعلق بالعاقد فتتعلق بالمجيز ولو حلف لا يزوج ابنا له كبيرا فأمر رجلا فزوجه ثم بلغ الابن فأجاز أو زوجه رجل وأجاز الأب ورضي الابن لم يحنث لأن حقوق العقد لما لم تتعلق بالعاقد تعلقت بالمجيز فنسب العقد إليه. هشام عن محمد في نوادره في رجل حلف بطلاق امرأته ثلاثا لا يزوج بنتا له صغيرة فزوجها رجل من أهله أو غريب والأب حاضر ذلك المجلس حين زوجت إلا أنه ساكت حتى قال الذي زوج للذي خطب قد زوجتكها. وقال الآخر قد قبلت والأب ساكت ثم قال بعدما وقعت عقدة النكاح وهو في ذلك المجلس قد أجزت النكاح فزعم محمد أنه لا يحنث لأن الذي زوج غيره وإنما أجازه هو وكذلك إذا حلف على أمته لأنه حلف على التزويج والإجازة تسمى نكاحا وتزويجا فقد فعل ما لم يتناوله الاسم فلا يحنث. وقال ابن سماعة عن محمد في نوادره في رجل تزوج امرأة بغير أمرها زوجه وليها ثم حلف المتزوج أن لا يتزوجها أبدا ثم بلغها فرضيت بالنكاح أو كان رجل زوجها منه وهو لا يعلم ثم حلف بعد ذلك أنه لا يتزوجها ثم بلغه النكاح فأجاز لم يحنث في واحد من الوجهين لأنه لم يتزوج بعد يمينه أنما أجاز نكاحا قبل يمينه أو أجازته المرأة قال ابن سماعة عن محمد لو قال لا أتزوج فلانة بالكوفة فزوجها أبوها إياه بالكوفة ثم أجازت ببغداد كان حانثا وإنما أجاز الساعة بإجازتها النكاح الذي كان بالكوفة وكذلك قال في الجامع لما ذكرنا أن الإجازة ليست بنكاح لأن النكاح هو الإيجاب والقبول

 

ج / 3 ص -86-         فعند انضمام الإجازة إليهما كان النكاح حاصلا بالكوفة فوجد شرط الحنث فيحنث وقال ابن سماعة عن محمد في رجل قال إن تزوجت فلانة فهي طالق فصار معتوها فزوجه إياها أبوه قال هو حانث لأن حقوق العقد في النكاح ترجع إلى المعقود له فكان هو المتزوج فحنث قال المعلى سألت محمدا عن امرأة حلفت لا تزوج نفسها من فلان فزوجها منه رجل بأمرها فهي حانثة وكذلك لو زوجها رجل فرضيت وكذلك لو كانت بكرا فزوجها أبوها فسكتت لأن العقد لما جاز برضاها وحقوقه تتعلق بها فصار كأنها عقدت بنفسها وهذه الرواية تخالف ما ذكرنا من رواية هشام وكذلك لو حلف لا يأذن لعبده في التجارة فرآه يشتري ويبيع أنه إن سكت كان حانثا في يمينه لأن السكوت إذن منه فكأنه إذن منه له بالنطق. وروى بشر بن الوليد وعلي بن الجعد عن أبي يوسف أنه لا يحنث لأن السكوت ليس بإذن وإنما هو إسقاط حقه عن المنع من تصرف العبد ثم العبد يتصرف بمالكية نفسه بعد زوال الحجر فإن حلف لا يسلم لفلان شفعة فبلغه أنه اشترى دارا هو شفيعها فسكت لا يحنث لأن الساكت ليس بمسلم وإنما هو مسقط حقه بالإعراض عن الطلب. قال عمرو عن محمد في رجل حلف لا يزوج عبده فتزوج العبد بنفسه ثم أجاز المولى يحنث. ولو حلف الأب لا يزوج ابنته فزوجها عمها وأجاز الأب لم يحنث لأن غرض المولى باليمين أن لا تتعلق برقبة عبده حقوق النكاح وقد علق بالإجازة وغرض الأب أن لا يفعل ما يسمى نكاحا والإجازة ليست بنكاح. وقال علي وبشر عن أبي يوسف لو حلف لا يؤخر عن فلان حقه شهرا وسكت عن تقاضيه حتى مضى الشهر لم يحنث وهذا قول أبي حنيفة لأن التأخير هو التأجيل وترك التقاضي ليس بتأجيل قال ولو أن امرأة حلفت لا تأذن في تزويجها وهي بكر فزوجها أبوها فسكتت فإنها لا تحنث والنكاح لها لازم لأن السكوت ليس بإذن حقيقة وإنما أقيم مقام الإذن بالسنة وروى بشر عن أبي يوسف إذا حلف لا يبيع ثوبه إلا بعشرة دراهم فباعه بخمسة ودينار حنث لأنه منع نفسه عن كل بيع واستثنى بيعه بصفة وهو أن يكون بعشرة ولم يوجد فبقي تحت المستثنى منه فإن باعه بعشرة دنانير لم يحنث لأنه باعه بعشرة وبغيرها والعشرة مستثنى. وروى هشام عن أبي يوسف في رجل قال والله لا أبيعك هذا الثوب بعشرة حتى تزيدني فباعه بتسعة لا يحنث في القياس وفي الاستحسان يحنث وبالقياس آخذ "وجه" القياس أن شرط حنثه البيع بعشرة وما باع بعشرة بل بتسعة "وجه" الاستحسان أن المراد من مثل هذا الكلام في العرف أن لا يبيعه إلا بالأكثر من عشرة وقد باعه لا بأكثر من عشرة فيحنث. وقال المعلى عن محمد إذا حلف لا يبيع هذا الثوب بعشرة إلا بزيادة قال إن باعه بأقل من عشرة أو بعشرة فإنه حانث. وهذا بمنزلة قوله لا أبيعه إلا بزيادة على عشرة لأنه منع نفسه من كل بيع واستثنى بيعا واحدا وهو الذي يزيد ثمنه على عشرة أن معنى قوله لا أبيع هذا الثوب بعشرة إلا بزيادة أي لا أبيعه إلا بزيادة على العشرة ليصح الاستثناء وما باعه بزيادة على عشرة فيحنث ولو قال حتى ازداد فباعه بعشرة حنث وإن باعه بأقل أو أكثر لم يحنث لأنه حلف على بيع بصفة وهو أن يكون بعشرة فإذا باع بتسعة لم يوجد البيع المحلوف عليه ولو قال عبده حر إن اشتراه باثني عشر فاشتراه بثلاثة عشر دينارا حنث لأنه اشتراه بما حلف عليه وإن كان معه زيادة. ولو قال أول عبد أشتريه فهو حر أو آخر عبد أو أوسط عبد فالأول اسم لفرد سابق والآخر من المحدثات اسم لفرد لاحق والأوسط اسم لفرد اكتنفته حاشيتان متساويتان إذا عرف هذا فنقول إذا قال أول عبد أشتريه فهو حر فاشترى عبدا واحدا بعد يمينه عتق لأنه أول عبد اشتراه لكونه فردا لم يتقدمه غيره في الشراء فإن اشترى عبدا ونصف عبد عتق العبد الكامل لا غير لأن نصف العبد لا يسمى عبدا فصار كما لو اشترى عبدا وثوبا بخلاف ما إذا قال أول كر أشتريه صدقة فاشترى كرا ونصفا لم يتصدق بشيء لأن الكر ليس بأول بدليل أنا لو عزلنا كرا فالنصف الباقي مع نصف المعزول يسمى كرا فلم يكن هذا أول كر اشتراه فإن كان أول ما اشترى عبدين لم يعتق واحد منهما ولا يعتق ما اشترى بعدهما أيضا لانعدام معنى الانفراد فيهما ولانعدام معنى السبق فيما بعدهما ولو قال آخر عبد أشتريه فهو حر فهذا على أن يشتري عبدا واحدا بعد غيره أو يموت المولى لأن عنده يعلم أنه آخر لجواز أن يشتري غيره ما دام حيا واختلف في وقت عتقه فعلى قول أبي حنيفة يعتق

 

ج / 3 ص -87-         يوم اشتراه حتى يعتق من جميع المال وعلى قولهما يعتق في آخر جزء من أجزاء حياته ويعتق من الثلث وسنذكر هذه المسائل في كتاب العتاق ولو قال أوسط عبد أشتريه فهو حر فكل فرد له حاشيتان متساويتان فيما قبله وفيما بعده فهو أوسط ولا يكون الأول ولا الآخر وسطا أبدا ولا يكون الوسط إلا في وتر ولا يكون في شفع فإذا اشترى عبدا ثم عبدا ثم عبدا فالثاني هو الأوسط فإن اشترى رابعا خرج الثاني من أن يكون أوسط فإن اشترى خامسا صار الثالث هو الأوسط فإن اشترى سادسا خرج من أن يكون أوسط وعلى هذا كلما صار العدد شفعا فلا وسط له وكل من حصل في النصف الأول خرج من أن يكون وسطا.

                                                           "فصل"
"وأما" الحلف على أمور متفرقة إذا قال إن كانت هذه الجملة حنطة فامرأته طالق ثلاثا فإذا هي حنطة وتمر لم يحنث لأنه جعل شرط حنثه كون الجملة حنطة والجملة ليست بحنطة فلم يوجد الشرط ولو قال إن كانت هذه الجملة إلا حنطة فامرأته طالق ثلاثا فكانت تمرا وحنطة يحنث في قول أبي يوسف ولا يحنث عند محمد وإن كانت الجملة كلها حنطة لا يحنث بلا خلاف وأبو يوسف يقول: إن معنى هذا الكلام إن كان في هذه الجملة غير حنطة فامرأته كذا وقد تبين أن في تلك الجملة غير حنطة فوجد شرط الحنث فيحنث ومحمد يقول إن المستثنى لا يعتبر وجوده لأنه ليس بداخل تحت اليمين إنما الداخل تحتها المستثنى منه فيعتبر وجوده لا وجود المستثنى وإذا لم يعتبر وجوده لا يعلم المستثنى منه أنه وجد أم لا فلا يحنث ونظير هذا ما قال في الجامع إن كان لي إلا عشرة دراهم فامرأته طالق فكان له أقل من عشرة دراهم لم يحنث لأن العشرة مستثناة فلا يعتبر وجودها وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنه إن كان الحلف بطلاق أو عتاق أو حج أو عمرة أو قال لله علي كذا يحنث وإن كان بالله تعالى لم يلزمه الكذب فيها ولا كفارة عليه لأن هذا حلف على أمر موجود فإن كان بطلاق أو عتاق أو نذر لزمه وإن كان بالله لم تنعقد يمينه وكذلك لو قال إن كانت الجملة سوى الحنطة أو غير الحنطة فهو مثل قوله إلا حنطة لأن غير وسوى من ألفاظ الاستثناء. وروى بشر عن أبي يوسف فيمن قال والله ما دخلت هذه الدار ثم قال عبده حر إن لم يكن دخلها فإن عبده لا يعتق ولا كفارة عليه في اليمين بالله تعالى وهو قول محمد ثم رجع أبو يوسف أما عدم وجوب الكفارة في اليمين بالله تعالى فلأنه إن كان صادقا في قوله والله ما دخلت هذه الدار فلا كفارة عليه وإن كان كاذبا وهو عالم فلا كفارة عليه أيضا لأنها يمين غموس وإن كان جاهلا فهي يمين اللغو فلا كفارة فيها "وأما" عدم عتق عبده فلأن الحنث في اليمين الأولى ليس مما يحكم به الحاكم حتى يصير الحكم به إكذابا للثانية لأنها يمين بالله تعالى وإنها لا تدخل تحت حكم الحاكم فلم يصر مكذبا في اليمين الثانية باليمين الأولى في الحكم فلا يعتق العبد فإن كانت اليمين الأولى بعتق أو طلاق حنث في اليمينين جميعا في قول محمد وهو قول أبي يوسف الأول ثم رجع فقال إذا قال بعدما حلف بالأولى أو همت أو نيست أو حلف بطلاق آخر أو عتاق أنه دخلها لزمه الأول ولم يلزمه الآخر وجه قوله الأول أنه أكذب نفسه في كل واحدة من اليمينين بالأخرى وأعترف بوقوع ما حلف عليه فيحنث وجه قوله الآخر أنه أكذب نفسه في اليمين الأولى بالآخرة ولم يكذب نفسه في اليمين الثانية بعدما عقدها والأكذب قبل عقدها لا يتعلق به حكم فلم يحنث فيها فإن رجع فحلف ثالثا لم يعتق الثالث وعتق الثاني لأنه أكذب نفسه في اليمين بعدما حلف عليه والله عز وجل أعلم وإذا تزوج الرجل أمة فقال لها إذا مات مولاك فأنت طالق اثنتين فمات المولى وهو وارثه لا وراث له غيره طلق اثنتين وحرمت عليه عند أبي يوسف. وقال محمد لا تطلق ولا تحرم عليه ولو قال الزوج إذا مات مولاك فأنت حرة فمات وهو وارثه لم يعتق في قولهما وتعتق عند زفر والكلام في هذه المسائل يرجع إلى معرفة أوان ثبوت الملك للوارث فزفر يقول وقت ثبوت الملك للوارث عقيب موت المورث بلا فصل فكما مات ثبت الملك للوارث فقد أضاف العتق إلى حال الملك فتصح إضافته إليه ولم تصح إضافة الطلاق لأن حال الملك حال زوال النكاح فلم تصح كما إذا قال لها إذا ملكتك فأنت طالق وأبو يوسف يقول إن الملك للوارث يثبت له عقيب زوال ملك المورث فيزول ملك الميت عقيب الموت أولا ثم يثبت للوارث والطلاق والعتاق

 

ج / 3 ص -88-         مضافان إلى ما بعد الموت بلا فصل فإذا لم يكن ذلك زمان ثبوت الملك للوارث لم تصح إضافة العتق إليه إذ العتق لا يصح إلا في الملك أو مضافا إلى الملك وصحة إضافة الطلاق لانعدام الإضافة إلى حالة زوال النكاح فصحت الإضافة ووقع الطلاق وحرمت عليه ومحمد يقول القياس ما قال زفر إن الملك للوارث له يثبت عقيب الموت بلا فصل فقد أضاف الطلاق إلى زمان بطلان النكاح فلم يصح وكان ينبغي أن تصح إضافة العتق إليه إلا إني استحسنت أن لا تصح لأن الإعتاق إزالة الملك والإزالة تستدعي تقدم الثبوت والعتق مع الملك لا يجتمعان في محل واحد في زمان واحد ولو قال إذا مات مولاك فملكتك فأنت حرة فمات المولى والزوج وارثه عتقت لأنه أضاف العتق إلى الملك ولو قال إذا مات مولاك فملكتك فأنت طالق لم يقع الطلاق في قولهم لأنه إذا ملكها فقد زال النكاح فلا يتصور الطلاق ولو قال رجل لأمته إذا مات فلان فأنت حرة ثم باعها من فلان ثم تزوجها ثم قال لها إذا مات مولاك فأنت طالق ثنتين ثم مات المولى وهو وارثه قال أبو يوسف يقع الطلاق ولا يقع العتاق. وقال محمد لا يقعان جميعا. وقال زفر يقع العتاق ولا يقع الطلاق أما وقوع الطلاق على قول أبي يوسف وعدم الوقوع على مذهب محمد وعدم ثبوت العتق على قولهما فلما ذكرنا وزفر يقول وجد عقد اليمين في ملكه والشرط في ملكه فما بين ذلك لا يعتبر كمن قال لأمته إن دخلت الدار فأنت حرة ثم باعها واشتراها فدخلت الدار والله عز وجل أعلم.