بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                      "كتاب الطلاق":
قال الشيخ رحمه الله تعالى: الكلام في هذا الكتاب في الأصل يقع في خمسة مواضع. في بيان صفة الطلاق وفي بيان قدره وفي بيان ركنه وفي بيان شرائط الركن وفي بيان حكمه أما الأول فالطلاق بحق الصفة نوعان: طلاق سنة وطلاق بدعة, وإن شئت قلت طلاق مسنون وطلاق مكروه أما. طلاق السنة فالكلام فيه في موضعين أحدهما في تفسير طلاق السنة: أنه ما هو, والثاني في بيان الألفاظ التي يقع بها طلاق السنة أما الأول فطلاق السنة نوعان؛ نوع يرجع إلى الوقت ونوع يرجع إلى العدد, وكل واحد منهما نوعان حسن وأحسن, ولا يمكن معرفة كل واحد منهما إلا بعد معرفة أصناف النساء, وهن في الأصل على صنفين حرائر وإماء وكل صنف على صنفين حائلات وحاملات, والحائلات على صنفين ذوات الإقراء وذوات الأشهر. إذا عرف هذا فنقول وبالله التوفيق أحسن الطلاق في ذوات القرء أن يطلقها طلقة واحدة رجعية في طهر لا جماع فيه ولا طلاق ولا في حيضة طلاق ولا جماع ويتركها حتى تنقضي عدتها ثلاث حيضات إن كانت حرة وإن كانت أمة حيضتان, والأصل فيه ما روي عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يستحسنون أن لا يطلقوا للسنة إلا واحدة ثم لا يطلقوا غير ذلك حتى تنقضي العدة, وفي رواية أخرى قال في الحكاية عنهم: وكان ذلك عندهم أحسن من أن يطلق الرجل ثلاثة في ثلاثة أطهار وهذا نص في الباب ومثله لا يكذب ولأن الكراهة لمكان احتمال الندم, والطلاق في طهر لا جماع فيه دليل على عدم الندم لأن الطهر الذي لا جماع فيه زمان كمال الرغبة. والفحل لا يطلق امرأته في زمان كمال الرغبة إلا لشدة حاجته إلى الطلاق, فالظاهر أنه لا يلحقه الندم فكان طلاق لحاجة فكان مسنونا, ولو لحقه الندم فهو أقرب إلى التدارك من الثلاث في ثلاثة أطهار فكان أحسن وإنما شرطنا أن يكون في طهر لا طلاق فيه لأن الجمع بين الطلقات الثلاث أو الطلقتين في طهر واحد مكروه عندنا وإنما شرطنا أن لا يكون في حيضة جماع ولا طلاق لأنه إذا جامعها في حيض هذا الطهر احتمل أنه وقع الجماع معلقا فيظهر الحبل فيندم على صنيعه فيظهر أنه طلق لا لحاجة وإذا طلقها فيه فالطلاق فيه بمنزلة الطلاق في الطهر الذي بعده لأن تلك الحيضة لا يعتد بها ولو طلقها في الطهر يكره له أن يطلقها أخرى فيه فكذا إذا طلقها في الحيض ثم طهرت. "وأما" في الحامل إذا استبان حملها فالأحسن أن يطلقها واحدة رجعية وإن كان قد جامعها وطلقها عقيب الجماع لأن الكراهة في ذوات القرء لاحتمال الندامة لا لاحتمال الحبل فمتى طلقها مع علمه بالحبل فالظاهر

 

ج / 3 ص -89-         أنه لا يندم, وكذلك في ذوات الشهر من الآيسة والصغيرة الأحسن أن يطلقها واحدة رجعية وإن كان عقيب طهر جامعها فيه. وهذا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر يفصل بين طلاق الآيسة والصغيرة وبين جماعهما بشهر وجه قوله: إن الشهر في حق الآيسة والصغيرة أقيم مقام الحيضة فيمن تحيض ثم يفصل في طلاق السنة بين الوطء وبين الطلاق بحيضة, فكذا يفصل بينهما فيمن لا تحيض بشهر كما يفصل بين التطليقتينولنا: أن كراهة الطلاق في الطهر الذي وجد الجماع فيه في ذوات الإقراء لاحتمال أن تحبل بالجماع فيندم وهذا المعنى لا يوجد في الآيسة والصغيرة وإن وجد الجماع؛ ولأن الإياس والصغر في الدلالة على براءة الرحم فوق الحيضة في ذوات الأقراء فلما جاز الإيقاع ثمة عقيب الحيضة فلأن يجوز هنا عقيب الجماع أولى. "وأما" الحسن في الحرة التي هي ذات القرء أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار لا جماع فيها بأن يطلقها واحدة في طهر لا جماع فيه ثم إذا حاضت حيضة أخرى وطهرت طلقها أخرى ثم إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى وإن كانت أمة طلقها واحدة ثم إذا حاضت وطهرت طلقها أخرى وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك لا أعرف طلاق السنة إلا أن يطلقها واحدة ويتركها حتى تنقضي عدتها. وجه قوله: إن الطلاق المسنون هو الطلاق لحاجة, والحاجة تندفع بالطلقة الواحدة فكانت الثانية والثالثة في الطهر الثاني والثالث تطليقا من غير حاجة فيكره لهذا أكره الجمع كذا التفريق إذ كل ذلك طلاق من غير حاجة "ولنا" قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي ثلاثا في ثلاثة أطهار كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه روي أن "عبد الله بن عمر رضي الله عنهما طلق امرأته حالة الحيض فسأل عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أخطأت السنة ما هكذا أمرك ربك إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء" فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق للعدة بالثلاث في ثلاثة أطهار, والله عز وجل أمر به وأدنى درجات الأمر الندب, والمندوب إليه يكون حسنا ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم نص على كونه سنة حيث قال: "إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة" والدليل عليه ما روي عن إبراهيم النخعي في حكايته عن الصحابة رضي الله عنهم أجمعين, وكان ذلك عندهم أحسن من أن يطلق الرجل امرأته ثلاثا في ثلاثة أطهار وإذا كان ذلك أحسن من هذا كان هذا حسنا في نفسه ضرورة. "وأما" قوله إن الثانية والثالثة تطليق من غير حاجة فممنوع, فإن الإنسان قد يحتاج إلى حسم باب نكاح امرأته على نفسه لما ظهر له أن نكاحها ليس بسبب المصلحة له دنيا ودينا لكن يميل قلبه إليها لحسن ظاهرها فيحتاج إلى الحسم على وجه ينسد باب الوصول إليها ولا يلحقه الندم غلا يمكنه دفع هذه الحاجة بالثلاث جملة واحدة لأنها تعقب الندم عسى ولا يمكنه التدارك فيقع في الزنا فيحتاج إلى إيقاع الثلاث في ثلاثة أطهار, فيطلقها تطليقة رجعية في طهر لا جماع فيه ويجرب نفسه أنه هل يمكنه الصبر عنها؟ فإن لم يمكنه راجعها وإن أمكنه طلقها تطليقة أخرى في الطهر الثاني ويجرب نفسه ثم يطلقها ثالثة في الطهر الثالث فينحسم باب النكاح عليه من غير ندم يلحقه ظاهرا أو غالبا, فكان إيقاع الثانية والثالثة في الطهر الثاني والثالث طلاقا لحاجة فكان مسنونا على أن الحكم تعلق بدليل الحاجة لا بحقيقتها لكونها أمرا باطنا لا يوقف عليه إلا بدليل فيقام الطهر الخالي عن الجماع مقام الحاجة إلى الطلاق فكان تكرار الطهر دليل تجدد الحاجة فيبنى الحكم عليه, ثم إذا وقع عليها ثلاث تطليقات في ثلاثة أطهار فقد مضى من عدتها حيضتان إن كانت حرة لأن العدة بالحيض عندنا, وبقيت حيضة واحدة فإذا حاضت حيضة أخرى فقد انقضت عدتها وإن كانت أمة فإن وقع عليها تطليقتان في طهرين فقد مضت من عدتها حيضة وبقيت حيضة واحدة فإذا حاضت حيضة أخرى فقد انقضت عدتها. وإن كانت من ذوات الأشهر طلقها واحدة رجعية وإذا مضى شهر طلقها أخرى, ثم إذا مضى شهر طلقها أخرى ثم إذا كانت حرة فوقع عليها ثلاث تطليقات ومضى من عدتها شهران وبقي شهر واحد من عدتها فإذا مضى شهر آخر فقد انقضت عدتها وإن كانت أمة ووقع عليها تطليقتان في شهر وبقي من عدتها نصف شهر فإذا مضى نصف شهر فقد انقضت عدتها وإن كانت حاملا فكذلك في قول أبي حنيفة وأبي يوسف

 

ج / 3 ص -90-         يطلقها ثلاثا للسنة ويفصل بين كل طلاقيها بشهر. وقال محمد: لا يطلق الحامل للسنة إلا طلقة واحدة وهو قول زفر وذكر محمد رحمه الله في الأصل: بلغنا ذلك عن عبد الله بن مسعود وجابر بن عبد الله والحسن البصري رضي الله عنهم ولا خلاف في أن الممتد طهرها لا تطلق للسنة إلا واحدة وجه قول محمد وزفر: أن إباحة التفريق في الشرع متعلقة بتجدد فصول العدة لأن كل قرء في ذوات الإقراء فصل من فصول العدة وكل شهر في الآيسة والصغيرة فصل من فصول العدة, ومدة الحمل كلها فصل واحد من العدة لتعذر الاستبراء به في حق الحامل فلم يكن في معنى مورد الشرع فلا يفصل بالشهر ولهذا لم يفصل في الممتد طهرها بالشهر كذا ههنا ولأبي حنيفة وأبي يوسف قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} شرع الثلاث متفرقات من غير فصل بين الحامل والحائل أما شرعية طلقة وطلقة فبقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} لأن معناه دفعتان على ما نذكر إن شاء الله تعالى وشرعية الطلقة الثالثة بقوله عز وجل: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} أو بقوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} من غير فصل ولأن الحامل ليست من ذوات الأقراء فيفصل بين طلاقيها بشهر كالآيسة والصغيرة, والجامع أن الفصل هناك بشهر لكون الشهر زمان تجدد الرغبة في العادة فيكون زمان تجدد الحاجة وهذا المعنى موجود في الحامل فيفصل. فأما كون الشهر فصلا من فصول العدة فلا أثر له فكان من أوصاف الوجود لا من أوصاف التأثير إنما المؤثر ما ذكرنا فينبني الحكم عليه وما ذكر محمد رحمه الله في الأصل لا حجة له فيه لأن لفظ الحديث "أفضل طلاق الحامل أن يطلقها واحدة ثم يدعها حتى تضع حملها" وبه نقول إن ذلك أفضل ولا كلام فيه "وأما" الممتد طهرها فإنما لا تطلق للسنة إلا واحدة لأنها من ذوات الأقراء لأنها قد رأت الدم وهي شابة لم تدخل في حد الإياس إلا أنه امتد طهرها لداء فيها يحتمل الزوال ساعة فساعة فبقي أحكام ذوات الأقراء فيها ولا تطلق ذوات الأقراء في طهر لا جماع فيه للسنة إلا واحدة والله عز وجل أعلم, ولو طلق امرأته تطليقة واحدة في طهر لا جماع فيه ثم راجعها بالقول في ذلك الطهر فله أن يطلقها في ذلك الطهر في قول أبي حنيفة وزفر. وقال أبو يوسف لا يطلق في ذلك الطهر للسنة وهو قول الحسن بن زياد, وقول محمد مضطرب ذكره أبو جعفر الطحاوي مع قول أبي حنيفة وذكره الفقيه أبو الليث مع قول أبي يوسف. ولو أبانها في طهر لم يجامعها ثم تزوجها فله أن يطلقها في ذلك الطهر بالإجماع "وجه" قول أبي يوسف: إن الطهر طهر واحد, والجمع بين طلاقين في طهر واحد لا يكون سنة كما قبل الرجعة, ولأبي حنيفة أنه لما راجعها فقد أبطل حكم الطلاق وجعل الطلاق كأنه لم يكن في حق الحكم ولأنها عادت إلى الحالة الأولى بسبب من جهته فكان له أن يطلقها أخرى كما إذا أبانها في طهر لم يجامعها فيه ثم تزوجها, وعلى هذا الخلاف إذا راجعها بالقبلة أو باللمس عن شهوة أو بالنظر إلى فرجها عن شهوة وعلى هذا الخلاف إذا أمسك الرجل امرأته بشهوة فقال لها في حال الملامسة بشهوة بأن كان أخذ بيدها لشهوة: أنت طالق ثلاثا للسنة وذلك في طهر لم يجامعها فيه أنه يقع عليها ثلاث تطليقات على التعاقب للسنة في قول أبي حنيفة رحمه الله فتقع التطليقة الأولى ويصير مراجعا لها بالإمساك عن شهوة ثم تقع الأخرى ويصير مراجعا بالإمساك ثم تقع الثالثة وعند أبي يوسف لا يقع عليها للسنة إلا واحدة, والطلاقان الباقيان إنما يقعان في الطهرين الباقيين, وهذا إذا راجعها بالقول أو بفعل المس عن شهوة. فأما إذا راجعها بالجماع بأن طلقها في طهر لا جماع فيه ثم جامعها حتى صار مراجعا لها ثم إذا أراد أن يطلقها في ذلك الطهر ليس له ذلك بالإجماع لأن حكم الطلاق قد بطل بالمراجعة فبقي ذلك الطهر طهرا مبتدأ جامعها فيه فلا يجوز له أن يطلقها فيه هذا إذا راجعها بالجماع فلم تحمل منه فإن حملت منه فله أن يطلقها أخرى في قول أبي حنيفة ومحمد وزفر, وعند أبي يوسف ليس له أن يطلقها حتى يمضي شهر من التطليقة الأولى أبو يوسف يقول: هذا طهر واحد فلا يجمع فيه بين طلاقين كما في المسألة الأولى, وهم يقولون إن الرجعة أبطلت حكم الطلاق وألحقته بالعدم وكراهة الطلاق في الطهر الذي جامعها فيه لمكان الندم لاحتمال الحمل فإذا طلقها مع العلم بالحمل لا يندم كما لو لم يكن طلقها في هذا الطهر ولكنه جامعها فيه فحملت كان له أن يطلقها لما قلنا كذا هذا. ولو طلق الصغيرة تطليقة ثم حاضت وطهرت قبل مضي شهر فله

 

ج / 3 ص -91-         أن يطلقها أخرى في قولهم جميعا لأنها لما حاضت فقد بطل حكم الشهر لأن الشهر في حقها بدل من الحيض ولا حكم للبدل مع وجود المبدل. "وأما" إذا طلق امرأته وهي من ذوات الأقراء ثم أيست فله أن يطلقها أخرى حتى تيأس في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف: لا يطلقها حتى يمضي شهر وجه قوله إن هذا طهر واحد فلا يحتمل طلاقين ولأبي حنيفة أن حكم الحيض قد بطل باليأس وانتقل حالها من العدة بالحيض إلى العدة بالأشهر وذلك يفصل بين التطليقتين كالانتقال من الشهور إلى الحيض في حق الصغيرة, وهذا التفريع إنما يتصور على الرواية التي قدرت للإياس حدا معلوما خمسين سنة أو ستين سنة, فإذا تمت هذه المدة بعد التطليقة جاز له أن يطلقها أخرى عند أبي حنيفة لما ذكرنا. فأما على الرواية التي لم تقدر للإياس مدة معلومة وإنما علقته بالعادة فلا يتصور هذا التفريع. ولو طلق امرأته في حال الحيض ثم راجعها ثم أراد طلاقها ذكر في الأصل أنها إذا طهرت ثم حاضت ثم طهرت طلقها إن شاء وذكر الطحاوي أنه يطلقها في الطهر الذي يلي الحيضة. وذكر الكرخي أن ما ذكره الطحاوي قول أبي حنيفة وما ذكره في الأصل قول أبي يوسف ومحمد وجه ما ذكر في الأصل: ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعمر رضي الله عنه لما طلق ابنه عبد الله امرأته في حالة الحيض "مر ابنك فليراجعها ثم يدعها إلى أن تحيض فتطهر ثم تحيض فتطهر ثم ليطلقها إن شاء طاهرا من غير جماع" أمره صلى الله عليه وسلم بترك الطلاق إلى غاية الطهر الثاني فدل أن وقت طلاق السنة هو الطهر الثاني دون الأول ولأن الحيضة التي طلقها فيها غير محسوبة من العدة فكان إيقاع الطلاق فيها كإيقاع الطلاق في الطهر الذي يليها, ولو طلق في الطهر الذي يليها لم يكن له أن يطلق فيه أخرى كذا هذا وجه ما ذكره الطحاوي أن هذا طهر لا جماع فيه ولا طلاق حقيقة فكان له أن يطلقها فيه كالطهر الثاني. "وأما" الحديث فقد روينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر "أخطأت السنة ما هكذا أمرك الله تعالى إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل طهر تطليقة" جعل صلى الله عليه وسلم الطلاق في كل طهر طلاقا على وجه السنة والطهر الذي يلي الحيضة طهر فكان الإيقاع فيه إيقاعا على وجه السنة فيجمع بين الروايتين فتحمل تلك الرواية على الأحسن لأنه صلى الله عليه وسلم أمر بالتطليقة الواحدة في طهر واحد لا جماع فيه, وهذا أحسن الطلاق وهذه الرواية على الحسن لأنه أمره بالثلاث في ثلاثة أطهار جمعا بين الروايتين؛ عملا بهما؛ جمعا بقدر الإمكان.

                                                          "فصل"
وأما بيان الألفاظ التي يقع بها طلاق السنة: فالألفاظ التي يقع بها طلاق السنة نوعان: نص ودلالة "أما" النص فنحو أن يقول: أنت طالق للسنة, وجملته أن الرجل إذا قال لامرأته وهي مدخول بها: أنت طالق للسنة ولا نية له فإن كانت من ذوات الأقراء وقعت تطليقة للحال إن كانت طاهرا من غير جماع وإن كانت حائضا أو في طهر جامعها فيه لم تقع الساعة, فإذا حاضت وطهرت وقعت بها تطليقة واحدة لأن قوله أنت طالق للسنة إيقاع تطليقة بالسنة المعرفة باللام لأن اللام الأولى للاختصاص فيقتضي أن تكون التطليقة مختصة بالسنة فإذا أدخل لام التعريف في السنة فيقتضي استغراق السنة وهذا يوجب تمحضها سنة بحيث لا يشوبها معنى البدعة أو تنصرف إلى السنة المتعارفة فيما بين الناس. والسنة المتعارفة المعهودة في باب الطلاق ما لا يشوبها معنى البدعة وليس ذلك إلا الواقع في طهر لا جماع فيه وإن نوى ثلاثا فثلاث لأن التطليقة المختصة بالسنة المعرفة فاللام التعريف نوعان: حسن وأحسن فالأحسن أن يطلقها واحدة في طهر لا جماع فيه, والحسن أن يطلقها ثلاثا في ثلاثة أطهار فإذا نوى الثلاثة فقد نوى أحد نوعي التطليقة المختصة بالسنة فتصح نيته كما لو قال: أنت طالق ثلاثا للسنة وإن أراد واحدة بائنة لم تكن بائنة لأن لفظة الطلاق لا تدل على البينونة وكذا لفظ السنة بل تمنع ثبوت البينونة لأن الإبانة ليست بمسنونة على ظاهر الرواية ويستحيل أن يثبت باللفظ ما يمنع ثبوته وإن نوى الثنتين لم يكن ثنتين لأنه عدد محض بخلاف الثلاث لأنه فرد من حيث إنه كل جنس الطلاق ولو أراد بقوله: "طالق" واحدة وبقوله: "للسنة" أخرى لم يقع لأن قوله للسنة ليس من ألفاظ الطلاق بدليل أنه لو قال لامرأته أنت للسنة ونوى الطلاق لا يقع ولو قال  أنت طالق ثنتين للسنة أو ثلاثا للسنة  وقع عند كل طهر لم يجامعها تطليقة لأنها هي

 

ج / 3 ص -92-         التطليقة المختصة بالسنة المعرفة فاللام التعريف ولو قال "أنت طالق ثلاثا للسنة" ونوى الوقوع للحال صحت نيته ويقع الثلاث من ساعة تكلم عند أصحابنا الثلاثة وقال زفر: لا تصح نيته وتتفرق على الأطهار. وجه قوله: أنه نوى ما لا يحتمله لفظه فتبطل نيته, وبيان ذلك أن قوله "أنت طالق ثلاثا للسنة" إيقاع التطليقات الثلاث في ثلاثة أطهار لأنها هي التطليقات المختصة بالسنة المعرفة فاللام التعريف فصار كأنه قال "أنت طالق ثلاثا في ثلاثة أطهار", ولو نص على ذلك ونوى الوقوع للحال لم تصح نيته كذا هذا "ولنا" أن الطلاق تصرف مشروع في ذاته وإنما الحظر والحرمة في غيره لما تبين فكان كل طلاق في أي وقت كان سنة, فكان إيقاع الثلاث في الحال إيقاعا على وجه السنة حقيقة إلا أن السنة عند الإطلاق تنصرف إلى ما لا يشوبه معنى البدعة بملازمة الحرام إياه للعرف والعادة فإذا نوى الوقوع للحال فقد نوى ما يحتمله كلامه وفيه تشديد على نفسه فتصح نيته ولأن السنة نوعان: سنة إيقاع وسنة وقوع لأن وقوع الثلاث جملة عرف بالسنة لما تبين فإذا نوى الوقوع للحال فقد نوى أحد نوعي السنة فكانت نيته محتملة لما نوى فصحت وإن كانت آيسة أو صغيرة فقال لها: "أنت طالق للسنة" ولا نية له طلقت للحال واحدة, وإن كان قد جامعها وكذا إذا كانت حاملا قد استبان حملها وإن نوى الثلاث بقوله للآيسة والصغيرة أنت طالق ثلاثا للسنة يقع للحال واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى وكذا في الحامل على قول أبي حنيفة وأبي يوسف "وأما" على قول محمد لا يقع إلا واحدة بناء على أن الحامل تطلق ثلاثا للسنة عندهما وعنده لا تطلق للسنة إلا واحدة ولو قال أنت طالق تطليقة للسنة فهو مثل قوله أنت طالق للسنة وكذلك إذا قال أنت طالق طلاق السنة.  "وأما" الدلالة فنحو أن يقول: أنت طالق طلاق العدة أو طلاق العدل أو طلاق الدين أو طلاق الإسلام أو طلاق الحق أو طلاق القرآن أو طلاق الكتاب أما طلاق العدة فلأنه الطلاق في طهر لا جماع فيه لقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}, وطلاق العدل هو المائل عن الباطل إلى الحق لأن العدل عند الإطلاق ينصرف إليه وإن كان الاسم في اللغة وضع دلالة على مطلق الميل كاسم الجور, وعند الإطلاق ينصرف إلى الميل من الحق إلى الباطل وإن وضع في اللغة دلالة على مطلق الميل والطلاق المائل من الباطل إلى الحق هو طلاق السنة وطلاق الدين والإسلام والقرآن والكتاب هو ما يقتضيه الدين والإسلام والقرآن والكتاب وهو طلاق السنة, وكذلك طلاق الحق هو ما يقتضيه الدين إلى الحق وذلك طلاق السنة وكذلك قوله "أنت طالق أحسن الطلاق, أو أجمل الطلاق, أو أعدل الطلاق" لأنه أدخل ألف التفضيل وأضاف إلى الطلاق المعرف باللام الواقع على الحسن فيقتضي وقوع طلاق له مزية على جميع أنواع الطلاق بالحسن والجمال والعدالة كما إذا قيل: "فلان أعلم الناس" يوجب هذا مزية له على جميع طبقات الناس في العلم, وهذا تفسير طلاق السنة ولو قال: أنت طالق تطليقة حسنة أو جميلة يقع للحال ولو قال: أنت طالق تطليقة عدلة أو عدلية أو عادلة أو سنية يقع للسنة في قول أبي يوسف وسوى بينه وبين قوله "أنت طالق" للسنة وفرق بينه وبين قوله أنت طالق تطليقة حسنة أو جميلة ذكر محمد في الجامع الكبير أنه يقع للحال تطليقة رجعية سواء كانت حائضا أو غير حائض جامعها في طهرها أو لم يجامعها وسوى بينه وبين قوله أنت طالق تطليقة حسنة أو جميلة وفرق بين هذا وبين قوله أنت طالق للسنة. وجه قول محمد أن قوله: "أنت طالق" تطليقة سنية, وصف التطليقة بكونها سنية, والطلاق في أي وقت كان فهو سني لأنه تصرف مشروع وباقتران الفسخ به لا يخرج من أن يكون مشروعا في ذاته وهذا القدر يكفي لصحة الاتصاف بكونها سنية, ولا يشترط الكمال ألا يرى أنه لو قال: لامرأته: أنت بائن يقع تطليقة واحدة ولا ينصرف إلى الكمال وهو البينونة الحاصلة بالثلاث كذا ههنا, ولهذا وقع الطلاق للحال في قوله "حسنة" أو "جميلة" بخلاف قوله "أنت طالق" للسنة لأن ذلك إيقاع تطليقة مختصة بالسنة لأن اللام الأولى للاختصاص كما يقال: هذا اللجام للفرس, وهذا الإكاف لهذه البغلة وهذا القفل لهذا الباب, واللام الثانية للتعريف فإن كانت لتعريف الجنس وهو جنس السنة اقتضى صفة التمحض للسنة وهو أن لا يشوبها بدعة وإن كانت لتعريف المعهود فالسنة المعهودة في باب الطلاق ما لا يشوبها معنى البدعة وهو الطلاق في طهر لا جماع فيه. وجه قول أبي يوسف أن هذا إيقاع

 

ج / 3 ص -93-         طلاق موصوف بكونه سنيا مطلقا فلا يقع إلا على صفة السنة المطلقة والطلاق السني على الإطلاق لا يقع في غير وقت السنة ولهذا يقع في وقت السنة في قوله "أنت طالق للسنة" كذا هذا وفرق أبو يوسف بين السنية وبين الحسنة والجميلة, وما كان الغالب فيه أن يجعل صفة للطلاق يجعل صفة له كقوله سنية وعدلية وما كان الغالب فيه أن يجعل صفة للمرأة يجعل صفة لها كقوله "حسنة وجميلة" لأن المرأة مذكورة في اللفظ بقوله أنت والتطليقة مذكورة أيضا فيحمل على ما يغلب استعمال اللفظ فيه ولو قال لامرأته وهي ممن تحيض: "أنت طالق للحيض" وقع عند كل طهر من كل حيضة تطليقة لأن الحيضة التي يضاف إليها الطلاق هي أطهار العدة وإن كانت ممن لا تحيض فقال لها: "أنت طالق للحيض" لا يقع عليها شيء لأنه أضاف الطلاق إلى ما ليس بموجود فصار كأنه علقه لشرط لم يوجد ولو قال لها وهي ممن لا تحيض أنت طالق للشهور يقع للحال واحدة وبعد شهر أخرى وبعد شهر أخرى, لأن الشهور التي يضاف إليها الطلاق هي شهور العدة. وكذا الحامل على قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف ولو نوى بشيء من الألفاظ التي يقع بها طلاق السنة وهو الطلاق في الطهر الذي لا جماع فيه الوقوع للحال تصح نيته ويكون على ما عنى لأنه نوى ما يحتمله كلامه أما في لفظ الأحسن والأجمل والأعدل فلأن ألف التفضيل قد تذكر ويراد به مطلق الصفة قال الله سبحانه وتعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْه} أي هين عليه إذ لا تفاوت للأشياء في قدرة الله تعالى بل هي بالنسبة إلى قدرته سواء وقد نوى ما يحتمله لفظه ولا تهمة في العدول عن هذا الظاهر لما فيه من التشديد على نفسه فكان مصدقا وكذا في سائر الألفاظ لما ذكرنا أن الطلاق تصرف مشروع في نفسه فكان إيقاعه سنة في كل وقت أو لأن وقوعه عرف بالسنة على ما نذكر وذكر بشر عن أبي يوسف أن هذا النوع من الألفاظ أقسام ثلاثة: قسم منها يكون طلاق السنة فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء نوى أو لم ينو, وقسم منها يكون طلاق السنة فيما بينه وبين الله تعالى وفي القضاء إن نوى وإن لم ينو لا يكون للسنة ويقع الطلاق للحال, وقسم منها ما يصدق فيه إذا قال نويت به طلاق السنة فيما بينه وبين الله تعالى ويقع في أوقاتها ولا يصدق في القضاء بل يقع للحال أما القسم الأول فهو أن يقول: أنت طالق للعدة أو أنت طالق طلاق العدل أو طلاق الدين أو طلاق الإسلام أو قال أنت طالق طلاقا عدلا أو طلاق عدة أو طلاق سنة أو أحسن الطلاق أو أجمل الطلاق أو طلاق الحق أو طلاق القرآن أو طلاق الكتاب أو قال أنت طالق للسنة أو في السنة أو بالسنة أو مع السنة أو عند السنة أو على السنة.  "وأما" القسم الثاني: فهو أن يقول أنت طالق في كتاب الله عز وجل, أو بكتاب الله عز وجل, أو مع كتاب الله عز وجل؛ لأن في كتاب الله عز وجل دليل وقوع الطلاق للسنة والبدعة لأن فيه شرع الطلاق مطلقا فكان الطلاق تصرفا مشروعا في نفسه فكان كلامه محتمل الأمرين فوقف على نيته "وأما" القسم الثالث فهو أن يقول: أنت طالق على الكتاب أو بالكتاب أو على قول القضاة أو على قول الفقهاء أو قال أنت طالق طلاق القضاة أو طلاق الفقهاء لأن القضاة والفقهاء يقولون من كتاب الله عز وجل قال الله عز وجل: {وَلا رَطْبٍ وَلا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ}, وفي كتاب الله عز وجل دليل الأمرين جميعا لما بينا فكان لفظه محتملا للأمرين فيصدق فيما بينه وبين الله عز وجل ويقع في وقت السنة ولا يصدق في القضاء لأنه خلاف الظاهر, والله عز وجل أعلم ولو كان الزوج غائبا فأراد أن يطلقها للسنة واحدة فإنه يكتب إليها إذا جاءك كتابي هذا ثم حضت وطهرت فأنت طالق, وإن أراد أن يطلقها ثلاثا يكتب إليها إذا جاءك كتابي هذا ثم حضت وطهرت فأنت طالق ثم إذا حضت وطهرت فأنت طالق ثم إذا حضت وطهرت فأنت طالق وذكر محمد في الرقيات أنه يكتب إليها إذا جاءك كتابي هذا فعلمت ما فيه ثم حضت وطهرت فأنت طالق, وتلك الرواية أحوط والله عز وجل أعلم.

                                                                   "فصل"
 وأما طلاق البدعة فالكلام فيه في ثلاثة مواضع: في تفسيره وفي بيان الألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة وفي بيان حكمه أما الأول فطلاق البدعة نوعان أيضا: نوع يرجع إلى الوقت ونوع يرجع إلى العدد أما الذي يرجع إلى الوقت فنوعان أيضا: أحدهما الطلقة الواحدة الرجعية في حالة الحيض إذا كانت مدخولا بها سواء كانت حرة أو أمة

 

ج / 3 ص -94-         لما روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لعبد الله بن عمر حين طلق امرأته في حالة الحيض "أخطأت السنة" ولأن فيه تطويل العدة عليها لأن الحيضة التي صادفها الطلاق فيه غير محسوبة من العدة فتطول العدة عليها وذلك إضرار بها, ولأن الطلاق للحاجة هو الطلاق في زمان كمال الرغبة, وزمان الحيض زمان النفرة فلا يكون الإقدام عليه فيه دليل الحاجة إلى الطلاق فلا يكون الطلاق فيه سنة بل يكون سفها. إلا أن هذا المعنى يشكل بما قبل الدخول فالصحيح هو المعنى الأول, وإذا طلقها في حالة الحيض فالأفضل أن يراجعها لما روي أن ابن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حالة الحيض أمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ولأنه إذا راجعها أمكنه أن يطلقها للسنة فتبين منه بطلاق غير مكروه فكانت الرجعة أولى, ولو امتنع عن الرجعة لا يجبر عليها وذكر في العيون أن الأمة إذا أعتقت فلا بأس بأن تختار نفسها وهي حائض وكذلك الصغيرة إذا أدركت وهي حائض وكذلك امرأة العنين وهي حائض والثاني الطلقة الواحدة الرجعية في ذوات الأقراء في طهر جامعها فيه حرة كانت أو أمة لاحتمال أنها حملت بذلك الجماع وعند ظهور الحمل يندم فتبين أنه طلقها لا لحاجة وفائدة فكان سفها فلا يكون سنة ولأنه إذا جامعها فقد قلت رغبته إليها فلا يكون الطلاق في ذلك الطهر طلاقا لحاجة على الإطلاق فلم يكن سنة. "وأما" الذي يرجع إلى العدد فهو إيقاع الثلاث أو الثنتين في طهر واحد لا جماع فيه سواء كان على الجمع بأن أوقع الثلاث جملة واحدة أو على التفاريق واحدا بعد واحد بعد أن كان الكل في طهر واحد وهذا قول أصحابنا. وقال الشافعي: "لا أعرف في عدد الطلاق سنة ولا بدعة بل هو مباح وإنما السنة والبدعة في الوقت فقط احتج بعمومات الطلاق من الكتاب والسنة أما الكتاب فقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} وقوله عز وجل: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} شرع الطلاق من غير فصل بين الفرد والعدد والمفترق والمجتمع "وأما" السنة فقوله صلى الله عليه وسلم "كل طلاق جائز إلا طلاق المعتوه والصبي" والدليل على أن عدد الطلاق في طهر واحد مشروع أنه معتبر في حق الحكم بلا خلاف بين الفقهاء, وغير المشروع لا يكون معتبرا في حق الحكم ألا ترى أن بيع الخل والصفر ونكاح الأجانب لما كان مشروعا كان معتبرا في حق الحكم, وبيع الميتة والدم والخمر والخنزير ونكاح المحارم لما لم يكن مشروعا لم يكن معتبرا في حق الحكم وههنا لما اعتبر في حق الحكم دل أنه مشروع وبهذا عرفت شرعية الطلقة الواحدة في طهر واحد والثلاث في ثلاثة أطهار كذا المجتمع. "ولنا" الكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي في أطهار عدتهن وهو الثلاث في ثلاثة أطهار كذا فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما ذكرنا فيما تقدم؛ أمر بالتفريق والأمر بالتفريق يكون نهيا عن الجمع ثم إن كان الأمر أمر إيجاب كان نهيا عن ضده وهو الجمع نهي تحريم وإن كان أمر ندب كان نهيا عن ضده وهو الجمع نهي ندب. وكل ذلك حجة على المخالف لأن الأول يدل على التحريم والآخر يدل على الكراهة وهو لا يقول بشيء من ذلك وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} أي دفعتان ألا ترى أن من أعطى آخر درهمين لم يجز أن يقال أعطاه مرتين حتى يعطيه دفعتين. وجه الاستدلال أن هذا وإن كان ظاهره الخبر فإن معناه الأمر لأن الحمل على ظاهره يؤدي إلى الخلف في خبر من لا يحتمل خبره الخلف لأن الطلاق على سبيل الجمع قد يوجد وقد يخرج اللفظ مخرج الخبر على إرادة الجمع قال الله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} أي ليتربصن. وقال تعالى: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} أي ليرضعن ونحو ذلك كذا هذا, فصار كأنه سبحانه وتعالى قال طلقوهن مرتين إذا أردتم الطلاق والأمر بالتفريق نهي عن الجمع لأنه ضده فيدل على كون الجمع حراما أو مكروها على ما بينا, فإن قيل هذه الآية حجة عليكم لأنه ذكر جنس الطلاق, وجنس الطلاق ثلاث والثلاث إذا وقع دفعتين كان الواقع في دفعة طلقتين فيدل على كون الطلقتين في دفعة مسنونتين فالجواب أن هذا أمر بتفريق الطلاقين من الثلاث لا بتفريق الثلاث لأنه أمر بالرجعة عقيب الطلاق مرتين أي دفعتين بقوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أي وهو الرجعة, وتفريق الطلاق وهو إيقاعه دفعتين لا يتعقب الرجعة فكان هذا أمرا بتفريق الطلاقين من الثلاث لا بتفريق كل جنس الطلاق وهو الثلاث, والأمر بتفريق

 

ج / 3 ص -95-         طلاقين من الثلاث يكون نهيا عن الجمع بينهما فوضح وجه الاحتجاج بالآية بحمد الله تعالى.  "وأما" السنة فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن" نهى صلى الله عليه وسلم عن الطلاق ولا يجوز أن يكون النهي عن الطلاق لعينه لأنه قد بقي معتبرا شرعا في حق الحكم بعد النهي فعلم أن ههنا غيرا حقيقيا ملازما للطلاق يصلح أن يكون منهيا عنه, فكان النهي عنه لا عن الطلاق ولا يجوز أن يمنع من المشرع لمكان الحرام الملازم له كما في الطلاق في حالة الحيض والبيع وقت النداء والصلاة في الأرض المغصوبة وغير ذلك, وقد ذكر عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يؤتى برجل طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا وأجاز ذلك عليه وذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا. "وأما" المعقول فمن وجوه: أحدها أن النكاح عقد مصلحة لكونه وسيلة إلى مصالح الدين والدنيا, والطلاق إبطال له وإبطال المصلحة مفسدة وقد قال الله عز وجل: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ} وهذا معنى الكراهة الشرعية عندنا أن الله تعالى لا يحبه ولا يرضى به إلا أنه قد يخرج من أن يكون مصلحة لعدم توافق الأخلاق وتباين الطبائع أو لفساد يرجع إلى نكاحها بأن علم الزوج أن المصالح تفوته بنكاح هذه المرأة أو أن المقام معها سبب فساد دينه ودنياه فتنقلب المصلحة في الطلاق ليستوفي مقاصد النكاح من امرأة أخرى إلا أن احتمال أنه لم يتأمل حق التأمل ولم ينظر حق النظر في العاقبة قائم فالشرع والعقل يدعوانه إلى النظر وذلك في أن يطلقها طلقة واحدة رجعية حتى أن التباين أو الفساد إذا كان من جهة المرأة تتوب وتعود إلى الصلاح إذا ذاقت مرارة الفراق وإن كانت لا تتوب نظر في حال نفسه أنه هل يمكنه الصبر عنها؟ فإن علم أنه لا يمكنه الصبر عنها يراجعها وإن علم أنه يمكنه الصبر عنها يطلقها في الطهر الثاني ثانيا ويجرب نفسه ثم يطلقها فيخرج نكاحها من أن يكون مصلحة ظاهرا وغالبا؛ لأنه لا يلحقه الندم غالبا فأبيحت الطلقة الواحدة أو الثلاث في ثلاثة أطهار على تقدير خروج نكاحها من أن يكون مصلحة وصيرورة المصلحة في الطلاق فإذا طلقها ثلاثا جملة واحدة في حالة الغضب؛ وليست حالة الغضب حالة التأمل؛ لم يعرف خروج النكاح من أن يكون مصلحة فكان الطلاق إبطالا للمصلحة من حيث الظاهر فكان مفسدة. والثاني أن النكاح عقد مسنون بل هو واجب لما ذكرنا في كتاب النكاح فكان الطلاق قطعا للسنة وتفويتا للواجب فكان الأصل هو الحظر والكراهة إلا أنه رخص للتأديب أو للتخليص والتأديب يحصل بالطلقة الواحدة الرجعية لأن التباين أو الفساد إذا كان من قبلها فإذا ذاقت مرارة الفراق فالظاهر أنها تتأدب وتتوب وتعود إلى الموافقة والصلاح, والتخليص يحصل بالثلاث في ثلاثة أطهار والثابت بالرخصة يكون ثابتا بطريق الضرورة, وحق الضرورة صار مقضيا بما ذكرنا فلا ضرورة إلى الجمع بين الثلاث في طهر واحد فبقي ذلك على أصل الحظر, والثالث أنه إذا طلقها ثلاثا في طهر واحد فربما يلحقه الندم, وقال الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} قيل في التفسير أي ندامة على ما سبق من فعله أو رغبة فيها, ولا يمكنه التدارك بالنكاح فيقع في السفاح فكان في الجمع احتمال الوقوع في الحرام وليس في الامتناع ذلك, والتحرز عن مثله واجب شرعا وعقلا بخلاف الطلقة الواحدة لأنها لا تمنع من التدارك بالرجعة وبخلاف الثلاث في ثلاثة أطهار لأن ذلك لا يعقب الندم ظاهر إلا أنه يجرب نفسه في الأطهار الثلاثة فلا يلحقه الندم. وقد خرج الجواب عما ذكره المخالف لأن الطلاق عندنا تصرف مشروع في نفسه إلا أنه ممنوع عنه لغيره لما ذكرنا من الدلائل, ويستوي في كراهة الجمع أن تكون المرأة حرة أو أمة مسلمة أو كتابية لأن الموجب للكراهة لا يوجب الفصل وهو ما ذكرنا من الدلائل ويستوي في كراهة الجمع والخلع في الطهر الذي لا جماع فيه غير مكروه بالإجماع, وفي الطلاق الواحد البائن روايتان ذكر في كتاب الطلاق أنه يكره وذكر في زيادات الزيادات أنه لا يكره وجه تلك الرواية أن الطلاق البائن لا يفارق الرجعي إلا في صفة البينونة, وصفة البينونة لا تنافي صفة السنة ألا ترى أن الطلقة الواحدة قبل الدخول بائنة وأنها سنة وكذا الخلع في طهر لا جماع فيه بائن وأنه سنة "وجه" رواية كتاب الطلاق أن الطلاق شرع في الأصل بطريق

 

ج / 3 ص -96-         الرخصة للحاجة على ما بينا ولا حاجة إلى البائن لأن الحاجة تندفع بالرجعي فكان البائن طلاقا من غير حاجة فلم يكن سنة ولأن فيه احتمال الوقوع في الحرام لاحتمال الندم ولا يمكنه المراجعة وربما لا توافقه المرأة في النكاح فيتبعها بطريق حرام وليس في الامتناع عنه احتمال الوقوع في الحرام فيجب التحرز عنه بخلاف الطلاق قبل الدخول لأنه طلاق لحاجة لأنه قد يحتاج إلى الطلاق قبل الدخول ولا يمكن دفع الحاجة بالطلاق الرجعي ولأن الطلاق قبل الدخول لا يتصور إيقاعه إلا بائنا فكان طلاقا لحاجة فكان مسنونا وكذلك الخلع لأنه تقع الحاجة إلى الخلع ولا يتصور إيقاعه إلا بصفة الإبانة ألا ترى أنه لا يتصور أن يكون رجعيا؟ ولأن الله سبحانه وتعالى رفع الجناح في الخلع مطلقا بقوله عز وجل: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} فدل على كونه مباحا مطلقا, ثم البدعة في الوقت يختلف فيها المدخول بها وغير المدخول بها؛ فيكره أن يطلق المدخول بها في حالة الحيض ولا يكره أن يطلق غير المدخول بها في حالة الحيض لأن الكراهة في حالة الحيض لمكان تطويل العدة ولا يتحقق ذلك في غير المدخول بها "وأما" كونها طاهرا من غير جماع فلا يتصور في غير المدخول بها "وأما" البدعة في العدد فيستوي فيها المدخول بها وغير المدخول بها لأن ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل بينهما وكذا يستوي في السنة والبدعة المسلمة والكتابية والحرة والأمة لأن الدلائل لا توجب الفصل بين الكل.

                                                                  "فصل"
وأما الألفاظ التي يقع بها طلاق البدعة فنحو أن يقول "أنت طالق للبدعة, أو أنت طالق طلاق البدعة, أو طلاق الجور أو طلاق المعصية أو طلاق الشيطان فإن نوى ثلاثا, فهو ثلاث لأن إيقاع الثلاث في طهر واحد لا جماع فيه والواحدة في طهر جامعها فيه بدعة, والطلاق في حالة الحيض بدعة فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما يحتمله كلامه فصحت وروى هشام عن محمد أنها واحدة يملك بها الرجعة لأن البدعة لم يجعل لها وقت في الشروع لتنصرف الإضافة إليه فيلغو قوله للبدعة ويبقى قوله أنت طالق فيقع به تطليقة واحدة رجعية, وكذلك إذا قال: أنت طالق طلاق الجور أو طلاق المعصية أو طلاق الشيطان ونوى الثلاث وإن لم تكن له نية فإن كان في طهر جامعها فيه أو في حالة الحيض وقع من ساعته وإن لم يكن لا يقع للحال ما لم تحض أو يجامعها في ذلك الطهر والله عز وجل أعلم.

                                                              "فصل":
 وأما حكم طلاق البدعة فهو أنه واقع عند عامة العلماء. وقال بعض الناس: إنه لا يقع وهو مذهب الشيعة أيضا "وجه" قولهم أن هذا الطلاق منهي عنه لما ذكرنا من الدلائل فلا يكون مشروعا وغير المشروع لا يكون معتبرا في حق الحكم؛ ولأن الله تعالى جعل لنا ولاية الإيقاع على وجه مخصوص؛ ومن جعل له ولاية التصرف على وجه لا يملك إيقاعه على غير ذلك الوجه كالوكيل بالطلاق على وجه السنة إذا طلقها للبدعة أنه لا يقع لما قلنا كذا هذا. "ولنا" ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن بعض آبائه طلق امرأته ألفا فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم: "بانت بالثلاث في معصية وتسعمائة وسبعة وتسعون فيما لا يملك". وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال إن أحدكم يركب الأحموقة فيطلق امرأته ألفا ثم يأتي فيقول: "يا ابن عباس يا ابن عباس وإن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} وإنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجا بانت امرأتك وعصيت ربك وروينا عن عمر رضي الله عنه أنه كان لا يؤتى برجل قد طلق امرأته ثلاثا إلا أوجعه ضربا وأجاز ذلك عليه وكانت قضاياه بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين فيكون إجماعا منهم على ذلك. "وأما" قولهم: إن غير المشروع لا يكون معتبرا في حق الحكم فنعم لكن الطلاق نفسه مشروع عندنا ما فيه حظر, وإنما الحظر والحرمة في غيره وهو ما ذكرنا من الفساد والوقوع في الزنا والسفه وتطويل العدة, وإذا كان مشروعا في نفسه جاز أن يكون معتبرا في حق الحكم وإن منع عنه لغيره كالبيع وقت أذان الجمعة والصلاة في الأرض المغصوبة ونحو ذلك وقد خرج الجواب عن الوجه الثاني وهو أن من ولي تصرفا مشروعا لا يملك إيقاعه إلا على الوجه الذي ولي لأنه ما أوقع الطلاق إلا على الوجه الذي ولي إيقاعه لأنه تصرف مشروع في نفسه لا يتصور إيقاعه غير مشروع إلا أنه بهذا الطلاق باشر تصرفا مشروعا وارتكب محظورا فيأثم

 

ج / 3 ص -97-         ارتكاب المحظور لا بمباشرة المشروع كما في البيع وقت النداء ونظائره بخلاف الوكيل لأن التوكيل بالطلاق على وجه السنة توكيل بطلاق مشروع لا يتضمنه ارتكاب حرام بوجه, فإذا طلقها للبدعة فقد أتى بطلاق مشروع يلازمه حرام فلم يأت بما أمر به فلا يقع فهو الفرق.

                                                             "فصل":
وأما بيان قدر الطلاق وعدده فنقول وبالله التوفيق الزوجان إما إن كانا حرين وأما إن كانا رقيقين وأما إن كان أحدهما حرا والآخر رقيقا فإن كانا حرين, فالحر يطلق امرأته الحرة ثلاث تطليقات بلا خلاف وإن كانا رقيقين فالعبد لا يطلق امرأته الأمة إلا تطليقتين بلا خلاف أيضا, واختلف فيما إذا كان أحدهما حرا والآخر رقيقا أن عدد الطلاق يعتبر بحال الرجل في الرق والحرية أم بحال المرأة قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: يعتبر بحال المرأة وقال الشافعي: يعتبر بحال الرجل حتى إن العبد إذا كانت تحته حرة يملك عليها ثلاث تطليقات عندنا وعنده لا يملك عليها إلا تطليقتين. والحر إذا كانت تحته أمة لا يملك عليها إلا تطليقتين عندنا وعنده يملك عليها ثلاث تطليقات, والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن علي وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم مثل قولنا وعن عثمان وزيد بن ثابت مثل قوله وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه يعتبر بحال أيهما كان رقيقا ولا خلاف في أن العدة تعتبر بحال المرأة احتج الشافعي بما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"الطلاق بالرجال والعدة بالنساء" والمراد منه اعتبار الطلاق في القدر والعدد لا الإيقاع لأن ذلك مما لا يشكل وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يطلق العبد ثنتين وتعتد الأمة بحيضتين" من غير فصل بين ما إذا كانت تحته أمة أو حرة. ولأن الرق إنما يؤثر في نقصان الحل لكون الحل نعمة وأنه نعمة في جانب الرجل لا في جانب المرأة لأنها مملوكة مرقوقة فلا يؤثر رقها في نقصان الحل. "ولنا" الكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والنص ورد في الحرة أخبر الله تعالى أن حل الحرة يزول بالثلاث من غير فصل بين ما إذا كانت تحت حر أو تحت عبد فيجب العمل بإطلاقه, والدليل على أن النص ورد في الحرة قرائن الآية الكريمة أحدها أنه قال تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} والأمة لا تملك الافتداء بغير إذن المولى, والثاني قوله عز وجل: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والأمة لا تملك إنكاح نفسها من غير إذن مولاها والثالث قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} أي يتناكحا بعد طلاق الزوج الثاني وذا في الحر والحرة "وأما" السنة فما روي عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "طلاق الأمة ثنتان وعدتها حيضتان" جعل عليه الصلاة والسلام طلاق جنس الإماء ثنتين لأنه أدخل لام الجنس على الإماء كأنه قال: طلاق كل أمة ثنتان من غير فصل بين ما إذا كان زوجها حرا أو عبدا "وأما" المعقول فمن وجهين: أحدهما أن الأصل في الطلاق هو الحظر لما ذكرنا من الدلائل فيما تقدم إلا أنه أبيحت الطلقة الواحدة للحاجة إلى الخلاص عند مخالفة الأخلاق لأن عند ذلك تصير المصلحة في الطلاق ليزدوج كل واحد منهما بمن يوافقه فتحصل مقاصد النكاح إلا أن احتمال الندم من الجانبين قائم بعد الطلاق كما أخبر الله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} فلو ثبتت الحرمة بطلقة واحدة ولم يشرع طلاق آخر حتى يتأمل الزوج فيه ربما يندم ولا يمكنه التدارك بالرجعة ولا توافقه المرأة في النكاح ولا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا فأبيحت الطلقة الثانية لهذه الحاجة ولا حاجة إلى الطلقة الثالثة إلا أن الشرع ورد بها في الحرة إذا كانت تحت حر وعبد إظهارا لخطر النكاح وإبانة لشرفه, وملك النكاح في الأمة في الشرف والخطر دون ملك النكاح في الحرة لأن شرف النكاح وخطره لما يتعلق به من المقاصد الدينية والدنيوية منها الولد والسكن ومعلوم أن هذين المقصودين في نكاح الأمة دونهما في نكاح الحرة لأن ولد الحرة حر وولد الرقيقة رقيق, والمقصود من الولد الاستئناس والاستنصار به في الدنيا والدعوة الصالحة في العقبى وهذا المقصود لا يحصل من الولد الرقيق مثل ما يحصل من الحر لكون المرقوق مشغولا بخدمة المولى وكذا سكون نفس الزوج إلى امرأته الأمة لا يكون مثل سكونه إلى امرأته الحرة فلم يكن هذا في معنى مورد الشرع فبقيت الطلقة فيه على

 

ج / 3 ص -98-         أصل الحظر والثاني أن حكم الطلاق زوال الحل وهو حل المحلية فيتقدر بقدر الحل وحل الأمة أنقص من حل الحرة؛ لأن الرق ينقص الحل؛ لأن الحل نعمة لكونه وسيلة إلى النعمة؛ وهي مقاصد النكاح والوسيلة إلى النعمة نعمة, وللرق أثر في نقصان النعمة ولهذا أثر في نقصان المالكية حتى يملك الحر التزوج بأربع نسوة والعبد لا يملك التزوج إلا بامرأتين "وأما" الحديثان فقد قيل: إنهما غريبان ثم إنهما من الآحاد ولا يجوز تقييد مطلق الكتاب العزيز بخبر الواحد ولا معارضة الخبر المشهور به ثم نقول: لا حجة فيهما أما الأول فلأن قوله: "الطلاق بالرجال" إلصاق الاسم بالاسم فيقتضي ملصقا محذوفا, والملصق المحذوف يحتمل أن يكون هو الإيقاع ويحتمل أن يكون هو الاعتبار فلا يكون حجة مع الاحتمال وقوله: "الإيقاع لا يشكل" ممنوع بل قد يشكل وبيان الإشكال من وجهين: أحدهما أن النكاح مشترك بين الزوجين في الانعقاد والأصل في كل عقد كان انعقاده بعاقدين أن يكون ارتفاعه بهما أيضا كالبيع والإجارة ونحوهما, والثاني أنه مشترك بينهما في الأحكام والمقاصد فيشكل أن يكون الإيقاع بهما على الشركة فحل الإشكال بقوله "الطلاق بالرجال" وأما الثاني ففيه أن العبد يطلق ثنتين وهذا لا ينفي الثالثة كما يقال فلان يملك درهمين, وقوله صلى الله عليه وسلم: "طلاق الأمة ثنتان" إضافة الطلاق إلى الأمة والإضافة للاختصاص فيقتضي أن يكون الطلاق المختص بالأمة ثنتان ولو ملك الثالثة عليها لبطل الاختصاص, ومثاله قول القائل "مال فلان درهمان" أنه ينفي الزيادة لما قلنا كذا هذا وقد خرج الجواب عن قوله إن الحل في جانبها ليس بنعمة لأنا بينا أنه نعمة في حقها أيضا, لكونه وسيلة إلى النعمة والملك في باب النكاح ليس بمقصود بل هو وسيلة إلى المقاصد التي هي نعم, والوسيلة إلى النعمة نعمة والله تعالى أعلم.

                                                         "فصل":
وأما بيان ركن الطلاق فركن الطلاق هو اللفظ الذي جعل دلالة على معنى الطلاق لغة وهو التخلية والإرسال ورفع القيد في الصريح وقطع الوصلة ونحوه في الكناية أو شرعا, وهو إزالة حل المحلية في النوعين أو ما يقوم مقام اللفظ أما اللفظ فمثل أن يقول في الكناية: أنت بائن أو أبنتك أو يقول في الصريح أنت طالق أو طلقتك وما يجري هذا المجرى إلا أن التطليق والطلاق في العرف يستعملان في المرأة خاصة والإطلاق يستعمل في غيرها يقال في المرأة طلق يطلق تطليقا وطلاقا وفي البعير والأسير ونحوهما يقال أطلق يطلق إطلاقا وإن كان المعنى في اللفظين لا يختلف في اللغة ومثل هذا جائز كما يقال حصان وحصان وعديل وعدل فالحصان بفتح الحاء يستعمل في المرأة وبالخفض يستعمل في الفرس وإن كانا يدلان على معنى واحد لغة وهو المنع. والعديل يستعمل في الآدمي والعدل فيما سواه, وإن كانا موجودين في المعادلة في اللغة كذا هذا, ولهذا قالوا: إن من قال لامرأته أنت مطلقة مخففا يرجع إلى نيته لأن الإطلاق في العرف يستعمل في إثبات الانطلاق عن الحبس والقيد الحقيقي, فلا يحمل على القيد الحكمي إلا بالنية ويستوي في الركن ذكر التطليقة وبعضها حتى لو قال لها أنت طالق بعض تطليقة أو ربع تطليقة أو ثلث تطليقة أو نصف تطليقة أو جزءا من ألف جزء من تطليقة يقع تطليقة كاملة وهذا على قول عامة العلماء. وقال ربيعة الرأي لا يقع عليها شيء لأن نصف تطليقة لا يكون تطليقة حقيقة بل هو بعض تطليقة وبعض الشيء ليس عين ذلك الشيء إن لم يكن له غيره. "ولنا" أن الطلاق لا يتبعض وذكر البعض فيما لا يتبعض ذكر لكله كالعفو عن بعض القصاص أنه يكون عفوا عن الكل. ولو قال: أنت طالق طلقة واحدة ونصف أو واحدة وثلث طلقت اثنتين لأن البعض من تطليقة تطليقة كاملة فصار كأنه قال أنت طالق اثنتين بخلاف ما إذا قال: أنت طالق واحدة ونصفها أو ثلثها أنه لا يقع إلا واحدة لأن هناك أضاف النصف إلى الواحدة الواقعة والواقع لا يتصور وقوعه ثانيا وهنا ذكر نصا منكرا غير مضاف إلى واقع فيكون إيقاع تطليقة أخرى. ولو قال أنت طالق سدس تطليقة أو ثلث تطليقة أو نصف تطليقة أو ثلثي تطليقة فهو ثلاث لما ذكرنا أن كل جزء من التطليقة تطليقة كاملة هذا إذا كانت مدخولا بها فإن كانت غير مدخول بها فلا تقع إلا واحدة لأنها بانت بالأولى, كما إذا قال أنت طالق وطالق وطالق, ولو قال أنت طالق سدس تطليقة وثلثها ونصفها بعد أن لا يتجاوز العدد عن واحدة لو جمع ذلك فهو تطليقة واحدة ولو تجاوز بأن قال: أنت طالق سدس تطليقة وربعها

 

ج / 3 ص -99-         وثلثها ونصفها؛ لم يذكر هذا في ظاهر الرواية واختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يقع تطليقتان. وقال بعضهم يقع تطليقة واحدة ولو قال أنت طالق ثلاثة أنصاف تطليقتين فهي ثلاث لأن نصف التطليقتين تطليقة, فثلاثة أنصاف تطليقتين ثلاثة أمثال تطليقة فصار كأنه قال أنت طالق ثلاث تطليقات ولو كان أربع نسوة فقال بينكن تطليقة طلقت كل واحدة واحدة لأن الطلقة الواحدة إذا قسمت على أربع أصاب كل واحدة ربعها وربع تطليقة تطليقة كاملة, وكذلك إذا قال بينكن تطليقتان أو ثلاث أو أربع لأن التطليقتين إذا انقسمتا بين الأربع يصيب كل واحدة نصف تطليقة, ونصف التطليقة تطليقة, فإن قيل لم لا يقسم كل تطليقة بحيالها على الأربع فيلزم تطليقتان؟ فالجواب أنه ما فعل هكذا بل جعل التطليقتين جميعا بين الأربع لأن الجنس واحد لا يتفاوت, والقسمة في الجنس الواحد الذي لا يتفاوت يقع على جملته وإنما يقسم الآحاد إذا كان الشيء متفاوتا فإن نوى الزوج أن يكون كل تطليقة على حيالها بينهن يكون على ما نوى ويقع على كل واحدة منهن تطليقتان لأنه نوى ما يحتمله كلامه وهو غير متهم فيه لأنه شدد على نفسه فيصدق ولو قال: بينكن خمس تطليقات فكل واحدة طالق اثنتين لأن الخمس إذا قسمت على الأربع أصاب كل واحدة تطليقة وربع تطليقة؛ وربع تطليقة تطليقة كاملة فيكون تطليقتين وعلى هذا ما زاد على خمسة إلى ثمانية. فإن قال بينكن تسع تطليقات وقعت على كل واحدة ثلاث تطليقات لأن التسع إذا قسمت على أربع أصاب كل واحدة منهن تطليقتان وربع تطليقة, وربع تطليقة تطليقة كاملة فيقع على كل واحدة ثلاثة وعلى هذا قالوا لو قال أشركت بينكن في تطليقتين أو في ثلاث أو أربع أو خمس أو ست أو سبع أو ثمان أو تسع إن هذا وقوله بينكن سواء لأن لفظة البين تنبي عن الشركة فقوله "بينكن" كذا معناه أشركت بينكن كذا بخلاف ما إذا طلق امرأة له تطليقتين ثم قال لأخرى قد أشركتك في طلاقها أنه يقع عليها تطليقتان لأن قوله أشركتك في طلاقها إثبات الشركة في الواقع ولا تثبت الشركة في الواقع إلا بثبوت الشركة في كل واحد منهما لأنه لا يمكن رفع التطليقة الواقعة عنها وإيقاعها على الأخرى فلزمت الشركة في كل واحدة من التطليقتين على الانفراد وهذا يوجب وقوع تطليقتين على الأخرى وسواء كان مباشرة الركن من الزوج بطريق الأصالة أو من غيره بطريق النيابة عنه بالوكالة والرسالة لأن الطلاق مما تجري فيه النيابة فكان فعل النائب كفعل المنوب عنه "وأما" الذي يقوم مقام اللفظ فالكتابة والإشارة على ما نذكر إن شاء الله تعالى.

                                                         "فصل":
 وأما شرائط الركن فأنواع بعضها يرجع إلى الزوج وبعضها يرجع إلى المرأة وبعضها يرجع إلى نفس الركن وبعضها يرجع إلى الوقت أما. الذي يرجع إلى الزوج فمنها أن يكون عاقلا حقيقة أو تقديرا فلا يقع طلاق المجنون والصبي الذي لا يعقل لأن العقل شرط أهلية التصرف لأن به يعرف كون التصرف مصلحة وهذه التصرفات ما شرعت إلا لمصالح العباد "وأما" السكران إذا طلق امرأته فإن كان سكره بسبب محظور بأن شرب الخمر أو النبيذ طوعا حتى سكر وزال عقله فطلاقه واقع عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وعن عثمان رضي الله عنه أنه لا يقع طلاقه وبه أخذ الطحاوي والكرخي وهو أحد قولي الشافعي وجه قولهم: إن عقله زائل والعقل من شرائط أهلية التصرف لما ذكرنا ولهذا لا يقع طلاق المجنون والصبي الذي لا يعقل والذي زال عقله بالبنج والدواء كذا هذا والدليل عليه أنه لا تصح ردته فلأن لا يصح طلاقه أولى. "ولنا" عموم قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} من غير فصل بين السكران وغيره إلا من خص بدليل. وقوله عليه الصلاة والسلام "كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه" ولأن عقله زال بسبب؛ هو معصية فينزل قائما عقوبة عليه وزجرا له عن ارتكاب المعصية ولهذا لو قذف إنسانا أو قتل يجب عليه الحد والقصاص وأنهما لا يجبان على غير العاقل دل أن عقله جعل قائما وقد يعطى للزائل حقيقة حكم القائم تقديرا إذا زال بسبب هو معصية للزجر والردع كمن قتل مورثه أنه يحرم الميراث ويجعل المورث حيا زجرا للقاتل وعقوبة عليه بخلاف ما إذا زال بالبنج والدواء لأنه ما زال بسبب هو معصية إلا أنه لا تصح ردة السكران استحسانا نظرا له لأن بقاء العقل تقديرا بعد زواله حقيقة للزجر وإنما تقع الحاجة إلى

 

ج / 3 ص -100-       الزاجر فيما يغلب وجوده لوجود الداعي إليه طبعا, والردة لا يغلب وجودها لانعدام الداعي إليها فلا حاجة إلى استبقاء عقله فيها للزجر ولأن جهة زوال العقل حقيقة تقتضي بقاء الإسلام وجهة بقائه تقديرا تقتضي زوال الإسلام فيرجح جانب البقاء لأن الإسلام يعلو ولا يعلى عليه, ولهذا يحكم بإسلام الكافر إذا أكره على الإسلام ولا يحكم بكفر المسلم إذا أكره على إجراء كلمة الكفر فأجرى وأخبر أن قلبه كان مطمئنا بالإيمان كذا هذا, وإن كان سكره بسبب مباح لكن حصل له به لذة بأن شرب الخمر مكرها حتى سكر أو شربها عند ضرورة العطش فسكر قالوا: إن طلاقه واقع أيضا لأنه وإن زال عقله فإنما حصل زوال عقله بلذة فيجعل قائما ويلحق الإكراه والاضطرار بالعدم كأنه شرب طائعا حتى سكر وذكر محمد رحمه الله تعالى فيمن شرب النبيذ ولم يزل عقله ولكن صدع فزال عقله بالصداع أنه لا يقع طلاقه؛ لأنه ما زال عقله بمعصية ولا بلذة فكان زائلا حقيقة وتقديرا وكذلك إذا شرب البنج أو الدواء الذي يسكر وزال عقله لا يقع طلاقه لما قلنا.
ومنها أن لا يكون معتوها ولا مدهوشا ولا مبرسما ولا مغميا عليه ولا نائما فلا يقع طلاق هؤلاء لما قلنا في المجنون وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال
"كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه". ومنها أن يكون بالغا فلا يقع طلاق الصبي وإن كان عاقلا لأن الطلاق لم يشرع إلا عند خروج النكاح من أن يكون مصلحة وإنما يعرف ذلك بالتأمل والصبي لاشتغاله باللهو واللعب لا يتأمل فلا يعرف. وأما كون الزوج طائعا فليس بشرط عند أصحابنا وعند الشافعي شرط حتى يقع طلاق المكره عندنا وعنده لا يقع ونذكر المسألة في كتاب الإكراه إن شاء الله تعالى وذكر محمد بإسناده "أن امرأة اعتقلت زوجها وجلست على صدره ومعها شفرة فوضعتها على حلقه, وقالت: لتطلقني ثلاثا أو لأنفذنها فناشدها الله أن لا تفعل فأبت فطلقها ثلاثا فذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لا قيلولة في الطلاق". وكذا كونه جادا ليس بشرط فيقع طلاق الهازل بالطلاق واللاعب لما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والعتاق", وروي النكاح والطلاق والرجعة" وعن أبي الدرداء رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من لعب بطلاق أو عتاق لزمه". وقيل فيه نزل قوله سبحانه وتعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُواً} وكان الرجل في الجاهلية يطلق امرأته ثم يراجع فيقول كنت لاعبا ويعتق عبده ثم يرجع فيقول كنت لاعبا فنزلت الآية فقال صلى الله عليه وسلم: "من طلق أو حرر أو نكح فقال إني كنت لاعبا فهو جائز منه".
وكذا التكلم بالطلاق ليس بشرط فيقع الطلاق بالكتابة المستبينة وبالإشارة المفهومة من الأخرس لأن الكتابة المستبينة تقوم مقام اللفظ والإشارة المفهومة تقوم مقام العبارة. وكذا الخلو عن شرط الخيار ليس بشرط فيقع طلاق شارط الخيار في باب الطلاق بغير عوض لأن شرط الخيار للتمكن من الفسخ عند الحاجة والذي من جانب الزوج وهو الطلاق لا يحتمل الفسخ لقوله صلى الله عليه وسلم:
"لا قيلولة في الطلاق" "وأما" الخلو عن شرط الخيار للمرأة في الطلاق بعوض فشرط لأن الذي من جانبها المال فكان من جانبها معاوضة المال وأنها محتملة للفسخ فصح شرط الخيار فيها, فيمنع انعقاد السبب كالبيع حتى أنها لو ردت بحكم الخيار بطل العقد ولا يقع الطلاق. وكذا صحة الزوج ليس بشرط وكذا إسلامه فيقع طلاق المريض والكافر لأن المرض والكفر لا ينافيان أهلية الطلاق وكذا كونه عامدا ليس بشرط حتى يقع طلاق الخاطئ وهو الذي يريد أن يتكلم بغير الطلاق فسبق لسانه بالطلاق لأن الفائت بالخطأ ليس إلا القصد وأنه ليس بشرط لوقوع الطلاق كالهازل واللاعب بالطلاق وكذلك العتاق لما قلنا في الطلاق وذكر الكرخي أن في العتاق روايتين فإن هشاما روى عن محمد عن أبي حنيفة أن من أراد أن يقول لامرأته اسقيني ماء فقال لها أنت طالق وقع ولو أراد ذلك في العبد فقال أنت حر لم يقع وروى بشر بن الوليد الكندي عن أبي يوسف عن أبي حنيفة أنهما يتساويان وهو الصحيح لما ذكرنا "وجه" رواية هشام أن ملك البضع ثبت بسبب يتساوى فيه القصد وعدم القصد وهو النكاح فعلى ذلك زواله بخلاف ملك العبد فإنه يثبت بسبب مختلف فيه القصد وعدم القصد وهو البيع ونحو ذلك فكذلك زواله وهذا ليس بسديد لأنه

 

 

ج / 3 ص -101-       قد يشرط لثبوت الحكم من الشرائط ما لا يشرط لزواله, فكان الاستدلال بالثبوت على الزوال استدلالا فاسدا.

                                                             "فصل":
ومنها النية في أحد نوعي الطلاق وهو الكناية, وجملة الكلام في هذا الشرط في موضعين: أحدهما في. بيان الألفاظ التي يقع بها الطلاق في الشرع, والثاني في بيان صفة الواقع بها أما الأول فالألفاظ التي يقع بها الطلاق في الشرع نوعان: صريح وكناية أما الصريح فهو اللفظ الذي لا يستعمل إلا في حل قيد النكاح, وهو لفظ الطلاق أو التطليق مثل قوله: "أنت طالق" أو "أنت الطلاق, أو طلقتك, أو أنت مطلقة" مشددا, سمي هذا النوع صريحا؛ لأن الصريح في اللغة اسم لما هو ظاهر المراد مكشوف المعنى عند السامع من قولهم: صرح فلان بالأمر أي: كشفه وأوضحه, وسمي البناء المشرف صرحا لظهوره على سائر الأبنية, وهذه الألفاظ ظاهرة المراد؛ لأنها لا تستعمل إلا في الطلاق عن قيد النكاح فلا يحتاج فيها إلى النية لوقوع الطلاق؛ إذ النية عملها في تعيين المبهم ولا إبهام فيها. وقال الله تعالى:
{فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} شرع الطلاق من غير شرط النية. وقال سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} مطلقا. وقال سبحانه وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, حكم سبحانه وتعالى بزوال الحل مطلقا عن شرط النية وروينا: "أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حال الحيض أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يراجعها ولم يسأله هل نوى الطلاق أو لم ينو؟". ولو كانت النية شرطا لسأله ولا مراجعة إلا بعد وقوع الطلاق, فدل على وقوع الطلاق من غير نية, ولو قال لها: أنت طالق ثم قال: أردت أنها طالق من وثاق لم يصدق في القضاء لما ذكرنا أن ظاهر هذا الكلام الطلاق عن قيد النكاح فلا يصدقه القاضي في صرف الكلام عن ظاهره. وكذا لا يسع للمرأة أن تصدقه؛ لأنه خلاف الظاهر ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه نوى ما يحتمله كلامه في الجملة والله تعالى مطلع على قلبه, ولو قال: أنت طالق. وقال: أردت أنها طالق من العمل لم يصدق في القضاء ولا فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن هذا اللفظ لا يستعمل في الطلاق عن العمل فقد نوى ما لا يحتمله لفظه أصلا فلا يصدق أصلا. وروى الحسن عن أبي حنيفة فيمن قال: أنت طالق. وقال: نويت الطلاق من عمل أو قيد يدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنها مطلقة من هذين الأمرين حقيقة فقد نوى ما يحتمله حقيقة كلامه فجاز أن يصدق فيه, ولو صرح فقال: أنت طالق من وثاق لم يقع في القضاء؛ لأن المرأة قد توصف بأنها طالق من وثاق وإن لم يكن مستعملا فإذا صرح به يحمل عليه وإن صرح فقال: أنت طالق من هذا العمل وقع الطلاق في القضاء؛ لأن هذا اللفظ لا يستعمل في الطلاق عن العمل لا حقيقة ولا مجازا ولا يقع فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه يحتمله في الجملة وإن كان خلاف الظاهر, وعلى قياس رواية الحسن ينبغي أن لا يقع أيضا في القضاء ولو قال: أنت أطلق من امرأة فلان وهي مطلقة فذلك على نيته إلا أن يكون جوابا لمسألة الطلاق; لأن لفظة أفعل ليست صريحة في الكلام ألا ترى أن من قال لآخر: أنت أزنى من فلان لم يكن قذفا صريحا حتى لا يجب الحد. ومعلوم أن صريح القذف يوجب الحد وإذا لم يكن صريحا وقف على النية إلا إذا خرج جوابا لسؤال الطلاق فينصرف إليه بقرينة السؤال وكذا إذا قال لها أنت مطلقة وخفف فهو على نيته لما ذكرنا أن الانطلاق لا يستعمل في قيد النكاح وإنما يستعمل في القيد الحقيقي والحبس فلم يكن صريحا فوقف على النية. وروى ابن سماعة عن محمد فيمن قال لامرأته: كوني طالقا أو أطلقي. قال: أراه واقعا؛ لأن قوله: كوني ليس أمرا حقيقة وإن كانت صيغته صيغة الأمر, بل هو عبارة عن إثبات كونها طالقا كما في قوله تعالى: {كُنْ فَيَكُونُ} إن قوله: كن ليس بأمر حقيقة وإن كانت صيغته صيغة الأمر, بل هو كناية عن التكوين ولا تكون طالقا إلا بالطلاق وكذا قوله: "اطلقي" وكذلك إذا قال لامرأته: كوني حرة أو عتقى ولو قال: يا مطلقة وقع عليها الطلاق؛ لأنه وصفها بكونها مطلقة ولا تكون مطلقة إلا بالتطليق, فإن قال: أردت به الشتم لا يصدق في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر؛ لأنه نوى فيما هو وصف أن لا يكون وصفا فكان عدولا عن الظاهر فلا يصدقه القاضي, ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى; لأنه قد يراد بمثله الشتم ولو كان لها زوج قبله, فقال: عنيت ذلك الطلاق دين في القضاء؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه؛ لأنه وصفها بكونها مطلقة في نفسها من غير الإضافة إلى نفسه, وقد تكون مطلقته وقد تكون مطلقة

 

ج / 3 ص -102-       زوجها الأول, فالنية صادفت محلها فصدق في القضاء, وإذا لم يكن لها زوج قبله لا يحتمل أن تكون مطلقة غيره فانصرف الوصف إلى كونها مطلقة له, ولو قال لها: أنت طالق طالق أو قال: أنت طالق أنت طالق أو قال: قد طلقتك قد طلقتك, أو قال: أنت طالق قد طلقتك يقع ثنتان إذا كانت المرأة مدخولا بها؛ لأنه ذكر جملتين كل واحدة منهما إيقاع تام لكونه مبتدأ وخبرا, والمحل قابل للوقوع, ولو قال: عنيت بالثاني الإخبار عن الأول لم يصدق في القضاء؛ لأن هذه الألفاظ في عرف اللغة والشرع تستعمل في إنشاء الطلاق فصرفها إلى الإخبار يكون عدولا عن الظاهر, فلا يصدق في الحكم ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن صيغتها صيغة الإخبار, ولو قال لامرأته: أنت طالق فقال له رجل: ما قلت؟ فقال: طلقتها أو قال قلت: هي طالق فهي واحدة في القضاء؛ لأن كلامه انصرف إلى الإخبار بقرينة الاستخبار. "وأما" الطلاق بالفارسية فقد روي عن أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه قال في فارسي قال لامرأته: بهشتم إن زن, أو قال: إن زن بهشتم, أو قال: بهشتم لا يكون ذلك طلاقا إلا أن ينوي به الطلاق؛ لأن معنى هذا اللفظ بالعربية خليت, وقوله: خليت من كنايات الطلاق بالعربية, فكذا هذا اللفظ إلا أن أبا حنيفة فرق بين اللفظين من وجهين: أحدهما أنه قال: إذا نوى الطلاق بقوله: خليت يقع بائنا, وإذا نوى الطلاق بهذه اللفظة يقع رجعيا؛ لأن هذا اللفظ يحتمل أن يكون صريحا في لغتهم ويحتمل أن يكون كناية فلا تثبت البينونة بالشك. والثاني قال: إن قوله: خليت في حال الغضب وفي حال مذاكرة الطلاق يكون طلاقا حتى لا يدين في قوله إنه ما أراد به الطلاق, وهذا اللفظ في هاتين الحالتين لا يكون طلاقا حتى لو قال: ما أردت به الطلاق يدين في القضاء; لأن هذا اللفظ أقيم مقام التخلية فكان أضعف من التخلية فلا تعمل فيه دلالة الحال, ولم يفرق بينهما فيما سوى ذلك حتى قال: إن نوى بائنا يكون بائنا وإن نوى ثلاثا يكون ثلاثا كما لو قال: خليت ونوى البائن أو الثلاث ولو نوى ثنتين يكون واحدة, كما في قوله: خليت إلا أن ههنا يكون واحدة يملك الرجعة بخلاف لفظة التخلية لما بينا. وقال أبو يوسف: إذا قال: بهشتم إن زن, أو قال: إن زن بهشتم هي طالق نوى الطلاق أو لم ينو ويكون تطليقة رجعية؛ لأن أبا يوسف خالط العجم ودخل جرجان فعرف أن هذا اللفظ في لغتهم صريح قال: وإن قال: بهشتم, ولم يقل: إن زن, فإن قال: ذلك في حال سؤال الطلاق أو في حال الغضب فهي واحدة يملك الرجعة ولا يدين إنه ما أراد به الطلاق في القضاء, وإن قال في غير حال الغضب ومذاكرة الطلاق يدين في القضاء؛ لأن معنى قولهم بهشتم خليت, وليس في قوله: خليت إضافة إلى النكاح ولا إلى الزوجة فلا يحمل على الطلاق إلا بقرينة نية أو بدلالة حال, وحال الغضب ومذاكرة الطلاق دليل إرادة الطلاق ظاهرا فلا يصدق في الصرف عن الظاهر قال: وإن نوى بائنا فبائن. وإن نوى ثلاثا فثلاث؛ لأن هذا اللفظ وإن كان صريحا في الفارسية فمعناه التخلية في العربية فكان محتملا للبينونة والثلاث كلفظة التخلية فجاز أن يحمل عليه بالنية. وقال محمد في قوله: بهشتم إن زن, أو إن زن بهشتم إن هذا صريح الطلاق كما قال أبو يوسف. وقال في قوله: بهشتم إنه إن كان في حال مذاكرة الطلاق فكذلك ولا يدين؛ إنه ما أراد به الطلاق, وإن لم يكن في حال مذاكرة الطلاق يدين, سواء كان في حال الغضب أو الرضا؛ لأن معنى هذا اللفظ بالعربية: أنت مخلاة أو قد خليتك. وقال زفر: إذا قال بهشتم ونوى الطلاق بائنا أو غير بائن فهو بائن وإن نوى ثلاثا فثلاث وإن نوى اثنتين فاثنتان وأجري هذه اللفظة مجرى قوله: خليت, ولو قال: خليتك ونوى الطلاق فهي واحدة بائنة نوى البينونة أو لم ينو, وإن نوى ثلاثا يكون ثلاثا, وإن نوى اثنتين يكون اثنتين على أصله فكذا هذا. هذا ما نقل عن أصحابنا في الطلاق بالفارسية, والأصل الذي عليه الفتوى في زماننا هذا في الطلاق بالفارسية أنه إن كان فيها لفظ لا يستعمل إلا في الطلاق فذلك اللفظ صريح يقع به الطلاق من غير نية إذا أضيف إلى المرأة, مثل أن يقول في عرف ديارنا: دها كنم أو في عرف خراسان والعراق بهشتم; لأن الصريح لا يختلف باختلاف اللغات وما كان في الفارسية من الألفاظ ما يستعمل في الطلاق وفي غيره فهو من كنايات الفارسية فيكون حكمه حكم كنايات العربية في جميع الأحكام والله أعلم. ولو قال لامرأته: أنت طالق ونوى به الإبانة فقد لغت نيته؛ لأنه نوى تغيير الشرع لأن الشرع أثبت

 

ج / 3 ص -103-       البينونة بهذا اللفظ مؤجلا إلى ما بعد انقضاء العدة, فإذا نوى إبانتها للحال معجلا فقد نوى تغيير الشرع وليس له هذه الولاية فبطلت نيته وإن نوى ثلاثا لغت نيته أيضا في ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة أنه تصح نيته وبه أخذ الشافعي وجه هذه الرواية أن قوله: "طالق" مشتق من الطلاق كالضارب ونحوه, يدل على ثبوت مأخذ الاشتقاق وهو الطلاق كسائر الألفاظ المشتقة من المعاني, ألا ترى أنه لا يتصور الضارب بلا ضرب والقاتل بلا قتل ولا يتصور الطالق بلا طلاق؟ فكان الطلاق بائنا فصحت نية الثلاث منه كما لو نص على الطلاق فقال: أنت طالق طلاقا وكما لو قال لها: أنت بائن, ونوى الثلاث أنه تصح نية الثلاث لما قلنا, كذا هذا. وجه ظاهر الرواية قوله عز وجل: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ} أثبت الرجعة حال قيام العدة للمطلق مطلقا من غير فصل بين ما إذا نوى الثلاث أو لم ينو, فوجب القول بثبوت حق الرجعة عند مطلق التطليق إلا بما قيد بدليل, ولأنه نوى ما يحتمله لفظه فلا تصح نيته كما إذا قال لها: اسقيني ونوى به الطلاق, ودلالة الوصف أنه نوى الثلاث, وقوله: طالق لا يحتمل الثلاث لوجهين: أحدهما أن طالق اسم للذات, وذاتها واحد, والواحد لا يحتمل العدد إلا أن الطلاق ثبت مقتضى الطالق ضرورة صحة التسمية بكونها طالقا؛ لأن الطالق بدون الطلاق لا يتصور كالضارب بدون الضرب, وهذا المقتضى غير متنوع في نفسه فكان عدما فيما وراء صحة التسمية. وذلك على الأصل المعهود في الثابت ضرورة أنه يتقدر بقدر الضرورة, ولا ضرورة في قبول نية الثلاث فلا يثبت فيه بخلاف ما إذا قال لها: أنت طالق طلاقا؛ لأن الطلاق هناك منصوص عليه فكان ثابتا من جميع الوجوه فيثبت في حق قبول النية وبخلاف قوله: أنت بائن؛ لأن البائن مقتضاه البينونة, وإنها متنوعة إلى غليظة وخفيفة فكان اسم البائن بمنزلة الاسم المشترك لتنوع محل الاشتقاق وهو البينونة كاسم الجالس; يقال: جلس أي: قعد ويقال جلس أي: أتى نجدا فكان الجالس من الأسماء المشتركة لتنوع محل الاشتقاق وهو الجلوس, فكذا البائن والاسم المشترك لا يتعين المراد منه إلا بمعين, فإذا نوى الثلاث فقد عين إحدى نوعي البينونة فصحت نيته, وإذا لم يكن له لا يقع شيء لانعدام المعين بخلاف قوله: "طالق" لأنه مأخوذ من الطلاق, والطلاق في نفسه لا يتنوع لأنه رفع القيد, والقيد نوع واحد. والثاني: إن سلمنا أن الطلاق صار مذكورا على الإطلاق لكنه في اللغة والشرع عبارة عن رفع قيد النكاح؛ والقيد في نكاح واحد واحد فيكون الطلاق واحدا ضرورة فإذا نوى الثلاث فقد نوى العدد فيما لا عدد له فبطلت نيته, فكان ينبغي أن لا يقع الثلاث أصلا؛ لأن وقوعه ثبت شرعا بخلاف القياس فيقتصر على مورد الشرع, ولو قال: أنت طالق طلاقا فإن لم تكن نية فهي واحدة وإن نوى ثلاثا كان ثلاثا, كذا ذكر في الأصل وفي الجامع الصغير عن أبي حنيفة أنه لا يكون إلا واحدة. وجه هذه الرواية أنه ذكر المصدر للتأكيد لما ذكرنا أن قوله: طالق يقتضي الطلاق فكان قوله: "طلاقا" تنصيصا على المصدر الذي اقتضاه الطالق فكان تأكيدا كما يقال: قمت قياما وأكلت أكلا, فلا يفيد إلا ما أفاده المؤكد وهو قوله: "طالق" فلا يقع إلا واحدة كما لو قال: أنت طالق, ونوى به الثلاث. وجه ظاهر الروايات أن قوله: "طلاقا" مصدر فيحتمل كل جنس الطلاق؛ لأن المصدر يقع على الواحد ويحتمل الكل قال الله تعالى: {لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً} وصف الثبور الذي هو مصدر بالكثرة, والثلاث في عقد واحد كل جنس الطلاق, فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله كلامه فتصح نيته, وإذا لم يكن له نية يحمل على الواحد؛ لأنه متيقن, وقد خرج الجواب عما سبق؛ لأن الكلام إنما يحمل على التأكيد إذا لم يمكن حمله على فائدة جديدة, وههنا أمكن على ما بينا, ولو نوى اثنتين لا على التقسيم في قوله: طالق طلاقا لا تصح نيته؛ لأن لفظ المصدر واحد فلا بد من تحقيق معنى التوحيد فيه, ثم الشيء قد يكون واحدا من حيث الذات, وهو أن يكون ذاته واحدا من النوع كزيد من الإنسان, وقد يكون واحدا من حيث النوع كالإنسان من الحيوان, ولا توجد في الاثنين لا من حيث الذات ولا من حيث النوع فكان عددا محضا فلا يحتمله لفظة الواحد بخلاف الثلاث فإنه واحد من حيث الجنس؛ لأنه كل جنس ما يملكه من الطلاق في هذا النكاح, وكل جنس من الأفعال يكون جنسا واحدا ألا ترى أنك متى عددت الأجناس تعده

 

ج / 3 ص -104-       جنسا واحدا من الأجناس, كالضرب يكون جنسا واحدا من سائر أجناس الفعل. وكذا الأكل والشرب ونحو ذلك, ولو نوى ثنتين على التقسيم تصح نيته لما نذر, ولو قال: أنت الطلاق ونوى الثلاث صحت نيته؛ لأن الفعل قد يذكر بمعنى المفعول يقال: هذا الدرهم ضرب الأمير أي: مضروبه وهذا علم أبي حنيفة أي معلومه فلو حملناه على المصدر للغا كلامه, ولو حملناه على معنى المفعول لصح فكان الحمل عليه أولى وصحت نية الثلاث؛ لأن النية تتبع المذكور, والمذكور يلازم الجنس, ولو قال لها: أنت طالق بدون الألف واللام ذكر الطحاوي أنه لا يكون إلا واحدة وإن نوى الثلاث, وفرق بينه وبين قوله: أنت الطالق وذكر الجصاص: أن هذا الفرق لا يعرف له وجه إلا على الرواية التي روى عن أبي حنيفة في قوله: أنت طالق طلاقا أنه لا يكون إلا واحدة وإن نوى الثلاث. فأما على الرواية المشهورة في التسوية بين قوله: أنت طالق الطلاق, وبين قوله: أنت طالق طلاقا, فلا يتبين وجه الفرق بين قوله: أنت طلاق وبين قوله: أنت الطلاق. وحكي أن الكسائي سأل محمد بن الحسن عن قول الشاعر:

فإن ترفقي يا هند فالرفق أيمن            وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم

فأنت طلاق والطلاق عزيمة                 ثلاث ومن يخرق أعق وأظلم

فقال محمد رحمه الله: إن قال: والطلاق عزيمة ثلاث طلقت واحدة بقوله أنت طلاق, وصار قوله: والطلاق عزيمة ثلاث ابتداء وخبرا غير متعلق بالأول, وإن قال: والطلاق عزيمة ثلاثا طلقت ثلاثا, كأنه قال: أنت طالق ثلاثا والطلاق عزيمة؛ لأن الثلاث هي في الحال تفسير الموقع فاستحسن الكسائي جوابه. وكذا لو قال: أنت طالق الطلاق ونوى الثلاث؛ لأنه ذكر المصدر وعرفه فاللام التعريف فيستغرق كل جنس المشروع من الطلاق في هذا الملك وهو الثلاث, فإذا نوى الثلاث فقد نوى حقيقة كلامه فصحت نيته إلا أن عند الإطلاق لا ينصرف إليه لقرينة تمنع من التصرف إليه على ما نذكره, ولو نوى ثنتين لا على التقسيم لا تصح نيته لما ذكرنا أن الطلاق مصدر, والمصدر صيغته صيغة واحدة فكان تحقيق معنى التوحيد فيه لازما, والاثنان عدد محض لا توجد فيه بوجه فلا يحتمله اللفظ الموضوع للتوحيد, وإنما احتمل الثلاث من حيث التوحيد؛ لأنه كل جنس ما يملكه من الطلاق في هذا الملك, وكل الجنس جنس واحد بالإضافة إلى غيره من الأجناس وأمكن تحقيق معنى التوحيد فيه وإن لم يكن له نية لا يقع إلا واحدة؛ لأنه وإن عرف المصدر فاللام التعريف الموضوعة لاستغراق الجنس لكنه انصرف إلى الواحد بدلالة الحال؛ لأن إيقاع الثلاث جملة محظور, والظاهر من حال المسلم أن لا يرتكب المحظور فانصرف إلى الواحد بقرينة وصار هذا كما إذا حلف لا يشرب الماء أو لا يتزوج النساء أو لا يكلم بني آدم أنه إن نوى كل جنس من هذه الأجناس صحت نيته, وإن لم يكن له نية ينصرف إلى الواحد من كل جنس لدلالة الحال كذا هذا, ولو قال: أردت بقولي أنت طالق واحدة, وبقولي: الطلاق أو طلاقا أخرى صدق؛ لأنه ذكر لفظين كل واحد منهما يصلح إيقاعا تاما ألا ترى أنه إذا قال لها: أنت طالق يقع الطلاق, ولو قال: أنت الطلاق أو طلاق يقع أيضا, فإذا أراد ذلك صار كأنه قال لها: أنت طالق وطالق. ولو قال لامرأته: طلقي نفسك ونوى به الثلاث صحت نيته حتى لو قالت: طلقت نفسي ثلاثا كان ثلاثا؛ لأن المصدر يصير مذكورا في الأمر؛ لأن معناه حصلي طلاقا, والمصدر يقع على الواحد ويحتمل الكل فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله لفظه وإن لم يكن له نية ينصرف إلى الواحد لكونه متيقنا, وإن نوى ثنتين لا يصح؛ لأنه عدد محض فكان معنى التوحد فيه منعدما أصلا ورأسا؛ فلا يحتمله صيغة واحدة, ولو طلق امرأته تطليقة يملك الرجعة ثم قال لها قبل انقضاء العدة: قد جعلت تلك التطليقة التي أوقعتها عليك ثلاثا أو قال قد جعلتها بائنا اختلف أصحابنا الثلاثة فيه قال: أبو حنيفة يكون ثلاثا ويكون بائنا. وقال محمد: لا يكون ثلاثا ولا بائنا. وقال أبو يوسف: يكون بائنا ولا يكون ثلاثا. وجه قول محمد: أن الطلاق بعد وقوعه شرعا بصفة لا يحتمل التغيير عن تلك الصفة؛ لأن تغييره يكون تغيير الشرع والعبد لا يملك ذلك ألا ترى أنه لو طلقها ثلاثا فجعلها واحدة لا تصير واحدة؟ وكذا لو طلقها تطليقة بائنة فجعلها رجعية لا تصير رجعية لما قلنا كذا هذا. وجه قول أبي يوسف أن التطليقة الرجعية يحتمل

 

ج / 3 ص -105-       أن يلحقها البينونة في الجملة ألا يرى أنه لو تركها حتى انقضت عدتها تصير بائنة فجاز تعجيل البينونة فيها أيضا. فأما الواحدة فلا يحتمل أن تصير ثلاثا أبدا فلغا قوله: جعلتها ثلاثا ولأبي حنيفة أنه يملك إيقاع هذه التطليقة بائنة من الابتداء فيملك إلحاقها بالبائنة؛ لأنه يملك إنشاء الإبانة في هذه الجملة كما كان يملكها في الابتداء, ومعنى "جعل الواحدة ثلاثا" أنه ألحق بها تطليقتين أخريين لا أنه جعل الواحد ثلاثا.

                                                               "فصل":
"وأما" الكناية فنوعان: نوع هو كناية بنفسه وضعا, ونوع هو ملحق بها شرعا في حق النية, أما النوع الأول فهو كل لفظ يستعمل في الطلاق ويستعمل في غيره نحو قوله: أنت بائن, أنت علي حرام خلية برئية بتة أمرك بيدك اختاري اعتدي استبرئي رحمك أنت واحدة خليت سبيلك سرحتك حبلك على غاربك فارقتك خالعتك ولم يذكر العوض لا سبيل لي عليك لا ملك لي عليك لا نكاح لي عليك أنت حرة قومي اخرجي اغربي انطلقي انتقلي تقنعي استتري تزوجي ابتغي الأزواج الحقي بأهلك ونحو ذلك. سمي هذا النوع من الألفاظ كناية؛ لأن الكناية في اللغة اسم لفظ استتر المراد منه عند السامع, وهذه الألفاظ مستترة المراد عند السامع فإن قوله: "بائن" يحتمل البينونة عن النكاح ويحتمل البينونة عن الخير أو الشر, وقوله: "حرام" يحتمل حرمة الاستمتاع ويحتمل حرمة البيع والقتل والأكل ونحو ذلك, وقوله: "خلية" مأخوذ من الخلو فيحتمل الخلو عن الزوج والنكاح ويحتمل الخلو عن الخير أو الشر, وقوله "بريئة" من البراءة فيحتمل البراءة من النكاح ويحتمل البراءة من الخير أو الشر وقوله: "بتة" من البت وهو القطع فيحتمل القطع عن النكاح ويحتمل القطع عن الخير أو عن الشر, وقوله: "أمرك بيدك" يحتمل في الطلاق. ويحتمل في أمر آخر من الخروج والانتقال وغير ذلك وقوله: "اختاري" يحتمل اختيار الطلاق ويحتمل اختيار البقاء على النكاح وقوله: "اعتدي" أمر بالاعتداد وأنه يحتمل الاعتداد الذي هو من العدة ويحتمل الاعتداد الذي هو من العدد أي اعتدي نعمتي التي أنعمت عليك وقوله "استبرئي رحمك" أمر بتعريف براءة الرحم وهو طهارتها عن الماء وأنه كناية عن الاعتداد الذي هو من العدة ويحتمل استبرئي رحمك لأطلقك وقوله "أنت واحدة" يحتمل أن تكون الواحدة صفة الطلقة أي: طالق واحدة أي: طلقة واحدة ويحتمل التوحيد في الشرف أي: أنت واحدة في الشرف, وقوله: "خليت سبيلك" يحتمل سبيل النكاح ويحتمل سبيل الخروج من البيت لزيارة الأبوين أو لأمر آخر, وقوله: "سرحتك" يعني خليتك يقال: سرحت إبلي وخليتها بمعنى واحد, وقولك حبلك على غاربك استعارة عن التخلية؛ لأن الجمل إذا ألقي حبله على غاربه فقد خلي سبيله يذهب حيث شاء, وقوله: "فارقتك" يحتمل المفارقة عن النكاح ويحتمل المفارقة عن المكان والمضجع وعن الصداقة, وقوله "خالعتك" ولم يذكر العوض يحتمل الخلع عن نفسه بالطلاق ويحتمل الخلع عن نفسه بالهجر عن الفراش ونحو ذلك, وقوله: "لا سبيل لي عليك" يحتمل سبيل النكاح ويحتمل سبيل البيع والقتل ونحو ذلك. وكذا قوله: "لا ملك لي عليك" يحتمل ملك النكاح ويحتمل ملك البيع ونحو ذلك. وقوله: لا نكاح لي عليك لأني قد طلقتك ويحتمل لا نكاح لي عليك أي: لا أتزوجك إن طلقتك ويحتمل لا نكاح لي عليك أي: لا أطؤك; لأن النكاح يذكر بمعنى الوطء وقوله: أنت حرام يحتمل الخلوص عن ملك النكاح ويحتمل الخلوص عن ملك اليمين ونحو ذلك وقوله: "قومي" واخرجي واذهبي يحتمل أي: افعلي ذلك لأنك قد طلقت. والمرأة إذا طلقت من زوجها تقوم وتخرج من بيت زوجها وتذهب حيث تشاء, ويحتمل التقيد عن نفسه مع بقاء النكاح وقوله: "اغربي" عبارة عن البعد أي: تباعدي فيحتمل البعد من النكاح ويحتمل البعد من الفراش وغير ذلك, وقوله: انطلقي وانتقلي يحتمل الطلاق؛ لأنها تنطلق وتنتقل عن بيت زوجها إذا طلقت ويحتمل الانطلاق والانتقال إلى بيت أبويها للزيارة ونحو ذلك وقوله: "تقنعي واستتري" أمر بالتقنع والاستتار فيحتمل الطلاق؛ لأنها إذا طلقت يلزمها ستر رأسها بالقناع وستر أعضائها بالثوب عن زوجها, ويحتمل تقنعي واستتري أي: كوني متقنعة ومستورة لئلا يقع بصر أجنبي عليك, وقوله: تزوجي يحتمل الطلاق إذ لا يحل لها التزوج بزوج آخر إلا بعد الطلاق ويحتمل تزوجي إن طلقتك. وكذا قوله: ابتغي الأزواج. وقوله الحقي بأهلك يحتمل الطلاق لأن المرأة تلحق بأهلها إذا

 

ج / 3 ص -106-       صارت مطلقة, ويحتمل الطرد والإبعاد عن نفسه مع بقاء النكاح وإذا احتملت هذه الألفاظ الطلاق وغير الطلاق فقد استتر المراد منها عند السامع, فافتقرت إلى النية لتعيين المراد ولا خلاف في هذه الجملة إلا في ثلاثة ألفاظ وهي قوله: سرحتك, وفارقتك, وأنت واحدة فقال أصحابنا: قوله: سرحتك وفارقتك من الكنايات لا يقع الطلاق بهما إلا بقرينة النية كسائر الكنايات. وقال الشافعي: هما صريحان لا يفتقران إلى النية كسائر الألفاظ الصريحة, وقوله: "أنت واحدة" من الكنايات عندنا وعنده هو ليس من ألفاظ الطلاق حتى لا يقع الطلاق به وإن نوى "أما" المسألة الأولى فاحتج الشافعي بقوله سبحانه وتعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} والتسريح هو التطليق وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} والمفارقة هي التطليق, فقد سمى الله عز وجل الطلاق بثلاثة أسماء: الطلاق والسراح والفراق, ولو قال لها: طلقتك كان صريحا فكذا إذا قال: سرحتك أو فارقتك. "ولنا" أن صريح الطلاق هو اللفظ الذي لا يستعمل إلا في الطلاق عن قيد النكاح لما ذكرنا أن الصريح في اللغة اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع وما كان مستعملا فيه وفي غيره لا يكون ظاهر المراد, بل يكون مستتر المراد ولفظ السراح والفراق يستعمل في غير قيد النكاح يقال: سرحت إبلي وفارقت صديقي فكان كناية لا صريحا فيفتقر إلى النية ولا حجة له في الآيتين لأنا نقول بموجبهما: إن السراح والفراق طلاق, لكن بطريق الكناية لا صريحا لانعدام معنى الصريح على ما بينا. "وأما" المسألة الثانية فوجه قوله أن قوله: "أنت واحدة" صفة المرأة فلا يحتمل الطلاق كقوله: أنت قائمة وقاعدة ونحو ذلك.ولنا: أنه لما نوى الطلاق فقد جعل الواحدة نعتا لمصدر محذوف أي: طلقة واحدة وهذا شائع في اللغة يقال أعطيته جزيلا وضربته وجيعا أي: عطاء جزيلا وضربا وجيعا؛ ولهذا يقع الرجعي عندنا دون البائن واختلف مشايخنا في محل الخلاف قال بعضهم: الخلاف فيما إذا قال "واحدة" بالوقف ولم يعرب. فأما إذا أعرب الواحدة فلا خلاف فيها لأنه إن رفعها لا يقع الطلاق بالإجماع لأنها حينئذ تكون صفة الشخص وإن نصبها يقع الطلاق بالإجماع؛ لأنها حينئذ تكون نعتا لمصدر محذوف على ما بينا فكان موضع الخلاف ما إذا وقفها ولم يعربها ويحتمل أن يقال: إن موضع الرفع محل الاختلاف أيضا؛ لأن معنى قوله: أنت واحدة أي: أنت منفردة عن النكاح. وقال أكثر المشايخ: إن الخلاف في الكل ثابت؛ لأن العوام لا يهتدون إلى هذا ولا يميزون بين إعراب وإعراب ولا خلاف أنه لا يقع الطلاق بشيء من ألفاظ الكناية إلا بالنية فإن كان قد نوى الطلاق يقع فيما بينه وبين الله تعالى, وإن كان لم ينو لا يقع فيما بينه وبين الله تعالى, وإن ذكر شيئا من ذلك ثم قال: ما أردت به الطلاق يدين فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأن الله تعالى يعلم سره ونجواه. وهل يدين في القضاء؟ فالحال لا يخلو إما إن كانت حالة الرضا وابتدأ الزوج بالطلاق "وأما" إذا كانت حالة مذاكرة الطلاق وسؤاله, "وأما" أن كانت حالة الغضب والخصومة فإن كانت حالة الرضا وابتدأ الزوج بالطلاق يدين في القضاء في جميع الألفاظ لما ذكرنا أن كل واحد من الألفاظ يحتمل الطلاق وغيره, والحال لا يدل على أحدهما فيسأل عن نيته ويصدق في ذلك قضاء. وإن كانت حال مذاكرة الطلاق وسؤاله أو حالة الغضب والخصومة فقد قالوا: إن الكنايات أقسام ثلاثة: في قسم منها لا يدين في الحالين جميعا؛ لأنه ما أراد به الطلاق لا في حالة مذاكرة الطلاق وسؤاله ولا في حالة الغضب والخصومة, وفي قسم منها يدين في حال الخصومة والغضب ولا يدين في حال ذكر الطلاق وسؤاله, وفي قسم منها يدين في الحالين جميعا "أما" القسم الأول فخمسة ألفاظ: "أمرك بيدك" "اختاري" "اعتدي" "استبرئي رحمك" "أنت واحدة"؛ لأن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق وغيره والحال يدل على إرادة الطلاق؛ لأن حال الغضب والخصومة إن كانت تصلح للشتم والتبعيد كما تصلح للطلاق فحال مذاكرة الطلاق تصلح للتبعيد والطلاق, لكن هذه الألفاظ لا تصلح للشتم ولا للتبعيد فزال احتمال إرادة الشتم والتبعيد فتعينت الحالة دلالة على إرادة الطلاق فترجح جانب الطلاق بدلالة الحال فثبتت إرادة الطلاق في كلامه ظاهرا فلا يصدق في الصرف عن الظاهر كما في صريح الطلاق إذا قال لامرأته: أنت طالق ثم قال: أردت به الطلاق عن الوثاق لا يصدق في القضاء لما قلنا كذا هذا. "وأما" القسم الثاني فخمسة ألفاظ أيضا

 

ج / 3 ص -107-       "خلية" "بريئة" "بتة" "بائن" "حرام"؛ لأن هذه الألفاظ كما تصلح للطلاق تصلح للشتم, فإن الرجل يقول لامرأته عند إرادة الشتم: أنت خلية من الخير, بريئة من الإسلام, بائن من الدين, بتة من المروءة, حرام أي مستخبث, أو حرام الاجتماع والعشرة معك. وحال الغضب والخصومة يصلح للشتم ويصلح للطلاق فبقي اللفظ في نفسه محتملا للطلاق وغيره, فإذا عني به غيره فقد نوى ما يحتمله كلامه, والظاهر لا يكذبه فيصدق في القضاء ولا يصدق في حال ذكر الطلاق؛ لأن الحال لا يصلح إلا للطلاق; لأن هذه الألفاظ لا تصلح للتبعيد, والحال لا يصلح للشتم فيدل على إرادة الطلاق لا التبعيد ولا الشتم فترجحت جنبة الطلاق بدلالة الحال. وروي عن أبي يوسف أنه زاد على هذه الألفاظ الخمسة خمسة أخرى: لا سبيل لي عليك فارقتك خليت سبيلك لا ملك لي عليك بنت مني لأن هذه الألفاظ تحتمل الشتم كما تحتمل الطلاق فيقول الزوج لا سبيل لي عليك لشرك وفارقتك في المكان لكراهة اجتماعي معك وخليت سبيلك وما أنت عليه ولا ملك لي عليك لأنك أقل من أن أتملكك وبنت منى لأنك بائن من الدين أو الخير وحال الغضب يصلح لهما, وحال ذكر الطلاق لا يصلح إلا للطلاق لما ذكرنا فالتحقت بالخمسة المتقدمة. "وأما" القسم الثالث فبقية الألفاظ التي ذكرناها؛ لأن تلك الألفاظ لا تصلح للشتم وتصلح للتبعيد والطلاق؛ لأن الإنسان قد يبعد الزوجة عن نفسه حال الغضب من غير طلاق وكذا حال سؤال الطلاق فالحال لا يدل على إرادة أحدهما فإذا قال: ما أردت به الطلاق فقد نوى ما يحتمله لفظه, والظاهر لا يخالفه فيصدق في القضاء. وكذلك لو قال: وهبتك لأهلك قبلوها أو لم يقبلوها لأنها هنا تحتمل الطلاق؛ لأن المرأة بعد الطلاق ترد إلى أهلها وتحتمل التبعيد عن نفسه والنقل إلى أهلها مع بقاء النكاح. والحال لا يدل على إرادة أحدهما فبقي محتملا, وسواء قبلها أهلها أو لم يقبلوها؛ لأن كون التصرف هبة في الشرع لا يقف على قبول الموهوب له, وإنما الحاجة إلى القبول لثبوت الحكم فكان القبول شرط الحكم وهو الملك, وأهلها لا يملكون طلاقها فلا حاجة إلى القبول. وكذا إذا قال: وهبتك لأبيك أو لأمك أو للأزواج؛ لأن العادة أن المرأة بعد الطلاق ترد إلى أبيها وأمها وتسلم إليهما ويملكها الأزواج بعد الطلاق فإن قال: وهبتك لأخيك أو لأختك أو لخالتك أو لعمتك أو لفلان الأجنبي لم يكن طلاقا؛ لأن المرأة لا ترد بعد الطلاق على هؤلاء عادة, ولو قال لامرأته: لست لي بامرأة, ولو قال لها: ما أنا بزوجك, أو سئل فقيل له هل لك امرأة؟ فقال: لا فإن قال أردت الكذب يصدق في الرضا والغضب جميعا ولا يقع الطلاق, وإن قال: نويت الطلاق يقع الطلاق على قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد لا يقع الطلاق, وإن نوى ولو قال: لم أتزوجك ونوى الطلاق لا يقع الطلاق بالإجماع. وكذا إذا قال: والله ما أنت لي بامرأة أو قال: علي حجة ما أنت لي بامرأة أنه لا يقع الطلاق وإن نوى بالاتفاق. وجه قولهما: أن قوله: لست لي بامرأة أو لا مرأة لي أو ما أنا بزوجك كذب؛ لأنه إخبار عن انتفاء الزوجية مع قيامها فيكون كذبا فلا يقع به الطلاق كما إذا قال: لم أتزوجك أو قال: والله ما أنت لي بامرأة ولأبي حنيفة أن هذه الألفاظ تحتمل الطلاق فإنه يقول: لست لي بامرأة لأني قد طلقتك فكان محتملا للطلاق, وكل لفظ يحتمل الطلاق إذا نوى به الطلاق كان طلاقا كقوله: أنت بائن ونحو ذلك بخلاف لم أتزوجك؛ لأنه لا يحتمل الطلاق لأنه نفي فعل التزوج أصلا ورأسا وأنه لا يحتمل الطلاق فلا يقع به الطلاق وبخلاف قوله: والله ما أنت لي بامرأة؛ لأن اليمين على النفي تتناول الماضي وهو كاذب في ذلك فلا يقع به شيء, ولو قال: لا حاجة لي فيك لا يقع الطلاق وإن نوى؛ لأن عدم الحاجة لا يدل على عدم الزوجية فإن الإنسان قد يتزوج بمن لا حاجة له إلى تزوجها فلم يكن ذلك دليلا على انتفاء النكاح فلم يكن محتملا للطلاق وقال محمد فيمن قال: لامرأته أفلحي يريد به الطلاق إنه يقع به الطلاق؛ لأن قوله: أفلحي بمعنى اذهبي فإن العرب تقول للرجل: أفلح بخير أي: اذهب بخير, ولو قال لها: اذهبي يريد به الطلاق كان طلاقا كذا هذا ويحتمل قوله: أفلحي أي: اظفري بمرادك يقال: أفلح الرجل إذا ظفر بمراده, وقد يكون مرادها الطلاق فكان هذا القول محتملا للطلاق فإذا نوى به الطلاق صحت نيته, ولو قال: فسخت النكاح بيني وبينك ونوى الطلاق يقع الطلاق؛ لأن فسخ النكاح نقضه فكان في معنى الإبانة. ولو قال: وهبت لك طلاقا. وقال أردت به أن يكون

 

ج / 3 ص -108-       الطلاق في يدك لا يصدق في القضاء ويقع الطلاق؛ لأن الهبة تقتضي زوال الملك, وهبة الطلاق منها تقتضي زوال ملكه عن الطلاق وذلك بوقوع الطلاق, وجعل الطلاق في يدها تمليك الطلاق إياها فلا يحتمله اللفظ الموضوع للإزالة. وروي عن أبي حنيفة رواية أخرى أنه لا يقع به شيء؛ لأن الهبة تمليك, وتمليك الطلاق إياها هو أن يجعل إليها إيقاعه, ويحتمل قوله: وهبت لك طلاقك أي: أعرضت عن إيقاعه فلا يقع به شيء, ولو أراد أن يطلقها فقالت له: هب لي طلاقي تريد: أعرض عنه فقال: قد وهبت لك طلاقك يصدق في القضاء؛ لأن الظاهر أنه أراد به ترك الإيقاع؛ لأن السؤال وقع به فينصرف الجواب إليه, ولو قال: تركت طلاقك أو خليت سبيل طلاقك, وهو يريد الطلاق وقع؛ لأن ترك الطلاق وتخلية سبيله قد يكون بالإعراض عنه وقد يكون بإخراجه عن ملكه وذلك بإيقاعه فكان اللفظ محتملا للطلاق وغيره, فتصح نيته, ولو قال: أعرضت عن طلاقك أو صفحت عن طلاقك ونوى الطلاق لم تطلق؛ لأن الإعراض عن الطلاق يقتضي ترك التصرف فيه, والصفح هو الإعراض فلا يحتمل الطلاق ولا تصح نيته. وكذا كل لفظ لا يحتمل الطلاق لا يقع به الطلاق, وإن نوى, مثل قوله: بارك الله عليك أو قال لها: أطعميني أو اسقيني ونحو ذلك, ولو جمع بين ما يصلح للطلاق وبين ما لا يصلح له بأن قال لها: اذهبي وكلي, أو قال اذهبي وبيعي الثوب, ونوى الطلاق بقوله اذهبي ذكر في اختلاف زفر ويعقوب أن في قول أبي يوسف: لا يكون طلاقا وفي قول زفر يكون طلاقا. وجه قول زفر أنه ذكر لفظين: أحدهما يحتمل الطلاق والآخر لا يحتمله فيلغو ما لا يحتمله ويصح ما يحتمله ولأبي يوسف أن قوله: اذهبي مقرونا بقوله كلي أو بيعي لا يحتمل الطلاق؛ لأن معناه اذهبي لتأكلي الطعام واذهبي لتبيعي الثوب, والذهاب للأكل والبيع لا يحتمل الطلاق فلا تعمل نيته, ولو نوى في شيء من الكنايات التي هي بوائن أن يكون ثلاثا مثل قوله: أنت بائن أو أنت علي حرام أو غير ذلك يكون ثلاثا إلا في قوله: اختاري؛ لأن البينونة نوعان: غليظة وخفيفة, فالخفيفة هي التي تحل له المرأة بعد بينونتها بنكاح جديد بدون التزوج بزوج آخر, والغليظة ما لا تحل له إلا بنكاح جديد بعد التزوج بزوج آخر فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله لفظه, والدليل عليه ما روي أن ركانة بن زيد أو زيد بن ركانة طلق امرأته ألبتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أردت ثلاثا فلو لم يكن اللفظ محتملا للثلاث لم يكن للاستحلاف معنى. وكذا قوله: أنت علي حرام يحتمل الحرمة الغليظة والخفيفة فإذا نوى الثلاث فقد نوى إحدى نوعي الحرمة فتصح نيته وإن نوى ثنتين كانت واحدة في قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: يقع ما نوى. وجه قوله: إن الحرمة والبينونة أنواع ثلاثة: خفيفة وغليظة ومتوسطة بينهما, ولو نوى أحد النوعين صحت نيته فكذا إذا نوى الثلاث؛ لأن اللفظ يحتمل الكل على وجه واحد. "ولنا" أن قوله: بائن أو حرام اسم للذات, والذات واحدة فلا تحتمل العدد وإنما احتمل الثلاث من حيث التوحد على ما بينا في صريح الطلاق ولا توحد في الاثنين أصلا, بل هو عدد محض فلا يحتمله الاسم الموضوع للواحد مع أن الحاصل بالثنتين, والحاصل بالواحدة سواء؛ لأن أثرهما في البينونة والحرمة سواء ألا ترى أنها تحل في كل واحدة منهما بنكاح جديد من غير التزوج بزوج آخر؟ فكان الثابت بهما بينونة خفيفة وحرمة خفيفة كالثابت بالواحد فلا يكون ههنا قسم ثالث في المعنى, وعلى هذا قال أصحابنا: إنه إذا قال لزوجته الأمة: أنت بائن أو حرام ينوي الاثنتين يقع ما نوى؛ لأن الاثنتين في الأمة كل جنس الطلاق في حقها فكان الثنتان في حق الأمة كالثلاث في حق الحرة, وقالوا: لو طلق زوجته الحرة واحدة ثم قال لها: أنت بائن أو حرام ينوي اثنتين كانت واحدة؛ لأن الاثنتين بأنفسهما ليسا كل جنس طلاق الحرة بدون الطلقة المتقدمة؛ ألا ترى أنها لا تبين فالاثنتين بينونة غليظة بدونها, ولو نوى بقوله اعتدي استبرئي رحمك وأنت واحدة ثلاثا لم تصح؛ لأن هذه الألفاظ في حكم الصريح ألا ترى أن الواقع بها رجعية فصار كأنه قال: أنت طالق ونوى به الثلاث ولأن قوله: أنت واحدة لا يحتمل أن يفسر بالثلاث فلا يحتمل نية الثلاث وكذا قوله: اعتدي واستبرئي رحمك؛ لأن الواقع بكل واحدة منهما رجعي فصار كقوله: أنت واحدة. وكذا لو نوى بها اثنتين لا يصح لما قلنا, بل أولى؛ لأن الاثنتين عدد محض والله أعلم

 

ج / 3 ص -109-                                                                   "فصل":
وأما النوع الثاني فهو أن يكتب على قرطاس أو لوح أو أرض أو حائط كتابة مستبينة لكن لا على وجه المخاطبة امرأته طالق فيسأل عن نيته؛ فإن قال: نويت به الطلاق وقع, وإن قال: لم أنو به الطلاق صدق في القضاء؛ لأن الكتابة على هذا الوجه بمنزلة الكتابة لأن الإنسان قد يكتب على هذا الوجه ويريد به الطلاق وقد يكتب لتجويد الخط فلا يحمل على الطلاق إلا بالنية وإن كتبت كتابة غير مستبينة بأن كتب على الماء أو على الهواء فذلك ليس بشيء حتى لا يقع به الطلاق وإن نوى؛ لأن ما لا تستبين به الحروف لا يسمى كتابة فكان ملحقا بالعدم, وإن كتب كتابة مرسومة على طريق الخطاب والرسالة مثل: أن يكتب أما بعد يا فلانة فأنت طالق أو إذا وصل كتابي إليك فأنت طالق يقع به الطلاق, ولو قال: ما أردت به الطلاق أصلا لا يصدق إلا أن يقول: نويت طلاقا من وثاق فيصدق فيما بينه وبين الله عز وجل؛ لأن الكتابة المرسومة جارية مجرى الخطاب ألا ترى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبلغ بالخطاب مرة وبالكتاب أخرى وبالرسول ثالثا ؟, وكان التبليغ بالكتاب والرسول كالتبليغ بالخطاب فدل أن الكتابة المرسومة بمنزلة الخطاب فصار كأنه خاطبها بها بالطلاق عند الحضرة فقال لها: أنت طالق أو أرسل إليها رسولا بالطلاق عند الغيبة فإذا قال: ما أردت به الطلاق فقد أراد صرف الكلام عن ظاهره فلا يصدق, ثم إن كتب على الوجه المرسوم ولم يعقله بشرط بأن كتب أما بعد يا فلانة فأنت وقع الطلاق عقيب كتابة لفظ الطلاق بلا فصل لما ذكرنا أن كتابة قوله: أنت طالق على طريق المخاطبة بمنزلة التلفظ بها. وإن علقه بشرط الوصول إليها بأن كتب إذا وصل كتابي إليك فأنت طالق لا يقع الطلاق حتى يصل إليها؛ لأنه علق الوقوع بشرط الوصول فلا يقع قبله كما لو علقه بشرط آخر, وقالوا فيمن كتب كتابا على وجه الرسالة وكتب إذا وصل كتابي إليك فأنت طالق ثم محا ذكر الطلاق منه وأنفذ الكتاب وقد بقي منه كلام يسمى كتابا ورسالة وقع الطلاق؛ لوجود الشرط وهو وصول الكتاب إليها, فإن محا ما في الكتاب حتى لم يبق منه كلام يكون رسالة لم يقع الطلاق وإن وصل؛ لأن الشرط وصول الكتاب ولم يوجد؛ لأن ما بقي منه لا يسمى كتابا فلم يوجد الشرط فلا يقع الطلاق والله أعلم هذا الذي ذكرنا بيان الألفاظ التي يقع بها الطلاق في الشرع.

                                                            "فصل":
وأما بيان صفة الواقع بها: فالواقع بكل واحد من النوعين اللذين ذكرناهما من الصريح والكناية نوعان: رجعي وبائن أما الصريح الرجعي فهو أن يكون الطلاق بعد الدخول حقيقة غير مقرون بعوض ولا بعدد الثلاث لا نصا ولا إشارة ولا موصوفا بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف ولا مشبه بعدد أو وصف يدل عليها وأما الصريح البائن فبخلافه وهو أن يكون بحروف الإبانة أو بحروف الطلاق, لكن قبل الدخول حقيقة أو بعده, لكن مقرونا بعدد الثلاث نصا أو إشارة أو موصوفا بصفة تدل عليها إذا عرف هذا فصريح الطلاق قبل الدخول حقيقة يكون بائنا؛ لأن الأصل في اللفظ المطلق عن شرط أن يفيد الحكم فيما وضع له للحال والتأخر فيما بعد الدخول إلى وقت انقضاء العدة ثبت شرعا بخلاف الأصل فيقتصر على مورد الشرع فبقي الحكم فيما قبل الدخول على الأصل, ولو خلا بها خلوة صحيحة ثم طلقها صريح الطلاق. وقال: لم أجامعها كان طلاقا بائنا حتى لا يملك مراجعتها وإن كان للخلوة حكم الدخول؛ لأنها ليست بدخول حقيقة فكان هذا طلاقا قبل الدخول حقيقة فكان بائنا وكذلك إذا كان مقرونا بعوض وهو الخلع ببدل والطلاق على مال؛ لأن الخلع بعوض طلاق على مال عندنا على ما نذكر إن شاء الله تعالى والطلاق على مال معاوضة المال بالنفس, وقد ملك الزوج أحد العوضين بنفس القبول وهو مالها فتملك هي العوض الآخر وهو نفسها تحقيقا للمعاوضة المطلقة, ولا تملك إلا بالبائن فكان الواقع بائنا. وكذلك إذا كان مقرونا بعدد الثلاث نصا بأن قال لها: أنت طالق ثلاثا لقوله عز وجل:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وكذا إذا أشار إلى عدد الثلاث بأن قال لها: أنت طالق هكذا يشير بالإبهام والسبابة والوسطى وإن أشار بإصبع واحدة فهي واحدة يملك الرجعة وإن أشار باثنتين فهي اثنتان؛ لأن الإشارة متى تعلقت بها العبارة نزلت منزلة الكلام لحصول ما وضع له الكلام بها وهو الإعلام, والدليل عليه العرف والشرع أيضا أما العرف فظاهر. "وأما" الشرع فقول النبي صلى

 

ج / 3 ص -110-       الله عليه وسلم:"الشهر هكذا وهكذا وهكذا وأشار صلى الله عليه وسلم بأصابع يديه كلها" فكان بيانا أن الشهر يكون ثلاثين يوما ثم قال صلى الله عليه وسلم: "الشهر هكذا وهكذا وهكذا وحبس إبهامه في المرة الثالثة" فكان بيانا أن الشهر يكون تسعة وعشرين يوما, وإذا قامت الإشارة مع تعلق العبارة بها مقام الكلام صار كأنه قال: أنت طالق ثلاثا, والمعتبر في الأصابع عدد المرسل منها دون المقبوض لاعتبار العرف والعادة, والدليل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال: الشهر هكذا وهكذا وهكذا وقبض إبهامه في المرة الثالثة فهم منه تسعة وعشرون يوما, ولو اعتبر المقبوض لكان المفهوم منه أحدا وعشرين يوما فدل أن المعتبر في الإشارة بالأصابع المرسل منها لا المقبوض. وكذا إذا كان موصوفا بصفة تنبئ عن البينونة أو تدل عليها من غير حرف العطف مثل قوله: أنت طالق بائن أو أنت طالق حرام أو أنت طالق ألبتة ونحو ذلك وهذا عندنا. وقال الشافعي: يقع واحدة رجعية وجه قوله: أنه لما قال: أنت طالق فقد أتى بصريح الطلاق وأنه معقب للرجعة, فلما قال: بائن فقد أراد تغيير المشروع فيرد عليه كما لو قال: أعرتك عارية لا رد فيها, وكما لو قال: أنت طالق. وقال: أردت به الإبانة, "ولنا" أنه وصف المرأة بالبينونة بالطلاق الأول وأنه مما يحتمل البينونة ألا ترى أنه تحصل البينونة قبل الدخول وبعده بعد انقضاء العدة؟ فكان قوله: بائن قرينة مبينة لا مغيرة, ثم إذا لم يكن له نية لا يقع تطليقة بقوله طالق والأخرى بقوله بائن ونحو ذلك؛ لأن قوله: بائن ونحو ذلك يصلح وصفا للمرأة بالطلاق الأول فلا يثبت إلا مقتضى واحد؛ لأن ثبوته بطريق الضرورة فيؤخذ فيه بالأدنى. وكذا إذا قال لها: أنت طالق تطليقة قوية أو شديدة؛ لأن الشدة تنبئ عن القوية, والقوي هو البائن. وكذا إذا قال لها: أنت طالق تطليقة طويلة أو عريضة؛ لأن الطول والعرض يقتضيان القوة, ولو قال لها: أنت طالق من هنا إلى موضع كذا فهو رجعي في قول أصحابنا الثلاثة وعند زفر هو بائن. وجه قوله أنه وصف الطلاق بالطول فصار كما لو قال لها: أنت طالق تطليقة طويلة "ولنا" أنه وصفه بالطول صورة وبالقصر معنى؛ لأن الطلاق إذا وقع في مكان يقع في الأماكن كلها فكان القصر على بعض الأماكن وصفا له بالقصر, والطلقة القصيرة هي الرجعية, ولو قال: أنت طالق أشد الطلاق, فإن لم يكن له نية أو نوى واحدة فهي واحدة بائنة؛ ; لأن حكم البائن أشد من حكم الرجعي فيقع بائنا وإن نوى ثلاثا فثلاث؛ لأن ألف التفضيل قد تذكر لبيان أصل التفاوت وهو مطلق التفاوت وذلك في الواحدة البائنة؛ لأنها أشد حكما من الرجعية وقد تذكر لبيان نهاية التفاوت وهو مطلق التفاوت وذلك في الثلاث, فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله كلامه فصحت نيته وإن لم يكن له نية ينصرف إلى الأدنى؛ لأنه متيقن به, ولو قال لها: أنت طالق ملء البيت فإن نوى الثلاث كان ثلاثا وإن لم يكن له نية فهو واحدة بائنة؛ لأن قوله: ملء البيت يحتمل أنه أراد به الكثرة والعدد ويحتمل أنه أراد به الصفة وهي العظم والقوة فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله لفظه وعند انعدام النية يحمل على الواحدة البائنة لكونه متيقنا بها, ولو قال لها: أنت طالق أقبح الطلاق قال أبو يوسف هو رجعي. وقال محمد هو بائن. وجه قول محمد إنه وصف الطلاق بالقبح والطلاق القبيح هو الطلاق المنهي عنه وهو البائن فيقع بائنا ولأبي يوسف أن قوله: أقبح الطلاق يحتمل القبح الشرعي, وهو الكراهية الشرعية ويحتمل القبح الطبعي وهو الكراهية الطبيعية وهو أن يطلقها في وقت يكره الطلاق فيه طبعا فلا تثبت البينونة فيه بالشك. وكذا قوله: أقبح الطلاق يحتمل القبح بجهة الإبانة ويحتمل القبح بإيقاعه في زمن الحيض أو في طهر جامعها فيه, فلا تثبت البينونة بالشك, ولو قال: أنت طالق للبدعة فهي واحدة رجعية؛ لأن البدعة قد تكون في البائن وقد تكون في الطلاق حالة الحيض فوقع الشك في ثبوت البينونة فلا تثبت البينونة بالشك, ولو قال لها: أنت طالق طلاق الشيطان فهو كقوله أنت طالق للبدعة وروي عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته: أنت طالق للبدعة ونوى واحدة بائنة تقع واحدة بائنة؛ ; لأن لفظه يحتمل ذلك على ما بينا فتصح نيته, ولو شبه صريح الطلاق بالعدد فهذا على وجهين إما أن شبه بالعدد فيما له عدد "وأما" أن شبه بالعدد فيما لا عدد له فإن شبه بالعدد فيما هو ذو عدد كما لو قال لها: أنت طالق كألف أو مثل ألف فهنا ثلاثة فصول: "الأول" هذا. "والثاني" أن يقول لها: أنت طالق واحدة كألف أو مثل ألف, والثالث أن يقول لها: أنت طالق

 

ج / 3 ص -111-       كعدد ألف "أما" الفصل الأول فإن نوى ثلاثا فهو ثلاث بالإجماع وإن نوى واحدة أو لم يكن له نية فهي واحدة بائنة في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال: محمد هو ثلاث, ولو قال: نويت به واحدة دينته فيما بينه وبين الله تعالى ولم أدينه في القضاء. وجه قوله أن قوله: كألف تشبيه بالعدد إذ الألف من أسماء الأعداد فصار كما لو نص على العدد فقال لها: أنت طالق كعدد ألف, ولو قال ذلك كان ثلاثا كذا هذا, ولهما أن التشبيه بالألف يحتمل التشبيه من حيث العدد ويحتمل التشبيه من حيث الصفة وهو صفة القوة والشدة فإن الواحد من الرجال قد يشبه بألف رجل في الشجاعة, وإذا كان محتملا لهما فلا يثبت العدد إلا بالنية, فإذا نوى فقد نوى ما يحتمله كلامه وعند عدم النية يحمل على الأدنى؛ لأنه متيقن به, ولا يحمل على العدد بالشك. وأما الفصل الثاني وهو ما إذا قال: أنت طالق واحدة كألف فهي واحدة بائنة في قولهم جميعا؛ لأنه لما نص على الواحدة علم أنه ما أراد به التشبيه من حيث العدد فتعين التشبيه في القوة والشدة. وذلك في البائن فيقع بائنا. "وأما" الفصل الثالث وهو ما إذا قال لها: أنت طالق كعدد ألف أو كعدد ثلاث أو مثل عدد ثلاث فهو ثلاث في القضاء وفيما بينه وبين الله تعالى, ولو نوى غير ذلك فنيته باطلة لأن التنصيص على العدد ينفي احتمال إرادة الواحد فلا يصدق أنه ما أراد به الثلاث أصلا كما إذا قال: أنت طالق ثلاثا ونوى الواحدة, وإن شبه بالعدد فيما لا عدد له بأن قال: أنت طالق مثل عدد كذا أو كعدد كذا لشيء لا عدد له كالشمس والقمر ونحو ذلك فهي واحدة بائنة في قياس قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف هي واحدة يملك الرجعة. وجه قول أبي يوسف أن التشبيه بالعدد فيما لا عدد له لغو فبطل التشبيه, وقوله: أنت طالق ولأبي حنيفة أن هذا النوع من التشبيه يقتضي ضربا من الزيادة لا محالة, ولا يمكن حمله على الزيادة من حيث العدد فيحمل على الزيادة من حيث الصفة, وقالوا فيمن قال: لامرأته أنت طالق عدد شعر راحتي أو عدد ما على ظهر كفي من الشعر وقد حلق ظهر كفه طلقت واحدة؛ لأنه شبه بما لا عدد له؛ لأنه علق الطلاق بوجود الشعر على راحته أو على ظهر كفه للحال وليس على راحته ولا على ظهر كفه شعر للحال فلا يتحقق التشبه بالعدد فلغا التشبه وبقي قوله: أنت طالق فيكون رجعيا ولو قال: أنت طالق عدد شعر رأسي وعدد شعر ظهر كفي وقد حلقه طلقت ثلاثا؛ لأنه شبه بما له عدد؛ لأن شعر رأسه ذو عدد وإن لم يكن موجودا في الحال فكان هذا تشبيها به حال وجوده, وهو حال وجوده ذو عدد بخلاف المسألة الأولى; لأن ذلك تعليق التشبيه بوجوده للحال وهو غير موجود للحال, فيلغو التشبيه, ولو قال لها: أنت طالق مثل الجبل أو مثل حبة الخردل فهي واحدة بائنة في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف هي واحدة يملك الرجعة. وجه قول أبي يوسف أن قوله: مثل الجبل أو مثل حبة الخردل يحتمل التشبيه في التوحد؛ لأن الجبل بجميع أجزائه شيء واحد غير متعدد فلا تثبت البينونة بالشك, ولأبي حنيفة أن هذا التشبيه يقتضي زيادة لا محالة وأنه لا يحتمل الزيادة من حيث العدد لأنه ليس بذي عدد لكونه واحدا في الذات فيحمل على الزيادة التي ترجع إلى الصفة وهي البينونة فيحمل على الواحدة البائنة؛ لأنها المتيقن بها, ولو قال مثل عظم الجبل أو قال: مثل عظم كذا فأضاف ذلك إلى صغير أو كبير فهي واحدة بائنة وإن لم يسم واحدة وإن نوى ثلاثا فهو ثلاث؛ لأنه نص على التشبيه بالجبل في العظم فهذا يقتضي زيادة لا محالة على ما يقتضيه الصريح ثم إن كان قد سمى واحدة تعينت الواحدة البائنة؛ لأن الزيادة فيها لا تكون إلا البينونة وإن كان لم يسم واحدة احتمل الزيادة في الصفة وهي البينونة بواحدة أو بالثلاث فإن نوى الثلاث يكون ثلاثا؛ لأنه نوى ما يحتمله كلامه وإن لم يكن له نية يحمل على الواحدة لكونها أدنى والأدنى متيقن به وفي الزيادة عليه شك, ولو قال: أنت طالق مثل هذا وهذا وأشار بثلاث أصابع فإن نوى به ثلاثا فثلاث وإن نوى واحدة بائنة فواحدة بائنة؛ لأنه شبه الطلاق بما له عدد فيحتمل التشبيه من حيث العدد ويحتمل التشبيه في الصفة وهي الشدة فإذا نوى به الثلاث صحت نيته؛ لأنه نوى ما يحتمله لفظه كما في قوله: أنت طالق كألف وإذا نوى به الواحدة كانت واحدة؛ لأنه أراد به التشبيه في الصفة. وكذا إذا لم يكن له نية يحمل على التشبيه من حيث الصفة لأنه أدنى والله عز وجل أعلم.

                                                            "فصل":
وأما الكناية فثلاثة ألفاظ: من الكنايات رواجع بلا خلاف وهي قوله: اعتدي, واستبري رحمك,

 

ج / 3 ص -112-       وأنت واحدة أما قوله: اعتدي فلما روي عن أبي حنيفة أنه قال: القياس في قوله اعتدي أن يكون بائنا وإنما اتبعنا الأثر وكذا قال أبو يوسف: القياس أن يكون بائنا وإنما تركنا القياس لحديث جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسودة بنت زمعة: رضي الله عنها "اعتدي فناشدته أن يراجعها لتجعل يومها لعائشة رضي الله عنها حتى تحشر في جملة أزواجه فراجعها ورد عليها يومها", ولأن قوله اعتدي أمر بالاعتداد. والاعتداد يقتضي سابقة الطلاق والمقتضى يثبت بطريق الضرورة فيتقدر بقدر الضرورة, والضرورة ترتفع بالأقل وهو الواحدة الرجعية فلا يثبت ما سواها ثم قوله: اعتدي إنما يجعل مقتضيا للطلاق في المدخول بها. "وأما" في غير المدخول بها فإنه يجعل مستعارا من الطلاق, وقوله: استبري رحمك تفسير قوله اعتدي؛ لأن الاعتداد شرع للاستبراء فيفيد ما يفيده قوله: اعتدي "وأما" قوله: أنت واحدة فلأنه لما نوى الطلاق فقد جعل قوله: واحدة نعتا لمصدر محذوف وهو الطلقة كأنه قال: أنت طالق طلقة واحدة كما يقال: أعطيته جزيلا أي: عطاء جزيلا واختلف في البواقي من الكنايات فقال أصحابنا رحمهم الله: إنها بوائن. وقال الشافعي: رواجع. وجه قوله أن هذه الألفاظ كنايات الطلاق فكانت مجازا عن الطلاق ألا ترى أنها لا تعمل بدون نية الطلاق فكان العامل هو الحقيقة وهو المكنى عنه لا المجاز الذي هو الكناية؛ ولهذا كانت الألفاظ الثلاثة رواجع فكذا البواقي, "ولنا" أن الشرع ورد بهذه الألفاظ وأنها صالحة لإثبات البينونة, والمحل قابل للبينونة فإذا وجدت من الأهل ثبتت البينونة استدلالا بما قبل الدخول, ولا شك أن هذه الألفاظ صالحة لإثبات البينونة فإنه تثبت البينونة بها قبل الدخول وبعد انقضاء العدة ويثبت به قبول المحل أيضا؛ لأن ثبوت البينونة في محل لا يحتملها محال, والدليل على أن الشرع ورد بهذه الألفاظ قوله تعالى: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقوله تعالى: {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً}, وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} والتسريح والمفارقة من كنايات الطلاق على ما بينا وروي: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج امرأة فرأى في كشحها بياضا فقال لها: الحقي بأهلك", وهذا من ألفاظ الكنايات و"أن ركانة بن زيد أو زيد بن ركانة طلق امرأته ألبتة فحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها الثلاث", وقوله: "ألبتة" من الكنايات فإذا ثبت أن هذا التصرف مشروع فوجود التصرف حقيقة بوجود ركنه ووجوده شرعا بصدوره من أهله وحلوله في محله, وقد وجد فتثبت البينونة وإذا ثبتت البينونة فقد زال الملك فلا يملك الرجعة؛ ولأن شرع الطلاق في الأصل لمكان المصلحة؛ لأن الزوجين قد تختلف أخلاقهما وعند اختلاف الأخلاق لا يبقى النكاح مصلحة؛ لأنه لا يبقى وسيلة إلى المقاصد فتنقلب المصلحة إلى الطلاق ليصل كل واحد منهما إلى زوج يوافقه فيستوفي مصالح النكاح منه إلا أن المخالفة قد تكون من جهة الزوج وقد تكون من جهة المرأة, فالشرع شرع الطلاق وفوض طريق دفع المخالفة والإعادة إلى الموافقة إلى الزوج لاختصاصه بكمال العقل والرأي فينظر في حال نفسه فإن كانت المخالفة من جهته يطلقها طلاقا واحدا رجعيا أو ثلاثا في ثلاثة أطهار ويجرب نفسه في هذه المدة فإن كان يمكنه الصبر عنها ولا يميل قلبه إليها يتركها حتى تنقضي عدتها, وإن كان لا يمكنه الصبر عنها راجعها وإن كانت المخالفة من جهتها تقع الحاجة إلى أن تتوب وتعود إلى الموافقة وذلك لا يحصل بالطلاق الرجعي؛ لأنها إذا علمت أن النكاح بينهما قائم لا تتوب فيحتاج إلى الإبانة التي بها يزول الحل والملك لتذوق مرارة الفراق فتعود إلى الموافقة عسى وإذا كانت المصلحة في الطلاق بهذين الطريقين مست الحاجة إلى شرع الإبانة عاجلا وآجلا تحقيقا لمصالح النكاح بالقدر الممكن, وقوله هذه الألفاظ مجاز عن الطلاق ممنوع, بل هي حقائق عاملة بأنفسها؛ لأنها صالحة للعمل بأنفسها على ما بينا فكان وقوع البينونة بها لا بالمكنى عنه على أنا إن سلمنا أنها مجاز عن الطلاق فلفظ المجاز عامل بنفسه أيضا كلفظ الحقيقة, فإن المجاز أحد نوعي الكلام فيعمل بنفسه كالحقيقة ولهذا قلنا: إن للمجاز عموما كالحقيقة إلا أنه يشترط النية لتنوع البينونة والحرمة إلى الغليظة والخفيفة فكان الشرط في الحقيقة نية التمييز وتعيين أحد النوعين لا نية الطلاق والله أعلم. ويستوي فيما ذكرنا من الصريح والكناية والرجعي والبائن أن يكون ذلك بمباشرة الزوج بنفسه

 

ج / 3 ص -113-       بطريق الأصالة أو بغيره بإذنه أو أمره. وذلك نوعان: توكيل, وتفويض أما التفويض فنحو قول الرجل لامرأته: أمرك بيدك وقوله اختاري, وقوله أنت طالق إن شئت, وما يجري مجراه وقوله: طلقي نفسك.

                                                   "فصل":
 أما قوله: أمرك بيدك فالكلام فيه يقع في مواضع في بيان صفة هذا التفويض, وهو جعل الأمر باليد, وفي بيان حكمه, وفي بيان شرط ثبوت الحكم, وفي بيان شرط بقائه وما يبطل به وما لا يبطل, وفي بيان صفة الحكم الثابت وفي بيان ما يصلح جواب الأمر باليد من الألفاظ وبيان حكمها إذا وجدت أما بيان صفته فهو أنه لازم من جانب الزوج حتى لا يملك الرجوع عنه ولا نهي المرأة عما جعل إليها ولا فسخ ذلك؛ لأنه ملكها الطلاق ومن ملك غيره شيئا فقد زالت ولايته من الملك فلا يملك إبطاله بالرجوع والنهي والفسخ بخلاف البيع فإن الإيجاب من البائع ليس بتمليك, بل هو أحد ركني البيع فاحتمل الرجوع عنه ولأن الطلاق بعد وجوده لا يحتمل الرجوع والفسخ فكذا بعد إيجابه بخلاف البيع فإنه يحتمل الفسخ بعد تمامه فيحتمل الفسخ والرجوع بعد إيجابه أيضا؛ ولأن هذا النوع من التمليك فيه معنى التعليق فلا يحتمل الرجوع عنه. والفسخ كسائر التعليقات المطلقة بخلاف البيع فإنه ليس فيه معنى التعليق رأسا وكذلك لو قام هو عن المجلس لا يبطل الجعل؛ لأن قيامه دليل الإبطال لكونه دليل الإعراض فإذا لم يبطل بصريح إبطاله كيف يبطل بدليل الإبطال بخلاف البيع إذا أوجب البائع ثم قام قبل قبول المشتري أنه يبطل الإيجاب؛ لأن البيع يبطل بصريح الإبطال فجاز أن يبطل بدليل الإبطال. "وأما" من جانب المرأة فإنه غير لازم؛ لأنه لما جعل الأمر بيدها فقد خيرها بين اختيارها نفسها في التطليق وبين اختيارها زوجها, والتخيير بنا في اللزوم. "وأما" حكمه فهو صيرورة الأمر بيدها في الطلاق؛ لأنه جعل الأمر بيدها في الطلاق وهو من أهل الجعل, والمحل قابل للجعل فيصير الأمر بيدها. "وأما" شرط صيرورة الأمر بيدها فشيئان: أحدهما نية الزوج الطلاق؛ لأنه من كنايات الطلاق فلا يصح من غير نية الطلاق. ألا ترى أنه لا يملك إيقاعه بنفسه من غير نية الطلاق, فكيف يملك تفويضه إلى غيره من غير نية الطلاق؟ حتى لو قال الزوج ما أردت به الطلاق يصدق ولا يصير الأمر بيدها؛ لأن هذا التصرف يحتمل الطلاق ويحتمل غيره إلا إذا كان الحال حال الغضب والخصومة أو حال مذاكرة الطلاق فلا يصدق في القضاء. لأن الحال تدل على إرادة الطلاق ظاهرا فلا يصدق في العدول عن الظاهر, فإن ادعت المرأة أنه أراد به الطلاق أو ادعت أن ذلك كان في حال الغضب أو في حال ذكر الطلاق وهو ينكر فالقول قوله مع يمينه؛ لأنها تدعي عليه الطلاق وهو ينكر فإن أقامت البينة أن ذلك كان في حال الغضب أو ذكر الطلاق قبلت بينتها؛ لأن حال الغضب وذكر الطلاق يقف الشهود عليها ويتعلق علمهم بها فكانت شهادتهم عن علم بالمشهود به فتقبل, ولو أقامت البينة على أنه نوى الطلاق لا تقبل بينتها؛ لأنه لا وقوف للشهود على النية لأنه أمر في القلب فكانت هذه شهادة لا عن علم بالمشهود به فلم تقبل. والثاني علم المرأة بجعل الأمر بيدها وهي غائبة أو حاضرة لم تسمع لا يصير الأمر بيدها ما لم تسمع أو يبلغها الخبر لأن معنى صيرورة الأمر بيدها في الطلاق هو ثبوت الخيار لها وهو اختيارها نفسها بالطلاق أو زوجها بترك الطلاق اختيار الإيثار, وهذا لا يتحقق إلا بعد العلم بالتخيير فإذا علمت بالتخيير صار الأمر بيدها في أي وقت علمت إن كان التفويض مطلقا عن الوقت وإن كان مؤقتا بوقت وعلمت في شيء من الوقت صار الأمر بيدها. فأما إذا علمت بعد مضي الوقت كله لا يصير الأمر بيدها بهذا التفويض أبدا؛ لأن ذلك علم لا ينفع؛ لأن التفويض المؤقت بوقت ينتهي عند انتهاء الوقت فلو صار الأمر بيدها بعد ذلك لصار من غير تفويضه وهذا لا يجوز. "وأما" بيان شرط بقاء هذا الحكم وما يبطل به وما لا يبطل فلن يمكن معرفته إلا بعد معرفة أقسام الأمر باليد, فنقول وبالله التوفيق جعل الأمر باليد لا يخلو إما أن يكون منجزا, "وأما" أن يكون معلقا بشرط, "وأما" أن يكون مضافا إلى وقت والمنجز لا يخلو إما أن يكون مطلقا "وأما" أن يكون مؤقتا, فإن كان مطلقا بأن قال: أمرك بيدك فشرط بقاء حكمه بقاء المجلس وهو مجلس علمها بالتفويض فما دامت في مجلسها فالأمر بيدها؛ لأن جعل الأمر بيدها تمليك الطلاق منها لأنه جعل أمرها في الطلاق بيدها تتصرف فيه برأيها وتدبيرها كيف

 

ج / 3 ص -114-       شاءت بمشيئة الإيثار وهذا معنى المالكية, وهو التصرف عن مشيئة الإيثار. والزوج يملك التطليق بنفسه فيملك تمليكه من غيره فصارت مالكة للطلاق بتمليك الزوج, وجواب التمليك مقيد بالمجلس; لأن الزوج يملك الخطاب, وكل مخلوق خاطب غيره يطلب جواب خطابه في المجلس فيتقيد جواب التمليك بالمجلس كما في قبول البيع وغيره, وسواء قصر المجلس أو طال؛ لأن ساعات المجلس جعلت كساعة واحدة؛ لأن اعتبار المجلس للحاجة إلى التأمل والتفكر وذلك يختلف باختلاف الأشخاص والأحوال والأوقات ولا ضابط له إلا المجلس فقدر بالمجلس ولهذا جعله الصحابة رضي الله عنهم للمخيرة فيبقى الأمر في يدها ما بقي المجلس فإن قامت عن مجلسها بطل; لأن الزوج يطلب جواب التمليك في المجلس, والقيام عن المجلس دليل الإعراض عن جواب التمليك فكان ردا للتمليك دلالة؛ ولأن المالك لما طلب الجواب في المجلس لا يملك الجواب في غير المجلس؛ لأنه ما ملكها في غيره وقد اختلف المجلس بالقيام فلم يكن في بقاء الأمر فائدة فيبطل, وكذلك إذا وجد منها قول أو فعل يدل على إعراضها عن الجواب بأن دعت بطعام لتأكل أو أمرت وكيلها بشيء أو خاطبت إنسانا ببيع أو شراء أو كانت قائمة فركبت أو راكبة فانتقلت إلى دابة أخرى أو واقفة فسارت أو امتشطت أو اغتسلت أو مكنت زوجها حتى وطئها أو اشتغلت بالنوم؛ لأن هذا كله دليل الإعراض عن الجواب وإن كانت سائرة أو كانا في محمل واحد فإن أجابت على الفور وإلا بطل خيارها؛ لأن سير الدابة بتسيير الراكب, وإن كانت سائرة فوقفت الدابة فهي على خيارها وإن كانت في سفينة فسارت لا يبطل خيارها؛ لأن حكمها حكم البيت؛ وكل ما يبطل به الخيار إذا كانت في البيت يبطل به إذا كانت في السفينة وما لا فلا فإن كانت قائمة فقعدت لم يبطل خيارها بخلاف ما إذا كانت قاعدة فقامت؛ لأن القعود يجمع الرأي والقيام يفرقه فكان القعود دليل إرادة التأمل, والقيام دليل إرادة الإعراض وكذلك إن كانت متكئة فقعدت لم يبطل خيارها لما قلنا فإن كانت قاعدة فاتكأت ففيه روايتان في رواية يبطل خيارها لأن المتكئ يقعد ليجتمع رأيه فأما القاعد فلا يتكئ لذلك, وفي رواية أخرى لا يبطل؛ لأن المتأمل ينتقل من الاتكاء إلى القعود مرة ومن القعود إلى الاتكاء أخرى, وقد صار الأمر بيدها بيقين فلا يخرج بالشك؛ فلو كانت قاعدة فاضطجعت يبطل خيارها في قول زفر. وعن أبي يوسف روايتان روى الحسن بن زياد عنه أنه لا يبطل خيارها وروى الحسن بن أبي مالك عنه أنه يبطل كما قال زفر وإن ابتدأت الصلاة بطل خيارها فرضا كانت الصلاة أو نفلا أو واجبة؛ لأن اشتغالها بالصلاة إعراض عن الجواب فإن خيرها وهي في الصلاة فأتمتها فإن كانت في صلاة الفرض أو الواجب كالوتر لا يبطل خيارها حتى تخرج من الصلاة؛ لأنها مضطرة في الإتمام لكونها ممنوعة من الإفساد فلا يكون الإتمام دليل الإعراض وإن كانت في صلاة التطوع فإن سلمت على رأس الركعتين فهي على خيارها وإن زادت على ركعتين بطل خيارها؛ لأن كل شفع من التطوع صلاة على حدة فكانت الزيادة على الشفع بمنزلة الشروع في الصلاة ابتداء, ولو أخبرت وهي في الأربع قبل الظهر فأتمت ولم تسلم على رأس الركعتين اختلف فيه المشايخ قال بعضهم: يبطل خيارها كما في التطوع المطلق. وقال بعضهم: لا يبطل وهو الصحيح؛ لأنها في معنى الواجب فكانت من أولها إلى آخرها صلاة واحدة, ولو أخذ الزوج بيدها فأقامها بطل خيارها؛ لأنها إن قدرت على الامتناع فلم تمتنع فقد قامت باختيارها وهو دليل الإعراض. وإن لم تقدر على أن تمتنع تقدر على أن تقول قبل الإقامة اخترت نفسي فلما لم تقل فقد أعرضت عن الجواب فإن أكلت طعاما يسيرا من غير أن تدعو بطعام أو شربت شرابا قليلا أو نامت قاعدة أو لبست ثوبا وهي قائمة أو لبست وهي قاعدة ولم تقم لم يبطل خيارها؛ لأنها تحتاج إلى إحضار الشهود فتحتاج إلى اللبس لتستتر به فكان ذلك من ضرورات الخيار فلا يبطل به, والأكل اليسير لا يدل على الإعراض وكذا النوم قاعدة من غير أن تشتغل به. وكذا إذا سبحت أو قرأت شيئا قليلا لم يبطل خيارها لأن التسبيح اليسير والقراءة القليلة لا يدلان على الإعراض; ولأن الإنسان لا يخلو عن التسبيح القليل والقراءة القليلة, فلو جعل ذلك مبطلا للخيار لانسد باب التفويض وإن طال ذلك بطل الخيار; لأن الطويل منه يكون دليل الإعراض ولا يكثر

 

ج / 3 ص -115-       وجوده, فإن قالت: ادع لي شهودا أشهدهم لم يبطل خيارها؛ لأنها تحتاج إلى ذلك صيانة لاختيارها عن الجحود فكان ذلك من ضرورات الخيار فلم يكن دليل الإعراض, وكذلك إذا قالت: ادع لي أبي أستشيره؛ لأن هذا أمر يحتاج إلى المشورة, وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "لما أراد تخيير نسائه قال لعائشة رضي الله عنها: إني أعرض عليك أمرا فلا تعجلي حتى تستشيري أبويك", ولو كانت المشورة مبطلة للخيار لما ندبها إلى المشورة, ولو قالت: اخترتك أو قالت: لا أختار الطلاق خرج الأمر من يدها؛ لأنها صرحت برد التمليك وإنه يبطل بدلالة الرد فبالصريح أولى, وسواء كان التمليك بكلمة كلما أو بدونها بأن قال لها: أمرك بيدك كلما شئت لما ذكرنا أن اختيارها زوجها رد التمليك فيرتد ما جعل إليها في جميع الأوقات هذا إذا كان التفويض مطلقا عن الوقت فأما إذا كان موقتا فإن أطلق الوقت بأن قال: أمرك بيدك إذا شئت أو إذا ما شئت أو متى ما شئت أو حيثما شئت, فلها الخيار في المجلس وغير المجلس ولا يتقيد بالمجلس حتى لو ردت الأمر لم يكن ردا. ولو قامت من مجلسها أو أخذت في عمل آخر أو كلام آخر فلها أن تطلق نفسها؛ لأنه ما ملكها الطلاق مطلقا ليكون طالبا جوابها في المجلس, بل ملكها في أي وقت شاءت, فلها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت إلا أنها لا تملك أن تطلق نفسها إلا مرة واحدة لما نذكر فإن وقته بوقت خاص بأن قال: أمرك بيدك يوما أو شهرا أو سنة أو قال: اليوم أو الشهر أو السنة أو قال: هذا اليوم أو هذا الشهر أو هذه السنة لا يتقيد بالمجلس ولها الأمر في الوقت كله تختار نفسها فيما شاءت منه, ولو قامت من مجلسها أو تشاغلت بغير الجواب لا يبطل خيارها ما بقي الوقت بلا خلاف؛ لأنه فوض الأمر إليها في جميع الوقت المذكور فيبقى ما بقي الوقت؛ ولأنه لو بطل الأمر بإعراضها لم يكن للتوقيت فائدة, وكان الوقت وغير الوقت سواء غير أنه إن ذكر اليوم أو الشهر أو السنة منكرا فلها الأمر من الساعة التي تكلم فيها إلى مثلها من الغد والشهر والسنة؛ لأن ذلك يقع على يوم تام وشهر تام وسنة تامة ولا يتم إلا بما قلنا. ويكون الشهر ههنا بالأيام؛ لأن التفويض إذا وجد في بعض الشهر لا يمكن اعتبار الأهلة فيعتبر بالأيام وإن ذكر ذلك معرفا فلها الخيار في بقية اليوم وفي بقية الشهر وفي بقية السنة؛ لأن المعرف منه يقع على الباقي ويعتبر الشهر ههنا بالهلال؛ لأن الأصل في الشهر هو الهلال, والعدول عنه إلى غيره لمكان الضرورة, ولا ضرورة ههنا, ولو اختارت نفسها في الوقت مرة ليس لها أن تختار مرة أخرى؛ لأن اللفظ يقتضي الوقت ولا يقتضي التكرار, ولو قالت: اخترت زوجي أو قالت: لا أختار الطلاق ذكر في بعض المواضع أن على قول أبي حنيفة ومحمد يخرج الأمر من يدها في جميع الوقت حتى لا تملك أن تختار نفسها بعد ذلك وإن بقي الوقت. وعند أبي يوسف يبطل خيارها في ذلك المجلس ولا يبطل في مجلس آخر, وذكر في بعضها الاختلاف على العكس من ذلك. وجه قول من قال: إنه لا يخرج الأمر من يدها أنه جعل الأمر بيدها في جميع الوقت, فإعراضها في بعض الوقت لا يبطل خيارها في الجميع كما إذا قامت من مجلسها أو اشتغلت بأمر يدل على الإعراض. وجه قول من يقول إنه يخرج الأمر من يدها أن قولها: اخترت زوجي رد للتمليك. والتمليك تمليك واحد فيبطل برد واحد كتمليك البيع بخلاف القيام عن المجلس؛ لأنه ليس برد حقيقة, بل هو امتناع من الجواب إلا أنه جعل ردا في التفويض المطلق من الوقت ضرورة أن الزوج طلب الجواب في المجلس, والمجلس يبطل بالقيام فلو بقي الأمر بقي خاليا عن الفائدة فبطل ضرورة عدم الفائدة في البقاء, وهذه الضرورة منعدمة ههنا؛ لأن الزوج طلب منها الجواب في جميع الوقت لا في المجلس فكان في بقاء الأمر بعد القيام عن المجلس فائدة فيبقى؛ ولأن الزوج خيرها بين أن تختار نفسها وبين أن تختار زوجها ولو اختارت نفسها يبطل خيارها في جميع المدة فكذا إذا اختارت زوجها وروى ابن سماعة عن أبي يوسف أنه إذا قال: أمرك بيدك هذا اليوم كان على مجلسها؛ لأن في الفصل الأول جعل اليوم كله ظرفا للأمر باليد كما لو قال: لله علي أن أصوم عمري أنه يلزمه صوم جميع عمره؛ لأنه جعل عمره ظرفا للصوم, فإذا صار اليوم كله ظرفا للأمر باليد فلا يتقيد بالمجلس وفي الفصل الثاني جعل جزءا من اليوم ظرفا كما لو قال: لله علي أن أصوم في عمري أنه لا يلزمه إلا صوم يوم واحد؛ لأنه جعل جزءا من عمره ظرفا للصوم, وإذا صار جزءا من اليوم ظرفا للأمر وليس جزء أولى من جزء فيختص

 

ج / 3 ص -116-       بالمجلس, ولو قال: أمرك بيدك إلى رأس الشهر صار الأمر بيدها إلى رأس الشهر, ولا يبطل بالقيام عن المجلس والاشتغال بترك الجواب وهل يبطل باختيارها زوجها؟ فهو على الاختلاف الذي ذكرنا. وأما التفويض المعلق بشرط فلا يخلو من أحد وجهين إما أن يكون مطلقا عن الوقت, "وأما" أن يكون مؤقتا, فإن كان مطلقا بأن قال: إذا قدم فلان فأمرك بيدك فقدم فلان فالأمر بيدها إذا علمت في مجلسها الذي يقدم فيه فلان؛ لأن المعلق بشرط كالمنجز عند الشرط فيصير قائلا عند القدوم أمرك بيدك فإذا علمت بالقدوم كان لها الخيار في مجلس علمها. وإن موقتا بأن قال: إذا قدم فلان فأمرك بيدك يوما أو قال: اليوم الذي يقدم فيه فلان, فإذا قدم فلها الخيار في ذلك الوقت كله إذا علمت بالقدوم غير أنه إذا ذكر اليوم منكرا يقع على يوم تام. بأن قال: إذا قدم فلان فأمرك بيدك يوما. وإن عرفه يقع على بقية اليوم الذي يقدم فيه ولا يبطل بالقيام عن المجلس. وهل يبطل باختيارها زوجها؟ فهو على ما ذكرنا من الاختلاف وليس لها أن تختار نفسها في الوقت كله إلا مرة واحدة لما بينا, ولو لم تعلم بقدومه حتى مضى الوقت ثم علمت فلا خيار لها بهذا التفويض أبدا لما مر. "وأما" المضاف إلى الوقت؛ بأن قال: أمرك بيدك غدا أو رأس شهر كذا فجاء الوقت؛ صار الأمر بيدها؛ لأن الطلاق يحتمل الإضافة إلى الوقت فكذا تمليكه وكان على مجلسها من أول الغد ورأس الشهر وأول الغد من حين يطلع الفجر الثاني ورأس الشهر ليلة الهلال ويومها, وإن قال: أمرك بيدك إذا هل الشهر يصير الأمر بيدها ساعة يهل الهلال ويتقيد بالمجلس. ولو قال: أمرك بيدك اليوم وغدا, أو قال: أمرك بيدك هذين اليومين فلها الأمر في اليومين تختار نفسها في أيهما شاءت, ولا يبطل بالقيام عن المجلس ما بقي شيء من الوقتين. وهل يبطل باختيارها زوجها؟ فهو على ما مر من الاختلاف, ولو قال لها: أمرك بيدك اليوم وبعد غد فاختارت زوجها اليوم فلها أن تختار نفسها بعد غد, وكذلك إذا ردت الأمر في يومها بطل أمر ذلك اليوم وكان الأمر بيدها بعد غد حتى كان لها أن تختار نفسها بعد غد, ذكر القدوري هذه المسألة ونسب القول إلى أبي حنيفة وأبي يوسف وذكرها في الجامع الصغير ولم يذكر الاختلاف. والوجه أنه جعل الأمر بيدها في وقتين وجعل بينهما وقتا لا خيار لها فيه فصار كل واحد من الوقتين شيئا منفصلا عن صاحبه مستقلا بنفسه في الأمر مفردا به فيتعدد التفويض معنى كأنه قال: أمرك بيدك اليوم وأمرك بيدك بعد غد فرد الأمر في أحدهما لا يكون ردا في الآخر بخلاف قوله: أمرك بيدك اليوم أو الشهر أو السنة أو اليوم أو غدا أو هذين اليومين على قول من يقول: يبطل الأمر؛ لأن هناك الزمان واحد لا يتخلله ما لا خيار لها فيه, فكان التفويض واحدا فرد الأمر فيه يبطله, ولو قال: أمرك بيدك اليوم وأمرك بيدك غدا فهما أمران حتى لو اختارت زوجها اليوم أو ردت الأمر فهو على خيارها غدا؛ لأنه لما كرر اللفظ فقد تعدد التفويض, فرد أحدهما لا يكون ردا للآخر, ولو اختارت نفسها في اليوم فطلقت ثم تزوجها قبل مجيء الغد فأرادت أن تختار فلها ذلك, وتطلق أخرى إذا اختارت نفسها؛ لأنه ملكها بكل واحدة من التفويضين طلاقا, فالإيقاع بأحدهما لا يمنع من الإيقاع بالآخر, ولو قال: لها أمرك بيدك هذه السنة فاختارت نفسها ثم تزوجها لم يكن لها أن تختار في بقية السنة في قول أبي يوسف. وقال أبو يوسف: وقياس قول أبي حنيفة أن يلزمها الطلاق في الخيار الثاني ولست أروي هذا عنه, ولكن هذا قياس قوله, ولو كان ترك القياس واستحسن لكان مستقيما, ولو لم تختر نفسها ولا زوجها, ولكن الزوج طلقها واحدة ولم يكن دخل بها ثم تزوجها في تلك السنة فلا خيار لها في بقية السنة في قول أبي يوسف, وعند أبي حنيفة لها الخيار "وجه" قول أبي يوسف أن الزوج تصرف فيما فوض إليها فيخرج الأمر من يدها كالموكل إذا باع ما وكل ببيعه أنه ينعزل الوكيل ولأبي حنيفة أن جعل الأمر باليد فيه معنى التعليق فزوال الملك لا يبطله ما دام طلاق الملك الأول قائما كما في سائر التعليقات, وقوله: الزوج تصرف فيما فوض إليها ليس كذلك لأنه يملك ثلاث تطليقات ولم يفوض إليها إلا واحدة فيقتضي خروج المفوض من يده لا غير, كما إذا وكل إنسانا يبيع ثوبين له فباع الموكل أحدهما لم تبطل الوكالة لما قلنا كذا هذا. "وأما" بيان صفة الحكم الثابت بالتفويض: فمن صفته أنه غير لازم في حق المرأة حتى تملك رده صريحا أو

 

ج / 3 ص -117-       دلالة لما ذكرنا أن جعل الأمر بيدها تخيير لها بين أن تختار نفسها وبين أن تختار زوجها, والتخيير ينافي اللزوم ومن صفته أنه إذا خرج الأمر من يدها لا يعود الأمر إلى يدها بذلك الجعل أبدا, وليس لها أن تختار إلا مرة واحدة؛ لأن قوله: أمرك بيدك لا يقتضي التكرار إلا إذا قرن به ما يقتضي التكرار بأن قال: أمرك بيدك كلما شئت فيصير الأمر بيدها في ذلك وغيره ولها أن تطلق نفسها في كل مجلس تطليقة واحدة حتى تبين بثلاث؛ لأن كلمة كلما تقتضي تكرار الأفعال. قال الله تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا} وقال: {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَاراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} فيقتضى تكرار التمليك عند تكرار المشيئة إلا أنها لا تملك أن تطلق نفسها في كل مجلس إلا تطليقة واحدة؛ لأنه يصير قائلا لها في كل مجلس: أمرك بيدك فإذا اختارت فقد انتهى موجب ذلك التمليك, ثم يتجدد لها الملك بتمليك آخر في مجلس آخر عند مشيئة أخرى إلى أن يستوفي ثلاث تطليقات فإن بانت بثلاث تطليقات ثم تزوجت بزوج آخر وعادت إلى الزوج الأول فلا خيار لها؛ لأنها إنما تملك تطليق نفسها بتمليك الزوج, والزوج إنما ملكها ما كان يملك بنفسه, وهو إنما كان يملك بنفسه طلقات ذلك الملك القائم لا طلقات ملك لم يوجد فما لا يملك بنفسه كيف يملكه غيره؟ وإن بانت بواحدة أو اثنتين ثم تزوجت بزوج آخر ثم عادت فلها أن تشاء الطلاق مرة بعد أخرى حتى تستوفي الثلاث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف خلافا لمحمد وهو قول الشافعي بناء على أن الزوج الثاني يهدم ما دون الثلاث من التطليقات. وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم بخلاف ما إذا قال لها: أمرك بيدك إذا شئت أو إذا ما شئت أو متى شئت أو متى ما شئت أن لها الخيار في المجلس أو غيره لكنها لا تملك أن تختار إلا مرة واحدة, فإذا اختارت مرة لا يتكرر لها الخيار في ذلك؛ لأن إذا ومتى لا تفيد التكرار وإنما تفيد مطلق الوقت, كأنه قال لها: اختاري في أي وقت شئت, فكان لها الخيار في المجلس وغيره, لكن مرة واحدة فإذا اختارت مرة واحدة انتهى موجب التفويض بخلاف الفصل الأول؛ لأن كلما يقتضي تكرار الأفعال فيتكرر التفويض عند تكرار المشيئة والله أعلم. وأما بيان ما يصلح جواب جعل الأمر باليد من الألفاظ وما لا يصلح وبيان حكمه إذا وجد: فالأصل فيه أن كل ما يصلح من الألفاظ طلاقا من الزوج يصلح جوابا من المرأة وما لا فلا إلا في لفظ الاختيار خاصة فإنه لا يصلح طلاقا من الزوج ويصلح جوابا من المرأة في الجملة بخلاف الأصل؛ لأن التفويض من الزوج تمليك الطلاق منها, فما يملكه بنفسه يملك تمليكه من غيره, وما لا فلا هذا هو الأصل. إذا عرف هذا فنقول: إذا قالت طلقت نفسي أو أبنت نفسي أو حرمت نفسي يكون جوابا؛ لأن الزوج لو أتى بهذه الألفاظ كان طلاقا. وكذا إذا قالت: أنا منك بائن أو أنا عليك حرام؛ لأن الزوج لو قال لها: أنت مني بائن أو أنت علي حرام كان طلاقا. وكذا إذا قالت لزوجها: أنت مني بائن أو أنت علي حرام؛ لأن الزوج لو قال لها ذلك كان طلاقا, ولو قالت: أنا بائن ولم تقل منك أو قالت أنا حرام ولم تقل عليك فهو جواب؛ لأن الزوج لو قال لها: أنت بائن أو أنت حرام, ولم يقل مني وعلي كان طلاقا, ولو قالت لزوجها: أنت بائن ولم تقل مني أو قالت لزوجها: أنت حرام ولم تقل علي فهو باطل؛ لأن الزوج لو قال لها: أنا بائن أو أنا حرام لم يكن طلاقا, ولو قالت: أنا منك طالق فهو جواب؛ لأنه لو قال لها: أنت طالق مني كان طلاقا. وكذا لو قالت لزوجها: أنا طالق ولم تقل منك؛ لأن الزوج لو قال: أنت طالق ولم يقل مني كان طلاقا, ولو قالت لزوجها: أنت مني طالق لم يكن جوابا؛ لأن الزوج لو قال لها: أنا منك طالق لم يكن طلاقا عندنا خلافا للشافعي, ولو قالت: اخترت نفسي كان جوابا وإن لم يكن هذا اللفظ من الزوج طلاقا, وأنه حكم ثبت شرعا بخلاف القياس بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما نذكر إن شاء الله تعالى. "وأما" الواقع بهذه الألفاظ التي تصلح جوابا فطلاق واحد بائن عندنا إن كان التفويض مطلقا عن قرينة الطلاق بأن قال لها: أمرك بيدك ولم ينو الثلاث, أما وقوع الطلقة الواحدة فلأنه ليس في التفويض ما ينبئ عن العدد. "وأما" كونها بائنة فلأن هذه الألفاظ جواب الكناية, والكنايات على أصلنا منبيات, ولأن قوله: أمرك بيدك جعل أمر نفسها بيدها فتصير عند اختيارها نفسها مالكة نفسها, وإنما تصير مالكة نفسها بالبائن لا بالرجعي. وإن قرن به ذكر الطلاق بأن قال: أمرك بيدك في تطليقة فاختارت نفسها فهي واحدة يملك الرجعة فيها لأنه فوض إليها الصريح حيث

 

ج / 3 ص -118-       نص عليه, وبه تبين أنه ما ملكها نفسها وإنما ملكها التطليقة وخيرها بين الفعل والترك; عرفنا ذلك بنص كلامه بخلاف ما إذا أطلق؛ لأنه لما أطلق فقد ملكها نفسها ولا تملك نفسها إلا بالبائن, ولو قال: أمرك بيدك ونوى الثلاث فطلقت نفسها ثلاثا كان ثلاثا; لأنه جعل أمرها بيدها مطلقا فيحتمل الواحد ويحتمل الثلاث, فإذا نوى الثلاث فقد نوى ما يحتمله مطلق الأمر فصحت نيته وإن نوى اثنتين فهي واحدة عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر, وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم. وكذا إذا قالت: طلقت نفسي أو اخترت نفسي ولم تذكر الثلاث فهي ثلاث؛ لأنه جواب تفويض الثلاث فيكون ثلاثا. وكذا إذا قالت: أبنت نفسي أو حرمت نفسي وغير ذلك من الألفاظ التي تصلح جوابا, ولو قالت: طلقت نفسي واحدة أو اخترت نفسي بتطليقة واحدة فهي بائنة لأنه لما نوى ثلاثا فقد فوض إليها الثلاث وهي أتت بالواحدة فيقع واحدة كما لو قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة فتكون بائنة لأنه ملكها نفسها ولا تملك نفسها إلا بالبائن, ولو قالت: اخترت نفسي بواحدة فهو ثلاث فرقا بينه وبين قولها طلقت نفسي واحدة. وجه الفرق أن معنى قولها بواحدة أي: بمرة واحدة وهي عبارة عن توحد فعل الاختيار على وجه لا يحتاج بعده إلى اختيار آخر, وانقطاع العلقة بينهما بالكلية بحيث لا يبقى بينهما أمر بعد ذلك. وذلك إنما يكون بالثلاث بخلاف قولها طلقت نفسي واحدة؛ لأنها جعلت التوحد هناك صفة المختار وهو الطلاق لا صفة فعل الاختيار فهو الفرق بين الفصلين والله أعلم.

                                                                "فصل":
وأما قوله: اختاري فالكلام فيه يقع فيما ذكرنا من المواضع في الأمر باليد, والجواب فيه كالجواب في الأمر باليد في جميع ما وصفنا؛ لأن كل واحدة منهما تمليك الطلاق من المرأة, وتخييرها بين أن تختار نفسها أو زوجها لا يختلفان إلا في شيئين: أحدهما أن الزوج إذا نوى الثلاث في قوله: أمرك بيدك يصح, وفي قوله اختاري لا يصح نية الثلاث والثاني أن في اختاري لا بد من ذكر النفس في أحد الكلامين إما في تفويض الزوج "وأما" في جواب المرأة بأن يقول لها: اختاري نفسك وتقول: اخترت أو يقول لها: اختاري فتقول اخترت نفسي أو ذكر الطلاق في كلام الزوج أو في كلام المرأة بأن يقول لها: اختاري فتقول: اخترت الطلاق أو ذكر ما يدل على الطلاق وهو تكرار التخيير من الزوج بأن يقول لها: اختاري اختاري فتقول: اخترت أو ذكر الاختيار في كلام الزوج أو في كلام المرأة بأن يقول لها الزوج: اختاري اختيارة, فتقول المرأة: اخترت اختيارة, وإنما كان كذلك؛ لأن القياس في قوله: اختاري أن لا يقع به شيء وإن اختارت؛ لأنه ليس من ألفاظ الطلاق لغة. ألا ترى أن الزوج لا يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ؟ فإن من قال لامرأته: اخترت نفسي لا تطلق فإذا لم يملك إيقاع الطلاق بهذا اللفظ بنفسه فكيف يملك تفويضه إلى غيره إلا أنه جعل من ألفاظ الطلاق شرعا بالكتاب والسنة والإجماع أما الكتاب فقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بتخيير نسائه بين اختيار الفراق والبقاء على النكاح, والنبي صلى الله عليه وسلم خيرهن على ذلك, ولو لم تقع الفرقة به لم يكن للأمر بالتخيير معنى وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت "لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بتخيير أزواجه بدأ بي فقال: يا عائشة إني ذاكر لك أمرا فلا عليك أن تعجلي حتى تستأمري أبويك, قالت: وقد علم الله تعالى أن أبوي لم يكونا ليأمراني بفراقه قالت فقرأ: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} إلى قوله: {أَجْراً عَظِيماً} فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة "وفي بعض الروايات "فقالت: بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة" وفعل سائر أزواجه مثل ما فعلت فدل أنه يوجب اختيار التفريق والبقاء على النكاح. وأما الإجماع فإنه روي عن جماعة من الصحابة مثل عمر وعثمان وعلي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عمر وجابر وعائشة رضي الله عنهم أن المخيرة إذا اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق وكذا شبهوا أيضا هذا الخيار بالخيارات الطارئة على النكاح وهو خيار المعتقة وامرأة العنين وتقع الفرقة بذلك الخيار, فكذا بهذا وكذا اختلفوا في كيفية الواقع على ما نذكر وذلك دليل أصل الوقوع إذ الكيفية من باب الصفة, والصفة تستدعي

 

ج / 3 ص -119-       وجود الموصوف فثبت كون هذا اللفظ من ألفاظ الطلاق بالشرع فيتبع مورد الشرع, والشرع ورد به مع قرينة الفراق نصا أو دلالة أو قرينة النفس فإن اختيار الفراق مضمر في قوله تعالى: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} بدليل ما يقابله وهو قوله: {وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} فدل على إضمار اختيار الفراق كأنه قال: {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} مع اختيار فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان ذلك تخييرا لهن بين أن يخترن الحياة الدنيا وزينتها مع اختيار فراق رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يخترن الله ورسوله والدار الآخرة فكن مختارات للطلاق لو اخترن الدنيا أو كان اختيارهن الدنيا وزنيتها اختيارا لفراق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لم يكن معه الدنيا وزينتها. والصحابة رضي الله عنهم جعلوا للمخيرة المجلس, وقالوا: إذا اختارت نفسها في مجلسها وقع الطلاق عليها فهذا مورد الشرع في هذا اللفظ فيقتصر حكمه على مورد الشرع فإذا قال لها: اختاري فقالت: اخترت لا يقع به شيء؛ لأنه ليس في معنى مورد الشرع فيبقى الأمر فيه على أصل القياس فلا يصلح جوابا ولأن قوله: اختاري معناه اختاري إياي أو نفسك فإذا قالت: اخترت فلم تأت بالجواب؛ لأنها لم تختر نفسها ولا زوجها لم يقع فيه شيء وإذا قال: لها اختاري نفسك فقالت: اخترت فهذا جواب؛ لأنها أخرجته مخرج الجواب كقوله اختاري نفسك فينصرف إليها كأنها قالت اخترت نفسي. وكذا إذا قال لها اختاري فقالت اخترت نفسي لما ذكرنا أن معنى قوله اختاري أي اختاري إياي أو نفسك وقد اختارت نفسها فقد أتت بالجواب. وكذا لو قالت: أختار نفسي يكون جوابا استحسانا والقياس أن لا يكون جوابا؛ لأن قولها أختار يحتمل الحال ويحتمل الاستقبال فلا يكون جوابا مع الاحتمال. وجه الاستحسان أن صيغة أفعل موضوعة للحال, وإنما تستعمل للاستقبال بقرينة السين وسوف على ما عرف في موضعه. وكذا إذا قال اختاري اختاري فقالت: اخترت فيكون جوابا وإن لم يوجد ذكر النفس من الجانبين جميعا؛ لأن تكرار الاختيار دليل إرادة اختيار الطلاق؛ لأنه هو الذي يقبل التعدد كأنه قال: اختاري الطلاق فينصرف الجواب إليه. وكذا إذا قال اختاري اختيارة, فقالت: اخترت اختيارة فهو جواب; لأن قوله: اختيارة يفيد معنيين: أحدهما تأكيد الأمر والثاني معنى التوحد والتفرد, فالتقييد بما يوجب التفرد يدل على أنه أراد به التخيير فيما يقبل التعدد وهو الطلاق وإذا قال لها: اختاري الطلاق فقالت اخترت فهو جواب لأنه فوض إليها اختيار الطلاق نصا فينصرف الجواب إليه. وكذا إذا قال لها اختاري فقالت: اخترت الطلاق; لأن معنى قوله: اختاري أي اختاري إياي أو نفسك, فإذا قالت: اخترت الطلاق فقد اختارت نفسها فكان جوابا, ولو قال لها اختاري فقالت اخترت أبي وأمي أو أهلي والأزواج, فالقياس أن لا يكون جوابا ولا يقع به شيء, وفي الاستحسان يكون جوابا. وجه القياس أنه ليس في لفظ الزوج ولا في لفظ المرأة ما يدل على اختيارها نفسها فلا يصلح جوابا. وجه الاستحسان أن في لفظها ما يدل على الطلاق؛ لأن المرأة بعد الطلاق تلحق بأبويها وأهلها وتختار الأزواج عادة, فكان اختيارها هؤلاء دلالة على اختيارها الطلاق فكأنها قالت: اخترت الطلاق. "وأما" الواقع بهذه الألفاظ فإن كان التخيير واحدا ولم يذكر الثلاث في التخيير فلا يقع إلا طلاق واحد وإن نوى الثلاث في التخيير ويكون بائنا عندنا إن كان التفويض مطلقا عن قرينة الطلاق. وقال الشافعي: إذا أراد الزوج بالتخيير الطلاق فاختارت نفسها ونوت الطلاق يقع واحدة رجعية, وهذا مذهبه في الأمر باليد أيضا وقد اختلف الصحابة رضي الله عنهم فيمن خير امرأته فاختارت زوجها أو اختارت نفسها قال بعضهم: إن اختارت زوجها لا يقع شيء وهو قول عمر وعبد الله بن مسعود وأبي الدرداء وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وروي عن علي رضي الله عنه أنها إذا اختارت زوجها يقع تطليقة رجعية, والترجيح لقول الأولين لما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فاخترناه فلم يعد ذلك طلاقا" وعن مسروق. عن عائشة رضي الله عنها: أنها سئلت عن الرجل يخير امرأته يكون طلاقا؟ فقالت: "خيرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان طلاقا"؛ ولأن التخيير إثبات الخيار في الفراق والبقاء على النكاح. واختيارها زوجها دليل الإعراض عن ترك النكاح, والإعراض عن

 

ج / 3 ص -120-       ترك النكاح استبقاء النكاح فكيف يكون طلاقا؟ ولو اختارت نفسها قال بعضهم: هي واحدة بائنة وهو أحدي الروايتين عن علي. وقال بعضهم: هي واحدة رجعية. وقال زيد بن ثابت رضي الله عنه: إذا اختارت نفسها فهو ثلاث والترجيح لقول من يقول: يقع بائنا لا رجعيا ولا ثلاثا أما وقوع البائن: فلأن الزوج خيرها بين أن تختار نفسها لنفسها وبين أن تختار نفسها لزوجها, فإذا اختارت نفسها لنفسها لو كان الواقع رجعيا لم يكن اختيارها نفسها لنفسها, بل لزوجها؛ إذ لزوجها أن يراجعها شاءت أو أبت. "وأما" عدم وقوع الثلاث وإن وجدت نية الثلاث في التخيير فلما ذكرنا أن القياس أن لا يقع بالاختيار شيء لأنه ليس من ألفاظ الطلاق وإنما جعل طلاقا بالشرع ضرورة صحة التخيير, وحق الضرورة يصير مقضيا بالواحدة البائنة, وإن كان التفويض مقرونا بذكر الطلاق بأن قال لها: اختاري الطلاق فقالت: اخترت الطلاق فهي واحدة رجعية؛ لأنه لما صرح بالطلاق فقد خيرها بين نفسها بتطليقة رجعية وبين رد التطليقة كما في قوله: أمرك بيدك فإن ذكر الثلاث في التخيير بأن قال لها: اختاري ثلاثا فقالت: اخترت يقع الثلاث؛ لأن التنصيص على الثلاث دليل إرادة اختيار الطلاق؛ لأنه هو الذي يتعدد, فقولها اخترت ينصرف إليه فيقع الثلاث, ولو كرر التخيير بأن قال لها: اختاري اختاري ونوى بكل واحدة منهما الطلاق فقالت اخترت يقع ثنتان؛ لأن كل واحدة منهما تخيير تام بنفسه لوجود ركنه وشرطه وهو النية, والثاني لا يصلح تفسيرا للأول؛ لأن الشيء لا يفسر بنفسه ولا يصلح جوابا أيضا ولا علة ولا حكما للأول؛ فيكون كلاما مبتدأ, والتكرار دليل إرادة الطلاق, قولها اخترت يكون جوابا لهما جميعا, والواقع بكل واحد منهما طلاق بائن فيقع تطليقتان بائنتان وكذلك إذا ذكر الثاني بحرف الصلة بأن قال لها: اختاري واختاري أو قال اختاري فاختاري؛ لأن الواو والفاء من حروف العطف إلا أن الفاء قد تذكر في موضع العلة وقد تذكر في موضع الحكم؛ كما يقال: أبشر فقد أتاك الغوث, ويقال قد أتاك الغوث فأبشر, لكن ههنا لا تصلح علة ولا حكما فتكون للعطف, والمعطوف غير المعطوف عليه هو الأصل, ولو قال: لها اختاري اختاري اختاري, أو قال: اختاري واختاري واختاري أو قال اختاري فاختاري فاختاري فقالت: اخترت فهي ثلاث لما قلنا, ولو قال: لها اختاري اختاري اختاري فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهو ثلاث في قول أبي حنيفة وعندهما يقع واحدة. وجه قولهما: أنها ما أوقعت إلا واحدة فلا يقع إلا واحدة؛ لأن الوقوع باختيارها ولم يوجد منها إلا اختيار واحدة فلا تقع به الزيادة على الواحدة كما لو قال لها: اختاري ثلاثا فقالت: اخترت واحدة ولأبي حنيفة أن الزوج ملكها الثلاث جملة والثلاث جملة ليس فيها أولى ولا وسطى ولا أخيرة فقولها اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة يكون لغوا فيبطل تعيينها ويبقى قوله اخترت وأنه يصلح جواب الكل. وعلى هذا الخلاف إذا قال لها: اختاري واختاري واختاري أو قال لها: اختاري فاختاري فاختاري فقالت: اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة, ولو قال لها: اختاري اختاري اختاري أو ذكر التخييرين بحرف الواو أو بحرف الفاء فقالت: قد اخترت اختيارة فهو ثلاث في قولهم جميعا؛ لأن معناه اخترت الكل مرة فيقع الثلاث, وإن لم يوجد ذكر النفس من الجانبين جميعا لما ذكرنا أن التكرار من الزوج دليل إرادة اختيار الطلاق. وكذا إذا قالت: اخترت الاختيارة أو قالت اخترت مرة أو بمرة أو دفعة أو بدفعة أو بواحدة فهو ثلاث لما قلنا, ولو قالت: قد طلقت نفسي واحدة أو اخترت نفسي بتطليقة فهي واحدة بائنة لما ذكرنا في الأمر باليد, ولو قال لها: اختاري اختاري اختاري بألف درهم فقالت اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فهو ثلاث وعليها ألف درهم في قول أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد لا يقع إلا واحدة غير أنها إن اختارت نفسها بالأخيرة كانت تطليقة واحدة وعليها ألف درهم, وإن اختارت نفسها بالأولى أو بالوسطى كانت واحدة ولا شيء عليها. والأصل عند أبي حنيفة أن تعيين الأولى أو الوسطى أو الأخيرة لغو؛ لأنه ملكها الثلاث جملة والثلاث المملكة جملة ليس لها أولى ولا وسطى ولا أخيرة فكان التعيين ههنا لغوا فبطل التعيين وبقي قولها اخترت, ولو قالت: اخترت طلقت ثلاثا وعليها الألف كذا

 

ج / 3 ص -121-       هذا. والأصل عندهما أن اختيار الأولى أو الوسطى أو الأخيرة صحيح ولا يقع إلا واحدة غير أنهما يقولان لا يلزمها الألف إلا إذا اختارت الأخيرة؛ لأن كل واحد من التخييرات على حدة؛ لأنه كلام تام بنفسه ولم يذكر معه حرف الجمع فيجعل الكل كلاما واحدا فبقي كل واحد منهما تخييرا تاما بنفسه فيعطى لكل واحد منهما حكم نفسه. والبدل لم يذكر إلا في التخيير الأخير فلا يجب إلا باختيار الأخيرة, ولو ذكر حرف الواو أو حرف الفاء فقال: اختاري واختاري واختاري بألف درهم أو قال: اختاري فاختاري فاختاري بألف درهم فقالت: اخترت الأولى أو الوسطى أو الأخيرة فعند أبي حنيفة لا يختلف الجواب فتطلق ثلاثا وعليها ألف درهم لما ذكرنا وعندهما لا يقع الطلاق في هذه الصورة؛ لأنه لما جمع بين التخييرات الثلاث بحرف الجمع جعل الكل كلاما واحدا وقد أمرها أن تحرم نفسها عليه بألف درهم فلا تملك التحريم بأقل من ذلك, كما إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثا بألف درهم فطلقت نفسها واحدة أنه لا يقع شيء لما قلنا كذا هذا, والله أعلم بالصواب.

                                                           "فصل":
وأما قوله: أنت طالق إن شئت فهو مثل قوله اختاري في جميع ما وصفنا؛ لأن كل واحد منهما تمليك الطلاق إلا أن الطلاق ههنا رجعي وهناك بائن؛ لأن المفوض ههنا صريح وهناك كناية. وكذا إذا قال لها أنت طالق إن أحببت أو رضيت أو هويت أو أردت؛ لأنه علق الطلاق بفعل من أفعال القلب فكان مثل قوله إن شئت. وكذا إذا قال لها: أنت طالق حيث شئت أو أين شئت أو أينما شئت أو حيثما شئت, فهو مثل قوله: إن شئت; لأن حيث وأين اسم مكان وما صلة فيهما ولا تعلق للطلاق بالمكان فيلغو ذكرهما لعدم الفائدة ويبقى ذكر المشيئة فصار كأنه قال لها: أنت طالق إن شئت وكذا إذا قال لها: أنت طالق كم شئت أو ما شئت غير أن لها أن تطلق نفسها في المجلس ما شاءت واحدة أو ثنتين أو ثلاثا؛ لأن كلمة كم للقدر وقدر الطلاق هو العدد والعدد هو الواقع. وكذا كلمة ما في مثل هذا الموضع تذكر لبيان القدر يقال: كل من طعامي ما شئت أي القدر الذي شئت, ولو قال لها: أنت طالق إذا شئت أو إذا ما شئت أو متى شئت أو متى ما شئت فلها أن تطلق نفسها في أي وقت شاءت في المجلس أو بعده وبعد القيام عنه لما مر, وليس لها أن تطلق نفسها إلا واحدة; لأنه ليس في هذه الألفاظ ما يدل على التكرار على ما مر بخلاف قوله أنت طالق كلما شئت فإن لها أن تطلق نفسها مرة بعد أخرى حتى تطلق نفسها ثلاثا لأن المعلق بالمشيئة وإن كان واحدا وهو الثابت مقتضى قوله: أنت طالق وهو الطلاق, لكنه علق المشيئة بكلمة كلما, وأنها تقتضي تكرار الأفعال فيتكرر المعلق بتكرر الشرط. وإذا وقع الثلاث عند المشيئات المتكررة يبطل التعليق عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر حتى لو تزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول فطلقت نفسها لا يقع شيء وليس لها أن تطلق نفسها ثلاثا في كلمة واحدة لما ذكرنا فيما تقدم؛ ولأن المعلق بكل مشيئة والمفوض إليها تطليقة واحدة, وهي البائنة مقتضى قوله: أنت طالق فلا تملك الثلاث, ولو قال: أنت طالق كيف شئت طلقت للحال تطليقة واحدة بقوله: أنت طالق في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يقع عليها شيء ما لم تشأ؛ والحاصل أن عند أبي حنيفة في قوله: أنت طالق كيف شئت لا يتعلق أصل الطلاق بالمشيئة بل المعلق بالمشيئة صفة الواقع وتتقيد مشيئتها بالمجلس, وعندهما تتعلق بالأصل والوصف المشيئة وتتقيد مشيئتها بالمجلس. وجه قولهما أن الكيفية من باب الصفة وقد علق الوصف بالمشيئة, وتعليق الوصف بالمشيئة تعليق الأصل بالمشيئة لاستحالة وجود الصفة بدون الموصوف, وإذا تعلق أصل الطلاق بالمشيئة لا ينزل ما لم توجد المشيئة ولأبي حنيفة أن الزوج بقوله أنت طالق كيف شئت أوقع أصل الطلاق للحال وفوض تكييف الواقع إلى مشيئتها؛ لأن الكيفية للموجود لا للمعدوم إذ المعدوم لا يحتمل الكيفية فلا بد من وجود أصل الطلاق لتتخير هي في الكيفية, ولهذا قال بعض المحققين في تعليل المسألة لأبي حنيفة: إن الزوج كيف المعدوم, والمعدوم لا يكيف فلا بد من الوجود, ومن ضرورة الوجود الوقوع ثم إذا شاءت في مجلسها فإن لم ينو الزوج البينونة ولا الثلاث فشاءت واحدة بائنة أو ثلاثا كان ما شاءت; لأن الزوج فوض الكيفية إليها فإن نوى الزوج البينونة أو الثلاث فإذا وافقت مشيئتها نية

 

ج / 3 ص -122-       الزوج بأن قالت في مجلسها: شئت واحدة بائنة أو ثلاثا. وقال الزوج: ذلك نويت, فهي واحدة بائنة أو ثلاث؛ لأن الزوج لو لم تكن منه نية فقالت شئت واحدة بائنة أو ثلاثا كان الواقع ما شاءت؛ فإذا واقفت مشيئتها نية الزوج أولى, وإن خالفت مشيئتها نية الزوج بأن قالت: شئت ثلاثا. وقال الزوج نويت واحدة لا يقع بهذه المشيئة شيء آخر في قول أبي حنيفة سوى تلك الواحدة الواقعة بقوله: أنت طالق إلا إذا قالت: شئت واحدة ثانية فتصير تلك الطلقة ثانية لما قلنا وعندهما يقع واحدة بمشيئتها بناء على أن المذهب عند أبي حنيفة أنه إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لا يقع شيء, وعندهما يقع واحدة وسنذكر أصل المسألة في موضعها إن شاء الله تعالى, ولو قالت: شئت واحدة. وقال الزوج: نويت الثلاث لا يقع بهذه المشيئة شيء في قولهم جميعا; لأن المذهب عندهم أنه إذا قال لها طلقي نفسك ثلاثا إن شئت فطلقت نفسها واحدة لا يقع شيء لما ذكرنا في الفصل الذي يليه إلا أن عند أبي حنيفة قد وقعت طلقة واحدة بقوله: أنت طالق حال وجوده, وإن لم تشأ المرأة شيئا حتى قامت من مجلسها ولا نية للزوج أو نوى واحدة فهي واحدة يملك الرجعة في قول أبي حنيفة؛ لأنها أقل وهي متيقن بها, وعندهما لا يقع شيء وإن شاءت لخروج الأمر عن يدها, ولو قال لها: أنت طالق إن شئت فقالت: شئت إن كان كذا فإن علقت بشيء موجود نحو ما إذا قالت: إن كان هذا ليلا أو نهارا وإن كان هذا أبي وأمي أو زوجي ونحو ذلك يقع الطلاق؛ لأن هذا تعليق بشرط كائن, والتعليق بشرط كائن تنجيز وإن علقت بشيء غير موجود فقالت شئت إن شاء فلان يخرج الأمر من يدها حتى لا يقع شيء وإن شاء فلان؛ لأنه فوض إليها التنجيز وهي أبت بالتعليق, والتنجيز غير التعليق؛ لأن التنجيز تطليق, والتعليق يمين فلم تأت بما فوض إليها وأعرضت عنه لاشتغالها بغيره فيبطل التفويض ولو قال لها أنت طالق إن شاء فلان يتقيد بمجلس علم فلان؛ فإن شاء في مجلس علمه وقع الطلاق وكذلك إذا كان غائبا وبلغه الخبر يقتصر على مجلس علمه؛ لأن هذا تمليك الطلاق فيتقيد بالمجلس بخلاف ما إذا قال لها أنت طالق إن دخل فلان الدار أنه يقع الطلاق إذا وجد الشرط في أي وقت وجد ولا يتقيد بالمجلس؛ لأن ذلك تعليق الطلاق بالشرط, والتعليق لا يتقيد بالمجلس؛ لأن معناه إيقاع الطلاق في زمان ما بعد الشرط فيقف الوقوع على وقت وجود الشرط ففي أي وقت وجد يقع الله عز وجل أعلم.

                                                              "فصل":
 وأما قوله: طلقي نفسك فهو تمليك عندنا سواء قيده بالمشيئة أو لا ويقتصر على المجلس كقوله أنت طالق إن شئت. وعند الشافعي هو توكيل ولا يقتصر على المجلس قيده بالمشيئة أو لم يقيده, وأجمعوا على أن قوله: لأجنبي: طلق امرأتي توكيل ولا يتقيد بالمجلس, وهو فصل التوكيل فإن قيده بالمشيئة بأن قال له طلق امرأتي إن شئت فهذا تمليك عند أصحابنا الثلاثة وعند زفر هو توكيل فوقع الخلاف في موضعين. أما الكلام مع الشافعي فوجه قوله أنه لو أضاف الأمر بالتطليق إلى الأجنبي ولم يقيده بالمشيئة كان توكيلا بالإجماع فكذا إذا أضافه إلى المرأة ولم يقيده بالمشيئة لأنه لم يختلف إلا الشخص والصيغة لا تختلف باختلاف الشخص. وكذا إذا قيد بالمشيئة؛ لأن التقييد بالمشيئة والسكوت عنه بمنزلة واحدة؛ لأنها تطلق نفسها بمشيئتها واختيارها إذ هي غير مضطرة في ذلك فكان ذكر المشيئة لغوا فكان ملحقا بالعدم فيبقى قوله: طلقي نفسك, وأنه توكيل لما ذكرنا فلا يتقيد بالمجلس كما في الأجنبي, "ولنا" لبيان أن قوله لامرأته طلقي نفسك تمليك وجوه ثلاثة: أحدها أن المتصرف عن ملك هو الذي يتصرف برأيه وتدبيره واختياره, والمرأة بهذه الصفة فكانت متصرفة عن ملك فكان تفويض التطليق إليها تمليكا بخلاف الأجنبي؛ لأن ثمة الرأي والتدبير للزوج والاختيار له, فكان إضافة الأمر إليه توكيلا لا تمليكا. والثاني أن المتصرف عن ملك هو الذي يتصرف لنفسه, والمتصرف عن توكيل هو الذي يتصرف لغيره؛ والمرأة عاملة لنفسها لأنها بالتطليق ترفع قيد الغير عن نفسها فكانت متصرفة عن ملك. فأما الأجنبي فإنه عامل لغيره لا لنفسه؛ لأن منفعة عمله عائدة إلى غيره فكان متصرفا عن توكيل وأمر لا عن ملك. والثالث أن قوله لامرأته: طلقي نفسك لا يمكن أن يجعل توكيلا؛ لأن الإنسان لا يصلح أن يكون وكيلا في حق نفسه فلم يمكن أن تجعل وكيلة في حق تطليق نفسها, ويمكن أن تجعل مالكة للطلاق بتمليك الزوج فتعين حمله على

 

ج / 3 ص -123-       التمليك بخلاف الأجنبي لأنه بالتطليق يتصرف في حق الغير, والإنسان يصلح وكيلا في حق غيره والله الموفق. "وأما" الكلام مع زفر فوجه قوله: أنه لو أطلق الكلام لكان توكيلا فكذا إذا قيده بالمشيئة لما مر أن التقييد فيه والإطلاق على السواء؛ لأنه إذا طلق طلق عن مشيئة ولا محالة لكونه مختارا في التطليق غير مضطر فيه, "ولنا" وجه الفرق بين المطلق والمقيد وهو أن الأجنبي في المطلق, فيتصرف برأي الغير وتدبيره ومشيئته فكان توكيلا لا تمليكا. "وأما" في المقيد فإنما يتصرف عن رأي نفسه وتدبير نفسه, ومشيئته وهذا معنى المالكية؛ وهو التصرف عن مشيئته وهذا فرق واضح بحمد الله تعالى. وأما قوله: التقييد بالمشيئة وعدمه سواء؛ لأنه متى طلق طلق عن مشيئة, فممنوع أنهما سواء, وأنه متى طلق طلق عن مشيئة؛ فإن المشيئة تذكر ويراد بهما اختيار الفعل وتركه وهو المعنى الذي ينفي الغلبة والاضطرار وهو المعني بقولنا: المعاصي بمشيئة الله تعالى, فإن الله تعالى يتولى تخليق أفعال العباد والله تعالى غير مغلوب ولا مضطر في فعله وهو التخليق, بل هو مختار, وتذكر ويراد بها اختيار الإيثار يقال: إن شئت فعلت كذا وإن شئت لم أفعل أي: إن شئت آثرت الفعل وإن شئت آثرت الترك على الفعل وهو المعني من قولنا: المكره ليس بمختار, والمراد من المشيئة المذكورة ههنا هو اختيار الإيثار لا اختيار الفعل وتركه؛ لأنا لو حملناه عليه للغا كلامه, ولو حملناه على اختيار الإيثار لم يلغ, وصيانة كلام العاقل عن اللغو واجب عند الإمكان, واختيار الإيثار في التمليك لا في التوكيل لما ذكرنا أن الوكيل يعمل عن رأي الموكل وتدبيره, وإنما يستعير منه العبارة فقط فكان الإيثار من الموكل لا من الوكيل. "وأما" المملك فإنما يعمل برأي نفسه وتدبيره وإيثاره لا بالمملك فكان التقييد بالمشيئة مفيدا, والأصل أن التوكيل لغة هو الإنابة, والتفويض هو التسليم بالكلية لذلك سمى مشايخنا الأول توكيلا والثاني تفويضا, وإذا ثبت أن المقيد بالمشيئة تمليك والمطلق توكيل والتمليك يقتصر على المجلس لما ذكرنا أن المملك إنما يملك بشرط الجواب في المجلس لأنه إنما يملك بالخطاب؛ وكل مخلوق خاطب غيره يطلب جواب خطابه في المجلس فلا يملك نهيه عنه لما مر, ثم التوكيل لا يقتصر على المجلس؛ لأن الوكيل لا يمكنه القيام بما وكل بتحصيله في المجلس ظاهرا وغالبا؛ لأن التوكيل في الغالب يكون بشيء لا يحضره الموكل ويفعل في حال غيبته؛ لأنه إذا كان حاضرا يستغني بعبارة نفسه عن استعارة عبارة غيره فلو تقيد التوكيل بالمجلس لخلا عن العاقبة الحميدة فيكون سفها ويملك نهيه عنه؛ لأنه وكيله فيملك عزله, ولو أراد بقوله طلقي نفسك ثلاثا فقد صار الثلاث بيدها؛ لأن معنى قوله: إياها طلقي نفسك أي: حصلي طلاقا, والمصدر يحتمل الخصوص والعموم؛ لأنه اسم جنس فإذا نوى به الثلاث فقد نوى ما يحتمله كلامه فصحت نيته, ولو أراد به الثنتين لا يصح لأن لفظ المصدر لفظ وحدان والاثنان عدد لا توحد فيه أصلا على ما بينا فيما تقدم. وإن لم يكن له نية تنصرف إلى الواحد؛ لأنه متيقن به ولأن الأمر المطلق بالفعل في الشاهد يصرف إلى ما هو المقصود من ذلك الفعل في المتعارف ألا ترى أن من قال لغلامه: اسق هذه الأرض وكانت الأرض لا تصلح للزراعة إلا بثلاث مرات صار مأمورا به, وإن كانت تصلح بالسقي مرة واحدة صار مأمورا به, ومن قال لغلامه: اضرب هذا الذي استخف بي ينصرف إلى ضرب يقع به التأديب عادة ويحصل به المقصود وهو الانزجار ومن أصابت ثوبه نجاسة فقال لجاريته: اغسليه لا تصير مؤتمرة إلا بغسل محصل للمقصود وهو طهارة الثوب دل أن الأمر المطلق في الشاهد ينصرف إلى ما هو المقصود من الفعل في المتعارف والعرف, والمقصود في قوله لامرأته طلقي نفسك مختلف؛ فقد يقصد به الطلاق المبطل للملك وقد يقصد به الطلاق المبطل لحل المحلية سدا لباب التدارك, فأي ذلك نوى انصرف إليه ثم إذا صحت نية الثلاث فإن طلقت نفسها ثلاثا أو اثنتين أو واحدة وقع؛ لأن الزوج ملكها الثلاث ومالك الثلاث له أن يوقع الثلاث أو الاثنتين أو الواحدة كالزوج سواء, بخلاف ما إذا قال لها أنت طالق إن شئت أو أردت أو رضيت أو إذا شئت أو متى شئت أو متى ما شئت أو أين شئت أو حيث شئت ونحو ذلك ونوى الثلاث أنه لا يصح لما مر أن قوله: أنت طالق صفة للمرأة وإنما يثبت الطلاق اقتضاء ضرورة صحة التسمية بكونها طالقا ولا ضرورة في قبول نية الثلاث فلا

 

ج / 3 ص -124-       يثبت في حقه, ولو قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة فهي واحدة في قولهم جميعا؛ لأن الزوج ملكها الثلاث ومالك الثلاث إذا أوقع واحدة تقع كالزوج, وهذا لأنه لما ملكها الثلاث فقد ملكها الواحدة؛ لأنها بعض الثلاث, وبعض المملوك يكون مملوكا, ولو قال: لها طلقي نفسك واحدة فطلقت نفسها ثلاثا لم يقع شيء في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يقع واحدة. وجه قولهما: أنها أتت بما فوض الزوج إليها وزادت على القدر المفوض فيقع القدر المفوض وتلغو الزيادة كما لو قال لها: طلقي نفسك واحدة فقالت: طلقت نفسي واحدة واحدة واحدة أنه يقع واحدة وتلغو الزيادة كذا هذا كذا لو قال لها: طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي تقع واحدة رجعية وتلغو صفة البينونة لما قلنا كذا هذا, ولأبي حنيفة وجوه من الفقه: أحدها أنه لو وقعت الواحدة إما أن تقع بطريق الأصالة مقصودا أو ضمنا أو ضرورة وقوع الثلاث لا سبيل إلى الأول؛ لأنه لم يوجد إيقاع الواحدة بطريق الأصالة لانعدام لفظ الواحدة ووجود لفظ آخر وكذا لم يوجد وقت وقوع الواحدة بطريق الأصالة؛ لأن ذلك عند قولها نفسي وسكوتها عليه, ووقت وقوعها مع الثلاث عند قولها ثلاثا, ولا وجه للثاني؛ لأنها لم تملك الثلاث إذ الزوج لم يملكها الثلاث فلا تملك إيقاع الثلاث فلا يقع الثلاث فلا تقع الواحدة ضمنا لوقوع الثلاث فتعذر القول بالوقوع أصلا بخلاف ما إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة لأن هناك ملكها الثلاث فملكت إيقاع الثلاث, ومالك إيقاع الثلاث يملك إيقاع الواحدة؛ لأن بعض المملوك مملوك وههنا بخلافه لما بينا, وبخلاف ما إذا قال لها: طلقي واحدة فقالت: طلقت نفسي واحدة واحدة واحدة؛ لأن ثم أوقعت الواحدة بطريق الأصالة لوجود لفظ الواحدة وقت وقوعها بطريق الأصالة فوقعت واحدة بطريق الأصالة ثم اشتغلت بغيرها وهو غير مملوك لها فلغا وبخلاف ما إذا قال لها: طلقي نفسك فقالت: قد أبنت نفسي؛ لأن هناك أوقعت ما فوض إليها بطريق الأصالة؛ لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق لغة على ما نذكر إلا أنها زادت على القدر المفوض صفة البينونة فلغت وبقي أصل الطلاق. والثاني إن المرأة بقولها: طلقت نفسي ثلاثا أعرضت عما فوض الزوج إليها فيبطل التفويض ويخرج الأمر من يدها كما إذا اشتغلت بأمر آخر أو قامت عن مجلسها, ودلالة أنها أعرضت عما فوض إليها أنه فوض إليها الواحدة وهي أتت بالثلاث؛ والواحدة من الثلاث إن لم تكن غير الثلاث ولأن الثلاث غير الواحدة ذاتا؛ لأن الواحدة منها والشيء لا يكون غير نفسه لكنها غير الواحدة لفظا وحكما ووقتا. "أما" اللفظ فإن لفظ الواحدة غير لفظ الثلاث. وكذا حكمها غير حكم الثلاث. وأما الوقت فإن وقت وقوع الواحدة غير وقت وقوع الثلاث؛ لأن الواحدة تقع عند قولها طلقت نفسي والثلاث تقع عند قولها ثلاثا لما ذكرنا فيما تقدم أن العدد وهو الواقع على معنى أنه متى اقترن بذكر الطلاق ذكر عدد لا يقع الطلاق قبل ذكر العدد, ويقف أول الكلام على آخره فصارت المرأة باشتغالها بذكر الثلاث لفظا معرضة عن الواحدة لفظا وحكما ووقت وقوع الطلاق لصيرورتها مشتغلة بغير ما ملكت تاركة للمملوك, والاشتغال بغير المملوك دليل الإعراض عما ملكت؛ والإعراض عن ما ملكت يوجب بطلان التمليك وخروج الأمر عن يدها بخلاف ما إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثا فطلقت نفسها واحدة؛ لأن هناك ما أعرضت عما فوض إليها; لأنه فوض إليها الثلاث وتفويض الثلاث تفويض الواحدة؛ لأن التفويض تمليك, وتمليك الثلاث تمليك الواحدة; لأنها من أجزاء الثلاث وجزء المملوك مملوك فلم تصر باشتغالها بالواحدة مشتغلة بغير ما ملكت ولا تاركة للمملوك. فأما تمليك الجزء فلا يكون تمليك الكل فافترقا. والثالث أن الزوج لم يملكها إلا الواحدة المنفردة, وما أتت بالواحدة المنفردة فلم تأت بما ملكها الزوج فلا يقع شيء كما لو قال لها: طلقي نفسك فأعتقت عبده, ولا شك أن الزوج لم يملكها إلا الواحدة المنفردة لأنه نص على التوحد, والتوحد ينبئ عن التفرد في اللغة فكان المفوض إليها طلقة واحدة منفردة عن غيرها؛ وهي وإن أتت بالواحدة بإتيانها بالثلاث فما أتت بالواحدة المنفردة لأنها أتت بثلاث مجتمعة والثلاث المجتمعة لا يوجد فيها واحدة منفردة لما فيه من الاستحالة لتضاد بين الاجتماع والافتراق فلم تأت بما فوض إليها فلا يقع شيء بخلاف ما إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثا

 

ج / 3 ص -125-       فطلقت نفسها واحدة؛ لأن هناك أتت بما فوض إليها لكنها زادت على القدر المفوض لأنه فوض إليها الثلاث مطلقا عن صفة الاجتماع والافتراق. ألا ترى أنها لو طلقت نفسها ثلاثا متفرقة وقعت كما لو طلقت نفسها ثلاثا مجتمعة, ولو كان المفوض إليها الثلاث المجتمعة لما ملكت إيقاع الثلاث المتفرقة, فإذا صارت الثلاث مطلقا مملوكة لها, مجتمعة كانت أو منفردة صارت كل واحدة من الطلقات الثلاث مملوكة لها منفردة كانت أو مجتمعة, فإذا طلقت نفسها واحدة فقد أتت بالمملوك ضرورة, وهو الجواب عما إذا قال لها: طلقي نفسك واحدة فقالت: طلقت نفسي واحدة واحدة واحدة أنه يقع واحدة؛ لأنها أتت بالمفوض وزيادة فيقع القدر المفوض وتلغو الزيادة, وههنا ما أتت بالمفوض إليها أصلا ورأسا فهو الفرق. ولا يلزم ما إذا قال لها: طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي؛ لأن هناك أيضا أتت بالمفوض إليها وزيادة؛ لأن الزوج فوض إليها أصل الطلاق وهي أتت بالأصل والوصف؛ لأن الإبانة من ألفاظ الطلاق على ما نذكر فلغا الوصف وهو وصف البينونة وبقي الأصل وهو صريح الطلاق فتقع واحدة رجعية. وذكر القدوري عن أبي يوسف في هذه المسألة أن قياس قول أبي حنيفة أن لا يقع شيء وعلى هذا الخلاف الذي ذكرنا ما إذا قال لها طلقي نفسك واحدة إن شئت فطلقت نفسها ثلاثا. ولو قال لها طلقي نفسك ثلاثا إن شئت فطلقت نفسها واحدة أو ثنتين لا يقع شيء في قولهم جميعا؛ لأنه ملكها الثلاث بشرط مشيئتها الثلاث فإذا شاءت ما دون الثلاث لم تملك الثلاث لوجود بعض شرط الملك والحكم المعلق بشرط لا يثبت عند وجود بعض الشرط, ولو قال لها: طلقي نفسك من ثلاث ما شئت فلها أن تطلق نفسها واحدة وثنتين, وليس لها أن تطلق نفسها ثلاثا في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: تطلق نفسها ثلاثا إن شاءت. وجه قولهما أن كلمة من في مثل هذا الموضع تذكر لبيان الجنس فإن من قال لغيره: كل من هذا الرغيف ما شئت كان له أن يأكل كل الرغيف ولأبي حنيفة أن كلمة ما كلمة عامة, وكلمة من للتبعيض حقيقة فلا بد من اعتبار المعنيين جميعا وذلك في أن يصير المفوض إليها من الثلاث بعضا له عموم وذلك اثنان؛ فتملك ما فوض إليها وهو الثنتان. وفي مسألة الرغيف صرفت كلمة من عن حقيقتها إلى الجنس بدلالة الحال وهو أن الأصل في الطعام هو السماح دون الشح خصوصا في حق من قدم إليه, ولو قال لها: طلقي نفسك إن شئت فقالت شئت لا يقع الطلاق, ولو قال لها: أنت طالق إن شئت يقع؛ لأن في الفصل الأول أمرها بالتطليق فما لم تطلق لا يقع الطلاق ومشيئة التطليق لا تكون تطليقا, وفي الفصل الثاني علق طلاقها بمشيئتها وقد شاءت, ولو قال لها: طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي طلقت واحدة تملك الرجعة, وإن قالت: قد اخترت نفسي لم تطلق. ووجه الفرق: أن قولها أبنت من ألفاظ الطلاق؛ لأن الإبانة قطع الوصلة لغة, والطلاق رفع القيد لغة إلا أن عمل صريح الطلاق يتأخر شرعا في المدخول بها إلى ما بعد انقضاء العدة, فكان بين اللفظين موافقة من حيث الأصل فإذا قالت: أبنت نفسي فقد أتت بالأصل وزادت صفة البينونة فتلغو الصفة ويبقى الأصل بخلاف قولها اخترت؛ لأن الاختيار ليس من ألفاظ الطلاق لغة بدليل أنه لو قال لامرأته اخترتك أو قال: اخترت نفسي لا يقع الطلاق. وكذا إذا قالت المرأة: طلقت نفسي أو أبنت نفسي وقف على إجازة الزوج, ولو قالت: اخترت نفسي لا يقف على إجازته, بل يبطل إلا أنه جعل من ألفاظ الطلاق شرعا بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم عند خروجه جوابا للتخيير وما في معناه, وهو الأمر باليد فلا يكون جوابا في غيره فيلغو, وحكى القدوري قول أبي يوسف فقال: قال أبو يوسف: إذا قال لها: طلقي نفسك فقالت: أبنت نفسي لا يقع شيء على قياس قول أبي حنيفة, ووقع عندهما تطليقة رجعية كأنها قالت: أبنت نفسي بتطليقة ولم يذكر خلاف أبي حنيفة في الجامع الصغير. ووجه الفرق بين هذه المسألة وبين قوله طلقي نفسك واحدة على نحو ما بينا `, ولو قال لها طلقي نفسك تطليقة رجعية فطلقت نفسها بائنا أو قال لها: طلقي نفسك تطليقة بائنة فطلقت رجعية يقع ما أمر به الزوج لا ما أتت به؛ لأنها إنما تملك تطليق نفسها بتمليك الزوج لها؛ فتملك ما ملكها الزوج وما أتت به موافق لما ملكها الزوج من حيث الأصل؛ لأن كل واحد منهما

 

ج / 3 ص -126-       من ألفاظ الطلاق, وإنما خالفه من حيث الوصف فإذا وقع الأصل استتبع الوصف المملك فيقع ما فوض إليها والله الموفق للصواب.

                                                               "فصل":
وأما الرسالة فهي أن يبعث الزوج طلاق امرأته الغائبة على يد إنسان فيذهب الرسول إليها ويبلغها الرسالة على وجهها فيقع عليها الطلاق؛ لأن الرسول ينقل كلام المرسل فكان كلامه ككلامه والله الموفق. عدم الشك من الزوج في الطلاق وهو شرط الحكم بوقوع الطلاق حتى لو شك فيه, لا يحكم بوقوعه حتى لا يجب عليه أن يعتزل امرأته؛ لأن النكاح كان ثابتا بيقين ووقع الشك في زواله بالطلاق فلا يحكم بزواله بالشك كحياة المفقود, أنها لما كانت ثابتة ووقع الشك في زوالها لا يحكم بزوالها بالشك حتى لا يورث ماله ولا يرث هو أيضا من أقاربه. والأصل في نفي اتباع الشك قوله تعالى: {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ}, وقوله عليه الصلاة والسلام لما سئل عن الرجل يخيل إليه أنه يجد الشيء في الصلاة "لا ينصرف حتى يسمع صوتا أو يجد ريحا" اعتبر اليقين وألغى الشك ثم شك الزوج لا يخلو: إما أن وقع في أصل التطليق أطلقها أم لا؟ "وأما" أن وقع في عدد الطلاق وقدره؛ أنه طلقها واحدة أو اثنتين أو ثلاثا, أو صفة الطلاق أنه طلقها رجعية أو بائنة فإن وقع في أصل الطلاق لا يحكم بوقوعه لما قلنا, وإن وقع في القدر يحكم بالأقل؛ لأنه متيقن به وفي الزيادة شك, وإن وقع في وصفه يحكم بالرجعية؛ لأنها أضعف الطلاقين فكانت متيقنا بها.

                                                                "فصل"
وأما الذي يرجع إلى المرأة فمنها الملك أو علقة من علائقه; فلا يصح الطلاق إلا في الملك أو في علقة من علائق الملك وهي عدة الطلاق أو مضافا إلى الملك. وجملة الكلام فيه أن الطلاق لا يخلو: إما أن يكون تنجيزا, "وأما" أن يكون تعليقا بشرط, "وأما" أن يكون إضافة إلى وقت أما التنجيز في غير الملك والعدة فباطل؛ بأن قال لامرأة أجنبية: أنت طالق أو طلقتك؛ لأنه إبطال الحل ورفع القيد ولا حل ولا قيد في الأجنبية, فلا يتصور إبطاله ورفعه وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا طلاق قبل النكاح". وإن كانت منكوحة الغير وقف على إجازته عندنا خلافا للشافعي, والمسألة تأتي في كتاب البيوع وأما التعليق بشرط فنوعان: تعليق في الملك, وتعليق بالملك. والتعليق في الملك نوعان: حقيقي, وحكمي أما الحقيقي: فنحو أن يقول لامرأته: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق أو إن كلمت فلانا أو إن قدم فلان ونحو ذلك وإنه صحيح بلا خلاف؛ لأن الملك موجود في الحال, فالظاهر بقاؤه إلى وقت وجود الشرط, فكان الجزاء غالب الوجود عند وجود الشرط فيحصل ما هو المقصود من اليمين وهو التقوي على الامتناع من تحصيل الشرط فصحت اليمين, ثم إذا وجد الشرط, والمرأة في ملكه أو في العدة يقع الطلاق وإلا فلا يقع الطلاق, ولكن تنحل اليمين لا إلى جزاء حتى إنه لو قال لامرأته: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق فدخلت الدار وهي في ملكه طلقت. وكذا إذا أبانها قبل دخول الدار فدخلت الدار وهي في العدة عندنا؛ لأن المبانة يلحقها صريح الطلاق عندنا, وإن أبانها قبل دخول الدار وانقضت عدتها ثم دخلت الدار لا يقع الطلاق لعدم الملك والعدة, ولكن تبطل اليمين حتى لو تزوجها ثانيا ودخلت الدار لا يقع شيء؛ لأن المعلق بالشرط يصير عند الشرط كالمنجز, والتنجيز في غير الملك والعدة باطل. فإن قيل: أليس أن الصحيح إذا قال لامرأته إن دخلت الدار فأنت طالق ثم جن فدخلت الدار أنه يقع طلاقه, ولو نجز في تلك الحالة لا يقع فالجواب من وجهين: أحدهما أن التطليق كلامه السابق عند الشرط فتعتبر الأهلية وقت وجوده وقد وجدت, والثاني أنا إنما اعتبرناه تنجيزا حكما وتقديرا, والمجنون من أهل أن يقع الطلاق على امرأته بطريق الحكم, فإن العنين إذا أجل فمضت المدة وقد جن يفرق القاضي بينهما ويكون ذلك طلاقا فاطرد الكلام بحمد الله تعالى, ولو أبانها قبل دخول الدار ولم تدخل الدار حتى تزوجها ثم دخلت يقع الطلاق؛ لأن اليمين لم تبطل بالإبانة؛ لأنه يتصور عود الملك فما قامت الجزاء على وجه لا يتصور عوده, ولو قال لامرأته: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها واحدة أو ثنتين قبل دخول الدار فتزوجت بزوج آخر ودخل بها ثم عادت إلى الزوج الأول فدخلت طلقت ثلاثا في قول أبي حنيفة وأبي يوسف وعند محمد هي طالق ما بقي من الطلقات الثلاث شيء, وأصل هذه المسألة أن من طلق

 

ج / 3 ص -127-       امرأته واحدة أو اثنتين ثم تزوجت بزوج آخر ودخل بها وعادت إلى الأول أنها تعود بثلاث تطليقات في قولهما, وفي قول محمد تعود بما بقي وهو قول زفر ولقب المسألة: أن الزوج الثاني هل يهدم الطلقة والطلقتين؟ عندهما يهدم وعند محمد لا يهدم. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم روي عن علي وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم مثل مذهب أبي حنيفة وأبي يوسف وروي عن عمر وأبي بن كعب وعمران بن حصين مثل مذهب محمد وزفر واحتجا بقوله سبحانه وتعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} حرم المطلقة الثلاث مطلقا من غير فصل بين ما إذا تخللت إصابة الزوج الثاني الثلاث وبين ما إذا لم يتخللها وهذه مطلقة الثلاث حقيقة؛ لأن هذه طلقة قد سبقها طلقتان حقيقة, والطلقة الثالثة هي الطلقة التي سبقها طلقتان فدخلت تحت النص؛ ولأن الزوج الثاني جعل في الشرع منهيا للحرمة لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} وحتى كلمة غاية, وغاية الحرمة لا تتصور قبل وجود الحرمة, والحرمة لم تثبت قبل الطلقات الثلاث فلم يكن الزوج الثاني منهيا للحرمة فيلحق بالعدم ولأبي حنيفة وأبي يوسف النصوص والمعقول أما النصوص: فالعمومات الواردة في باب النكاح من نحو قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقوله عز وجل: {وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ} وقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن" فهذه النصوص وأمثالها تقتضي جواز النكاح من غير فصل بين أن تكون المرأة مطلقة أو لا وبين أن تكون مطلقة ثلاثا تخللها إصابة الزوج الثاني أو لا إلا أن المطلقة الثلاث التي لم يتخللها إصابة الزوج الثاني خصت عن النصوص فبقي ما وراءها تحتها. "وأما" المعقول فمن وجهين: أحدهما أن النكاح مندوب إليه ومسنون وعقد ومصلحة لتضمنه مصالح الدين والدنيا, فلا يجوز أن يمنع عنه؛ لأنه يؤدي إلى التناقض؛ لأن قطع المصلحة مفسدة, والشريعة منزهة عن التناقض إلا أنه قد خرج من أن يكون مصلحة بمخالفة الأخلاق ومباينة الطباع أو غير ذلك من المعاني ويقع اليأس عن استيفاء المصالح من هذه المرأة فشرع الطلاق لاستيفاء المصالح المطلوبة من النكاح من زوجة أخرى, إلا أن خروج النكاح من أن يكون مصلحة لا يعرف إلا بالتأمل والتجربة, ولهذا فوض الطلاق إلى الزوج لاختصاصه بكمال الرأي والعقل ليتأمل فإذا طلقها ثلاثا على ظن المخالفة, ثم مال قلبه إليها حتى تزوجها بعد إصابة الزوج الثاني الذي هو في غاية النفار في طباع الفحل ونهاية المنع دل أن طريق الموافقة بينهما قائم, وأنه أخطأ في التجربة وقصر في التأمل؛ فبقي النكاح مصلحة لقيام الموافقة بينهما, فلا يجوز القول بحرمته كما في ابتداء النكاح, بل أولى لأن ثمة لم يوجد إلا دليل أصل الموافقة وههنا وجد دليل كمال الموافقة وهو الميل إليها مع وجود ما هو النهاية في النفرة ثم لما حل نكاحها في الابتداء لتحقيق المقاصد فبعد إصابة الزوج الثاني أولى, وهذا المعنى لا يوجب التفرقة بين إصابة الزوج الثاني بعد الطلقات الثلاث وبين ما قبلها, فورود الشرع بجواز النكاح ثمة يكون ورودا ههنا دلالة. والثاني أن الحل بعد إصابة الزوج الثاني وطلاقه إياها وانقضاء عدتها حل جديد. والحل الجديد لا يزول إلا بثلاث طلقات كما في ابتداء النكاح والدليل على أن هذا حل جديد أن الحل الأول قد زال حقيقة؛ لأنه عرض لا يتصور بقاؤه, إلا أنه إذا لم يتخلل بين الحلين حرمة يجعل كالدائم بتجدد أمثاله فيكون كشيء واحد فكان زائلا حقيقة وتقديرا فكان الثاني حلا جديدا, والحل الجديد لا يزول إلا بثلاث تطليقات كما في ابتداء النكاح. وأما في قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فنقول هذه الآية الكريمة تتناول طلقة ثالثة مسبوقة بطلقتين بلا فصل, لأن الفاء للتعقيب بلا فصل وإصابة الزوج الثاني ههنا حاصلة فلا يتناولها, أو تحمل الآية على ما إذا لم يدخل بها الزوج الثاني حتى طلقها وتزوجها الأول وطلقها واحدة توفيقا بين الدلائل. وأما قوله: بأن الشرع جعل إصابة الزوج الثاني غاية للحرمة فنقول كون الإصابة غاية للحرمة يقتضي انتهاء الحرمة عند عدم الإصابة وقد بينا أنه يثبت حل جديد بعد الإصابة, ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا فطلقها ثلاثا قبل الدخول وتزوجت بزوج ودخل بها ثم عادت إلى الأول فدخلت الدار لا يقع عليها شيء عند علمائنا الثلاثة, وعند زفر يقع عليها ثلاث تطليقات وجه قوله أن المعلق طلقات مطلقة لا مقيدة

 

ج / 3 ص -128-       بالحل القائم؛ لأن الحالف أطلق وما قيد, والحل القائم إن بطل بالتنجيز فقد وجد حل آخر؛ فكان التعليق باقيا وقد وجد الملك عند وجود الشرط فينزل المعلق كما إذا قال لامرأته إن دخلت هذه الدار فأنت علي كظهر أمي ثم طلقها ثلاثا قبل الدخول يبقى تعليق الظهار بالدخول حتى لو تزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الزوج الأول فدخلت الدار يصير مظاهرا لما ذكرنا كذا هذا. "ولنا" أن المعلق طلقات الحل القائم للحال, وقد بطل على وجه لا يتصور عوده فلا يتصور الطلاق المبطل للحل القائم عند وجود الشرط فتبقى اليمين كما إذا صار الشرط بحال لا يتصور عوده بأن جعل الدار بستانا أو حماما. والدليل على أن المعلق طلقات هذا الحل أن المعلق طلاق مانع من تحصيل الشرط؛ لأن الغرض من مثل هذه اليمين التقوي على الامتناع من تحصيل الشرط, والمنع لا يحصل إلا بكونه غالب الوجود عند وجود الشرط. وذلك هو الحل القائم للحال; لأنه موجود للحال, فالظاهر بقاؤه فيصلح مانعا, والذي يحدث بعد إصابة الزوج الثاني عدم للحال, فالظاهر بقاؤه على العدم فكان غالب العدم عند وجود الشرط فلا يصلح إطلاقه مانعا فلا يكون معلقا بالشرط ما لا يكون معلقا به. وأما قوله: الحالف أطلق فنعم لكنه أراد به المقيد عرفنا ذلك بدلالة الغرض المطلوب من التصرف وهو التقوي على الامتناع. وذلك لا يحصل إلا بتطليقات هذا الحل فيتقيد بها. وأما مسألة الظهار ففيها اختلاف الرواية روى أبو طاهر الدباس عن أصحابنا أنه يبطل بتنجيز الثلاث فلا يصير مظاهرا عند دخول الدار, ثم ما ذكرنا من اعتبار الملك أو العدة لوقوع الطلاق في الملك بشرط واحد. فإن كان بشرطين هل يشترط قيام الملك أو العدة عند وجود الشرطين جميعا؟ قال أصحابنا الثلاثة: لا يشترط بل الشرط قيام الملك أو العدة عند وجود الشرط الأخير. وقال زفر: يشترط قيام الملك عند وجود الشرطين. وصورة المسألة إذا قال لامرأته: إن كلمت زيدا وعمرا فأنت طالق فطلقها وانقضت عدتها فكلمت زيدا ثم تزوجها فكلمت عمرا طلقت عندنا وعند زفر لا تطلق, وإن كان الكلام الأول في الملك والثاني في غير الملك بأن كلمت زيدا وهي في ملكه ثم طلقها وانقضت عدتها ثم كلمت عمرا لا يقع الطلاق. وجه قول زفر أن الحالف جعل كلام زيد وعمرو جميعا شرطا لوقوع الطلاق, ووجود جميع الشرط شرط لنزول الجزاء, ووقت نزول الجزاء هو وقت وجود الشرط ألا ترى أنها إذا كلمت أحدهما دون الآخر لا يقع الطلاق؟ فكذا إذا كلمت أحدهما في غير الملك فذلك ملحق بالعدم كما إذا وجد الشرطان جميعا في غير الملك. "ولنا" أن الملك عند وجود الشرط فيشترط لنزول الجزاء ووقت نزول الجزاء وهو وقت وجود الشرط الأخير فيشترط قيام الملك عنده لا غير, وهذا؛ لأن الملك إنما يشترط إما لصحة التعليق أو لثبوت الحكم وهو نزول المعلق والملك القائم في الوقتين جميعا. فأما وقت وجود الشرط الأول فليس وقت التعليق ولا وقت نزول الجزاء فلا معنى لاشتراط الملك عنده. ونظير هذا الاختلاف في كتاب الزكاة: كمال النصاب في طرفي الحول ونقصانه في أثناء الحول لا يمنع الوجوب عندنا وعنده يشترط الكمال من أول الحول إلى آخره, ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت طالق إن كلمت فلانا يشترط قيام الملك عند وجود الشرط الأول وهو الدخول؛ لأنه جعل الدخول شرط انعقاد اليمين كأنه قال لها عند الدخول: إن كلمت فلانا فأنت طالق, واليمين لا تنعقد إلا في الملك أو مضافة إلى الملك فإن كانت في ملكه عند دخوله الدار صحت اليمين المتعلقة بالشرط وهو الكلام, فإذا كلمت يقع الطلاق وإن لم تكن في ملكه عند الدخول بأن طلقها وانقضت عدتها ثم دخلت الدار لم يصح التعليق لعدم الملك والعدة, فلا يقع الطلاق وإن كلمت. وإن كان طلقها بعد الدخول بها قبل دخول الدار ثم دخلت الدار وهي في العدة ثم كلمت فلانا وهي في العدة طلقت؛ لأن المعتدة يلحقها صريح الطلاق تنجيزا فيصح تعليق طلاقها أيضا في حال قيام العدة كالزوجة. وإذا صح التعليق ووجد شرطه في الملك أو في العدة ينزل المعلق, ولو قال لامرأته: أنت طالق إن شئت فهذا وقوله: أنت طالق إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا سواء؛ من حيث إنه يقف وقوع الطلاق على مشيئتها كما يقف على دخولها وكلامها إلا أن ذلك تعليق بالشرط, وهذا تمليك كقوله: أمرك بيدك واختاري ولهذا اقتصر على المجلس, ولو حلف لا يحلف لا يحنث؛ لأن الحلف بما سوى

 

ج / 3 ص -129-       الله عز وجل شرط وجزاء ومشيئتها ليست بشرط؛ لأن شرط الطلاق ما جعل علمنا على الطلاق, وهو ما يكون دليلا على الطلاق من غير أن يكون وجود الطلاق به؛ لأن ذلك يكون علة لا شرطا, ومشيئتها يتعلق بها وجود الطلاق, بل هي تطليق منها, وكذلك مشيئته بأن قال لها: أنت طالق إن شئت أنا. ألا ترى إذا قال لامرأته: شئت طلاقك طلقت, كما إذا قال طلقت فإن قيل: أليس أنه إذا قال لامرأته: أنت طالق إن طلقتك كان تعليقا للطلاق بشرط التطليق حتى لو طلقها يقع المنجز ثم ينزل المعلق, والتعليق مما يحصل به الطلاق ومع هذا يصلح شرطا فالجواب: أن التنجيز يحصل به الطلاق المنجز لا الطلاق المعلق بل الطلاق المعلق يحصل بغيره, فكان التنجيز في حق الطلاق المعلق علما محضا فكان شرطا, وكذلك إذا قال لها: أنت طالق إن هويت أو أردت أو أحببت أو رضيت فهو مثل قوله: إن شئت ويتعلق الطلاق بالخبر عن هذه الأشياء إلا بحقائقها, والأصل أنه متى علق الطلاق بشيء لا يوقف عليه إلا من جهتها يتعلق بإخبارها عنه, ومتى علق بشيء يوقف عليه من جهة غيرها لا يقبل قولها إلا ببينة, وعلى هذا مسائل إذا قال لها: إن كنت تحبيني أو تبغضيني فأنت طالق فقالت: أحب أو أبغض يقع الطلاق استحسانا والقياس أن لا يقع. وجه القياس: أنه علق الطلاق بشرط لا يعلم وجوده فأشبه التعليق بمشيئة الله تعالى. وجه الاستحسان: أنه علقه بأمر لا يوقف عليه إلا من جهتها فيتعلق بإخبارها عنه, كأنه قال لها: إن أخبرتني عن محبتك أو بغضك إياي فأنت طالق, ولو نص على ذلك لتعلق بنفس الإخبار كذا هذا, وعلى هذا إذا قال لها: إن كنت تحبين أن يعذبك الله بالنار أو إن كنت تكرهين الجنة فأنت طالق فقالت: أحب النار أو أكره الجنة, وقع الطلاق لما قلنا, ولو قال: إن كنت تحبيني بقلبك فأنت طالق فقالت: أحبك بقلبي وفي قلبها غير ذلك يقع الطلاق في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: لا يقع. وجه قوله أنه لما قيد المحبة بالقلب فقد علق الطلاق بحقيقة المحبة لا بالمخبر عنها فإذا لم يكن في قلبها محبة لم يوجد الشرط فلا يقع الطلاق, ولهما أن المحبة والكراهة لما كانتا من الأمور الباطنة التي لا يوقف عليها إلا من جهتها تعلق الطلاق بنفس الإخبار عنهما دون الحقيقة وقد وجد, وعلى هذا إذا قال لها إن حضت فأنت طالق فقالت حضت طلقت حين رأت الدم واستمر إلى ثلاثة أيام؛ لأن الحيض لا يوقف عليه إلا من قبلها فيقبل قولها في ذلك, وإذا استمر الدم إلى ثلاثة أيام تبين أن ما رأت كان حيضا من حين وجوده فوقع الطلاق من ذلك الوقت, ولو قال لها: إن حضت حيضة فأنت طالق لا يقع الطلاق ما لم تحض وتطهر؛ لأن الحيضة اسم للكامل؛ ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة" ويقع على الكامل حتى يقدر الاستبراء به, وكمالها بانقضائها من ذلك باتصال جزء من الطهر بها فكان هذا في الحقائق تعليق الطلاق بالطهر. ونظيره إذا قال: إذا صمت يوما فأنت طالق وقع علي صوم كل اليوم وذلك بدخول أول جزء من الليل فكأنه علق الطلاق بدخول الليل وكذا هذا. وكذا إذا قال: إن حضت نصف حيضة فأنت طالق لا تطلق ما لم تحض وتطهر; لأن نصف حيضة حيضة كاملة فكأنه قال: إذا حضت حيضة. وكذا إذا قال: إذا حضت سدس حيضة أو ثلث حيضة لما قلنا, وكذلك إذا قال: إذا حضت نصف حيضة فأنت طالق, وإذا حضت نصفها الآخر فأنت طالق؛ لا يقع الطلاق ما لم تحض وتطهر فإذا حاضت وطهرت يقع تطليقتان؛ لأنه علق طلقة بنصف حيضة, ونصف حيضة حيضة كاملة, وعلق طلقة أخرى بنصف تلك الحيضة بعينها وهي حيضة كاملة فكان هذا تعليق طلاقين بحيضة واحدة كاملة؛ وكمالها بانقضائها واتصال الطهر بها وإذا اتصل بها الطهر طلقت تطليقتين. ولو قال لها: أنت طالق في حيضك أو مع حيضك, فحين ما رأت الدم تطلق بشرط أن يستمر بها الدم إلى ثلاثة أيام؛ لأن كلمة في للظرف, والحيض لا يصلح ظرفا للطلاق فيجعل شرطا فصار كأنه قال: أنت طالق إذا حضت, وكلمة مع للمقارنة فيقتضي كون الطلاق مقارنا لحيضها فإذا رأت الدم ثلاثة أيام تبين أن المرئي كان حيضا من حين وجوده فيقع الطلاق من ذلك الوقت, ولو قال لها: أنت طالق في حيضك أو مع حيضتك فما لم تحض وتطهر لا تطلق؛ لأن الحيضة اسم للكامل وذلك باتصال الطهر, ولو كانت حائضا في هذه الفصول كلها لا يقع ما لم تطهر من

 

ج / 3 ص -130-       هذه الحيضة وتحيض مرة أخرى لأنه جعل الحيض شرطا لوقوع الطلاق, والشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود وهو الحيض الذي يستقبل لا الموجود في الحال فكان هذا تعليق الطلاق بحيض مبتدأ, ولو قال لها: إذا حضت فأنت طالق وفلانة معك فقالت: حضت؛ إن صدقها الزوج يقع الطلاق عليهما جميعا, وإن كذبها يقع الطلاق عليها ولا يقع على صاحبتها؛ لأنها أمينة في حق نفسها لا في حق غيرها فثبت حيضها في حقها لا في حق صاحبتها, ويجوز أن يكون الكلام الواحد مقبولا في حق شخص غير مقبول في حق شخص آخر, كما يجوز أن يكون مقبولا وغير مقبول في حق حكمين مختلفين كشهادة النساء مع الرجال إذا قامت على السرقة أنها تقبل في حق المال ولا تقبل في حق القطع. وإذا قال إذا حضت فامرأتي الأخرى طالق وعبدي حر فقالت: قد حضت يقع الطلاق والعتاق إذا صدقها الزوج, وإن كذبها لا يقع لما ذكرنا أن إقرارها على غيرها غير مقبول لأنه بمنزلة الشهادة على الغير. ولو قال: إذا ولدت فأنت طالق فقالت ولدت لا يقع الطلاق ما لم يصدقها الزوج أو يشهد على الولادة رجلان أو رجل وامرأتان في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: يقع الطلاق إذا شهدت القابلة على الولادة وجه قولهما أن ولادتها قد ثبتت بشهادة القابلة لكون النكاح قائما, والولادة تثبت بشهادة القابلة حال قيام النكاح في تعيين الولد وفيما هو من لوازمه وهو النسب لمكان الضرورة, والطلاق ليس من لوازم الولادة فلا تثبت الولادة في حق الطلاق بهذه الشهادة. ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق أو إن كلمت فلانا فأنت طالق فقالت: دخلت أو كلمت, لا يقع الطلاق ما لم يصدقها الزوج أو يشهد على ذلك رجلان أو رجل وامرأتان بالإجماع؛ لأن قولها دخلت أو كلمت إقرار على الغير وهو الزوج بإبطال حقه فكان شهادة على الغير فلا تقبل.
ولو قال لامرأتين: إذا حضتما حيضة فأنتما طالقان أو قال إذا حضتما فأنتما طالقان الأصل في جنس هذه المسائل أن الزوج متى أضاف الشيء الواحد إلى امرأتين وجعل وجوده شرطا لوقوع الطلاق عليهما ينظر إن كان يستحيل وجود ذلك الشيء منهما كان شرطا لوقوع الطلاق عليهما وجوده من أحدهما, وإن كان لا يستحيل وجوده منهما جميعا كان وجوده منهما شرطا لوقوع الطلاق عليهما؛ لأن كلام العاقل يجب تصحيحه ما أمكن, إن أمكن تصحيحه بطريق الحقيقة يصحح بطريق الحقيقة, وإن لم يمكن تصحيحه بطريق الحقيقة يصحح بطريق المجاز, إذا عرف هذا فنقول إذا قال لامرأتين له: إذا حضتما حيضة فأنتما طالقان أو إذا ولدتما ولدا فأنتما طالقان فحاضت إحداهما أو ولدت إحداهما يقع الطلاق عليهما؛ لأن حيضة واحدة وولادة واحدة من امرأتين محال فلم ينصرف إليه كلام العاقل فينصرف إلى وجود ذلك من أحدهما؛ لأن إضافة الفعل إلى اثنين على إرادة وجوده من أحدهما متعارف بين أهل اللسان قال الله تعالى في قصة موسى وصاحبه:
{نَسِيَا حُوتَهُمَا} وإنما نسيه صاحبه وهو فتاه. وقال تعالى: {يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ} وإنما يخرج من أحدهما وهو البحر المالح دون العذب. وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وعمه: "إذا سافرتما فأذنا وأقيما" ومعلوم أن الأمر بالتأذين والإقامة كان لأحدهما فكان هذا تعليق طلاقهما بحيضة إحداهما وبولادة إحداهما, ولو قالت إحداهما: حضت إن صدقها الزوج طلقتا جميعا؛ لأن حيضتها في حقها ثبت بإخبارها وفي حق صاحبتها ثبت بتصديق الزوج, وإن كذبها طلقت هي ولا تطلق صاحبتها؛ لأن حيضها ثبت في حقها ولم يثبت في حق صاحبتها, ولو قالت كل واحدة منهما: قد حضت طلقتا جميعا, سواء صدقهما الزوج أو كذبهما أما إذا صدقهما فالأمر ظاهر لا يثبت حيضة كل واحدة منهما في حق صاحبتها. وأما إذا كذبهما فكذلك؛ لأن التكذيب يمنع ثبوت حيضة كل واحدة منهما في حق صاحبتها لا في حق نفسها. وثبوت حيضتها في حق نفسها يكفي لوقوع الطلاق عليها كما إذا قال لها: إذا حضت فأنت طالق وهذه معك فقالت: حضت, وكذبها الزوج. ولو قال: إذا حضتما فأنتما طالقان, وإذا ولدتما فأنتما طالقان لا تطلقان ما لم يوجد الحيض والولادة منها جميعا؛ لأنه أضاف الحيض أو الولادة إليهما ويتصور من كل واحدة منهما الحيض والولادة, فيعلق الطلاق بوجود الحيض أو الولادة منها جميعا عملا بالحقيقة عند الإمكان, ولو قالت كل

 

ج / 3 ص -131-       واحدة منهما: قد حضت, إن صدقهما الزوج طلقتا؛ لأنه علق طلاقهما بوجود الحيض منهما جميعا وقد ثبت ذلك بقولهما مع تصديق الزوج, وإن كذبهما لا تطلق واحدة منهما; لأن قول كل واحدة منهما مقبول في حق نفسها لا في حق صاحبتها, فيثبت في حق كل واحدة منهما حيضها لا حيض صاحبتها, وحيض كل واحدة منهما بانفراده شطر الشرط, وطلاق كل واحدة منهما متعلق بوجود حيضهما جميعا, والمعلق بشرط لا ينزل بوجود بعض الشرط وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى تطلق المكذبة ولا تطلق المصدقة؛ لأن حيض المكذبة ثبت في حقها بإخبارها, وحيض المصدقة ثبت في حق المكذبة أيضا بتصديق الزوج فثبت الحيضتان جميعا في حق المكذبة فوجد كل الشرط في حقها فيقع الطلاق عليها, ولم يثبت في حق المصدقة إلا حيضها في حق نفسها ولم يثبت في حقها حيض المكذبة لتكذيب الزوج المكذبة في ثبوت حيضها عند المصدقة فكان الموجود في حق المصدقة شطر الشرط فلا يقع الطلاق, وكذلك إذا قال: إذا حضتما حيضتين أو إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان, فهذا وقوله إذا حضتما أو ولدتما سواء فما لم يحيضا جميعا أو يلدا جميعا لا يقع الطلاق عليهما؛ لأن وجود حيضتين منهما وولادة ولدين منهما يكون بهذا الطريق وهو أن تحيض كل واحدة منهما حيضة وتلد كل واحدة منهما ولدا. وكذا إذا قال: إذا دخلتما هذه الدار أو كلمتما فلانا أو لبستما هذا الثوب أو ركبتما هذه الدابة أو أكلتما هذا الطعام أو شربتما هذا الشراب؛ فما لم يوجد منهما جميعا لا يقع الطلاق لأنه يتصور وجوده منهما فيعمل بحقيقة الكلام بخلاف قوله إذا حضتما حيضة أو ولدتما ولدا؛ لأن ذلك محال ثم التعليق في الملك كما يصح بشرط الوجود يصح بشرط العدم؛ لأن الشرط علامة محضة والعدم يصلح علما محضا فيصلح شرطا غير أنه إن وقت ينزل المعلق عند انتهاء ذلك الوقت وإن أطلق لا ينزل إلا في آخر جزء من أجزاء حياته, بيان ذلك: إذا قال لامرأته: إن لم أدخل هذه الدار فأنت طالق, أو قال: إن لم آت البصرة فأنت طالق لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته, لأنه علق الطلاق بعدم الدخول والإتيان مطلقا ولا يتحقق ذلك إلا في ذلك الوقت, وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته: أنت طالق إن لم أطلقك أنه لا يقع الطلاق عليها ما لم يثبته إلى آخر جزء من أجزاء حياته؛ لأنه علق الطلاق بشرط عدم التطليق مطلقا, والعدم المطلق لا يتحقق إلا في ذلك الجزء, ولو قال: أنت طالق إذا لم أطلقك وإذا ما لم أطلقك فإن أراد بإذا إن لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته بالإجماع وإن نوى به متى يقع الطلاق إذا فرغ من هذا الكلام وسكت وإن لم يكن له نية. قال أبو حنيفة هذه بمنزلة قوله إن. وقال أبو يوسف ومحمد هي بمعنى متى "وجه" قولهما: أن إذا للوقت قال الله تعالى: {إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} و: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ} و: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} إلى غير ذلك من الآيات الكريمة فكانت في معنى متى, ولو قال: متى لم أطلقك يقع الطلاق عقيب الفراغ من هذه اللفظة إذا سكت كذا هذا, والدليل أنه إذا قال لها: أنت طالق إذا شئت لا يقتصر على المجلس كما لو قال: متى شئت, ولو قال إن شئت يقتصر على المجلس, ولو كانت للشرط لاقتصرت المشيئة على المجلس كما في قوله إن شئت, ولأبي حنيفة إن هذه الكلمة كما تذكر ويراد بها الوقت, تذكر ويراد بها الشرط كما قال الشاعر:

استغن ما أغناك ربك بالغنى                   وإذا تصبك خصاصة فتجمل

ألا ترى أنه جزم ما بعده, فإن قال أريد بها الوقت يقع الطلاق كما فرغ من هذا الكلام وسكت كما في قوله متى. وإن قال: أريد بها الشرط لا يقع إلا في آخر جزء من أجزاء حياته كما في كلمة إن, فوقع الشك في وقوع الطلاق عند الفراغ منه فلا يقع مع الشك, وإنما لا يقتصر على المجلس؛ لأنه حصلت المشيئة في يدها بقوله: أنت طالق إذا شئت, وأنها تستعمل للوقت وللشرط فإن أريد بها الشرط يبطل بالقيام عن المجلس كما في قوله: إن شئت. وإن أريد بها الوقت لا يبطل كما في قوله: متى شئت؛ فوقع الشك في البطلان بالقيام عن المجلس فلا يبطل مع الشك فاطرد كلام أبي حنيفة في المعنى بحمد الله سبحانه وتعالى. ولو قال لها: إن لم أدخل هذه الدار سنة فأنت طالق, أو إن لم أكلم فلانا سنة فأنت طالق فمضت السنة قبل أن يدخلها أو يكلمه يقع الطلاق, وعلى هذا يخرج الإيلاء بأن قال لامرأته الحرة: والله لا أقربك أربعة أشهر

 

ج / 3 ص -132-       فمضت المدة ولم يقربها أنه يقع طلقة بائنة؛ لأن الإيلاء في الشرع جعل تعليق الطلاق بشرط عدم الفيء إليها في أربعة أشهر, وهو المعني بالتعليق الحكمي؛ لأن الشرع جعل الإيلاء في حق أحد الحكمين وهو البر تعليق الطلاق بشرط البر في المدة كأنه قال لها: إن لم أقربك أربعة أشهر فأنت طالق بائن قال الله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فإذا مضت المدة والمرأة في ملكه أو في العدة يقع وإلا فلا كما في التعليق الحكمي على ما ذكرنا, وله حكم آخر وهو الحنث عند القربان وسنذكره بحكمه في موضعه. وأما التعليق بالملك فنحو أن يقول لأجنبية: إن تزوجتك فأنت طالق, وإنه صحيح عند أصحابنا حتى لو تزوجها وقع الطلاق, وعند الشافعي لا يصح ولا يقع الطلاق, واحتج بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا طلاق قبل النكاح". والمراد منه التعليق؛ لأن التنجيز مما لا يشكل ولأن قوله: أنت طالق في التعليق بالملك تطليق بدليل أن الطلاق عند وجود الشرط يقع به إذا لم يوجد كلام آخر سواه فكان الكلام السابق تطليقا, إلا أنه لم يثبت الحكم للحال للمانع وهو عدم الشرط. والتصرف لا ينعقد تطليقا إلا في الملك ولا ملك ههنا فلا ينعقد "ولنا" أن قوله: أنت طالق ليس تطليقا للحال, بل هو تطليق عند الشرط على معنى أنه علم على الانطلاق عند الشرط فيستدعي قيام الملك عنده لا في الحال, والملك موجود عند وجود الشرط؛ لأن الطلاق يقع بعد وجود الشرط. وأما الحديث فنقول بموجبه: أن "لا طلاق قبل النكاح" وهذا طلاق بغير النكاح; لأن المتصرف جعله طلاقا بعد النكاح على معنى أنه جعله علما على الانطلاق بعد النكاح لا أن يجعل منشئا للطلاق بعد النكاح, أو يبقى الكلام السابق إلى وقت وجود النكاح؛ لأن الثاني محال, والأول خلاف الحقيقة, وإضافة الطلاق إلى الشرع لا إلى الزوج. وقيل في الجواب عن التعليق بالحدوث: إن هذا ليس بطلاق, بل هو يمين وتعليق الطلاق بالشرط وقوله: التنجيز لا يشكل مسلم بعد ورود الحديث. فأما قبله فقد كان مشكلا, فإنه روي: أن في الجاهلية كان الرجل يطلق أجنبية ويعتقد حرمتها فأبطل الحديث ذلك, والجواب: الأول أحق وأدق والله الموفق. وعلى هذا الخلاف إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة طلقت عندنا, ولو تزوج تلك المرأة ثانيا لا تطلق. وكذا هذا في قوله: إن تزوجتك لأنه ليس في لفظه ما يوجب التكرار, ولو قال لأجنبية: كلما تزوجتك فأنت طالق طلقت في كل مرة يتزوجها؛ لأن كلمة كل دخلت على العين وكلمة كلما دخلت على الفعل, ولو تزوجها ثلاث مرات وطلقت في كل مرة, وتزوجت بزوج آخر وعادت إلى الأول فتزوجها طلقت بخلاف ما إذا قال لمنكوحة: كلما دخلت الدار فأنت طالق فدخلت ثلاثة مرات وطلقت في كل مرة ثم تزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الأول فدخلت أنها لا تطلق عندنا خلافا لزفر؛ لأن المعلق هناك طلقات الملك القائم المبطلة للحال القائم, وقد بطل ذلك بالثلاث ولم توجد الإضافة إلى سبب ملك حادث وحل مستأنف فلم يتعلق ما يملك به من الطلقات وههنا قد علق الطلاق بسبب الملك وأنه صحيح عندنا فيصير عند كل تزوج يوجد منه لامرأة قائلا لها: أنت طالق, سواء كانت هذه التي تكرر عليها طلاقها أو غيرها من النساء, وعلى هذا الخلاف الظهار والإيلاء فإن قال لأجنبية: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي أو قال: والله لا أقربك والله أعلم. ولو قال لامرأته: أنت طالق إن كانت السماء فوقنا أو قال: أنت طالق إن كان هذا نهارا أو إن كان هذا ليلا وهما في الليل أو في النهار يقع الطلاق للحال؛ لأن هذا تحقيق وليس بتعليق بشرط؛ إذ الشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود وهذا موجود. ولو قال: إن دخل الجمل في سم الخياط فأنت طالق لا يقع الطلاق؛ لأن غرضه منه تحقيق النفي حيث علقه بأمر محال. وأما الإضافة إلى الوقت فالزوج لا يخلو إما أن أضاف الطلاق إلى الزمان الماضي وأما أن أضافه إلى الزمان المستقبل, فإن أضافه إلى الزمان الماضي ينظر: إن لم تكن المرأة في ملكه في ذلك الوقت لا يقع الطلاق, وإن كانت في ملكه يقع الطلاق للحال وتلغو الإضافة, بيانه ما إذا قال لامرأته: أنت طالق قبل أن أتزوجك لا يقع الطلاق؛ لأن تصحيح كلامه بطريق الإخبار ممكن؛ لأن المخبر به على ما أخبر ولا يمكن تصحيحه بطريق الإنشاء إلا بإبطال الإسناد إلى الماضي فكان التصحيح بطريق الإخبار. ولو قال لها: أنت طالق أمس فإن كان تزوجها اليوم لا يقع لما قلنا وإن كان تزوجها أول من أمس يقع

 

ج / 3 ص -133-       الساعة; لأنه حينئذ تعذر تصحيحه بطريق الإخبار لانعدام المخبر به فيكون كذبا فيصحح بطريق الإنشاء, ثم تعذر تصحيحه إنشاء الإضافة؛ لأن إسناد الطلاق الموجود للحال إلى الزمان الماضي محال فبطلت الإضافة واقتصر الإنشاء على الحال فيقع الطلاق للحال. ولو قال لأجنبية: أنت طالق إذا تزوجتك قبل أن أتزوجك ثم تزوجها وقع الطلاق؛ لأنه أوقع الطلاق بعد التزوج ثم أضاف الواقع إلى ما قبل التزوج فوقع الطلاق ولغت الإضافة, وكذلك إذا قال: أنت طالق قبل أن أتزوجك إذا تزوجتك فتزوجها يقع الطلاق, ويلغو قوله: قبل أن أتزوجك, ولو قدم ذكر التزويج فقال: إذا تزوجتك فأنت طالق قبل أن أتزوجك أو قبل ذلك ثم تزوجها يقع الطلاق عند أبي يوسف, وعند محمد لا يقع. وجه قول محمد أن المعلق بالشرط يصير كالمنجز عند وجود الشرط فيصير قائلا عند التزويج أنت طالق قبل أن أتزوجك, ولو نص على ذلك لا يقع كذا هذا. وجه قول أبي يوسف أنه أوقع الطلاق بعد التزوج ثم أضاف الواقع إلى زمان ما قبل التزوج فتلغو الإضافة ويبقى الواقع علي حاله والله عز وجل أعلم. ولو أضاف الزوج الطلاق إلى ما يستقبل من الزمان فإن أضافه إلى زمان لا ملك له في ذلك الزمان قطعا لم يصح كما لو قال لها: أنت طالق بعد موتي. وكذا إذا قال لها: أنت طالق مع موتي أو مع موتك؛ لأن معناه بعد موتي أو بعد موتك; لأن الطلاق معلق بوجود الموت فصار الموت شرطا إذ الجزاء يعقب الشرط فكان هذا إيقاع الطلاق بعد الموت ولا ملك بعد الموت فبطل. ولو قال لامرأته وهي أمة: أنت طالق اثنتين مع عتق مولاك فأعتقها مولاها فإن زوجها يملك الرجعة؛ لأنه تعلق طلاقها بعتق مولاها فصار عتق مولاها شرطا لوقوع الطلاق فيقع بعد تمام الشرط؛ وهي حرة في ذلك الوقت. ولو قال لها: إذا جاء غد فأنت حرة فجاء غد طلقت اثنتين ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره في قول أبي حنيفة وأبي يوسف. وقال محمد: هذا والأول سواء يملك الرجعة, ولا خلاف في أن عدتها ثلاث حيض. وجه قول محمد أنه علق الطلاق والعتاق بمجيء الغد فكان حال وقوع الطلاق والعتاق واحدا وهو حال مجيء الغد فيقعان معا, والعتق حال وقوعه يكون واقعا؛ لأن الشيء حال وجوده يكون موجودا, والشيء في حال قيامه يكون قائما وفي حال سواده يكون أسود, فالطلقتان يصادفانها وهي حرة فلا تثبت الحرمة الغليظة, ولهذا كانت عدتها ثلاث حيض؛ ولهذا لم تثبت الحرمة الغليظة. في المسألة الأولى كذا هذا. وجه قولهما: أن الطلاق والعتاق لما علقا بمجيء الغد وقعا معا, ثم العتق يصادفها وهي أمة. وكذا الطلاق فيثبت الحرمة الغليظة بثنتين بخلاف المسألة الأولى, لأن ثمة تعلق الطلاق بالعتق فيقع بعد ثبوت العتق ضرورة على ما بينا بخلاف العدة؛ فإن وجوب العدة يتعقب الطلاق؛ لأن الطلاق يصادفها وهي منكوحة, ولا عدة على المنكوحة فلا يكون وجوبها مقارنا لوقوع الطلاق فكان عقيب الطلاق ضرورة, وهي حرة في تلك الحالة فكانت عدتها عدة الحرائر والله عز وجل أعلم فإن قال لامرأته: أنت طالق غدا أو رأس شهر كذا أو في غد صح لوجود الملك وقت الإضافة, والظاهر بقاؤه إلى الوقت المضاف إليه فصحت الإضافة ثم إذا جاء غد أو رأس الشهر فإن كانت المرأة في ملكه أو في العدة أو في أول جزء من الغد والشهر يقع الطلاق وإلا فلا كما في التعليق, وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته: أنت طالق متى لم أطلقك وسكت أنها طلقت؛ لأن متى للوقت فقد أضاف الطلاق إلى وقت لا يطلقها فيه فكما فرغ من هذه الألفاظ وسكت وجد هذا الوقت فيقع الطلاق. وكذا إذا قال لها: أنت طالق ما لم أطلقك؛ لأن معنى قوله ما لم أطلقك أي: في الوقت الذي لا أطلقك يقال في العرف: ما دمت تفعل كذا افعل كذا أي: في الوقت الذي تفعل. وقال الله تعالى خبرا عن عيسى عليه الصلاة والسلام: {وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً} أي: وقت حياتي فيصير كأنه قال: أنت طالق في الوقت الذي لا أطلقك؛ فكما فرغ وسكت تحقق ذلك الوقت فيقع الطلاق, ولو قال ذلك يطلقها موصولا بأن قال لها: أنت طالق ما لم أطلقك أنت طالق. وذكر العبارتين الأخرتين فهي طالق هذه التطليقة دون التطليقة المضافة إلى زمان لا يطلقها فيه عند أصحابنا الثلاثة. وكذا لو قال لها: أنت طالق ثلاثا, ما لم أطلقك أنت طالق تقع هذه الطلقة لا غير عندنا, وعند زفر يقع ثلاث تطليقات. وجه قوله أنه أضاف الطلاق إلى وقت لا طلاق فيه وكما فرغ من

 

ج / 3 ص -134-       قوله ما لم أطلقك قبل قوله: طالق وجد ذلك الوقت فيقع المضاف, "ولنا" أن المضاف إليه وقت خال عن الطلاق ولما قال أنت طالق موصولا بالكلام الأول فلم يوجد وقت خال عن الطلاق؛ لأن قوله أنت طالق بجملته طلاق؛ لأنه كلام واحد لكونه مبتدأ وخبرا, فلم يوجد بين الكلامين وقت لا طلاق فيه فلا يقع الطلاق المضاف لانعدام المضاف إليه والله عز وجل أعلم, ولو قال: أنت طالق غدا. وقال: عنيت آخر النهار لم يصدق في القضاء بالإجماع, ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى. ولو قال أنت طالق في غد. وقال عنيت في آخر النهار يصدق في القضاء في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ومحمد: لا يصدق في القضاء وإنما يصدق فيما بينه وبين الله تعالى لا غير, وإن لم يكن له نية يقع في أول جزء من الغد بلا خلاف. وجه قولهما أن الغد اسم زمان؛ والزمان إذا قرن بالفعل يصير ظرفا له, سواء قرن به حرف الظرف وهو حرف في أو لم يقرن به, فإن قول القائل كتبت في يوم الجمعة, ويوم الجمعة سواء, فكان ذكر حرف الظرف والسكوت عنه بمنزلة واحدة, ولو لم يذكر, ولو قال: أنت طالق غدا. وقال: عنيت آخر النهار لم يصدق في القضاء؛ ولهذا لو لم يكن له نية يقع في أول جزء من الغد, ولأبي حنيفة أن ما كان من الزمان ظرفا للفعل حقيقة؛ وهو أن يكون كله ظرفا له يذكر بدون حرف الظرف, وما كان منه ظرفا له مجازا وهو أن يكون بعضه ظرفا له والآخر ظرف ظرفه يذكر مع حروف الظرف, فلما قال: أنت طالق غدا بدون حرف الظرف فقد جعل الغد كله ظرفا للطلاق حقيقة, وإنما يكون كله ظرفا للطلاق حقيقة إذا وقع الطلاق في أول جزء منه, فإذا وقع في أول جزء منه يبقى حكما وتقديرا فيكون جميع الغد ظرفا له بعضه حقيقة وبعضه تقديرا أما إذا وقع الطلاق في آخر النهار لا يكون كل الغد ظرفا له, بل يكون ظرف الظرف, فإذا قال: عنيت آخر النهار فقد أراد العدول من الظاهر فيما يتهم فيه بالكذب فلا يصدق في القضاء ويصدق فيما بينه وبين الله تعالى؛ لأنه نوى ما يحتمله كلامه, ولما قال: أنت طالق في غد فلم يجعل الغد كلمة ظرف للطلاق حقيقة, بل جعله ظرف الظرف وبين أن الظرف الحقيقي للطلاق هو جزء من الغد. وذلك غير معين فكان التعيين إليه, فإذا قال: عنيت آخر النهار فقد عين فيصدق في التعيين؛ لأنه نوى حقيقة كلامه, ونظيره ما إذا قال: إن صمت في الدهر فعبدي حر فصام ساعة يحنث, ولو قال: إن صمت الدهر لا يحنث إلا بصوم الأبد بالإجماع لما قلنا كذا هذا إلا أنه إذا لم ينو شيئا يقع الطلاق في أول جزء من الغد؛ لأن الأجزاء قد تعارضت فترجح الأول منها احتياطا لثبوت الاستحقاق له من وجه الاحتمال أنه ذكر حرف الظرف لتأكيد ظرفية الغد لا لبيان أنه ظرف الظرف؛ فترجح الجزء الأول على سائر الأجزاء عند استواء الكل في الجواز بثبوت الاستحقاق من وجه فيقع في الجزء الأول, وقد خرج الجواب عن قولهما: إن دخول حرف الظرف في الغد وعدم الدخول سواء لأنا قد بينا أنهما يستويان والله عز وجل أعلم. ولو قال لامرأته: أنت طالق اليوم وغدا يقع الطلاق في اليوم؛ لأنه جعل الوقتين جميعا ظرفا لكونها طالقا ولن يكون الوقتان جميعا ظرفا إلا عند الوقوع في أولهما؛ لأنه لو تأخر الوقوع إلى الغد لكان الظرف أحدهما, ولو قال: أنت طالق اليوم غدا أو غدا اليوم, يؤخذ بأول الوقتين الذي تفوه به؛ لأنه في الأول أوقع الطلاق في اليوم ووصف اليوم بأنه غد وهو محال فلغا قوله: غدا وبقي قوله: اليوم فيقع الطلاق في اليوم, وفي الثاني أضاف الطلاق إلى الغد ووصف الغد بأنه اليوم وهو محال فلغا قوله: اليوم وبقي قوله: غدا فيقع الطلاق في غد. ولو قال لها: أنت طالق متى شئت أو متى ما شئت أو إذا شئت أو إذا ما شئت أو كلما شئت لا يقع الطلاق ما لم تشأ فإذا شاءت وقع؛ لأنه أضاف الطلاق إلى وقت مشيئتها ووقت مشيئتها هو الزمان الذي توجد فيه مشيئتها فإذا شاءت فقد وجد ذلك الزمان فيقع ولا يقتصر هذا على المجلس بخلاف قوله: إن شئت وما يجري مجراه؛ لأن هذا إضافة وذا تمليك لما نبين في موضعه. وعلى هذا الأصل يخرج الطلاق في العدة الكلام فيه: أن المرأة لا تخلو إما أن كانت معتدة من طلاق رجعي أو بائن أو خلع فإن كانت معتدة من طلاق رجعي يقع الطلاق عليها, سواء كان صريحا أو كناية لقيام الملك من كل وجه لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الملك, ولهذا يصح ظهاره وإيلاؤه ويثبت اللعان بينهما وهذه الأحكام لا تصح إلا في الملك. وإن كانت معتدة من طلاق بائن أو خلع وهي

 

ج / 3 ص -135-       المبانة أو المختلعة فيلحقها صريح الطلاق عند أصحابنا. وقال الشافعي: لا يلحقها. وجه قوله: أن الطلاق تصرف في الملك بالإزالة, والملك قد زال بالخلع والإبانة, وإزالة الزائل محال ولهذا لم يصح الخلع والإبانة "ولنا" ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنه قال "المختلعة يلحقها صريح الطلاق ما دامت في العدة" وهذا نص في الباب ولأنها بالخلع والإبانة لم تخرج من أن تكون محلا للطلاق; لأن حكم الطلاق إن كان ما ينبئ عنه اللفظ لغة وهو الانطلاق والتخلي وزوال القيد فهي محل لذلك لأنها مقيدة في حال العدة لأنها ممنوعة عن الخروج والبروز والتزوج بزوج آخر, والقيد هو المنع وإن كان ما لا ينبئ عنه اللفظ لغة وهو زوال حل المحلية شرعا فحل المحلية قائم؛ لأنه لا يزول إلا بالطلقات الثلاث ولم توجد فكانت المبانة والمختلعة محلين للطلاق وبه تبين أن قوله: الطلاق تصرف في الملك بالإزالة غير سديد؛ لأن زوال الملك لا ينبئ عنه اللفظ لغة ولا يدل عليه شرعا ألا ترى أن الطلاق الرجعي واقع. ولا يزول الملك بالإجماع, ولو راجعها لا ينعدم الطلاق, بل يبقى أثره في حق زوال المحلية وإن انعدم أثره في حق زوال الملك بخلاف الإبانة؛ لأنها إزالة الملك والملك دليل. وأما الكناية فهل يلحقها؟ ينظر إن كانت رجعية وهي ألفاظ وهي قوله: اعتدي واستبرئي رحمك وأنت واحدة يلحقها في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه لا يلحقها حتى لو قال لها اعتدي لا يلحقها شيء. وجه هذه الرواية أن هذه كناية, والكناية لا تعمل إلا في حال قيام الملك كسائر الكنايات وجه ظاهر الرواية أن الواقع بهذا النوع من الكناية رجعي فكان في معنى الصريح فيلحق الخلع والإبانة في العدة كالصريح. وإن كانت بائنة كقوله: أنت بائن ونحوه ونوى الطلاق لا يلحقها بلا خلاف؛ لأن الإبانة قطع الوصلة, والوصلة منقطعة فلا يتصور قطعها ثانيا بخلاف الطلاق؛ لأنه إزالة القيد وإزالة حل المحلية, وكل ذلك قائم؛ ولأنه يمكن تصحيح هذا الكلام بطريق الإخبار لأن المخبر به على ما أخبر ولا يمكن تصحيحه بطريق الإنشاء; لأن إبانة المبان محال فيصحح بطريق الإخبار؛ لأنه يكون كذبا فيصحح بطريق الإنشاء؛ ولأن الإبانة تحريم شرعا, وهي محرمة وتحريم المحرم محال, وسواء نجز الإبانة في حال قيام العدة أو علقها بشرط بأن قال لها في العدة: إن دخلت هذه الدار فأنت بائن, ونوى الطلاق حتى لو دخلت الدار وهي في العدة لا يقع الطلاق؛ لأن الإبانة قطع الوصلة فلا ينعقد إلا في حال قيام الوصلة وهو الملك ولم يوجد فلا ينعقد, ولو قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت بائن أو حرام ونحو ذلك ثم أبانها أو خالعها ثم دخلت الدار وهي في العدة وقعت عليها تطليقة بالشرط في قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: لا يقع ويبطل التعليق وجه قوله إن التعليق بالشرط يصير تنجيزا عند الشرط تقديرا, ولو نجز الإبانة عند الشرط لا يقع شيء لعدم الملك. "ولنا" أن التعليق وقع صحيحا لقيام الملك عند وجوده من كل وجه فانعقد موجبا للبينونة وزال الملك عند وجود الشرط من كل وجه, إلا أن الإبانة الطارئة أوجبت زوال الملك من وجه للحال وبقي من وجه حال قيام العدة لقيام بعض آثار الملك فخرج التعليق من أن يكون سببا لزوال الملك عند الشرط من كل وجه؛ لزوال الملك من وجه للحال بالتنجيز فبقي سببا لزوال الملك من وجه, وفيه تصحيح التصرفين في حق الحكم بقدر الإمكان فكان أولى من تصحيح أحدهما وإبطال الآخر, بخلاف تنجيز الإبانة على المعتدة المبانة وتعليقها أنهما لا يصحان; لأن ثمة الملك وقت التنجيز, والتعليق قائم من وجه دون وجه فقيامه من وجه لقيام العدة يوجب الصحة, وزواله من وجه يمنع الصحة وما لم تعرف صحته إذا وقع الشك في صحته لا يصح بالشك بخلاف التعليق في مسألتنا؛ لأنه وقع صحيحا بيقين لقيام الملك من كل وجه, فتنجيز الإبانة المعترضة يقع الشك في بطلانه فلا يبطل مع الشك فهو الفرق بين الفصلين, والله عز وجل أعلم. ولو آلى منها لم يصح إيلاؤه في حكم البر؛ لأن الإيلاء في حق أحد الحكمين وهو البر تعليق الإبانة شرعا, وشرط البر وهو عدم القربان في المدة وقيام الملك شرط صحة الإبانة تنجيزا كان أو تعليقا كما في التعليق الحقيقي على ما مر؛ لأن الطلاق في الإيلاء إنما يقع عند مضي المدة من غير قربانها, ويصير فيه ظالما يمنع حقها في الوطء في المدة ولا حق للمبانة والمختلعة في الوطء فلا يصح الإيلاء في حق الطلاق, ولو آلى من زوجته ثم أبانها ونوى الطلاق أو خلعها قبل مضي أربعة أشهر ثم مضت أربعة أشهر قبل أن يقربها وهي في العدة وقع الطلاق

 

ج / 3 ص -136-       عندنا خلافا لزفر بناء على أن الإبانة الناجزة يلحقها الإبانة بتعليق سابق عندنا خلافا له. ولا يصح ظهاره من المبانة والمختلعة؛ لأن الظهار تحريم والمحرمة قد تثبت بالإبانة والخلع السابق وتحريم المحرم ممتنع. ولو علق الظهار بشرط في الملك بأن قال لامرأته: إن دخلت الدار فأنت علي كظهر أمي ثم أبانها فدخلت الدار وهي في العدة لا يصير مظاهرا منها بالإجماع وهذا حجة زفر, ووجه الفرق لنا بين الظهار وبين الكناية البائنة من وجهين: أحدهما ما ذكرنا أن الظهار يوجب حرمة مؤقتة بالكفارة وقد تثبت الحرمة بالإبانة من كل وجه فلا يحتمل التحريم بالظهار بخلاف الكناية المنجزة؛ لأنها توجب زوال الملك من وجه دون وجه قبل انقضاء العدة فلا يمنع ثبوت حكم التعليق, والثاني أن الظهار يوجب حرمة ترتفع بالكفارة, والإبانة توجب حرمة لا ترتفع إلا بنكاح جديد فكانت الحرمة الثابتة بالإبانة أقوى الحرمتين, والثابتة بالظهار أضعفهما فلا تظهر بمقابلة الأقوى بخلاف تنجيز الكناية وتعليقها فإن كل واحد منهما في إيجاب البينونة وزوال الملك على السواء فيعمل بهما بالقدر الممكن وفيما قلنا عمل بهما جميعا على ما بينا. ولو خيرها في العدة لا يصح بأن قال لها: اختاري فاختارت نفسها في العدة حتى لا يقع شيء بالإجماع؛ لأن التنجيز تمليك والتمليك بلا ملك لا يتصور, ولو قال لامرأته: إذا جاء غد فاختاري, ثم أبانها فاختارت نفسها في العدة لا يقع شيء بالإجماع وهذا أيضا حجة زفر, والفرق لنا بين التنجيز وبين تعليق الكناية الثابتة بشرط أنه لما قال لها إذا جاء غد فاختاري فقد ملكها الطلاق غدا, ولما أبانها فقد أزال الملك للحال من وجه وبقي من وجه على ما بينا, والملك من وجه لا يكفي للتمليك ويكفي للإزالة كما في الاستيلاد والتدبر المطلق حتى لا يجوز بيع أم الولد والمدبر المطلق ويجوز إعتاقهما كذا هذا, ولأن التنجيز يعتبر فيه جانب الاختيار لا جانب التنجيز, والتعليق يعتبر فيه جانب اليمين لا جانب الشرط بدليل أنه لو شهد شاهدان بالتنجيز وشاهدان بالاختيار ثم رجع الشهود فالضمان على شاهدي الاختيار لا على شاهدي التنجيز وبمثله لو شهد شاهدان باليمين وشاهدان بالدخول ثم رجعوا ضمن شهود اليمين لا شهود الدخول. وإذا كان المعتبر في التنجيز هو اختيار المرأة لا تخيير الزوج يعتبر قيام الملك وقت اختيارها, وهي مبانة وقت اختيارها فلم يقع شيء, ولما كان المعتبر في التعليق هو اليمين لا الشرط يعتبر قيام الملك وقت اليمين لا وقت الشرط, ولو قذفها بالزنا لا يلاعن؛ لأن اللعان لم يشرع إلا بين الزوجين قال الله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ} والزوجية قد انقطعت بالإبانة والخلع, وكل فرقة توجب حرمة مؤبدة كحرمة المصاهرة والرضاع فإن الطلاق لا يلحقها وإن كانت في العدة؛ لأن تحريم المحرم لا يتصور ولأن الثابت بالطلاق حرمة مؤقتة والثابت بالرضاع والمصاهرة حرمة مؤبدة والحرمة المؤبدة أقوى الحرمتين فلا يظهر الأضعف في مقابلة الأقوى, وكذلك لو اشترى امرأته بعد ما دخل بها لا يلحقها الطلاق؛ لأنها ليست بمعتدة ألا ترى أنه يحل له وطؤها ولا يحل وطء المعتدة بحال؟ وكذا لو قال لمنكوحته وهي أمة الغير: أنت طالق للسنة ثم اشتراها وجاء وقت السنة لا يقع شيء لما ذكرنا أنها ليست بمعتدة والطلاق المعلق بشرط أو المضاف إلى وقت لا يقع في غير ملك النكاح والعدة, ولو قال العبد لامرأته وهي حرة: أنت طالق للسنة ثم أبانها ثم جاء وقت السنة يقع عليها الطلاق؛ لأنها معتدة منه, وكذلك إذا قال الرجل لامرأته وهي أمة الغير: أنت طالق للسنة ثم اشتراها فأعتقها ثم جاء وقت السنة وقع عليها الطلاق؛ لأنها معتدة منه لظهور حكم العدة بعد الإعتاق. وإذا ارتد الرجل ولحق بدار الحرب فطلق المرأة لم يقع على المرأة طلاقه وإن كانت في العدة؛ ; لأن العصمة قد انقطعت بينهما بلحاقه بدار الحرب فلا يقع عليها طلاقه, كما لا يقع على المرأة طلاقه بعد انقضاء العدة فإن عاد إلى دار الإسلام وهي في العدة وقع طلاقه عليها؛ لأن المانع من الطلاق اختلاف الدارين وقد زال فإن ارتدت المرأة ولحقت بدار الحرب فطلق المرأة لم يقع طلاق الزوج عليها؛ لأن العصمة قد انقطعت بلحاقها في بدار الحرب فصارت كالمنقضية العدة, فإن عادت قبل الحيض لم يقع طلاق الزوج عليها في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يقع طلاقه عليها "وجه" قول أبي يوسف أن العدة باقية حقيقة إلا أنه لم يظهر حكمها للحال لمانع وهو اللحاق لاختلاف الدارين, فإن عادت إلى دار الإسلام فقد زال المانع فظهر حكم

 

ج / 3 ص -137-       العدة كما في جانب الرجل, ولأبي حنيفة أن المرتدة بلحاقها بدار الحرب صارت كالحربية الأصلية ألا ترى أنها تسترق كالحربية فبطلت العدة في حقها أصلا فلا تعود بعودها إلى دار الإسلام بخلاف المرتد. وعلى هذا الأصل يخرج عدد الطلاق قبل الدخول أنه إن أوقع مجتمعا يقع الكل وإن أوقع متفرقا لا يقع إلا الأول; لأن الإيقاع إذا كان مجتمعا فقد صادف الكل محله وهو الملك فيقع الكل. وإذا كان مفترقا فقد بانت بالأول, والثاني والثالث صادفها ولا ملك ولا عدة فلا يقع, وبيان هذا الأصل في مسائل إذا قال لامرأته قبل الدخول بها: أنت طالق ثلاثا أو قال: أنت طالق اثنتين وقع ذلك عند عامة العلماء. وقال الحسن البصري: لا يقع إلا واحدة ويلغو قوله: ثلاثا أو اثنتين "وجه" قوله إن قوله: أنت طالق كلام تام لكونه مبتدأ وخبرا وقد سبق العدد في الذكر فيسبق في الوقوع فبين بقوله أنت طالق, والعدد يصادفها بعد حصول البينونة فيلغو كما إذا قال: أنت طالق وطالق. "ولنا" أنه أوقع الثلاث جملة واحدة فيقع جملة واحدة, ودلالة الوصف من وجهين: أحدهما أن العدد هو الواقع وهو الثلاث وقد أوقع الثلاث مجتمعا, والثاني أن الكلام إنما يتم بآخره؛ لأن المتكلم ربما يعلق كلامه بشرط أو بصفة إلى وقت أو يلحق به الاستثناء لحاجته إلى ذلك فيقف أول الكلام على آخره, وإذا وقف عليه صار الكل جملة واحدة فيقع الكل جملة واحدة ولا يتقدم البعض على البعض, ولهذا لو قال لها: أنت طالق واحدة فماتت بعد قوله طالق قبل قوله واحدة لم يقع شيء؛ لأن الواقع هو العدد وذلك وجد بعد الموت. وكذا لو قال لها: أنت طالق ثلاثا إن شاء الله فماتت بعد قوله ثلاثا قبل قوله إن شاء الله لا يقع شيء; لأنه توقف أول الكلام على وجود آخره المغير له فلم يتعلق بأوله حكم فلا يقع به شيء في حال الحياة, ولا يقع بعد الموت لعدم التطليق عند وجود الاستثناء وعدم المحل أيضا, وكذلك إذا ذكر بعده ما هو صفة له وقع بتلك الصفة كما إذا قال: أنت طالق بائن أو حرام؛ لأن الصفة مع الموصوف كلام واحد فلا يفصل البعض عن البعض في الوقوع. وفائدة هذا لا تظهر في التنجيز؛ لأن الطلاق قبل الدخول لا يقع إلا بائنا سواء وصفه بالبينونة أم لم يصفه, وإنما تظهر في التعليق بأن يقول لها: أنت طالق بائن إن دخلت الدار إنه لا يتنجز بل يتعلق بالدخول؛ لأن قوله: بائن بين الإيقاع والشرط لا يقع فاصلا بينهما لما ذكرنا أن الصفة مع الموصوف كلام واحد فلا يكون حائلا بين الإيقاع والشرط فلا يمنع التعليق بالشرط, ولو قال لها: أنت طالق واحدة مع واحدة أو معها واحدة يقع ثنتان؛ لأن كلمة مع للمقارنة فقد أوقع الطلاقين معا فيقعان معا كما لو كانت مدخولا بها. وكذا لو قال: أنت طالق واحدة قبلها واحدة أو واحدة بعد واحدة؛ لأن هذا إيقاع طلقة واحدة للحال وإضافة طلقة أخرى إلى الزمان الماضي فيقع في الحال واحدة ولم تصح إضافة الأخرى إلى الماضي لما فيه من الاستحالة فيقع في الحال, ولو قال: أنت طالق واحدة قبلها واحدة أو واحدة بعدها واحدة يقع واحدة؛ لأنه أوقع تطليقة واحدة وأعقبها بتطليقة أخرى فوقعت الأولى ولغت الثانية لعدم الملك والعدة.
ولو كرر لفظ الطلاق فالأمر لا يخلو إما أن كرر بدون حرف العطف وأما أن يكون بحرف العطف, وكل ذلك لا يخلو إما أن نجز أو علق. فإن كرر بغير حرف العطف ونجز بأن قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق أو قال: أنت طالق طالق طالق; يقع الأولى ويلغو الثانية والثالثة; لأنه أوقع متفرقا أما في قوله: أنت طالق أنت طالق أنت طالق; فلأن كل واحد من هذه الألفاظ الثلاثة كلام تام; لأنه مبتدأ وخبر, وكل واحد منهما وجد متفرقا فكان كل واحد منهما إيقاعا متفرقا فيقتضي الوقوع متفرقا فتحصل البينونة بالأولى, والثاني والثالث يصادفها ولا ملك ولا عدة فيلغوا وكذلك إذا قال: أنت طالق طالق طالق; لأن الثاني والثالث خبر لا مبتدأ له فيعاد المبتدأ كأنه قال: أنت طالق أنت طالق. وإن علق بشرط فإن قدم الشرط بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق, فالأولى يتعلق بالشرط لوجود التعليق الصحيح وهو ذكر شرط وجزاء في الملك, والثاني ينزل في الحال؛ لأن قوله: أنت طالق إيقاع تام, وقوله: وطالق معناه أنت طالق وإنه إيقاع تام؛ لأنه مبتدأ وخبر وقد صادف محله وهو المنكوحة فيقع ويلغو الثالث لوقوع البينونة بالإيقاع, ولو تزوجها ودخلت الدار ينزل المعلق؛ لأن اليمين باقية؛ لأنها لا تبطل بالإبانة فوجد الشرط وهي في ملكه فينزل الجزاء, ولو دخلت الدار بعد البينونة قبل التزوج تنحل اليمين ولا

 

ج / 3 ص -138-       يقع الطلاق وإن كانت مدخولا بها; فالأول يتعلق بالشرط لما ذكرنا, والثاني والثالث ينزلان للحال; لأن كل واحد منهما إيقاع صحيح لمصادفته محله, وإن أخر الشرط بأن قال: أنت طالق أنت طالق أنت طالق إن دخلت الدار, أو قال: أنت طالق طالق طالق إن دخلت الدار فالأول ينزل في الحال؛ لأنه إيقاع تام صادف محله, ويلغو الثاني والثالث بحصول البينونة بالأولى فلم يصح التعليق لعدم الملك, وإن كانت مدخولا بها يقع الأول والثاني للحال ويتعلق الثالث بالشرط؛ لأن الأول والثاني كل واحد منهما إيقاع تام لكونه مبتدأ وخبرا وقد صادف محله فوقع للحال, والثالث علقه بالشرط فتعلق به لحصول التعليق حال قيام العدة فصادف التعليق محله فصح بخلاف الفصل الأول. وإن كرر بحرف العطف فإن نجز الطلاق بأن قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق, أو قال: أنت طالق فطالق فطالق لا يقع إلا الأول بلا خلاف; لأنه أوقع الثلاث متفرقا لوجود حروف موضوعة للتفرق لأن ثم للترتيب مع التراخي والفاء للترتيب مع التعقيب. ووقوع الطلقة الأولى يمنع من ترتيب الثانية والثالثة عليها, وكذلك إذا قال: أنت طالق وطالق وطالق عند عامة العلماء. وقال مالك: يقع الثلاث. "وجه" قوله أن الواو للجمع والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فكان هذا إيقاع الثلاث جملة واحدة, كأنه قال: أنت طالق ثلاثا. "ولنا" أن الواو للجمع المطلق, والجمع المطلق في الوجود لا يتصور, بل يكون وجوده على أحد الوضعين عينا, إما القران "وأما" الترتيب فإن كان الوقوع بصفة الترتيب لا يقع إلا الأول, وإن كان بصفة القران يقع الثاني والثالث فيقع الشك في وقوع الثاني والثالث فلا يقع بالشك, وإن علق بشرط فإما أن قدم الشرط على الجزاء وأما أن أخره عنه فإن قدمه بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق, تعلق الكل بالشرط بالإجماع حتى لا يقع شيء قبل دخول الدار, فإذا دخلت الدار قبل الدخول بها لا يقع إلا واحدة في قول أبي حنيفة, وإن دخلت الدار قبل الدخول بها فيقع الثلاث بالإجماع, لكن عند أبي حنيفة على التعاقب, وعندهما يقع على الجمع وعلى هذا الخلاف إذا قال لأجنبية إن تزوجتك فأنت طالق وطالق وطالق فتزوجها لا يقع إلا واحدة عنده وعندهما يقع الثلاث. ولو قال: إن تزوجتك فأنت طالق وأنت علي كظهر أمي فتزوجها طلقت ولم يصر مظاهرا منها عنده خلافا لهما, ولو قدم الظهار على الطلاق بأن قال: إن تزوجتك فأنت علي كظهر أمي وأنت طالق يقع الطلاق والظهار جميعا بالإجماع "وجه" قولهما أنه أوقع الثلاث جملة واحدة فيقع جملة واحدة, كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا, ودلالة الوصف أنه جمع التطليقات الثلاث بحرف الجمع وهو الواو والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع لغة وشرعا: أما اللغة فإن قول القائل: جاءني زيد وزيد وزيد, وقوله: جاءني الزيدون سواء. وأما الشرع فإن من قال: لفلان علي ألف درهم ولفلان كان الألف بينهما كما لو قال لهذين الرجلين علي ألف درهم. وكذا الفضولي إذا زوج رجل امرأة وفضولي آخر زوج أخت تلك المرأة من ذلك الرجل فبلغه النكاحان فقال أجزت نكاح هذه وهذه, بطل النكاحان جميعا كما لو قال: أجزت نكاحهما فثبت أن الجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع, ولو جمع بلفظ الجمع بأن قال: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا لوقع الثلاث سواء دخلتها قبل الدخول بها أو بعد الدخول كذا هذا, ولا يلزم التنجيز فإنه لو ذكر لفظ الجمع قبل الدخول بها بأن قال: أنت طالق ثلاثا يقع الثلاث, ولو ذكر بحرف الجمع لا يقع إلا واحدة بأن قال لها: أنت طالق وطالق وطالق؛ لأن العطف والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع إذا صح العطف والجمع في التنجيز لم يصح; لأنه لما قال لها: أنت طالق فقد بانت بواحدة لعدم العدة فامتنع وقوع الثاني والثالث لانعدام محل الطلاق بخلاف التعليق بالشرط؛ لأن التعليق بالشرط قد صح, وصح التكلم بالثاني والثالث; لأن ملكه قائم بعد التعليق فصح التكلم به, وإذا صح التكلم بحرف الجمع صار التكلم به كالتكلم بلفظ الجمع؛ ولهذا وقع الثلاث إذا أخر الشرط كذا هذا, ولأبي حنيفة أن قوله إن دخلت الدار فأنت طالق وطالق وطالق إيقاع الثلاث متفرقا في زمان ما بعد الشرط فيقتضي الوقوع متفرقا كما إذا قال لامرأته قبل الدخول بها: أنت طالق واحدة بعدها أخرى. ولا شك أن الإيقاع إن كان متفرقا يكون بالوقوع متفرقا; لأن الوقوع على حسب الإيقاع؛ لأنه حكمه والحكم يثبت

 

ج / 3 ص -139-       على وفق العلة, والدليل عليه أنه أوقع الثلاث في زمان ما بعد الشرط؛ لأن الإيقاع هو كلامه السابق إذ لا كلام منه سواه, وكلامه متفرق فإن قوله: طالق كلام تام مبتدأ وخبر, وقوله: وطالق معطوف على الأول تابعا فيكون خبر الأول خبرا له كأنه قال: أنت طالق وأنت طالق وأنت طالق. وهذه كلمات متفرقة فيكون الأول متفرقا ضرورة فيقتضي الوقوع متفرقا, وهو أن يقع الأول ثم الثاني ثم الثالث, فإن لم تكن المرأة مدخولا بها فدخول الأول يمنع وقوع الثاني والثالث عقيبه لانعدام الملك والعدة؛ ولهذا لم يقع في التنجيز إلا واحدة لكون الإيقاع متفرقا إلا أن هناك أوقع متفرقا في الحال في زمان بعد الشرط ولا يلزم ما إذا قال لها: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثلاثا فدخلتها إنه يقع الثلاث؛ لأن هناك ما أوقع الثلاث متفرقا, أوقعها جملة واحدة; لأن قوله: أنت طالق ثلاثا موضوع العدد معلوم لغة ألا ترى أن في التنجيز كذلك؟ فكذا في التعليق, ولا يلزم ما إذا أخر الشرط; لأنهم وضعوا هذا الكلام عند تأخير الشرط ذكرا لإيقاع الثلاث جملة وإن كان متفرقا من حيث الصورة لضرورة دعتهم إلى ذلك; وهي ضرورة تدارك الغلط; لأن الطلاق والعتاق مما يجري على اللسان غلطا من غير قصد, فوضعوا الشرط والاستثناء في الكلام لتدارك الغلط حتى إذا لم يكن ذلك عن قصد الحق الرجل به الاستثناء فيقول: إن شاء الله تعالى أو يقول: إن دخلت الدار فصار هذا الكلام عند تأخير الشرط لإيقاع الثلاث جملة وضعا وإن كان من حيث الصورة متفرقا لحاجتهم إلى تدارك الغلط وهم أهل اللسان فلهم ولاية الوضع, والحاجة إلى تدارك الغلط عند تأخير الشرط لا عند تقديمه فيجب العمل بحقيقة الوضع الآخر عند التقديم. ولا يلزم ما إذا قال لامرأته: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال في اليوم الثاني: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال: في اليوم الثالث: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم دخلت الدار أنه يقع الثلاث, وإن كان الإيقاع متفرقا؛ لأن هناك ما أوقع الثلاث متفرقا في زمان ما بعد الشرط؛ لأن ذلك الكلام ثلاثة أيمان, كل واحدة منها جعلت علما على الانطلاق في زمان واحد بعد الشرط فكان زمان ما بعد الشرط وهو دخول الدار وقت الحنث في الأيمان كلها فيقع جملة ضرورة حتى لو قال لها: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق ثم قال في اليوم الثاني: إن دخلت هذه الدار الأخرى فأنت طالق ثم قال في اليوم الثالث إن دخلت هذه الدار فأنت طالق لا يقع بكل دخلة إلا طلاق واحد; لأن الموجود ثلاثة أيمان, لكل واحد شرط على حدة بخلاف مسألتنا فإن الموجود يمين واحدة, ولها شرط واحد. وقد جعل الحالف جزاء هذه اليمين إيقاعات متفرقة في زمان ما بعد الشرط فلا بد من تفرق الإيقاعات في زمان ما بعد الشرط فيقع كل جزاء في زمان كما في قوله: إن دخلت هذه الدار فأنت طالق واحدة بعدها أخرى, بخلاف ما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ونصف؛ لأن هناك ما أوقع متفرقا, بل مجتمعا; لأن قوله: طالق ونصف اسم واحد بمسمى واحد, وإن كان النصف معطوفا على الواحد كقولنا أحد وعشرون ونحو ذلك فكان ذلك تطليقتين على الجمع ولهذا كان في التخيير كذلك فكذلك في التعليق. وبخلاف قوله إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة لا بل ثنتين؛ لأن ذلك إيقاع الثلاث علة في زمان ما بعد الشرط؛ لأنه أوقع الواحدة ثم تدارك الغلط بإقامة الثنتين مقام الواحدة والرجوع عن الأول, والرجوع لم يصح; لأن تعليق الطلاق لا يحتمل الرجوع عنه, وصح إيقاع التطليقتين فكان إيقاع الثلاث بعد الشرط في زمان واحد كأنه قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ثلاثا وههنا بخلافه. وأما قوله: أنه جمع بين الإيقاعات بحرف الجمع وهو الواو؛ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما أن الواو للجمع المطلق من غير التعرض لصفة القران والترتيب, والجمع المطلق في الوجود لا يتصور; لأنه لا يوجد إلا مقيدا بأحد الوصفين, فبعد ذلك حمله على القران يكون عدولا عن حقيقة الكلمة وجعلها مجازا عن كلمة مع, ونحن نحمله على الترتيب ونجعله مجازا عن كلمة ثم فوقع التعارض فسقط الاحتجاج بحرف الواو مع ما أن الترجيح معنا من وجهين: أحدهما أن الحمل على الترتيب موافق للحقيقة لوجود الإيقاع متفرقا حقيقة لا موجب حرف الواو, والحمل على القران يخالف الحقيقة فكان الحمل على الترتيب أولى. والثاني أن الحمل على الترتيب يمنع من وقوع الثاني والثالث

 

ج / 3 ص -140-       والحمل على القران يوجب الوقوع فلا يثبت الوقوع بالشك على الأصل المعهود إن ما لم يكن ثابتا, ووقع الشك في ثبوته لا يثبت بالشك بخلاف مسألة الفضولي فإنه كما لا يجوز الجمع بين الأختين على المقارنة لا يجوز على الترتيب فأمكن العمل بحرف الواو فيما يقتضيه وهو الجمع المطلق, وفي مسألة الإقرار توقف أول الكلام على آخره لضرورة تدارك الغلط والنسيان؛ إذ قد يكون على إنسان حق لاثنين فيقر بكل الحق لأحدهما على السهو والغفلة ثم يتذكر فيتدارك بهذه اللفظة فوقف أول الكلام على آخره وصارت الجملة إقرارا واحدا لهما للضرورة كما قلنا في تأخير الشرط في الطلاق, ومثل هذه الضرورة في مسألتنا منعدمة فيجب العمل بالحقيقة. ولو علق بحرف الفاء بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فطالق فطالق, فجعل الكرخي والطحاوي حرف الفاء ههنا كحرف الواو وأثبتا الخلاف فيه. والفقيه أبو الليث جعله مثل كلمة بعد وعده مجمع عليه فقال: إذا كانت غير مدخول بها لا يقع إلا واحدة بالإجماع, وهكذا ذكر الشيخ الإمام الأجل الأستاذ علاء الدين رحمه الله تعالى. وهذا أقرب إلى الفقه؛ لأن الفاء للترتيب مع التعقيب ووقوع الأول يمنع من تعقب الثاني والثالث, ولو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق ثم طالق ثم طالق فالأول يتعلق بالشرط والثاني يقع للحال ويلغو الثالث في قول أبي حنيفة كما إذا لم يذكر الواو ولا الفاء بأن قال: إن دخلت الدار فأنت طالق طالق طالق, فإن تزوج بها ودخلت الدار ولم تكن دخلت قبل ذلك الدار نزل المعلق, وإن كانت مدخولا بها يتعلق الأول بالشرط وتقع الثانية والثالثة في الحال, فإن دخلت الدار وهي في العدة أو دخلتها بعد أن راجعها نزل المعلق. وقال أبو يوسف ومحمد: يتعلق الكل بالشرط حتى لا يقع شيء في الحال وإذا دخلت الدار يقع واحدة وإن كانت مدخولا بها يقع الثلاث على التعاقب كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق واحدة وبعدها واحدة وبعدها واحدة وكما قال أبو حنيفة في حرف الواو: وجه قولهما أن عطف البعض على البعض بحرف العطف; لأن ثم حرف عطف كالواو فيتعلق الكل بالشرط, ثم الوقوع بعد الشرط يكون على التعاقب بمقتضى حرف ثم; لأنه للترتيب مع التراخي فيعتبر أن معنى العطف في التعليق ومعنى الترتيب في الوقوع على ما نذكر, ولأبي حنيفة أن قوله: إن دخلت الدار فأنت طالق يمين تامة لوجود الشرط والجزاء وأنها منعقدة لحصولها في الملك, فلما قال: ثم طالق فقد تراخى الكلام الثاني عن الأول فصار كأنه سكت ثم قال لها: أنت طالق فيقع في الحال ولا يتعلق بالشرط, وأبو حنيفة يعتبر معنى الكلمة وهو التراخي في نفس الكلام فكان الفصل بين الكلام الأول والثاني بالتراخي كالفصل بالسكوت على ما نذكر إن شاء الله تعالى. ولو أخر الشرط بأن قال: أنت طالق وطالق وطالق إن دخلت الدار, أو قال: أنت طالق فطالق فطالق إن دخلت الدار تعلق الكل بالشرط فإن وجد الشرط يقع الثلاث بالإجماع; لأن أهل اللغة وضعوا هذا الكلام على تأخير الشرط لإيقاع الثلاث جملة في زمان ما بعد الشرط لحاجتهم إلى تدارك الغلط على ما بينا فيما تقدم. ولو قال: أنت طالق إن دخلت الدار أنت طالق إن دخلت الدار أنت طالق إن دخلت الدار, أو قدم الشرط بأن قال: إن دخلت فأنت طالق, قال ذلك ثلاثا, يتعلق الكل بالدخول فما لم تدخل لا يقع شيء, وإذا دخلت الدار دخلة واحدة يقع الثلاث بالإجماع لما قلنا أن هذه أيمان ثلاثة لها شرط واحد; كل يمين إيقاع الطلاق الثلاث في زمان واحد وهو ما بعد الشرط فكان إيقاع الثلاث جملة في زمان ما بعد الشرط لا متفرقا فإذا وجد الشرط يقع جملة. ولو قال: أنت طالق ثم طالق ثم طالق إن دخلت الدار, فالأول يقع للحال ويلغو الثاني والثالث في قول أبي حنيفة وإن كانت مدخولا بها يقع الأول والثاني للحال ويتعلق الثالث بالشرط. وقال أبو يوسف ومحمد: يتعلق الكل بالشرط ولا يقع إلا واحدة وإن كانت مدخولا بها يقع الثلاث سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها, وجعل ثم عندهما في هذه الصورة كالواو والفاء. وجه قولهما على ظاهر الرواية عنهما: أن ثم حرف عطف كالواو والفاء ولها معنى خاص, وهو التراخي فيجب اعتبار المعنيين جميعا فاعتبرنا معنى العطف في تعليق الكل بالشرط كما في حرف الواو والفاء, واعتبرنا معنى التراخي في الوقوع وهذا يمنع وقوع الثانية والثالثة قبل الدخول بها. وجه قول أبي حنيفة أن كلمة ثم موضوعة

 

ج / 3 ص -141-       للتراخي وقد دخلت على الإيقاع فيقتضي تراخي الثاني عن الأول في الإيقاع كأنه قال: أنت طالق وسكت ثم قال: فطالق وطالق إن دخلت الدار فيقع الأول للحال ويلغو الثاني والثالث؛ لأنهما حصلا بعد ثبوت البينونة بالأول فلا يقعان في الحال ولا يتعلقان بالشرط أيضا لانعدام الملك وقت التعليق, فلم يصح التعليق فالحاصل أنهما يعتبران معنى التراخي في الوقوع لا في الإيقاع, وأبو حنيفة يعتبر معنى التراخي في الإيقاع; لأن الحكم الإيقاع, واعتبار أبي حنيفة أولى; لأن كلمة التراخي دخلت على الإيقاع والتراخي في الإيقاع يوجب التراخي في الوقوع; لأن الحكم يثبت على وفق العلة. فأما القول بتراخي الوقوع من غير تراخي الإيقاع فقول بإثبات حكم العلة على وجه لا تقتضيه العلة وهذا لا يجوز. وروي عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته أنت طالق أستغفر الله إن دخلت الدار, موصولا أو قال: سبحان الله أو الحمد لله أنه يدين فيما بينه وبين الله تعالى ويقع في القضاء في الحال؛ لأن هذا كلام لا تعلق له بالطلاق فيكون فاصلا بين الجزاء والشرط فيمنع التعليق كما لو سكت بينهما من غير ضرورة السعال فيقع في الحال في القضاء, ولا يصدق إن أراد به التعليق؛ لأنه خلاف الظاهر ويدين فيما بينه وبين الله عز وجل; لأنه نوى ما يحتمله كلامه. وكذا إذا تنحنح من غير سعال غشيه أو تساعل؛ لأنه لما تنحنح من غير ضرورة أو تساعل فقد قطع كلامه فصار كما لو قطعه بالسكوت. ولو قال: أنت طالق واحدة وعشرين أو واحدة وثلاثين أو واحدة وأربعين أو قال: أحدا وعشرين أو أحدا وثلاثين أو أحدا وأربعين وقعت ثلاثا في قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: لا يقع إلا واحدة. وجه قوله أنه أوقع الثلاث متفرقا؛ لأنه عطف عددا على عدد, فوقوع الأول يمنع وقوع الثاني كما إذا قال لها: أنت طالق وطالق أو فطالق, "ولنا" أن قوله: أحدا وعشرين في الوضع كلام واحد وضع لمسمى واحد ألا ترى أنه لا يمكن أن يتكلم به إلا على هذا الوجه؟ فلا يفصل البعض عن البعض كقوله: أنت طالق ثلاثا, وعلى هذا الخلاف إذا قال: أنت طالق اثنتين وعشرين أو اثنتين وثلاثين أو اثنتين وأربعين أو قال: اثني وعشرين أو اثني وثلاثين أو اثني وأربعين أنه ثلاث عندنا, وعند زفر اثنتان لما قلنا, ولو قال: أنت طالق إحدى عشرة يمكن أن يتكلم على غير هذا الوجه بأن يأتي باللفظ المعتاد فيقول إحدى عشرة أو أحد عشر فإذا لم يقل يعتبر عطفا على الواحد فكان إيقاع العشرة بعد الواحد فلا يصح كما لو قال: أنت طالق وطالق أو فطالق أو ثم طالق. وذكر الكرخي عن أبي يوسف في إحدى وعشرة أنه ثلاث؛ لأنه يفيد ما يفيده قولنا أحد عشر فكان مثله. قال: أنت طالق واحدة ومائة أو واحدة وألفا كان واحدة كذا روى الحسن عن أبي حنيفة؛ لأنه كان يمكنه أن يتكلم به على غير هذا الوجه وهو أن يقول مائة وواحدة وألفا وواحدة؛ لأن هذا هو المعتاد فإذا قدم الواحدة فقد خالف المعتاد فلا يمكن أن يجعل الكل عددا واحدا فيجعل عطفا فيمتنع وقوع ما زاد على الواحدة. وقال أبو يوسف: إذا قال: واحدة ومائة تقع ثلاثا؛ لأن التقديم والتأخير في ذلك معتاد ألا ترى أنهم يقولون في العادة مائة وواحدة وواحدة ومائة على السواء؟ ولو قال: أنت طالق واحدة ونصفا يقع اثنتان في قولهم؛ لأن هذه جملة واحدة ألا ترى أنه لا يمكنه أن يتكلم بها إلا على هذا الوجه؟ فكان هذا اسما لمسمى واحد, والطلاق لا يتجزأ فكان ذكر بعضه ذكرا للكل, فكان هذا إيقاع تطليقتين كأنه قال لها: أنت طالق ثنتين ولو قال: أنت طالق نصفا وواحدة يقع عليها ثنتان عند أبي يوسف, وعند محمد واحدة, له أن التكلم على هذا الوجه غير معتاد بل العادة قولهم واحدة ونصفا, فإذا عدل عن المعتاد لم يمكن أن يجعل الكل عددا واحدا فيجعل عطفا, وأبو يوسف يقول: الاستعمال على هذا الوجه معتاد, فإنه يقال: واحدة ونصفا وواحدة على السواء. ومنها الإضافة إلى المرأة في صريح الطلاق حتى لو أضاف الزوج صريح الطلاق إلى نفسه بأن قال: أنا منك طالق, لا يقع الطلاق وإن نوى وهذا عندنا. وقال الشافعي: الإضافة إلى المرأة في صريح الطلاق حتى لو قال: أنا منك بائن أو أنا عليك حرام ونوى الطلاق يصح. وجه قوله: أن الزوج أضاف الطلاق إلى محله فيصح كما إذا قال لها: أنا منك بائن أو أنا عليك حرام. ودلالة الوصف أن محل الطلاق المقيد؛ لأن التطليق رفع القيد والرجل مقيد إذ المقيد هو الممنوع, والزوج ممنوع

 

ج / 3 ص -142-       عن التزوج بأختها وعن التزوج بأربع سواها فكان مقيدا فكان محلا لإضافة الكناية المبينة إليه لما أن الإبانة قطع الوصلة وأنها ثابتة من جانبه كذا هذا, "ولنا" الكتاب والسنة والمعقول أما الكتاب فقوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أمر سبحانه وتعالى بتطليقهن والأمر بالفعل نهي عن تركه وتطليق نفسه ترك لتطليق امرأته حقيقة؛ لأنه أضاف الطلاق إلى نفسه لا إلى امرأته حقيقة فيكون منهيا, والمنهي غير المشروع, والتصرف الذي ليس بمشروع لا يعتبر شرعا وهو تفسير عدم الصحة. "وأما" السنة فما روى أبو داود في سننه بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "زوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن" نهي عن التطليق مطلقا, سواء كان مضافا إلى الزوج أو إلى الزوجة وأكد النهي بقوله: فإن الطلاق يهتز له عرش الرحمن فظاهر الحديث يقتضي أن يكون التطليق منهيا سواء أضيف إلى الزوج أو إليها ثم جاءت الرخصة في التطليق المضاف إلى الزوجة في نصوص الكتاب من قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} وقوله تعالى: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} ونحو ذلك فبقي التطليق المضاف إلى الزوج على أصل النهي, والمنهي غير مشروع والتصرف الشرعي إذا خرج من أن يكون مروعا, لا وجود له شرعا فلا يصح ضرورة. وأما المعقول فهو أن قوله: أنا منك طالق إما أن يعتبر إخبارا عن كونه طالقا كما يقتضيه ظاهر الصيغة وأما أن يعتبر إنشاء وهو إثبات الانطلاق ولا سبيل إلى الثاني؛ لأنه منطلق وليس عليه قيد النكاح. وإثبات الثابت محال فتعين الأول, وهو أن يكون إخبارا عن كونه طالقا وهو صادق في هذا الإخبار, والدليل على أنه ليس عليه قيد النكاح وجهان: أحدهما أن قيد النكاح في جانب المرأة إنما ثبت لضرورة تحقيق ما هو من مقاصد النكاح وهو السكن والنسب؛ لأن الخروج والبروز يريب فلا يطمئن قلبه إليها, وإذا جاءت بولد لا يثق بكونه منه, وهذه الضرورة منعدمة في جانب الزوج فلا يثبت عليه قيد النكاح, والثاني أن قيد النكاح هو ملك النكاح وهو الاختصاص الحاجز والزوج مالك؛ لأن المرأة مملوكة ملك النكاح, والمملوك لا بد له من مالك ولا ملك لغير الزوج فيها فعلم أن الزوج مالكها؛ فاستحال أن يكون مملوكا بخلاف ما إذا أضاف الطلاق إليها, فإن قال لها: أنت طالق أنه لا يمكن حمل هذه الصيغة على الإخبار؛ لأنه يكون كذبا لكونها غير منطلقة لثبوت قيد النكاح فيحمل على الإنشاء أنه ممكن لعدم الانطلاق قبله, بخلاف الكناية المبينة؛ لأن الإبانة قطع الوصلة وإنها ثابتة في الطرفين فإذا زالت من أحد الطرفين تزول من الطرف الآخر ضرورة؛ لاستحالة اتصال شيء بما هو منفصل عنه, والتحريم إثبات الحرمة, وإنها لا تثبت من أحد الجانبين لاستحالة أن يكون الشخص حلالا لمن هو حرام, بخلاف الطلاق؛ لأنه إثبات الانطلاق ورفع القيد, والقيد لم يثبت إلا من جانب واحد وإنه قائم وأما قوله: الزوج ممنوع عن التزوج بأختها وأربع سواها فنعم لكن ذلك لم يثبت إلا من جانب واحد وإنه قائم؛ لأن المنع من ذلك لكونه جمعا بين الأختين في النكاح وهذا كان ثابتا قبل النكاح ألا ترى لو تزوجهما جميعا لم يجز؟ وسواء كانت الإضافة إلى امرأة معينة أو مبهمة عند عامة العلماء حتى لو قال لامرأتيه: إحداكما طالق أو قال لأربع نسوة له: إحداكن طالق ولم ينو واحدة بعينها صحت الإضافة. وقال نفاة القياس: لا تصح إضافة الطلاق إلى المعينة وجه قولهم: لم يصلح محلا للنكاح فلا يصلح محلا للطلاق؛ إذ الطلاق يرفع ما ثبت بالنكاح. وكذا لم يصلح محلا للبيع والهبة والإجارة وسائر التصرفات فكذا الطلاق. "وأما" عمومات الطلاق من الكتاب والسنة من نحو قوله عز وجل: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ}, وقوله سبحانه: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, وقوله: {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل طلاق جائز إلا طلاق الصبي والمعتوه" من غير فصل بين طلاق وطلاق وبين الطلاق المضاف إلى المعين والمجهول؛ ولأن هذا ليس بتنجيز الطلاق في الحقيقة, بل هو تعليق من حيث المعنى بشرط البيان لما نذكر, والطلاق مما يحتمل التعليق بالشرط ألا ترى أنه يصح تعليقه بسائر الشروط؟ فكذا بهذا الشرط بخلاف النكاح فإنه لا يحتمل التعليق بالشرط فلا تكون المجهولة محلا للنكاح. وكذا الإجارة والبيع وسائر التصرفات, وعلى هذا الوجه لا يكون هذا إيقاع الطلاق في المجهولة؛ لأنه تعليق

 

ج / 3 ص -143-       بشرط البيان فيقع الطلاق في المبينة لا في المجهولة, على أنا إن قلنا بالوقوع كما قال بعضهم فهذه جهالة يمكن رفعها بالبيان, فالطلاق يحتمل خطرا لجهالة ألا ترى أنه يحتمل خطر التعليق والإضافة بحقيقة أن البيع يحتمل جريان الجهالة؟ فإنه إذا باع قفيزا من صبرة جاز. وكذا إذا باع أحد شيئين على أن المشتري بالخيار يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر جاز, فالطلاق أولى؛ لأنه في احتمال الخطر فوق البيع ألا ترى أنه يحتمل خطر التعليق والإضافة, والبيع لا يحتمل ذلك؟ فلما جاز بيع المجهول فالطلاق أولى وسواء كانت الجهالة مقارنة أو طارئة بأن طلق واحدة من نسائه عينا ثم نسي المطلقة حتى لا يحل له وطء واحدة منهن؛ لأن المقارن لما لم يمنع صحة الإضافة فالطارئ لأن لا يرفع الإضافة الصحيحة أولى, لأن المنع أسهل من الرفع والله عز وجل أعلم. ومنها الإضافة إلى جميع أجزائها أو إلى جزء جامع منها أو شائع, وجملة الكلام أنه لا خلاف أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء جامع منها كالرأس والوجه والرقبة والفرج أنه يقع الطلاق؛ لأن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن يقال: فلان يملك كذا وكذا رأسا من الرقيق وكذا وكذا رقبة. وقال الله تعالى: {أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} والمراد بها الجملة, وفي الخبر: "لعن الله الفروج على السروج", والوجه يذكر ويراد به الذات قال الله سبحانه وتعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} أي إلا هو, ومن كفل بوجه فلان يصير كفيلا بنفسه فيثبت أن هذه الأعضاء يعبر بها عن جميع البدن فكان ذكرها ذكرا للبدن كأنه قال: أنت طالق. وكذا إذا أضاف إلى وجهها؛ لأن قوام النفس بها؛ ولأن الروح تسمى نفسا قال الله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا}, ولو أضاف الطلاق إلى دبرها لا يقع؛ لأن الدبر لا يعبر به عن جميع البدن بخلاف الفرج, ولا خلاف أيضا في أنه إذا أضاف الطلاق إلى جزء شائع منها بأن قال: نصفك طالق أو ثلثك طالق أو ربعك طالق أو جزء منك, أنه يقع الطلاق؛ لأن الجزء الشائع محل للنكاح حتى تصح إضافة النكاح إليه فيكون محلا للطلاق؛ ولأن الإضافة إلى الجزء الشائع تقتضي ثبوت حكم الطلاق فيه, وإنه شائع في جملة الأجزاء بعذر الاستمتاع بجميع البدن لما في الاستمتاع به استمتاع بالجزء الحرام فلم يكن في إبقاء النكاح فائدة فيزول ضرورة. واختلف فيما إذا أضاف الطلاق إلى الجزء المعين الذي لا يعبر به عن جميع البدن كاليد والرجل والأصبع ونحوها؛ قال أصحابنا: لا يقع الطلاق. وقال زفر: يقع وبه أخذ الشافعي وجه قولهما أن اليد جزء من البدن فيصح إضافة الطلاق إليها كما لو أضاف إلى الجزء الشائع منها. والدليل على أن اليد جزء من البدن أن البدن عبارة عن جملة أجزاء مركبة منها اليد فكانت اليد بعض الجملة المركبة, والإضافة إلى بعض البدن إضافة إلى الكل كما في الجزء الشائع "ولنا" قوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أمر الله تعالى بتطليق النساء, والنساء جمع المرأة والمرأة اسم لجميع أجزائها. والأمر بتطليق الجملة يكون نهيا عن تطليق جزء منها لا يعبر به عن جميع البدن؛ لأنه ترك لتطليق جملة البدن, والأمر بالفعل نهي عن تركه والمنهي لا يكون مشروعا فلا يصح شرعا, ولأن قوله: يدك طالق إضافة الطلاق إلى ما ليس محل الطلاق فلا يصح كما لو أضاف الطلاق إلى خمارها, ودلالة الوصف أنه أضاف الطلاق إلى يدها, ويدها ليست بمحل للطلاق لوجهين: أحدهما أنها ليست بمحل للنكاح حتى لا تصح إضافة النكاح إليها فلا تكون محلا للطلاق؛ لأن الطلاق رفع ما يثبت بالنكاح. ألا ترى أنها لما لم تكن محلا للإقالة؛ لأنها فسخ ما ثبت بالبيع كذا هذا, والثاني أن محل الطلاق محل حكم في عرف الفقهاء, وحكم الطلاق زوال قيد النكاح, وقيد النكاح ثبت في جملة البدن لا في اليد وحدها؛ لأن النكاح أضيف إلى جملة البدن ولا يتصور القيد الثابت في جملة البدن في اليد وحدها فكانت الإضافة إلى اليد وحدها إضافة إلى ما ليس محل الطلاق فلا يصح. وكذا يقال في الجزء الشائع؛ لأنه لا يثبت الحكم في البدن بالإضافة إلى الجزء الشائع بل لمعنى آخر وهو عدم الفائدةفي بقاء النكاح على ما مر بيانه, أو يضاف إليه؛ لأنه من ضرورات الإضافة إلى الجزء الشائع كمن قطع حبلا مملوكا له تعلق به قنديل غيره وههنا لا ضرورة لم تثبت الحرمة في الجزء المعين مقصورا عليه لإمكان الانتفاع بباقي البدن فكان بقاء النكاح مفيدا, لكن لا قائل به على ما عرف في الخلافيات. وأما قوله: اليد جزء من البدن فنقول: إن سلم ذلك لكنه جزء معين فلم يكن محلا للطلاق بخلاف

 

ج / 3 ص -144-       الجزء الشائع فإنه غير معين؛ وهذا لأن الجزء إذا كان شائعا فما من جزء يشار إليه إلا ويحتمل أن يكون هو المضاف إليه الطلاق فتعذر الاستمتاع بالبدن فلم يكن في بقاء النكاح فائدة بخلاف المعين على ما مر. ومنها قبول العوض من المرأة في أحد نوعي الخلع وفي الطلاق على مال إذا لم يكن هناك قائل آخر سواها, أما الخلع فجملة الكلام فيه أن الخلع نوعان: خلع بعوض, وخلع بغير عوض أما الذي هو بغير عوض فنحو أن قال لامرأته: خالعتك ولم يذكر العوض فإن نوى به الطلاق كان طلاقا وإلا فلا؛ لأنه من كنايات الطلاق عندنا, ولو نوى ثلاثا كان ثلاثا. وإن نوى اثنتين فهي واحدة عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر بمنزلة قوله: أنت بائن ونحو ذلك على ما مر. وأما الثاني وهو أن يكون مقرونا بالعوض لما ذكرنا بأن قال: خالعتك على كذا وذكر عوضا. واسم الخلع يقع عليهما إلا أنه عند الإطلاق ينصرف إلى النوع الثاني في عرف اللغة والشرع فيكون حقيقة عرفية وشرعية حتى لو قال لأجنبي اخلع امرأتي فخلعها بغير عوض لم يصلح. وكذا لو خالعها على ألف درهم فقبلت ثم قال الزوج: لم أنو به الطلاق لا يصدق في القضاء؛ لأن ذكر العوض دليل إرادة الطلاق ظاهرا فلا يصدق في العدول عن الظاهر بخلاف ما إذا قال لها: خالعتك ولم يذكر العوض ثم قال: ما أردت به الطلاق أنه يصدق إذا لم يكن هناك دلالة حال تدل على إرادة الطلاق من غضب أو ذكر طلاق على ما ذكرنا في الكنايات؛ لأن هذا اللفظ عند عدم ذكر التعويض يستعمل في الطلاق وفي غيره فلا بد من النية لينصرف إلى الطلاق بخلاف ما إذا ذكر العوض؛ لأنه مع ذكر العوض لا يستعمل في العرف والشرع إلا للطلاق, ثم الكلام في هذا النوع يقع في مواضع في بيان ماهيته, وفي بيان كيفيته, وفي بيان شرط صحته, وفي بيان شرط وجوب العوض, وفي بيان قدر ما يحل للزوج أخذه منها من العوض, وما لا يحل وفي بيان حكمه أما الأول فقد اختلف في ماهية الخلع قال أصحابنا: هو طلاق وهو مروي عن عمر وعثمان رضي الله عنهما وللشافعي قولان: في قول مثل قولنا, وفي قول ليس بطلاق, بل هو فسخ وهو مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما, وفائدة الاختلاف أنه إذا خالع امرأته ثم تزوجها تعود إليه بطلاقين عندنا وعنده بثلاث تطليقات حتى لو طلقها بعد ذلك تطليقتين حرمت عليه حرمة غليظة عندنا, وعنده لا تحرم إلا بثلاث, احتج الشافعي بظاهر قوله عز وجل: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ} إلى قوله: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} ذكر سبحانه الطلاق مرتين ثم ذكر الخلع بقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} ثم ذكر الطلاق أيضا بقوله عز وجل: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فلو جعل الخلع طلاقا لازداد عدد الطلاق على الثلاث وهذا لا يجوز؛ لأن الفرقة في النكاح قد تكون بالطلاق وقد تكون بالفسخ كالفرقة بعدم الكفاءة وخيار العتاقة والردة وإباء الإسلام, ولفظ الخلع دليل الفسخ, وفسخ العقد رفعه من الأصل فلا يكون طلاقا كما لو قال: طلقتك على ألف درهم فقبلت, "ولنا" أن هذه فرقة بعوض حصلت من جهة الزوج فتكون طلاقا. وقوله: الفرقة في النكاح قد تكون من طريق الفسخ مسلم, لكن ضرورة لا مقصودا إذ النكاح لا يحتمل الفسخ مقصودا عندنا؛ لأن جوازه ثبت مع قيام المنافي للجواز وهو الحرية في الحرة وقيام ملك اليمين في الأمة على ما عرف, إلا أن الشرع أسقط اعتبار المنافي وألحقه بالعدم لحاجة الناس, وحاجتهم تندفع بالطلاق بعوض وغير عوض, وانفساخه ضرورة فلا حاجة إلى الفسخ مقصودا فلا يسقط اعتبار المنافي في حق الفسخ مقصودا, والانفساخ فيما ذكرنا من المواضع ما ثبت مقصودا بل ضرورة ولا كلام فيه؛ ولأن لفظ الخلع يدل على الطلاق لا على الفسخ؛ لأنه مأخوذ من الخلع وهو النزع, والنزع إخراج الشيء من الشيء في اللغة قال الله عز وجل: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ} أي أخرجنا. وقال سبحانه وتعالى: {وَنَزَعَ يَدَهُ} أي: أخرجها من جيبه فكان معنى قوله: خلعها أي: أخرجها عن ملك النكاح, وهذا معنى الطلاق البائن, وفسخ النكاح رفعه من الأصل وجعله كأن لم يكن رأسا فلا يتحقق فيه معنى الإخراج, وإثبات حكم اللفظ على وجه يدل عليه اللفظ لغة أولى؛ ولأن فسخ العقد لا يكون إلا بالعوض الذي وقع عليه العقد كالإقالة في باب البيع, والخلع على ما وقع عليه النكاح وعلى غيره جائز فلم يكن فسخا. "وأما" الآية فلا حجة له فيها؛ لأن ذكر الخلع يرجع إلى الطلاقين المذكورين إلا أنه ذكرهما بغير عوض ثم ذكر بعوض, ثم ذكر سبحانه

 

ج / 3 ص -145-       وتعالى الثالثة بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} فلم تلزم الزيادة على الثلاث, بل يجب حمله على هذا لئلا يلزمنا القول بتغيير المشروع مع ما أنه قد قيل: إن معنى قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: ثلاثا وبين حكم الطلقات الثلاث بقوله سبحانه: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فلا يلزم من جعل الخلع طلاقا شرع الطلقة الرابعة والله عز وجل أعلم. وأما بيان كيفية هذا النوع فنقول له كيفيتان: إحداهما أنه طلاق بائن؛ لأنه من كنايات الطلاق, وإنها بوائن عندنا؛ ولأنه طلاق بعوض, وقد ملك الزوج العوض بقبولها فلا بد وأن تملك هي نفسها تحقيقا للمعاوضة, ولا تملك نفسها إلا بالبائن فيكون طلاقا بائنا؛ ولأنها إنما بذلت العوض لتخليص نفسها عن حبالة الزوج ولا تتخلص إلا بالبائن؛ لأن الزوج يراجعها في الطلاق الرجعي فلا تتخلص ويذهب مالها بغير شيء وهذا لا يجوز فكان الواقع بائنا. والثانية أنه من جانب الزوج يمين وتعليق الطلاق بشرط وهو قبولها العوض ومن جانبها معاوضة المال وهو تمليك المال بعوض حتى لو ابتدأ الزوج الخلع فقال: خالعتك على ألف درهم لا يملك الزوج الرجوع عنه ولا فسخه ولا نهي المرأة عن القبول, ولا يبطل بقيامه عن المجلس قبل قبولها ولا بشرط حضور المرأة بل يتوقف على ما وراء المجلس حتى لو كانت غائبة فبلغها فلها القبول, لكن في مجلسها؛ لأنه في جانبها معاوضة لما نذكر, وله أن يعلقه بشرط ويضيفه إلى وقت نحو أن يقول: إذا قدم زيد فقد خالعتك على ألف درهم أو يقول: خالعتك على ألف درهم غدا أو رأس شهر كذا. والقبول إليها بعد قدوم زيد وبعد مجيء الوقت حتى لو قبلت قبل ذلك لا يصح؛ لأن التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت تطليق عند وجود الشرط والوقت, فكان قبولها قبل ذلك هدرا, ولو شرط الخيار لنفسه بأن قال: خالعتك على ألف درهم على أني بالخيار ثلاثة أيام لم يصح الشرط ويصح الخلع إذا قبلت, وإن كان الابتداء من المرأة بأن قالت: اختلعت نفسي منك بألف درهم فلها أن ترجع عنه قبل قبول الزوج ويبطل بقيامها عن المجلس وبقيامه أيضا, ولا يقف على ما وراء المجلس بأن كان الزوج غائبا حتى لو بلغه وقبل لم يصح, ولا يتعلق بشرط ولا ينضاف إلى وقت, ولو شرط الخيار لها بأن قال: خالعتك على ألف درهم على أنك بالخيار ثلاثة أيام, فقبلت جاز الشرط عند أبي حنيفة, وثبت لها الخيار حتى إنها إذا اختارت في المدة وقع الطلاق ووجب المال, وإن ردت لا يقع الطلاق ولا يلزمها المال, وعند أبي يوسف ومحمد شرط الخيار باطل, والطلاق واقع والمال لازم. وإنما اختلف الجانبان في كيفية هذا النوع لأنه طلاق عندنا, ومعلوم أن المرأة لا تملك الطلاق, بل هو ملك الزوج لا ملك المرأة, فإنما يقع بقول الزوج وهو قوله: خالعتك فكان ذلك منه تطليقا إلا أنه علقه بالشرط, والطلاق يحتمل التعليق بالشرط, والإضافة إلى الوقت لا تحتمل الرجوع والفسخ ولا يتقيد بالمجلس ويقف الغائب عن المجلس ولا يحتمل شرط الخيار, بل يبطل الشرط ويصح الطلاق. وأما في جانبها فإنه معاوضة المال؛ لأنه تمليك المال بعوض, وهذا معنى معاوضة المال فتراعى فيه أحكام معاوضة المال كالبيع ونحوه وما ذكرنا من أحكامها, إلا أن أبا يوسف ومحمدا يقولان في مسألة الخيار: إن الخيار إنما شرع للفسخ, والخلع لا يحتمل الفسخ؛ لأنه طلاق عندنا, وجواب أبي حنيفة عن هذا أن يحمل الخيار في منع انعقاد العقد في حق الحكم على أصل أصحابنا فلم يكن العقد منعقدا في حق الحكم للحال, بل هو موقوف في علمنا إلى وقت سقوط الخيار فحينئذ يعلم على ما عرف في مسائل البيوع والله الموفق. وأما ركنه فهو الإيجاب والقبول؛ لأنه عقد على الطلاق بعوض فلا تقع الفرقة, ولا يستحق العوض بدون القبول بخلاف النوع الأول فإنه إذا قال: خالعتك ولم يذكر العوض ونوى الطلاق فإنه يقع الطلاق عليها, سواء قبلت أو لم تقبل؛ لأن ذلك طلاق بغير عوض فلا يفتقر إلى القبول وحضرة السلطان ليست بشرط لجواز الخلع عند عامة العلماء فيجوز عند غير السلطان وروي عن الحسن وابن سيرين أنه لا يجوز إلا عند السلطان, والصحيح قول العامة لما روي أن عمر وعثمان وعبد الله بن عمر رضي الله عنهم جوزوا الخلع بدون السلطان, ولأن النكاح جائز عند غير السلطان فكذا الخلع. ثم الخلع ينعقد بلفظين يعبر بهما عن الماضي في اللغة وهل ينعقد بلفظين يعبر بأحدهما عن المستقبل وهو الأمر والاستفهام؟ فجملة الكلام فيه أن العقد لا يخلو إما أن يكون بلفظة الخلع "وأما" أن يكون بلفظة البيع. والشراء وكل ذلك

 

ج / 3 ص -146-       لا يخلو إما أن يكون بصيغة الأمر أو بصيغة الاستفهام فإن كان بلفظة الخلع على صيغة الأمر يتم. إذا كان البدل معلوما مذكورا بلا خلاف بأن قال لها: اخلعي نفسك مني بألف درهم فتقول: خلعت وإن لم يكن البدل مذكورا من جهة الزوج بأن قال لها: اخلعي نفسك مني فقالت: خلعت بألف درهم لا يتم الخلع حتى يقول الزوج خلعت, والفرق أن الأمر بالخلع ببدل متقوم توكيل لها. والواحد يتولى الخلع من الجانبين وإن كان هذا النوع معاوضة والواحد لا يتولى عقد المعاوضة من الجانبين كالبيع؛ لأن الامتناع للتنافي في الحقوق المتعلقة ولا تنافي ههنا؛ لأن الحقوق في باب الخلع ترجع إلى الوكيل؛ ولهذا جاز أن يكون الواحد وكيلا من الجانبين في باب النكاح وفي المسألة الأولى لا يمكن جعل الأمر بالخلع توكيلا لجهالة البدل فلم يصح التوكيل فلو تم العقد بالواحد لصار الواحد مستزيدا ومستنقصا وهذا لا يجوز, وإن كان بصيغة الاستفهام بأن قال الزوج لها: أخلعت نفسك منى بألف درهم؟ فقالت: خلعت, اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يتم العقد. وقال بعضهم: لا يتم ما لم يقبل الزوج وبعضهم فصل فقال إن نوى به التحقيق يتم وإن نوى به السوم لا يتم؛ لأن قوله: أخلعت نفسك مني؟ يحتمل السوم, بل ظاهره السوم؛ لأن معناه أطلب منك أن تخلعي نفسك منى فلا يصرف إلى التحقيق إلا بالنية فإذا نوى يصير بمعنى التوكيل والأمر وإن كان بلفظ البيع والشراء بأن قال الزوج لها: اشتري نفسك مني؛ فإن ذكر بدلا معلوما بأن قال: بألف درهم ونحو ذلك فقالت اشتريت, اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يتم العقد. وقال بعضهم: لا يتم ولا يقع الطلاق ما لم يقل الزوج بعت والأول أصح؛ لأنه إذا ذكر بدلا معلوما صح الأمر والتوكيل والواحد يصلح وكيلا من الجانبين في الخلع لما بينا. وكذا إذا قال لها بالفارسية: خويشتن أزمن نجر بهزاردم يابكابين وهر نيه وعدت له واجب شودا ازبس طلاق فقالت: خريدم فهو على هذا, وإن لم يذكر البدل بأن قال لها: اشتري نفسك مني فقالت اشتريت لا يتم الخلع ولا يقع الطلاق ما لم يقل الزوج بعت, وكذلك إذا قال بالفارسية: خويشتن ارمننجر فقالت: خريدم ولم يقل الزوج فروختم لا يتم الخلع ولا تطلق حتى يقول الزوج فروختم فرق بين هذا وبين ما إذا قال لها بلفظة الخلع: اخلعي نفسك منى ونوى الطلاق فقالت: خلعت أنها لا تطلق؛ لأن قوله: لها اخلعي مع نية الطلاق أمر لها بالطلاق بلفظة الخلع وإنها تملك الطلاق بأمر الزوج وتوكيله فيصح التوكيل والأمر فيتولى الخلع من الجانبين وقوله لها: اشتري نفسك خويشتن ازمننجر أمر بالخلع بعوض, والعوض غير مقدر فلم يصح الأمر. وإن كان بلفظ الاستفهام بأن قال لها: ابتعت نفسك مني ؟, فإن ذكر بدلا معلوما بأن قال: بألف درهم أو قال: بمهرك ونفقة عدتك فقالت: ابتعت اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يتم العقد. وقال بعضهم: لا يتم ولا يقع الطلاق ما لم يقل الزوج بعت, وبه أخذ الفقيه أبو الليث وقال أبو بكر الإسكاف: يتم ويقع الطلاق. وقال بعضهم: لا يتم إلا إذا أراد به التحقيق دون المساومة على ما ذكرنا في لفظ العربية, والفرق بين الاستفهام والأمر على نحو ما بينا أنها بالأمر صارت وكيلة إذ الأمر بالخلع توكيل به إذا كان البدل مقدرا والواحد يصلح وكيلا من الجانبين في الخلع ولم يوجد الأمر ههنا فلم يوجد التوكيل فيبقى الشخص الواحد في عقد المعاوضة مستزيدا ومستنقصا, وهذا لا يجوز وإن لم يذكر البدل بأن قال لها: ابتعت نفسك مني؟ فقالت: ابتعت لا يتم ما لم يقل الزوج بعت؛ لأنه لا يتم في الأمر فلأن لا يتم في الاستفهام أولى, وسواء كان القبول منها أو من أجنبي بعد أن كان من أهل القبول لأنها لو قبلت بنفسها يلزمها البدل من غير أن تملك بمقابلته شيئا بخلاف ما إذا اشترى لإنسان شيئا, على أن البدل عليه إن ذلك لا يجوز؛ لأن هناك الأجنبي ليس في معنى المشتري؛ لأن المشتري يملك بمقابلة البدل شيئا والأجنبي لا, فلا يجوز إيجابه على من لا يملك بمقابلته شيئا, والحاصل أن الأجنبي إذا قال للزوج اخلع امرأتك على أني ضامن لك ألفا أو قال على ألف هو علي, أو قال على ألفي هذه, أو عبدي هذا, أو على هذه الألف أو على هذا العبد ففعل صح الخلع واستحق المال, ولو قال: على ألف درهم ولم يزد عليه وقف على قبول المرأة. ولو خلع ابنته وهي صغيرة على ما لها ذكر في الجامع الصغير أنه لا يجوز ولم يبين أنه لا يجوز الخلع رأسا أو لا يجب البدل على الصغيرة واختلف مشايخنا منهم من قال: معناه أنه لا يجب عليها البدل فأما

 

ج / 3 ص -147-       الطلاق فواقع. ومنهم من قال: معناه أنه لا يقع الطلاق ولا يجب المال عليها وذكر الطحاوي في اختلاف العلماء أنه غير واقع في الخلاف ابتداء أنه لا يقع الطلاق عند أصحابنا. وقيل في المسألة: روايتان والحاصل أنه لا خلاف في أنه لا يجب المال عليها؛ لأن الخلع في جانبها معاوضة المال بما ليس بمال والصغيرة تتضرر بها, وتصرف الإضرار لا يدخل تحت ولاية الولي كالهبة ولا الصدقة ونحو ذلك, وإنما الاختلاف في وقوع الطلاق. وجه القول الأول أن صحة الخلع لا تقف على وجوب العوض فإن الخلع يصح على ما لا يصلح عوضا كالميتة والدم والخنزير والخمر ونحو ذلك, فلم يكن من ضرورة عدم وجوب المال عدم وقوع الطلاق. وجه الثاني أن الخلع متى وقع على بدل هو مال يتعلق وقوع الطلاق بقبول يجب به المال. وقبول الأب لا يجب به المال؛ لأنه ليس له ولاية القبول على الصغيرة لكونه ضررا بها فإن خلعها الأب على ألف على أنه ضامن فالخلع واقع, والألف عليه, لما ذكرنا أن من شرط صحة الخلع في حق وقوع الطلاق ووجوب البدل قبول ما يصلح بدلا ممن هو أهل القبول, والمرأة والأب والأجنبي في هذا سواء لما بينا. وأما شرط وجوب العوض وهو المسمى في عقد الخلع له شرطان: أحدهما قبول العوض؛ لأن قبول العوض كما هو شرط وقوع الفرقة من جانبه فهو شرط لزوم العوض من جانبها لما ذكرنا, سواء كان العوض المذكور في الخلع من مهرها الذي استحقته بعقد النكاح من المسمى ومهر المثل أو مالا آخر وهو المسمى بالجعل فهذا الشرط يعم العوضين جميعا, والثاني يخص الجعل؛ لأن ما يصلح عوضا في النكاح يصلح عوضا في الخلع من طريق الأولى وليس كل ما يصلح عوضا في الخلع يصلح عوضا في النكاح؛ لأن باب الخلع أوسع إذ هو يتحمل جهالة لا يتحملها النكاح على ما نذكر, لذلك اختص وجوب المسمى فيه بشرط لم يشترط في النكاح لوجوب المسمى وهو تسمية مال متقوم موجود وقت الخلع معلوم أو مجهول جهالة قليلة أو كثيرة, وإذا لم تكن متفاحشة فإن وجد هذا الشرط وجب العمل وإلا فلا يجب. وهل يجب عليها رد ما استحقته من المسمى أو مهر المثل بعقد النكاح؟ ينظر إن كان المسمى مالا متقوما يجب وإن كان معدوما وقت الخلع أو مجهولا جهالة متفاحشة كجهالة الجنس وما يجري مجراها, وإن لم يكن المسمى مالا متقوما فلا شيء عليها أصلا وتقع الفرقة. الجعل في الخلع: إن كان مما يصح تسميته مهرا في النكاح فحكمه حكم المهر أعني أن المسمى في النكاح إن كان مما يجبر الزوج على تسليم عينه إلى المرأة ففي الخلع تجبر المرأة على تسليم عينه إلى الزوج. وإن كان مما يتخير الزوج بين تسليم الوسط منه وبين تسليم قيمته ففي الخلع تتخير المرأة, كالعبد والفرس ونحو ذلك؛ لأن المسمى في العقدين جميعا عوض عن ملك النكاح إلا أنه في أحدهما عوض عنه ثبوتا وفي الآخر سقوطا فيعتبر أحد العقدين بالآخر في هذا الحكم, والقيمة فيما يوجب الوسط منه أصل؛ لأن كونه وسطا يعرف بها على ما مر في كتاب النكاح. وبيان هذه الشرائط في مسائل إذا خلع امرأته على ميتة أو دم أو خمر أو خنزير وقعت الفرقة ولا شيء له على المرأة من الجعل, ولا يرد من مهرها شيئا. أما وقوع الفرقة فلأن الخلع بعوض معلق بقبول المرأة ما جعل عوضا ذكرا وتسمية, سواء كان المسمى مما يصلح عوضا أو لا؛ لأنه من جانب الزوج تعليق الطلاق بشرط القبول وقد قبلت فصار كأنه صرح بتعليق الطلاق بقبولها العوض المذكور فقبلت, ولو كان كذلك لوقع الطلاق إذا قبلت كذا هذا. وأما عدم وجوب شيء له على المرأة؛ فلأن الخلع طلاق, والطلاق قد يكون بعوض وقد يكون بغير عوض, والميتة والدم ليست بمال في حق أحد فلا تصلح عوضا, والخمر والخنزير لا قيمة لهما في حق المسلمين فلم يصلحا عوضا في حقهم فلم تصح تسمية شيء من ذلك فإذا خلعها عليه فقد رضي بالفرقة بغير عوض فلا يلزمها شيء, ولأن الخلع من جانب الزوج إسقاط الملك, وإسقاط الملك قد يكون بعوض وقد يكون بغير عوض كالإعتاق, فإذا ذكر ما لا يصلح عوضا أصلا أو ما لا يصلح عوضا في حق المسلمين فقد رضي بالإسقاط بغير عوض فلا يستحق عليها شيئا, ولأن منافع البضع عند الخروج عن ملك الزوج غير متقومة؛ لأن المنافع في الأصل ليست بأموال متقومة إلا أنها جعلت متقومة عند المقابلة بالمال المتقوم فعند المقابلة بما ليس بمال متقوم تبقى على الأصل؛ ولأنها إنما

 

ج / 3 ص -148-       أخذت حكم التقوم في باب النكاح عند الدخول في ملك الزوج احتراما لها تعظيما للآدمي لكونها سببا لحصوله فجعلت متقومة شرعا صيانة لها عن الابتذال, والحاجة إلى الصيانة عند الدخول في الملك لا عند الخروج عن الملك؛ لأن بالخروج يزول الابتذال فلا حاجة إلى التقوم فبقيت على الأصل, وجعل الفرق بما ذكرنا بين الخلع على هذه الأشياء وبين النكاح عليها؛ لأن هناك يجب مهر المثل؛ لأن النكاح لم يشرع إلا بعوض لما ذكرنا في مسائل النكاح والمذكور لا يصلح عوضا فالتحق ذلك بالعدم ووجب العوض الأصلي وهو مهر المثل. فأما الخلع فالعوض فيه غير لازم, بل هو مشروع بعوض وبغير عوض فلم يكن من ضرورة صحته لزوم العوض. وكذا النكاح تمليك البضع بعوض, والخلع إسقاط الملك بعوض وبغير عوض. وكذا منافع البضع عند الدخول أعطي لها حكم التقوم شرعا لكونها وسيلة إلى حصول الآدمي المكرم, والخلع إبطال معنى التوسل فلا يظهر معنى التقوم فيه. ولو خلعها على شيء أشارت إليه مجهول فقالت: على ما في بطون غنمي أو نعمي من ولد أو على ما في ضروعها من لبن أو على ما في بطن جاريتي من ولد أو على ما في نخلي أو شجري من ثمر؛ فإن كان هناك شيء فهو له عندنا. وقال الشافعي: لا شيء له وجه قوله أن الجنين في البطن واللبن في الضرع لا يصلح عوضا في الخلع؛ لأنه غير مقدور التسليم ولهذا لم يصح عوضا في النكاح وكذا في الخلع. والدليل عليه أنه لا يجوز بيعه والأصل عنده أن كل ما لا يجوز بيعه لا يصلح عوضا في الخلع. "ولنا" الفرق بين الخلع وبين النكاح وهو أن باب الخلع أوسع من باب النكاح ألا ترى لو خلعها على عبد له آبق صحت التسمية؟ ولو زوجها عليه لم تصح التسمية فتصح إضافته إلى ما هو مال متقوم موجود كما تصح إضافته إلى العبد الآبق, بل أولى لأن ذاك له خطر الوجود والعدم وهذا موجود, وبهذا تبين أن القدرة على تسليم البدل ليست بشرط في الخلع فإنه جائز على العبد الآبق. والقدرة على تسليمه غير ثابتة بخلاف البيع فإن القدرة على تسليم المبيع شرط. وإن لم يكن هناك شيء ردت عليه ما استحقت بعقد النكاح؛ لأنها لما سمت مالا متقوما فقد غرته بتسمية المال المتقوم فصارت ملتزمة تسليم مال متقوم ضامنة له ذلك, والزوج لم يرض بزوال ملكه إلا بعوض هو مال متقوم, وقد تعذر عليه الوصول إليه لعدمه, ولا سبيل إلى الرجوع إلى القيمة المذكورة لجهالتها ولا إلى قيمة البضع لما أنه لا قيمة للبضع عند الخروج عن الملك لما ذكرنا؛ فوجب الرجوع إلى ما قوم البضع على الزوج عند الدخول وهو ما استحقته المرأة من المسمى أو مهر المثل, وكذلك إذا قالت: علي ما في بيتي من متاع إنه إن كان هناك متاع فهو له وإن لم يكن يرجع عليها بالمهر؛ لأنها غرته بتسمية مال متقوم فيلزمها ضمان الغرور وهو رد المهر المستحق لما قلنا, ولو قالت: علي ما في بطن غنمي أو ضروعها أو علي ما في نخلي أو شجري ولم تزد على ذلك؛ فإن كان هناك شيء أخذه؛ لأن التسمية وقعت على مال متقوم موجود لكنه مجهول, لكن الجهالة ليست بمتفاحشة فلا تمنع استحقاق الشيء, ولو لم يكن هناك شيء فلا شيء له لانعدام تسمية مال متقوم؛ لأنها ذكرت ما في بطنها وقد يكون في بطنها مال متقوم وقد لا يكون فلم تصر بذكره غارة لزوجها بل الزوج هو الذي غر نفسه, والرجوع بحكم الغرور ولا غرور منها فلا يرجع عليها بشيء, وإن قالت: اختلعت منك على ما تلد غنمي أو تحلب أو بثمر نخلي أو شجري أو على ما أرثه العام أو أكسبه أو ما أستغل من عقاري, فقبل الزوج وقعت الفرقة وعليها أن ترد ما استحقت من المهر وإن ولدت الغنم وأثمر النخل والشجر. أما وقوع الفرقة فلما ذكرنا أن ذلك يقف على قبول ما يصلح عوضا صحت تسميته عوضا "وأما" وجوب رد المستحق؛ فلأنه لا سبيل إلى استحقاق المسمى؛ لكونه معدوما وقت الخلع ويجوز أن يوجد ويجوز أن لا يوجد, واستحقاق المعدوم الذي له خطر الوجود والعدم في عقد المعاوضة لم يرد الشرع به وورد بتحمل الجهالة إذا لم يختلف المعقود في قدر ما يتحمل لاختلافهما في احتمال السعة والضيق, ولا سبيل إلى إهدار التسمية رأسا؛ لأنها سمت مالا متقوما فلزم الرجوع إلى المهر المستحق بعقد النكاح, ولو قالت: اخلعني على ما في يدي من دراهم أو دنانير أو فلوس فإن كان في يدها شيء من ذلك فهو له قل أو كثر؛ لأنها سمت مالا متقوما, والمسمى موجود فصحت التسمية وإن كان المسمى مجهول القيمة وله ما في يدها من الجنس المذكور قل أو كثر؛ لأنه ذكر

 

ج / 3 ص -149-       باسم الجمع فيتناول الثلاث فصاعدا وإن لم يكن في يدها شيء أو كان أقل من ثلاثة فعليها من كل صنف سمته ثلاثة وزنا في الدراهم والدنانير وعددا في الفلوس لوجود تسمية المال المتقوم؛ لأن الدراهم والدنانير والفلوس أموال متقومة, والمذكور بلفظ الجمع. وأقل الجمع الصحيح ثلاثة فينصرف إليها ويتعين المسمى كما في الوصية بالدراهم, بخلاف النكاح والعتق فإنه إذا تزوج امرأة على ما في يده من الدراهم وليس في يده شيء يجب عليه مهر المثل, ولو أعتق عبده على ما في يده من الدراهم وليس في يده شيء يجب عليه قيمة نفسه؛ لأن منافع البضع ليست بمتقومة عند الخروج عن الملك فلا يشترط كون المسمى معلوما, واعتبر المسمى مع جهالته في نفسه وحمل على المتيقن بخلاف النكاح؛ لأن منافع البضع عند الدخول في الملك متقومة. وكذا العبد متقوم في نفسه فلا ضرورة إلى اعتبار المسمى المجهول, ولو قالت: على ما في يدي, ولم تزد عليه فإن كان في يدها شيء فهو له؛ لأن التسمية وقعت على مال متقوم موجود فصحت واستحق عليها ما في يدها قل أو كثر؛ لأن كلمة ما عامة فيما لا يعلم. وإن لم يكن في يدها شيء فلا شيء؛ لأنه إذا لم يكن في يدها شيء فلم توجد تسمية مال متقوم؛ لأنها سمت ما في يدها وقد يكون في يدها شيء متقوم وقد لا يكون فلم يوجد شرط وجوب شيء فلا يلزمها شيء. ولو اختلعت الأمة من زوجها على جعل بغير أمر مولاها وقع الطلاق ولا شيء عليها من الجعل حتى تعتق أما وقوع الطلاق؛ فلأنه يقف على قبول ما جعل عوضا وقد وجد. وأما وجوب الجعل بعد العتق؛ فلأنها سمت مالا متقوما موجودا وهو معلوم أيضا وهي من أهل التسمية فصحت التسمية إلا أنه تعذر الوجوب للحال لحق المولى فيتأخر إلى ما بعد العتق, وإن كان بإذن المولى لزمها الجعل وتباع فيه؛ لأنه دين ظهر في حق المولى فتباع فيه كسائر الديون, وكذلك المكاتبة إذا اختلعت من زوجها على جعل؛ يجوز الخلع ويقع الطلاق ويتأخر الجعل إلى ما بعد العتاق وإن أذن المولى؛ لأن رقبتها لا تحتمل البيع فلا تحتمل تعلق الدين بها. ولو خلع امرأته على رضاع ابنه منها سنتين جاز الخلع وعليها أن ترضعه سنتين فإن مات ابنها قبل أن ترضعه شيئا يرجع عليها بقيمة الرضاع للمدة, وإن مات في بعض المدة رجع عليها بقيمة ما بقي؛ لأن الرضاع مما يصح الاستئجار عليه قال الله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} فيصح أن يجعل جعلا في الخلع, وهلاك الولد قبل الرضاع كهلاك عوض اختلعت عليه فهلك في يدها قبل التسليم فيرجع إلى قيمته, ولو شرط عليها نفقة الولد بعد الحولين وضرب لذلك أجلا أربع سنين أو ثلاث سنين فذلك باطل, وإن هلك الولد قبل تمام الرضاع فلا شيء عليها؛ لأن النفقة ليس لها مقدار معلوم فكانت الجهالة متفاحشة فلا يلزمها شيء ولكن الطلاق واقع لما ذكرنا. ولو اختلعت في مرضها فهو من الثلث؛ لأنها متبرعة في قبول البدل فيعتبر من الثلث فإن ماتت في العدة فلها الأقل من ذلك ومن ميراثه منها. ولو خالعها على حكمه أو حكمها أو حكم أجنبي فعليها المهر الذي استحقته بعد النكاح؛ لأن الخلع على الحكم خلع بتسمية فاسدة لتفاحش الجهالة والخطر أيضا فلم تصح التسمية فلا تستحق المسمى فيرجع عليها بالمهر؛ لأن الخلع على الحكم خلع على ما يقع به الحكم ولا يقع إلا بمال متقوم عادة, فكان الخلع على الحكم خلعا على مال متقوم فقد غرته بتسمية مال متقوم إلا أنه لا سبيل إلى استحقاق ما يقع به الحكم لكونه مجهولا جهالة متفاحشة كجهالة الجنس فترجع إلى ما استحقته من المهر ثم ينظر إن كان الحكم إلى الزوج فإن حكم بمقدار المهر تجبر المرأة على تسليم ذلك؛ لأنه حكم بالقدر المستحق. وكذلك إن حكم بأقل من مقدار المهر لأنه حط بعضه فهو تملك حط بعضه لأنه تملك حط الكل فالبعض أولى, وإن حكم بأكثر من المهر لم تلزمها الزيادة؛ لأنه حكم لنفسه بأكثر من القدر المستحق فلا يصح إلا برضاها, وإن كان الحكم إليها فإن حكمت بقدر المهر جاز ذلك؛ لأنها حكمت بالقدر المستحق وكذلك إن حكمت بأكثر من قدر المهر؛ لأنها حكمت لنفسها بالزيادة وهي تملك بذل الزيادة وإن حكمت بأقل من المهر لم يجز إلا برضا الزوج؛ لأنها حطت بعض ما عليها وهي لا تملك حط ما عليها, وإن كان الحكم إلى الأجنبي فإن حكم بقدر المهر جاز وإن حكم بزيادة أو نقصان لم تجز الزيادة إلا برضا المرأة والنقصان إلا برضا الزوج؛ لأن في الزيادة إبطال حق المرأة وفي النقصان إبطال حق الزوج فلا يجوز من غير رضا صاحب الحق ولو

 

ج / 3 ص -150-       اختلفا في جنس ما وقع عليه الطلاق أو نوعه أو قدره فالقول قول المرأة وعلى الزوج البينة,؛ لأن قبول البدل إلى المرأة, والزوج يدعي عليها شيئا وهي تنكر فكان القول قولها. ولو قال لها: طلقتك أمس على ألف درهم أو بألف درهم فلم تقبلي, فقالت: لا بل كنت قبلت فالقول قول الزوج فرق بين هذا وبين ما إذا قال لإنسان: بعتك هذا العبد أمس بألف درهم فلم تقبل فقال: لا, بل قبلت أن القول قول المشتري, ووجه الفرق أن الزوج في مسألة الطلاق لم يصر مناقضا في قوله فلم تقبلي؛ لأن قول الرجل لامرأته طلقتك أمس على ألف يسمى طلاقا على ألف قبلته المرأة أو لم تقبل فلم يكن الزوج في قوله فلم تقبلي مناقضا بخلاف البيع؛ لأن الإيجاب بدون القبول لا يسمى بيعا فكان الإقرار بالإيجاب إقرارا بالقبول فصار البائع مناقضا في قوله فلم تقبل, ولأن المرأة في باب الطلاق تدعي وقوع الطلاق؛ لأنها تدعي وجود شرط الوقوع, والزوج ينكر الوقوع لإنكاره شرط الوقوع فكان القول قول المنكر والله الموفق. وأما بيان قدر ما يحل للزوج من أخذ العوض وما لا يحل فجملة الكلام فيه أن النشوز لا يخلو إما أن كان من قبل الزوج "وأما" إن كان من قبل المرأة فإن كان من قبل الزوج فلا يحل له أخذ شيء من العوض على المخلع لقوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً} نهى عن أخذ شيء مما آتاها من المهر وأكد النهي بقوله: {أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً}, وقوله: {وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} أي: لا تضيقوا عليهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: إلا أن ينشزن؛ نهى الأزواج عن أخذ شيء مما أعطوهن واستثنى حال نشوزهن. وحكم المستثنى يخالف حكم المستثنى منه فيقتضي حرمة أخذ شيء مما أعطوهن عند عدم النشوز منهن, وهذا في حكم الديانة, فإن أخذ جاز ذلك في الحكم ولزم حتى لا يملك استرداده؛ لأن الزوج أسقط ملكه عنها بعوض رضيت به, والزوج من أهل الإسقاط. والمرأة من أهل المعاوضة والرضا فيجوز في الحكم والقضاء, وإن كان النشوز من قبلها فلا بأس بأن يأخذ منها شيئا قدر المهر لقوله تعالى: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي: إلا أن ينشزن, والاستثناء من النهي إباحة من حيث الظاهر, وقوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}؛ قيل أي: لا جناح على الزوج في الأخذ وعلى المرأة في الإعطاء. وأما الزيادة على قدر المهر ففيها روايتان ذكر في كتاب الطلاق أنها مكروهة وهكذا روي عن علي رضي الله عنه أنه كره للزوج أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها وهو قول الحسن البصري وسعيد بن المسيب وسعيد بن جبير وطاوس. وذكر في الجامع الصغير أنها غير مكروهة وهو عثمان البتي وبه أخذ الشافعي. وجه هذه الرواية ظاهر قوله تعالى: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}, رفع الجناح عنهما في الأخذ والعطاء من الفداء من غير فصل بين ما إذا كان مهر المثل أو زيادة عليه, فيجب العمل بإطلاق النص, ولأنها أعطت مال نفسها بطيبة من نفسها وقد قال الله تعالى: {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً}, بخلاف ما إذا كان النشوز من قبله؛ لأن النشوز إذا كان من قبل الزوج كانت هي مجبورة في دفع المال؛ لأن الظاهر أنها مع رغبتها في الزوج لا تعطي إذا كانت مضطرة من جهته بأسباب أو مغترة بأنواع التغرير والتزوير فكره الأخذ. وجه رواية الأصل: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّه} إلى قوله: {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} نهى عن أخذ شيء مما أعطاها من المهر واستثنى القدر الذي أعطاها من المهر عند خوفهما ترك إقامة حدود الله على ما نذكر, والنهي عن أخذ شيء من المهر نهي عن أخذ الزيادة على المهر من طريق الأولى كالنهي عن التأفيف أنه يكون نهيا عن الضرب الذي هو فوقه بالطريق الأولى. وروي أن "رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال لامرأة ثابت بن قيس بن شماس: أتردين عليه حديقته؟ فقالت: نعم وزيادة قال: أما الزيادة فلا" نهى عن الزيادة مع كون النشوز من قبلها وبه تبين أن المراد من قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ} قدر المهر لا الزيادة عليه, وإن كان ظاهره عاما عرفنا ببيان النبي صلى الله عليه وسلم الذي هو وحي غير متلو, والدليل عليه أيضا قوله تعالى: في صدر الآية: {وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً} ذكر في أول الآية ما آتاها فكان المذكور في آخرها وهو قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ} مردودا إلى أولها فكان المراد من قوله: {فِيمَا افْتَدَتْ} أي: بما آتاها

 

ج / 3 ص -151-       ونحن به نقول: إنه يحل له قدر ما آتاها. "وأما" قوله: أنها أعطته مال نفسها بطيبة من نفسها فنعم لكن ذاك دليل الجواز, وبه نقول: إن الزيادة جائزة في الحكم, والقضاء, ولأن الخلع من جانبها معاوضة حالة عن الطلاق, وإسقاط ما عليها من الملك, ودفع المال عوضا عما ليس بمال جائز في الحكم إذا كان ذلك مما يرغب فيه ألا ترى أنه جاز العتق على قليل المال, وكثيره, وأخذ المال بدلا عن إسقاط الملك, والرق, وكذلك الصلح عن دم العمد, وكذلك النكاح لما جاز على أكثر من مهر مثلها, وهو بدل البضع فكذا جاز أن تضمنه المرأة بأكثر من مهر مثلها؛ لأنه بدل من سلامة البضع في الحالين جميعا, إلا أنه نهى عن الزيادة على قدر المهر لا لمعنى في نفس العقد بل المعنى في غيره, وهو شبهة الربا, والإضرار بها, ولا يوجد ذلك في قدر المهر فحل له أخذ قدر المهر, والله أعلم.

                                                             "فصل":
وأما حكم الخلع فنقول, وبالله التوفيق: يتعلق بالخلع أحكام بعضها يعم كل طلاق بائن, وبعضها يخص الخلع أما الذي يعم كل طلاق بائن فنذكره في بيان حكم الطلاق إن شاء الله تعالى, وأما الذي يخص الخلع؛ فالخلع لا يخلو أما إن كان بغير بدل. وأما إن كان ببدل فإن كان بغير بدل بأن قال: خالعتك, ونوى الطلاق فحكمه أنه يقع الطلاق, ولا يسقط شيء من المهر, وإن كان ببدل فإن كان البدل هو المهر بأن خلعها على المهر فحكمه أن المهر إن كان غير مقبوض أنه يسقط المهر عن الزوج, وتسقط عنه النفقة الماضية, وإن كان مقبوضا فعليها أن ترده على الزوج, وإن كان البدل مالا آخر سوى المهر فحكمه حكم سقوط كل حكم, وجب بالنكاح قبل الخلع من المهر, والنفقة الماضية, ووجوب البدل حتى لو خلعها على عبد أو على مائة درهم, ولم يذكر شيئا آخر فله ذلك ثم إن كان لم يعطها المهر برئ, ولم يكن لها عليه شيء سواء كان لم يدخل بها أو كان قد دخل بها, وإن كان قد أعطاها المهر لم يرجع عليها بشيء سواء كان بعد الدخول بها أو قبل الدخول بها, وكذلك إذا بارأها على عبد أو على مائة درهم فهو مثل الخلع في جميع ما وصفنا, وهذا قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف في المبارأة مثل قول أبي حنيفة. وقال في الخلع إنه لا يسقط به إلا ما سميا. وقال محمد لا يسقط في الخلع والمبارأة جميعا إلا ما سميا حتى إنه لو طلقها على مائة درهم, ومهرها ألف درهم فإن كان المهر غير مقبوض فإنها لا ترجع عليه بشيء سواء كان الزوج لم يدخل بها أو كان قد دخل بها في قول أبي حنيفة, وله عليها مائة درهم, وعندهما إن كان قبل الدخول بها فلها أن ترجع عليه بنصف المهر, وذلك خمسمائة, وله عليها مائة درهم فيصير قدر المائة قصاصا فيرجع عليه بأربعمائة, وإن كان بعد الدخول فلها أن ترجع عليه بكل المهر إلا قدر المائة فترجع عليه بتسعمائة, وإن كان المهر مقبوضا فله عليها المائة لا غير, وليس له أن يرجع عليها بشيء من المهر سواء كان قبل الدخول بها أو بعده في قول أبي حنيفة, وعندهما إن كان قبل الدخول يرجع إلى الزوج عليها بنصف المهر, وإن كان بعده لا يرجع عليها بشيء, وهكذا الجواب في المبارأة عند محمد, والحاصل أن ههنا ثلاث مسائل: الخلع, والمبارأة والمبارأة والطلاق على مال, ولا خلاف بينهم في الطلاق على مال أنه لا يبرأ به من سائر الحقوق التي وجبت لها بسبب النكاح, ولا خلاف أيضا في سائر الديون التي وجبت لا بسبب النكاح. وأنها لا تسقط بهذه التصرفات, وإنما الخلاف بينهم في الخلع, والمبارأة, واتفق جواب أبي حنيفة, وأبي يوسف في المبارأة, واختلف جوابهما في الخلع, واتفق جواب أبي يوسف, ومحمد في الخلع, واختلف في المبارأة فأبو يوسف مع أبي حنيفة في المبارأة, ومع محمد في الخلع. وجه قول محمد إن الخلع طلاق بعوض فأشبه الطلاق على مال, والجامع بينهما أن حق الإنسان لا يسقط من غير إسقاطه, ولم يوجد في الموضعين إلا إسقاط ما سميا, فلا يسقط ما لم تجز به التسمية, ولهذا لم يسقط به سائر الديون التي لم تجب بسبب النكاح. وكذا لا تسقط نفقة العدة إلا بالتسمية, وإن كانت من أحكام النكاح كذا هذا وجه قول أبي يوسف, وهو الفرق بين الخلع, والمبارأة أن المبارأة صريح في إيجاب البراءة؛ لأنها إثبات البراءة نصا فيقتضي ثبوت البراءة مطلقا فيظهر في جميع الحقوق الثابتة بينهما بسبب النكاح. فأما الخلع فليس نصا في إيجاب البراءة؛ لأنه ليس في لفظه ما ينبئ عن البراءة, وإنما تثبت البراءة مقتضاه, والثابت بطريق الاقتضاء لا يكون ثابتا من جميع الوجوه فثبتت البراءة بقدر ما وقعت التسمية لا غير, ولأبي حنيفة أن الخلع في معنى المبارأة؛ لأن المبارأة مفاعلة من البراءة

 

ج / 3 ص -152-       والإبراء إسقاط فكان إسقاطا من كل واحد من الزوجين الحقوق المتعلقة بالعقد المتنازع فيه كالمتخاصمين في الديون إذا اصطلحا على مال سقط بالصلح جميع ما تنازعا كذا بالمبارأة, والخلع مأخوذ من الخلع, وهو النزع, والنزع إخراج الشيء من الشيء فمعنى قولنا خلعها أي: أخرجها من النكاح وذلك بإخراجها من سائر الأحكام بالنكاح, وذلك إنما يكون بسقوط الأحكام الثابتة بالنكاح, وهو معنى البراءة فكان الخلع في معنى البراءة. والعبرة في العقود للمعاني لا للألفاظ وقد خرج الجواب عما ذكره أبو يوسف. "وأما" قول محمد إنه لم يوجد منها إسقاط غير المسمى فنقول: إن لم يوجد نصا فقد وجد دلالة لما ذكرنا أن لفظ الخلع دليل عليه؛ ولأن قصدهما من الخلع قطع المنازعة, وإزالة الخلف بينهما, والمنازعة, والخلف إنما وقعا في حقوق النكاح, ولا تندفع المنازعة, والخلف إلا بإسقاط حقوقه فكان ذلك تسمية منها لسائر الحقوق المتعلقة بالنكاح دلالة بخلاف سائر الديون؛ لأنه لا تعلق لها بالنكاح, ولم تقع المنازعة فيها, ولا في سببها, فلا ينصرف الإسقاط إليها بخلاف الطلاق على مال؛ لأنه لا يدل على إسقاط الحقوق الواجبة بالنكاح لا نصا, ولا دلالة. "وأما" نفقة العدة؛ فلأنها لم تكن واجبة قبل الخلع, فلا يتصور إسقاطها بالخلع بخلاف النفقة الماضية؛ لأنها كانت واجبة قبل الخلع بفرض القاضي أو بالتراضي فكان الخلع إسقاطا بعد الوجوب فصح. ولو خلعها على نفقة العدة صح, ولا تجب النفقة, ولو أبرأت الزوج عن النفقة في حال قيام النكاح لا يصح الإبراء, وتجب النفقة؛ لأن النفقة في النكاح تجب شيئا فشيئا على حسب حدوث الزمان يوما فيوما فكان الإبراء عنها إبراء قبل الوجوب فلم يصح. فأما نفقة العدة فإنما تجب عند الخلع فكان الخلع على النفقة مانعا من وجوبها, ولا يصح الخلع على السكنى, والإبراء عنه؛ لأن السكنى تجب حقا لله تعالى قال الله تعالى: {وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ}, فلا يملك العبد إسقاطه, والله تعالى أعلم.

                                                                "فصل":
وأما الطلاق على مال فهو في أحكامه كالخلع؛ لأن كل واحد طلاق بعوض فيعتبر في أحدهما ما يعتبر في الآخر إلا أنهما يختلفان من وجه, وهو أن العوض إذا أبطل في الخلع بأن وقع الخلع على ما ليس بمال متقوم يبقى الطلاق بائنا, وفي الطلاق على مال إذا أبطل العوض بأن سميا ما ليس بمال متقوم فالطلاق يكون رجعيا؛ لأن الخلع كناية, والكنايات مبينات عندنا. فأما الطلاق على مال فصريح, وإنما تثبت البينونة بتسمية العوض إذا صحت التسمية فإذا لم تصح التحقت بالعدم فبقي صريح الطلاق فيكون رجعيا. ولو قال لها: أنت طالق بألف درهم فقبلت طلقت, وعليها ألف؛ لأن حرف الباء حرف إلصاق فيقتضي إلصاق البدل بالمبدل, وكذلك لو قال: أنت طالق على ألف درهم؛ لأن على كلمة شرط يقال: زرتك على أن تزورني أي: بشرط أن تزورني. وكذا قال لامرأته: أنت طالق على أن تدخلي الدار كان دخول الدار شرطا كما لو قال: إن دخلت الدار, وهي كلمة إلزام أيضا فكان هذا إيقاع الطلاق بشرط أن تعطيه الألف عقيب وقوع الطلاق, ويلزمها الألف فيقع الطلاق بقبولها, وتجب عليها الألف, ولو قال: أنت طالق, وعليك ألف درهم طلقت المرأة الرجعية, ولا شيء عليها من الألف سواء قبلت أو لم تقبل في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف, ومحمد إذا قبلت طلقت بائنة, وعليها الألف, وعلى هذا الخلاف إذا قالت المرأة لزوجها طلقني, ولك ألف درهم فطلقها أنه يقع طلقة رجعية, ولا يلزمها البدل في قول أبي حنيفة, وعندهما يقع الطلاق, وعليها الألف, وعلى هذا الخلاف إذا قال لعبده أنت حر وعليك ألف درهم أنه يعتق سواء قبل أو لم يقبل في قول أبي حنيفة, وعندهما إذا قبل يعتق, وعليه الألف. وجه قولهما أن هذه الواو واو حال فيقتضي أن وجوب الألف حال وقوع الطلاق, والعتاق؛ ولأن هذه اللفظة تستعمل في الإبدال فإن من قال لآخر: احمل هذا الشيء إلى مكان كذا, ولك درهم فحمل يستحق الأجرة كما لو قال له: احمل بدرهم, ولأبي حنيفة أن كل واحدة من الكلامين كلام تام بنفسه أعني: قوله: أنت طالق وقوله: وعليك ألف درهم؛ لأن كل واحد منهما مبتدأ, وخبر, فلا يجعل الثاني متصلا بالأول إلا لضرورة, والضرورة فيما كان الغالب فيه أن يكون بعوض كما في قوله احمل هذا إلى بيتي, ولك ألف, ولا ضرورة في الطلاق, والعتاق؛ لأن الغالب وجودهما بغير عوض, فلا يجعل الثاني متصلا بالأول من غير ضرورة. "وأما" قولهما الواو واو حال فممنوع بل واو عطف في الإخبار معناه أخبرك

 

ج / 3 ص -153-       أنك طالق, وأخبرك أن عليك ألف درهم. ولو قالت المرأة لزوجها طلقني ثلاثا على ألف درهم فطلقها ثلاثا يقع عليها ثلاث تطليقات بألف, وهذا مما لا إشكال فيه, ولو طلقها واحدة وقعت واحدة رجعية بغير شيء في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف, ومحمد يقع واحدة بائنة بثلث الألف, ولو قالت: طلقني ثلاثا بألف درهم فطلقها ثلاثا يقع ثلاثة بألف درهم؛ لا شك فيه, ولو طلقها واحدة وقعت واحدة بائنة بثلث الألف في قولهم جميعا. "وجه" قولهما أن كلمة على في المعاملات, وحرف الباء سواء يقال بعت عنك بألف, وبعت منك على ألف, ويفهم من كل واحدة منهما كون الألف بدلا. وكذا قول الرجل لغيره احمل هذا الشيء إلى بيتي على درهم وقوله: بدرهم سواء حتى يستحق البدل فيهما جميعا, والأصل أن أجزاء البدل تنقسم على أجزاء المبدل إذا كان متعددا في نفسه فتنقسم الألف على الثلاث فيقع واحدة بثلث الألف كما لو ذكرت بحرف الباء فكانت بائنة؛ لأنها طلاق بعوض, ولأبي حنيفة أن كلمة على كلمة شرط فكان وجود الطلقات الثلاث شرطا لوجوب الألف فكانت الطلقة الواحدة بعض الشرط, والحكم لا يثبت بوجود بعض الشرط فلما لم يطلقها ثلاثا لا يستحق شيئا من الألف بخلاف حرف الباء فإنه حرف مبادلة فيقتضي انقسام البدل على المبدل فتنقسم الألف على التطليقات الثلاث فكان بمقابلة كل واحدة ثلث الألف, ولا يشكل هذا القدر بما إذا قال لها: طلقي نفسك ثلاثا بألف فطلقت نفسها واحدة أنه لا يقع شيء؛ لأن الزوج لم يرض بالبينونة إلا بكل الألف, فلا يجوز وقوع البينونة ببعضها, فإذا أمرته بالطلاق فقالت: طلقني ثلاثا بألف درهم فقد سألت الزوج أن يبينها بألف وقد أبانها بأقل من ذلك فقد زادها خيرا, والإشكال أنها سألته الإبانة الغليظة بألف, ولم يأت بها بل أتى بالخفيفة, ولعل لها غرضا في الغليظة, والجواب أن غرضها في استيفاء ما لها مع حصول البينونة التي وضع لها الطلاق أشد. "وأما" قولهما إن كلمة على تستعمل في الإبدال فنعم لكن مجازا لا حقيقة, ولا تترك الحقيقة إلا لضرورة, وفي البيع, ونحوه ضرورة, ولا ضرورة في الطلاق على ما بينا على أن اعتبار الشرط يمنع الوجوب لما بينا, واعتبار البدل يوجب فيقع الشك في الوجوب, فلا يجب مع الشك ولو قالت امرأتان له طلقنا بألف درهم أو على ألف درهم فطلقهما يقع الطلاق ثلاثا عليهما بالألف, وهذا لا يشكل, ولو طلق إحداهما وقع الطلاق عليها بحصتها من الألف بالإجماع, والفرق لأبي حنيفة بين هذه المسألة, وبين مسألة الخلاف أنه لا غرض لكل واحدة من المرأتين في طلاق الأخرى فلم يعتبر معنى الشرط, وللمرأة غرض في اجتماع تطليقاتها؛ لأن ذلك أقوى للتحريم لثبوت البينونة الغليظة بها فاعتبر معنى الشرط, ولو قالت: طلقني واحدة بألف فقال: أنت طالق ثلاثا وقع الثلاث مجانا بغير شيء في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف, ومحمد: يقع ثلاث تطليقات؛ كل واحدة منها بألف, وهذه فريعة أصل ذكرناه فيما تقدم, وهو أن من أصل أبي حنيفة أن الثلاث لا تصلح جوابا للواحدة فإذا قال ثلاثا فقد عدل عما سألته فصار مبتدئا بالطلاق فتقع الثلاث بغير شيء, ومن أصلهما أن في الثلاث ما يصلح جوابا للواحدة؛ لأن الواحدة توجد في الثلاث فقد أتى بما سألته, وزيادة فيلزمها الألف كأنه قال: أنت طالق واحدة, وواحدة, وواحدة, ولو طلقني واحدة بألف فقال: أنت طالق ثلاثا وقف على قبولها عند أبي حنيفة إن قبلت جاز, وإلا بطل؛ لأنه عدل عما سألته فصار مبتدئا طلاقا بعوض فيقف على قبولها, وعند أبي يوسف, ومحمد يقع الثلاث, واحدة منها بألف كما سألت, واثنتان بغير شيء, وحكى الجصاص عن الكرخي أنه قال رجع أبو يوسف في هذه المسألة إلى قول أبي حنيفة. وذكر أبو يوسف في الأمالي أن الثلاث يقع واحدة منها بثلث الألف, والاثنتان تقفان على قبول المرأة قال القدوري: وهذا صحيح على أصلهما؛ لأنها جعلت في مقابلة الواحدة ألفا فإذا أوقعها بثلث الألف فقد زادها خيرا, وابتدأ تطليقتين بثلثي الألف فوقف ذلك على قبولها, والله أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى نفس الركن فمنها أن لا يلحقه استثناء أصلا, ورأسا سواء كان وضعيا أو عرفيا عند عامة العلماء, وعند مالك الاستثناء العرفي لا يمنع وقوع الطلاق, وسنذكر المسألة إن شاء الله تعالى, والكلام في هذا الشرط يقع في مواضع في بيان أنواع الاستثناء, وفي بيان ماهية كل نوع, وفي بيان شرائط صحته أما الأول فالاستثناء في

 

ج / 3 ص -154-       الأصل نوعان: استثناء وضعي, واستثناء عرفي أما الوضعي فهو أن يكون بلفظ موضوع للاستثناء, وهو كلمة إلا, وما يجري مجراها نحو سوى, وغير, وأشباه ذلك. "وأما" العرفي فهو تعليق بمشيئة الله تعالى, وإنه ليس باستثناء في الوضع لانعدام كلمة الاستثناء بل الموجود كلمة الشرط إلا أنهم تعارفوا إطلاق اسم الاستثناء على هذا النوع قال الله تعالى: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلا يَسْتَثْنُونَ} أي: لا يقولون: إن شاء الله تعالى, وبينه وبين الأول مناسبة في معنى ظاهر لفظ الاستثناء, وهو المنع, والصرف دون الحقيقة فأطلق اسم الاستثناء عليه, وبعض مشايخنا قال الاستثناء نوعان استثناء تحصيل, واستثناء تعطيل فسمي الأول استثناء تحصيل؛ لأنه تكلم بالحاصل بعد الثنيا, والثاني تعطيلا لما أنه يتعطل الكلام به. وأما الكلام في بيان ماهية كل نوع أما النوع الأول فهو تكلم بالباقي بعد الثنيا, وهذه العبارة هي المختارة دون قولهم استخراج بعض الجملة الملفوظة لأن القدر المستثنى إما أن يدخل بعد نص المستثنى منه, وأما أن لا يدخل فإن لم يدخل لا يتصور الإخراج, وإن دخل يتناقض الكلام؛ لأن نص المستثنى منه يثبت, ونص الاستثناء ينفي, ويستحيل أن يكون الحكم الواحد في زمان مثبتا, ومنفيا, ولهذا فهم من قوله تعالى: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} ما ذكرنا حتى يصير في التقدير كأنه قال: فلبث فيهم تسعمائة, وخمسين عاما لا معنى الإخراج لئلا يؤدي إلى الخلف في خبر الله تعالى. "وأما" النوع الثاني فهو تعليق بالشرط إلا أن الشرط إذا كان مما يتوقف عليه, ويعلم وجوده ينزل المعلق عند وجوده, وإن كان مما لا يعلم لا ينزل, وهذا النوع من التعليق من هذا القبيل لما نذكره إن شاء الله تعالى. "وأما" شرط صحته فلصحة الاستثناء شرائط: بعضها يعم النوعين, وبعضها يخص أحدهما أما الذي يعمهما جميعا فهو أن يكون الاستثناء موصولا بما قبله من الكلام عند عدم الضرورة حتى لو حصل الفصل بينهما بسكوت أو غير ذلك من غير ضرورة لا يصح, وهذا قول عامة الصحابة رضي الله عنهم, وعامة العلماء إلا شيئا روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أن هذا ليس بشرط, ويصح متصلا, ومنفصلا واحتج بما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لأغزون قريشا ثم قال بعد سنة إن شاء الله تعالى", ولو لم يصح لما قال. ولأن الاستثناء في معنى التخصيص؛ لأن كل واحد منهما بيان ثم التخصيص يصح مقارنا, ومتراخيا فكذا الاستثناء يجب أن يكون متصلا, ومنفصلا, "ولنا" أن الأصل في كل كلام تام بنفسه, فإن كان مبتدأ, وخبرا أن لا يقف حكمه على غيره, والوقف عند الوصل لضرورة, وهي ضرورة استدراك الغلط, والضرورة تندفع بالموصول, فلا يقف عند عدم الوصل, ولهذا لم يقف على الشرط المنقطع فكذا على الاستثناء المنقطع؛ ولأنه عند عدم الوصول ليس باستثناء لغة؛ لأن العرب لم تتكلم به, ومن تكلم به لا يعدونه استثناء بل يسخرون منه, وبهذا تبين أن الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما لا تكاد تصح؛ لأنه كان إماما في اللغة كما كان إماما في الشريعة. "وأما" التخصيص المتراخي فعند بعض مشايخنا ليس ببيان بل هو فسخ, فلا يلزم, وعند بعضهم بيان لكن إلحاق البيان بالمجمل, والعام الذي يمكن العمل بظاهره متراخيا مشهور عندهم, وإنه كثير النظير في كتاب الله عز وجل. "وأما" الحديث ففيه أنه قال بعد تلك المقالة بسنة إن شاء الله تعالى وليس فيه أنه قصد به تصحيح الاستثناء فيحمل أنه أراد به استدراك الاستثناء المأمور به في الكتاب العزيز قال عز وجل: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي: إلا أن تقول: إن شاء الله فنسي ذلك فتذكره بعد سنة فأمر باستدراكه بقوله سبحانه, وتعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ}, ويحتمل أنه عليه الصلاة والسلام أضمر في نفسه أمرا, وأراد في قلبه, وعزم عليه فأظهر الاستثناء بلسانه فقال: إن شاء الله, ومثل هذا معتاد فيما بين الناس, فلا يصح الاحتجاج به مع الاحتمال هذا الذي ذكرنا إذا كان الفصل من غير ضرورة. فأما إذا كان لضرورة التنفس, فلا يمنع الصحة, ولا يعد ذلك فصلا إلا أن يكون سكتة هكذا روى هشام عن أبي يوسف؛ لأن هذا النوع من الفصل مما لا يمكن التحرز عنه, فلا يعتبر فصلا, ويعطى له حكم الوصل للضرورة. "وأما" كون الاستثناء مسموعا فهل هو شرط؟ ذكر الكرخي أنه ليس بشرط حتى لو حرك لسانه, وأتى بحروف الاستثناء يصح, وإن لم يكن مسموعا. وذكر الفقيه أبو جعفر الهندواني أنه شرط, ولا يصح الاستثناء بدونه وجه ما ذكره الكرخي أن الكلام هو الحروف المنظومة

 

ج / 3 ص -155-       وقد وجدت. فأما السماع فليس بشرط لكونه كلاما فإن الأصم يصح استثناؤه, وإن كان لا يسمع, والصحيح ما ذكره الفقيه أبو جعفر؛ لأن الحروف المنظومة, وإن كانت كلاما عند الكرخي, وعندنا هي دلالة على الكلام, وعبارة عنه لا نفس الكلام في الغائب, والشاهد جميعا فلم توجد الحروف المنظومة ههنا؛ لأن الحروف لا تتحقق بدون الصوت فالحروف المنظومة لا تتحقق بدون الأصوات المتقطعة بتقطيع خاص فإذا لم يوجد الصوت لم توجد الحروف فلم يوجد الكلام عنده, ولا دلالة الكلام عندنا فلم يكن استثناء, والله الموفق. وأما الذي يخص أحد النوعين وهو الاستثناء الوضعي فهو أن يكون المستثنى بعض المستثنى منه لا كله لما ذكرنا أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا, ولا يكون تكلما بالباقي إلا أن يكون المستثنى بعض المستثنى منه لا كله,؛ ولأن الاستثناء يجري مجرى التخصيص, والتخصيص يرد على بعض أفراد العموم لا على الكل؛ لأن ذلك يكون نسخا لا تخصيصا. وكذا الاستثناء نسخ الحكم, ونسخ الحكم يكون بعد ثبوته, والطلاق بعد وقوعه لا يحتمل النسخ فبطل الاستثناء, ومن مشايخنا من قال: إن استثناء الكل من الكل إنما يصح؛ لأنه رجوع, والطلاق مما لا يحتمل الرجوع عنه. وكذا العتاق. وكذا الإعتاق. وكذا الإقرار, وهذا غير سديد؛ لأنه لو كان كذلك لصح فيما يحتمل الرجوع وهو الوصية ومع هذا لا يصح حتى لو قال: أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ثلث مالي لم يصح الاستثناء, وتصح الوصية فدل أن عدم الصحة ليس لمكان الرجوع بل لما قلنا أنه ليس باستثناء. ويصح استثناء البعض من الكل سواء كان المستثنى أقل من المستثنى منه أو أكثر عند عامة العلماء, وعامة أهل اللغة. وروي عن أبي يوسف أنه لا يصح استثناء الأكثر من الأقل, وهو قول الفراء وجه قولهما أن الاستثناء من باب اللغة, وأهل اللغة لم يتكلموا باستثناء الأكثر من الأقل؛ ولأن الاستثناء وضع في الأصل لاستدراك الغلط, والغلط يجري في الأقل لا في الأكثر, "ولنا" أن أهل اللغة قالوا: الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا من غير فصل بين الأقل, والأكثر إلا أنه قل استعمالهم الاستثناء في مثله لقلة حاجتهم إليه لقلة وقوع الغلط فيه. وهذا لا يكون منهم إخراجا للفظ من أن يكون استثناء حقيقة كمن أكل لحم الخنزير لا يمتنع أحد من أهل اللسان من إطلاق القول بأنه أكل لحم الخنزير, وإن كان يقل استعمال هذه اللفظة, لكن قلة استعمالها لقلة وجود الأكل لا لانعدام معنى اللفظ حقيقة كذا هذا, وعلى هذا تخرج مسائل هذا النوع إذا قال لامرأته: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة يقع ثنتان؛ لأن هذا استثناء صحيح لكونه تكلما بالباقي بعد الثنيا, والباقي بعد استثناء الواحدة من الثلاث ثنتان إلا أن للثنتين اسمين: أحدهما ثنتان, والآخر ثلاث إلا واحدة, ولو قال: إلا اثنتين يقع واحدة؛ لأن استثناء الأكثر من الأقل استثناء صحيح أيضا لما ذكرنا, ولو قال: إلا ثلاثا وقع الثلاث؛ لأن الاستثناء لم يصح؛ لأنه استثناء الكل من الكل. ولو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة واحدة وواحدة وواحدة وواحدة وقع الثلاث, وبطل الاستثناء في قول أبي حنيفة, ومحمد, وقال أبو يوسف جاز استثناء الأولى, والثانية, وبطل استثناء الثالثة, وتلزمه واحدة وجه قوله أن استثناء الأولى, والثانية استثناء البعض من الكل فصح إلا أنه لو سكت عليه لجاز. فأما استثناء الثالثة فاستثناء الكل من الكل فلم يصح فالتحق بالعدم فيقع واحدة, ولأبي حنيفة, ومحمد أن أول الكلام في الاستثناء يقف على آخره فكان استثناء الكل من الكل, فلا يصح كما لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا؛ ولأنه لما قال إلا واحدة, وواحدة وواحدة فقد جمع بين الكل بحرف الجمع فصار كأنه قال إلا ثلاثا. ولو قال: أنت طالق واحدة وواحدة وواحدة إلا ثلاثا يقع الثلاث, ويبطل الاستثناء في قولهم جميعا؛ لأن الاستثناء إذا كان موصولا يقف أول الكلام على آخره فكان الاستثناء راجعا إلى الكل فبطل؛ ولأنه ذكر جملتين وجمع بين كل جملة بحرف الجمع فكان استثناء الجملة من الجملة, فلا يصح, وإذا قال: أنت طالق اثنتين اثنتين إلا اثنتين يقع ثنتان في قول أبي يوسف, ومحمد. وقال زفر يقع ثلاث كذا ذكر القدوري, ولم يذكر قول أبي حنيفة وجه قول زفر أن الأصل في الاستثناء أنه ينصرف إلى ما يليه؛ لأنه أقرب إليه, وهو متصل به أيضا, ولا ينصرف إلى غيره إلا بدليل, ومتى انصرف إلى ما يليه؛ كان استثناء الكل من الكل, فلا يصح, ولهما أن الاستثناء يصحح ما أمكن, ولو جعلناه مما يليه لبطل, ولو صرف إلى الجملتين يصح

 

ج / 3 ص -156-       لأنه يصير مستثنيا من كل ثنتين واحدة فبقي من كل جملة واحدة. وروى هشام بن عبد الله الرازي عن محمد فيمن قال: أنت طالق اثنتين واثنتين إلا ثلاثا إنه يقع ثلاث؛ لأنه لا يمكن تصحيح الاستثناء ههنا؛ لأن أول الكلام في كل واحدة من الجملتين وقف على آخره فصار كأنه قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا؛ لأنه لا يمكن أن يجعل الاستثناء في الجملتين على السواء؛ لأنه يصير مستثنيا من كل جملة تطليقة, ونصفا, وهذا استثناء جميع الجملة؛ لأن استثناء واحدة, ونصف استثناء ثنتين؛ لأن ذكر البعض فيما لا يتبعض ذكر لكله فكان استثناء الكل من الكل, ولا يمكن أن يجعل من إحدى الجملتين؛ لأنه يكون استثناء الكل من الكل, وزيادة, ولا يمكن أن يصرف اثنتان من الثلاث أو جملة واحدة إلى جملة أخرى؛ لأن هذا خلاف تصرفه, وإنشاء تصرف آخر لم يوجد منه فتعذر تصحيح هذا الاستثناء من جميع الوجوه فبطل, والإشكال على القسم الأول أن ذكر البعض فيما لا يتبعض لا يكون ذكرا للكل في الاستثناء بل هو ملحق بالعدم بدليل أنه لو قال: أنت طالق ثلاثا إلا واحدة, ونصفا يقع عليها ثنتان, ولو كان ذكر بعض الطلاق ذكرا لكله في الاستثناء لوقع عليها واحدة؛ لأنه يصير كأنه قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين, وكان الفقه في ذلك أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا فينظر إلى الباقي, والباقي ههنا تطليقة, ونصف, ونصف تطليقة تطليقة كاملة فيقع ثنتان كأنه قال: أنت طالق اثنتين, وإذا لم يصر ذكر البعض ذكرا للكل في الاستثناء يصر مستثنيا من كل جملة تطليقة واحدة, وتلغو واحدة من الاستثناء, وهذا أولى من إلغاء الكل فيجب أن يقع ثنتان كما في المسألة الأولى عندهما, وفي هذه المسألة إشكال على ما روى هشام عن محمد. وروى هشام أيضا عن محمد فيمن قال: أنت طالق اثنتين وأربعا إلا خمسا أنها تطلق ثلاثا؛ لأنه لا يمكن تصحيح الاستثناء بالصرف إلى الجملتين على الشيوع, ولا بالصرف إلى واحدة منهما, ولا يصرف البعض عينا إلى جملة, والبعض إلى جملة أخرى لما قلنا, والإشكال على القسم الأول على ما بينا. وقال بشر عن أبي يوسف فيمن قال لامرأته: أنت طالق واحدة واحدة واثنتين إلا اثنتين أنه ثلاث, وهو قول محمد, والوجه فيه ما ذكرنا, والإشكال على نحو ما بينا, هذا إذا كان لفظ الاستثناء من جنس المستثنى منه. كان شيئا خلاف جنسه يصح الاستثناء, ولا تطلق, وإن أتى على جميع المسمى نحو أن يقول نسائي طوالق إلا هؤلاء وليس له نساء غيرهن فإنه يصح الاستثناء, ولا تطلق واحدة منهن؛ لأن الاستثناء يعتبر فيه اللفظ, والإشارة مع التسمية مختلفان لفظا فصح الاستثناء بخلاف قوله نسائي طوالق إلا نسائي؛ ولأن عند اختلاف اللفظين يكون معناه نسائي غير هؤلاء طوالق, وهذا إضافة الطلاق إلى غير هؤلاء. وقيل هذا إذا كان الأربع ما دون هؤلاء, فإذا كن أربعا لا يصح الاستثناء, ويطلقن كلهن؛ لأنه لا يتصور استثناء غيرهن فصار كما لو قال: نسائي طوالق, ولا نساء له, وهناك لا يصح الاستثناء, ويطلقن كلهن فيصير التقدير كأنه قال: نسائي إلا نسائي طوالق, ولو قال ذلك طلقن كذا هذا. وكذا هذا في العتاق إذا قال: عبيدي كلهم أحرار إلا عبيدي لم يصح الاستثناء, وعتقوا جميعا, ولو قال: عبيدي أحرار إلا هؤلاء, وليس له عبيد غير هؤلاء لم يعتق واحد منهم, وكذلك هذا في الوصية إذا قال: أوصيت بثلث مالي لفلان أو أوصيت لفلان بثلث مالي إلا ألف درهم, ومات, وثلث ماله ألف درهم صح الاستثناء, وبطلت الوصية, ولو قال أوصيت بثلث مالي إلا ثلث مالي لم يصح الاستثناء, وكان للموصى له ثلث ماله. قال أنت طالق عشرا إلا تسعا يقع واحدة, والأصل أنه إذا تكلم بالطلاق بأكثر من الثلاث ثم استثنى منه فالاستثناء يرجع إلى جملة الكلام لا إلى القدر الذي يصح وقوعه, وهو الثلاث خاصة فيتبع اللفظ لا الحكم, فلا يثبت الحكم في القدر المستثنى, ويثبت فيما بقي قدر ما يصح ثبوته؛ لأنه تكلم بالباقي بعد الثنيا, فإذا قال: أنت طالق عشرا إلا تسعا يقع واحدة, ولو قال: إلا ثمانيا يقع اثنتان, وإذا قال: إلا سبعا يقع ثلاث لما ذكرنا أن الاستثناء يتبع اللفظ لا الحكم فصح الاستثناء, ودخل على الجملة الملفوظة, وعمل فيها فتبين أن القدر المستثنى لم يدخل في الجملة, فلا يقع قدر ما دخل عليه الاستثناء, ويقع الباقي وهو الثلاث ؛ لأنه مما يصح وقوعه, وكذلك إذا قال: إلا ستا أو خمسا أو أربعا أو ثلاثا أو اثنتين أو واحدة يقع ثلاث؛ لأن الثلاث هي التي يصح وقوعها مما بقي إذ لا يزيد الطلاق على الثلاث ولو قال أنت طالق ثلاثا

 

ج / 3 ص -157-       إلا ثلاثا إلا واحدة تقع واحدة, والأصل في مسائل الاستثناء من الاستثناء أن لتخريجها طريقين: أحدهما: أنه ينظر إلى الاستثناء الأخير فيجعل استثناء مما يليه ثم ينظر إلى ما بقي منه فيجعل ذلك استثناء مما يليه هكذا إلى الاستثناء الأول ثم ينظر إلى الباقي من الاستثناء الأول فيستثنى ذلك القدر من الجملة الملفوظة فما بقي منها الواقع, فإذا قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا واحدة يستثني الواحدة من الثلاثة يبقى اثنتان يستثنيهما من الثلاثة فتبقى واحدة كأنه قال: أنت طالق ثلاثا إلا اثنتين فإن قال: أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين يقع اثنتان؛ لأنك تستثني الاثنتين من الثلاثة فتبقى واحدة تستثنيها من الثلاثة فيبقى اثنتان. فإن قال أنت طالق ثلاثا إلا ثلاثا إلا اثنتين إلا واحدة يقع واحدة؛ لأنك تستثني الواحدة من اثنتين فيبقى واحدة تستثنيها من الثلاث فيبقى اثنتان تستثنيهما من الثلاث فيبقى واحدة هي الواقع, وكذلك إذا قال أنت طالق عشرا إلا تسعا إلا ثمانيا إنك تستثني ثمانيا من تسع فبقي واحدة نستثنيها من العشر فيبقى تسع كأنه قال: أنت طالق تسعا فيقع ثلاث فإن قال: أنت طالق عشرا إلا تسعا إلا واحدة يقع ثنتان؛ لأنك إذا استثنيت الواحدة من التسع يبقى ثمانية تستثنيها من العشر فيبقى اثنتان كأنه قال: أنت طالق عشرا إلا ثمانيا, وعلى هذا جميع هذا الوجه, وقياسه, والثاني يرجع إلى عقد اليد, وهو أن تعقد العدد الأول بيمينك, والثاني بيسارك, والثالث تضمه إلى ما في يمينك, والرابع بيسارك تضمه إلى ما بيسارك ثم تطرح ما اجتمع في يسارك من جملة ما اجتمع في يمينك فما بقي في يمينك فهو الواقع, والله أعلم. وأما مسائل النوع الثاني من الاستثناء, وهو تعليق الطلاق بمشيئة الله عز وجل فنقول: إذا علق طلاق امرأته بمشيئة الله يصح الاستثناء, ولا يقع الطلاق, سواء قدم الطلاق على الاستثناء في الذكر بأن قال: أنت طالق إن شاء الله أو أخره عنه بأن قال: إن شاء الله تعالى فأنت طالق, وهذا قول عامة العلماء. وقال مالك: لا يصح الاستثناء, والطلاق واقع, وعلى هذا تعليق العتق, والنذر, واليمين بمشيئة الله سبحانه, وتعالى. وجه قوله أن هذا ليس تعليقا بشرط؛ لأن الشرط ما يكون معدوما على خطر الوجود, ومشيئة الله تعالى أزلية لا تحتمل العدم فكان هذا تعليقا بأمر كائن فيكون تحقيقا لا تعليقا كما لو قال: أنت طالق إن كانت السماء فوقنا, "ولنا" قوله عز وجل خبرا عن موسى عليه, وعلى نبينا أفضل الصلاة, والسلام: {سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِراً} وصح استثناؤه حتى لم يصر بترك الصبر مخلفا في الوعد. ولولا صحة الاستثناء لصار مخلفا في الوعد بالصبر, والخلف في الوعد لا يجوز, والنبي معصوم. وقال سبحانه, وتعالى: {وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} أي إلا أن تقول إن شاء الله, ولو لم يحصل به صيانة الخبر عن الخلف في الوعد لم يكن للأمر به معنى. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من حلف بطلاق أو عتاق, وقال: إن شاء الله فلا حنث عليه", وهذا نص في الباب. وروي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من استثنى فله ثنياه"؛ ولأن تعليق الطلاق بمشيئة الله تعالى تعليق بما لا يعلم وجوده؛ لأنا لا ندري أنه شاء وقوع هذا الطلاق أو لم يشأ, على معنى أن وقوع هذا الطلاق هل دخل تحت مشيئة الله تعالى أو لم يدخل؟ فإن دخل وقع, وإن لم يدخل لا يقع؛ لأن ما شاء الله كان, وما لم يشأ لم يكن, فلا يقع بالشك, وبه تبين أن هذا ليس تعليقا بأمر كائن؛ ولأن دخول الوقوع تحت مشيئة الله تعالى غير معلوم, وهذا هو تفسير تعليق الطلاق بمشيئة الله عز وجل, ومن الناس من فرق بين الطلاق, والعتاق فقال: لا يقع الطلاق, ويقع العتاق, وزعم بأنه لم توجد المشيئة في الطلاق, ووجدت في العتاق؛ لأن الطلاق مكروه الشرع, والعتق مندوب إليه, وهذا هو مذهب المعتزلة أن إرادة الله تعالى تتعلق بالقرب, والطاعات لا بالمكان, والمعاصي, وأن الله تعالى أراد كل خير وصلاح من العبد ثم العبد قد لا يفعله لسوء اختياره, وبطلان مذهبهم يعرف في مسائل الكلام ثم أنهم ناقضوا حيث قالوا فيمن حلف فقال: لأصومن غدا إن شاء الله تعالى أو قال: لأصلين ركعتين أو لأقضين دين فلان فمضى الغد, ولم يفعل شيئا من ذلك أنه لا يحنث, ولو شاء الله تعالى كل خير لحنث؛ لأن هذه الأفعال خيرات وقد شاءها عندهم, وكذلك لو قال: أنت طالق لو شاء الله تعالى أو قال أن لو يشاء الله تعالى لما قلنا. وكذا لو قال إلا أن يشاء الله؛ لأن معناه إلا أن يشاء الله أن لا يقع وذلك غير معلوم. وكذا لو قال: ما شاء الله تعالى؛ لأن معناه الذي شاءه الله, تعالى. ولو قال: أنت

 

ج / 3 ص -158-       طالق إن لم يشأ الله تعالى يكون المستثنى كقوله إن شاء الله تعالى؛ لأن هذا في الحقيقة تعليق بعدم دخول الوقوع تحت مشيئة الله تعالى. وذلك غير معلوم, ولو قال: أنت طالق, وإن شاء الله أو قال: فإن شاء الله تعالى لم يكن استثناء عند أبي يوسف؛ لأنه حال بين الطلاق, وبين الاستثناء حرف هو حشو فيصير فاصلا بمنزلة السكتة فيمنع التعليق بالشرط فيقع في الحال. ولو قال أنت طالق ثلاثا ثلاثا وثلاثا إن شاء الله تعالى لا يصح الاستثناء, ويقع الثلاث في قول أبي حنيفة. وقال: أبو يوسف, ومحمد: الاستثناء جائز, وعلى هذا الخلاف إذا قال: أنت طالق ثلاثا, وواحدة إن شاء الله تعالى وجه قولهما أن في الاستثناء الموصول يقف أول الكلام على آخره فكان قوله: ثلاثا, وثلاثا كلاما واحدا فيعمل فيه الاستثناء كما لو قال: أنت طالق ستا إن شاء الله تعالى؛ ولأنه جمع بين الجملتين بحرف الجمع, وهو حرف الواو فصار كما لو ذكرهما بلفظ واحد فقال: أنت طالق ستا إن شاء الله تعالى, ولأبي حنيفة أن العدد الثاني وقع لغوا؛ لأنه لا يتعلق به حكم إذ لا مزيد للطلاق على الثلاث فصار فاصلا فمنع صحة الاستثناء كما لو سكت بخلاف ما لو قال: أنت طالق ستا؛ لأنه ذكر الكل جملة واحدة, فلا يمكن فصل البعض عن البعض. ولو قال: أنت طالق واحدة وثلاثا إن شاء الله تعالى جاز الاستثناء في قولهم جميعا؛ لأن الكلام الثاني ههنا ليس بلغو؛ لأنه جملة يتعلق بها حكم فلم يصر فاصلا بخلاف الفصل الأول, ولو جمع بين جملتين بحرف الواو ثم قال في آخرهما إن شاء الله تعالى بأن قال: امرأته طالق طالق وعبده حر إن شاء الله تعالى انصرف الاستثناء إلى الجملتين جميعا حتى لا يقع الطلاق, والعتاق بالاتفاق. وكذا إذا ذكر الشرط في آخر الجملتين بأن قال: إن دخلت الدار أو إن كلمت فلانا. ولو قال لزيد علي ألف درهم ولعمرو علي ألف درهم إلا خمسمائة انصرف الاستثناء إلى الجملة الأخيرة عند عامة العلماء. وقال بعضهم: ينصرف إلى جميع ما تقدم من الجمل, وبه أخذ الشافعي, وعلى هذا الأصل بنوا مسألة المحدود في القذف إذا تاب وشهد؛ لأن قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} منصرف إلى ما يليه عندنا, وعندهم إلى جميع ما تقدم. وجه قول هؤلاء أن واو العطف إذا دخل بين الكلامين يجعلهما كلاما واحدا كما في قول القائل جاءني زيد, وعمرو معناه جاءاني, وكما إذا قال: امرأته طالق, وعبده حر إن شاء الله تعالى, أو قال: إن دخلت الدار أنه يتعلق الأمران جميعا بالشرط, وإن كان كل واحد منهما جملة تامة لكن لما دخل بينهما واو العطف جعل كلاما واحدا, وتعلقا جميعا بالشرط كذا هذا, ولهذا إذا كان المعطوف ناقصا شارك الأول في حكمه وجعل الكل كلاما واحدا بأن قال: لامرأته أنت طالق, وفلانة حتى يقع الطلاق عليهما كذا هذا, "ولنا" أن الأصل في الاستثناء أن ينصرف إلى ما يليه؛ لأنه أقرب إليه, ومتصل به؛ ولأنه ليس بكلام مفيد بنفسه مستقل بذاته, فلا بد من ربطه بغيره ليصير مفيدا, وهذه الضرورة تندفع بالصرف إلى ما يليه, فانصرف إلى غيره من الجمل المتقدمة بدخول حرف العطف بين الجملتين فيجعلهما كلاما واحدا وجملة واحدة, وإنما يجعل كلاما واحدا والجملتان جملة واحدة بواو العطف إذا كانت إحدى الجملتين ناقصة بحيث لو فصلت عن الجملة الأخرى لا تكون مفيدة. فأما إذا كانت كاملة بحيث لو فصلت عن الأخرى كانت مفيدة, فلا يجعلان كلاما واحدا؛ لأن الجعل للعطف الموجب للشركة والشركة ثابتة بدون حروف الواو فكان الوصل والإشراك بحرف الواو, وعدمه سواء؛ ولأن جعل الكلامين كلاما واحدا خلاف الحقيقة, فلا يصار إليه إلا لضرورة وهي أن تكون إحدى الجملتين ناقصة إما صورة أو معنى كما في قول القائل جاءني زيد, وعمرو فإن الجملة الثانية ناقصة؛ لأنها مبتدأ لا خبر له فجعلت كاملة بالإشراك بحرف الواو كما في قول الرجل لامرأتيه: زينب طالق, وعمرة لما قلنا, أو تكون ناقصة معنى في حق حصول غرض المتكلم, كما في قوله امرأته طالق, وعبده حر إن شاء الله تعالى أو إن دخلت الدار فإن هناك إحدى الجملتين ناقصة في حق حصول غرض الحالف؛ لأن غرضه أن يجعلهما جميعا جزاء واحدا للشرط, وإن كان كل واحد في نفسه يصلح جزاء تاما, وهذا الغرض لا يحصل إلا بالإشراك والوصل فيكون أحدهما بعض الجزاء فكانت جملة ناقصة في المعنى, وهو تحصيل غرضه فيجعل كأنه ناقص في أصل الإفادة, ومثل هذه الضرورة لم توجد ههنا فبقيت كل جملة منفردة بحكمها, وإن كانت معطوفة بحرف الواو كما لو قال جاءني زيد, وذهب عمرو فإن هذا

 

ج / 3 ص -159-       عطف جملة على جملة بحرف الواو, ولم تثبت الشركة بينهما في الخبر لما قلنا كذا هذا. ولو أدخل الاستثناء على جملتين كل واحدة منهما يمين بأن قال امرأتي طالق إن دخلت الدار وعبدي حر إن كلمت فلانا إن شاء الله تعالى انصرف الاستثناء إلى ما يليه في قول أبي يوسف فتطلق امرأته, ولا يعتق عبده. وقال محمد: ينصرف إلى الجملتين جميعا, ولا يقع الطلاق, ولا العتاق. وجه قول محمد على نحو ما ذكرنا أن الكلام معطوف بعضه على بعض بحرف العطف؛ لأنه عطف إحدى الجملتين على الأخرى بحرف الواو فيجعلهما كلاما واحدا كما في التنجيز بأن يقول امرأته طالق, وعبده حر إن شاء الله تعالى, وأي فرق بين التنجيز والتعليق ؟, وحجة أبي يوسف على نحو ما ذكرنا أن الأصل في الاستثناء أن ينصرف لما يليه لما بينا, وانصرافه إلى غيره لتتم الجملة الناقصة صورة, ومعنى أو معنى على ما ذكرنا, وههنا كل واحدة من الجملتين تامة صورة, ومعنى أما الصورة فظاهر. "وأما" المعنى؛ فلأنه لما علق كل جزاء بشرط على حدة علم أن غرضه ليس جعلهما جميعا جزاء واحدا؛ فكان كل واحد منهما جملة واحدة فكان كل واحد منهما من الطلاق والعتاق جزاء تاما صورة, ومعنى. قدم الاستثناء فقال: إن شاء الله تعالى فأنت طالق فهو استثناء صحيح؛ لأنه وصل الطلاق بالاستثناء بحرف الوصل, وهو الفاء؛ فيصح التعليق بمشيئة الله تعالى كما لو قال: إن دخلت الدار فأنت طالق. وكذا لو قال: إن شاء الله تعالى, وأنت طالق؛ لأن الواو للجمع فتصير الجملة كلاما واحدا. ولو قال: إن شاء الله تعالى أنت طالق جاز الاستثناء في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, ولا يقع الطلاق. وقال محمد: هو استثناء منقطع والطلاق واقع في القضاء, ويدين فيما بينه, وبين الله عز وجل أنه أراد به الاستثناء "وجه" قول محمد أن الجزاء إذا كان متأخرا عن الشرط لا بد من ذكر حرف الاتصال وهو حرف الفاء ليتصل الجزاء بالشرط, وإذا لم يوجد لم يتصل فكان قوله: إن شاء الله تعالى استثناء منقطعا فلم يصح, ويقع الطلاق كما إذا قال: إن دخلت الدار فأنت طالق فإنه لا يتعلق لعدم حرف التعليق وهو حرف الفاء فيبقى تنجيزا فيقع الطلاق كذا هذا, ولهما أن الفاء يضمر في كلامه تصحيحا للاستثناء والإضمار في مثل هذا الكلام جائز قال الشاعر:
من يفعل الحسنات الله يشكرها
والشر بالشر عند الله مثلان
أي: فالله يشكرها, أو يجعل الكلام على التقديم والتأخير تصحيحا للاستثناء كأنه قال: أنت طالق إن شاء الله تعالى والتقديم والتأخير في الكلام جائز أيضا في اللغة. وهذان الوجهان يصحان لتصحيح الاستثناء فيما بينه, وبين الله تعالى لا في القضاء؛ لأن كل واحد منهما خلاف الظاهر, فلا يصدقه القاضي ألا ترى أنه إذا قال: إن دخلت الدار أنت طالق لا يتعلق, وإن أمكن تصحيح التعليق بأحد هذين الطريقين, لكن لما كان خلاف الظاهر لم يتعلق, ولا يصدق أنه أراد به التعليق في القضاء, وإنما يصدق فيما بينه, وبين الله تعالى لا غير كذا هذا "ووجه" الفرق بين المسألتين أن الحاجة إلى ذكر حرف الفاء في التعليق بسائر الشروط إذا كان الجزاء متأخرا عن الشرط في الملك ليتصل الجزاء بالشرط فيوجد عند وجود الشرط؛ لأنه شرط يمكن الوقوف عليه والعلم به على تقدير وجوده, فلا بد من وصل الجزاء بالشرط بحرف الوصل بخلاف التعليق بمشيئة الله تعالى, ووقوع هذا الطلاق مما لا سبيل لنا إلى الوقوف عليه رأسا حتى تقع الحاجة إلى وصل الجزاء به ليوجد عند وجوده فكان تعطيلا في علمنا, فلا حاجة إلى ذكر حرف الوصل قبل هذا الشرط والدليل على التفرقة بين الشرطين أنه إذا قال: إن شاء الله تعالى, وأنت طالق, يصح الاستثناء, ولو قال: إن دخلت الدار, وأنت طالق لا يصح التعليق, ويقع الطلاق للحال, ولو قال: عنيت به التعليق لا يصدق قضاء, ولا ديانة لما ذكرنا كذا هذا, هذا كله إذا علق الطلاق بمشيئة الله تعالى. فأما إذا علق الطلاق بمشيئة غير الله فإن علق بمشيئة من يوقف على مشيئته من العباد بأن قال: إن شاء زيد فالطلاق موقوف على مشيئته في المجلس الذي يعلم فيه بالتعليق؛ لأن هذا النوع من التعليق تمليك لما نذكر فيتقيد بالمجلس كسائر التمليكات, وإن علقه بمشيئة من لا يوقف على مشيئته نحو أن يقول: إن شاء جبريل أو الملائكة أو الجن أو الشياطين فهو بمنزلة التعليق بمشيئة الله تعالى؛ لأنه لا يوقف على مشيئة هؤلاء كما

 

ج / 3 ص -160-       لا يوقف على مشيئة الله عز وجل فصار كأنه قال: إن شاء الله تعالى. ولو جمع بين مشيئة الله تعالى وبين مشيئة العباد فقال: إن شاء الله تعالى, وشاء زيد فشاء زيد لم يقع الطلاق؛ لأنه علقه بشرطين لا يعلم وجود أحدهما والمعلق بشرطين لا ينزل عند وجود أحدهما, كما لو قال إن شاء زيد, وعمر فشاء أحدهما والله الموفق. "ومنها"  أن لا يكون انتهاء الغاية فإن كان لا يقع, وهذا قول أبي حنيفة, وزفر وقال أبو يوسف, ومحمد هذا ليس بشرط, ويقع, وإن جعل انتهاء الغاية, وهل يشترط أن لا يكون ابتداء الغاية؟ قال أصحابنا الثلاثة لا يشترط وقال زفر يشترط والأصل في هذا أن عند زفر الغايتان لا يدخلان ثم ينظر إن بقي بينهما شيء وقع, وإلا, فلا. وعند أبي يوسف, ومحمد الغايتان تدخلان, وعند أبي حنيفة الأولى تدخل لا الثانية, وبيان هذه الجملة إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة إلى اثنتين أو ما بين واحدة إلى اثنتين فهي واحدة عند أبي حنيفة. وعندهما هي اثنتان, وعند زفر لا يقع شيء. ولو قال أنت طالق من واحدة إلى ثلاث أو ما بين واحدة إلى ثلاث فهي اثنتان في قول أبي حنيفة, وعندهما هي ثلاث, وعند زفر هي واحدة "وجه" قول زفر أن كلمة من لابتداء الغاية, وكلمة إلى لانتهاء الغاية؛ يقال سرت من البصرة إلى الكوفة أي: البصرة كانت ابتداء غاية المسير والكوفة كانت غاية المسير, والغاية لا تدخل تحت ما ضربت له الغاية كما في البيع فإنه إذ قال: بعت منك من هذا الحائط إلى هذا الحائط فالحائطان لا يدخلان في البيع فكان هذا منه إيقاع ما ضربت له الغاية لا الغاية, فيقع ما ضربت له الغاية لا الغاية. وكذا إذا قال: بعتك ما بين هذا الحائط إلى هذا الحائط لا يدخل الحائطان في البيع كذا ههنا, ولهذا لم تدخل إحدى الغايتين عند أبي حنيفة كذا الأخرى, ولهما أن ما جعل غاية لا بد من وجوده إذ المعدوم لا يصلح غاية, ومن ضرورة وجوده وقوعه, ولهذا دخلت الغاية الأولى فكذا الثانية, بخلاف البيع فإن الغاية هناك كانت موجودة قبل البيع فلم يكن وجودها بالبيع ليكون من ضرورة وجودها بالبيع دخولها فيه فلم تدخل, وأبو حنيفة بنى الأمر في ذلك على العرف والعادة فإن الرجل يقول في العرف والعادة لفلان علي من مائة درهم إلى ألف, ويريد به دخول الغاية الأولى لا الثانية. وكذا يقال سن فلان من تسعين إلى مائة, ويراد به دخول الغاية الأولى لا الثانية. وكذا إذا قيل ما بين تسعين إلى مائة. وقيل إن الأصمعي ألزم زفر هذا الفصل على باب الرشيد فقال له: كم سنك؟ فقال من سبعين إلى ثمانين, وكان سنه أقل من ثمانين فتحير زفر؛ ; ولأن انتهاء الغاية قد تدخل تحت ما ضربت له الغاية وقد لا تدخل قال الله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} والليل لم يدخل تحت الأمر بالصوم فيه فوقع الشك في دخول الغاية الثانية في كلامه, فلا يدخل مع الشك, فإن نوى واحدة في قوله من واحدة إلى ثلاث كما قال زفر دين فيما بينه, وبين الله تعالى؛ لأنه نوى ما يحتمله كلامه, ولا يدين في القضاء؛ لأنه خلاف الظاهر, وقياس ظاهر أصلهما في قوله أنت طالق من واحدة إلى اثنتين أنه يقع الثلاث؛ لأن الغايتين يدخلان عندهما إلا أنه يحتمل أنه جعل تلك الواحدة داخلة في الثنتين, ويحتمل أنه جعلها غير الثنتين, فلا تقع الزيادة على الثنتين بالشك. وروي عن أبي يوسف أنه قال في رجل قال لامرأته: أنت طالق اثنتين إلى اثنتين أنه يقع ثنتان؛ لأنه يحتمل أن يكون جعل الابتداء هو الغاية كأنه قال: أنت طالق من اثنتين إليهما. وكذا روي عن أبي يوسف أنه قال: إذا قال: أنت طالق ما بين واحدة, وثلاث فهي واحدة؛ لأنه ما جعل الثلاث غاية, وإنما أوقع ما بين العددين وهو واحدة فتقع الواحدة, وإن قال: أنت طالق ما بين واحدة إلى أخرى أو من واحدة إلى واحدة فهي واحدة أما على أصل أبي حنيفة؛ فلأن الغاية الأولى تدخل, ولا تدخل الثانية فتقع واحدة. "وأما" على أصلهما فالغايتان, وإن كانتا يدخلان جميعا لكن يحتمل أن يكون المراد من قوله من واحدة إلى واحدة أي: منها وإليها, فلا يقع أكثر من واحدة, "وأما" على أصل زفر فالغايتان لا يدخلان, ولم يبق بينهما شيء والله عز وجل أعلم. "ومنها"  أن لا يكون مضروبا فيه فإن كان لا يقع, ويقع المضروب, وهذا قول أصحابنا الثلاثة. وقال زفر هذا ليس بشرط, ويقع المضروب والمضروب فيه, وبيان ذلك فيمن قال لامرأته: أنت طالق واحدة في اثنتين أو قال واحدة في ثلاث أو اثنتين في اثنتين؛ وجملة الجواب فيه أنه إن نوى به الظرف والوعاء لا يقع إلا المضروب؛ لأن الطلاق لا يصلح

 

ج / 3 ص -161-       ظرفا, وإن نوى مع يقع المضروب والمضروب فيه بقدر ما يصح وقوعه بلا خلاف, وإن نوى به الضرب والحساب, ولم تكن له نية يقع المضروب لا المضروب فيه عند أصحابنا الثلاثة. وعند زفر يقع المضروب والمضروب فيه بقدر ما يصح وقوعه "وجه" قوله أن الواحد في اثنتين اثنان على طريق الضرب والحساب والواحد في الثلاثة ثلاثة والاثنان في الاثنين أربعة, وهذا يقتضي وقوع المضروب والمضروب فيه؛ كما لو جمع بينهما بلفظ واحد فقال: أنت طالق اثنتين أو ثلاثا أو أربعا إلا أن العدد المجتمع له عبارتان: إحداهما الاثنان والثلاثة والأربعة, والأخرى واحد في اثنين, وواحد في ثلاثة واثنان في اثنين "ولنا" وجوه ثلاثة: أحدها أن الضرب إنما يتقدر فيما له مساحة. فأما ما لا مساحة له, فلا يتقدر فيه الضرب؛ لأن تقدير ضرب الاثنين في الاثنين خطان يضم إليهما خطان آخران, فمن هذا الوجه يقال الاثنان في الاثنين أربعة والطلاق لا يحتمل المساحة, فإذا نوى في عدد الطلاق الضرب فقد أراد محالا فبطلت نيته. والثاني أن الشيء لا يتعدد بالضرب, وإنما يتكرر أجزاؤه فواحد في اثنين واحد له جزءان واثنان في اثنين اثنان له أربعة أجزاء, وطلاق له جزء, وطلاق له جزءان, وثلاثة, وأربعة, وأكثر من ذلك سواء. والثالث إنه جعل المضروب فيه ظرفا للمضروب والطلاق لا يصلح ظرفا إذ ظرف الشيء هو المحتوي عليه, ولا يتصور احتواء الطلاق على شيء؛ لأن الاحتواء من خواص الأجسام, فلا يصلح ظرفا للمضروب, فلا يقع, وهذا لو قال لامرأته: أنت طالق في دخولك الدار, أو قال لها: أنت طالق في حيضتك لا يقع للحال؛ لأنه جعل الدخول والحيض ظرفا, وإنهما لا يصلحان ظرفا لاستحالة تحقق معنى الظرف فيهما إلا أن ثمة يتعلق الطلاق بالدخول والحيض, ويجعل في بمعنى مع لمناسبة؛ لأن مع كلمة مقارنة والمظروف يقارن الظرف فصار كأنه قال: أنت طالق مع دخول الدار أو مع حيضك, وههنا لو أراد بفي مع في قوله: في اثنين أو في ثلاث يقع الثلاث. وكذا لو أراد بكلمة في حرف الواو؛ لأن الواو للجمع والظرف يجامع المظروف من جميع الجهات فيجوز استعماله كله والظرف على إرادة المقارنة أو الاجتماع من جهة واحدة والله تعالى الموفق.

                                                               "فصل":
وأما الذي يرجع إلى الوقت فهو مضي مدة الإيلاء, وهو شرط وقوع الطلاق بالإيلاء حتى لا يقع الطلاق قبل مضي المدة؛ لأن الإيلاء في حق أحد الحكمين, وهو البر طلاق معلق بشرط ترك الفيء في مدة الإيلاء لقوله عز وجل:
{وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وروي عن ابن عباس, وعدة من الصحابة رضي الله عنهم إن عزم الطلاق ترك الفيء إليها أربعة أشهر فقد جعل ترك الفيء أربعة أشهر شرط وقوع الطلاق في الإيلاء.
والكلام في الإيلاء يقع في مواضع في. تفسير الإيلاء لغة, وشرعا, وفي بيان ركن الإيلاء, وفي بيان شرائط الركن, وفي بيان حكم الإيلاء, وفي بيان ما يبطل به الإيلاء أما تفسيره فالإيلاء في اللغة عبارة عن اليمين يقال آلى أي: حلف, ولهذا سميت اليمين ألية وجمعها ألايا؛ قال الشاعر:

قليل الألايا حافظ ليمينه                     وإن صدرت منه الألية برت

وفي حرف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وابن عباس رضي الله عنهما للذين يقسمون من نسائهم, والقسم واليمين من الأسماء المترادفة. وقال الله تعالى: {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ} أي: ولا يحلف. وفي الشريعة عبارة عن اليمين على ترك الجماع بشرائط مخصوصة, نذكرها في مواضعها إن شاء الله تعالى. وأما ركنه فهو اللفظ الدال على منع النفس عن الجماع في الفرج مؤكدا باليمين بالله تعالى أو بصفاته أو باليمين بالشرط والجزاء حتى لو امتنع من جماعها أو هجرها سنة أو أكثر من ذلك لم يكن موليا ما لم يأت بلفظ يدل عليه؛ لأن الإيلاء يمين لما ذكرنا واليمين تصرف قولي, فلا بد من القول, ولو أتى بلفظ يدل على نفي الجماع فيما دون الفرج لم يكن ذلك إيلاء في حق حكم البر؛ لأن حكم البر إنما يثبت لصيرورته ظالما بترك الجماع في الفرج؛ لأن حقها فيه. ولو ذكر لفظا يدل على منع نفسه عن الجماع في الفرج بطريق يؤكده باليمين لم يكن إيلاء؛ لأن الظلم بالمنع والمنع لا يتأكد إلا باليمين. وقال الشافعي في القديم: لا يكون موليا إلا بالحلف بالله تعالى, فظاهر الآية الكريمة يدفع هذا القول؛ لأن الله تعالى قال: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فالإيلاء في اللغة عبارة عن اليمين واسم اليمين يقع

 

ج / 3 ص -162-       على اليمين بالله تعالى, ويقع على اليمين بالشرط والجزاء لتحقق معنى اليمين, وهو القوة. ولو حلف بغير الله عز وجل وبغير الشرط والجزاء لا يكون موليا حتى لا تبين بمضي المدة من غير فيء, ولا كفارة عليه إن قربها؛ لأنه ليس بيمين لانعدام معنى اليمين وهو القوة. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحلفوا بآبائكم, ولا بالطواغيت فمن كان منكم حالفا فليحلف بالله أو ليذر", وروي "من حلف بغير الله فقد أشرك". أما الألفاظ الدالة على منع النفس عن الجماع فأنواع بعضها صريح, وبعضها يجري مجرى الصريح, وبعضها كناية أما الصريح فلفظ المجامعة بأن يحلف أن لا يجامعها. وأما الذي يجري مجرى الصريح فلفظ القربان والوطء والمباضعة والافتضاض في البكر؛ بأن يحلف أن لا يقربها أو لا يطأها أو لا يباضعها أو لا يفتضها, وهي بكر؛ لأن القربان المضاف إلى المرأة يراد به الجماع في العرف قال الله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} وكذا الوطء المضاف إليها غلب استعماله في الجماع. قال النبي صلى الله عليه وسلم في سبايا أوطاس "ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن, ولا الحيالى حتى يستبرأن بحيضة", والمباضعة مفاعلة من البضع, وهو الجماع أو الفرج, والافتضاض في العرف عبارة عن جماع البكر, وهو كسر العذرة مأخوذ من الفض, وهو الكسر. وكذا إذا حلف لا يغتسل منها؛ لأن الاغتسال منها لا يكون إلا بالجماع, فأما الجماع في غير الفرج فالاغتسال لا يكون منها, وإنما يكون من الإنزال ألا يرى أنه ما لم ينزل لا يجب الغسل. وفي الجماع في الفرج لا يقف وجوب الاغتسال على وجود الإنزال, ولو قال لم أعن به الجماع لا يدين في القضاء لكونه خلاف الظاهر, ويدين فيما بينه, وبين الله تعالى؛ لأن اللفظ يحتمله في الجملة. "وأما" الكناية فنحو لفظة الإتيان والإصابة بأن حلف لا يأتيها أو لا يصيب منها يريد الجماع؛ لأنهما من كنايات الجماع؛ لأنهما يستعملان في الجماع, وفي غيره استعمالا على السواء, فلا بد من النية. وكذا لفظة الغشيان بأن حلف لا يغشاها؛ لأن الغشيان يستعمل في الجماع قال الله تعالى: {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} أي: جامعها, ويستعمل في المجيء, وفي الستر والتغطية قال الله تعالى: {يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ} قيل: يأتيهم. وقيل يسترهم, ويغطيهم, فلا بد من النية. وكذا إذا حلف لا يمس جلده جلدها. وقال: لم أعن به الجماع يصدق؛ لأنه يحتمل الجماع, ويحتمل المس المطلق فيحنث بغير الجماع, والإيلاء ما وقف الحنث فيه على الجماع؛ لأنه يمكنه جماعها بغير مماسة الجلد بأن يلف ذكره بحريرة فيجامعها وكذا إذا حلف لا يمسها لما قلنا. وكذا إذا حلف لا يضاجعها أو لا يقرب فراشها. وقال لم أعن به الجماع فهو مصدق في القضاء؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الجماع, ويستعمل في غيره استعمالا واحدا؛ ولأنه يمكنه جماعها من غير مضاجعة, ولا قرب فراش, ولو حلف لا يجتمع رأسي, ورأسك فإن عنى به الجماع فهو مول؛ لأنه يحتمل الجماع, وإن لم يعن به الجماع لم يكن موليا, ولا يجتمعان على فراش, ولا مرفقة لئلا يلزمه الكفارة, وله جماعها من غير اجتماع على الفراش, ولا شيء يجمع رأسها عليه, ولو حلف لا يجمع رأسي, ورأسك وسادة أو لا يؤويني, وإياك بيت أو لا أبيت معك في فراش فإن عنى الجماع فهو مول؛ لأنه يحتمل الجماع فتصح نيته, وكيفما جامعها فهو حانث, وإن لم يعن به الجماع فليس بمول, ولا يأوي معها في بيت, ولا يبيت معها في فراش, ولا يجتمعان على وسادة لئلا تلزمه الكفارة, ويطؤها على الأرض والبوادي, ولو حلف لأسوءنك أو لأغيظنك لا يكون موليا إلا إذا عنى به ترك الجماع؛ لأن المساءة قد تكون بترك الجماع وقد تكون بغيره. وكذا الغيظ, فلا بد من النية. "وأما" اليمين بالله تعالى, وبصفاته فهي الحلف باسم من أسماء الله تعالى أو بصفة من صفاته بلفظ لا يستعمل في غير الصفة أو يستعمل في الصفة, وفي غيرها لكن على وجه لا يغلب استعماله في غير الصفة, وموضع معرفة هذه الجملة كتاب الأيمان. ثم الإيلاء إذا كان بالله تعالى فالمولي لا يخلو أما إن أطلق الإيلاء. "وأما" إن علقه بشرط, "وأما" إن أضافه إلى وقت, "وأما" إن وقته إلى غاية فإن أطلق بأن قال لامرأته والله لا أقربك كان موليا للحال, والأصل فيه أن من منع نفسه عن قربان زوجته بما يصلح أن يكون مانعا, وبما يحلف به عادة يصير موليا, أو يقال: من لا يمكنه قربان زوجته في المدة من غير شيء يلزمه بسبب اليمين فهو مول وقد وجد ههنا؛ لأن ذكر اسم الله تعالى يصلح مانعا تحرزا عن الهتك, وهو ما يحلف به عادة, وعرفا. وكذا لا يمكنه قربان زوجته في المدة من غير شيء يلزمه وهو الكفارة فيصير موليا

 

ج / 3 ص -163-       وكذا إذا قال لامرأتين له: والله لا أقربكما, وههنا ثلاثة فصول: أحدها أن يقول لامرأتين له: والله لا أقربكما أو يقول لنسائه الأربع والله لا أقربكن, وهما فصل واحد والثاني أن يقول: والله لا أقرب إحداكما أو إحداكن, والثالث أن يقول: والله لا أقرب واحدة منكما أو واحدة منكن أما الأول إذا قال لامرأتين له: والله لا أقربكما صار موليا منهما للحال حتى لو مضت أربعة أشهر, ولم يقربهما فيها بانتا جميعا, ويبطل. وكذا إذا قال لنسائه الأربع: والله لا أقربكن صار موليا منهن للحال حتى لو لم يقربهن حتى مضت أربعة أشهر بن جميعا, وهذا قول أصحابنا الثلاثة وهو استحسان والقياس أن لا يصير موليا في الأول ما لم يطأ واحدة منهما فيصير موليا من الأخرى. وفي الثاني ما لم يطأ واحدة فيصير موليا من الأخرى, وفي الثالث ما لم يطأ الثالثة منهن فيصير موليا من الرابعة, وهو قول زفر. وجه القياس أن المولي من لا يمكنه قربان امرأته من غير حنث يلزمه, وههنا يمكنه في الصورة الأولى قربان إحداهما من غير حنث يلزمه؛ لأنه لا يحنث بوطء إحداهما إذ جعل شرط الحنث قربانهما من غير شيء يلزمه, ولم يوجد, وفي الصورة الثانية يمكنه قربان الثلاث منهن من غير حنث يلزمه. ألا ترى أنه لا يحنث بوطء الثلاث منهن فلم يوجد حد المولي, فلا يكون موليا, وإذا وطئ إحداهما أو وطئ الثلاث منهن, فلا يمكنه وطء الباقية إلا بحنث يلزمه فوجد حد الإيلاء فيصير موليا. وجه الاستحسان أن المولي من لا يمكنه وطء امرأته في المدة من غير شيء يلزمه بسبب اليمين. وههنا لا يمكنه وطؤها في المدة من غير شيء يلزمه بسبب اليمين؛ لأنه لو وطئ إحداهما أو الثلاث منهن لزمه تعيين الأخرى للإيلاء, وهذا شيء يلزمه بسبب اليمين وقد وجد حد الإيلاء فيكون موليا, ولو قرب إحداهما لا كفارة عليه لعدم شرط الحنث, وهو قربانهما, ولكن يبطل إيلاؤه منها؛ لأن ذلك يقف على القربان وقد وجد, والإيلاء في حق الباقية على حاله لانعدام المبطل في حقهما, وهو القربان, ولو قربهما جميعا بطل إيلاؤهما, وعليه كفارة اليمين لوجود المبطل لهما والموجب للكفارة, وهو قربانهما. ولو ماتت إحداهما قبل مضي أربعة أشهر بطل إيلاؤها, ولا تجب الكفارة, وإن وطئ الأخرى بعد ذلك بالإجماع؛ لأن شرط وجوب الكفارة قربانهما, ولم يوجد, ولو طلق إحداهما لا يبطل الإيلاء. وأما الثاني, وهو ما إذا قال: والله لا أقرب إحداكما فإنه يصير موليا من إحداهما حتى لو وطئ إحداهما لزمته الكفارة, وبطل الإيلاء لوجود شرط الحنث, وهو قربان إحداهما, ولو ماتت إحداهما أو طلق إحداهما ثلاثا أو بانت بلا عدة تعينت الباقية للإيلاء لزوال المزاحمة, ولو لم يقرب إحداهما حتى مضت المدة بانت إحداهما بغير عينها, وله خيار أن يوقع الطلاق على أيتهما شاء؛ لأن الإيلاء في حق حكم البر تعليق الطلاق شرعا بشرط ترك القربان في المدة فيصير كأنه قال: إن لم أقرب إحداكما أربعة أشهر في إحداكما طالق بائن. ولو نص على ذلك فمضت المدة, ولم يقرب إحداهما طلقت إحداهما غير عين, وله الخيار يوقع على أيتهما شاء كذا هذا, ولو أراد أن يعين الإيلاء في إحداهما قبل مضي أربعة أشهر لا يملك ذلك حتى لو عين إحداهما ثم مضت أربعة أشهر لم يقع الطلاق على المعينة بل يقع على إحداهما بغير عينها, ويخير في ذلك؛ لأن اليمين تعلقت بغير المعينة فالتعيين يكون تغيير اليمين, فلا يملك ذلك؛ لأن تغيير اليمين إبطالها من وجه واليمين عقد لازم لا يحتمل الطلاق, فلا يحتمل التغيير؛ ولأن الإيلاء في حق البر تعليق الطلاق بشرط عدم القربان في المدة, ومتى علق الطلاق المبهم بشرط ثم أراد التعليق قبل وجود الشرط لا يقدر على ذلك كما إذا قال لامرأتيه: إذا جاء غد فإحداكما طالق, ثم أراد أن يعين إحداهما قبل مجيء الغد لا يملك ذلك كذا هذا فإذا مضت المدة, وبانت إحداهما بغير عينها فله الخيار في تعيين أيتهما شاء للطلاق؛ لأن الطلاق إذا وقع في المجهولة يتخير الزوج في التعيين فله أن يوقع الطلاق على إحداهما فلو لم يوقع الطلاق على واحدة منهما حتى مضت أربعة أشهر أخرى وقعت تطليقة أخرى, وبانت كل واحدة منهما بتطليقة في ظاهر الرواية. وروي عن أبي يوسف أنه لا يقع الطلاق على الأخرى. وجه رواية أبي يوسف أنه آلى من إحداهما لا من كل واحدة منهما, فلا يتناول الإيلاء إلا إحداهما. وجه ظاهر الرواية أن اليمين باقية لعدم الحنث فكان تعليق طلاق إحداهما بمضي المدة من غير فيء باقيا, فإذا مضت أربعة أشهر, ووقع الطلاق على إحداهما فقد زالت

 

ج / 3 ص -164-       مزاحمتهما واليمين باقية فتعينت الأخرى لبقاء اليمين في حقها, وتعليق طلاقها كما لو زالت المزاحمة بعد مضي المدة قبل اختيار الزوج بالموت بأن ماتت إحداهما أليس أنه تتعين الأخرى كذا ههنا. وهل يتكرر الطلاق على المولي منها بالإيلاء السابق بتكرار المدة؟ لا نص في هذه المسألة واختلف المشايخ فيه, وترجيح بعض الأقاويل فيه على البعض يعرف في الجامع الكبير, وكذلك لو عين الطلاق في إحداهما بعد مضي أربعة أشهر ثم مضت أربعة أشهر أخرى بانت الأخرى بتطليقة على جواب ظاهر الرواية. وأما الثالث, وهو ما إذا قال: والله لا أقرب واحدة منكما فإنه يصير موليا منهما جميعا حتى لو مضت مدة أربعة أشهر, ولم يقربهما فيها بانتا جميعا كذا ذكر المسألة في الجامع من غير خلاف, وهكذا ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي. وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي فقال على قول أبي حنيفة, وأبي يوسف يكون موليا منهما استحسانا. وعلى قول محمد يكون موليا من إحداهما, وهو القياس. وجه القياس أن قوله واحدة منكما لا يعبر به عنهما بل عن إحداهما, فصار كقوله والله لا أقرب إحداكما والدليل عليه أنه إذا قرب إحداهما يحنث, وتلزمه الكفارة فدل أن اليمين تناولت إحداهما لا غير, ووجه الاستحسان وهو الفرق بين المسألتين أن قوله إحداكما معرفة؛ لأنه مضاف إلى الكناية والكنايات معارف بل أعرف المعارف والمضاف إلى المعرفة معرفة, والمعرفة تختص في النفي كما تختص في الإثبات وقوله: واحدة منكما نكرة؛ لأنها نكرة بنفسها, ولم يوجد ما يوجب صيرورتها معرفة, وهو اللام أو الإضافة فبقيت نكرة, وأنها في محل النفي فتعم, والدليل على التفرقة بينهما أنه يستقيم إدخال كلمة الإحاطة والاشتمال وهي كلمة كل على واحدة منكما. ولا يستقيم إدخالها على إحداكما حتى يصح أن يقال: والله لا أقرب كل واحدة منكما, ولا يصح أن يقال: والله لا أقرب كل إحداكما فدل أن قوله واحدة منكما يصلح لهما وقوله: إحداكما لا يصلح لهما, إلا أنه إذا قال والله لا أقرب واحدة منكما فقرب إحداهما يبطل إيلاؤهما جميعا, وتلزمه الكفارة لوجود شرط الحنث, وهو قربان واحدة منهما, بخلاف ما إذا قال: والله لا أقربكما فقرب واحدة منهما إنه يبطل إيلاؤهما, ولا يبطل إيلاء الباقية حتى لا تجب عليه الكفارة؛ أما بطلان إيلاء التي قربها فلوجود شرط البطلان, وهو القربان, ولم يوجد القربان في الباقية, فلا يبطل إيلاؤها, وأما عدم وجوب الكفارة فلعدم شرط الوجوب, وهو قربانهما جميعا. قال لامرأته وأمته: والله لا أقربكما, لا يكون موليا من امرأته ما لم يقرب الأمة فإذا قرب الأمة صار موليا من امرأته؛ لأن المولي من لا يمكنه قربان امرأته في المدة من غير شيء يلزمه, وقبل أن يقرب الأمة يمكنه قربان امرأته من غير حنث يلزمه؛ لأنه علق الحنث بقربانهما, فلا يثبت بقربان إحداهما, فإذا قرب الأمة فقد صار بحال لا يمكنه قربان زوجته من غير حنث يلزمه فصار موليا. ولو قال: والله لا أقرب إحداكما, لم يكن موليا في حق البر لما ذكرنا أن قوله إحداكما معرفة لكونه مضافا إلى المعرفة, والمعرفة تخص, ولا تعم سواء كان في محل الإثبات أو في محل النفي, فلا يتناول إلا إحداهما, والإيلاء في حق البر تعليق الطلاق بشرط ترك القربان في المدة فصار كأنه قال: إن لم أقرب إحداكما في المدة فإحداكما طالق, ولو قال ذلك لا يقع الطلاق إلا إذا عنى امرأته, وما عنى ههنا, فلا يمكنه جعله إيلاء في حق البر. ولو قرب إحداهما تجب الكفارة؛ لأنه بقي يمينا في حق الحنث وقد وجد شرط الحنث فتجب الكفارة كما لو قال لأجنبية: والله لا أقربك ثم قربها حنث, ولا يكون ذلك إيلاء في حق البر كذا هذا. ولو قال: والله لا أقرب واحدة منكما كان موليا من امرأته لما ذكرنا أن الواحدة نكرة مذكورة في محل النفي فتعم عموم الأفراد كما لو قال: لا أكلم واحدا من رجال حلب إلا أنه لو قرب إحداهما حنث لما ذكرنا أن شرط حنثه قربان واحدة منهما لا قربانهما وقد وجد, ولو كان له امرأتان حرة, وأمة فقال: والله لا أقربكما صار موليا منهما جميعا؛ لأن كل واحدة منهما محل الإيلاء فإذا مضى شهران, ولم يقربهما بانت الأمة لمضي مدتها من غير قربان, وإذا مضى شهران آخران بانت الحرة أيضا لتمام مدتها من غير فيء, ولو قال: والله لا أقرب إحداكما يكون موليا من إحداهما بغير عينها؛ لأن كل واحدة منهما محل الإيلاء وقد أضاف الإيلاء إلى إحداهما بغير عينها فيصير موليا من إحداهما غير عين, ولو أراد أن يعين إحداهما قبل مضي الشهرين ليس له ذلك لما بينا فيما تقدم, وإذا مضى شهران, ولم

 

ج / 3 ص -165-       يقربهما بانت الأمة لا؛ لأنها عينت للإيلاء بل لسبق مدتها, واستوثقت مدة الإيلاء على الحرة فإذا مضت أربعة أشهر, ولم يقربها بانت الحرة؛ لأن اليمين باقية إذا لم يوجد الحنث فكان تعليق الطلاق على إحداهما باقيا, فإذا مضى شهران وقع الطلاق على الأمة فقد زالت مزاحمتها واليمين باقية فتعينت الحرة لبقاء الإيلاء في حقها, وتعليق طلاقها بمضي المدة, وإنما استوثقت مدة الإيلاء على الحرة؛ لأن ابتداء المدة انعقدت لإحداهما وقد تعينت الأمة للسبق فيبتدئ الإيلاء على الحرة من وقت بينونة الأمة بخلاف ما إذا قال لها: والله لا أقربكما؛ لأن هناك انعقدت المدة لهما فإذا مضى شهران فقد تمت مدة الأمة فتتم مدة الحرة بشهرين آخرين, ولو ماتت الأمة قبل مضي الشهرين تعينت الحرة للإيلاء من وقت اليمين حتى إذا مضت أربعة أشهر من وقت اليمين تبين لزوال المزاحمة بموت الأمة, ولو قال: والله لا أقرب واحدة منكما يكون موليا منهما جميعا حتى لو مضى شهران تبين الأمة, ثم إذا مضى شهران آخران تبين الحرة كما في قوله: والله لا أقربكما إلا أن ههنا إذا قرب إحداهما حنث, وبطل الإيلاء لما ذكرنا فيما قبل, وإن علقه بشرط يتعلق به بأن قال: إن دخلت هذه الدار, وإن كلمت فلانا فوالله لا أقربك. إذا أضافه إلى الوقت بأن قال: إذا جاء غد فوالله لا أقربك, أو قال: إذا جاء رأس شهر كذا فوالله لا أقربك, وإذا وجد الشرط أو الوقت فيصير موليا, ويعتبر ابتداء المدة من وقت وجود الشرط والوقت؛ لأن الإيلاء يمين, واليمين تحتمل التعليق بالشرط والإضافة إلى الوقت كسائر الأيمان, وإن وقته إلى غاية ينظر إن كان المجعول غاية لا يتصور وجوده في مدة الإيلاء يكون موليا كما إذا قال: وهو في شعبان: والله لا أقربك حتى أصوم المحرم؛ لأنه منع نفسه عن قربانها بما يصلح مانعا؛ لأنه لا يمكنه قربانها إلا بحنث يلزمه, وهو الكفارة. ألا ترى أنه لا يتصور وجود الغاية وهو صوم المحرم في المدة, وكذلك يعد مانعا في العرف؛ لأنه يحلف به عادة. وكذا لو قال: والله لا أقربك إلا في مكان كذا, وبينه, وبين ذلك المكان أربعة أشهر فصاعدا يكون موليا؛ لأنه لا يمكنه قربانها من غير حنث يلزمه, وإن كان أقل من ذلك لم يكن موليا لإمكان القربان من غير شيء يلزمه. وكذا لو قال: والله لا أقربك حتى تفطمي صبيك, وبينها, وبين الفطام أربعة أشهر فصاعدا يكون موليا, وإن كان أقل من ذلك لم يكن موليا لما قلنا, ولو قال: والله لا أقربك حتى تخرج الدابة من الأرض أو حتى يخرج الدجال أو حتى تطلع الشمس من مغربها. فالقياس أن لا يكون موليا لتصور وجود الغاية في المدة ساعة فساعة فيمكنه قربانها في المدة من غير شيء يلزمه, فلا يكون موليا, وفي الاستحسان يكون موليا؛ لأن حدوث هذه الأشياء لها علامات يتأخر عنها بأكثر من مدة الإيلاء على ما نطق به الإخبار, فلا توجد هذه الغاية في زماننا في مدة أربعة أشهر عادة فلم تكن الغاية متصورة الوجود عادة, فلا يمكنه قربانها من غير حنث يلزمه عادة فيكون موليا؛ ولأن هذا اللفظ يذكر على إرادة التأبيد في العرف فصار كأنه قال: والله لا أقربك أبدا وكذا إذا قال: والله لا أقربك حتى تقوم الساعة كان موليا, وإن كان يمكن في العقل قيام الساعة ساعة فساعة لكن قامت دلائل الكتاب العزيز والسنن المشهورة على أنها لا تقوم إلا بعد تقدم أشراطها العظام كطلوع الشمس من مغربها, وخروج الدجال, وخروج يأجوج, ومأجوج, ونحو ذلك, ولم يوجد شيء من ذلك في زماننا فلم تكن الغاية قبلها متصورة الوجود عادة على أن مثل هذه الغاية تذكر, ويراد بها التأبيد في العرف والعادة كما قال الله تعالى: {وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} أي: لا يدخلونها أصلا, ورأسا, وكما يقال: لا أفعل كذا حتى يبيض الفأر, ويشيب الغراب, ونحو ذلك فإنه يصير كأنه قال: والله لا أقربك حتى تموتي أو حتى أموت أو حتى تقتلي أو حتى أقتل أو حتى أقبلك أو حتى تقبليني كان موليا, وإن كان يتصور وجود هذه الأشياء في المدة لكن لا يتصور بقاء النكاح بعد وجودها فيصير حاصل هذا الكلام كأنه قال: والله لا أقربك ما دمت زوجك أو ما دمت زوجتي أو ما دمت حيا أو ما دمت حية, ولو قال ذلك كان موليا إذ لو لم يكن موليا لما تصور انعقاد الإيلاء؛ لأن هذا التقدير ثابت في كل الإيلاء. قال لامرأته وهي أمة الغير والله لا أقربك حتى أملكك أو أملك شقصا منك يكون موليا؛ لأن النكاح لا يبقى بعد ملكها أو شقصا منها فصار كأنه قال: والله لا أقربك ما دمت زوجك أو ما دمت زوجتي, ولو قال والله لا أقربك

 

ج / 3 ص -166-       حتى أشتريك لا يكون موليا؛ لأن النكاح لا يرتفع بمطلق الشراء لجواز أن يشتريها لغيره, فلا يملكها, فلا يرتفع النكاح. وكذا إذا قال: حتى أشتريك لنفسي؛ لأنه قد يشتريها شراء فاسدا, فلا يرتفع النكاح, فلا يملكها؛ لأنه لا يملكها قبل القبض, ولو قال: حتى أشتريك لنفسي, وأقبضك كان موليا؛ لأن الملك في الشراء الفاسد يثبت بالقبض فيرتفع النكاح فيصير تقديره والله لا أقربك ما دمت في نكاحي, وإن كان مما يتصور بقاء النكاح مع وجوده فإن كان مما لو حلف به لكان موليا يصير موليا إذا جعله غاية, وإلا, فلا. هذا أصل أبي حنيفة, ومحمد. وأصل أبي يوسف أنه إن أمكنه قربانها في المدة من غير حنث يلزمه لم يكن موليا, وعلى هذا يخرج ما إذا قال والله لا أقربك حتى أعتق عبدي فلانا أو حتى أطلق امرأتي فلانة أو حتى أصوم شهرا أنه يصير موليا في قول أبي حنيفة, ومحمد, وعند أبي يوسف لا يكون موليا, لأبي يوسف أنه يتصور وجود هذه الغايات قبل مضي أربعة أشهر فيمكنه قربانها من غير حنث يلزمه بسبب اليمين, فلا يكون موليا كما إذا قال: والله لا أقربك حتى أدخل الدار أو حتى أكلم فلانا, ولهما أنه منع نفسه عن قربان زوجته بما يصلح أن يكون مانعا, وبما يحلف به في العرف والعادة, وهو عتق عبده, وطلاق امرأته وصوم الشهر, ولهذا لو حلف بهذه الأشياء لكان موليا فكذا إذا جعلها غاية. وكذا لا يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه بسبب اليمين: إما وجوب الكفارة أو عتق العبد أو طلاق المرأة أو صوم الشهر, فيصير في التقدير كأنه قال إن قربتك فعبدي حر أو علي كفارة يمين, ولو قال ذلك لكان موليا كذا هذا بخلاف الدخول والكلام. قال لا أقربك حتى أقتل عبدي أو حتى أشتم عبدي أو حتى أشتم فلانا أو أضرب فلانا, وما أشبه ذلك لم يكن موليا؛ لأنه لم يحلف بهذه الأشياء عرفا, وعادة, ولهذا لو حلف بشيء من ذلك لم يكن موليا فكذا إذا جعله غاية للإيلاء. وكذا إذا قال: إن قربتك فعلي قتل عبدي أو ضرب عبدي أو شتم عبدي أو قتل فلان أو ضرب فلان أو شتم فلان لم يكن موليا كما لو قال: فعلي أن أدخل الدار أو أكلم فلانا لما قلنا والله الموفق. وأما اليمين بالشرط والجزاء فنحو قوله: إن قربتك فامرأتي الأخرى طالق, أو قال: هذه طالق أو قال: فعبدي هذا حر أو فأنت علي كظهر أمي أو قال: فعلي عتق رقبة أو فعلي حجة أو عمرة أو المشي إلى بيت الله أو فعلي هدي أو صدقة أو صوم أو اعتكاف؛ لأن الإيلاء يمين واليمين في اللغة عبارة عن القوة, والحالف يتقوى بهذه الأشياء على الامتناع من قربان امرأته في المدة؛ لأن كل واحد منها يصلح مانعا من القربان في المدة لأنه يثقل على الطبع, ويشق عليه فكان في معنى اليمين بالله عز وجل لحصول ما وضع له اليمين, وهو التقوي على الامتناع من مباشرة الشرط. وكذا يعد مانعا في العرف والعادة فإن الناس تعارفوا الحلف بهذه الأشياء. وكذا لبعضها مدخل في الكفارة, وهو العتق والصدقة, وهي الإطعام والصوم والهدي, والاعتكاف لا يصح بدون الصوم والحج والعمرة, وإن لم يكن لهما مدخل في الكفارة فلهما تعلق بالمال فإنه لا يتوصل إليهما إلا بمال غالبا فأشبه العتق والصدقة لتعلقهما بالمال. وذكر القدوري في شرح مختصر الكرخي خلاف أبي يوسف في قوله إن قربتك فعبدي حر أن على قول أبي يوسف لا يكون موليا, ولم يذكر القاضي الخلاف في شرحه مختصر الطحاوي. وجه قول أبي يوسف أن المولي من لا يمكنه قربان امرأته في المدة إلا بحنث يلزمه, وههنا يمكنه القربان من غير شيء يلزمه بأن يبيع العبد قبل أن يقربها ثم يقربها, فلا يلزمه شيء, فلا يكون موليا "وجه" قولهما أنه منع نفسه من قربانها بما يصلح مانعا, ويعد مانعا في العرف والعادة فكان موليا. وأما قوله: يمكنه أن يبيع العبد قبل القربان, فلا يلزمه شيء بالقربان, فيكون الملك قائما للحال والظاهر بقاؤه والبيع موهوم فكان الحنث عند القربان لازما على اعتبار الحال ظاهرا, وغالبا, ولو قال: إن قربتك فكل مملوك أملكه فيما يستقبل حرا. وقال كل امرأة أتزوجها فهي طالق فهو مول في قول أبي حنيفة, ومحمد وقال أبو يوسف: لا يكون موليا وجه قول أبي يوسف أنه علق اليمين بالقربان, وعند وجود القربان لا يلزمه شيء, وإنما يلزمه بعد التمليك والتزوج والجزاء المانع من القربان ما يلزم عند القربان؛ ولأنه يقدر على أن يمتنع عن التملك والتزوج, فلا يلزمه شيء, فلا يكون موليا وجه قولهما أنه جعل القربان شرط انعقاد اليمين, وكون القربان شرط انعقاد اليمين يصلح مانعا له عن القربان؛ لأنه إذا قربها

 

ج / 3 ص -167-       انعقدت اليمين واليمين إذا انعقدت يحتاج إلى منع النفس عن تحصيل الشرط خوفا عن نزول الجزاء, وبه تبين أنه لا يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه وقت القربان, وهو انعقاد اليمين التي يلزم عند انحلالها حكم الحنث فيصير موليا وقوله: يمكنه أن لا يتملك, فلا يلزمه شيء قلنا وقد يملك من غير تملك بالإرث, فلا يمكنه الامتناع عنه. لو قال: إن قربتك فعلي صوم شهر كذا فإن كان ذلك الشهر يمضي قبل مضي الأربعة الأشهر لم يكن موليا؛ لأنه إذا مضى يمكنه الوطء في المدة من غير شيء يلزمه, وإن كان لا يمضي قبل مضي الأربعة الأشهر فهو مول؛ لأنه لا يمكنه وطؤها في المدة إلا بصيام يلزمه, ولو قال: إن قربتك فعلي أن أصلي ركعتين أو علي أن أغزو لم يكن موليا في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف, وعند محمد يكون موليا كذا ذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي الخلاف بين أبي يوسف, ومحمد, ولم يذكر قول أبي حنيفة "وجه" قول محمد أن الصلاة مما يصح إيجابها بالنذر كالصوم والحج فيصير موليا كما لو قال: علي صوم أو حج وجه قولهما أن هذا لا يصلح مانعا؛ لأنه لا يثقل على الطبع بل يسهل, ولا يعد مانعا في العرف أيضا ألا ترى أن الناس لم يتعارفوا الحلف بالصلاة والغزو بخلاف الحج والصوم, فلا يصير موليا, كما لو قال: لله علي صلاة الجنازة أو سجدة التلاوة. وكذا لا مدخل للصلاة في الكفارة, ولا تعلق لها بالمال بخلاف الصوم والحج, ولو قال إن قربتك فعلي كفارة أو قال: فعلي يمين فهو مول؛ لأن قوله فعلي كفارة التزام الكفارة نصا, وقوله: علي يمين موجب اليمين, وهو الكفارة فكان بمنزلة قوله: فعلي كفارة وقالوا فيمن قال: إن قربتك فعلي نحر ولدي أنه مول عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر بناء على أن النذر بنحر الولد يصح, ويجب ذبح شاة عندنا, وعند زفر هو باطل لا يوجب شيئا ولو قال: إن قربتك فأنت علي مثل امرأة فلان, وفلان كان آلى من امرأته فإن نوى الإيلاء كان موليا؛ لأنه شبهها بامرأة آلى منها زوجها لإتيانه بلفظ موضوع للتشبيه فإذا نوى به الإيلاء انصرف التشبيه إليه, وإن لم ينو التحريم ولا اليمين لم يكن موليا؛ لأن التشبيه لا يقتضي المساواة في جميع الصفات وقالوا فيمن قال لامرأته: أنا منك مول إنه إن عنى به الخبر بالكذب يصدق فيما بينه, وبين الله ولا يكون موليا؛ لأن لفظه لفظ الخبر, وخبر غير المعصوم يحتمل الكذب, ولا يصدق في القضاء؛ لأن خبره يحمل على الصدق ولا يكون صادقا إلا بثبوت المخبر به, وإن عنى به الإيجاب كان موليا في القضاء, وفيما بينه, وبين الله تعالى؛ لأن هذا اللفظ يستعمل في الإيجاب في العرف ولو آلى من امرأته ثم قال لامرأة له أخرى قد أشركتك في إيلائها كان باطلا؛ لأن الشركة في الإيلاء لو صحت لثبتت الشركة في المدة فيصير لكل واحدة منهما أقل من أربعة أشهر, وهذا يمنع صحة الإيلاء لما نذكر إن شاء الله تعالى. ولو قال: إن قربتك فأنت علي حرام فإن نوى الطلاق فهو مول عندهم جميعا؛ لأنه إذا نوى به الطلاق فقد جعل الطلاق جزاء مانعا من القربان فيصير كأنه قال: إن قربتك فأنت طالق ولو قال ذلك لصار موليا كذا هذا, وإن نوى اليمين فهو مول للحال عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف, ومحمد لا يكون موليا ما لم يقربها "وجه" قولهما أن قوله أنت علي حرام إذا نوى به اليمين أو لا نية له يكون إيلاء بلا خلاف بين أصحابنا كأنه قال والله لا أقربك فصار الإيلاء معلقا بالقربان كأنه قال: إن قربتك فوالله لا أقربك ولو قال ذلك لا يكون موليا حتى يقربها كذا هذا, ولأبي حنيفة أنه منع نفسه من قربان امرأته في المدة بما لا يصلح مانعا وهو التحريم, وهو حد المولي فيصير موليا كما لو قال إن قربتك فأنت علي كظهر أمي ثم لا بد من معرفة مسألة الحرام؛ أعني قوله لامرأته: أنت علي حرام من غير التعليق بشرط القربان أن حكمها ما هو. وجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو أما إن أضاف التحريم إلى شيء خاص نحو امرأته أو الطعام أو الشراب أو اللباس. "وأما" إن أضافه إلى كل حلال على العموم فإن أضافه إلى امرأته بأن قال: أنت علي حرام أو قد حرمتك علي أو أنا عليك حرام أو قد حرمت نفسي عليك أو أنت محرمة علي فإن أراد به طلاقا فهو طلاق؛ لأنه يحتمل الطلاق, وغيره, فإذا نوى به الطلاق انصرف إليه, وإن نوى ثلاثا يكون ثلاثا, وإن نوى واحدة يكون واحدة بائنة, وإن نوى اثنتين يكون واحدة بائنة عندنا خلافا لزفر؛ لأنه من جملة كنايات الطلاق, وإن لم ينو الطلاق, ونوى التحريم أو لم يكن له نية فهو

 

ج / 3 ص -168-       يمين عندنا, ويصير موليا حتى لو تركها أربعة أشهر بانت بتطليقة؛ لأن الأصل في تحريم الحلال أن يكون يمينا لما تبين, وإن قال: أردت به الكذب, يصدق فيما بينه, وبين الله تعالى ولا يكون شيئا ولا يصدق في نفي اليمين في القضاء وقد اختلف السلف رضي الله عنهم في هذه المسألة؛ روي عن أبي بكر, وعمر, وعبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عباس, وعائشة رضي الله عنهم أنهم قالوا: الحرام يمين حتى روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: إذا حرم الرجل امرأته فهو يمين يكفرها أما كان لكم في رسول الله أسوة حسنة. وروي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه أنه قال: إن نوى طلاقا فطلاق, وإن لم ينو طلاقا فيمين كفرها, وعن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: فيه كفارة يمين, ومنهم من جعله طلاقا ثلاثا, وهو قول علي رضي الله عنه ومنهم من جعله طلاقا رجعيا, وعن مسروق أنه قال: ليس ذلك بشيء ما أبالي حرمتها أو قطعة من ثريد. وقال الشافعي: ليس بيمين, وفيه كفارة يمين بنفس اللفظ ولقب المسألة أن تحريم الحلال هل هو يمين؟ عندنا يمين, وعنده ليس بيمين "وجه" قوله أن تحريم الحلال تغيير الشرع والعبد لا يملك تغيير الشرع, ولهذا خرج قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} مخرج العتاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم فدل أنه ليس لأحد أن يحرم ما أحل الله سبحانه, وتعالى وبه تبين أن اليمين لا يحرم المحلوف عليه على الحالف, وإنما يمنعه منه بكونه حلالا. "ولنا" الكتاب والسنة والإجماع؛ أما الكتاب فقوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى قوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} قيل: نزلت الآية في تحريم جاريته مارية القبطية لما قال صلى الله عليه وسلم هي علي حرام, وسمى الله تعالى ذلك يمينا بقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} أي: وسع الله عليكم أو أباح لكم أن تحلوا من أيمانكم بالكفارة, وفي بعض القراءات قد فرض الله لكم كفارة أيمانكم والخطاب عام يتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته. وأما السنة فما روى ابن عباس عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحرام يمينا. "وأما" الإجماع فما روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل الحرام يمينا, وبعضهم نص على وجوب كفارة اليمين فيه, وكفارة اليمين ولا يمين لا تتصور فدل على أنه يمين وقول من جعله طلاقا ثلاثا محمول على ما إذا نوى الثلاث؛ لأن الحرمة نوعان غليظة, وخفيفة فكانت نية الثلاث تعيين بعض ما يحتمله اللفظ فيصح, وإذا نوى واحدة كانت واحدة بائنة؛ لأن اللفظ ينبئ عن الحرمة والطلاق الرجعي لا يوجب الحرمة للحال, وإثبات حكم اللفظ على الوجه الذي ينبئ عنه اللفظ أولى؛ ولأن المخالف يوجب فيه كفارة يمين, وكفارة اليمين تستدعي وجود اليمين فدل أن هذا اللفظ يمين في الشرع فإذا نوى به الكذب لا يصدق في إبطال اليمين في القضاء بعدوله عن الظاهر. وأما قوله: إن تحريم الحلال تغيير الشرع فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن هذا ليس بتحريم الحلال من الحالف حقيقة بل من الله سبحانه, وتعالى ؛ لأن التحريم إثبات الحرمة كالتحليل إثبات الحل والعبد لا يملك ذلك بل الحرمة والحل, وسائر الحكومات الشرعية ثبتت بإثبات الله تعالى لا صنع للعبد فيها أصلا إنما من العبد مباشرة سبب الثبوت, هذا هو المذهب عند أهل السنة والجماعة فلم يكن هذا من الزوج تحريم ما أحله الله تعالى بل مباشرة سبب ثبوت الحرمة أو منع النفس عن الانتفاع بالحلال؛ لأن التحريم في اللغة عبارة عن المنع وقد يمنع المرء من تناول الحلال لغرض له في ذلك, ويسمى ذلك تحريما قال الله تعالى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} والمراد منه امتناع سيدنا موسى عليه الصلاة والسلام عن الارتضاع من غير ثدي أمه لا التحريم الشرعي, وعلى أحد هذين الوجهين يحمل التحريم المضاف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن قيل: لو كان الأمر على ما ذكرتم لم يكن ذلك منه تحريم الحلال حقيقة فما معنى إلحاق العتاب به؟ فالجواب عنه من وجهين: أحدهما: أن ظاهر الكلام إن كان يوهم العتاب فليس بعتاب في الحقيقة بل هو تخفيف المؤنة عليه صلى الله عليه وسلم في حسن العشرة والصحبة مع أزواجه؛ لأنه كان مندوبا إلى حسن العشرة معهن والشفقة عليهن والرحمة بهن فبلغ من حسن العشرة والصحبة مبلغا امتنع عن الامتناع بما أحل الله له يبتغي به حسن العشرة فخرج ذلك مخرج تخفيف المؤنة في حسن

 

ج / 3 ص -169-       العشرة معهن لا مخرج النهي والعتاب, وإن كانت صيغته صيغة النهي والعتاب, وهو كقوله تعالى: {فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ} والثاني: إن كان ذلك الخطاب عتابا فيحتمل أنه إنما عوتب؛ لأنه فعل بلا إذن سبق من الله عز وجل وإن كان ما فعل مباحا في نفسه, وهو منع النفس عن تناول الحلال والأنبياء عليهم الصلاة والسلام يعاتبون على أدنى شيء منهم يوجد مما لو كان ذلك من غيرهم لعد من أفضل شمائله كما قال الله تعالى: {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ} وقوله: { عَبَسَ وَتَوَلَّى أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى} ونحو ذلك والثاني: إن كان هذا تحريم الحلال لكن لم قلت إن كل تحريم حلال من العبد تغيير للشرع بل ذلك نوعان: تحريم ما أحله الله تعالى مطلقا. وذلك تغيير بل اعتقاده كفر, وتحريم ما أحله الله مؤقتا إلى غاية لا يكون تغييرا بل يكون بيان نهاية الحلال, ألا ترى أن الطلاق مشروع, وإن كان تحريم الحلال لكن لما كان الحل مؤقتا إلى غاية وجود الطلاق لم يكن التطليق من الزوج تغييرا للشرع بل كان بيان انتهاء الحل, وعلى هذا سائر الأحكام التي تحتمل الارتفاع والسقوط, وعلى هذا سبيل النسخ فيما يحتمل التناسخ, فكذا قوله: لامرأته أنت علي حرام, وإن نوى بقوله أنت علي حرام الظهار كان ظهارا عند أبي حنيفة, وأبي يوسف. وقال محمد: لا يكون ظهارا "وجه" قوله أن الظهار تشبيه الحلال بالحرام, والتشبيه لا بد له من حرف التشبيه ولم يوجد, فلا يكون ظهارا ولهما أنه وصفها بكونها محرمة والمرأة تارة تكون محرمة بالطلاق, وتارة تكون محرمة بالظهار فأي ذلك نوى فقد نوى ما يحتمله كلامه فيصدق فيه هذا إذا أضاف التحريم إلى المرأة. فأما إذا أضافه إلى الطعام أو الشراب أو اللباس بأن قال: هذا الطعام علي حرام أو هذا الشراب أو هذا اللباس فهو يمين عندنا, وعليه الكفارة إذا فعل. وقال الشافعي: إذا قال ذلك في غير الزوجة والجارية لا يجب شيء, وهي مسألة تحريم الحلال أنه يمين أم لا؟ وجه قول الشافعي في المسألة الأولى ما ذكرنا في المسألة الأولى. "ولنا" قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قيل: نزلت الآية في تحريم العسل وقد سماه الله تعالى يمينا بقوله سبحانه, وتعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} فدل أن تحريم غير الزوجة والجارية يمين موجب للكفارة؛ لأن تحلة اليمين هي الكفارة, فإن قيل فقد روي أنها نزلت في تحريم جاريته مارية فالجواب أنه لا يمتنع أن تكون الآية الكريمة نزلت فيهما لعدم التنافي؛ ولأنه لو أضاف التحريم إلى الزوجة والجارية لكان يمينا, فكذا إذا أضيف إلى غيرهما كان يمينا؛ كلفظ القسم إذا أضيف إلى الزوجة والجارية كان يمينا, وإذا أضيف إلى غيرهما كان يمينا أيضا, كذا هذا, فإن فعل كان يمينا مما حرمه قليلا أو كثيرا حنث وانحلت اليمين؛ لأن التحريم المضاف إلى المعين يوجب تحريم كل جزء من أجزاء المعين كتحريم الخمر والخنزير والميتة والدم فإذا تناول شيئا منه فقد فعل المحلوف عليه فيحنث, وتنحل اليمين, بخلاف ما إذا حلف لا يأكل هذا الطعام فأكل بعضه أنه لا يحنث؛ لأن الحنث هناك معلق بالشرط وهو أكل كل الطعام والمعلق بشرط لا ينزل عند وجود بعض الشرط. ولو قال: نسائي علي حرام ولم ينو الطلاق فقرب إحداهن كفر, وسقطت اليمين فيهن جميعا؛ لأنه أضاف التحريم إلى جمع فيوجب تحريم كل فرد من أفراد الجمع فصار كل فرد من أفراد الجمع محرما على الانفراد فإذا قرب واحدة منهن فقد فعل ما حرمه على نفسه فيحنث, وتلزمه الكفارة, وتنحل اليمين, وإن لم يقرب واحدة منهن حتى مضت أربعة أشهر بن جميعا؛ لأن حكم الإيلاء لا يثبت في حق كل واحدة منهن على انفرادها والإيلاء يوجب البينونة بمضي المدة من غير فيء, هذا إذا أضاف التحريم إلى نوع خاص. فأما إذا أضافه إلى الأنواع كلها بأن قال: كل حلال علي حرام؛ فإن لم تكن له نية فهو على الطعام والشراب خاصة استحسانا والقياس أن يحنث عقيب كلامه, وهو قول زفر. وجه القياس أن اللفظ خرج مخرج العموم فيتناول كل حلال, وكما فرغ عن يمينه لا يخلو عن نوع حلال يوجد منه فيحنث وجه الاستحسان أن هذا عام لا يمكن العمل بعمومه؛ لأنه لا يمكن حمله على كل مباح من فتح عينه, وغض بصره, وتنفسه, وغيرها من حركاته, وسكناته المباحة؛ لأنه لا يمكنه الامتناع عنه والعاقل لا يقصد بيمينه منع نفسه عما لا يمكنه الامتناع عنه فلم يمكن العمل بعموم هذا اللفظ فيحمل على الخصوص وهو الطعام والشراب باعتبار العرف والعادة؛ لأن هذا اللفظ مستعمل فيهما في العرف, ونظيره

 

ج / 3 ص -170-       قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ} أنه لما لم يمكن العمل بعمومه لثبوت المساواة بين المسلم والكافر في أشياء كثيرة حمل على الخصوص, وهو نفي المساواة بينهما في العمل في الدنيا أو في الجزاء في الآخرة, كذا هذا فإن نوى مع ذلك اللباس أو امرأته فالتحريم واقع على جميع ذلك. وأي شيء من ذلك فعل, وحده لزمته الكفارة؛ لأن اللفظ صالح لتناول كل المباحات, وإنما حملناه على الطعام والشراب بدليل العرف فإذا نوى شيئا زائدا على المتعارف فقد نوى ما يحتمله لفظه, وفيه تشديد على نفسه فيقبل قوله, فإذا نوى شيئا بعينه دون غيره؛ بأن نوى الطعام خاصة أو الشراب خاصة أو اللباس خاصة أو امرأته خاصة فهو على ما نوى فيما بينه, وبين الله تعالى, وفي القضاء؛ لما ذكرنا أن هذا اللفظ متروك العمل بظاهر عمومه, ومثله يحمل على الخصوص, فإذا قال أردت واحدا بعينه دون غيره فقد ترك ظاهر لفظ هو متروك الظاهر فلم يوجد منه العدول فيصدق, وإن قال كل حل علي حرام, ونوى امرأته كان عليها, وعلى الطعام والشراب؛ لأن الطعام والشراب دخلا تحت ظاهر هذا اللفظ ولم ينفهما بنيته فبقيا داخلين تحت اللفظ بخلاف الفصل الأول؛ لأنه هناك نوى امرأته خاصة, ونفى الطعام والشراب بنيته فلم يدخلا وههنا لم ينف الطعام والشراب نيته وقد دخلا تحت اللفظ فبقيا كذلك ما لم ينفيا بالنية, وإن نوى في امرأته الطلاق لزمه الطعام فيها فإن أكل أو شرب لم تلزمه الكفارة؛ لأن اللفظ الواحد لا يجوز حمله على الطلاق واليمين لاختلاف معنييهما, واللفظ الواحد لا يشتمل على معنيين مختلفين فإذا أراد به في الزوجة الطلاق الذي هو أشد الأمرين, وأغلظهما لا يبقى الآخر مرادا. وكذا روي عن أبي يوسف, ومحمد في رجل قال لامرأتين له: أنتما علي حرام, يعني في إحداهما الطلاق, وفي الأخرى الإيلاء فهما طالقان جميعا لما ذكرنا أن اللفظ الواحد لا يحتمل معنيين مختلفين فإذا أرادهما بلفظ واحد يحمل على أغلظهما, ويقع الطلاق عليهما. ولو قال: هذه علي حرام ينوي الطلاق وهذه علي حرام ينوي الإيلاء كان كما نوى؛ ; لأنهما لفظان فيجوز أن يراد بأحدهما خلاف ما يراد بالآخر. وعن أبي يوسف فيمن قال لامرأتيه: أنتما علي حرام ينوي في إحداهما ثلاثا ثلاثا وفي الأخرى واحدة أنهما جميعا طالقان ثلاثا؛ لأن حكم الواحدة البائنة خلاف حكم الثلاث؛ لأن الثلاث يوجب الحرمة الغليظة واللفظ الواحد لا يتناول معنيين مختلفين في حالة واحدة فإذا نواهما يحمل على أغلظهما, وأشدهما. وقال ابن سماعة في نوادره: سمعت أبا يوسف يقول في رجل قال ما أحل الله علي حرام من مال وأهل ونوى الطلاق في أهله قال: ولا نية له في الطعام فإن أكل لم يحنث لما قلنا. قال: وكذلك لو قال: هذا الطعام علي حرام, وهذه ينوي الطلاق ؛ لأن اللفظة واحدة وقد تناولت الطلاق, فلا تتناول تحريم الطعام. وقالوا فيمن قال لامرأته: أنت علي كالدم أو الميتة أو لحم الخنزير أو كالخمر أنه يسأل عن نيته؛ فإن نوى كذبا فهو كذب؛ لأن هذا اللفظ ليس صريحا في التحريم ليجعل يمينا فيصدق أنه أراد به الكذب بخلاف قوله أنت علي حرام فإنه صريح في التحريم فكان يمينا, وإن نوى التحريم فهو إيلاء؛ لأنه شبهها بما هو محرم فكأنه قال: أنت حرام. وإن نوى الطلاق فالقول فيه كالقول فيمن قال لامرأته: أنت علي حرام ينوي الطلاق وروى ابن سماعة عن محمد فيمن قال لامرأته: إن فعلت كذا فأنت أمي يريد التحريم قال: هو باطل؛ لأنه لم يجعلها مثل أمه ليكون تحريما, وإنما جعلها أمه فيكون كذبا. قال محمد: ولو ثبت التحريم بهذا لثبت إذا قال أنت حواء, وهذا لا يصح. وقال ابن سماعة عن محمد فيمن قال لامرأته: أنت معي حرام فهو مثل قوله: أنت علي حرام؛ لأن هذه الحروف يقام بعضها مقام بعض والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط ركن الإيلاء فنوعان: نوع هو شرط صحته في حق حكم الحنث, ونوع هو شرط صحته في حق حكم البر, وهو الطلاق؛ أما الأول فموضع بيانه كتاب الأيمان؛ لأن الإيلاء يساوي سائر الأيمان في حق أحد الحكمين, وهو حكم الحنث, وإنما يخالفها في حق الحكم الآخر, وهو حكم البر؛ ولأنه لا حكم لسائر الأيمان عند تحقق البر فيها وللإيلاء عند تحقق البر حكم, وهو وقوع الطلاق؛ إذ هو تعليق الطلاق البائن شرعا بشرط البر كأنه قال: إذا مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيها فأنت طالق بائن, فنذكر الشرائط المختصة به في حق هذا الحكم, وهو الطلاق فنقول: لركن

 

ج / 3 ص -171-       الإيلاء في حق هذا الحكم شرائط بعضها يعم كل يمين بالطلاق, وبعضها يخص الإيلاء. أما الذي يعم فما ذكرنا من الشرائط فيما تقدم من العقل والبلوغ وقيام ملك النكاح والإضافة إلى الملك حتى لا يصلح إيلاء الصبي والمجنون؛ لأنهما ليسا من أهل الطلاق. وكذا لو آلى من أمته أو مدبرته أو أم ولده لم يصح إيلاؤه في حق هذا الحكم؛ لأن الله تعالى خص الإيلاء بالزوجات بقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} والزوجة اسم للمملوكة بملك النكاح, وشرع الإيلاء في حق هذا الحكم ثبت بخلاف القياس بهذه الآية الشريفة, وأنها, وردت في الأزواج فتختص بهم,؛ ولأن اعتبار الإيلاء في حق هذا الحكم لدفع الظلم عنها من قبل الزوج لمنعه حقها في الجماع منعا مؤكدا باليمين ولا حق للأمة قبل مولاها في الجماع فلم يتحقق الظلم, فلا تقع الحاجة إلى الدفع لوقوع الطلاق؛ ولأن الفرقة الحاصلة بمضي المدة من غير فيء فرقة بطلاق ولا طلاق بدون النكاح, ولو آلى منها وهي مطلقة فإن كان الطلاق رجعيا فهو مول لقيام الملك من كل وجه, ولهذا صح طلاقه, وظهاره, ويتوارثان, وإن كان بائنا أو ثلاثا لم يكن موليا لزوال الملك والمحل بالإبانة والثلاث والإيلاء لا ينعقد في غير الملك ابتداء, وإن كان يبقى بدون الملك على ما نذكره إن شاء الله تعالى. وعلى هذا يخرج ما إذا قال لأجنبية: والله لا أقربك ثم تزوجها أنه لا يصير موليا في حق حكم البر حتى لو مضت أربعة أشهر فصاعدا بعد التزوج ولم يفئ إليها لا يقع عليها شيء لانعدام الملك والإضافة إلى الملك ولو قربها بعد التزوج أو قبله تلزمه الكفارة لانعقاد اليمين في حق الحنث ولو قال لها: إن تزوجتك فوالله لا أقربك فتزوجها صار موليا عندنا لوجود الملك عند التزوج واليمين بالطلاق يصح في الملك أو مضافا إلى الملك, وههنا وجدت الإضافة إلى الملك فيصير موليا بخلاف الفصل الأول وكذا جميع ما ذكرنا من شرائط صحة التطليق فهو من شرط صحة الإيلاء في حق الطلاق. وأما الذي يخص الإيلاء فشيئان: أحدهما: المدة, وهي أن يحلف على أربعة أشهر فصاعدا في الحرة أو يحلف مطلقا أو مؤبدا حتى لو حلف على أقل من أربعة أشهر لم يكن موليا في حق الطلاق, وهذا قول عامة العلماء, وعامة الصحابة رضي الله عنهم وقال بعض أهل العلم إن مدة الإيلاء غير مقدرة, يستوي فيها القليل والكثير حتى لو حلف لا يقربها يوما أو ساعة كان موليا حتى لو تركها أربعة أشهر بانت. وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه وقال ابن عباس رضي الله عنهما: إن الإيلاء على الأبد وقال الشافعي: لا يكون موليا حتى يحلف على أكثر من أربعة أشهر. وجه قول الأولين ما روي عن أنس بن مالك رضي الله عنه "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهرا فلما كان تسعة وعشرين يوما ترك إيلاءهن فقيل له إنك آليت شهرا يا رسول الله فقال الشهر تسعة, وعشرون يوما"; ولأن الله تعالى لم يذكر في كتابه الكريم للإيلاء مدة بل أطلقه إطلاقا بقوله عز وجل: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فيجري على إطلاقه, وإنما ذكر المدة لثبوت البينونة حتى تبين بمضي المدة من غير فيء لا ليصير إيلاء شرعا, وبه نقول, "ولنا" قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} ذكر للإيلاء في حكم الطلاق مدة مقدرة, فلا يكون الحلف على ما دونها إيلاء في حق هذا الحكم, وهذا؛ لأن الإيلاء ليس بطلاق حقيقة, وإنما جعل طلاقا معلقا بشرط البر شرعا بوصف كونه مانعا من الجماع أربعة أشهر فصاعدا, فلا يجعل طلاقا بدونه؛ ولأن الإيلاء هو اليمين التي تمنع الجماع خوفا من لزوم الحنث, وبعد مضي يوم أو شهر يمكنه أن يطأها من غير حنث يلزمه, فلا يكون هذا إيلاء. "وأما" قولهم: إن المدة ذكرت لثبوت حكم الإيلاء لا للإيلاء فنقول: ذكر المدة في حكم الإيلاء لا يكون ذكرا في الإيلاء؛ لأن الحكم ثبت بالإيلاء إذ به يتأكد المنع المحقق للظلم, وأما الحديث فالمروي أن النبي صلى الله عليه وسلم آلى أن لا يدخل على نسائه شهرا, وعندنا من حلف لا يدخل على امرأته يوما أو شهرا أو سنة لا يكون موليا في حق حكم الطلاق؛ لأن الإيلاء يمين يمنع الجماع, وهذا لا يمنع الجماع وقول عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: "الإيلاء على الأبد" محتمل يحتمل أن يكون معناه أن الإيلاء إذا ذكر مطلقا عن الوقت يقع على الأبد, وإن لم يذكر الأبد, ونحن نقول به, ويحتمل أنه أراد به أن ذكر الأبد شرط صحة الإيلاء في حق حكم الطلاق فيحمل على الأول توفيقا بين الأقاويل والدليل عليه ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: كان إيلاء أهل الجاهلية السنة

 

ج / 3 ص -172-       والسنتين, وأكثر من ذلك فوقته الله أربعة أشهر, فمن كان إيلاؤه أقل من أربعة أشهر فليس بإيلاء؛ ولأنه ليس في النص شرط الأبد فيلزمه إثبات حكم الإيلاء في حق الطلاق عند تربص أربعة أشهر, فلا تجوز الزيادة إلا بدليل. "وأما" الكلام مع الشافعي فمبني على حكم الإيلاء في حق الطلاق, فعندنا إذا مضت أربعة أشهر تبين منه, وعنده لا تبين بل توقف بعد مضي هذه المدة, ويخير بين الفيء والتطليق, فلا بد, وأن تزيد المدة على أربعة أشهر, ونذكر المسألة في بيان حكم الإيلاء إن شاء الله تعالى. وسواء كان الإيلاء في حال الرضا أو الغضب أو أراد به إصلاح ولده في الرضاع أو الإضرار بالمرأة عند عامة العلماء, وعامة الصحابة رضي الله عنهم, وهو الصحيح؛ لأن نص الإيلاء لا يفصل بين حال, وحال؛ ولأن الإيلاء يمين, فلا يختلف حكمه بالرضا والغضب, وإرادة الإصلاح والإضرار كسائر الأيمان, "وأما" مدة إيلاء الأمة المنكوحة فشهران فصاعدا عندنا, وعند الشافعي مدة إيلاء الأمة كمدة إيلاء الحرة واحتج بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُر} من غير فصل بين الحرة والأمة والكلام من حيث المعنى مبني على اختلاف أصل نذكره في حكم الإيلاء, وهو أن مدة الإيلاء ضربت أجلا للبينونة عندنا فأشبه مدة العدة فيتنصف بالرق كمدة العدة, وعنده ضربت لإظهار ظلم الزوج بمنع حقها عن الجماع في المدة, وهذا يوجب التسوية بين الأمة والحرة في المدة كأجل العنين ولا حجة له في الآية؛ لأنها تناولت الحرائر لا الإماء؛ لأنه سبحانه, وتعالى ذكر عزم الطلاق ثم عقبه بقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}, وهي عدة الحرائر, وسواء كان زوجها عبدا أو حرا فالعبرة لرق المرأة, وحريتها لا لرق الرجل, وحريته؛ لأن الإيلاء في حق أحد الحكمين طلاق فيعتبر فيه جانب النساء. ولو اعتض العتق على الرق بأن كانت مملوكة وقت الإيلاء ثم أعتقت تحولت مدتها مدة الحرائر, بخلاف العدة فإنها إذا طلقت طلاقا بائنا ثم أعتقت لا تنقلب عدتها عدة الحرائر, وفي الطلاق الرجعي تنقلب والفرق بين هذه الجملة يعرف في موضعه إن شاء الله تعالى, وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته الحرة: والله لا أقربك أربعة أشهر إلا يوما لا يكون موليا لنقصان المدة. ولو قال لها: والله لا أقربك شهرين, وشهرين بعد هذين الشهرين فهو مول؛ لأنه جمع بين شهرين وشهرين بحرف الجمع, والجمع بحرف الجمع كالجمع بلفظ الجمع فصار كأنه قال: والله لا أقربك أربعة أشهر. ولو قال لها: والله لا أقربك شهرين فمكث يوما ثم قال: والله لا أقربك شهرين بعد هذين الشهرين الأولين لم يكن موليا؛ لأنه إذا سكت يوما فقد مضى يوم من غير حكم الإيلاء؛ لأن الشهرين ليسا بمدة الإيلاء في حق الحرة, فإذا قال: وشهرين بعد هذين الشهرين فقد جمع الشهرين الآخرين إلى الأوليين بعدما مضى يوم من غير حكم الإيلاء فصار كأنه قال: والله لا أقربك أربعة أشهر إلا يوما ولو قال ذلك لم يكن موليا لنقصان المدة, كذا هذا. ولو قال: والله لا أقربك سنة إلا يوما لم يكن موليا للحال في قول أصحابنا الثلاثة, وعند زفر يكون موليا للحال حتى لو مضت السنة ولم يقربها فيها لا تبين ولو قربها يوما لا كفارة عليه عندنا, وعنده إذا مضت أربعة أشهر منذ قال هذه المقالة ولم يقربها فيها تبين لو قربها تلزمه الكفارة. وجه قوله أن اليوم المستثنى ينصرف إلى آخر السنة كما في الإجارة فإنه لو قال أجرتك هذه الدار سنة إلا يوما انصرف اليوم إلى آخر السنة حتى صحت الإجارة, كذا ههنا. وإذا انصرف إلى آخر السنة كانت مدة الإيلاء أربعة أشهر, وزيادة فيصير موليا؛ ولأنه إذا انصرف إلى آخر السنة, فلا يمكنه قربان امرأته في الأربعة أشهر من غير حنث يلزمه, وهذا حد المولي "ولنا" أن المستثنى يوم منكر فتعيين اليوم الآخر تغيير الحقيقة ولا يجوز تغيير الحقيقة من غير ضرورة فبقي المستثنى يوما شائعا في السنة فكان له أن يجعل ذلك اليوم أي يوم شاء, فلا تكمل المدة؛ لأنه إذا استثنى يوما شائعا في الجملة فلم يمنع نفسه عن قربان امرأته بما يصلح مانعا من القربان في المدة؛ لأن له أن يعين يوما للقربان أي يوم كان فيقربها فيه من غير حنث يلزمه فلم يكن موليا. وفي باب الإجارة مست الضرورة إلى تعيين الحقيقة لتصحيح الإجارة؛ إذ لا صحة لها بدونه؛ لأن كون المدة معلومة في الإجارة شرط صحة الإجارة ولا تصير معلومة إلا بانصراف الاستثناء إلى اليوم الأخير, وههنا لا ضرورة؛ لأن جهالة المدة لا تبطل اليمين, فإن قال ذلك ثم قربها

 

ج / 3 ص -173-       يوما ينظر: إن كان قد بقي من السنة أربعة فصاعدا صار موليا لوجود كمال المدة, ولوجود حد المولي, وإن بقي أقل من ذلك لم يصر موليا لنقصان المدة, ولانعدام حد الإيلاء, وعلى هذا الخلاف إذا قال: والله لا أقربك سنة إلا مرة غير أن في قوله "إلا يوما" إذا قربها وقد بقي من السنة أربعة أشهر فصاعدا لا يصير موليا ما لم تغرب الشمس من ذلك اليوم, ويعتبر ابتداء المدة من وقت غروب الشمس من ذلك اليوم؛ لأن اليوم اسم لجميع هذا الوقت من أوله إلى آخره, فلا ينتهي إلا بغروب الشمس, وفي قوله "إلا مرة" يصير موليا عقيب القربان بلا فصل فصل ويعتبر ابتداء المدة من وقت فراغه من القربان مرة؛ لأن المستثنى ههنا هو القربان مرة لا اليوم والمستثنى هناك هو اليوم لا المرة؛ لذلك افترقا ثم مدة أشهر الإيلاء تعتبر بالأهلة أم بالأيام؟ فنقول: لا خلاف أن الإيلاء إذا وقع في غرة الشهر تعتبر المدة بالأهلة, وإذا وقع في بعض الشهر لم يذكر عن أبي حنيفة نص رواية وقال أبو يوسف تعتبر بالأيام, وذلك مائة, وعشرون يوما. وروي عن زفر أنه يعتبر بقية الشهر بالأيام والشهر الثاني والثالث بالأهلة, وتكمل أيام الشهر الأول بالأيام من أول الشهر الرابع, ويحتمل أن يكون هذا على اختلافهم في عدة الطلاق والوفاة على ما نذكره هناك إن شاء الله تعالى. والثاني ترك الفيء في المدة؛ لأن الله تعالى جعل عزم الطلاق شرط وقوعه بقوله: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وكلمة "إن" للشرط, وعزم الطلاق ترك الفيء في المدة والكلام في الفيء يقع في مواضع في تفسير الفيء المذكور في الآية الكريمة أنه ما هو, وفي بيان شرط صحة الفيء, وفي بيان وقت الفيء أنه في المدة أو بعد انقضائها؛ أما الأول فالفيء عندنا على ضربين أحدهما بالفعل, وهو الجماع في الفرج حتى لو جامعها فيما دون الفرج أو قبلها بشهوة أو لمسها لشهوة أو نظر إلى فرجها عن شهوة لا يكون ذلك فيئا؛ ; لأن حقها في الجماع في الفرج فصار ظالما بمنعه, فلا يندفع الظلم إلا به, فلا يحصل الفيء, وهو الرجوع عما عزم عليه عند القدرة إلا به, بخلاف الرجعة أنها تثبت بالجماع فيما دون الفرج. وبالمس عن شهوة والنظر إلى الفرج عن شهوة؛ لأن البينونة هناك بعد انقضاء العدة تثبت من وقت وجود الطلاق من وجه فلو لم تثبت الرجعة به لصار مرتكبا للحرام فجعل الإقدام عليه دلالة الرجعة تحرزا عن الحرام, وهذا المعنى لم يوجد ههنا؛ لأن البينونة بعد انقضاء المدة ثبتت مقصورة على الحال فلو لم يجعل منه فيئا لم يصر مرتكبا للحرام لذلك فافترقا, والثاني: بالقول؛ والكلام فيه يقع في موضعين: أحدهما: في صورة الفيء بالقول والثاني: في بيان شرط صحته؛ أما صورته فهي أن يقول لها فئت إليك أو راجعتك, وما أشبه ذلك. وذكر الحسن عن أبي حنيفة في صفة الفيء أن يقول الزوج: اشهدوا أني قد فئت إلى امرأتي, وأبطلت الإيلاء وليس هذا من أبي حنيفة شرط الشهادة على الفيء فإنه يصح بدون الشهادة, وإنما ذكر الشهادة احتياطا لباب الفروج؛ لاحتمال أن يدعي الزوج الفيء إليها بعد مضي المدة فتكذبه المرأة فيحتاج إلى إقامة البينة عليه إلا أن تكون الشهادة شرطا لصحة الفيء وقد قال أصحابنا إنه. إذا اختلف الزوج والمرأة في الفيء مع بقاء المدة والزوج ادعى الفيء وأنكرت المرأة فالقول قول الزوج؛ لأن المدة إذا كانت باقية فالزوج يملك الفيء فيها وقد ادعى الفيء في وقت يملك إن شاءه فيه فكان الظاهر شاهدا له فكان القول قوله, وإن اختلفا بعد مضي المدة فالقول قول المرأة؛ لأن الزوج يدعي الفيء في وقت لا يملك إنشاء الفيء فيه فكان الظاهر شاهدا عليه للمرأة فكان القول قولها. "وأما" شرط صحته فلصحة الفيء بالقول شرائط ثلاثة أحدها العجز عن الجماع, فلا يصح مع القدرة على الجماع؛ لأن الأصل هو الفيء بالجماع؛ لأن الظلم به يندفع حقيقة, وإنما الفيء بالقول خلف عنه ولا عبرة بالخالف مع القدرة على الأصل كالتيمم مع الوضوء, ونحو ذلك ثم الشرط هو العجز عن الجماع حقيقة أو مطلق العجز إما حقيقة, "وأما" حكما, فجملة الكلام فيه أن العجز نوعان: حقيقي, وحكمي؛ أما الحقيقي فنحو أن يكون أحد الزوجين مريضا مرضا يتعذر معه الجماع أو كانت المرأة صغيرة لا يجامع مثلها أو رتقاء أو يكون الزوج مجبوبا أو يكون بينهما مسافة لا يقدر على قطعها في مدة الإيلاء أو تكون ناشزة محتجبة في مكان لا يعرفه أو يكون محبوسا لا يقدر أن يدخلها, وفيؤه في هذا كله بالقول. كذا ذكره القدوري في شرحه مختصر الكرخي. وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه لو آلى من امرأته وهي محبوسة أو هو محبوس أو كان بينه وبين امرأته مسافة أقل من

 

ج / 3 ص -174-       أربعة أشهر إلا أن العدو أو السلطان منعه عن ذلك فإن فيأه لا يكون إلا بالفعل, ويمكن أن يوفق بين القولين في الحبس بأن يحمل ما ذكره القاضي على أن يقدر أحدهما على أن يصل إلى صاحبه في السجن والوجه في المنع من العدو أو السلطان أن ذلك نادر, وعلى شرف الزوال فكان ملحقا بالعدم. "وأما" الحكمي فمثل أن يكون محرما وقت الإيلاء, وبينه, وبين الحج أربعة أشهر, وإذا عرف هذا فنقول: لا خلاف في أنه إذا كان عاجزا عن الجماع حقيقة أنه ينتقل الفيء بالجماع إلى الفيء بالقول واختلف أصحابنا فيما إذا كان قادرا على الجماع حقيقة وعاجزا عنه حكما أنه هل يصح الفيء بالقول؟ قال أصحابنا الثلاثة: لا يصح ولا يكون فيؤه إلا بالجماع وقال زفر: يصح وجه قوله أن العجز حكما كالعجز حقيقة في أصول الشريعة كما في الخلوة فإنه يستوي المانع الحقيقي والشرعي في المنع من صحة الخلوة. كذا هذا. "ولنا" أنه قادر على الجماع حقيقة فيصير ظالما بالمنع, فلا يندفع الظلم عنها إلا بإيفائها حقها بالجماع, وحق العبد لا يسقط لأجل حق الله تعالى في الجملة؛ لغنى الله عز وجل وحاجة العبد والثاني دوام العجز عن الجماع إلى أن تمضي المدة حتى لو قدر على الجماع في المدة بطل الفيء بالقول وانتقل إلى الفيء بالجماع, حتى ولو تركها ولم يقربها في المدة حتى مضت تبين؛ لما ذكرنا أن الفيء باللسان بدل عن الفيء بالجماع, ومن قدر على الأصل قبل حصول المقصود بالبدل بطل حكم البدل كالمتيمم إذا قدر على الماء في الصلاة, وكذا إذا آلى وهو صحيح ثم مرض فإن كان قدر مدة صحته ما يمكن فيه الجماع ففيؤه بالجماع؛ لأنه كان قادرا على الجماع في مدة الصحة فإذا لم يجامعها مع القدرة عليه فقد فرط في إيفاء حقها, فلا يعذر بالمرض الحادث, وإن كان لا يمكنه فيؤه بالجماع لقصره ففيؤه بالقول؛ لأنه إذا لم يقدر على الجماع فيه لم يكن مفرطا في ترك الجماع فكان معذورا ولو آلى, وهو مريض فلم يفئ باللسان إليها حتى مضت المدة فبانت ثم صح ثم مرض فتزوجها, وهو مريض ففاء إليها باللسان صح فيؤه في قول أبي يوسف حتى لو تمت أربعة أشهر من وقت التزوج لا تبين, وقال محمد: لا يصح. "وجه" قوله أنه إذا صح في المدة الثانية فقد قدر على الجماع حقيقة فسقط اعتبار الفيء باللسان في تلك المدة, وإن كان لا يقدر على جماعها إلا بمعصية كما إذا كان محرما ففاء بلسانه أنه لم يصح فيؤه باللسان لكونه قادرا على الجماع حقيقة, وإن كان لا يقدر عليه إلا بمعصية كذا هذا, ولأبي يوسف أن الصحة إنما تمنع الفيء باللسان للقدرة على إيفائها حقها في الجماع ولا حق لها في حالة البينونة, فلا تعتبر الصحة مانعة منه. والثالث قيام ملك النكاح وقت الفيء بالقول, وهو أن تكون المرأة في حال ما يفيء إليها زوجته غير بائنة منه؛ فإن كانت بائنة منه ففاء بلسانه لم يكن ذلك فيئا, ويبقى الإيلاء؛ لأن الفيء بالقول حال قيام النكاح إنما يرفع الإيلاء في حق حكم الطلاق لحصول إيفاء حقها به ولا حق لها حالة البينونة على ما نذكره ولا يعتبر الفيء وصار وجودها والعدم بمنزلة فيبقى الإيلاء, فإذا تزوجها, ومضت المدة تبين منه, بخلاف الفيء بالفعل وهو الجماع أنه يصح بعد زوال الملك, وثبوت البينونة حتى لا يبقى الإيلاء بل يبطل؛ لأنه حنث بالوطء فانحلت اليمين, وبطلت ولم يوجد الحنث ههنا, فلا تنحل اليمين, فلا يرتفع الإيلاء ثم الفيء بالقول عندنا, إنما يصح في حق حكم الطلاق حتى لا يقع الطلاق بمضي المدة إلا في حق الحنث؛ لأن اليمين في حق حكم الحنث باقية؛ لأنها لا تنحل إلا بالحنث والحنث إنما يحصل بفعل المحلوف عليه والقول ليس محلوفا عليه, فلا تنحل به اليمين, هذا الذي ذكرنا مذهب أصحابنا وقال الشافعي: لا فيء إلا بالجماع, وإليه مال الطحاوي, ووجهه أن الفيء بالحنث ولا حنث باللسان, فلا يحصل الفيء به, وهذا؛ لأن الحنث هو فعل المحلوف عليه والمحلوف عليه هو القربان, فلا يحصل الفيء إلا به "ولنا" إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن علي رضي الله عنه وابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم أنهم قالوا: الفيء عند العجز بالقول, وكذا روي عن جماعة من التابعين مثل مسروق والشعبي, وإبراهيم النخعي, وسعيد بن جبير؛ ولأن الفيء في اللغة هو الرجوع؛ يقال: فاء الظل أي: رجع, ومعنى الرجوع في الإيلاء هو أنه بالإيلاء عزم على منع حقها في الجماع, وأكد العزم باليمين فبالفيء رجع عما عزم, والرجوع كما يكون بالفعل يكون بالقول, وهذا؛ لأن وقوع الطلاق لصيرورته ظالما بمنع حقها والظلم عند القدرة على الجماع بمنع حقها في الجماع فيكون إزالة الظلم بإيفاء حقها في الجماع فيكون إزالة هذا الظلم بذكر إيفاء حقها في الجماع أيضا, وعند العجز عن الجماع يكون بإيذائه إياها منع حقها

 

ج / 3 ص -175-       في الجماع ليكون إزالة هذا الظلم بقدر الظلم فيثبت الحكم على وفق العلة. "وأما" وقت الفيء فالفيء عندنا في المدة, وعند الشافعي بعد مضي المدة, ونذكر المسألة في بيان حكم الإيلاء إن شاء الله تعالى. وأما حرية المولي فليس بشرط لصحة إيلائه بالله تعالى, ومما لا يتعلق بالمال حتى لو قال العبد لامرأته: والله لا أقربك, أو قال: إن قربتك فعلي صوم أو حج أو عمرة, أو امرأتي طالق يصح إيلاؤه حتى لو لم يقربها تبين منه في المدة ولو قربها ففي اليمين بالله تعالى تلزمه الكفارة بالصوم, وفي غيرها يلزمه الجزاء المذكور؛ ولأن العبد أهل لذلك, وإن كان يحلف بما يتعلق بالمال بأن قال: إن قربتك فعلي عتق رقبة, أو علي أن أتصدق بكذا لا يصح؛ لأنه ليس من أهل ملك المال. "وأما" إسلام المولي فهل هو شرط لصحة الإيلاء؟ فنقول: لا خلاف في أن الذمي إذا آلى من امرأته بالطلاق أو العتاق أنه يصح إيلاؤه؛ لأن الكافر من أهل الطلاق والعتاق ولا خلاف أيضا في أنه إذا آلى بشيء من القرب كالصوم والصدقة والحج والعمرة بأن قال لامرأته: إن قربتك فعلي صوم أو صدقة أو حجة أو عمرة أو غير ذلك من القرب لا يكون موليا؛ لأنه ليس من أهل القربة فيمكنه قربان امرأته من غير شيء يلزمه فلم يكن موليا, وكذا إذا قال لامرأته: إن قربتك فأنت علي كظهر أمي أو فلانة علي كظهر أمي لم يكن موليا؛ لأن الكفر يمنع صحة الظهار عندنا, وإذا لم يصح يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه, فلا يكون موليا. واختلف فيما إذا آلى بالله تعالى فقال: والله لا أقربك, تنعقد موجبة للكفارة على تقدير الحنث عند أبي حنيفة يكون موليا. وقال أبو يوسف, ومحمد: لا يكون موليا وجه قولهما أن اليمين بالله تعالى لا تنعقد من الذمي كما في غير الإيلاء والجامع بينهما أن اليمين بالله تعالى تنعقد موجبة للكفارة على تقدير الحنث والكافر ليس من أهل الكفارة, ولأبي حنيفة عموم قوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} من غير تخصيص المسلم؛ ولأن الإيلاء بالله يمين يمنع القربان خوفا من هتك حرمة اسم الله عز وجل والذمي يعتقد حرمة اسم الله تعالى, ولهذا يستحلف على الدعاوى كالمسلم, ويتعلق حل الذبيحة بتسميته كما يتعلق بتسمية المسلم, فإنه إذا ذكر اسم الله عليها أكلت, وإن ترك التسمية لم تؤكل, فيصح إيلاؤه كما يصح إيلاء المسلم, وإذا صح إيلاؤه بالله تعالى تثبت أحكام الإيلاء في حقه كما تثبت في حق المسلم إلا أنه لا يظهر في حق حكم الحنث, وهو الكفارة؛ لأن الكفارة عبادة, وهو ليس من أهل العبادة فيظهر في حق حكم البر, وهو الطلاق؛ لأنه من أهله ولو آلى مسلم أو ظاهر من امرأته ثم ارتد عن الإسلام ولحق بدار الحرب ثم رجع مسلما وتزوجها فهو مول, ومظاهر في قول أبي حنيفة. وقال أبو يوسف: يسقط عنه الإيلاء والظهار. "وجه" قوله أن الكفر يمنع صحة الإيلاء والظهار ابتداء فيمنع بقاءهما على الصحة؛ لأن حكم الإيلاء وجوب الكفارة على تقدير الحنث, وحكم الظهار حرمة مؤقتة إلى غاية التكفير, والكافر ليس من أهل وجوب الكفارة, ولأبي حنيفة أن الكفر لما لم يمنع انعقاد الإيلاء لما بينا فلأن لا يمنع بقاءه أولى؛ لأن البقاء أسهل؛ ولأن الإيلاء قد انعقد لوجوده من المسلم والعارض هو الردة. وأثرها في زوال ملك النكاح, وزوال الملك لا يوجب بطلان اليمين فتبقى اليمين فإذا عاد يعود حكم الإيلاء؛ لأن كل عارض على أصل يلتحق بالعدم من الأصل إذا ارتفع, ويجعل كأن لم يكن؛ ولأن الإيلاء انعقد بيقين والعارض, وهو الردة يحتمل الزوال والتصرف الشرعي إذا انعقد بيقين لاحتمال الفائدة في البقاء, واحتمال الفائدة ههنا ثابت؛ لأن رجاء الإسلام قائم والظهار قد انعقد موجبا حكمه, وهو الحرمة المؤقتة لصدوره من المسلم, وبالردة زالت صفة الحكم, وبقي الأصل, وهو الحرمة إذ الكافر من أهل ثبوت الحرمة, وبقائها في حقه؛ ; لأن حكم الحرمة وجوب الامتناع, وهو قادر على الامتناع بخلاف القربة, ولهذا خوطب بالحرمات دون القربات والطاعات على ما عرف في أصول الفقه والله الموفق.

                                                                  "فصل":
وأما حكم الإيلاء فنقول وبالله التوفيق إنه يتعلق بالإيلاء حكمان: حكم الحنث, وحكم البر, أما حكم الحنث فيختلف باختلاف المحلوف به: فإن كان الحلف بالله تعالى فهو وجوب كفارة اليمين كسائر الأيمان بالله, وإن كان الحلف بالشرط والجزاء فلزوم المحلوف به كسائر الأيمان بالشروط والأجزية أو لزوم حكمه على تقدير وجوده على ما بينا. وأما حكم البر فالكلام فيه في مواضع في بيان أصل الحكم, وفي بيان وصفه, وفي بيان وقته, وفي بيان قدره, أما أصل الحكم فهو

 

ج / 3 ص -176-       وقوع الطلاق بعد مضي المدة من غير فيء؛ لأنه بالإيلاء عزم على منع نفسه من إيفاء حقها في الجماع في المدة, وأكد العزم باليمين فإذا مضت المدة ولم يفئ إليها مع القدرة على الفيء فقد حقق العزم المؤكد باليمين بالفعل فتأكد الظلم في حقها فتبين منه عقوبة عليه جزاء على ظلمه, ومرحمة عليها, ونظرا لها بتخليصها عن حباله لتتوصل إلى إيفاء حقها من زوج آخر, وهذا عندنا. وقال الشافعي: حكم الإيلاء في حق البر هو الوقف, وهو أن يوقف الزوج بعد مضي المدة فيخير بين الفيء إليها بالجماع, وبين تطليقها, فإن أبى أجبره الحاكم على أحدهما فإن لم يفعل طلق عليه القاضي, فاشتملت معرفة هذا الحكم على معرفة مسألتين مختلفتين: إحداهما: أنه لا يوقف المولي بعد انقضاء المدة عندنا بل يقع الطلاق عقب انقضائها بلا فصل, وعنده يوقف, ويخير بين الفيء والتطليق على ما بينا. والثانية أن الفيء يجب أن يكون في المدة عندنا, وعنده بعد مضي المدة. والمسألتان مختلفتان بين الصحابة رضي الله عنهم احتج الشافعي بقوله تعالى: {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} خير سبحانه, وتعالى المولي بين الفيء, وبين العزم على الطلاق بعد أربعة أشهر فدل أن حكم الإيلاء في حق البر هو تخيير الزوج بين الفيء والطلاق بعد المدة لا وقوع الطلاق عند مضي المدة, وإن وقت الفيء بعد المدة لا في المدة؛ ولأنه قال عز وجل: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي: سميع للطلاق, فلا بد, وأن يكون الطلاق مسموعا, وذلك بوجود صوت الطلاق إذ غير الصوت لا يحتمل السماع, ولو وقع الطلاق بنفس مضي المدة من غير قول وجد من الزوج أو من القاضي لم يتحقق صوت الطلاق, فلا ينعقد سماعه؛ ولأن الإيلاء يمين يمنع من الجماع أربعة أشهر؛ لأن اللفظ يدل عليه فقط لا على الطلاق, فالقول بوقوع الطلاق بمضي المدة قول بالوقوع من غير إيقاع, وهذا لا يجوز. "ولنا" أن الله تعالى جعل مدة التربص أربعة أشهر والوقف يوجب الزيادة على المدة المنصوص عليها, وهي مدة اختيار الفيء أو الطلاق من يوم أو ساعة, فلا تجوز الزيادة إلا بدليل, ولهذا لما جعل الشرع لسائر المدة التي بين الزوجين مقدارا معلوما من المدة, ومدة العنين لم تحتمل الزيادة على ذلك القدر فكذا مدة الطلاق؛ ولأن الفيء نقض اليمين, ونقضها حرام في الأصل قال الله تعالى: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} إلا أنه ثبت الإطلاق في المدة بقراءة عبد الله بن مسعود, وأبي بن كعب رضي الله عنهما "فإن فاءوا فيهن" فبقي النقض حراما فيما وراءها, فلا يحل الفيء فيما وراءها فلزم القول بالفيء في المدة, وبوقوع الطلاق بعد مضيها؛ ولأن الإيلاء كان طلاقا معجلا في الجاهلية فجعله الشرع طلاقا مؤجلا, والطلاق المؤجل يقع نفس انقضاء الأجل من غير إيقاع أحد بعده كما إذا قال لها: أنت طالق رأس الشهر. وأما قوله: "إن الله تعالى ذكر الفيء بعد الأربعة أشهر" فنعم, لكن هذا لا يوجب أن يكون الفيء بعد مضيها. ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ذكر تعالى الإمساك بمعروف بعد بلوغ الأجل, وأنه لا يوجب الإمساك بعد مضي الأجل, وهو العدة بل يوجب الإمساك, وهو الرجعة في العدة, والبينونة بعد انقضائها, كذا ههنا. وأما قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فقد قال قوم من أهل التأويل: إن المراد من قوله "سميع" في هذا الموضع أي: سميع بإيلائه, والإيلاء مما ينطق به, ويقال فيكون مسموعا. وقوله تعالى {عَلِيمٌ} ينصرف إلى العزم أي: عليم بعزمه الطلاق, وهو ترك الفيء, ودليل صحة هذا التأويل أنه تعالى ذكر قوله {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} عقيب أمرين: أحدهما يحتمل, وهو الإيلاء, والآخر لا يحتمل, وهو عزم الطلاق فينصرف كل لفظ إلى ما يليق به ليفيد فائدته, وهي كقوله تعالى: {لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} عقيب ذكر الليل, والنهار بقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً} أنه صرف إلى كل ما يليق به ليفيد فائدته, وهو السكون إلى الليل وابتغاء الفضل إلى النهار. كذا ههنا؛ ولأنه تعالى ذكر أنه {سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وكل مسموع معلوم وليس كل معلوم مسموعا؛ لأن السماع لا يكون إلا للصوت, فلو كان الطلاق في الإيلاء بالقول لكان مسموعا, والإيلاء مسموع أيضا فوقعت الكفاية بذكر السميع, فلا يتعلق بذكر العليم فائدة مبتدأة. ولو كان الأمر على ما قلنا إن الطلاق يقع عند مضي المدة من غير قول يسمع لانصرف ذكر العليم إليه؛ لأن ذلك ليس بمسموع

 

ج / 3 ص -177-       حتى يغني ذكر السميع عن ذكر العليم فيتعلق بذكر العليم فائدة جديدة فكان ما قلناه أولى مع ما أنا لا نسلم أن سماع الطلاق يقف على ذكر الطلاق بحروفه. ألا ترى أن كنايات الطلاق طلاق, وهي مسموعة, وإن لم يكن الطلاق مسموعا مذكورا بحروفه, وكذا طلاق الأخرس فلم يكن من ضرورة كون الإيلاء طلاقا التلفظ بلفظ الطلاق, فلا يقف سماع صوت الطلاق عليه وقوله: "لفظ الإيلاء لا يدل على الطلاق" ممنوع بل يدل عليه شرعا فإن الشرع جعل الإيلاء طلاقا معلقا بشرط البر فيصير الزوج بالإصرار على موجب هذه اليمين معلقا طلاقا بائنا بترك القربان أربعة أشهر كأنه قال: إذا مضت أربعة أشهر ولم أقربك فيها فأنت طالق بائن, عرفنا ذلك بإشارة النص, وهو قوله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} سمى ترك الفيء في المدة عزم الطلاق, وأخبر سبحانه, وتعالى أنه سميع للإيلاء فدل أن الإيلاء السابق يصير طلاقا عند مضي المدة من غير فيء, وبما ذكرنا من المعنى المعقول. "وأما" صفته فقد قال أصحابنا: إن الواقع بعد مضي المدة من غير فيء طلاق بائن. وقال الشافعي: إذا خير بعد انقضاء العدة فاختار الطلاق فهي واحدة رجعية بناء على أصله أن الطلاق بعد مضي المدة يقع بإيقاع مبتدإ, وهو صريح الطلاق فيكون رجعيا. "ولنا" إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن عثمان, وعبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عباس, وزيد بن ثابت رضي الله عنهم أنهم قالوا: إذا مضت أربعة أشهر فهي تطليقة بائنة؛ ولأن الطلاق إنما يقع عند مضي المدة دفعا للظلم, فلا يندفع الظلم عنها إلا بالبائن لتتخلص عنه فتتمكن من استيفاء حقها من زوج آخر ولا يتخلص إلا بالبائن؛ ولأن القول بوقوع الطلاق الرجعي يؤدي إلى العبث؛ لأن الزوج إذا أبى الفيء, والتطليق يقدم إلى الحاكم ليطلق عليه الحاكم عنده ثم إذا طلق عليه الحاكم يراجعها الزوج فيخرج فعل الحاكم مخرج العبث, وهذا لا يجوز. "وأما" قدره, وهو قدر الواقع من الطلاق في الإيلاء, فالأصل أن الطلاق في الإيلاء يتبع المدة لا اليمين فيتحد باتحاد المدة, ويتعدد بتعددها, وفي قول أصحابنا الثلاثة, وعند زفر يتبع اليمين فيتعدد بتعدد اليمين, ويتحد باتحادها, ولا خلاف في أن المعتبر في حق حكم الحنث هو اليمين فينظر إلى اليمين في الاتحاد, والتعدد لا إلى المدة. وجه قول زفر أن وقوع الطلاق, ولزوم الكفارة حكم الإيلاء, والإيلاء يمين فيدور الحكم مع اليمين فيتحد باتحادها, ويتعدد بتعددها لأن الحكم يتكرر بتكرر السبب, ويتحد باتحاده. "ولنا" أن الإيلاء إنما اعتبر طلاقا من الزوج لمنعه حقها في الجماع في المدة منعا مؤكدا باليمين إذ به يصير ظالما, والمنع يتحد باتحاد المدة فيتحد الظلم فيتحد الطلاق, ويتعدد بتعددها فيتعدد الظلم فيتعدد الطلاق, فأما الكفارة فإنها تجب لهتك حرمة اسم الله  عز وجل, والهتك يتعدد بتعدد الاسم, ويتحد باتحاده, وعلى هذا الأصل مسائل: إذا قال لامرأته مرة واحدة: والله لا أقربك, فلم يقربها حتى مضت المدة بانت بتطليقة واحدة, وإن قربها لزمه كفارة واحدة لاتحاد المدة, واليمين جميعا, ولو قال لها في مجلس واحد: والله لا أقربك, والله لا أقربك, والله لا أقربك, فإن عنى به التكرار فهو إيلاء واحد في حق حكم الحنث, والبر جميعا حتى لو مضت أربعة أشهر ولم يقربها بانت بتطليقة واحدة ولو قربها في المدة لا يلزمه إلا كفارة واحدة؛ لأن مثل هذا يذكر للتكرار في العرف, والعادة فإذا نوى به تكرار الأول فقد نوى ما يحتمله كلامه فيصدق فيه, وإن لم تكن له نية فهو إيلاء واحد في حق حكم البر في قول أصحابنا الثلاثة, وثلاث في حق حكم الحنث بالإجماع, حتى لو مضت أربعة أشهر ولم يقربها بانت بتطليقة واحدة في قول أصحابنا الثلاثة ولو قربها في المدة فعليه ثلاث كفارات بالإجماع, وعند زفر هو ثلاث إيلاءات في حق حكم الحنث, والبر جميعا, وينعقد كل إيلاء من حين وجوده, فإذا مضت أربعة أشهر ولم يفئ بتطليقة ثم إذا مضت ساعة بانت بتطليقة أخرى ثم إذا مضت ساعة أخرى بانت بتطليقة واحدة أخرى, وإن قربها في المدة فعليه ثلاث كفارات. وأصل هذه المسألة أن من قال لامرأته: إذا جاء غد فوالله لا أقربك, قاله ثلاثا فجاء غد يصير موليا في حق حكم البر إيلاء واحدا عندنا, وعنده يصير موليا ثلاث إيلاءات في حق حكم الحنث, وإن أراد به التغليظ, والتشديد فكذا في قول أبي حنيفة, وأبي يوسف أنه إيلاء واحد في حق حكم البر استحسانا, وعند محمد, وزفر هو ثلاث في حق البر, والحنث جميعا, وهو القياس

 

ج / 3 ص -178-       أما زفر فقد مر على أصله أن الحكم لليمين لا للمدة؛ لأن اليمين هي السبب الموجب للحكم وقد تعددت فيتعدد السبب بتعدد الحكم. وأما وجه القياس لمحمد أن المدة قد اختلفت؛ لأن كل واحدة من هذه الأيمان وجدت في زمان فكانت مدة كل واحدة منهما غير مدة الأخرى فصار كما لو آلى منها ثلاث مرات في ثلاث مجالس. وجه الاستحسان أن المدد, وإن تعددت حقيقة فهي متعددة حكما لتعذر ضبط الوقت الذي بين اليمينين عند مضي أربعة أشهر فصارت مدة الأيمان كلها مدة واحدة حكما, والثابت حكما ملحق بالثابت حقيقة. ولو قال: إذا جاء غد فوالله لا أقربك وإذا جاء بعد غد فوالله لا أقربك؛ يصير موليا إيلاءين في حق الحنث, والبر جميعا, إذا جاء غد يصير موليا, وإذا جاء بعد غد يصير موليا إيلاء آخر, وكذلك إذا آلى منها في مجلس, ثم آلى منها في مجلس آخر بأن قال: والله لا أقربك, فمكث يوما ثم قال: والله لا أقربك يصير موليا إيلاءين أحدهما في الحال, والآخر في الغد في حق الحنث, والبر جميعا؛ لأن المدد قد تعددت حقيقة, وحكما لاختلاف ابتداء كل مدة وانتهائها, وإمكان ضبط الوقت الذي بين اليمينين. ولو قال: كلما دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك, أو قال: والله إن دخلت هذه الدار فوالله لا أقربك أو قال: والله لا أقربك كلما دخلت هذه الدار يصير موليا إيلاءين في حق البر, وإيلاء واحدا في حق الحنث فإذا دخل الدار دخلتين ينعقد الإيلاء: الأول عند الدخلة الأولى, والثاني عند الدخلة الثانية, حتى لو مضت أربعة أشهر من وقت الدخلة الأولى بانت بتطليقة, وإذا تمت أربعة أشهر من وقت الدخلة الثانية بانت بتطليقة أخرى. ولو قربها بعد الدخلتين لا يلزمه إلا كفارة واحدة لتعدد المدة واتحاد اليمين في حكم الحنث, والأصل فيه أن اليمين بالله تعالى متى علقت بشرط متكرر لا يتكرر انعقادها بتكرر الشرط, واليمين بما هو شرط وجزاء إذا علقت بشرط متكرر تتكرر بتكرار الشرط. وقوله: والله لا أقربك يمين بالله تعالى في حق الحنث, ويمين بالطلاق في حق البر, ودليل هذا الأصل, وبيان فروعه يعرف في الجامع الكبير وكذلك إذا قال: كلما دخلت واحدة من هاتين الدارين فوالله لا أقربك أو قال: كلما كلمت واحدا من هذين الرجلين فوالله لا أقربك, فدخل إحداهما أو كلم أحدهما صار موليا, وإذا دخل مرة أخرى أو كلمه أخرى صار موليا إيلاء آخر في حق حكم البر, وهو إيلاء واحد في حق حكم الحنث والله تعالى أعلم.

                                                                "فصل":
وأما بيان ما يبطل به الإيلاء فما يبطل به الإيلاء نوعان: نوع يبطل به أصلا في حق الحكمين جميعا, وهو البر, والحنث, ونوع يبطل به في حق أحد الحكمين, وهو حكم البر, ويبقى في حق الحكم الآخر, وهو حكم الحنث, أما الذي يبطل به الإيلاء في حق الحكمين جميعا فشيء واحد, وهو الفيء بالجماع في الفرج في المدة؛ لأنه يحنث به, واليمين لا يبقى بعد الحنث؛ لأن حنث اليمين نقضها, والشيء لا يبقى مع وجود ما ينقضه "وأما" ما يبطل به في حق حكم البر دون الحنث فشيئان: أحدهما: الفيء بالقول عند استجماع شرائطه التي وصفناها فيبطل به الإيلاء في حق حكم البر حتى لا تبين بمضي المدة لما ذكرنا أن ترك الفيء في المدة شرط وقوع الطلاق بعد مضيها إذ هو عزيمة الطلاق, وأنها شرط بالنص لكنه يبقى في حق حكم الحنث حتى لو فاء إليها بالقول في المدة ثم قدر على الجماع بعد المدة فجامعها تلزمه الكفارة؛ لأن وجوب الكفارة معلق بالحنث. والحنث هو فعل المحلوف عليه, والمحلوف عليه هو الجماع في الفرج, فلا يحصل الحنث بدونه. والثاني الطلقات الثلاث حتى لو وقع عليها ثلاث تطليقات بالإيلاء أو طلقها ثلاثا عقيب الإيلاء فتزوجت ثم عادت إليه فمضت أربعة أشهر لم يطأها فيها لا يقع عليها شيء عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر لا يبطل بها الإيلاء, ويقع عليها الطلاق بالإيلاء أبدا بناء على أن استيفاء طلاق الملك القائم للحال يبطل اليمين, وعندنا, وعنده لا يبطلها وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم. ولو آلى منها ولم يفئ إليها حتى مضت أربعة أشهر فبانت منه بتطليقة وانقضت عدتها فتزوجت بزوج آخر ثم عادت إلى الأول عاد حكم الإيلاء بالإجماع, لكن عند أبي حنيفة, وأبي يوسف بثلاث تطليقات, وعند محمد بما بقي بناء على أن الزوج الثاني يهدم الطلقة, والطلقتين عندهما, وعنده لا يهدم. والمسألة قد مرت ولا يبطل بالإبانة حتى لو آلى منها ثم أبانها قبل مضي المدة ثم تزوجها فمضت المدة من غير فيء تبين بتطليقة

 

ج / 3 ص -179-       أخرى بالإيلاء السابق ولو أبانها ولم يتزوجها حتى مضت المدة, وهي في العدة يقع عليها تطليقة أخرى عندنا, وعند زفر لا يقع وقد مرت المسألة, وهل يبطل بمضي المدة من غير فيء فإن كان الإيلاء مطلقا أو مؤبدا بأن قال: والله لا أقربك أبدا أو قال: والله لا أقربك, ولم يذكر الوقت فمضت أربعة أشهر من غير فيء حتى بانت بتطليقة لا يبطل الإيلاء حتى لو تزوجها فمضت أربعة أشهر أخرى منذ تزوج يقع عليها تطليقة أخرى؛ لأن اليمين عقدت مطلقة أو مؤبدة, والعارض ليس إلا البينونة, وأثرها في زوال الملك, وزوال الملك لا يوجب بطلان اليمين بالطلاق لما عرف أن اليمين إذا انعقدت تبقى لاحتمال الفائدة, واحتمال الفائدة ثابت لاحتمال التزوج؛ فيبقى اليمين, إلا أنه لا بد من الملك لانعقاد المدة الثانية فإذا تزوجها عاد الملك فعاد حقها في الجماع فإذا مضت المدة الثانية من غير فيء إليها فقد منعها حقها فقد ظلمها فيقع تطليقة أخرى جزاء على ظلمه. وكذا إذا تزوجها بعدما بانت بتطليقة ثانية, ومضت أربعة أشهر أخرى منذ تزوجها تبين بثالثة لما قلنا, فإن تزوجت بزوج آخر ثم تزوجها الأول فمضت أربعة أشهر لم يقربها فيها لا يقع عليها شيء عند أصحابنا الثلاثة خلافا لزفر ولو آلى منها مطلقا أو أبدا فمضت أربعة أشهر ولم يفئ إليها حتى بانت ثم لم يتزوجها حتى مضت أربعة أشهر أخرى وهي في العدة لا يقع عليها تطليقة أخرى؛ لأن اليمين قد بطلت بل هي باقية لما بينا إلا أنها مبانة لا تستحق الوطء على الزوج, فلا يصير الزوج بالامتناع عن قربانها في المدة ظالما, ووقوع الطلاق كان لهذا المعنى ولم يوجد, فلا يقع لكن تبقى اليمين, حتى لو تزوجها, ومضت المدة من غير فيء يقع, والأصل أن المدة المنعقدة لا تبطل بالبينونة, وإن كانت لا تنعقد على المبانة على طريق الاستئناف ولو قربها قبل أن يتزوجها فعليه الكفارة؛ لأن اليمين باقية وقد وجد شرط الحنث فيحنث ولو كان الإيلاء مؤقتا إلى وقت معلوم أربعة أشهر أو أكثر فمضت المدة من غير فيء حتى وقع الطلاق لا يبقى الإيلاء, وينتهي حتى لو قربها لا كفارة عليه. ولو لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر لا يقع عليها شيء؛ ; لأن المؤقت إلى وقت ينتهي عند وجود الوقت ولو حلف على قربان امرأته بعتق عبد له ثم باعه سقط الإيلاء؛ لأنه صار بحال لا يلزمه شيء بقربانها ثم إذا دخل في ملكه بوجه من الوجوه قبل القربان عاد حكم الإيلاء حتى لو تركها أربعة أشهر لم يقربها فيها تبين؛ لأن الجزاء لا يتقيد بالملك القائم للحال كمن قال لعبده: إن دخلت الدار فأنت حر فباعه ثم اشتراه فدخل الدار أنه يعتق ولو دخل في ملكه بعد القربان لا يعود الإيلاء لبطلانه بالقربان, وكذا إذا مات العبد بطل الإيلاء؛ لأن الجزاء صار بحال لا يتصور وجوده فبطلت اليمين. ولو قال: إن قربتك فعبدي هذان حران, فمات أحدهما أو باع أحدهما لا يبطل الإيلاء؛ لأنه يلزمه بالقربان عتق ولو ماتا جميعا بطل الإيلاء, وكذا لو باعهما جميعا معا أو على التعاقب ولو باعهما ثم دخل أحدهما في ملكه بوجه من الوجوه قبل القربان عاد الإيلاء فيه ثم إذا دخل الآخر في ملكه عاد الإيلاء فيه من وقت دخول الأول؛ لأن العائد عين الأول. ولو قال لامرأته: أنت طالق قبل أن أقربك بشهر, فقربها قبل تمام الشهر من وقت اليمين بطلت اليمين ولو لم يقربها حتى مضى شهر يصير موليا؛ لأن معنى هذا الكلام: إذا مضى شهر لم أقربك فيه فأنت طالق إن قربتك ولو قال ذلك, ومضى شهر لم يقربها فيه لصار موليا لما ذكرنا أن قوله "أنت طالق إن قربتك" إيلاء. ألا ترى أنه لا يمكنه قربانها من غير شيء يلزمه, وهو الطلاق, وهذا حد المولي فإذا صار موليا فإن قربها بعد ذلك وقع الطلاق؛ لأنه علق الطلاق بالقربان, وإن لم يقربها حتى مضت أربعة أشهر بانت بتطليقة؛ لأن هذا حكم الإيلاء في حق البر. ولو قال: أنت طالق ثلاثا قبل أن أقربك ولم يقل "بشهر" لا يصير موليا, ويقع الطلاق من ساعته؛ لأنه أوقع الطلاق في وقت هو قبل القربان, وكما فرغ من كلامه فقد وجد هذا الوقت فيقع, ولو قال: "قبل أن أقربك" يصير موليا؛ لأن قبل الشيء اسم لزمان متقدم عليه مطلقا, وكما فرغ من هذه المقالة فقد وجد زمان متقدم عليه متصل به فما لم يوجد القربان لا يعرف هذا الزمان فكان هذا تعليق الطلاق بالقربان كأنه قال: إن قربتك فأنت طالق, فإن قربها وقع الطلاق بعد القربان بلا فصل, فإن تركها حتى مضت أربعة أشهر بانت بالإيلاء كما لو نص على التعليق بالقربان والله الموفق.

 

ج / 3 ص -180-                                                               "فصل":
وأما بيان حكم الطلاق فحكم الطلاق يختلف باختلاف الطلاق من الرجعي, والبائن, ويتعلق بكل واحد منهما أحكام بعضها أصلي, وبعضها من التوابع, أما الطلاق الرجعي فالحكم الأصلي له هو نقصان العدد, فأما زوال الملك, وحل الوطء فليس بحكم أصلي له لازم حتى لا يثبت للحال, وإنما يثبت في الثاني بعد انقضاء العدة, فإن طلقها ولم يراجعها بل تركها حتى انقضت عدتها بانت, وهذا عندنا, وعند الشافعي زوال حل الوطء من أحكامه الأصلية؛ حتى لا يحل له وطؤها قبل الرجعة, وإليه مال أبو عبد الله البصري. وأما زوال الملك فقد اختلف فيه أصحابنا, قال بعضهم: الملك يزول في حق حل الوطء لا غير. وقال بعضهم: لا يزول أصلا, وإنما يحرم وطؤها مع قيام الملك من كل وجه كالوطء في حالة الحيض, والنفاس. وجه قوله أن الطلاق واقع للحال, فلا بد, وأن يكون له أثر ناجز, وهو زوال حل الوطء, وزوال الملك في حق الحل وقد ظهر أثر الزوال في الأحكام حتى لا يحل له المسافرة بها, والخلوة, ويزول قسمها, والأقراء قبل الرجعة محسوبة من العدة, ولهذا سمى الله تعالى الرجعة ردا في كتابه الكريم بقوله عز وجل:
{وَبُعُولَتُهُنَّ} أي: أزواجهن: {أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ}, والرد في اللغة عبارة عن إعادة الغائب فيدل على زوال الملك من وجه. "ولنا" قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ} أي: أزواجهن وقوله تعالى هن كناية عن المطلقات. سماه الله تعالى زوجها بعد الطلاق ولا يكون زوجا إلا بعد قيام الزوجية فدل أن الزوجية قائمة بعد الطلاق والله سبحانه وتعالى أحل للرجل وطء زوجته بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} وقوله تعالى: {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ} وقوله عز وجل: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا} ونحو ذلك من النصوص, والدليل على قيام الملك من كل وجه أنه يصح طلاقه, وظهاره, وإيلاؤه, ويجري اللعان بينهما, ويتوارثان, وهذه أحكام الملك المطلق, وكذا يملك مراجعتها بغير رضاها ولو كان ملك النكاح زائلا من وجه لكانت الرجعة إن شاء النكاح على الحرة من غير رضاها من وجه, وهذا لا يجوز. وأما قوله: الطلاق واقع في الحال فمسلم لكن التصرف الشرعي قد يظهر أثره للحال وقد يتراخى عنه كالبيع بشرط الخيار, وكالتصرف الحسي, وهو الرمي, وغير ذلك, فجاز أن يظهر أثر هذا الطلاق بعد انقضاء العدة, وهو زوال الملك, وحرمة الوطء, على أن له أثرا ناجزا, وهو نقصان عدد الطلاق, ونقصان حل المحلية, وغير ذلك على ما عرف في الخلافيات. وأما المسافرة بها فقد قال زفر من أصحابنا: إنه يحل له المسافرة بها قبل الرجعة. وأما على قول أصحابنا الثلاثة فإنما لا تحل لا لزوال الملك بل لكونها معتدة وقد قال الله تعالى في المعتدات: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} نهى الرجال عن الإخراج, والنساء عن الخروج فيسقط الزوج العدة بالرجعة؛ لتزول الحرمة ثم يسافر. "وأما" الخلوة فإن كان من قصده الرجعة لا يكره, وإن لم يكن من قصده المراجعة يكره, لكن لا لزوال النكاح وارتفاع الحل بل للإضرار بها؛ لأنه إذا لم يكن من قصده استيفاء النكاح بالرجعة فمتى خلا بها يقع بينهما المساس عن شهوة فيصير مراجعا لها ثم يطلقها ثانيا فيؤدي إلى تطويل العدة عليها فتتضرر بذلك, وهو معنى قوله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}, وكذلك القسم؛ لأنه لو ثبت القسم لخلا بها فيؤدي إلى ما ذكرنا إذا لم يكن من قصده أن يراجعها, حتى لو كان من قصده أن يراجعها لكان لها القسم وله الخلوة بها, وإنما احتسبنا الأقراء من العدة لانعقاد الطلاق سببا لزوال الملك, والحل للحال على وجه يتم عليه عند انقضاء العدة, وهو الجواب عن قوله: إن الله تعالى سمى الرجعة ردا؛ لأنه يجوز إطلاق اسم الرد عند انعقاد سبب زوال الملك بدون الزوال كما في البيع بشرط خيار المتعاقدين أنه يطلق اسم الرد عند اختيار الفسخ, وإن لم يزل الملك عن البائع ولم يثبت للمشتري؛ لانعقاد سبب الزوال بدون الزوال, ويكون الرد فسخا للسبب, ومنعا له عن العمل في إثبات الزوال. كذا ههنا. ويستحب لها أن تتشوف, وتتزين؛ لأن الزوجية قائمة من كل وجه, ويستحب لها ذلك لعل زوجها يراجعها, وعلى هذا يبنى حق الرجعة أنه ثابت للزوج بالإجماع سواء كان الطلاق واحدا أو اثنين, أما عندنا فلقيام الملك من كل وجه, وأما عنده فلقيامه فيما وراء حل الوطء. ثم الكلام في الرجعة في

 

ج / 3 ص -181-       مواضع: في بيان شرعية الرجعة, وفي بيان ماهيتها, وفي بيان ركنها, وفي بيان شرائط جواز الركن: أما الأول فالرجعة مشروعة عرفت شرعيتها بالكتاب, والسنة, والإجماع, والمعقول؛ أما الكتاب العزيز فقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي: رجعتهن وقوله تعالى: {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وقوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}, والإمساك بالمعروف هو الرجعة. وأما السنة فما روينا عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما لما طلق امرأته في حالة الحيض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه: "مر ابنك يراجعها" الحديث, وروي "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما طلق حفصة رضي الله عنها جاءه جبريل صلى الله عليه وسلم فقال له: راجع حفصة فإنها صوامة قوامة فراجعها" وكذا روي "أنه صلى الله عليه وسلم طلق سودة بنت زمعة رضي الله عنها ثم راجعها", وعليه الإجماع. وأما المعقول؛ فلأن الحاجة تمس إلى الرجعة؛ لأن الإنسان قد يطلق امرأته ثم يندم على ذلك على ما أشار الرب سبحانه, وتعالى جل جلاله بقوله: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً} فيحتاج إلى التدارك فلو لم تثبت الرجعة لا يمكنه التدارك لما عسى لا توافقه المرأة في تجديد النكاح ولا يمكنه الصبر عنها فيقع في الزنا. وأما بيان ماهية الرجعة فالرجعة عندنا: استدامة الملك القائم, ومنعه من الزوال, وفسخ السبب المنعقد لزوال الملك, وعند الشافعي: هي استدامة من وجه, وإنشاء من وجه بناء, على أن الملك عنده قائم من وجه, زائل من وجه, وهو عندنا قائم من كل وجه, وعلى هذا ينبني أن الشهادة ليست بشرط لجواز الرجعة عندنا, وعنده شرط وجه البناء أن الشهادة شرط ابتداء العقد, وإنشائه لا شرط البقاء, والرجعة استيفاء العقد عندنا, فلا يشترط له الشهادة, وعنده هي استيفاء من وجه, وإنشاء من وجه فيشترط لها الشهادة من حيث هي إن شاء لا من حيث هي استيفاء فصح البناء, ثم الكلام فيه على وجه الابتداء احتج الشافعي بقوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} فظاهر الأمر وجوب العمل فيقتضي وجوب الشهادة. "ولنا" نصوص الرجعة من الكتاب, والسنة مطلقة عن شرط الإشهاد إلا أنه يستحب الإشهاد عليها إذ لو لم يشهد لا يأمن من أن تنقضي العدة, فلا تصدقه المرأة في الرجعة, ويكون القول قولها بعد انقضاء العدة فندب إلى الإشهاد لهذا. وعلى هذا تحمل الآية الكريمة, وفي الآية ما يدل عليه؛ لأنه سبحانه, وتعالى قال: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} جمع بين الفرقة, والرجعة, أمر سبحانه بالإشهاد بقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ}ومعلوم أن الإشهاد على الفرقة ليس بواجب بل هو مستحب. كذا على الرجعة أو تحمل على هذا توفيقا بين النصوص بقدر الإمكان, وكذا لا مهر في الرجعة ولا يشترط فيها رضا المرأة؛ لأنها من شرائط ابتداء العقد لا من شرط البقاء, وكذا إعلامها بالرجعة ليس بشرط حتى لو لم يعلمها بالرجعة جازت؛ لأن الرجعة حقه على الخلوص لكونه تصرفا في ملكه بالاستيفاء, والاستدامة, فلا يشترط فيه إعلام الغير كالإجازة في الخيار لكنه مندوب إليه, ومستحب؛ لأنه إذا راجعها ولم يعلمها بالرجعة فمن الجائز أنها تتزوج عند مضي ثلاث حيض ظنا منها أن عدتها قد انقضت, فكان ترك الإعلام فيه تسببا إلى عقد حرام عسى فاستحب له أن يعلمها. ولو راجعها ولم يعلمها حتى انقضت مدة عدتها, وتزوجت بزوج آخر ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته سواء كان دخل بها الثاني أو لم يدخل, ويفرق بينها, وبين الثاني؛ لأن الرجعة قد صحت بدون علمها فتزوجها الثاني, وهي امرأة الأول فلم يصح, وعلى هذا تبنى الرجعة بالفعل بأن جامعها أنها جائزة عندنا, وعند الشافعي لا يجوز الرجعة إلا بالقول وجه البناء على هذا الأصل أن الرجعة عنده إنشاء النكاح من وجه, وإنشاء النكاح من كل وجه لا يجوز إلا بالقول, فكذا إنشاؤه من وجه, وعندنا هي استدامة النكاح من كل وجه, فلا تختص بالقول, ويبنى أيضا على حل الوطء, وحرمته. وجه البناء أن الوطء لما كان حلالا عندنا فإذا وطئها فلو لم يجعل الوطء دلالة الرجعة, وربما لا يراجعها بالقول بل يتركها حتى تنقضي عدتها فيزول الملك عند انقضاء العدة بالطلاق السابق؛ لأنه لا فعل منه إلا ذلك فيزول الملك مستندا إلى وقت وجود الطلاق فتبين أن الملك كان زائلا من وقت الطلاق من وجه, فيظهر أن الوطء كان حراما, فجعل الإقدام على الوطء دلالة الرجعة صيانة له عن الحرام

 

ج / 3 ص -182-       وعنده لما كان الوطء حراما لا يقدم عليه, فلا ضرورة إلى جعله دلالة الرجعة ثم ابتداء الدليل في المسألة قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} سمى الرجعة ردا, والرد لا يختص بالقول كرد المغصوب, ورد الوديعة, قال النبي صلى الله عليه وسلم "على اليد ما أخذت حتى ترده" وقوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وقوله عز وجل: {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} سمى الرجعة إمساكا, والإمساك حقيقة يكون بالفعل, وكذا إن جامعته, وهو نائم أو مجنون؛ لأن ذلك حلال لها عندنا فلو لم يجعل رجعة لصارت مرتكبة للحرام على تقدير انقضاء العدة من غير رجعة من الزوج فجعل ذلك منها رجعة شرعا ضرورة التحرز عن الحرام؛ ولأن جماعها كجماعه لها في باب التحريم, فكذا في باب الرجعة. وكذلك إذا لمسها لشهوة أو نظر إلى فرجها عن شهوة فهو مراجع لما قلنا, وإن لمس أو نظر لغير شهوة لم يك رجعة؛ لأن ذلك حلال في الجملة. ألا ترى أن القابلة, والطبيب ينظران إلى الفرج, ويمس الطبيب عند الحاجة إليه بغير شهوة, فلا ضرورة إلى جعله رجعة, وكذلك إذا نظر إلى غير الفرج لشهوة؛ لأن ذلك أيضا مباح في الجملة. ويكره التقبيل, واللمس لغير شهوة إذا لم يرد به المراجعة, وكذا يكره أن يراها متجردة لغير شهوة. كذا قال أبو يوسف؛ لأنه لا يأمن من أن يشتهي فيصير مراجعا من غير إشهاد, وذلك مكروه, وكذا لا يأمن من الإضرار بها لجواز أن يشتهي فيصير به مراجعا, وهو لا يريد إمساكها فيطلقها فتطول العدة عليها فتتضرر به والله تعالى نهى عن ذلك بقوله: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِتَعْتَدُوا}, وكذا قال أبو يوسف أن الأحسن إذا دخل عليها أن يتنحنح, ويسمعها خفق نعليه ليس من أجل أنها حرام ولكن لا يأمن من أن يرى الفرج بشهوة فيكون رجعة بغير إشهاد, وهذه عبارة أبي يوسف ولو نظر إلى دبرها موضع خروج الغائط بشهوة لم يكن ذلك رجعة كذا ذكر في الزيادات, وهو قول محمد الأخير, وكان يقول أولا إنه يكون رجعة ثم رجع, حكى إبراهيم بن رستم رجوعه, وهو قياس قول أبي حنيفة؛ لأن ذلك السبيل لا يجري مجرى الفرج. ألا ترى أن الوطء فيه لا يوجب الحد عنده فكان النظر إليه كالنظر إلى سائر البدن؛ ولأن النظر إلى الفرج بشهوة إنما كان رجعة لكون الوطء حلالا تقريرا للحل صيانة عن الحرام, والنظر إلى هذا المحل عن شهوة مما لا يحتمل الحل بحال كما أن الفعل فيه لا يحتمل الحل بحال, فلا يصلح دليلا على الرجعة. ولو نظرت إلى فرجه بشهوة قال أبو يوسف: قياس قول أبي حنيفة أن يكون رجعة, وهذا قبيح ولا يكون رجعة, وكذا قال أبو يوسف, والصحيح قياس قول أبي حنيفة لما ذكرنا فيما إذا جامعته, وهو نائم أو مجنون؛ ولأن النظر حلال لها كالوطء فيجعل رجعة تقريرا للحل وصيانة عن الحرمة؛ ولأن النظرين يستويان في التحريم. ألا ترى أن نظرها إلى فرجه كنظره إلى فرجها في التحريم فكذا في الرجعة. ولو لمسته لشهوة مختلسة أو كان نائما أو اعترف الزوج أنه كان بشهوة فهو رجعة في قول أبي حنيفة, ومحمد. وقال أبو يوسف ليس برجعة فأبو حنيفة سوى بينها, وبين الجارية المشتراة بشرط الخيار للمشتري إذا لمست المشتري أنه يبطل خياره, ومحمد فرق بينهما فقال: ههنا يكون رجعة, وهناك لا يكون إجازة للبيع, وعن أبي يوسف في الجارية روايتان: في رواية فرق فقال: ثمة يكون إجازة للبيع, وههنا لا يكون رجعة, وفي رواية سوى بينهما فقال: فعلها لا يكون رجعة ههنا ولا فعل الأمة يكون إجازة ثمة, فعلى هذه الرواية لا يحتاج إلى الفرق بين المسألتين, ووجه الفرق له على الرواية الأخرى أن بطلان الخيار لا يقف على فعل المشتري بل قد يبطل بغير فعله كما إذا تعيبت في يده بآفة سماوية, فأما الرجعة, فلا يجوز أن تثبت إلا باختيار الزوج حتى قال أبو يوسف: إنها إذا لمسته فتركها, وهو يقدر على منعها كان ذلك رجعة؛ لأنه لما مكنها من اللمس فقد حصل ذلك باختياره فصار كأنه لمسها, وكذلك قال أبو يوسف: إذا ابتدأت اللمس, وهو مطاوع لها أنه يكون رجعة لما قلنا, ووجه الفرق لمحمد أن إسقاط الخيار إدخال الشيء في ملك المشتري, والأمة لا تملك ذلك وليست الرجعة إدخال المرأة على ملك الزوج؛ لأنها على ملكه فلو جعلناه بفعلها لم تملكه ما لم يكن ملكا له فصحت الرجعة, ولأبي حنيفة على نحو ما ذكرنا, وهو أن اللمس حلال من الجانبين عندنا فلزم تعذر الحل فيه, وصيانته عن الحرمة, وذلك يجعله رجعة على ما سبق بيانه كما قال في الجارية إن اللمس منها لو لم يجعل إجازة للبيع, وربما يفسخ فيتبين أن اللمس حصل في ملك الغير من وجه, وما

 

ج / 3 ص -183-       ذكره أبو يوسف أن الرجعة لا تعتبر بغير اختيار الزوج يشكل بما إذا جامعته, وهو نائم أنه تثبت الرجعة من غير اختيار الزوج, وما ذكر محمد أن إسقاط الخيار إدخال المبيع في ملك المشتري وليس بممنوع بل المبيع يدخل في ملكه بالسبب السابق عند سقوط الخيار على أن هذا فرقا بين المسألتين فيما وراء المعنى المؤثر, والفرق بين المسألتين فيما وراء المعنى المؤثر لا يقدح في الجمع بينهما في المعنى المؤثر. قال محمد: ولو صدقها الورثة بعد موته أنها لمسته بشهوة لكان ذلك رجعة؛ لأن الورثة قاموا مقامه فكأنه صدقها قبل موته, ولو شهد الشهود أنها قبلته لشهوة لم تقبل شهادتهم؛ لأن الشهوة معنى في القلب لا يقف عليه الشهود, فلا تقبل شهادتهم فيه, وإن شهدوا على الجماع قبلت؛ لأن الجماع معنى يوقف عليه, ويشاهد ولا يحتاج إلى شرط الشهوة فتقبل فيه الشهادة. وأما ركن الرجعة فهو قول أو فعل يدل على الرجعة: أما القول فنحو أن يقول لها: راجعتك أو رددتك أو رجعتك أو أعدتك أو راجعت امرأتي أو راجعتها أو رددتها أو أعدتها, ونحو ذلك؛ لأن الرجعة رد, وإعادة إلى الحالة الأولى, ولو قال لما نكحتك أو تزوجتك كان رجعة في ظاهر الرواية. وروي عن أبي حنيفة أنه لا يكون رجعة؛ وجه هذه الرواية أن النكاح بعد الطلاق الرجعي قائم من كل وجه فكان قوله: نكحتك إثبات الثابت, وأنه محال فلم يكن مشروعا فكان ملحقا بالعدم شرعا فلم يكن رجعة بخلاف قوله راجعتك؛ لأن ذلك ليس بإثبات النكاح بل هو استيفاء النكاح الثابت, وأنه محل للاستيفاء؛ لأنه انعقد سبب زواله, والرجعة فسخ السبب, ومنع له عن العمل فيصح. وجه ظاهر الرواية أن النكاح, وإن كان ثابتا حقيقة لكن المحل لا يحتمل الإثبات فيجعل مجازا عن استيفاء الثابت لما بينهما من المشابهة تصحيحا لتصرفه بقدر الإمكان وقد قيل في أحد تأويلي قوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي: أزواجهن أحق بنكاحهن في العدة من غيرهم من الرجال, والنكاح المضاف إلى المطلقة طلاقا رجعيا فدل على ثبوت الرجعية بالنكاح. وأما الفعل الدال على الرجعة فهو أن يجامعها أو يمس شيئا من أعضائها لشهوة أو ينظر إلى فرجها عن شهوة أو يوجد شيء من ذلك ههنا على ما بينا, ووجه دلالة هذه الأفعال على الرجعة ما ذكرنا فيما تقدم, وهذا عندنا, فأما عند الشافعي, فلا تثبت الرجعة إلا بالقول بناء على أصل ما ذكرناه والله عز وجل أعلم.

                                                                "فصل":
 وأما شرائط جواز الرجعة فمنها قيام العدة, فلا تصح الرجعة بعد انقضاء العدة؛ لأن الرجعة استدامة الملك, والملك يزول بعد انقضاء العدة, فلا تتصور الاستدامة إذ الاستدامة للقائم لصيانته عن الزوال لا للمزيل كما في البيع بشرط الخيار للبائع إذا مضت مدة الخيار أنه لا يملك استيفاء الملك في المبيع بزوال ملكه بمضي المدة. كذا هذا, ولو طهرت عن الحيضة الثالثة ثم راجعها فهذا على وجهين: إن كانت أيامها في الحيض عشرا لا تصح الرجعة, وتحل للأزواج بمجرد انقطاع العدة؛ لأن انقضاءها بانقضاء الحيضة الثالثة وقد انقضت بيقين لانقطاع دم الحيض بيقين إذ لا مزيد للحيض على عشرة. ألا ترى أنها إذا رأت أكثر من عشرة لم يكن الزائد على العشرة حيضا فتيقنا بانقضاء العدة. ولا رجعة بعد انقضاء العدة, وإن كانت أيامها دون العشرة فإن كانت تجد ماء فلم تغتسل ولا تيممت وصلت به ولا مضى عليها وقت كامل من أوقات أدنى الصلوات إليها لا تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج, وهذا عندنا. وقال الشافعي لا أعرف بعد الأقراء معنى معتبرا في انقضاء العدة, وهذا خلاف الكتاب العزيز, والسنة, وإجماع الصحابة رضي الله عنهم: أما الكتاب فقوله عز وجل: {وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} أي: يغتسلن. وأما السنة فما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الزوج أحق برجعتها ما دامت في مغتسلها". وروي "ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة", وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روى علقمة عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: كنت عند عمر رضي الله عنه فجاء رجل وامرأة فقال الرجل: زوجتي طلقتها وراجعتها فقالت: ما يمنعني ما صنع أن أقول ما كان, إنه طلقني, وتركني حتى حضت الحيضة الثالثة وانقطع الدم, وغلقت بابي, ووضعت غسلي, وخلعت ثيابي فطرق الباب فقال قد راجعتك, فقال عمر رضي الله عنه: قل فيها يا ابن أم عبد فقلت: أرى أن الرجعة قد صحت ما لم تحل لها الصلاة, فقال عمر: لو قلت غير هذا لم أره صوابا

 

ج / 3 ص -184-       وروي عن مكحول أن أبا بكر, وعمر, وعليا وابن مسعود, وأبا الدرداء, وعبادة بن الصامت, وعبد الله بن قيس الأشعري رضي الله عنهم كانوا يقولون في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين إنه أحق بها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة, ترثه, ويرثها ما دامت في العدة, فاتفقت الصحابة رضي الله عنهم على اعتبار الغسل فكان قوله مخالفا للحديث, وإجماع الصحابة, فلا يعتد به. ولأن أيامها إذا كانت أقل من عشرة لم تستيقن بانقطاع دم الحيض لاحتمال المعاودة في أيام الحيض, إذ الدم لا يدر درا واحدا ولكنه يدر مرة, وينقطع أخرى فكان احتمال العود قائما, والعائد يكون دم حيض إلى العشرة فلم يوجد انقطاع دم الحيض بيقين, فلا يثبت الطهر بيقين فتبقى العدة؛ لأنها كانت ثابتة بيقين, والثابت بيقين لا يزول بالشك كمن استيقن بالحدث, وشك في الطهارة بخلاف ما إذا كانت أيامها عشرا؛ لأنه هناك لا يحتمل عود دم الحيض بعد العشرة إذ العشرة أكثر الحيض فتيقنا بانقطاع دم الحيض فيزول الحيض ضرورة, ويثبت الطهر, وههنا بخلافه على ما بينا, والشافعي بنى قوله في هذا على أصله أن العدة تنقضي بالأطهار لا بالحيض فإذا طعنت في أول الحيضة الثالثة فقد انقضت العدة من غير حاجة إلى شيء آخر, ويستدل على بطلان هذا الأصل في موضعه إن شاء الله تعالى فيبطل الفرع ضرورة, وإذا اغتسلت انقطعت الرجعة؛ لأنه ثبت لها حكم من أحكام الطاهرات, وهو إباحة أداء الصلاة إذ لا يباح أداؤها للحائض فتقرر الانقطاع بقرينة الاغتسال فتنقطع الرجعة, وكذا إذا لم تغتسل لكن مضى عليها وقت الصلاة تنقطع الرجعة؛ لأنه لما مضى عليها وقت الصلاة صارت الصلاة دينا في ذمتها, وهذا من أحكام الطاهرات إذ لا تجب الصلاة على الحائض, فلا تصير دينا عليها فاستحكم الانقطاع بهذه القرينة فانقطعت الرجعة, وكذلك إذا لم تجد الماء بأن كانت مسافرة فتيممت وصلت؛ لأن صحة الصلاة حكم من أحكام الطاهرات إذ لا صحة لها مع قيام الحيض فقد يضاف إلى الانقطاع حكم من أحكام الطاهرات فاستحكم الانقطاع فتنقطع الرجعة فأما إذا تيممت ولم تصل فهل تنقطع الرجعة؟ اختلف فيه أصحابنا: قال أبو حنيفة, وأبو يوسف: لا تنقطع. وقال محمد: تنقطع. "وجه" قوله أنها لما تيممت فقد ثبت لها حكم من أحكام الطاهرات, وهو إباحة الصلاة, فلا يبقى الحيض ضرورة كما لو اغتسلت أو تيممت وصلت به. "وجه" قولهما على نحو ما ذكرنا أن أيامها إذا كانت دون العشرة لم تستيقن بانقضاء عدتها بنفس انقطاع الدم من غير قرينة تنضم إليه لاحتمال أن يعاودها الدم في العشرة فتبين أنها حائض, والحيض كان ثابتا بيقين, فلا يحكم بزواله إلا عند وجود الطهر بيقين ولم يوجد, وبقرينة التيمم لا تصير في حكم الطاهرات بيقين؛ لأنه ليس بطهور حقيقة, وإنما جعل طهورا شرعا عند عدم الماء لقوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} والدليل عليه أنها لو رأت الماء قبل الشروع في الصلاة أو بعدما شرعت فيها قبل الفراغ منها بطل تيممها فكان التيمم طهارة مطلقة شرعا لكن حال عدم الماء واحتمال وجود الماء في كل ساعة قائم, فكان احتمال عدم الطهورية ثابتا فلم توجد الطهارة الحاصلة بيقين فتبقى نجاسة الحيض إلا أنه أبيح لها أداء الصلاة به لعدم الماء في الحالين من حيث الظاهر مع احتمال الوجود فإذا لم تجد الماء وصلت به, وفرغت من الصلاة فقد استحكم العدم فاستحكمت الطهارة الحاصلة بالتيمم, فلا يبقى الحيض, فأما قبل ذلك فاحتمال عدم الطهارة ثابت لاحتمال وجود الماء, فلا يكون طهارة شرعا بيقين بل مع الاحتمال فيبقى حكم الحيض الثابت بيقين, بخلاف الاغتسال؛ لأنه طهارة بيقين لكون الماء طهورا مطلقا فإذا ثبتت الطهارة بيقين انتفى الحيض ضرورة؛ لأنه ضدها بخلاف التيمم على ما بيناه, وبخلاف ما إذا مضى عليها وقت كامل من أوقات الصلاة؛ لأن الصلاة صارت دينا في ذمتها بيقين فقد ثبت في حقها حكم من أحكام الطاهرات بيقين, فلا يبقى الحيض بيقين فتنقضي العدة بيقين ولو اغتسلت بسؤر الحمار انقطعت الرجعة بنفس الاغتسال بالإجماع ولكنها لا تحل للأزواج؛ لأن سؤر الحمار مشكوك فيه إما في طهوريته أو في طهارته على اختلافهم في ذلك, فإن كان ذلك طاهرا أو طهورا انقطعت الرجعة, وتحل للأزواج لانقضاء العدة لتقرر الانقطاع بالاغتسال, وإن لم يكن أو كان طاهرا غير طهور لا تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج فإذا وقع الشك لزم الاحتياط في ذلك كله, وذلك فيما قلنا, وهو أن تنقطع الرجعة ولا تحل للأزواج أخذا بالثقة في الحكمين احترازا عن الحرمة في البابين ولا

 

ج / 3 ص -185-       تصلي بذلك الغسل ما لم تتيمم, ولو اغتسلت المعتدة وبقي من بدنها شيء لم يصبه الماء فالباقي لا يخلو أما إن كان عضوا كاملا. "وأما" إن كان أقل من عضو فإن كان عضوا كاملا فله الرجعة, وإن كان أقل من عضو, فلا رجعة له, ثم اختلف أبو يوسف, ومحمد فقال أبو يوسف: قوله: لا رجعة له في الأقل هذا استحسان, والقياس أن يكون له فيه الرجعة, فمحمد قاس المتروك إذا كان عضوا على ترك المضمضة, والاستنشاق. وقال رحمه الله: هناك تنقطع الرجعة, والقياس عليه أن تنقطع هنا أيضا إلا أنهم استحسنوا وقالوا لا تنقطع الرجعة؛ لأن العضو الكامل مجمع على وجوب غسله, وهو مما لا يتغافل عنه عادة فتنقطع الرجعة كما لو كان المتروك زائدا على عضو بخلاف المضمضة, والاستنشاق؛ لأن ذلك غير مجمع على وجوبه, مجتهد فيه, وأبو يوسف يقول: المتروك, وإن قل فحكم الحدث باق. ألا ترى أنه لا تباح معه, وإن قل, ومع بقاء الحدث لا تثبت الطهارة, وهذا يوجب التسوية بين القليل والكثير إلا أنهم استحسنوا في القليل, وهو ما دون العضو فقالوا: إنه تنقطع الرجعة فيه؛ لأن هذا القدر مما يتغافل عنه عادة, ويحتمل أيضا أنه أصابه الماء ثم جف فيحكم بانقطاع الرجعة فيه, ويبقى الأمر في العضو التام على أصل القياس واختلفت الرواية عن أبي يوسف في المضمضة, والاستنشاق روي عنه أنه تنقطع الرجعة, وروي عنه أيضا أنه لا تنقطع الرجعة. وقال محمد: تبين من زوجها ولكنها لا تحل للأزواج. وجه قوله هو إحدى الروايتين عن أبي يوسف في انقطاع الرجعة أن وجوب المضمضة, والاستنشاق مختلف فيه, وموضع الاجتهاد موضع تعارض الأدلة, فلا يخلو عن الشك, والشبهة, والرجعة يسلك بها مسلك الاحتياط, فلا يجوز بقاؤها بالشك فينقطع ولا يجوز إثبات حال التزوج بالشك أيضا, لذلك لم يجزه محمد. وجه الرواية الأخرى لأبي يوسف أن الحديث قد بقي في عضو كامل فتبقى الرجعة, هذا إذا كانت المطلقة مسلمة, فأما إذا كانت كتابية فقد قالوا: إن الرجعة تنقطع عنها بنفس انقطاع الدم؛ لأنها غير مخاطبة بالغسل ولا يلزمها فرض الغسل كالمسلمة إذا اغتسلت. "ومنها"  عدم التطليق بشرط, والإضافة إلى وقت في المستقبل حتى لو قال الزوج بعد الطلاق إن دخلت الدار فقد راجعتك, أو راجعتك إن دخلت الدار, أو إن كلمت زيدا أو إذا جاء غد فقد راجعتك غدا أو رأس شهر كذا لم تصح الرجعة في قولهم جميعا؛ لأن الرجعة استيفاء ملك النكاح, فلا يحتمل التعليق بشرط, والإضافة إلى وقت في المستقبل كما لا يحتملها إنشاء الملك؛ ولأن الرجعة تتضمن انفساخ الطلاق في انعقاده سببا لزوال الملك, ومنعه عن عمله في ذلك فإذا علقها بشرط أو أضافها إلى وقت في المستقبل فقد استبقى الطلاق إلى غاية, واستبقاء الطلاق إلى غاية يكون تأبيدا له إذ هو لا يحتمل التوقيت كما إذا قال لامرأته أنت طالق يوما أو شهرا أو سنة أنه لا يصح التوقيت, ويتأبد الطلاق, فلا تصح الرجعة, هذا إذا أنشأ الرجعة, فأما إذا أخبر عن الرجعة في الزمن الماضي بأن قال: كنت راجعتك أمس فإن صدقته المرأة فقد ثبتت الرجعة, سواء قال ذلك في العدة أو بعد انقضاء العدة بعد أن كانت المرأة في العدة أمس. وإن كذبته فإن قال ذلك في العدة فالقول قوله؛ لأنه أخبر عما يملك إن شاءه في الحال؛ لأن الزوج يملك الرجعة في الحال, ومن أخبر عن أمر يملك إن شاءه في الحال يصدق فيه. إذ لو لم يصدق ينشئه للحال, فلا يفيد التكذيب فصار كالوكيل قبل العزل إذا قال بعته أمس, وإن قال بعد انقضاء العدة فالقول قولها؛ لأنه أخبر عما لا يملك إنشاءه في الحال؛ لأنه لا يملك الرجعة بعد انقضاء العدة فصار كالوكيل بعد العزل إذا قال قد بعت, وكذبه الموكل ولا يمين عليها في قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف, ومحمد تستحلف. وهذه من المسائل المعدودة التي لا يجري فيها الاستحلاف عند أبي حنيفة نذكرها في كتاب الدعوى فإن أقام الزوج بينة قبلت بينته, وتثبت الرجعة؛ لأن الشهادة قامت على الرجعة في العدة فتسمع ولو كانت المطلقة أمة الغير فقال زوجها بعد انقضاء العدة كنت راجعتك, وكذبته الأمة وصدقه المولى فالقول قولها عند أبي حنيفة ولا تثبت الرجعة, وعندهما القول قول الزوج, والمولى, وتثبت الرجعة؛ لأنها ملك المولى, ولأبي حنيفة أن انقضاء عدتها إخبار منها عن حيضها, وذلك إليها لا إلى المولى كالحرة, فإن قال الزوج لها: قد راجعتك, فقالت مجيبة له: قد انقضت عدتي فالقول قولها عند أبي حنيفة مع يمينها. وقال أبو يوسف, ومحمد: القول قول الزوج, وأجمعوا على أنها لو سكتت

 

ج / 3 ص -186-       ساعة ثم قالت: انقضت عدتي يكون القول قول الزوج, ولا خلاف أيضا في أنها إذا بدأت فقالت: انقضت عدتي فقال الزوج مجيبا لها موصولا بكلامها: راجعتك يكون القول قولها؛ وجه قولهما أن قول الزوج راجعتك وقع رجعة صحيحة لقيام العدة من حيث الظاهر فكان القول قول المرأة انقضت عدتي إخبارا عن انقضاء العدة ولا عدة لبطلانها بالرجعة, فلا يسمع, كما لو سكتت ساعة ثم قالت: انقضت عدتي؛ ولأن قولها "انقضت عدتي" إن كان إخبارا عن انقضاء العدة في زمان متقدم على قول الزوج لا يقبل منها بالإجماع, كما لو أسندت الخبر عن الانقضاء إليه نصا بأن قالت: كانت عدتي قد انقضت قبل رجعتك؛ لأنها متهمة في التأخير في الإخبار, وإن كان ذلك إخبارا عن انقضاء العدة في زمان مقارن لقول الزوج فهذا نادر, فلا يقبل قولها, ولأبي حنيفة أن المرأة أمينة في إخبارها عن انقضاء العدة فإن الشرع ائتمنها في هذا الباب؛ قال الله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} قيل في التفسير: إنه الحيض, والحبل نهاهن سبحانه, وتعالى عن الكتمان, والنهي عن الكتمان أمر بالإظهار, إذ النهي عن الشيء أمر بضده, والأمر بالإظهار أمر بالقبول لتظهر فائدة الإظهار فلزم قبول قولها, وخبرها بانقضاء العدة, ومن ضرورة قبول الإخبار بانقضاء العدة حلها للأزواج, ثم إن كانت عدتها انقضت قبل قول الزوج راجعتك فقوله راجعتك يقع بعد انقضاء عدتها, فلا يصح, وإن كانت انقضت حال قوله راجعتك فيقع حال قوله راجعتك حال انقضاء العدة, وكما لا تصح الرجعة بعد انقضاء العدة لا تصح حال انقضائها؛ لأن العدة حال انقضائها منقضية فكان ذلك رجعة لمنقضية العدة, فلا تصح, فإن قيل يحتمل أنها انقضت حال إخبارها عن الانقضاء, وإخبارها متأخر عن قوله راجعتك فكان انقضاء العدة متأخرا عنه ضرورة فتصح الرجعة فالجواب إذا احتمل ما قلنا واحتمل ما قلتم وقع الشك في صحة الرجعة, والأصل أن ما لم يكن ثابتا إذا وقع الشك في ثبوته لا يثبت مع الشك, والاحتمال خصوصا فيما يحتاط فيه ولا سيما إذا كان جهة الفساد آكد, وههنا جهة الفساد آكد؛ لأنها تصح من وجه, وتفسد من وجهين فالأولى أن لا يصح والله عز وجل الموفق ثم عند أبي حنيفة تستحلف, وإذا نكلت يقضى بالرجعة, وهذا يشكل على أصله؛ لأن الاستحلاف للنكول, والنكول بدل عنده, والرجعة لا تحتمل البدل لكن الاستحلاف قد يكون للنكول ليقضى به وقد يكون لا للنكول بل لنفي التهمة بالحلف. ألا ترى أنه يستحلف عنده فيما لا يقضى بالنكول أصلا كما في دعوى القصاص في النفس نفيا للتهمة, والمرأة, وإن كانت أمينة لكن الأمين قد يستحلف لنفي التهمة بالحلف فإذا نكلت فقد تحققت التهمة فلم يبق قولها حجة فبقيت الرجعة على حالها حكما لاستصحاب الحال لعدم دليل الزوال؛ لأنه جعل نكولها بدلا مع ما أنه يمكن تحقيق معنى البدل ههنا؛ لما ذكرنا أنها بالنكول صارت متهمة فخرج قولها من أن يكون حجة للتهمة فتبقى العدة, وأثرها في المنع من الأزواج, والسكون في منزل الزوج فقط, ثم يقضى بالرجعة حكما لاستصحاب الحال؛ لأنها بإخبارها بانقضاء عدتها حلت للأزواج, وإذا نكلت فقد بدلت الامتناع من الأزواج, والسكون في منزل الزوج, وهذا معنى يحتمل البدل, "ومنها" عدم شرط الخيار حتى لو شرط الخيار في الرجعة لم يصح؛ لأنها استبقاء النكاح, فلا يحتمل شرط الخيار كما لا يحتمل الإنشاء. "ومنها" أن يكون أحد نوعي ركن الرجعة وهو القول منه لا منها حتى لو قالت للزوج راجعتك لم يصح لقوله سبحانه وتعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي: أحق برجعتهن منهن ولو كانت لها ولاية الرجعة لم يكن الزوج أحق بالرجعة منها, فظاهر النص يقتضي أن لا يكون لها ولاية الرجعة أصلا إلا أن جواز الرجعة بالفعل منها عرفناه بدليل آخر, وهو ما بينا. وأما رضا المرأة فليس بشرط لجواز الرجعة, وكذا المهر لقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} مطلقا عن شرط الرضا, والمهر؛ ولأنه لو شرط الرضا, والمهر لم يكن الزوج أحق برجعتها منها؛ لأنه لا يملك بدون رضاها, والمهر فيؤدي إلى الخلف في خبر الله عز وجل وهذا لا يجوز؛ ولأن الرجعة شرعت لإمكان التدارك عند الندم فلو شرط رضاها لا يمكنه التدارك؛ لأنها عسى لا ترضى, وعسى لا يجد الزوج المهر, وكذا كون الزوج طائعا وجادا, وعامدا ليس بشرط لجواز الرجعة فتصح الرجعة مع الإكراه والهزل واللعب والخطأ؛ لأن الرجعة استبقاء النكاح, وأنه دون الإنشاء ولم تشترط هذه

 

ج / 3 ص -187-       الأشياء للإنشاء فلأن لا تشترط للاستبقاء أولى, وقد روي في بعض الروايات "ثلاث جدهن جد, وهزلهن جد النكاح, والرجعة, والطلاق".

                                                         "فصل":
وأما حكم الطلاق البائن فالطلاق البائن نوعان: أحدهما الطلقات, والثاني الطلقة الواحدة البائنة, والثنتان البائنتان, ويختلف حكم كل واحد من النوعين وجملة الكلام فيه أن الزوجين أما إن كانا حرين. وأما إن كانا مملوكين. وأما إن كان أحدهما حرا, والآخر مملوكا فإن كانا حرين فالحكم الأصلي لما دون الثلاث من الواحدة البائنة, والثنتين البائنتين هو نقصان عدد الطلاق, وزوال الملك أيضا حتى لا يحل له وطؤها إلا بنكاح جديد ولا يصح ظهاره, وإيلاؤه ولا يجري اللعان بينهما ولا يجري التوارث ولا يحرم حرمة غليظة حتى يجوز له نكاحها من غير أن تتزوج بزوج آخر؛ لأن ما دون الثلاثة وإن كان بائنا فإنه يوجب زوال الملك لا زوال حل المحلية. "وأما" الطلقات الثلاث فحكمها الأصلي هو زوال الملك, وزوال حل المحلية أيضا حتى لا يجوز له نكاحها قبل التزوج بزوج آخر؛ لقوله عز وجل:
{فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, وسواء طلقها ثلاثا متفرقا أو جملة واحدة؛ لأن أهل التأويل اختلفوا في مواضع التطليقة الثالثة من كتاب الله قال بعضهم هو قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} بعد قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وقالوا: الإمساك بالمعروف هو الرجعة, والتسريح بالإحسان هو أن يتركها حتى تنقضي عدتها. وقال بعضهم: هو قوله تعالى: {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} فالتسريح هو الطلقة الثالثة, وعلى ذلك جاء الخبر, وكل ذلك جائز محتمل غير أنه إن كان التسريح هو تركها حتى تنقضي عدتها كان تقدير قوله سبحانه, وتعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ} أي: طلقها تطليقة ثالثة, وإن كان المراد من التسريح التطليقة الثالثة كان تقدير قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي: طلقها طلاقا ثلاثا, فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره. وإنما تنتهي الحرمة وتحل للزوج الأول بشرائط منها النكاح, وهو أن تنكح زوجا غيره لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} نفى الحل, وحد النفي إلى غاية التزوج بزوج آخر, والحكم الممدود إلى غاية لا ينتهي قبل وجود الغاية, فلا تنتهي الحرمة قبل التزوج, فلا يحل للزوج الأول قبله ضرورة, وعلى هذا يخرج ما إذا وطئها إنسان بالزنا أو بشبهة أنها لا تحل لزوجها لعدم النكاح, وكذا إذا وطئها المولى بملك اليمين بأن حرمت أمته المنكوحة على زوجها حرمة غليظة وانقضت عدتها فوطئها المولى لا تحل لزوجها؛ ; لأن الله تعالى نفى الحل إلى غاية, فلا ينتهي النفي قبل وجود النكاح ولم يوجد, وكذا روي عن علي رضي الله عنه أنه قال في هذه المسألة: ليس بزوج يعني: المولى. وروي أن عثمان سئل عن ذلك, وعنده علي, وزيد بن ثابت رضي الله عنهما فرخص في ذلك عثمان, وزيد وقالا: هو زوج, فقام علي مغضبا كارها لما قالا وقد روي أنه قال: ليس بزوج. وكذا إن اشتراها الزوج قبل أن تنكح زوجا غيره لم تحل له بملك اليمين, وكذا إذا أعتقت لما قلنا.

                                                           "فصل":
 ومنها أن يكون النكاح الثاني صحيحا حتى لو تزوجت رجلا نكاحا فاسدا ودخل بها لا تحل للأول؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنكاح حقيقة, ومطلق النكاح ينصرف إلى ما هو نكاح حقيقة ولو كان النكاح الثاني مختلفا في فساده, ودخل بها لا تحل للأول عند من يقول بفساده لما قلنا, فإن تزوجت بزوج آخر ومن نيتها التحليل فإن لم يشرطا ذلك بالقول, وإنما نويا, ودخل بها على هذه النية حلت للأول في قولهم جميعا؛ لأن مجرد النية في المعاملات غير معتبر فوقع النكاح صحيحا لاستجماع شرائط الصحة فتحل للأول كما لو نويا التوقيت, وسائر المعاني المفسدة. وإن شرط الإحلال بالقول, وأنه يتزوجها لذلك, وكان الشرط منها فهو نكاح صحيح عند أبي حنيفة, وزفر, وتحل للأول, ويكره للثاني, والأول. وقال أبو يوسف: النكاح الثاني فاسد, وإن وطئها لم تحل للأول وقال محمد: النكاح الثاني صحيح ولا تحل للأول. "وجه" قول أبي يوسف أن النكاح بشرط الإحلال في معنى النكاح المؤقت, وشرط التوقيت في النكاح يفسده, والنكاح الفاسد لا يقع به التحليل, ولمحمد أن النكاح عقد مؤبد فكان شرط الإحلال استعجال ما أخره الله تعالى لغرض الحل فيبطل الشرط, ويبقى النكاح صحيحا لكن لا يحصل به الغرض كمن قتل مورثه أنه

 

ج / 3 ص -188-       يحرم الميراث لما قلنا. كذا هذا, ولأبي حنيفة أن عمومات النكاح تقتضي الجواز من غير فصل بين ما إذا شرط فيه الإحلال أو لا فكان النكاح بهذا الشرط نكاحا صحيحا فيدخل تحت قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فتنتهي الحرمة عند وجوده إلا أنه كره النكاح بهذا الشرط لغيره, وهو أنه شرط ينافي المقصود من النكاح, وهو السكن, والتوالد, والتعفف؛ لأن ذلك يقف على البقاء, والدوام على النكاح, وهذا والله أعلم معنى إلحاق اللعن بالمحلل في قوله صلى الله عليه وسلم: "لعن الله المحلل, والمحلل له". "وأما" إلحاق اللعن بالزوج الأول, وهو المحلل له فيحتمل أن يكون لوجهين: أحدهما: أنه سبب لمباشرة الزوج الثاني هذا النكاح لقصد الفراق, والطلاق دون الإبقاء, وتحقيق ما وضع له, والمسبب شريك المباشر في الاسم, والثواب في التسبب للمعصية, والطاعة. والثاني أنه باشر ما يفضي إلى الذي تنفر منه الطباع السليمة, وتكرهه من عودها إليه من مضاجعة غيره إياها واستمتاعه بها, وهو الطلقات الثلاث إذ لولاها لما وقع فيه فكان إلحاقه اللعن به لأجل الطلقات والله عز وجل أعلم. "وأما" قول أبي يوسف إن التوقيت في النكاح يفسد النكاح فنقول: المفسد له هو التوقيت نصا. ألا ترى أن كل نكاح مؤقت فإنه يتوقت بالطلاق, وبالموت, وغير ذلك ولم يوجد التوقيت نصا, فلا يفسد, وقول محمد إنه استعجال ما أجله الله تعالى ممنوع, فإن استعجال ما أجله الله تعالى لا يتصور؛ لأن الله تعالى إذا ضرب لأمر أجلا لا يتقدم ولا يتأخر فإذا طلقها الزوج الثاني تبين أن الله تعالى أجل هذا النكاح إليه, ولهذا قلنا إن المقتول ميت بأجله خلافا للمعتزلة. ومنها الدخول من الزوج الثاني, فلا تحل لزوجها الأول بالنكاح الثاني حتى يدخل بها, وهذا قول عامة العلماء. وقال سعيد بن المسيب تحل بنفس العقد واحتج بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, والنكاح هو العقد, وإن كان يستعمل في العقد, والوطء جميعا عند الإطلاق لكنه يصرف إلى العقد عند وجود القرينة وقد وجدت؛ لأنه أضاف النكاح إلى المرأة بقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, والعقد يوجد منها كما يوجد من الرجل, فأما الجماع فإنه يقوم بالرجل, وحده, والمرأة محله فانصرف إلى العقد بهذه القرينة فإذا وجد العقد تنتهي الحرمة بظاهر النص "ولنا" قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}, والمراد من النكاح: الجماع؛ لأن النكاح في اللغة هو الضم حقيقة, وحقيقة الضم في الجماع, وإنما العقد سبب داع إليه فكان حقيقة للجماع مجازا للعقد مع ما أنا لو حملناه على العقد لكان تكرارا؛ لأن معنى العقد يفيده ذكر الزوج فكان الحمل على الجماع أولى, بقي قوله: أنه أضاف النكاح إليها. والجماع مما تصح إضافته إلى الزوجين لوجود معنى الاجتماع منهما حقيقة, فأما الوطء ففعل الرجل حقيقة لكن إضافة النكاح إليها من حيث هو ضم وجمع لا من حيث هو وطء ثم إن كان المراد من النكاح في الآية هو العقد فالجماع يضمر فيه, عرفنا ذلك بالحديث المشهور وضرب من المعقول أما الحديث فما روينا عن عائشة رضي الله عنها "أن رفاعة القرظي طلق امرأته ثلاثا فتزوجها عبد الرحمن بن الزبير فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت: إن رفاعة طلقني, وبت طلاقي؛ فتزوجني عبد الرحمن بن الزبير ولم يكن معه إلا مثل هدبة الثوب؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ لا, حتى تذوقي من عسيلته, ويذوق من عسيلتك" وعن ابن عمر, وأنس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث ولم يذكرا قصة امرأة رفاعة, وهو ما روي عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل, وهو على المنبر عن رجل طلق امرأته ثلاثا فتزوجها غيره فأغلق الباب, وأرخى الستر, وكشف الخمار ثم فارقها فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تحل للأول حتى تذوق عسيلة الآخر". وأما المعقول فهو أن الحرمة الغليظة إنما تثبت عقوبة للزوج الأول بما أقدم على الطلاق الثلاث الذي هو مكروه شرعا زجرا, ومنعا له عن ذلك لكن إذا تفكر في حرمتها عليه إلا بزوج آخر الذي تنفر منه الطباع السليمة, وتكرهه انزجر عن ذلك, ومعلوم أن العقد بنفسه لا تنفر عنه الطباع ولا تكرهه إذ لا يشتد على المرأة مجرد النكاح ما لم يتصل به الجماع فكان الدخول شرطا فيه ليكون زجرا له, ومنعا عن ارتكابه فكان الجماع مضمرا في الآية الكريمة كأنه قال عز وجل: حتى تنكح زوجا غيره

 

ج / 3 ص -189-       ويجامعها. وأما الإنزال فليس بشرط للإحلال؛ لأن الله تعالى جعل الجماع غاية الحرمة, والجماع في الفرج هو التقاء الختانين فإذا وجد فقد انتهت الحرمة, وسواء كان الزوج الثاني بالغا أو صبيا يجامع فجامعها أو مجنونا فجامعها لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} من غير فصل بين زوج, وزوج؛ ولأن وطء الصبي والمجنون يتعلق به أحكام النكاح من المهر والتحريم كوطء البالغ العاقل, وكذلك الصغيرة التي يجامع مثلها إذا طلقها زوجها ثلاثا ودخل بها الزوج الثاني حلت للأول لإطلاق قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}؛ ولأن وطأها يتعلق به أحكام الوطء من المهر, والتحريم فصار كوطء البالغة, وسواء كان الزوج الثاني حرا أو عبدا قنا أو مدبرا أو مكاتبا بعد أن تزوج بإذن مولاه, ودخل بها لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} مطلقا من غير فصل؛ ولأن أحكام النكاح تتعلق بوطء هؤلاء كما تتعلق بوطء الحر, وكذا إذا كان مشلولا ينتشر له, ويجامع لوجود الجماع في النكاح الصحيح, وإنما الفائت هو الإنزال, وذا ليس بشرط كالفحل إذا جامع ولم ينزل. وأما المجبوب فإنه لا يحلها للأول؛ لأنه لا يتحقق منه الجماع, وإنما يوجد منه السحق, والملاصقة, والتحليل يتعلق بالجماع, وأنه اسم لالتقاء الختانين ولم يوجد, فلا تحل للأول, وإن حملت امرأة المجبوب وولدت هل تحل للأول؟ قال أبو يوسف: حلت للأول, وكانت محصنة. وقال زفر: لا تحل للأول ولا تكون محصنة, وهو قول الحسن. وجه قول زفر ظاهر؛ لأن ثبوت النسب ليس بوطء حقيقة بل يقام مقام الوطء حكما, والتحليل يتعلق حقيقة لا حكما كالخلوة فإنها لا تفيد الحل, وإن أقيم مقام الوطء حكما كذا هذا؛ ولأن النسب يثبت من صاحب الفراش مع كون المرأة زانية حقيقة لكونه مولودا على الفراش, والتحليل لا يقع بالزنا ولأبي يوسف أن النسب ثابت منه, وثبوت النسب حكم الوطء في الأصل فصار كالدخول سواء وطئها الزوج الثاني في حيض أو نفاس أو صوم أو إحرام لوجود الدخول في النكاح الصحيح ولو كانت كتابية تحت مسلم طلقها ثلاثا فنكحت كتابيا نكاحا يقران عليه لو أسلما ودخل بها فإنها تحل للزوج الأول لوجود الدخول في النكاح الصحيح في حقهم؛ لأنهم يقرون عليه بعد الإسلام فصار كنكاح المسلمين, وسواء كانت المرأة مطلقة من زوج واحد أو من زوجين أو أكثر من ذلك فالزوج الواحد إذا دخل بها تحل للزوجين أو أكثر من ذلك بأن طلق الرجل امرأته ثلاثا فتزوجت بزوج آخر فطلقها الثاني قبل أن يدخل بها ثلاثا ثم تزوجت زوجا ثالثا, ودخل بها حلت للأولين لقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} جعل الزوج الثاني منهيا للحرمة من غير فصل بين ما إذا حرمت على زوج واحد أو أكثر ثم وطء الزوج الثاني هل يهدم ما كان في ملك الزوج الأول من الطلاق لا خلاف في أنه يهدم الثلاث, وهل يهدم ما دون الثلاث؟ قال أبو حنيفة, وأبو يوسف: يهدم. وقال محمد لا يهدم, وبه أخذ الشافعي, وقد ذكرنا الحجج, والشبه فيما تقدم. وإذا طلق الرجل امرأته ثلاثا فغابت عنه مدة ثم أتته فقالت: إني تزوجت زوجا غيرك ودخل بي وطلقني وانقضت عدتي قال محمد: لا بأس أن يتزوجها, ويصدقها إذا كانت ثقة عنده أو وقع في قلبه أنها صادقة؛ لأن هذا من باب الديانة, وخبر العدل في باب الديانة مقبول رجلا كان أو امرأة, كما في الإخبار عن طهارة الماء, ونجاسته, وكما في رواية الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن تزوجها ولم تخبره بشيء فلما وقع قالت: لم أتزوج زوجا غيرك أو قالت: تزوجت ولم يدخل بي, أو قالت: قد خلا بي وجامعني فيما دون الفرج, وكذبها الأول. وقال: قد دخل بك الثاني, لم يذكر هذا في ظاهر الرواية. وذكر الحسن بن زياد أن القول قول المرأة في ذلك كله؛ لأن هذا المعنى لا يعلم إلا من جهتها فكان القول قولها كما في الخبر عن الحيض, والحبل, وفيه إشكال, وهو أنه إنما يجعل القول قولها إذا لم يسبق منها ما يكذبها, وقد سبق منها ما يكذبها في قولها, وهو إقدامها على النكاح من الزوج الأول؛ لأن شيئا من ذلك لا يجوز إلا بعد التزوج بزوج آخر, والدخول بها فكان فعلها مناقضا لقولها, فلا يقبل, وإن كان الزوج هو الذي قال لها لم تتزوجي أو قال لم يدخل بك الثاني. وقالت المرأة قد دخل بي قال الحسن القول قول المرأة, وهذا صحيح لما ذكرنا أن هذا إنما يعلم من جهتها ولم يوجد منها دليل التناقض فكان القول قولها, قال, ويفسد النكاح بقول الزوج ولها نصف

 

ج / 3 ص -190-       المسمى إن كان لم يدخل بها, والكل إن كان قد دخل بها؛ لأن الزوج معترف بالحرمة وقوله فيما يرجع إلى الحرمة مقبول؛ لأنه يملك إنشاء الحرمة فكان اعترافه بفساد النكاح بمنزلة إنشاء الفرقة فيقبل قوله فيه ولا يقبل في إسقاط حقها من المهر والله عز وجل أعلم.
وإن كان الزوجان مملوكين فحكم الواحدة الثانية لا يختلف. وأما حكم الاثنتين فحكمهما في المملوكين ما هو حكم الثلاث في الحرين بلا خلاف؛ لقوله صلى الله عليه وسلم
"طلاق الأمة ثنتان, وعدتها حيضتان" وقوله صلى الله عليه وسلم: "يطلق العبد ثنتين ثنتين" وإن كان أحدهما حرا والآخر مملوكا فيعتبر فيه جانب النساء عندنا, وعند الشافعي جانب الرجال, بناء على أن اعتبار الطلاق بهن عندنا, وعنده بهم لا بهن, والمسألة قد تقدمت, والله عز وجل أعلم.

                                                               "فصل":
هذا الذي ذكرنا بيان الحكم الأصلي للطلاق, وأما الذي هو من التوابع فنوعان: نوع يعم الطلاق المعين, والمبهم, ونوع يخص المبهم أما الذي يعم المعين, والمبهم فوجوب العدة على بعض المطلقات دون بعض, وهي المطلقة المدخول بها, والكلام في العدة في مواضع: في تفسير العدة في عرف الشرع, وبيان وقت وجوبها, وفي بيان أنواع العدد, وسبب وجوب كل نوع, وما له وجب, وشرط وجوبه, وفي بيان مقادير العدد, وفي بيان انتقال العدة, وتغيرها, وفي بيان أحكام العدة, وفي بيان ما يعرف به انقضاء العدة, وما يتصل بها: أما تفسير العدة, وبيان وقت وجوبها فالعدة في عرف الشرع: اسم لأجل ضرب لانقضاء ما بقي من آثار النكاح, وهذا عندنا وعند الشافعي هي اسم لفعل التربص, وعلى هذا ينبني العدتان إذا وجبتا أنهما يتداخلان سواء كانتا من جنس واحد أو من جنسين. وصورة الجنس الواحد: المطلقة إذا تزوجت في عدتها فوطئها الزوج ثم تتاركا حتى وجبت عليها عدة أخرى فإن العدتين يتداخلان عندنا وصورة الجنسين المختلفين المتوفى عنها زوجها إذا وطئت بشبهة تداخلت أيضا, وتعتد بما رأته من الحيض في الأشهر من عدة الوطء عندنا. وقال الشافعي: تمضي في العدة الأولى فإذا انقضت استأنفت الأخرى احتج بقوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقوله تعالى: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} أي: في التربص, ومعلوم أن الزوج إنما يملك الرجعة في العدة فدل أن العدة تربص, سمى الله تعالى العدة تربصا, وهو اسم للفعل, وهو الكف, والفعلان وإن كانا من جنس واحد لا يتأديان بأحدهما كالكف في باب الصوم, وغير ذلك "ولنا" قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} سمى الله تعالى العدة أجلا, والأجل اسم لزمان مقدر مضروب لانقضاء أمر كآجال الديون, وغيرها سميت العدة أجلا لكونه وقتا مضروبا لانقضاء ما بقي من آثار النكاح, والآجال إذا اجتمعت تنقضي بمدة واحدة كالآجال في باب الديون, والدليل على أنها اسم للأجل لا للفعل أنها تنقضي من غير فعل التربص بأن لم تجتنب عن محظورات العدة حتى انقضت المدة, ولو كانت فعلا لما تصور انقضاؤها مع ضدها, وهو الترك. "وأما" الآيات فالتربص هو التثبت, والانتظار قال تعالى: {فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ} وقال سبحانه, وتعالى: {وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِر} وقال سبحانه: {فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ}, والانتظار يكون في الآجال المعتدة تنتظر انقضاء المدة المضروبة, وبه تبين أن التربص ليس هو فعل الكف, على أنا إن سلمنا أنه كف لكنه ليس بركن في الباب بل هو تابع بدليل أنه تنقضي العدة بدونه على ما بينا, وكذا تنقضي بدون العلم به ولو كان ركنا لما تصور الانقضاء بدونه, وبدون العلم به. وعلى هذا يبنى وقت وجوب العدة أنها تجب من وقت وجود سبب الوجوب من الطلاق, والوفاة, وغير ذلك حتى لو بلغ المرأة طلاق زوجها أو موته فعليها العدة من يوم طلق أو مات عند عامة العلماء, وعامة الصحابة رضي الله عنهم, وحكي عن علي رضي الله عنه أنه قال: من يوم يأتيها الخبر وجه البناء على هذا الأصل أن الفعل لما كان ركنا عنده فإيجاب الفعل على من لا علم له به ولا سبب إلى الوصول إلى العلم به ممتنع, فلا يمكن إيجابه إلا من وقت بلوغ الخبر؛ ; لأنه وقت حصول العلم به ولما كان الركن هو الأجل عندنا, وهو مضي الزمان لا يقف وجوبه على العلم به كمضي سائر الأزمنة ثم قد بينا أنه لا يقف على فعلها أصلا, وهو الكف فإنها لو علمت فلم

 

ج / 3 ص -191-       تكف ولم تجتنب ما تجتنبه المعتدة حتى انقضت المدة انقضت عدتها. وإذا لم يقف على فعلها فلأن لا يقف على علمها به أولى, وما روي عن علي رضي الله عنه محمول على أنها لم تعلم وقت الموت فأمرها بالأخذ باليقين, وبه نقول وقد روي عنه رضي الله عنه في العدة أنها من يوم الطلاق مثل قول العامة, فأما إن يحمل على الرجوع أو على ما قلنا. "وأما" بيان أنواع العدد فالعدد في الشرع أنواع ثلاثة: عدة الأقراء, وعدة الأشهر, وعدة الحبل أما عدة الأقراء فلوجوبها أسباب منها: الفرقة في النكاح الصحيح سواء كانت بطلاق أو بغير طلاق, وإنما تجب هذه العدة لاستبراء الرحم, وتعرف براءتها عن الشغل بالولد؛ لأنها لو لم تجب, ويحتمل أنها حملت من الزوج الأول فتتزوج بزوج آخر, وهي حامل من الأول فيطأها الثاني فيصير ساقيا ماءه زرع غيره وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك بقوله صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله, واليوم الآخر, فلا يسقين ماءه زرع غيره", وكذا إذا جاءت بولد يشتبه النسب, فلا يحصل المقصود, ويضيع الولد أيضا لعدم المربي, والنكاح سببه فكان تسببا إلى هلاك الولد, وهذا لا يجوز فوجبت العدة ليعلم بها فراغ الرحم, وشغلها ;, فلا يؤدي إلى هذه العواقب الوخيمة. وشرط وجوبها الدخول أو ما يجري مجرى الدخول, وهو الخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح دون الفاسد, فلا يجب بدون الدخول, والخلوة الصحيحة لقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا}؛ ولأن وجوبها بطريق استبراء الرحم على ما بينا, والحاجة إلى الاستبراء بعد الدخول لا قبله إلا أن الخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح أقيمت مقام الدخول في وجوب العدة التي فيها حق الله تعالى؛ لأن حق الله تعالى يحتاط في إيجابه؛ ولأن التسليم بالواجب بالنكاح قد حصل بالخلوة الصحيحة فتجب به العدة كما تجب بالدخول بخلاف الخلوة في النكاح الفاسد؛ لأن الخلوة الصحيحة إنما أقيمت مقام الدخول في وجوب العدة مع أنها ليست بدخول حقيقة لكونها سببا مفضيا إليه فأقيمت مقامه احتياطا إقامة للسبب مقام المسبب فيما يحتاط فيه. والخلوة في النكاح الفاسد لا تفضي إلى الدخول لوجود المانع, وهو فساد النكاح, وحرمة الوطء, فلم توجد الخلوة الحقيقية إذ هي لا تتحقق إلا بعد انتفاء الموانع أو وجدت بصفة الفساد, فلا تقوم مقام الدخول, وكذا التسليم الواجب بالعقد لم يوجد؛ لأن النكاح الفاسد لا يوجب التسليم, فلا تجب العدة. "وأما" الخلوة الفاسدة في النكاح الصحيح فقد ذكرنا تفصيل الكلام فيها في كتاب النكاح, وسواء كانت المطلقة حرة أو أمة قنة أو مدبرة أو مكاتبة أو مستسعاة لا يختلف أصل الحكم باختلاف الرق, والحرية؛ لأن ما وجب له لا يختلف باختلافهما, وإنما يختلف في القدر لما تبين, والكلام في القدر يأتي في موضعه إن شاء الله تعالى وسواء كانت مسلمة أو كتابية تحت مسلم, الحرة كالحرة, والأمة كالأمة؛ لأن العدة تجب بحق الله, وبحق الزوج, قال تعالى: {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} والكتابية مخاطبة بحقوق العباد فتجب عليها العدة, وتجبر عليها لأجل حق الزوج, والولد؛ لأنها من أهل إيفاء حقوق العباد, وإن كانت تحت ذمي, فلا عدة عليها في الفرقة ولا في الموت في قول أبي حنيفة إذا كان ذلك كذلك في دينهم, حتى لو تزوجت في الحال جاز, وعند أبي يوسف, ومحمد عليها العدة. وذكر الكرخي في جامعه في الذمية تحت ذمي إذا مات عنها أو طلقها فتزوجت في الحال جاز إلا أن تكون حاملا, فلا يجوز نكاحها؛ وجه قولهما أن الذمية من أهل دار الإسلام. ألا ترى أن أهل الذمة يجري عليهم سائر أحكام الإسلام. كذا هذا الحكم, ولأبي حنيفة أنه لو وجبت عليها العدة أما إن تجب بحق الله تعالى أو بحق الزوج ولا سبيل إلى إيجابها بحق الزوج؛ لأن الزوج لا يعتقد حقا لنفسه ولا وجه إلى إيجابها بحق الله تعالى؛ لأن العدة فيها معنى القربة, وهي غير مخاطبة بالقربات إلا أنها إذا كانت حاملا تمنع من التزويج؛ لأن وطء الزوج الثاني يوجب اشتباه النسب, وحفظ النسب حق الولد, فلا يملك إبطال حقه فكان على الحكم استيفاء حقه بالمنع من التزويج ولا عدة على المهاجرة في قول أبي حنيفة, وعندهما عليها العدة, والمسألة مرت في كتاب النكاح, فإن جاء الزوج مسلما وتركها في دار الحرب, فلا عدة عليها في قولهم جميعا؛ لأن على أصل أبي حنيفة الكافرة تلزمها العدة لحق المسلم واختلاف الدارين يمنع ثبوت الحق لأحدهما على الآخر, وعلى أصلهما وجوب

 

ج / 3 ص -192-       العدة على الكافرة لجريان حكمنا على أهل الذمة ولا يجري حكمنا على الحربية ولا عدة على الزانية حاملا كانت أو غير حامل؛ لأن الزنا لا يتعلق به ثبوت النسب. "ومنها" الفرقة في النكاح الفاسد بتفريق القاضي أو بالمتاركة, وشرطها الدخول؛ لأن النكاح الفاسد يجعل منعقدا عند الحاجة, وهي عند استيفاء المنافع وقد مست الحاجة إلى الانعقاد لوجوب العدة وصيانة للماء عن الضياع بثبوت النسب, وتجب هذه العدة على الحرة, والأمة, والمسلمة, والكتابية؛ لأن الموجب لا يوجب الفصل, ويستوي فيها الفرقة, والموت؛ لأن وجوب هذه العدة على وجه الاستبراء وقد مست الحاجة في الاستبراء؛ لوجود الوطء, فأما عدة الوفاة فإنما تجب لمعنى آخر, وهو إظهار الحزن على ما فاتها من نعمة النكاح على ما نذكر إن شاء الله تعالى والنكاح الفاسد ليس بنكاح على الحقيقة فلم يكن نعمة ثم يعتبر الوجوب في الفرقة من وقت الفرقة, وفي الموت من وقت الموت عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر من آخر وطء وطئها, والمسألة مرت في كتاب النكاح. "ومنها" الوطء عن شبهة النكاح بأن زفت إليه غير امرأته فوطئها؛ لأن الشبهة تقام مقام الحقيقة في موضع الاحتياط, وإيجاب العدة من باب الاحتياط. "ومنها" عتق أم الولد. "ومنها" موت مولاها بأن أعتقها سيدها أو مات عنها, وسبب وجوب هذه العدة هو زوال الفراش, وهذا عندنا, وعند الشافعي لا عدة عليها, وإنما عليها الاستبراء بحيضة واحدة, وسبب وجوبها عنده هو زوال ملك اليمين, ونذكر المسألة في بيان مقادير العدد إن شاء الله تعالى.

                                                           "فصل":
وأما عدة الأشهر فنوعان: نوع يجب بدلا عن الحيض, ونوع يجب أصلا بنفسه أما الذي يجب بدلا عن الحيض فهو عدة الصغيرة والآيسة والمرأة التي لم تحض رأسا في الطلاق, وسبب وجوبها هو الطلاق, وهو سبب وجوب عدة الأقراء, وأنها تجب قضاء لحق النكاح الذي استوفي فيه المقصود, وشرط وجوبها شيئان: أحدهما أحد الأشياء الثلاثة: الصغر أو الكبر, أو فقد الحيض أصلا مع عدم الصغر, والكبر, والأصل فيه قوله تعالى:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}, والثاني: الدخول أو ما هو في معناه, وهو الخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح لعموم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} من غير تخصيص إلا أن الخلوة الصحيحة في النكاح الصحيح ألحقت بالدخول في حق وجوب العدة لما ذكرنا أنها ألحقت به في حق تأكيد كل المهر ففي وجوب العدة أولى احتياطا, وتجب هذه العدة على الحرة, والأمة. وأصل الوجوب أن ما وجبت له لا يختلف, وهو ما بينا, وإنما يختلفان في مقدار الواجب على ما نذكر إن شاء الله تعالى وكذا يستوي فيها المسلمة والكتابية لعموم النص, وكذا المعنى الذي له وجبت لا يوجب الفصل. وأما الذي يجب أصلا بنفسه فهو عدة الوفاة, وسبب وجوبها الوفاة قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}, وأنها تجب لإظهار الحزن بفوت نعمة النكاح إذ النكاح كان نعمة عظيمة في حقها فإن الزوج كان سبب صيانتها, وعفافها, وإيفائها بالنفقة, والكسوة, والمسكن فوجب عليها العدة إظهارا للحزن بفوت النعمة, وتعريفا لقدرها, وشرط وجوبها النكاح الصحيح فقط فتجب هذه العدة على المتوفى عنها زوجها, سواء كانت مدخولا بها أو غير مدخول بها, وسواء كانت ممن تحيض أو ممن لا تحيض؛ لعموم قوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}, ولما ذكرنا أنها تجب إظهارا للحزن بفوت نعمة النكاح وقد وجد, وإنما شرطنا النكاح الصحيح؛ لأن الله تعالى أوجبها على الأزواج ولا يصير زوجا حقيقة إلا بالنكاح الصحيح, وسواء كانت مسلمة أو كتابية تحت مسلم لعموم النص, ولوجوب المعنى الذي وجبت له, وسواء كانت حرة أو أمة أو مدبرة أو مكاتبة أو مستسعاة لا يختلف أصل الحكم؛ لأن ما وجبت له لا يختلف, وإنما يختلف القدر لما نذكر.

                                                             "فصل":
 وأما عدة الحبل فهي مدة الحمل, وسبب وجوبها الفرقة أو الوفاة, والأصل فيه قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي: انقضاء أجلهن أن يضعن حملهن, وإذا كان انقضاء أجلهن بوضع حملهن كان

 

ج / 3 ص -193-       أجلهن؛ لأن أجلهن مدة حملهن, وهذه العدة إنما تجب لئلا يصير الزوج بها ساقيا ماءه زرع غيره, وشرط وجوبها أن يكون الحمل من النكاح صحيحا كان أو فاسدا؛ لأن الوطء في النكاح الفاسد يوجب العدة, ولا تجب على الحامل بالزنا؛ لأن الزنا لا يوجب العدة إلا أنه إذا تزوج امرأة, وهي حامل من الزنا جاز النكاح عند أبي حنيفة, ومحمد لا يجوز له أن يطأها ما لم تضع لئلا يصير ساقيا ماءه زرع غيره.

                                                          "فصل":
 وأما بيان مقادير العدة, وما تنقضي به, فأما عدة الأقراء فإن كانت المرأة حرة فعدتها ثلاثة قروء لقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}, وسواء وجبت بالفرقة في النكاح الصحيح أو بالفرقة في النكاح الفاسد أو بالوطء عن شبهة النكاح لما ذكرنا أن النكاح الفاسد بعد الدخول يجعل منعقدا في حق وجوب العدة, ويلحق به فيه, وشبهة النكاح ملحقة بالحقيقة فيما يحتاط فيه, والنص الوارد في المطلقة يكون واردا فيها دلالة, وكذلك أم الولد إذا أعتقت بإعتاق المولى أو بموته فإنها تعتد بثلاثة قروء عندنا, وعند الشافعي تعتد بحيضة واحدة وجه قوله أن هذه العدة لم تجب بزوال ملك النكاح لعدم النكاح, وإنما وجبت بزوال ملك اليمين فكان وجوبها بطريق الاستبراء فيكتفى بحيضة واحدة كما في استبراء سائر المملوكات. "ولنا" ما روي عن عمر, وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أنهم قالوا: عدة أم الولد ثلاث حيض, وهذا نص فيه, وبه تبين أن الواجب عدة وليس باستبراء إلا أنهم سموه عدة, والعدة لا تقدر بحيضة واحدة, والدليل على أنه عدة أنه يجب على الحرة, والحرة لا يلزمها الاستبراء. وإذا كان عدة لا يجوز تقديرها بحيضة واحدة كسائر العدد؛ ولأن هذه العدة تجب بزوال الفراش؛ لأن أم الولد لها فراش إلا أن فراشها قبل العتق غير مستحكم بل هو ضعيف لاحتماله النقل إلى غيره فإذا أعتقت فقد استحكم فالتحق بالفراش الثابت بالنكاح, والعدة التي تجب بزوال الفراش الثابت بالنكاح, وهو النكاح الفاسد مقدرة بثلاثة قروء, ولهذا استوى في الواجب عليها الموت, والعتق كما في النكاح الفاسد وعدة المستحاضة, وغيرها سواء, وهي ثلاثة أقراء لعموم النص, وإن كانت أمة فقرءان عند عامة العلماء. وقال نفاة القياس: ثلاثة قروء كعدة الحرة احتجوا بعموم قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} من غير تخصيص الحرة. "ولنا" الحديث المشهور, وهو ما روي عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "طلاق الأمة ثنتان, وعدتها حيضتان" وقال عمر رضي الله عنه: "عدتها حيضتان ولو استطعت لجعلتها حيضة, ونصفا", وبه تبين أن الإماء مخصوصات من عموم الكتاب الكريم, وتخصيص الكتاب بالخبر المشهور جائز بالإجماع؛ ولأن العدة حق من حقوق النكاح مقدر فيؤثر الرق في تنصيفه كالقسم كان ينبغي أن يتنصف فتعتد حيضة, ونصفا كما أشار إليه عمر رضي الله عنه إلا أنه لا يمكن؛ لأن الحيضة الواحدة لا تتجزأ فتكاملت ضرورة, وسواء كان زوجها حرا أو عبدا بلا خلاف؛ لأن العدة تعتبر بالنساء بالإجماع, ويستوي في مقدار هذه العدة المسلمة, والكتابية, الحرة كالحرة, والأمة كالأمة؛ لأن الدلائل لا توجب الفصل. ثم اختلف أهل العلم فيما تنقضي به هذه العدة أنه الحيض أم الأطهار؟ قال أصحابنا: الحيض. وقال الشافعي: الأطهار, وفائدة الاختلاف أن من طلق امرأته في حالة الطهر لا يحتسب بذلك الطهر من العدة عندنا حتى لا تنقضي عدتها ما لم تحض ثلاث حيض بعده, وعنده يحتسب بذلك الطهر من العدة فتنقضي عدتها بانقضاء ذلك الطهر الذي طلقها فيه, وبطهر آخر بعده, والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي الله عنهم. وروي عن أبي بكر, وعمر, وعثمان, وعلي, وعبد الله بن مسعود, وعبد الله بن عباس, وأبي موسى الأشعري, وأبي الدرداء, وعبادة بن الصامت, وعبد الله بن قيس رضي الله تعالى عنهم أنهم قالوا: الزوج أحق بمراجعتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة كما هو مذهبنا. وعن زيد بن ثابت, وحذيفة, وعبد الله بن عمر, وعائشة رضي الله عنهم مثل قوله, وحاصل الاختلاف راجع إلى أن القرء المذكور في قوله سبحانه: {ثَلاثَةَ قُرُوء} ما هو الحيض أم الطهر فعندنا الحيض, وعنده الطهر ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القرء من الأسماء المشتركة يذكر, ويراد به الحيض, ويذكر, ويراد به الطهر على طريق الاشتراك فيكون حقيقة لكل واحد منهما كما في سائر الأسماء المشتركة من اسم العين, وغير ذلك, أما استعماله في الحيض فلقول

 

ج / 3 ص -194-       النبي صلى الله عليه وسلم "المستحاضة تدع الصلاة أيام أقرائها" أي: أيام حيضها إذ أيام الحيض هي التي تدع الصلاة فيها لا أيام الطهر. "وأما" في الطهر فلما روينا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الله بن عمر رضي الله عنهما "إن من السنة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلقها لكل قرء تطليقة أي: طهر", وإذا كان الاسم حقيقة لكل واحد منهما على سبيل الاشتراك فيقع الكلام في الترجيح احتج الشافعي بقوله تعالى: {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وقد فسر النبي صلى الله عليه وسلم العدة بالطهر في ذلك الحديث حيث قال "فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء" فدل أن العدة بالطهر لا بالحيض؛ ولأنه أدخل الهاء في الثلاثة بقوله عز وجل: {ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} وإنما تدخل الهاء في جمع المذكر لا في جمع المؤنث يقال ثلاثة رجال, وثلاث نسوة, والحيض مؤنث, والطهر مذكر فدل أن المراد منها الأطهار,؛ ولأنكم لو حملتم القرء المذكور على الحيض للزمكم المناقضة؛ لأنكم قلتم في المطلقة إذا كانت أيامها دون العشرة فانقطع دمها أنه لا تنقضي عدتها ما لم تغتسل من الحيضة الثالثة, فقد جعلتم العدة بالطهر, وهذا تناقض. "ولنا" الكتاب, والسنة, والمعقول أما الكتاب الكريم فقوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} أمر الله تعالى بالاعتداد بثلاثة قروء, ولو حمل القرء على الطهر لكان الاعتداد بطهرين, وبعض الثالث؛ لأن بقية الطهر الذي صادفه الطلاق محسوب من الأقراء عنده, والثلاثة اسم لعدد مخصوص, والاسم الموضوع لعدد لا يقع على ما دونه فيكون ترك العمل بالكتاب ولو حملناه على الحيض يكون الاعتداد بثلاث حيض كوامل؛ لأن ما بقي من الطهر غير محسوب من العدة عندنا فيكون عملا بالكتاب فكان الحمل على ما قلنا أولى ولا يلزم قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ} أنه ذكر الأشهر, والمراد منه شهران, وبعض الثالث, فكذا القروء جائز أن يراد بها القرءان, وبعض الثالث؛ لأن الأشهر اسم جمع لا اسم عدد واسم الجمع جاز أن يذكر, ويراد به بعض ما ينتظمه مجازا ولا يجوز أن يذكر الاسم الموضوع لعدد محصور, ويراد به ما دونه لا حقيقة ولا مجازا. ألا ترى أنه لا يجوز أن يقال: رأيت ثلاثة رجال, ويراد به رجلان وجاز أن يقال رأيت رجالا, ويراد به رجلان مع أن هذا إن كان في حد الجواز, فلا شك أنه بطريق المجاز ولا يجوز العدول عن الحقيقة من غير دليل؛ إذ الحقيقة هي الأصل في حق الأحكام للعمل بها, وإن كان في حق الاعتقاد يجب التوقف لمعارضة المجاز الحقيقة في الاستعمال, وفي باب الحج قام دليل المجاز وقوله عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} جعل سبحانه وتعالى الأشهر بدلا عن الأقراء عند اليأس عن الحيض, والمبدل هو الذي يشترط عدمه لجواز إقامة البدل مقامه فدل أن المبدل هو الحيض فكان هو المراد من القرء المذكور في الآية كما في قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً} لما شرط عدم الماء عند ذكر البدل, وهو التيمم دل أن التيمم بدل عن الماء فكان المراد منه الغسل المذكور في آية الوضوء, وهو الغسل بالماء. كذا ههنا. "وأما" السنة فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "طلاق الأمة ثنتان, وعدتها حيضتان", ومعلوم أنه لا تفاوت بين الحرة, والأمة في العدة فيما يقع به الانقضاء؛ إذ الرق أثره في تنقيص العدة التي تكون في حق الحرة لا في تغيير أصل العدة, فدل أن أصل ما تنقضي به العدة هو الحيض "وأما" المعقول فهو أن هذه العدة وجبت للتعريف عن براءة الرحم, والعلم ببراءة الرحم يحصل بالحيض لا بالطهر فكان الاعتداد بالحيض لا بالطهر. "وأما" الآية الكريمة فالمراد من العدة المذكورة فيها عدة الطلاق, والنبي صلى الله عليه وسلم جعل الطهر عدة الطلاق. ألا ترى أنه قال "فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء", والكلام في العدة عن الطلاق أنها ما هي وليس في الآية بيانها. "وأما" قوله أدخل الهاء في الثلاثة فنعم لكن هذا لا يدل على أن المراد هو الطهر من القروء؛ لأن اللغة لا تمنع من تسمية شيء واحد باسم التذكير, والتأنيث كالبر, والحنطة فيقال: هذا البر, وهذه الحنطة, وإن كانت البر, والحنطة شيئا واحدا, فكذا القرء, والحيض أسماء للدم المعتاد, وأحد الاسمين مذكر, وهو القرء فيقال: ثلاثة قروء, والآخر مؤنث, وهو الحيض فيقال: ثلاث حيض, ودعوى التناقض ممنوعة فإن في تلك الصورة الحيض باق, وإن كان الدم منقطعا؛ لأن انقطاع الدم لا ينافي الحيض بالإجماع؛ لأن

 

ج / 3 ص -195-       الدم لا يدر في جميع الأوقات بل في وقت دون وقت, واحتمال الدرور في وقت الحيض قائم فإذا لم يجعل ذلك الطهر عدة لا يلزمنا التناقض. وأما الممتد طهرها وهي امرأة كانت تحيض ثم ارتفع حيضها من غير حمل ولا يأس فانقضاء عدتها في الطلاق, وسائر وجوه الفرق بالحيض؛ لأنها من ذات الأقراء إلا أنه ارتفع حيضها لعارض, فلا تنقضي عدتها حتى تحيض ثلاث حيض أو حتى تدخل في حد الإياس فتستأنف عدة الآيسة ثلاثة أشهر, وهو مذهب علي, وعثمان, وزيد بن ثابت رضي الله عنهم. وروي عن عمر وابن عباس رضي الله عنهم أنها تمكث تسعة أشهر فإن لم تحض اعتدت ثلاثة أشهر بعد ذلك, وهو قول مالك, واحتجوا بقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} نقل الله العدة عند الارتياب إلى الأشهر. والتي ارتفع حيضها فهي مرتابة فيجب أن تكون عدتها بالشهور, والجواب أنه ليس المراد من الارتياب المذكور هو الارتياب في اليأس بل المراد منه ارتياب المخاطبين في عدة الآيسة قبل نزول الآية. كذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أن الله تعالى لما بين لهم عدة ذات القروء, وعدة الحامل شكوا في الآيسة فلم يدروا ما عدتها فأنزل الله تعالى هذه الآية, وفي الآية ما يدل عليه فإنه قال: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} ولا يأس مع الارتياب؛ إذ الارتياب يكون وقت رجاء الحيض, والرجاء ضد اليأس. وكذا قال سبحانه {إِنِ ارْتَبْتُمْ} ولو كان المراد منه الارتياب في الإياس لكان من حق الكلام أن يقول: إن ارتبن, فدل أنه سبحانه, وتعالى أراد به ما ذكرنا والله عز وجل أعلم. وأما عدة الأشهر فالكلام فيها في موضعين أيضا: في بيان مقدارها وما تنقضي به وفي بيان كيفية ما يعتبر به الانقضاء, أما الأول فما وجب بدلا عن الحيض, وهو عدة الآيسة, والصغيرة, والبالغة التي لم تر الحيض أصلا فثلاثة أشهر إن كانت حرة لقوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}؛ ولأن الأشهر في حق هؤلاء تدل على الأقراء, والأصل مقدر بالثلاث كذا البدل, سواء وجبت الفرقة بطلاق أو بغير طلاق في النكاح الصحيح لعموم النص أو وجبت بالفرقة في النكاح الفاسد أوبالوطء عن شبهة؛ لما ذكرنا في عدة الأقراء. وكذا إذا وجبت على أم الولد بالعتق أو بموت المولى عندنا خلافا للشافعي, وإن كانت أمة فشهر, ونصف؛ لأن حكم البدل حكم الأصل وقد تنصف المبدل فيتنصف البدل؛ ولأن الرق متنصف, والتكامل في عدة الأقراء ثبت لضرورة عدم التجزيء, والشهر متجزئ فبقي الحكم فيه على الأصل, ولهذا تتنصف عدتها في الوفاة, وسواء كان زوجها حرا أو عبدا لما ذكرنا أن المعتبر في العدة جانب النساء, وسواء كانت قنة أو مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة أو مستسعاة عند أبي حنيفة لما ذكرنا في مدة الأقراء, وكذا إذا وجبت على أم الولد بالعتق أو بموت المولى عندنا خلافا للشافعي. وما وجب أصلا بنفسه, وهو عدة المتوفى عنها زوجها فأربعة أشهر وعشر, وقيل إنما قدرت هذه العدة بهذه المدة إن كانت حرة لقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وقيل: إنما قدرت هذه العدة بهذه المدة؛ لأن الولد يكون في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم أربعين يوما علقة ثم أربعين يوما مضغة ثم ينفخ فيه الروح في العشر, فأمرت بتربص هذه المدة ليستبين الحبل إن كان بها حبل, وإن كانت أمة فشهران, وخمسة أيام؛ لما بينا بالإجماع, سواء كانت قنة أو مدبرة أو أم ولد أو مكاتبة أو مستسعاة عند أبي حنيفة, والمسلمة, والكتابية سواء كان في مقدار هاتين العدتين الحرة كالحرة, والأمة كالأمة؛ لأن ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل بينهما وانقضاء هذه العدة بانقضاء هذه المدة في الحرة, والأمة. "وأما الثاني" وهو بيان كيفية ما يعتبر به انقضاء هذه العدة فجملة الكلام فيه أن سبب وجوب هذه العدة من الوفاة, والطلاق, ونحو ذلك إذا اتفق في غرة الشهر اعتبرت الأشهر بالأهلة, وإن نقصت عن العدد في قول أصحابنا جميعا؛ لأن الله تعالى أمر بالعدة بالأشهر بقوله عز وجل: {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} وقوله عز وجل: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} فلزم اعتبار الأشهر, والشهر قد يكون ثلاثين يوما وقد يكون تسعة, وعشرين يوما بدليل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشهر هكذا, وهكذا, وهكذا, وأشار بأصابع يديه كلها, ثم قال: الشهر هكذا, وهكذا, وهكذا, وحبس إبهامه في المرة الثالثة" وإن كانت الفرقة في بعض الشهر

 

ج / 3 ص -196-       اختلفوا فيه, قال أبو حنيفة يعتبر بالأيام فتعتد من الطلاق, وأخواته تسعين يوما, ومن الوفاة مائة, وثلاثين يوما, وكذلك قال في صوم الشهرين المتتابعين إذا ابتدأ الصوم في نصف الشهر. وقال محمد: تعتد بقية الشهر بالأيام, وباقي الشهور بالأهلة, وتكمل الشهر الأول من الشهر الأخير بالأيام. وعن أبي يوسف روايتان: في رواية مثل قول أبي حنيفة, وفي رواية مثل قول محمد, وهو قوله الأخير. "وجه" قولهما أن المأمور به هو الاعتداد بالشهر, والأشهر اسم الأهلة فكان الأصل في الاعتداد هو الأهلة قال الله تعالى: {يَسْأَلونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} جعل الهلال لمعرفة المواقيت, وإنما يعدل إلى الأيام عند تعذر اعتبار الهلال في الشهر الأول فعدلنا عنه إلى الأيام ولا تعذر في بقية الأشهر فلزم اعتبارها بالأهلة, ولهذا اعتبرنا كذلك في باب الإجارة إذا وقعت في بعض الشهر. كذا ههنا, ولأبي حنيفة أن العدة يراعى فيها الاحتياط فلو اعتبرناها في الأيام لزادت على الشهور ولو اعتبرناها بالأهلة لنقصت عن الأيام فكان إيجاب الزيادة أولى احتياطا بخلاف الإجارة؛ لأنها تمليك المنفعة, والمنافع توجد شيئا فشيئا على حسب حدوث الزمان فيصير كل جزء منها كالمعقود عليه عقدا مبتدأ فيصير عند استهلاك الشهر كأنه ابتدأ العقد فيكون بالأهلة بخلاف العدة فإن كل جزء منها ليس كعدة مبتدأة. وأما الإيلاء في بعض الشهر فقد ذكرنا الاختلاف بين أبي يوسف, وزفر في كيفية اعتبار الشهر فيه أن على قول أبي يوسف يعتبر بالأيام فيكمل مائة, وعشرين يوما ولا ينظر إلى نقصان الشهر ولا إلى تمامه. وعند زفر يعتبر بالأهلة. "وجه" قوله أن مدة الإيلاء كمدة العدة؛ لأن كل واحد منهما يتعلق به البينونة, ولأبي يوسف أن اعتبار الأيام في مدة الإيلاء يوجب تأخير الفرقة, واعتبار الأشهر يوجب التعجيل فوقع الشك في وقوع الطلاق, فلا يقع بالشك كمن علق طلاق امرأته بمدة في المستقبل, وشك في المدة بخلاف العدة؛ لأن الطلاق هناك واقع بيقين, وحكمه متأجل, فإذا وقع الشك في التأجيل لا يتأجل بالشك. وأما عدة الحبل فمقدارها بقية مدة الحمل قلت أو كثرت حتى لو ولدت بعد وجوب العدة بيوم أو أقل أو أكثر انقضت به العدة لقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} من غير فصل, وذكر في الأصل أنها لو ولدت والميت على سريره انقضت به العدة على ما جاءت به السنة هكذا ذكر, والسنة المذكورة هي ما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال في المتوفى عنها زوجها إذا ولدت وزوجها على سريره جاز لها أن تتزوج, وشرط انقضاء هذه العدة أن يكون ما وضعت قد استبان خلقه أو بعض خلقه فإن لم يستبن رأسا بأن أسقطت علقة أو مضغة لم تنقض العدة؛ لأنه إذا استبان خلقه أو بعض خلقه فهو ولد فقد وجد وضع الحمل فتنقضي به العدة, وإذا لم يستبن لم يعلم كونه ولدا بل يحتمل أن يكون, ويحتمل أن لا يكون فيقع الشك في وضع الحمل, فلا تنقضي العدة بالشك. وقال الشافعي في أحد قوليه يرى للنساء, وهذا ليس بشيء؛ لأنهن لم يشاهدن انخلاق الولد في الرحم ليقسن هذا عليه فيعرفن. وقال في قول آخر: يجعل في الماء الحار ثم ينظر إن انحل فليس بولد, وإن لم ينحل فهو ولد, وهذا أيضا فاسد؛ لأنه يحتمل أنه قطعة من كبدها أو لحمها انفصلت منها, وأنها لا تنحل بالماء الحار كما لا ينحل الولد, فلا يعلم به أنه ولد. ولو ظهر أكثر الولد لم يذكر هذا في ظاهر الرواية. وقد قالوا في المطلقة طلاقا رجعيا: إنه إذا ظهر منها أكثر ولدها أنها تبين, فعلى هذا يجب أن تنقضي به العدة أيضا بظهور أكثر الولد, ويجوز أن يفرق بينهما فيقام الأكثر مقام الكل في انقطاع الرجعة احتياطا ولا يقام في انقضاء العدة حتى لا تحل للأزواج احتياطا أيضا ثم انقضاء عدة الحمل بوضع الحمل إذا كانت معتدة عن طلاق أو غيره من أسباب الفرقة بلا خلاف لعموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}, وكذلك إذا كانت متوفى عنها زوجها عند عامة العلماء, وعامة الصحابة رضي الله عنهم. وروي عن عمر, وعبد الله بن مسعود, وزيد بن ثابت, وعبد الله بن عمر, وأبي هريرة رضي الله عنهم أنهم قالوا: عدتها بوضع ما في بطنها, وإن كان زوجها على السرير. وقال علي رضي الله عنه وهو إحدى الروايتين عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن الحامل إذا توفي عنها زوجها فعدتها أبعد الأجلين وضع الحمل أو مضى أربعة أشهر وعشر أيهما كان أخيرا تنقضي به العدة. "وجه" هذا القول أن الاعتداد بوضع الحمل إنما ذكر

 

ج / 3 ص -197-       في الطلاق لا في الوفاة بقوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ}؛ لأنه معطوف على قوله عز وجل: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}, وذلك بناء على قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} فكان المراد من قوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} المطلقات؛ ولأن في الاعتداد بأبعد الأجلين جمعا بين الآيتين بالقدر الممكن؛ لأن فيه عملا بآية عدة الحبل إن كان أجل تلك العدة أبعد, وعملا بآية عدة الوفاة إن كان أجلها أبعد فكان عملا بهما جميعا بقدر الإمكان, وفيما قلتم عمل بإحداهما, وترك العمل بالأخرى أصلا فكان ما قلنا أولى, ولعامة العلماء, وعامة الصحابة رضي الله عنهم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} من غير فصل بين المطلقة, والمتوفى عنها زوجها, وقوله هذا بناء على قوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} ممنوع بل هو ابتداء خطاب, وفي الآية الكريمة ما يدل عليه فإنه قال: {إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}, ومعلوم أنه لا يقع الارتياب فيمن يحتمل القرء, وذلك؛ لأن الأشهر في الآيسات إنما أقيمت مقام الأقراء في ذوات الحيض, وإذا كانت الحامل ممن تحيض لم يجز أن يقع لهم شك في عدتها ليسألوا عن عدتها, وإذا كان كذلك ثبت أنه خطاب مبتدأ, وإذا كان خطابا مبتدأ تناول العدد كلها. وقوله الاعتداد بأبعد الأجلين عمل بالآيتين بقدر الإمكان فيقال إنما يعمل بهما إذا لم يثبت نسخ إحداهما بالتقدم, والتأخر أو لم يكن إحداهما أولى بالعمل بها, وقد قيل إن آية وضع الحمل آخرهما نزولا بما روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: من شاء باهلته أن قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} نزل بعد قوله: {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}, فأما نسخ الأشهر بوضع الحمل إذا كان بين نزول الآيتين زمان يصلح للنسخ فينسخ الخاص المتقدم بالعام المتأخر كما هو مذهب مشايخنا بالعراق ولا يبنى العام على الخاص أو يعمل بالنص العام بعمومه, ويتوقف في حق الاعتقاد في التخريج على التناسخ كما هو مذهب مشايخنا بسمرقند, ولا يبنى العام على الخاص على ما عرف في أصول الفقه. وروي عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: "قلت: يا رسول الله حين نزول قوله: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أنها في المطلقة أم في المتوفى عنها زوجها فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فيهما جميعا وقد روت أم سلمة رضي الله عنها "أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها ببضع, وعشرين ليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج". وروي أيضا عن أبي السنابل بن بعكك "أن سبيعة بنت الحارث الأسلمية وضعت بعد وفاة زوجها ببضع, وعشرين ليلة فأمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن تتزوج". وروي أنها لما مات عنها زوجها وضعت حملها, وسألت أبا السنابل بن بعكك هل يجوز لها أن تتزوج؟ فقال لها: حتى يبلغ الكتاب أجله, فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال "كذب أبو السنابل ابتغي الأزواج", وهذا حديث صحيح وقد روي من طرق صحيحة لا مساغ لأحد في العدول عنها؛ ولأن المقصود من العدة من ذوات الأقراء العلم ببراءة الرحم, ووضع الحمل في الدلالة على البراءة فوق مضي المدة فكان انقضاء العدة به أولى من الانقضاء بالمدة, وسواء كانت المرأة حرة أو مملوكة قنة أو مدبرة أو مكاتبة أو أم ولد أو مستسعاة مسلمة أو كتابية لعموم النص, وقال أبو يوسف كذلك إلا في امرأة الصغير في عدة الوفاة بأن مات الصغير عن امرأته وهي حامل فإن عدتها أربعة أشهر وعشر عند أبي يوسف, وعند أبي حنيفة, ومحمد عدتها أن تضع حملها. وجه قوله أن هذا الحمل ليس منه بيقين بدليل أنه لا يثبت نسبه منه فكان من الزنا, فلا تنقضي به العدة كالحمل من الزنا, وكالحمل بعد موته ولهما عموم قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وقوله: الحمل من الزنا لا تنقضي به العدة, وهذا حمل من الزنا فيكون مخصوصا من العموم, فنقول: الحمل من الزنا قد تنقضي به العدة على قياس قولهما. ألا ترى أنه إذا تزوج امرأة حاملا من الزنا جاز نكاحها عندهما ولو تزوجها ثم طلقها فوضعت حملها تنقضي عدتها عندهما بوضع الحمل, وإن كان الحمل من الزنا؛ ولأن وجوب العدة للعلم بحصول فراغ الرحم, والولادة دليل فراغ الرحم بيقين, والشهر لا يدل على الفراغ بيقين فكان إيجاب ما دل على الفراغ بيقين أولى ولا أثر للنسب في هذا الباب, وإنما الأثر لما بينا في الجملة, فإن مات وهي حائل ثم حملت بعد موته قبل انقضاء العدة فعدتها بالشهور أربعة أشهر

 

ج / 3 ص -198-       وعشر بالإجماع لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً}؛ ولأن الحمل إذا لم يكن موجودا وقت الموت وجبت العدة بالأشهر, فلا تتغير بالحمل الحادث, وإذا كان موجودا وقت الموت وجبت عدة الحبل فكان انقضاؤها بوضع الحمل ولا يثبت نسب الولد في الوجهين جميعا؛ لأن الولد لا يحصل عادة إلا من الماء, والصبي لا ماء له حقيقة, ويستحيل وجوده عادة فيستحيل تقديره. وقال أبو يوسف, ومحمد في زوجة الكبير تأتي بولد بعد موته لأكثر من سنتين وقد تزوجت بعد مضي أربعة أشهر وعشر أن النكاح جائز؛ لأن إقدامها على النكاح في هذه الحالة إقرار منها بانقضاء العدة لتحرز المسلمة عن النكاح في العدة. ولم يرد على إقرارها ما يبطله. ألا ترى أنها لو جاءت بعد التزويج بولد لستة أشهر فصاعدا كان النكاح جائزا لما بينا فههنا أولى, وإذا كانت المعتدة حاملا فولدت ولدين انقضت عدتها بالأخير منهما عند عامة العلماء وقال الحسن البصري إذا وضعت أحد الولدين انقضت عدتها واحتج بقوله سبحانه, وتعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ولم يقل: أحمالهن, فإذا وضعت إحداهما فقد وضعت حملها, إلا أن ما قاله لا يستقيم؛ لوجهين: أحدهما أنه قرئ في بعض الروايات {أَنْ يَضَعْنَ أحمالهن}, والثاني أنه علق انقضاء العدة بوضع الحمل لا بالولادة حيث قال سبحانه, وتعالى: {يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} ولم يقل: "يلدن", والحمل: اسم لجميع ما في بطنها, ووضع أحد الولدين وضع بعض حملها, لا وضع حملها, فلا تنقضي به العدة؛ ولأن وضع الحمل إنما تنقضي به العدة لبراءة الرحم بوضعه, وما دام في بطنها ولد لا تحصل البراءة به, فلا تنقضي العدة.

                                                             "فصل":
وأما بيان ما يعرف به انقضاء العدة, فما يعرف به انقضاء العدة نوعان: قول, وفعل "أما" القول فهو إخبار المعتدة بانقضاء العدة في مدة يحتمل الانقضاء في مثلها, فلا بد من بيان أقل المدة التي تصدق فيها المعتدة في إقرارها بانقضاء عدتها, وجملة الكلام فيه أن المعتدة إن كانت من ذوات الأشهر فإنها لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر في عدة الطلاق إن كانت حرة, ومن شهر, ونصف إن كانت أمة, وفي عدة الوفاة لا تصدق في أقل من أربعة أشهر وعشر إن كانت حرة, ومن شهرين, وخمسة أيام إن كانت أمة ولا خلاف في هذه الجملة, وإن كانت من ذوات الأقراء فإن كانت معتدة من وفاة فكذلك لا تصدق في أقل مما ذكرنا في الحرة, والأمة, وإن كانت معتدة من طلاق: فإن أخبرت بانقضاء عدتها في مدة تنقضي في مثلها العدة يقبل قولها, وإن أخبرت في مدة لا تنقضي في مثلها العدة لا يقبل قولها إلا إذا فسرت ذلك بأن قالت: أسقطت سقطا مستبين الخلق أو بعضه, فيقبل قولها, وإنما كان كذلك؛ لأنها أمينة في إخبارها عن انقضاء عدتها فإن الله تعالى ائتمنها في ذلك بقوله عز وجل:
{وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ} قيل في التفسير: إنه الحيض, والحبل, والقول قول الأمين مع اليمين كالمودع إذا قال: رددت الوديعة, أو هلكت, فإذا أخبرت بالانقضاء في مدة تنقضي في مثلها يقبل قولها ولا يقبل إذا كانت المدة مما لا تنقضي في مثلها العدة؛ لأن قول الأمين إنما يقبل فيما لا يكذبه الظاهر. والظاهر ههنا يكذبها, فلا يقبل قولها إلا إذا فسرت فقالت: أسقطت سقطا مستبين الخلق أو بعض الخلق, مع يمينها, فيقبل قولها مع هذا التفسير؛ لأن الظاهر لا يكذبها مع التفسير, ثم اختلف في أقل ما تصدق فيه المعتدة بالأقراء: قال أبو حنيفة: أقل ما تصدق فيه الحرة ستون يوما. وقال أبو يوسف, ومحمد: تسعة, وثلاثون يوما واختلفت الرواية في تخريج قول أبي حنيفة فتخريجه في رواية محمد أنه يبدأ بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض خمسة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض خمسة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض خمسة أيام فتلك ستون يوما, وتخريجه على رواية الحسن أنه يبدأ بالحيض عشرة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض عشرة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض عشرة أيام فذلك ستون يوما, فاختلف التخريج مع اتفاق الحكم, وتخريج قول أبي يوسف, ومحمد أنه يبدأ بالحيض ثلاثة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض ثلاثة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض ثلاثة أيام فذلك تسعة, وثلاثون يوما وجه قولهما أن المرأة أمينة في هذا الباب, والأمين يصدق ما أمكن, وأمكن تصديقها ههنا بأن يحكم بالطلاق في آخر الطهر فيبدأ بالعدة من الحيض فيعتبر أقله, وذلك ثلاثة, ثم أقل الطهر, وهو خمسة عشر يوما ثم أقل الحيض ثم أقل الطهر ثم أقل الحيض

 

ج / 3 ص -199-       فتكون الجملة تسعة, وثلاثين يوما وجه قول أبي حنيفة على تخريج محمد أن المرأة, وإن كانت أمينة في الأقراء بانقضاء العدة لكن الأمين إنما يصدق فيما لا يخالفه الظاهر, فأما فيما يخالفه الظاهر, فلا يقبل قوله, كالوصي إذا قال: أنفقت على اليتيم في يوم واحد ألف دينار, وما قالاه خلاف الظاهر؛ لأن الظاهر أن من أراد الطلاق فإنما يوقعه في أول الطهر, وكذا حيض ثلاثة أيام نادر, وحيض عشرة نادر أيضا فيؤخذ بالوسط, وهو خمسة, واعتبار هذا التخريج يوجب أن أقل ما تصدق فيه ستون يوما. وأما الوجه على تخريج رواية الحسن فهو أن يحكم بالطلاق في آخر الطهر؛ لأن الإيقاع في أول الطهر, وإن كان سنة لكن الظاهر هو الإيقاع في آخر الطهر؛ لأنه يجرب نفسه في أول الطهر هل يمكنه الصبر عنها ثم يطلق فكان الظاهر هو الإيقاع في آخر الطهر لا أنه يعتبر مدة الحيض عشرة أيام, وإن كانت أكثر المدة؛ لأنا قد اعتبرنا في الطهر أقله, فلو نقصنا من العشرة في الحيض للزم النقص في العدة فيفوت حق الزوج من كل وجه فيحكم بأكثر الحيض, وأقل الطهر رعاية للحقين واعتبار هذا التخريج أيضا يوجب ما ذكرنا, وهو أن يكون أقل ما تصدق فيه ستون. "وأما" الأمة فعند أبي حنيفة أقل ما تصدق فيه على رواية محمد عنه أربعون يوما, وهو أن يقدر كأنه طلقها في أول الطهر فيبدأ بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض خمسة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض خمسة أيام فذلك أربعون يوما. "وأما" على رواية الحسن فأقل ما تصدق فيه خمسة, وثلاثون يوما؛ لأنه يجعل كأن الطلاق وقع في آخر الطهر فيبدأ بالحيض عشرة ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض عشرة فذلك خمسة, وثلاثون يوما فاختلف حكم روايتهما في الأمة واتفق في الحرة. وأما على قول أبي يوسف, ومحمد فأقل ما تصدق فيه إحدى, وعشرون يوما؛ لأنهما يقدران الطلاق في آخر الطهر, ويبتدئان بالحيض ثلاثة أيام ثم بالطهر خمسة عشر يوما ثم بالحيض ثلاثة فذلك أحد, وعشرون يوما والله الموفق وأما المعتدة إذا كانت نفساء بأن ولدت امرأته, وطلقها عقيب الولادة ثم قالت: انقضت عدتي, قال أبو حنيفة في رواية محمد عنه: لا تصدق الحرة في أقل من خمسة, وثمانين يوما؛ لأنه يثبت النفاس خمسة, وعشرين؛ لأنه لو ثبت أقل من ذلك لاحتاج إلى أن يثبت بعده خمسة عشر يوما طهرا ثم يحكم بالدم فيبطل الطهر؛ لأن من أصله أن الدمين في الأربعين لا يفصل بينهما طهر, وإن كثر حتى لو رأت في أول النفاس ساعة دما, وفي آخرها ساعة كان الكل نفاسا عنده فجعل النفاس خمسة, وعشرين يوما حتى يثبت بعده طهر خمسة عشر فيقع الدم بعد الأربعين, فإذا كان كذلك كان بعد الأربعين خمسة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وخمسة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وخمسة حيضا فذلك خمسة, وثمانون. "وأما" على رواية الحسن عنه, فلا تصدق في أقل من مائة يوم؛ لأنه يثبت بعد الأربعين عشرة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وعشرة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وعشرة حيضا فذلك مائة. وقال أبو يوسف لا تصدق في أقل من خمسة, وستين يوما؛ لأنه يثبت أحد عشر يوما نفاسا؛ لأن العادة أن أقل النفاس يزيد على أكثر الحيض ثم يثبت خمسة عشر يوما طهرا, وثلاثة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا فذلك خمسة, وستون يوما. وقال محمد لا تصدق في أقل من أربعة, وخمسين, وساعة؛ لأن أقل النفاس ما وجد من الدم فيحكم بنفاس ساعة, وبعده خمسة عشر يوما طهرا, وثلاثة حيضا, وخمسة عشر يوما طهرا, وثلاثة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا فذلك أربعة وخمسون, وساعة, وإن كانت أمة فعلى رواية محمد عن أبي حنيفة لا تصدق في أقل من خمسة, وستين يوما؛ لأنه يثبت بعد الأربعين خمسة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وخمسة حيضا فذلك خمسة, وستون, وعلى رواية الحسن عنه لا تصدق في أقل من خمسة, وسبعين؛ لأنه يثبت بعد الأربعين عشرة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وعشرة حيضا فذلك خمسة, وسبعون. وقال أبو يوسف: لا تصدق في أقل من سبعة, وأربعين؛ لأنه يثبت أحد عشر يوما نفاسا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا فذلك سبعة, وأربعون يوما. وقال محمد: لا تصدق في أقل من ستة, وثلاثين يوما, وساعة؛ لأنه يثبت ساعة نفاسا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا, وخمسة عشر طهرا, وثلاثة حيضا فذلك ستة, وثلاثون يوما, وساعة. وأما الفعل فنحو أن تتزوج بزوج آخر بعدما مضت مدة تنقضي في مثلها العدة حتى لو قالت لم تنقض عدتي لم تصدق لا في حق الزوج

 

ج / 3 ص -200-       الأول ولا في حق الزوج الثاني, ونكاح الزوج الثاني جائز؛ لأن إقدامها على التزوج بعد مضي مدة يحتمل الانقضاء, في مثلها دليل الانقضاء والله الموفق.

                                                           "فصل":
وأما بيان انتقال العدة, وتغيرها, أما انتقال العدة فضربان: أحدهما: انتقالها من الأشهر إلى الأقراء, والثاني: انتقالها من الأقراء إلى الأشهر, أما الأول فنحو الصغيرة اعتدت ببعض الأشهر ثم رأت الدم تنتقل عدتها من الأشهر إلى الأقراء؛ لأن الشهر في حق الصغيرة بدل عن الأقراء وقد تثبت القدرة على المبدل, والقدرة على المبدل قبل حصول المقصود بالبدل يبطل حكم البدل كالقدرة على الوضوء في حق المتيمم, ونحو ذلك, فيبطل حكم الأشهر فانتقلت عدتها إلى الحيض, وكذا الآيسة إذا اعتدت ببعض الأشهر ثم رأت الدم تنتقل عدتها إلى الحيض, كذا ذكر الكرخي. وذكر القدوري أن ما ذكره أبو الحسن ظاهر الرواية التي لم يقدروا للإياس تقديرا بل هو غالب على ظنها أنها آيسة؛ لأنها لما رأت الدم دل على أنها لم تكن آيسة, وأنها أخطأت في الظن, فلا يعتد بالأشهر في حقها لما ذكرنا أنها بدل, فلا يعتبر مع وجود الأصل. "وأما" على الرواية التي وقتوا للإياس وقتا إذا بلغت ذلك الوقت ثم رأت بعده الدم لم يكن ذلك الدم حيضا, كالدم الذي تراه الصغيرة التي لا يحيض مثلها, وكذا ذكره الجصاص أن ذلك في التي ظنت أنها آيسة, فأما الآيسة فما ترى من الدم لا يكون حيضا. ألا ترى أن وجود الحيض منها كان معجزة نبي من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يجوز أن يؤخذ إلا على وجه المعجزة. كذا علل الجصاص. "وأما" الثاني, وهو انتقال العدة من الأقراء إلى الأشهر فنحو ذات القرء اعتدت بحيضة أو حيضتين ثم أيست تنتقل عدتها من الحيض إلى الأشهر فتستقبل العدة بالأشهر؛ لأنها لما أيست فقد صارت عدتها بالأشهر لقوله عز وجل:
{وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ}, والأشهر بدل عن الحيض فلو لم تستقبل, وثبتت على الأول لصار الشيء الواحد أصلا, وبدلا, وهذا لا يجوز, فإن قيل أليس أن من شرع في الصلاة بالوضوء ثم سبقه الحدث فلم يجد ماء أنه يتيمم, ويبني على صلاته, وهذا جمع بين البدل, والمبدل في صلاة واحدة فهلا جاز ذلك في العدة؟ فالجواب أن الممتنع كون الشيء الواحد بدلا, وأصلا, وههنا كذلك؛ لأن العدة شيء واحد, وفصل الصلاة ليس من هذا القبيل؛ لأن ذلك جمع بين البدل, والمبدل في شيء واحد, وذلك غير ممتنع فإن الإنسان قد يصلي بعض صلاته قائما بركوع, وسجود, وبعضها بالإيماء, ويكون جمعا بين البدل, والمبدل في صلاته, ومن هذا القبيل إذا طلق امرأته ثم مات فإن كان الطلاق رجعيا انتقلت عدتها إلى عدة الوفاة سواء طلقها في حالة المرض أو الصحة وانهدمت عدة الطلاق, وعليها أن تستأنف عدة الوفاة في قولهم جميعا؛ لأنها زوجته بعد الطلاق إذ الطلاق الرجعي لا يوجب زوال الزوجية, وموت الزوج يوجب على زوجته عدة الوفاة لقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} كما لو مات قبل الطلاق, وإن كان بائنا أو ثلاثا فإن لم ترث بأن طلقها في حالة الصحة لا تنتقل عدتها؛ لأن الله تعالى أوجب عدة الوفاة على الزوجات بقوله عز وجل: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ} وقد زالت الزوجية بالإبانة, والثلاث فتعذر إيجاب عدة الوفاة فبقيت عدة الطلاق على حالها. وإن ورثت بأن طلقها في حالة المرض ثم مات قبل أن تنقضي العدة فورثت اعتدت بأربعة أشهر وعشر, فيها ثلاث حيض, حتى أنها لو لم تر في مدة الأربعة أشهر, والعشر ثلاث حيض تستكمل بعد ذلك, وهذا قول أبي حنيفة, ومحمد, وكذلك كل معتدة, ورثت. كذا ذكر الكرخي, وعنى بذلك امرأة المرتد بأن ارتد زوجها بعدما دخل بها, ووجبت عليها العدة ثم مات أو قتل, وورثته. وذكر القدوري في امرأة المرتد روايتين عن أبي حنيفة. وقال أبو يوسف ليس عليها إلا ثلاث حيض. وجه قوله ما ذكرنا أن الشرع إنما أوجب عدة الوفاة على الزوجات وقد بطلت الزوجية بالطلاق البائن إلا أنا بقيناها في حق الإرث خاصة لتهمة الفرار ممن ادعى بقاءها في حق وجوب عدة الوفاة فعليه الدليل وجه قولهما أن النكاح لما بقي في حق الإرث فلأن يبقى في حق وجوب العدة أولى؛ لأن العدة يحتاط في إيجابها فكان قيام النكاح من وجه كافيا لوجوب العدة احتياطا فيجب عليها الاعتداد

 

 

ج / 3 ص -201-       أربعة أشهر وعشرا فيها ثلاث حيض. ولو حملت المعتدة في عدتها ذكر الكرخي أن من حملت في عدتها فالعدة أن تضع حملها ولم يفصل بين المعتدة عن طلاق أو وفاة وقد فصل محمد بينهما فإنه قال فيمن مات عن امرأته وهو صغير أو كبير ثم حملت بعد موته فعدتها الشهور, فهذا نص على أن عدة المتوفى عنها زوجها لا تنتقل بوجود الحمل من الأشهر إلى وضع الحمل, قال: وإن كانت في عدة الطلاق فحبلت بعد الطلاق وعلم بذلك فعدتها أن تضع حملها. وجه ما ذكره الكرخي أن وضع الحمل أصل العدد؛ لأن العدة وضعت لاستبراء الرحم, ولا شيء أدل على براءة الرحم من وضع الحمل فيجب أن يسقط معه ما سواه كما تسقط الشهور مع الحيض, والصحيح ما ذكره محمد أن عدة المتوفى عنها زوجها لا تتغير بوجود الحمل بعد الوفاة ولا تنتقل من الأشهر إلى وضع الحمل بخلاف عدة الطلاق. وجه الفرق بين العدتين أن عدة الوفاة إنما وجبت لاستبراء الرحم بدليل أنها تتأدى بالأشهر مع وجود الحيض وكذا تجب قبل الدخول, وإنما وجبت لإظهار التأسف على فوت نعمة النكاح, وكان الأصل في هذه العدة هو الأشهر إلا إذا كانت حاملا وقت الوفاة فيتعلق بوضع الحمل فإذا كانت حاملا بقيت على حكم الأصل فلا تتغير بوجود الحمل فلا تنتقل, بخلاف عدة الطلاق فإن المقصود منها الاستبراء, ووضع الحمل أصل في الاستبراء فإذا قدرت عليه سقط ما سواه, أو يحمل ما ذكره الكرخي على الخصوص وهي التي حبلت في عدة الطلاق, وذكر العام على إرادة الخاص متعارف. وقال محمد في عدة الطلاق: إنها إذا حبلت فإن لم يعلم أنها حبلت بعد الطلاق ثم جاءت بولد لأكثر من سنتين فقد حكمنا بانقضاء عدتها بعد الوضع لستة أشهر حملا لأمرها على الصلاح إذ الظاهر من حال المسلمة أن لا تتزوج في عدتها فيحكم بانقضاء عدتها قبل التزوج, والله الموفق.

                                                              "فصل":
وأما تغيير العدة فنحو الأمة إذا طلقت ثم أعتقت فإن كان الطلاق رجعيا تتغير عدتها إلى عدة الحرائر؛ لأن الطلاق الرجعي لا يزيل الزوجية, فهذه حرة وجبت عليها العدة وهي زوجته فتعتد عدة الحرائر كما إذا عتقها المولى ثم طلقها الزوج, وإن كانت بائنا لا تتغير عندنا, وعند الشافعي تتغير فيهما جميعا. وجه قوله أن الأصل في العدة هو الكمال وإنما النقصان بعارض الرق فإذا أعتقت فقد زال العارض وأمكن تكميلها فتكمل, "ولنا" أن الطلاق أوجب عليها عدة الإماء؛ لأنه صادفها وهي أمة والإعتاق وجد وهي مبانة فلا يتغير الواجب بعد البينونة كعدة الوفاة بخلاف الطلاق الرجعي؛ لأنه لا يوجب زوال الملك فوجد الإعتاق وهي زوجته فوجبت عليها العدة وهي حرة فتعتد عدة الحرائر. وهذا بخلاف الإيلاء بأن كانت الزوجة مملوكة وقت الإيلاء ثم أعتقت أنه تنقلب عدتها إلى عدة الحرائر وإن كان الإيلاء طلاقا بائنا, وقد سوى بينه وبين الرجعي في هذا الحكم, وإنما كان كذلك لأن البينونة في الإيلاء لا تثبت للحال وإنما تثبت بعد انقضاء المدة فكانت الزوجية قائمة للحال فأشبه الطلاق الرجعي بأن طلقها الزوج رجعيا ثم أعتقها المولى, وهناك تنقلب عدتها عدة الحرائر فكذا مدتها ههنا, بخلاف الطلاق البائن فإنه يوجب زوال الملك للحال وقد وجبت عدة الإماء بالطلاق فلا تتغير بعد البينونة بالعتق, والله الموفق. وأما المطلقة الرجعية إذا راجعها الزوج ثم طلقها قبل الدخول بها قال أصحابنا: عليها عدة مستأنفة وقال الشافعي في أحد قوليه: إنها تكمل العدة. وجه قوله أنها تعتد عن الطلاق الأول لا عن الثاني؛ لأن الثاني طلاق قبل الدخول فلا يوجب العدة, "ولنا" أن الطلاق الثاني طلاق بعد الدخول؛ لأن الرجعة ليست إنشاء النكاح بل هي فسخ الطلاق ومنعه عن العمل بثبوت البينونة بانقضاء العدة فكانت مطلقة بالطلاق الثاني بعد الدخول فتدخل تحت قوله تعالى:
{وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ}. ولو زوج أم ولده ثم مات عنها وهي تحت زوج أو في عدة من زوج فلا عدة عليها بموت المولى؛ لأن العدة إنما تجب عليها بموت المولى لزوال الفراش فإذا كانت تحت زوج أو في عدة من زوج لم تكن فراشا له لقيام فراش الزوج فلا تجب عليها العدة فإن أعتقها المولى ثم طلقها الزوج فعليها عدة الحرائر؛ لأن إعتاق المولى صادفها وهي فراش الزوج فلا يوجب عليها العدة, وطلاق الزوج صادفها وهي حرة فعليها عدة الحرائر, ولو طلقها الزوج أولا ثم أعتقها المولى فإن

 

ج / 3 ص -202-       كان الطلاق رجعيا تتغير عدتها إلى عدة الحرائر, وإن كان بائنا لا تتغير لما ذكرنا فيما تقدم, فإن انقضت عدتها ثم مات المولى فعليها بموت المولى ثلاث حيض؛ لأنها لما انقضت عدتها من الزوج فقد عاد فراش المولى ثم زال بالموت فتجب العدة لزوال الفراش, كما إذا مات قبل أن يزوجها, فإن مات المولى والزوج فالأمر لا يخلو: إما إن علم أيهما مات أولا وأما أن لا يعلم, وكل ذلك لا يخلو: إما إن علم كم بين موتيهما وأما إن لم يعلم: فإن علم أن الزوج مات أولا وعلم أن بين موتيهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فعليها شهران وخمسة أيام مدة عدة الأمة في وفاة الزوج, فإذا مات المولى فعليها ثلاث حيض؛ لأنه مات بعد انقضاء عدتها من الوفاة فعليها العدة من المولى وذلك ثلاث حيض, وإن كان بين موتيهما أقل من شهرين وخمسة أيام فكذلك عليها شهران وخمسة أيام مدة عدة وفاة الزوج فإذا مات المولى لا شيء عليها بموته؛ لأنه مات وهي في عدة الزوج وإن علم أن المولى مات أولا فلا عدة عليها من المولى؛ لأنها تحت زوج فلم تكن فراشا للمولى فإذا مات الزوج فعليها أربعة أشهر وعشر عدة الوفاة من الزوج؛ لأنها أعتقت بموت المولى, وعدة الحرة في الوفاة أربعة أشهر وعشر, وإن لم يعلم أيهما مات أولا: فإن علم أن بين موتهما أكثر من شهرين وخمسة أيام فعليها أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض, وتفسيره أنها إذا لم تر ثلاث حيض في هذه الأربعة الأشهر والعشر تستكمل بعد ذلك؛ لأنه إن مات الزوج أولا فقد وجب عليها شهران وخمسة أيام لأنها أمة وعدة الأمة من زوجها المتوفى هذا القدر, ثم مات المولى بعد انقضاء عدتها فوجب عليها ثلاث حيض عدة المولى. وإن مات المولى أولا فقد عتقت بموته ولا عدة عليها منه؛ لأنها ليست فراشا له, وعدة أم الولد من مولاها تجب بزوال الفراش فلما مات الزوج بعد موت المولى فقد مات الزوج وهي حرة فوجب عليها عدة الحرائر في الوفاة وهي أربعة أشهر وعشر فإذا في حال يجب عليها شهران وخمسة أيام وثلاث حيض, وفي حال يجب أربعة أشهر وعشر والشهران يدخلان في الشهور فيجب عليها أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض على التفسير الذي ذكرنا احتياطا, وإن علم أنه بين موتيهما أقل من شهرين وخمسة أيام فعليها أربعة أشهر وعشر في قولهم جميعا؛ لأنه لا حال ههنا لوجوب الحيض لأنه إن مات المولى أولا لم يجب بموته شيء لأنها تحت زوج, فإذا مات وجب عليها أربعة أشهر وعشر؛ لأنها عتقت بموت المولى, وعدة الحرة في الوفاة أربعة أشهر وعشر, وإن مات الزوج أولا وجب عليها شهران وخمسة أيام؛ لأنها أمة فإذا مات المولى بعده لا يجب عليها شيء بموته؛ لأنه مات وهي في عدة الزوج فلم تكن فراشا له, فإذا في حال يجب عليها أربعة أشهر وعشر فقط, وفي حال شهران وخمسة أيام فقط فأوجبنا الاعتداد بأكثر المدتين احتياطا فإذا لم يعلم أيهما مات أولا ولم يعلم أيضا كم بين موتهما فقد اختلف فيه: قال أبو حنيفة: عليها أربعة أشهر وعشر لا حيض فيها. وقال أبو يوسف ومحمد: عليها أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض, وجه قولهما أنه يحتمل أن الزوج مات أولا وانقضت العدة ثم مات المولى بعد انقضاء العدة فيجب عليها ثلاث حيض, ويحتمل أن يكون المولى مات أولا فعتقت بموته ثم مات الزوج فيجب أربعة أشهر وعشر فيراعى فيه الاحتياط فيجمع بين الأربعة الأشهر والعشر والحيض ولأبي حنيفة قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} وهذا تقدير لعدة الوفاة بأربعة أشهر وعشر فلا يجوز الزيادة عليه إلا بدليل؛ ولأن الأصل في كل أمرين حادثين لم يعلم تاريخ ما بينهما أن يحكم بوقوعهما معا كالغرقى والحرقى والهدمى, وإذا حكم بموت الزوج مع موت المولى فقد وجبت عليها العدة وهي حرة فكانت عدة الحرائر فلم يكن لإيجاب الحيض حال فلا يمكن إيجابها, والله عز وجل أعلم. وعلى هذا الأصل قال أبو يوسف: إذا تزوج أم الولد بغير إذن مولاها ودخل بها الزوج ثم مات الزوج والمولى ولا يعلم أيهما مات أولا ولا كم بين موتيها فعليها حيضتان في قياس قول أبي حنيفة؛ لأنه يحكم بموتهما معا, وفي قول أبي يوسف يجب عليها ثلاث حيض في أربعة أشهر وعشر بناء على أصله في اعتبار الاحتياط؛ لأنه يحتمل أن المولى مات أولا فنفذ النكاح لموته؛ لأنها عتقت فجاز نكاحها بعتقها ثم مات الزوج وهي حرة فوجب

 

ج / 3 ص -203-       عليها أربعة أشهر وعشر ويحتمل أنه مات الزوج أولا وانقضت عدتها ثم مات المولى بعد انقضاء العدة فعليها عدة المولى ثلاث حيض فوجب عليها أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض احتياطا, وإن علم أن بين موتيهما ما لا تحيض فيه حيضتين فعليها أربعة أشهر وعشر فيها حيضتان؛ لأن عدة المولى قد سقطت, سواء مات أولا أو آخرا إذا كان بين موتيهما ما لا تحيض فيه حيضتين ووقع التردد في عدة الزوج؛ لأنه إن مات المولى أولا فعتقت نفذ نكاحها بعتقها فوجب عليها عدة الحرائر بالوفاة, وإن مات الزوج أولا وجب عليها حيضتان فيجمع بينهما احتياطا, ولو حاضت حيضتين بين موتيهما فعليها أربعة أشهر وعشر فيها ثلاث حيض؛ لأنه إن مات المولى أولا فعتقت فنفذ نكاحها فلما مات الزوج وجب عليها عدة الشهور, وإن مات الزوج أولا ثم مات المولى بعد انقضاء العدة فيجب عليها ثلاث حيض فيجمع بين الشهور والحيض احتياطا. ولو اشترى الرجل زوجته وله منها ولد فأعتقها فعليها ثلاث حيض حيضتان من النكاح تجتنب فيهما ما تجتنب المنكوحة وحيضة من العتق لا تجتنب فيها؛ لأنه لما اشتراها فقد فسد نكاحها ووجبت عليها العدة فصارت معتدة في حق غيره وإن لم تكن معتدة في حقه, بدليل أنه لا يجوز له أن يزوجها فإذا أعتقها صارت معتدة في حقه وفي حق غيره؛ لأن المنافع من كونها معتدة في حقه هو إباحة وطئها وقد زال ذلك بزوال ملك اليمين فزال المانع فظهر حكم العدة في حقه أيضا فيجب عليها حيضتان من فساد النكاح وهما معتبران من الإعتاق أيضا, وعدة النكاح يجب فيها الإحداد, وأما الحيضة الثالثة فإنما تجب من العتق خاصة. وعدة العتق لا إحداد فيها, فإن كان طلقها قبل أن يشتريها تطليقة واحدة بائنة ثم اشتراها حل له وطؤها وكان لها أن تتزين؛ لأن ملك اليمين سبب لحل الوطء في الأصل لا لمانع, وماؤه لا يصلح مانعا لوطئه فصار كما لو جدد النكاح فإذا حل له وطؤها سقط عنها الإحداد فإن حاضت ثلاث حيض قبل العتق ثم أعتقها فلا عدة عليها من النكاح وتعتد في العتق ثلاث حيض؛ لأنها وإن لم تكن معتدة في حقه بعد الشراء فهي معتدة في حق غيره بدليل أنه لا يجوز له أن يتزوجها فإذا مضت الحيض بعد وجوب العدة بوجه من الوجوه تعتد بها فإذا أعتقها وجب عليها بالعتق عدة أخرى وهي عدة أم الولد ثلاث حيض.
وإذا اشترى المكاتب زوجته ثم مات وترك وفاء فأدت المكاتبة فسد النكاح قبل الموت بلا فصل ووجبت عليها العدة من فساد النكاح حيضتان إذا كانت لم تلد منه وقد دخل بها, أما فساد النكاح قبل موته بلا فصل فلأن المكاتب إذا مات وترك وفاء فأدي يحكم بعتقه في آخر جزء من أجزاء حياته وإذا أعتق ملكها الآن ففسد نكاحها. "وأما" وجوب العدة عليها حيضتان فلأنها بانت وهي أمة فإن كانت ولدت فعليها تمام ثلاث حيض؛ لأنها أم ولد فيجب عليها حيضتان بالنكاح والعتق وحيضة بالعتق خاصة, فإن لم يترك وفاء ولم تلد منه فعليها شهران وخمسة أيام دخل بها أو لم يدخل بها إذا لم تكن ولدت منه؛ لأنه لما مات عاجزا لم يفسد نكاحها؛ لأنه مات عبدا فلم يملكها فمات عن منكوحته وهي زوجته أمة فيجب عليها شهران وخمسة أيام عدة الأمة في الوفاة ويستوي فيه الدخول وعدم الدخول؛ لأن العدة عدة الوفاة فإن كانت ولدت منه سعت وسعى ولدها على نجومه. فإن عجزا فعدتها شهران وخمسة أيام لما بينا فإن أديا عتقا وعتق المكاتب, فإن كان الأداء في العدة فعليها ثلاث حيض مستأنفة من يوم عتقا يستكمل فيها شهرين وخمسة أيام من يوم مات المكاتب؛ لأن الأصل أن المكاتب إذا ترك ولدا ولم يترك وفاء فاكتسب الولد وأدى يحكم بعتق المكاتب في الحال ويستند إلى ما قبل الموت من طريق الحكم؛ لأنه إذا لم يترك وفاء فقد مات عاجزا في الظاهر فلم يحكم بعتقه قبل موته مع العجز وإنما يحكم عند الأداء فيحكم بعتقه للحال ثم يستند فيعتق بعتقه ويجب عليها الحيض بعد العتق, بخلاف ما إذا ترك وفاء؛ لأنه إذا كان له مال فالدين وهو بدل الكتابة ينتقل من ذمته إلى المال فيمنع ظهور العجز فإذا أدى يحكم بسقوط دين الكتابة عنه وسلامته للمولى في آخر جزء من أجزاء حياته فيعتق في ذلك الوقت, وعند زفر في الفصلين جميعا يحكم بعتقه قبل الموت ويجعل الولد إذا أدى كالكسب إذا أدى عنه والمسألة تعرف في موضع آخر فإن أديا فعتقا بعدما انقضت العدة بالشهرين وخمسة أيام فعليها ثلاث حيض مستقبلة؛ لأن عدة الوفاة لما

 

ج / 3 ص -204-       انقضت تجدد وجوب عدة أخرى بالعتق فكان عليها أن تعتد بها. وذكر ابن سماعة في نوادره عن محمد إذا اشترى المكاتب امرأته وولده منها ومات وترك وفاء من ديون له أو مال فعدتها ثلاث حيض في شهرين وخمسة أيام لأني لا أعلم يؤدى المال فيحكم بعتقه أو ينوي فيحكم بعجزه فوجب الجمع بين العدتين, ولو تزوج المكاتب بنت مولاه ثم مات المولى ومات المكاتب وترك وفاء فعليها أربعة أشهر وعشر دخل بها أو لم يدخل بها؛ لأن النكاح عندنا لا يفسد بموت المولى, فإذا مات المكاتب عن منكوحته الحرة وجبت عليها عدة الحرائر, وإن لم يترك وفاء فعليها ثلاث حيض إن كان قد دخل بها, وإن لم يكن دخل بها فلا عدة عليها؛ لأنه مات عاجزا فملكته قبل موته وانفسخ النكاح ووجبت عليها العدة بالفرقة في حال الحياة إن كان دخل بها وإلا فلا.

                                                          "فصل":
وأما أحكام العدة فمنها أنه لا يجوز للأجنبي نكاح المعتدة لقوله تعالى:
{وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ} قيل: أي لا تعزموا على عقدة النكاح, وقيل: أي لا تعقدوا عقد النكاح حتى ينقضي ما كتب الله عليها من العدة ولأن النكاح بعد الطلاق الرجعي قائم من كل وجه, وبعد الثلاث والبائن قائم من وجه حال قيام العدة لقيام بعض الآثار, والثابت من وجه كالثابت من كل وجه في باب الحرمات احتياطا, ويجوز لصاحب العدة أن يتزوجها؛ لأن النهي عن التزوج للأجانب لا للأزواج؛ لأن عدة الطلاق إنما لزمتها حقا للزوج لكونها باقية على حكم نكاحه من وجه فإنما يظهر في حق التحريم على الأجنبي لا على الزوج إذ لا يجوز أن يمنع حقه. ومنها أنه لا يجوز للأجنبي خطبة المعتدة صريحا سواء كانت مطلقة أو متوفى عنها زوجها, أما المطلقة طلاقا رجعيا فلأنها زوجة المطلق لقيام ملك النكاح من كل وجه فلا يجوز خطبتها كما لا يجوز قبل الطلاق. وأما المطلقة ثلاثا أو بائنا والمتوفى عنها زوجها فلأن النكاح حال قيام العدة قائم من كل وجه لقيام بعض آثاره كالثابت من كل وجه في باب الحرمة ولأن التصريح بالخطبة حال قيام النكاح من وجه وقوف موقف التهمة ورتع حول الحمى؛ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقفن مواقف التهم" وقال صلى الله عليه وسلم: "من رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه" فلا يجوز التصريح بالخطبة في العدة أصلا. وأما التعريض فلا يجوز أيضا في عدة الطلاق ولا بأس به في عدة الوفاة, والفرق بينهما من وجهين: أحدهما: أنه لا يجوز للمعتدة من طلاق الخروج من منزلها أصلا بالليل ولا بالنهار فلا يمكن التعريض على وجه لا يقف عليه الناس والإظهار بذلك بالحضور إلى بيت زوجها قبيح. "وأما" المتوفى عنها زوجها فيباح لها الخروج نهارا فيمكن التعريض على وجه لا يقف عليه سواها, والثاني أن تعريض المطلقة اكتساب عداوة وبغض فيما بينها وبين زوجها إذ العدة من حقه بدليل أنه إذا لم يدخل بها لا تجب العدة, ومعنى العداوة لا يتقدر بينها وبين الميت ولا بينها وبين ورثته أيضا؛ لأن العدة في المتوفى عنها زوجها ليست لحق الزوج بدليل أنها تجب قبل الدخول بها فلا يكون التعريض في هذه العدة تسبيبا إلى العداوة والبغض بينها وبين ورثة المتوفى فلم يكن بها بأس, والأصل في جواز التعريض في عدة الوفاة قوله تعالى: {وَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء} واختلف أهل التأويل في التعريض أنه ما هو؟ قال بعضهم: هو أن يقول لها إنك الجميلة وإني فيك لراغب وإنك لتعجبينني أو إني لأرجو أن نجتمع أو ما أجاوزك إلى غيرك وإنك لنافعة, وهذا غير سديد ولا يحل لأحد أن يشافه امرأة أجنبية لا يحل له نكاحها للحال بمثل هذه الكلمات؛ لأن بعضها صريح في الخطبة وبعضها صريح في إظهار الرغبة فلا يجوز شيء من ذلك, وإنما المرخص هو التعريض وهو أن يرى من نفسه الرغبة في نكاحها بدلالة في الكلام من غير تصريح به إذ التعريض في اللغة هو تضمين الكلام في الدلالة على شيء من غير التصريح به بالقول على ما ذكر في الخبر أن فاطمة بنت قيس لما استشارت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي معتدة فقال لها "إذا انقضت عدتك فآذنيني فآذنته في رجلين كانا خطباها, فقال لها: أما فلان فإنه لا يرفع العصا عن عاتقه وأما فلان فإنه صعلوك لا مال له, فهل لك في أسامة بن زيد؟" فكان قوله صلى الله عليه وسلم آذنيني كناية خطاب إلى أن أشار عليه الصلاة والسلام إلى أسامة بن زيد

 

ج / 3 ص -205-       وصرح به, وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: التعريض بالخطبة أن يقول لها: أريد أن أتزوج امرأة من أمرها كذا وكذا يعرض لها بالقول, والله عز وجل أعلم. ومنها حرمة الخروج من البيت لبعض المعتدات دون بعض, وجملة الكلام في هذا الحكم أن المعتدة لا يخلو إما أن تكون معتدة من نكاح صحيح وأما أن تكون معتدة من نكاح فاسد, ولا يخلو إما أن تكون حرة "وأما" أن تكون أمة بالغة أو صغيرة عاقلة أو مجنونة مسلمة أو كتابية مطلقة أو متوفى عنها زوجها, والحال حال الاختيار أو حال الاضطرار: فإن كانت معتدة من نكاح صحيح وهي حرة مطلقة بالغة عاقلة مسلمة والحال حال الاختيار فإنها لا تخرج ليلا ولا نهارا سواء كان الطلاق ثلاثا أو بائنا أو رجعيا أما في الطلاق الرجعي فلقوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} قيل في تأويل قوله عز وجل: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} إلا أن تزني فتخرج لإقامة الحد عليها, وقيل: الفاحشة هي الخروج نفسه أي إلا أن يخرجن فيكون خروجهن فاحشة, نهى الله تعالى الأزواج عن الإخراج والمعتدات عن الخروج وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} والأمر بالإسكان نهي عن الإخراج والخروج ولأنها زوجته بعد الطلاق الرجعي لقيام ملك النكاح من كل وجه فلا يباح لها الخروج كما قبل الطلاق إلا أن بعد الطلاق لا يباح لها الخروج وإن أذن لها بالخروج بخلاف ما قبل الطلاق. لأن حرمة الخروج بعد الطلاق لمكان العدة وفي العدة حق الله تعالى فلا يملك إبطاله بخلاف ما قبل الطلاق؛ لأن الحرمة ثمة لحق الزوج خاصة فيملك إبطال حق نفسه بالإذن بالخروج, ولأن الزوج يحتاج إلى تحصين مائه والمنع من الخروج طريق التحصين للماء؛ لأن الخروج يريب الزوج أنه وطئها غيره فيشتبه النسب إذا حبلت. "وأما" في الطلاق الثلاث أو البائن فلعموم النهي ومساس الحاجة إلى تحصين الماء على ما بينا. "وأما" المتوفى عنها زوجها فلا تخرج ليلا ولا بأس بأن تخرج نهارا في حوائجها؛ لأنها تحتاج إلى الخروج بالنهار لاكتساب ما تنفقه؛ لأنه لا نفقة لها من الزوج المتوفى بل نفقتها عليها فتحتاج إلى الخروج لتحصيل النفقة, ولا تخرج بالليل لعدم الحاجة إلى الخروج بالليل بخلاف المطلقة فإن نفقتها على الزوج فلا تحتاج إلى الخروج حتى لو اختلعت بنفقة عدتها, بعض مشايخنا قالوا؛ يباح لها الخروج بالنهار للاكتساب؛ لأنها بمعنى المتوفى عنها زوجها, وبعضهم قالوا: لا يباح لها الخروج؛ لأنها هي التي أبطلت النفقة باختيارها والنفقة حق لها فتقدر على إبطاله, فأما لزوم البيت فحق عليها فلا تملك إبطاله, وإذا خرجت بالنهار في حوائجها لا تبيت عن منزلها الذي تعتد فيه, والأصل فيه ما روي "أن فريعة أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنه لما قتل زوجها أتت النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنته في الانتقال إلى بني خدرة فقال لها: امكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله" وفي رواية "لما استأذنت أذن لها ثم دعاها فقال: أعيدي المسألة فأعادت فقال: لا, حتى يبلغ الكتاب أجله" أفادنا الحديث حكمين: إباحة الخروج بالنهار, وحرمة الانتقال حيث لم ينكر خروجها ومنعها صلى الله عليه وسلم من الانتقال, فدل على جواز الخروج بالنهار من غير انتقال, وروى علقمة أن نسوة من همدان نعي إليهن أزواجهن فسألن ابن مسعود رضي الله عنه فقلن إنا نستوحش فأمرهن أن يجتمعن بالنهار فإذا كان الليل فلترح كل امرأة إلى بيتها وروي عن محمد أنه قال: لا بأس أن تنام عن بيتها أقل من نصف الليل؛ لأن البيتوتة في العرف عبارة عن الكون في البيت أكثر الليل, فما دونه لا يسمى بيتوتة في العرف, ومنزلها الذي تؤمر بالسكون فيه للاعتداد هو الموضع الذي كانت تسكنه قبل مفارقة زوجها وقبل موته سواء كان الزوج ساكنا فيه أو لم يكن؛ لأن الله تعالى أضاف البيت إليها بقوله عز وجل: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} والبيت المضاف إليها هو الذي تسكنه, ولهذا قال أصحابنا إنها إذا زارت أهلها فطلقها زوجها كان عليها أن تعود إلى منزلها الذي كانت تسكن فيه فتعتد ثمة؛ لأن ذلك هو الموضع الذي يضاف إليها وإن كانت هي في غيره, وهذا في حالة الاختيار. وأما في حالة الضرورة فإن اضطرت إلى الخروج من بيتها بأن خافت سقوط منزلها أو خافت على متاعها أو كان المنزل بأجرة ولا تجد ما تؤديه في أجرته في عدة الوفاة فلا بأس عند ذلك أن تنتقل, وإن كانت تقدر على الأجرة لا تنتقل, وإن كان المنزل لزوجها وقد مات عنها فلها أن تسكن في نصيبها إن كان

 

ج / 3 ص -206-       نصيبها من ذلك ما تكتفي به في السكنى وتستتر عن سائر الورثة ممن ليس بمحرم لها, وإن كان نصيبها لا يكفيها أو خافت على متاعها منهم فلا بأس أن تنتقل, وإنما كان كذلك؛ لأن السكنى وجبت بطريق العبادة حقا لله تعالى عليها, والعبادات تسقط بالأعذار, وقد روي أنه لما قتل عمر رضي الله عنه نقل علي رضي الله عنه أم كلثوم رضي الله عنها لأنها كانت في دار الإجارة, وقد روي أن عائشة رضي الله عنها نقلت أختها أم كلثوم بنت أبي بكر رضي الله عنه لما قتل طلحة رضي الله عنه فدل ذلك على جواز الانتقال للعذر, وإذا كانت تقدر على أجرة البيت في عدة الوفاة فلا عذر, فلا تسقط عنها العبادة كالمتيمم إذا قدر على شراء الماء بأن وجد ثمنه وجب عليه الشراء وإن لم يقدر لا يجب لعذر العدم. كذا ههنا, وإذا انتقلت لعذر يكون سكناها في البيت الذي انتقلت إليه بمنزلة كونها في المنزل الذي انتقلت منه في حرمة الخروج عنه؛ لأن الانتقال من الأول إليه كان لعذر فصار المنزل الذي انتقلت إليه كأنه منزلها من الأصل فلزمها المقام فيه حتى تنقضي العدة, وكذا ليس للمعتدة من طلاق ثلاث أو بائن أن تخرج من منزلها الذي تعتد فيه إلى سفر إذا كانت معتدة من نكاح صحيح وهي على الصفات التي ذكرناها, ولا يجوز للزوج أن يسافر بها أيضا لقوله تعالى و: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} وقوله عز وجل: {هُنَّ} كناية عن المعتدات؛ ولأن الزوجية قد زالت بالثلاث والبائن فلا يجوز له المسافرة بها, وكذا المعتدة من طلاق رجعي ليس لها أن تخرج إلى سفر سواء كان سفر حج فريضة أو غير ذلك, لا مع زوجها ولا مع محرم غيره حتى تنقضي عدتها أو يراجعها لعموم قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} من غير فصل بين خروج وخروج ولما ذكرنا أن الزوجية قائمة؛ لأن ملك النكاح قائم فلا يباح لها الخروج؛ لأن العدة لما منعت أصل الخروج فلأن تمنع من خروج مديد وهو الخروج من السفر أولى, وإنما استوى فيه سفر الحج وغيره وإن كان حج الإسلام فرضا؛ لأن المقام في منزلها واجب لا يمكن تداركه بعد انقضاء العدة وسفر الحج واجب يمكن تداركه بعد انقضاء العدة؛ لأن جميع العمر وقته فكان تقديم واجب لا يمكن تداركه بعد الفوت جمعا بين الواجبين فكان أولى, وليس لزوجها أن يسافر بها عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: له ذلك, واختلف مشايخنا في تخريج قول زفر, قال بعضهم: إنما قال ذلك لأنه قد ثبت من أصل أصحابنا أن الطلاق الرجعي عدم في حق الحكم قبل انقضاء العدة فكان الحال قبل الرجعة وبعدها سواء. وقال بعضهم: إنما قال ذلك؛ لأن المسافرة بها رجعة عنده دلالة, ووجهه أن إخراج المعتدة من بيت العدة حرام فلو لم يكن من قصده الرجعة لم يسافر بها ظاهرا تحرزا عن الحرام فيجعل المسافرة بها رجعة دلالة حملا لأمره على الصلاح صيانة له عن ارتكاب الحرام, ولهذا جعلنا القبلة واللمس عن شهوة رجعة, كذا هذا "ولنا" قوله تعالى: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} نهى الأزواج عن الإخراج والنساء عن الخروج, وبه تبين فساد التخريج الأول؛ لأن نص الكتاب العزير يقتضي حرمة إخراج المعتدة وإن كان ملك النكاح قائما في الطلاق الرجعي فيترك القياس في مقابلة النص, وإليه أشار أبو حنيفة فيما روي عنه أنه قال: لا يسافر بها؛ ليس من قبل أنه غير زوج وهو زوج وهو بمنزلة المحرم لكن الله تعالى قال: {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ} وأما التخريج الثاني وهو قولهم: إن مسافرة الزوج بها دلالة الرجعة فممنوع وما ذكروا أن الظاهر أنه يريد الرجعة تحرزا عن الحرام فذلك فيما كان النهي في التحريم ظاهرا, فأما فيما كان خفيا فلا, وحرمة إخراج المعتدة عن طلاق رجعي مع قيام ملك النكاح من كل وجه مما لا يخفى عن الفقهاء فضلا عن العوام فلا يثبت الامتناع عنه من طريق الدلالة مع ما أن الخلاف ثابت فيما إذا كان الزوج يقول: إنه لا يراجعها نصا, ولا معتبر بالدلالة مع التصريح بخلافها. وإذا لم تكن المسافرة بها دلالة الرجعة فلو أخرجها لأخرجها مع قيام العدة وهذا حرام بالنص, وقد قالوا فيمن خرجت محرمة فطلقها الزوج وبينها وبين مصرها أقل من ثلاثة أيام أنها ترجع وتصير بمنزلة المحصر؛ لأنها صارت ممنوعة من المضي في حجها لمكان العدة, فأما إذا راجعها الزوج فقد بطلت العدة وعادت الزوجية فجاز له السفر بها, ويستوي الجواب في حرمة الخروج والإخراج إلى السفر وما دون ذلك لعموم النهي إلا أن النهي

 

ج / 3 ص -207-       عن الخروج والإخراج إلى ما دون السفر أخف لخفة الخروج والإخراج في نفسه, وإذا خرج مع امرأته مسافرا فطلقها في بعض الطريق أو مات عنها فإن كان بينها وبين مصرها الذي خرجت منه أقل من ثلاثة أيام وبينها وبين مقصدها ثلاثة أيام فصاعدا رجعت إلى مصرها؛ لأنها لو مضت لاحتاجت إلى إنشاء سفر وهي معتدة, ولو رجعت ما احتاجت إلى ذلك فكان الرجوع أولى كما إذا طلقت في المصر خارج بيتها أنها تعود إلى بيتها, كذا هذا. وإن كان بينها وبين مصرها ثلاثة أيام فصاعدا وبينها وبين مقصدها أقل من ثلاثة أيام فإنها تمضي؛ لأنه ليس في المضي إنشاء سفر, وفي الرجوع إنشاء سفر والمعتدة ممنوعة عن السفر, وسواء كان الطلاق في موضع لا يصلح للإقامة كالمفازة ونحوها أو في موضع يصلح لها كالمصر ونحوها, وإن كان بينهما وبين مصرها ثلاثة أيام, وبينها وبين مقصدها ثلاثة أيام فصاعدا فإن كان الطلاق في المفازة أو في موضع لا يصلح للإقامة بأن خافت على نفسها أو متاعها فهي بالخيار إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت؛ لأنه ليس أحدهما بأولى من الآخر سواء كان معها محرم أو لم يكن, وإذا عادت أو مضت فبلغت أدنى المواضع فهي بالخيار, إن شاءت مضت وإن شاءت رجعت إلى التي تصلح للإقامة في مضيها أو رجوعها, أقامت فيه واعتدت إن لم تجد محرما بلا خلاف, وإن وجدت فكذلك عند أبي حنيفة؛ لأنه لو وجد الطلاق فيه ابتداء لكان لا يجوز لها أن تتجاوزه عنده, وإن وجدت محرما فكذا إذا وصلت إليه, وإن كان الطلاق في المصر أو في موضع يصلح للإقامة اختلف فيه, قال أبو حنيفة: تقيم فيه حتى تنقضي عدتها ولا تخرج بعد انقضاء عدتها إلا مع محرم, حجا كان أو غيره. وقال أبو يوسف ومحمد: إن كان معها محرم مضت على سفرها "وجه" قولهما أن حرمة الخروج ليست لأجل العدة بل لمكان السفر بدليل أنه يباح لها الخروج إذا لم يكن بين مقصدها ومنزلها مسيرة ثلاثة أيام, ومعلوم أن الحرمة الثابتة للعدة لا تختلف بالسفر وغير السفر, وإذا كانت الحرمة لمكان السفر تسقط بوجود المحرم, ولأبي حنيفة أن العدة مانعة من الخروج والسفر في الأصل إلا أن الخروج إلى ما دون السفر ههنا سقط اعتباره؛ لأنه ليس بخروج مبتدإ بل هو خروج مبني على الخروج الأول فلا يكون له حكم نفسه, بخلاف الخروج من بيت الزوج؛ لأنه خروج مبتدأ فإذا كان من الجانبين جميعا مسيرة سفر كانت منشئة للخروج باعتبار السفر فيتناوله التحريم, وما حرم لأجل العدة لا يسقط بوجود المحرم. "وأما" المعتدة في النكاح الفاسد فلها أن تخرج؛ لأن أحكام العدة مرتبة على أحكام النكاح بل هي أحكام النكاح السابق في الحقيقة بقيت بعد الطلاق والوفاة, والنكاح الفاسد لا يفيد المنع من الخروج فكذا العدة إلا إذا منعها الزوج لتحصين مائه فله ذلك. "وأما" الأمة والمدبرة وأم الولد والمكاتبة والمستسعاة على أصل أبي حنيفة فيخرجن في ذلك كله من الطلاق والوفاة: أما الأمة فلما ذكرنا أن حال العدة مبنية على حال النكاح ولا يلزمها المقام في منزل زوجها في حال النكاح كذا في حال العدة؛ ولأن خدمتها حق المولى فلو منعناها من الخروج لأبطلنا حق المولى في الخدمة من غير رضاه, وهذا لا يجوز إلا إذا بوأها مولاها منزلا فحينئذ لا تخرج ما دامت على ذلك؛ لأنه رضي بسقوط حق نفسه, وإن أراد المولى أن يخرجها فله ذلك؛ لأن الخدمة للمولى وإنما كان أعارها للزوج, وللمعير أن يسترد العارية؛ ولما ذكرنا أن حال العدة معتبرة بحال النكاح مرتبة عليها ولو بوأها المولى في حال النكاح كان للزوج أن يمنعها من الخروج حتى يبدو للمولى فكذا في حال العدة, وروى ابن سماعة عن محمد في الأمة إذا طلقها زوجها وكان المولى مستغنيا عن خدمتها فلها أن تخرج وإن لم يأمرها؛ لأنه قال: إذا جاز لها أن تخرج بإذنه جاز لها أن تخرج بكل وجه. ألا ترى أن حرمة الخروج لحق الله تعالى فلو لزمها لم يسقط بإذنه وكذلك المدبرة؛ لما قلنا, وكذلك أم الولد إذا طلقها زوجها أو مات عنها لأنها أمة المولى وكذا إذا عتقت أو مات عنها سيدها لها أن تخرج؛ لأن عدتها عدة وطء فكانت كالمنكوحة نكاحا فاسدا. "وأما" المكاتبة فلأن سعايتها حق المولى إذ بها يصل المولى إلى حقه فلو منعناها من الخروج لتعذرت عليها السعاية, والمعتق بعضها بمنزلة المكاتبة عند أبي حنيفة وعندهما حرة, ولو أعتقت الأمة في العدة يلزمها فيما بقي من عدتها ما يلزم الحرة؛ لأن المانع من

 

ج / 3 ص -208-       الخروج قد زال. وأما الصغيرة فلها أن تخرج من منزلها إذا كانت الفرقة لا رجعة فيها, سواء أذن الزوج لها أو لم يأذن؛ لأن وجوب السكنى في البيت على المعتدة لحق الله تعالى وحق الزوج, وحق الله عز وجل لا يجب على الصبي, وحق الزوج في حفظ الولد, ولا ولد منها, وإن كانت الفرقة رجعية فلا يجوز لها الخروج بغير إذن الزوج؛ لأنها زوجته وله أن يأذن لها بالخروج, وكذا المجنونة لها أن تخرج من منزلها؛ لأنها غير مخاطبة كالصغيرة إلا أن لزوجها أن يمنعها من الخروج لتحصين مائه بخلاف الصغيرة فإن الزوج لا يملك منعها؛ لأن المنع في حق المجنونة لصيانة الماء لاحتمال الحبل, والصغيرة لا تحبل والمنع من الطلاق الرجعي لكونها زوجته. وأما الكتابية فلها أن تخرج؛ لأن السكنى في العدة حق الله تعالى من وجه فتكون عبادة من هذا الوجه, والكفار لا يخاطبون بشرائع هي عبادات إلا إذا منعها الزوج من الخروج لتحصين مائه؛ لأن الخروج حق في العدة وهو صيانة مائه عن الاختلاط فإن أسلمت الكتابية في العدة لزمها فيما بقي من العدة ما يلزم المسلمة؛ لأن المانع من اللزوم هو الكفر وقد زال بالإسلام, وكذا المجوسية إذا أسلم زوجها وأبت الإسلام حتى وقعت الفرقة ووجبت العدة فإن كان الزوج قد دخل بها لها أن تخرج؛ لما قلنا, إلا إذا أراد الزوج منعها من الخروج لتحصين مائه, فإذا طلب منها ذلك يلزمها؛ لأن حق الإنسان يجب إبقاؤه عند طلبه, ولو قبلت المسلمة ابن زوجها حتى وقعت الفرقة ووجبت العدة إذا كان بعد الدخول فليس لها أن تخرج من منزلها؛ لأن السكنى في العدة فيها حق الله تعالى, وهي مخاطبة بحقوق الله عز وجل وأما بعد انقضاء العدة فلها أن تخرج إلى ما دون مسيرة سفر بلا محرم؛ لأنها تحتاج إلى ذلك فلو شرط له المحرم لضاق الأمر عليها, وهذا لا يجوز, ولا يجوز لها أن تخرج إلى مسيرة سفر إلا مع المحرم والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "لا تسافر المرأة فوق ثلاثة أيام إلا ومعها زوجها أو ذو رحم محرم منها" وسواء كان المحرم من النسب أو الرضاع أو المصاهرة؛ لأن النص وإن ورد في ذي الرحم المحرم فالمقصود هو المحرمية وهو حرمة المناكحة بينهما على التأبيد وقد وجد فكان النص الوارد في ذي الرحم المحرم وارد في المحرم بلا رحم دلالة. ومنها وجوب الإحداد على المعتدة والكلام في هذا الحكم في ثلاثة مواضع: أحدها في تفسير الإحداد, والثاني في بيان أن الإحداد واجب في الجملة أولا, والثالث في بيان شرائط وجوبه: أما الأول فالإحداد في اللغة عبارة عن الامتناع من الزينة, يقال: أحدت على زوجها وحدت أي امتنعت من الزينة وهو أن تجتنب الطيب ولبس المطيب والمعصفر والمزعفر, وتجتنب الدهن والكحل ولا تختضب ولا تمتشط ولا تلبس حليا ولا تتشوف. أما الطيب فلما روت أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى المعتدة أن تختضب بالحناء. وقال صلى الله عليه وسلم: "الحناء طيب" فيدل على وجوب اجتناب الطيب, ولأن الطيب فوق الحناء فالنهي عن الحناء يكون نهيا عن الطيب دلالة, كالنهي عن التأفيف نهي عن الضرب والقتل دلالة, وكذا لبس الثوب المطيب والمصبوغ بالعصفر والزعفران له رائحة طيبة فكان كالطيب وأما الدهن فلما فيه من زينة الشعر, وفي الكحل زينة العين ولهذا حرم على المحرم جميع ذلك وهذا في حال الاختيار, فأما في حال الضرورة فلا بأس به بأن اشتكت عينها فلا بأس بأن تكتحل أو اشتكت رأسها فلا بأس أن تصب فيه الدهن أو لم يكن لها إلا ثوب مصبوغ فلا بأس أن تلبسه لكن لا تقصد به الزينة؛ لأن مواضع الضرورة مستثناة. وقال أبو يوسف: لا بأس أن تلبس القصب والخز الأحمر وذكر في الأصل وقال: ولا تلبس قصبا ولا خزا تتزين به؛ لأن الخز والقصب قد يلبس للزينة وقد يلبس للحاجة والرفاء فاعتبر فيه القصد, فإن قصد به الزينة لم يجز وإن لم يقصد به جاز. وأما الثاني وهو بيان أنه واجب أم لا فنقول لا خلاف بين الفقهاء أن المتوفى عنها زوجها يلزمها الإحداد. وقال نفاة القياس: لا إحداد عليها, وهم محجوجون بالأحاديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم أما الأحاديث فمنها ما روي أن أم حبيبة رضي الله عنها لما بلغها موت أبيها أبي سفيان انتظرت ثلاثة أيام ثم دعت بطيب. وقالت: ما لي إلى الطيب من حاجة, لكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاثة أيام إلا على زوجها أربعة أشهر وعشرا" وروي

 

ج / 3 ص -209-       أن امرأة مات زوجها فجاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تستأذنه في الانتقال, فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم "إن إحداكن كانت تمكث في شر أحلاسها إلى الحول ثم تخرج فتلقي البعرة أفلا أربعة أشهر وعشرا" فدل الحديث أن عدتهن من قبل نزول هذه الآية كانت حولا وأنهن كن في شر أحلاسهن مدة الحول ثم انتسخ ما زاد على هذه المدة وبقي الحكم فيما بقي على ما كان قبل النسخ, وهو أن تمكث المعتدة هذه المدة في شر أحلاسها, وهذا تفسير الحداد. "وأما" الإجماع فإنه روي عن جماعة من الصحابة رضي الله عنهم منهم عبد الله بن عمر وعائشة وأم سلمة وغيرهم رضي الله عنهم مثل قولنا وهو قول السلف. واختلف في المطلقة ثلاثا أو بائنا قال أصحابنا: يلزمها الحداد. وقال الشافعي: لا يلزمها الحداد. وجه قوله أن الحداد في المنصوص عليه إنما وجب لحق الزوج تأسفا على ما فاتها من حسن العشرة وإدامة الصحبة إلى وقت الموت وهذا المعنى لم يوجد في المطلقة؛ لأن الزوج أوحشها بالفرقة وقطع الوصلة باختيار ولم يمت عنها فلا يلزمها التأسف, "ولنا" أن الحداد إنما وجب على المتوفى عنها زوجها لفوات النكاح الذي هو نعمة في الدين خاصة في حقها لما فيه من قضاء شهوتها وعفتها عن الحرام وصيانة نفسها عن الهلاك بدرور النفقة, وقد انقطع ذلك كله بالموت فلزمها الإحداد إظهارا للمصيبة والحزن, وقد وجد هذا المعنى في المطلقة الثلاث والمبانة فيلزمها الإحداد, وقوله: الإحداد في عدة الوفاة وجب لحق الزوج لا يستقيم؛ لأنه لو كان لحق الزوج لما زاد على ثلاثة أيام كما في موت الأب. وأما الثالث في شرائط وجوبه فهي أن تكون المعتدة بالغة عاقلة مسلمة من نكاح صحيح سواء كانت متوفى عنها زوجها أو مطلقة ثلاثا أو بائنا فلا يجب على الصغيرة والمجنونة الكبيرة والكتابية والمعتدة من نكاح فاسد والمطلقة طلاقا رجعيا, وهذا عندنا. وقال الشافعي: يجب على الصغيرة والكتابية؛ وجه قوله أن الحداد من أحكام العدة وقد لزمتها العدة فيلزمها حكمها, "ولنا" أن الحداد عبادة بدنية فلا تجب على الصغيرة والكافرة كسائر العبادات البدنية من الصوم والصلاة وغيرهما بخلاف العدة فإنها اسم لمضي زمان وذا لا يختلف بالإسلام والكفر والصغر والكبر, على أن بعض أصحابنا قالوا: لا تجب عليهما العدة وإنما يجب علينا أن لا نتزوجهما ولا إحداد على أم الولد إذا أعتقها مولاها أو مات عنها؛ لأنها تعتد من الوطء كالمنكوحة نكاحا فاسدا ولا إحداد على المعتدة من نكاح فاسد فكذا عليها ولا إحداد على المطلقة طلاقا رجعيا؛ لأنه يجب إظهارا للمصيبة على فوت نعمة النكاح, والنكاح بعد الطلاق الرجعي غير فائت بل هو قائم من كل وجه فلا يجب الحداد بل يستحب لها أن تتزين لتحسن في عين الزوج فيراجعها ولا إحداد في النكاح الفاسد؛ لأن النكاح الفاسد ليس بنعمة في الدين؛ لأنه معصية ومن المحال إيجاب إظهار المصيبة على فوات المعصية بل الواجب إظهار السرور والفرح على فواتها. "وأما" الحرية فليست بشرط لوجوب الإحداد فيجب على الأمة والمدبرة وأم الولد إذا كان لها زوج فمات عنها أو طلقها والمكاتبة والمستسعاة؛ لأن ما وجب له الحداد لا يختلف بالرق والحرية فكانت الأمة فيه كالحرة والله أعلم. ومنها وجوب النفقة والسكنى وهو مؤنة السكنى لبعض المعتدات دون بعض, وجملة الكلام أن المعتدة إما إن كانت عن طلاق أو عن فرقة بغير طلاق وأما إن كانت عن وفاة, ولا يخلو من أن تكون معتدة من نكاح صحيح أو فاسد أو ما هو في معنى النكاح الفاسد: فإن كانت معتدة من نكاح صحيح عن طلاق فإن كان الطلاق رجعيا فلها النفقة والسكنى بلا خلاف؛ لأن ملك النكاح قائم فكان الحال بعد الطلاق كالحال قبله ولما نذكر من دلائل أخر, وإن كان الطلاق ثلاثا أو بائنا فلها النفقة والسكنى إن كانت حاملا بالإجماع لقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وإن كانت حائلا فلها النفقة والسكنى عند أصحابنا. وقال الشافعي لها السكنى ولا نفقة لها وقال ابن أبي ليلى: لا نفقة لها ولا سكنى واحتجا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} خص الحامل بالأمر بالإنفاق عليها فلو وجب الإنفاق على غير الحامل لبطل التخصيص. وروي عن فاطمة بنت قيس أنها قالت: "طلقني زوجي ثلاثا فلم يجعل لي النبي صلى الله عليه وسلم نفقة ولا سكنى" ولأن النفقة تجب بالملك, وقد زال الملك بالثلاث والبائن إلا أن الشافعي يقول: عرفت وجوب السكنى في الحامل بالنص بخلاف البائن, "ولنا" قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ

 

ج / 3 ص -210-       حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} وفي قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه "أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم" ولا اختلاف بين القراءتين لكن إحداهما تفسير الأخرى كقوله عز وجل: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه "أيمانهما" وليس ذلك اختلاف القراءة بل قراءته تفسير القراءة الظاهرة كذا هذا. ولأن الأمر بالإسكان أمر بالإنفاق؛ لأنها إذا كانت محبوسة ممنوعة عن الخروج لا تقدر على اكتساب النفقة فلو لم تكن نفقتها على الزوج ولا مال لها لهلكت, أو ضاق الأمر عليها وعسر, وهذا لا يجوز وقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} من غير فصل بين ما قبل الطلاق وبعده في العدة, ولأن النفقة إنما وجبت قبل الطلاق لكونها محبوسة عن الخروج والبروز لحق الزوج وقد بقي ذلك الاحتباس بعد الطلاق في حالة العدة وتأبد بانضمام حق الشرع إليه؛ لأن الحبس قبل الطلاق كان حقا للزوج على الخلوص وبعد الطلاق تعلق به حق الشرع حتى لا يباح لها الخروج, وإن أذن الزوج لها بالخروج فلما وجبت به النفقة قبل التأكد فلأن تجب بعد التأكد أولى. وأما الآية ففيها أمر بالإنفاق على الحامل وأنه لا ينفي وجوب الإنفاق على غير الحامل ولا يوجبه أيضا فيكون مسكونا موقوفا على قيام الدليل وقد قام دليل الوجوب وهو ما ذكرنا. "وأما" حديث فاطمة بنت قيس فقد رده عمر رضي الله عنه فإنه روي أنها لما روت "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجعل لها سكنى ولا نفقة قال عمر رضي الله عنه: لا ندع كتاب ربنا ولا سنة نبينا بقول امرأة لا ندري أصدقت أم كذبت" وفي بعض الروايات قال:" لا ندع كتاب ربنا وسنة نبينا ونأخذ بقول امرأة لعلها نسيت أو شبه لها, سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها السكنى والنفقة" وقول عمر رضي الله عنه "لا ندع كتاب ربنا" يحتمل أنه أراد به قوله عز وجل: أسكنوهن من حيث سكنتم وأنفقوا عليهن من وجدكم, كما هو قراءة ابن مسعود رضي الله عنه ويكون هذا قراءة عمر أيضا ويحتمل أنه أراد قوله عز وجل: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} مطلقا, ويحتمل أنه أراد بقوله: لا ندع كتاب ربنا في السكنى خاصة وهو قوله عز وجل: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} كما هو القراءة الظاهرة, وأراد بقوله رضي الله عنه "سنة نبينا" ما روي عنه رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "لها النفقة والسكنى" ويحتمل أن يكون عند عمر رضي الله عنه في هذا تلاوة رفعت عينها وبقي حكمها فأراد بقوله: "لا ندع كتاب ربنا" تلك الآية كما روي عنه أنه قال في باب الزنا: كنا نتلوا في سورة الأحزاب: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما نكالا من الله والله عزيز حكيم, ثم رفعت التلاوة وبقي حكمها. كذا ههنا وروي أن زوجها أسامة بن زيد كان إذا سمعها تتحدث بذلك حصبها بكل شيء في يده. وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت لها: لقد فتنت الناس بهذا الحديث وأقل أحوال إنكار الصحابة على راوي الحديث أن يوجب طعنا فيه, ثم قد قيل في تأويله إنها كانت تبدو على أحمائها أي تفحش عليهم باللسان من قولهم: بذوت على فلان, أي فحشت عليه, أي كانت تطيل لسانها عليهم بالفحش فنقلها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيت ابن أم مكتوم ولم يجعل لها نفقة ولا سكنى؛ لأنها صارت كالناشزة إذ كان سبب الخروج منها, وهكذا نقول فيمن خرجت من بيت زوجها في عدتها أو كان منها سبب أوجب الخروج أنها لا تستحق النفقة ما دامت في بيت غير الزوج, وقيل: إن زوجها كان غائبا فلم يقض لها بالنفقة والسكنى على الزوج لغيبته؛ إذ لا يجوز القضاء على الغائب من غير أن يكون عنه خصم حاضر, فإن قيل: روي أن زوجها خرج إلى الشام وقد كان وكل أخاه فالجواب أنه إنما وكله بطلاقها ولم يوكله بالخصوصية, وقولهما إن النفقة تجب لها بمقابلة الملك ممنوع فإن للملك ضمانا آخر وهو المهر على ما نذكر إن شاء الله تعالى, وإنما تجب بالاحتباس, وقد بقي بعد الطلاق الثلاث والبائن فتبقى النفقة وسواء كانت المعتدة عن طلاق كبيرة أو صغيرة مسلمة أو كتابية؛ لأن ما ذكرنا من الدلائل لا يوجب الفصل, ولا نفقة ولا سكنى للأمة المعتدة عن طلاق إذا لم يبوئها المولى بيتا؛ لأنه إذا لم يبوئها المولى بيتا فحق الحبس لم يثبت للزوج. ألا ترى أن لها أن تخرج فإن كان المولى قد بوأها بيتا فلها السكنى والنفقة لثبوت حق الحبس للزوج, وكذلك

 

ج / 3 ص -211-       المدبرة وأم الولد إذا طلقهما وبوأهما المولى بيتا أو لم يبوئهما؛ لأن كل واحدة منهما أمة, وكذا المكاتبة والمستسعاة على أصل أبي حنيفة, وإن أعتقت أم الولد أو مات عنها مولاها فلا نفقة لها ولا سكنى؛ لأنها غير محبوسة. ألا ترى أن لها أن تخرج فلا تجب لها النفقة والسكنى كالمعتدة من نكاح فاسد؛ لأن عدتها كعدة المنكوحة نكاحا فاسدا, هذا إذا كانت معتدة عن طلاق من نكاح صحيح فإن كانت معتدة من نكاح فاسد فلا سكنى لها ولا نفقة؛ لما ذكرنا أن حال العدة معتبرة بحال النكاح ولا سكنى ولا نفقة في النكاح الفاسد, فكذا في العدة منه, هذا إذا كانت معتدة عن طلاق فإن كانت معتدة عن فرقة بغير طلاق من نكاح صحيح فإن كانت الفرقة من قبله فلها النفقة والسكنى كيفما كانت الفرقة, وإن كانت من قبلها فإن كانت بسبب ليس بمعصية كالأمة إذا أعتقت فاختارت نفسها, وامرأة العنين إذا اختارت الفرقة فلها السكنى والنفقة, وإن كانت بسبب هو معصية كالمسلمة قبلت ابن زوجها بشهوة قالوا: لا نفقة لها ولها السكنى؛ لأن السكنى فيها حق الله تعالى وهي مسلمة مخاطبة بحقوق الله تعالى. وأما النفقة فتجب حقا لها على الخلوص فإذا وقعت الفرقة من قبلها بغير حق فقد أبطلت حق نفسها بخلاف المعتقة وامرأة العنين؛ لأن الفرقة وقعت من قبلهما بحق فلا تسقط النفقة, هذا إذا كانت معتدة عن طلاق أو عن فرقة بغير طلاق, فإن كانت معتدة عن وفاة فلا سكنى لها ولا نفقة في مال الزوج سواء كانت حائلا أو حاملا فإن النفقة في باب النكاح لا تجب بعقد النكاح دفعة واحدة كالمهر وإنما تجب شيئا فشيئا على حسب مرور الزمان, فإذا مات الزوج انتقل ملك أمواله إلى الورثة فلا يجوز أن تجب النفقة والسكنى في مال الورثة, وسواء كانت حرة أو أمة, كبيرة أو صغيرة, مسلمة أو كتابية؛ لأن الحرة المسلمة الكبيرة لما لم تستحق النفقة والسكنى في عدة الوفاة فهؤلاء أولى, وكذا المعتدة من نكاح فاسد في الوفاة لا سكنى لها ولا نفقة؛ لأنهما لا يستحقان بالنكاح الصحيح في هذه العدة فبالنكاح الفاسد أولى, والله أعلم. ومنها ثبوت النسب إذا جاءت بولد, والكلام في هذا الموضع في موضعين في الأصل:. أحدهما في بيان ما يثبت فيه نسب ولد المعتدة من المدة, والثاني في بيان ما يثبت به نسبه من الحجة أي يظهر به: أما الأول فالأصل فيه أن أقل مدة الحمل ستة أشهر؛ لقوله عز وجل: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} جعل الله تعالى ثلاثين شهرا مدة الحمل والفصال جميعا ثم جعل سبحانه وتعالى الفصال وهو الفطام في عامين بقوله تعالى: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} فيبقى للحمل ستة أشهر, وهذا الاستدلال منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما فإنه روى أن رجلا تزوج امرأة فجاءت بولد لستة أشهر فهم عثمان رضي الله عنه برجمها فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أما إنه لو خاصمتكم بكتاب الله لخصمتكم قال الله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً} وقال سبحانه: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} أشار إلى ما ذكرنا فدل أن أقل مدة الحمل ستة أشهر وأكثرها سنتان عندنا. وعند الشافعي أربع سنين, وهو محجوج بحديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لا يبقى الولد في رحم أمه أكثر من سنتين ولو بفلكة مغزل" والظاهر أنها قالت ذلك سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لأن هذا باب لا يدرك بالرأي والاجتهاد, ولا يظن بها أنها قالت ذلك جزافا وتخمينا فتعين السماع, وأصل آخر أن كل مطلقة لم تلزمها العدة بأن لم تكن مدخولا بها فنسب ولدها لا يثبت من الزوج إلا إذا علم يقينا أنه منه, وهو أن تجيء به لأقل من ستة أشهر وكل مطلقة عليها العدة فنسب ولدها يثبت من الزوج إلا إذا علم يقينا أنه ليس منه, وهو أن تجيء به لأكثر من سنتين, وإنما كان كذلك؛ لأن الطلاق قبل الدخول يوجب انقطاع النكاح بجميع علائقه فكان النكاح من كل وجه زائلا بيقين, وما زال بيقين لا يثبت إلا بيقين مثله فإذا جاءت بولد لأقل من ستة أشهر من يوم الطلاق فقد تيقنا أن العلوق وجد في حال الفراش وأنه وطئها وهي حامل منه إذ لا يحتمل أن يكون بوطء بعد الطلاق؛ لأن المرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر فكان من وطء وجد على فراش الزوج, وكون العلوق في فراشه يوجب ثبوت النسب منه, فإذا جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا لم يستيقن بكونه مولودا على الفراش لاحتمال أن يكون بوطء بعد الطلاق, والفراش كان زائلا بيقين فلا يثبت مع الشك, وعلى هذا يخرج ما إذا طلق امرأته قبل الدخول بها فجاءت بولد لأقل

 

ج / 3 ص -212-       من ستة أشهر مذ طلقها أنه يلزمه لتيقننا بعلوقه حال قيام النكاح, وإذا جاءت به لستة أشهر أو أكثر لا يلزمه لعدم التيقن بذلك, ويستوي في هذا الحكم ذوات الأقراء وذوات الأشهر لما قلنا. وعلى هذا يخرج ما إذا قال: كل امرأة أتزوجها فهي طالق فتزوج امرأة فطلقت فجاءت بولد أنها إن جاءت به لستة أشهر من وقت النكاح يثبت النسب؛ لأنها إذا جاءت به لستة أشهر من وقت النكاح كان لأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق؛ لأن الطلاق يقع عقيب النكاح؛ لأن الحالف أوقعه كذلك. ألا ترى أنه قال: فهي طالق والفاء  للتعقيب بلا تراخي. وقال زفر: لا يثبت النسب, وروي أن محمدا كان يقول مثل قوله ثم رجع. وجه قول زفر أن إثبات النسب بعقد إمكان بوطء ولم يوجد؛ إذ ليس بين النكاح والطلاق زمان يسع فيه الوطء بل كما وجد النكاح وقع الطلاق عقيبه بلا فصل فلا يتصور الوطء فلا يثبت النسب, وإنا نقول يمكن تصوره بأن كان يخالط امرأة فدخل الرجال عليه فتزوجها وهم يسمعون كلامه وأنزل من ساعته وإذا تصور الوطء فالنكاح قائم مقام الوطء المنزل عند تصوره شرعا؛ لقوله صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" وإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت النكاح لا يثبت النسب لأنا علمنا يقينا أنه لوطء وجد قبل النكاح. ثم إذا جاءت به لستة أشهر من وقت النكاح حتى يثبت النسب يجب على الزوج مهر كامل. كذا ذكر في ظاهر الرواية؛ لأنها صارت في حكم المدخول بها وذكر أبو يوسف في الأمالي أن القياس أن يجب عليه مهر ونصف مهر, نصف مهر بالطلاق قبل الدخول, ومهر كامل بالدخول, ووجهه أن يجعل الطلاق واقعا كما تزوج فيجب نصف مهر لوجود الطلاق قبل الدخول ثم يجعل واجبا بعد الدخول بناء على أن عنده أن الطلاق غير واقع؛ لأنه يرى أن تعليق النكاح بالملك لا يصلح كما هو مذهب الشافعي فيجب المهر بهذا الوطء ويثبت النسب؛ لأن المسألة مجتهد فيها فلا يكون فعله زنا إلا أن أبا حنيفة استحسن وقال: لا يجب إلا مهر واحد؛ لأنها كالمدخول بها من طريق الحكم فيتأكد المهر.
وإن طلقها بعد الدخول بها فجاءت بولد فجملة الكلام في المعتدة أن يقال: المعتدة لا يخلو إما إن كانت معتدة عن طلاق أو غيره من أسباب الفرقة, وأما إن كانت معتدة من وفاة, وكل واحدة منهما لا يخلو من أن تكون من ذوات الأقراء أو من ذوات الأشهر كانت أقرت بانقضاء العدة أو لم تقر, فإن كانت معتدة عن طلاق فالطلاق لا يخلو إما أن يكون بائنا "وأما" أن يكون رجعيا, فإن كان بائنا وهي من ذوات الأقراء ولم تكن أقرت بانقضاء العدة فجاءت بولد فإن جاءت به إلى سنتين عند الطلاق لزمه؛ لأنه لا يحتمل أن يكون العلوق من وطء حادث بعد الطلاق, ويحتمل أن يكون من وطء وجد في حال قيام النكاح وكانت حاملا وقت الطلاق؛ لأن الولد يبقى في البطن إلى سنتين بالاتفاق, وهذا ظاهر الاحتمالين إذ الظاهر من حال المسلمة أن لا تتزوج في العدة, وحمل أمور المسلمين على الصلاح والسداد واجب ما أمكن؛ فيحمل عليه أو نقول النكاح كان قائما بيقين والفراش كان ثابتا بيقين لقيام النكاح, والثابت بيقين لا يزول إلا بيقين مثله فإذا كان احتمال العلوق على الفراش قائما لم نستيقن بانقضاء العدة وزوال النكاح من كل وجه فلم نستيقن بزوال الفراش فلا نحكم بالزوال بالشك, وإن جاءت به لأكثر من سنتين لم يلزمه إن أنكره؛ لأنا تيقنا أنه ليس منه؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين فلا يثبت نسبه منه ما لم يدع فإذا ادعى ثبت النسب منه, وهل يشترط تصديقها فيه؟ روايتان, واختلف في انقضاء عدتها. قال أبو حنيفة ومحمد: يحكم بانقضائها قبل الولادة بستة أشهر وترد ما أخذت من نفقته هذه المدة, وقال أبو يوسف: انقضاء عدتها بوضع الحمل ولا ترد شيئا من النفقة. وجه قوله أنه يحتمل أنه وطئها أجنبي بشهبة ويحتمل أن الزوج وطئها بشبهة فلا ترد النفقة بالشك, ولهما أن الولد لا بد وأن يكون من وطء حادث بعد الطلاق؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين فلا يجوز أن يحمل على أن الزوج وطئها؛ لأنه حرام ولا على أن أجنبيا وطئها بشبهة؛ لأن ذلك حرام أيضا, وظاهر حال المسلم التحرج عن الحرام فتعين الحمل على وطء حلال وهو الوطء في نكاح صحيح فيحمل على أن عدتها قد انقضت وتزوجت, وأقل مدة الحمل ستة أشهر فوجب رد نفقة ستة أشهر؛ لأنه تبين أنها لم تكن عليه, وقد خرج الجواب عما ذكره أبو يوسف على أنا إن حملنا على أن أجنبيا وطئها

 

ج / 3 ص -213-       بشبهة تسقط النفقة عن زوجها؛ لأنهم قالوا في المنكوحة إذا تزوجت فحملت من غير زوجها أنه لا نفقة لها عليه, وإن كانت أقرت بانقضاء العدة وذلك في مدة تنقضي في مثلها العدة ثم جاءت بولد في سنتين, فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر من يوم أقرت لزمه أيضا, وإن جاءت بولد لستة أشهر فصاعدا من وقت الإقرار لم يلزمه؛ لأن الأصل أن المعتدة مصدقة في الإخبار عن انقضاء عدتها إذ الشرع ائتمنها على ذلك فتصدق ما لم يظهر غلطها أو كذبها بيقين فإذا جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار ظهر غلطها أو كذبها؛ لأنه تبين أنها كانت معتدة وقت الإقرار إذ المرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر, فإقرارها بانقضاء العدة وهي معتدة يكون غلطا أو يكون كذبا إذ هو إخبار عن الخبر لا على ما هو به, وهذا حد الكذب فالتحق إقرارها بالعدم, وإذا جاءت به لستة أشهر أو أكثر لم يظهر كذبها لاحتمال أنها تزوجت بعد إقرارها بانقضاء العدة فجاءت منه بولد فلم يكن ولد زنا لكن ليس له نسب معروف فلزم تصديقها في إخبارها بانقضاء عدتها على الأصل فلم يكن الولد من الزوج, وهذا الذي ذكرنا مذهبنا. وقال الشافعي: إذا أقرت ثم جاءت بولد لتمام ستة أشهر يثبت نسبه ما لم تتزوج. وجه قوله أن إقرارها بانقضاء عدتها يتضمن إبطال حق الصبي وهو تضييع نسبه؛ لأن النسب يثبت حقا للصبي فلا يقبل, "ولنا" ما ذكرنا أن الشرع ائتمنها في الإخبار بانقضاء عدتها حيث نهاها عن كتمان ما في رحمها, والنهي عن الكتمان أمر بالإظهار وأنه أمر بالقبول, وقوله يتضمن إبطال حق الصبي في النسب ممنوع فإن إبطال الحق بعد ثبوته يكون, والنسب ههنا غير ثابت لما ذكرنا في الطلاق البائن, وإن جاءت به لأكثر من سنتين لزم الزوج أيضا وصار مراجعا لها, وإنما كان كذلك؛ لأن العلوق حصل من وطء بعد الطلاق ويمكن حمله على الوطء الحلال وهو وطء الزوج؛ لأن الطلاق الرجعي لا يحرم الوطء فيملك وطأها ما لم تقر بانقضاء العدة, فوجب حمله عليه, ومتى حمل عليه صار مراجعا بالوطء فيثبت النسب, وإن طال الزمان لجواز أن تكون ممتدة الطهر فوطئها في آخر الطهر فعلقت فصار مراجعا. فإن قيل هلا حمل عليه فيما إذا جاءت به لأقل من سنتين ليصير مراجعا لها فالجواب أن هناك لا يمكن الحمل عليه؛ لأنه لو حمل عليه للزم إثبات الرجعة بالشك؛ لأن الأمر محتمل يحتمل أن يكون العلوق من وطء بعد الطلاق فيكون رجعة ويحتمل أن يكون من وطء قبله فلا يكون رجعة, فلا تثبت الرجعة مع الشك, أما ههنا فلا يحتمل أن يكون العلوق من وطء قبل الطلاق؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين فتعين أن يكون من وطء بعد الطلاق وأمكن حمله على الوطء الحلال فيحمل عليه فيصير مراجعا بالوطء فافترقا, وإن كانت أقرت بانقضاء العدة في مدة تنقضي في مثلها العدة, فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ أقرت لزمه, وإن جاءت به لستة أشهر أو أكثر من وقت الإقرار لا يلزمه لما ذكرنا في الطلاق البائن, هذا إذا كانت المعتدة من طلاق من ذوات الأقراء فأما إذا كانت من ذوات الأشهر فإن كانت آيسة فجاءت بولد فإن كانت لم تقر بانقضاء العدة فحكمها حكم ذوات الأقراء وقد ذكرناه, سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا فإنها إذا جاءت بولد إلى سنتين من وقت الطلاق يثبت نسبه من الزوج؛ لأنها لما ولدت علم أنها ليست بآيسة بل هي من ذوات الأقراء وإن كانت أقرت بانقضاء عدتها فإن كانت أقرت به مفسرا بثلاثة أشهر فكذلك؛ لأنه لما تبين أنها لم تكن آيسة تبين أن عدتها لم تكن بالأشهر فلم يصح إقرارها بانقضاء عدتها بالأشهر فالتحق إقرارها بالعدم فجعل كأنها لم تقر أصلا, وإن كانت أقرت به مطلقا في مدة تصلح لثلاثة أقراء فإن ولدت لأقل من ستة أشهر منذ أقرت يثبت النسب وإلا فلا؛ لأنه لما بطل اليأس بعد حمل إقرارها على الأقراء بالانقضاء بالأشهر لبطلان الاعتداد بالأشهر فيحمل على الأقراء بالانقضاء بالأقراء حملا لكلام العاقلة المسلمة على الصحة عند الإمكان. وإن كانت صغيرة فجاءت بولد فالأمر لا يخلو من ثلاثة أوجه: إما إن كانت أقرت بانقضاء العدة بعد مضي ثلاثة أشهر, وأما إن كانت لم تقر ولكنها أقرت أنها حامل في مدة العدة وهي الثلاثة الأشهر, وأما إن سكتت, وكل وجه على وجهين: إما إن كان الطلاق بائنا وأما إن كان رجعيا. فإن كانت أقرت بانقضاء العدة عند مضي ثلاثة أشهر ثم جاءت بولد فإن جاءت به لأقل من ستة أشهر منذ أقرت ثبت النسب وإن جاءت به لستة أشهر أو أكثر لا يثبت؛ لأن إقرار الصغيرة

 

ج / 3 ص -214-       بانقضاء عدتها مقبول في الظاهر؛ لأنها أعرف بعدتها من غيرها, ولهذا لو أقرت بالبلوغ يقبل إقرارها غير أنها لما جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار فقد ظهر كذبها في إقرارها؛ لأنه تبين أنها كانت معتدة وقت الإقرار فألحق إقرارها بالعدم. وإذا جاءت به لستة أشهر فصاعدا لم يظهر كذبها في إقرارها لجواز أنها تزوجت بعد انقضاء عدتها وهذا الولد منه, والطلاق البائن والرجعي في هذا الوجه سواء, وإن لم تكن أقرت بانقضاء العدة ولكنها أقرت بالحمل في مدة العدة فإن كان الطلاق بائنا يثبت النسب إلى سنتين من وقت الطلاق وإن كان رجعيا يثبت إلى سبعة وعشرين شهرا؛ لأنها لما أقرت بالحمل في مدة العدة فقد حكمنا ببلوغها فصار حكمها حكم البالغة فإذا جاءت بولد يثبت النسب إلى سنتين من وقت الطلاق, وإن كان الطلاق بائنا لما مر أنه يحكم بالعلوق قبل الطلاق فإذا جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت لأنه يحمل على علوق حادث بعد الطلاق وإن كان الطلاق رجعيا يثبت النسب إلى سنتين وثلاثة أشهر؛ لأنه ظهر أن العلوق كان في العدة وعدتها ثلاثة أشهر والمعتدة من طلاق رجعي إذا علقت في العدة يصير الزوج مراجعا لها, وإن جاءت به لأكثر من سبعة وعشرين شهرا لا يثبت النسب؛ لأنه تبين أن العلوق كان بعد مضي الثلاثة الأشهر ولأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين فلا يصير مراجعا لها, وإن لم يقر بشيء اختلف فيه قال أبو حنيفة ومحمد: سكوتها كإقرارها بانقضاء العدة أنها إن جاءت لأقل من ستة أشهر من وقت الطلاق يثبت النسب وإن جاءت به لستة أشهر أو أكثر لا يثبت سواء كان الطلاق بائنا أو رجعيا. وقال أبو يوسف: سكوتها كإقرارها بالحمل أو دعوى الحمل أنه إن كان الطلاق بائنا يثبت النسب إلى سنتين وإن كان رجعيا يثبت إلى سبعة وعشرين شهرا. وجه قوله أن المراهقة يحتمل أن تكون عدتها بوضع الحمل لاحتمال أنها حبلت ولم تعلم بذلك فما لم تقر بانقضاء عدتها لا يحكم بالانقضاء كالمتوفى عنها زوجها, ولهما أن عدة الصغيرة ذات جهة واحدة وهي ثلاثة أشهر على اعتبار الأصل إذ الأصل فيها عدم البلوغ فكان انقضاؤها بانقضاء ثلاثة أشهر كإقرارها بانقضاء عدتها, ولو أقرت بانقضاء عدتها كان الجواب ما ذكرنا. كذا هذا بخلاف المتوفى عنها زوجها أنه لا يحكم بانقضاء عدتها بمضي الشهور؛ لأن عدتها ذات جهتين يحتمل أن تكون بالشهور ويحتمل أن تكون بوضع الحمل فما لم تقر بانقضاء العدة لا يحكم بأحد الأمرين هذا الذي ذكرنا حكم المعتدة عن طلاق وكل جواب عرفته في المعتدة من طلاق فهو الجواب في المعتدة من غير طلاق من أسباب الفرقة. وأما المتوفى عنها زوجها وهي مدخول بها فإن كانت من ذوات الأقراء فجاءت بولد فإن جاءت به ما بينها وبين سنتين ولم تكن أقرت بانقضاء العدة يثبت نسب ولدها من الزوج عند أصحابنا الثلاثة. وقال زفر: إذا لم تدع الحمل في مدة العدة ثم جاءت به لعشرة أشهر وعشرة أيام لا يثبت النسب. وجه قوله أن عدة المتوفى عنها زوجها هي الأشهر عند عدم الحمل, والأصل عدم الحمل فإذا مضت أربعة أشهر وعشر يحكم بانقضاء عدتها فصار كأنها أقرت بانقضاء العدة ثم جاءت بولد بعد ذلك, وهناك لو جاءت به لأقل من ستة أشهر من وقت الإقرار يثبت النسب. وإن جاءت به لستة أشهر فصاعدا لا يثبت كذا هذا, ولهذا كان الحكم في الصغيرة ما وصفنا كذا في الكبيرة. "ولنا" ما ذكرنا أن عدة المتوفى عنها زوجها ذات جهتين لجواز أن تكون حاملا ولا يعلم ذلك فلا تنقضي عدتها بالأشهر فما لم تقر بانقضاء عدتها لا يحكم بالانقضاء كالمعتدة من الطلاق وإن جاءت به لأكثر من سنتين لا يثبت لما مر في عدة الطلاق بخلاف الصغيرة فإن عدتها ذات جهة واحدة؛ لأن الأصل فيها عدم الحبل؛ لأن المحل لا يحتمل وإنما يصير محلا بالبلوغ وفيه شك فيبقى حكم الأصل, فأما عدة الكبيرة فذات جهتين لما قررنا من الاحتمال والتردد فلا يحكم بالانقضاء بالأشهر مع الاحتمال وإن أقرت بانقضاء عدتها ثم أتت بولد فإن أتت به لأقل من ستة أشهر منذ أقرت يثبت النسب وإن جاءت به لتمام ستة أشهر فهو على الاختلاف الذي ذكرناه في عدة الطلاق أنه لا يثبت النسب عندنا. وعند الشافعي يثبت ما لم تتزوج. وإن كانت من ذوات الأشهر فإن كانت آيسة أو صغيرة فحكمها في الفوات ما هو حكمها في الطلاق وقد ذكرناه هذا الذي ذكرناه كله في عدة الطلاق وغيره من الفراق وعدة الوفاة إذا جاءت المعتدة

 

ج / 3 ص -215-       بولد قبل التزويج بزوج آخر. فأما إذا تزوجت بزوج آخر ثم جاءت بولد فالأمر لا يخلو من أربعة أوجه: إما إن جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني وأما إن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني وأما إن جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني وأما إن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني فالولد للأول؛ لأنه لا يحتمل أن يكون من الثاني إذ المرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر ويحتمل أن يكون من الأول؛ لأن الولد يبقى في بطن أمه إلى سنتين وفي الحمل عليه حمل أمرها على الصلاح وأنه واجب ما أمكن. وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني فهو للثاني؛ لأنه لا يحتمل أن يكون من الأول إذ الظاهر من حال العاقلة المسلمة أن لا تتزوج وهي معتدة الغير فصح نكاح الثاني فكان مولودا على فراش صحيح فيثبت نسبه منه وإن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولأقل من ستة أشهر منذ تزوجها الثاني لم يكن للأول ولا الثاني؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين والمرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر وهل يجوز نكاح الثاني؟ في قول أبي حنيفة ومحمد جائز. وعند أبي يوسف فاسد؛ لأنه إذا لم يثبت النسب من الأول ولا من الثاني كان هذا الحمل من الزنا فيكون بمنزلة رجل تزوج امرأة وهي حامل من الزنا. وذلك على هذا الاختلاف على قول أبي حنيفة ومحمد جاز نكاحها ولكن لا يقربها حتى تضع, وعلى قول أبي يوسف لا يجوز النكاح ما لم تضع حملها هذا إذا لم يعلم وقت التزوج أنها تزوجت في عدتها فإن علم ذلك وقع النكاح الثاني فاسدا فجاءت بولد فإن النسب يثبت من الأول إن أمكن إثباته منه بأن جاءت به لأقل من سنتين منذ طلقها الأول أو مات عنها ولستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني؛ لأن النكاح الثاني فاسد ومهما أمكن إحالة النسب إلى الفراش الصحيح كان أولى وإن لم يمكن إثباته منه وأمكن إثباته من الثاني فالنسب يثبت من الثاني بأن جاءت به لأكثر من سنتين منذ طلقها الأول أو مات ولستة أشهر فصاعدا منذ تزوجها الثاني؛ لأن النكاح الثاني وإن كان فاسدا لكن لما تعذر إثبات النسب من النكاح الصحيح فإثباته من النكاح الفاسد أولى من الحمل على الزنا, والله الموفق. وإذا نعي إلى المرأة زوجها فاعتدت وتزوجت وولدت ثم جاء زوجها الأول فهي امرأته؛ لأنها كانت منكوحته ولم يعترض على النكاح شيء من أسباب الفرقة فبقيت على النكاح السابق ولكن لا يقربها حتى تنقضي عدتها من الثاني. "وأما" الولد فقد اختلف فيه قال أبو حنيفة: هو للأول. وقال أبو يوسف: إن كانت ولدته لأقل من ستة أشهر من حين وطئها الثاني فهو للأول, وإن كانت ولدته لستة أشهر أو أكثر فهو للثاني, وقال محمد إن كانت ولدته لسنتين من حين وطئها الثاني فهو للأول, وإن كانت ولدته لأكثر من سنتين فهو للثاني وجه قول محمد أنها إذا كانت ولدته لسنتين من حين وطئها الثاني أمكن حمله على الفراش الصحيح؛ لأن الولد يبقى في البطن إلى سنتين فيحمل عليه وإذا كانت ولدته إلى سنتين فيحمل عليه وإذا كانت ولدته لأكثر من سنتين لم يمكن حمله على الفراش الصحيح؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين فيحمل على الفراش الفاسد ضرورة. وجه قول أبي يوسف أنها إذا ولدت لأقل من ستة أشهر من حين وطئها الثاني تيقنا أنه ليس من الثاني؛ لأن المرأة لا تلد لأقل من ستة أشهر وأمكن حمله على الفراش فيحمل عليه وإذا ولدت لستة أشهر أو أكثر فالظاهر أنه من الثاني. وجه قول أبي حنيفة أن الفراش الصحيح للأول فيكون الولد للأول لقول النبي صلى الله عليه وسلم "الولد للفراش" ومطلق الفراش ينصرف إلى الصحيح, والله الموفق للصواب. وأما الثاني وهو بيان ما يثبت به نسب ولد المعتدة أي يظهر به. فجملة الكلام فيه أن المرأة إذا ادعت أنها ولدت هذا الولد لستة أشهر فإن صدقها الزوج فقد ثبت ولادتها, سواء كانت منكوحة أو معتدة وإن كذبها تثبت ولادتها بشهادة امرأة واحدة ثقة عند أصحابنا ويثبت نسبه منه حتى لو نفاه, يلاعن. وقال الشافعي: لا يثبت إلا بشهادة أربع نسوة ثقات. "وجه" قوله أن هذا نوع شهادة فلا بد من اعتبار العدد فيه كسائر أنواع الشهادات فيقام كل اثنتين منهن

 

ج / 3 ص -216-       مقام رجل فإذا كن أربعا يقمن مقام رجلين فيكمل العدد "ولنا" ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أجاز شهادة القابلة في الولادة فدل على جواز شهادتها في الولادة من غير اعتبار العدد ولأن الأصل فيما يقبل فيه قول النساء بانفرادهن أنه لا يشترط فيه العدد منهن على هذا أصول الشرع كما في رواية الإخبار والإخبار عن طهارة الماء ونجاسته وعن الوكالة وغير ذلك من الديانات والمعاملات. وقد خرج الجواب عما ذكره المخالف أن العدد شرط؛ لأن العدد إنما يشترط فيما لا يقبل فيه قول النساء بانفرادهن وههنا يقبل فلا يشترط العدد فيهن. ولو نفى الولد يلاعن؛ لأنه يثبت نسب الولد بالنكاح لا بشهادة القابلة, وإنما الثابت بشهادتها الولادة وتعين أي الذي ولدته هذا لجواز أنها ولدت ميتا أو حيا ثم مات فإذا نفى الولد فقد صار قاذفا لأمه بالزنا, وقذف الزوجة بالزنا يوجب اللعان. وكذلك إذا قال لأمته: إن كان في بطنك ولد فهو مني فشهدت امرأة على الولادة تصير الجارية أم ولد؛ لأن النسب يثبت بفراش الملك عند الدعوة. وقوله: إن كان في بطنك ولد فهو مني دعوى النسب والحاجة بعد ذلك إلى الولادة وتعين الولد, وذلك يثبت بشهادة القابلة وإذا ثبت النسب صارت الجارية أم ولد له ضرورة؛ لأن أمية الولد من ضرورات ثبوت النسب. ولو قال لامرأته: إذا ولدت فأنت طالق, فقالت: ولدت, وأنكر الزوج الولادة فشهدت قابلة على الولادة يثبت النسب بالإجماع وإن لم يكن الزوج أقر بالحبل ولا كان الحبل ظاهرا فهل يقع الطلاق؟ قال أبو حنيفة: لا يقع ما لم يشهد على الولادة رجلان أو رجل وامرأتان. وقال أبو يوسف ومحمد: يقع بشهادة القابلة إذا كانت عدلا. "وجه" قولهما أن الولادة قد تثبت بشهادة القابلة بالإجماع ولهذا ثبت النسب ومن ضرورة ثبوت الولادة وقوع الطلاق؛ لأنه معلق بها ولأبي حنيفة أن شهادة القابلة حجة ضرورية؛ لأنها شهادة فرد ثم هو أنثى فيظهر فيما فيه الضرورة, وفيما هو من ضرورات تلك الضرورة, والضرورة في الولادة, فيظهر فيها, فتثبت الولادة, ووقوع الطلاق ليس من ضرورات الولادة لتصور الولادة بدون الطلاق في الجملة فلا ضرورة إلى إثبات الولادة في حق وقوع الطلاق فلا يثبت في حقه. والنسب ما ثبت بالشهادة وإنما يثبت بالفراش لقيام النكاح, وإنما الثابت بالشهادة الولادة, وتعين الولد ووقوع الطلاق ليس من ضرورات الولادة ولا من ضرورات ثبوت النسب أيضا, فلم يكن من ضرورة الولادة وثبوت النسب وقوع الطلاق, وإن كان الزوج قد أقر بالحبل أو كان الحبل ظاهرا يقع الطلاق بمجرد قولها وإن لم تشهد القابلة في قول أبي حنيفة. وعندهما لا يقع إلا بشهادة القابلة. ولا خلاف في أن النسب لا يثبت بدون شهادة القابلة "وجه" قولهما أن المرأة تدعي وقوع الطلاق والأصل أن المدعي لا يعطي شيئا بمجرد الدعوى؛ لأن دعوى المدعي عارضها إنكار المنكر وقد قال صلى الله عليه وسلم "لو أعطي الناس بدعواهم" الحديث إلا فيما لا يوقف عليه من جهة غيره فيجعل القول فيه قوله للضرورة, كما في الحيض. والولادة أمر يمكن الوقوف عليه من جهة غيرها فلا يقبل قولها فيه. ولهذا لم يثبت النسب بقولها بدون شهادة القابلة. كذا وقوع الطلاق؛ لأنها تدعي وهو ينكر. والقول قول المنكر حتى يقيم للمدعي حجته. وجه قول أبي حنيفة أنه قد ثبت الحبل وهو كون الولد في البطن بإقرار الزوج بالحبل أو يكون الحبل ظاهرا وأنه يفضي إلى الولادة لا محالة؛ لأن الحمل يوضع لا محالة فكانت الولادة أمرا كائنا لا محالة فيقبل فيه قولها كما في دم الحيض حتى لو قال لامرأته: إذا حضت فأنت طالق, فقالت: حضت, يقع الطلاق. كذا ههنا إلا أنه لم يقبل قولها في حق إثبات النسب بدون شهادة القابلة؛ لأنها متهمة في تعيين الولد فلا تصدق على التعيين في حق إثبات النسب ولا تهمة في التعيين في حق وقوع الطلاق فتصدق فيه من غير شهادة القابلة, ونظيره ما إذا قال لامرأته إذا حضت فأنت طالق وامرأتي الأخرى فلانة معك, فقالت حضت, وكذبها الزوج تطلق هي ولا تطلق ضرتها ويثبت حيضها في حقها ولا يثبت في حق ضرتها إلا بتصديق الزوج لكونها متهمة في حق ضرتها وانتفاء التهمة في حق نفسها. كذا ههنا, والله أعلم. وإن كانت معتدة من طلاق بائن أو من وفاة فجاءت بولد إلى سنتين فأنكر الزوج الولادة أو ورثته بعد وفاته وادعت هي فإن لم يكن الزوج أقر بالحبل ولا كان الحبل ظاهرا لا يثبت النسب إلا بشهادة رجلين أو رجل

 

ج / 3 ص -217-       وامرأتين على الولادة في قول أبي حنيفة. وعندهما يثبت بشهادة القابلة. وجه قولهما أن النكاح بعد الطلاق البائن والوفاة باق في حق الفراش فلا حاجة إلى ما يثبت به النسب كما في حال قيام النكاح, وإنما الحاجة إلى الولادة وتعيين الولد وذلك يثبت بشهادة القابلة كما في حال قيام النكاح ولأبي حنيفة أن الفراش لا يبقى بعد الولادة لانقطاع النكاح بجميع علائقه بانقضاء العدة بالولادة وتصير أجنبية, فكان القضاء بثبوت الولادة بشهادة القابلة قضاء بثبوت النسب لولد الأجنبية بشهادة النساء, ولا يجوز ذلك ولا يثبت إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين, وإن كان الزوج قد أقر بالحبل أو كان الحبل ظاهرا فالقول قولها في الولادة. وإن لم تشهد لها قابلة في قول أبي حنيفة وعندهما لا تثبت الولادة بدون شهادة القابلة, والكلام في الطرفين على النحو الذي ذكرنا. وإن كانت معتدة من طلاق رجعي فكذلك ذكره في كتاب الدعوى وسوى بين الرجعي والبائن؛ لأنها بعد انقضاء العدة أجنبية في الفصلين جميعا فلا تصدق على الولادة إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين عند أبي حنيفة إذا لم يكن الزوج مقرا بالحبل ولا كان الحبل ظاهرا. وإن كان قد أقر بالحبل أو كان الحبل ظاهرا فهو على الاختلاف الذي ذكرنا. ولو مات الزوج وأتت امرأته بولد بعد وفاته ما بينها وبين الولادة سنتين ولم يشهد على الولادة أحد لا القابلة ولا غيرها ولكن صدقها الورثة في أنها ولدته, ذكر في الجامع الصغير أنه يثبت نسبه بقولهم. وذكر في كتاب الدعوى أن نسب الولد يثبت إن كان ورثته ابنين أو ابنا وبنتين, واختلاف العبارتين يرجع إلى أن ثبوت نسبه بتصديقهم من طريق الشهادة أو من طريق الإقرار, فما ذكرنا في كتاب الدعوى يدل على أنه من طريق الشهادة حيث شرط أن يكون الورثة ابنين أو ابنا وبنتين. وما ذكرنا في الجامع يدل على أنه من طريق الإقرار؛ لأنه قال فصدقها الورثة, والشهادة لا تسمى تصديقا في العرف وكذا الحاجة إلى الشهادة عند المنازعة, ولا منازع ههنا ومن هذا إنشاء الاختلاف بين مشايخنا فاعتبر بعضهم التصديق منه شهادة وبعضهم إقرارا, فمن اعتبره شهادة قال لا يثبت نسبه إلا إذا كانت الورثة رجلين أو رجلا وامرأتين, ويشترط لفظ الشهادة ومجلس الحكم, وإذا صدقها البعض وجحد البعض؛ فإن صدقها رجلان منهم أو رجل وامرأتان يشارك الولد المقرين منهم والمنكرين جميعا منهم في الميراث؛ لأن الشهادة حجة مطلقة فكانت حجة على الكل فيظهر نسبه في حق الكل, ومن اعتبره إقرارا قال يثبت نسبه إذا صدقها جميع الورثة سواء كانوا ذكورا أو إناثا ولا يراعى لفظ الشهادة ومجلس الحكم فإذا صدقها بعض الورثة وجحد الباقون يثبت نسبه في حقهم ويشاركهم في نصيبهم من الميراث ولا يثبت في حق غيرهم؛ لأن إقرارهم حجة في حقهم لا في حق غيرهم. ومن هذا أيضا إنشاء الخلاف فيما إذا كان الوارث واحدا فصدقها في الولادة فقال الكرخي: إن نسبه يثبت بإقراره في قولهم جميعا. وذكر الطحاوي فيه الاختلاف فقال: لا يثبت نسبه في قول أبي حنيفة ومحمد, وفي قول أبي يوسف يثبت كأنهما اعتبرا قوله شهادة, وشهادة الفرد لا تقبل واعتبره أبو يوسف إقرارا وإقرار الفرد مقبول, هذا إذا صدقها الورثة أو بعضهم, فأما إذا لم يصدقها أحد منهم فهو على الاختلاف والتفصيل الذي ذكرنا أن الزوج إذا لم يكن أقر بالحمل ولا كان الحمل ظاهرا لا يثبت نسبه إلا بشهادة رجلين أو رجل وامرأتين على الولادة عند أبي حنيفة وعندهما لا يثبت نسبه بشهادة القابلة وإذا كان الزوج أقر بالحبل أو كان الحبل ظاهرا تثبت الولادة بمجرد قولها ولدت عند أبي حنيفة. وعندهما لا يثبت من غير شهادة القابلة, وقد مر الكلام في ذلك كله فيما تقدم والله تعالى الموفق. "رجل" قال لغلام هذا ابني ثم مات فجاءت أم الغلام فقالت أنا امرأته, لا شك أن الغلام يرثه؛ لأنه ثبت نسبه منه بإقراره, وهل ترثه هذه أم لا؟ ذكر في النوادر أنها ترثه استحسانا والقياس أن لا يكون لها الميراث. "وجه" القياس أنه يحتمل أن تكون أم الغلام حرة ويحتمل أن تكون أمة, ولو كانت حرة فيحتمل أن تكون هذه المرأة ويحتمل أن تكون غيرها, ولو كانت هذه المرأة فيحتمل أن يكون وطئها بنكاح صحيح ويحتمل بنكاح فاسد أو بشبهة نكاح فيقع الشك في الإرث فلا ترث بالشك. "وجه" الاستحسان أن سبب الاستحقاق للإرث في حقها يثبت بإقراره بنسب الولد وهو النكاح الصحيح؛ لأن المسألة مفروضة في امرأة معروفة

 

ج / 3 ص -218-       بالحرية وبأمومة هذا الولد فإذا أقر بنسب الولد أنه منه والنسب لا يثبت إلا بالفراش. والأصل في الفراش هو النكاح الصحيح فكان دعوى نسب الولد إقرارا منه أنه من النكاح الصحيح فإذا صدقها يثبت النكاح ظاهرا فترثه؛ لأن العمل بالظاهر واجب فأما إذا لم تكن معروفة بذلك وأنكرت الورثة كونها حرة أو أما له فلا ميراث لها؛ لأن الأمر يبقى محتملا فلا ترث بالشك والاحتمال, والله الموفق. ومما يتصل بحال قيام العدة عن الطلاق من الأحكام. منها الإرث عند الموت وجملة الكلام فيه أن المعتدة لا تخلو إما إن كانت من طلاق رجعي وأما إن كانت من طلاق بائن أو ثلاث والحال لا يخلو إما إن كانت حال الصحة وأما إن كانت حال المرض فإن كانت العدة من طلاق رجعي فمات أحد الزوجين قبل انقضاء العدة ورثه الآخر بلا خلاف سواء كان الطلاق في حال المرض أو في حال الصحة؛ لأن الطلاق الرجعي منه لا يزيل النكاح فكانت الزوجية بعد الطلاق قبل انقضاء العدة قائمة من وجه والنكاح القائم من كل وجه سبب لاستحقاق الإرث من الجانبين كما لو مات أحدهما قبل الطلاق, وسواء كان الطلاق بغير رضاها أو برضاها فإن ما رضيت به ليس بسبب لبطلان النكاح حتى يكون رضا ببطلان حقها في الميراث, وسواء كانت المرأة حرة مسلمة وقت الطلاق أو مملوكة أو كتابية ثم أعتقت أو أسلمت في العدة؛ لأن النكاح بعد الطلاق قائم من كل وجه ما دامت العدة قائمة وأنه سبب لاستحقاق الإرث. وإن كانت من طلاق بائن أو ثلاث فإن كان ذلك في حال الصحة فمات أحدهما لم يرثه صاحبه سواء كان الطلاق برضاها أو بغير رضاها, وإن كان في حال المرض فإن كان برضاها لا ترث بالإجماع, وإن كان بغير رضاها فإنها ترث من زوجها عندنا. وعند الشافعي لا ترث. ومعرفة هذه المسألة مبنية على معرفة سبب استحقاق الإرث وشرط الاستحقاق ووقته أما السبب فنقول: لا خلاف أن سبب استحقاق الإرث في حقها النكاح فإن الله عز وجل أدار الإرث فيما بين الزوجين على الزوجية بقوله سبحانه وتعالى: {وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ} إلى آخر ما ذكر سبحانه من ميراث الزوجين ولأن سبب الإرث في الشرع ثلاثة لا رابع لها: القرابة والولاء والزوجية, واختلف في الوقت الذي يصير النكاح سببا لاستحقاق الإرث, وعند الشافعي هو وقت الموت فإن كان النكاح قائما وقت الموت ثبت الإرث وإلا فلا. واختلف مشايخنا, قال بعضهم: هو وقت مرض الموت, والنكاح كان قائما من كل وجه من أول مرض الموت ولا يحتاج إلى إبقائه من وجه إلى وقت الموت ليصير سببا. وتفسير الاستحقاق عندهم هو ثبوت الملك من كل وجه للوارث من وقت المرض بطريق الظهور, ومن وجه وقت الموت مقصورا عليه وهو طريق الاستناد, وهما طريقتا مشايخنا المتقدمين. وقال بعضهم وهو طريق المتأخرين منهم إن النكاح القائم وقت مرض الموت سبب لاستحقاق الإرث هو ثبوت حق الإرث من غير ثبوت الملك للوارث أصلا لا من كل وجه ولا من وجه. "وجه" قول الشافعي أن الإرث لا يثبت إلا عند الموت؛ لأن المال قبل الموت ملك المورث بدليل نفاذ تصرفاته فلا بد من وجود السبب عند الموت, ولا سبب ههنا إلا النكاح وقد زال بالإبانة والثلاث فلا يثبت الإرث, ولهذا لا يثبت بعد انقضاء العدة ولا يرث الزوج منها بلا خلاف, ولو كان النكاح قائما في حق الإرث لورث؛ لأن الزوجية لا تقوم بأحد الطرفين فدل أنها زائلة. "ولنا" إجماع الصحابة رضي الله عنهم والمعقول: أما الإجماع فإنه روي عن ابن سيرين أنه قال: كانوا يقولون ولا يختلفون من فر من كتاب الله تعالى رد إليه أي من طلق امرأته ثلاثا في مرضه فإنها ترثه ما دامت في العدة. وهذا منه حكاية عن إجماع الصحابة رضي الله عنهم ومثله لا يكذب. وكذا روي توريث امرأة الفار عن جماعة من الصحابة من غير نكير, مثل عمر وعثمان وعلي وعائشة وأبي بن كعب رضي الله عنهم فإنه روي عن إبراهيم النخعي أنه قال: جاء عروة البارقي إلى شريح بخمس خصال من عند عمر رضي الله عنه منهن أن الرجل إذا طلق امرأته وهو مريض ثلاثا ورثت منه ما دامت في عدتها وروي عن الشعبي أنه قال: إن أم البنين بنت عيينة بن حصن كانت تحت عثمان رضي الله عنه فلما احتضر طلقها, وقد كان أرسل إليها بشرى فلما قتل أتت عليا رضي الله عنه فذكرت له ذلك فقال علي رضي الله عنه تركها حتى إذا أشرف على

 

ج / 3 ص -219-       الموت طلقها, فورثها. وروي أن عبد الرحمن بن عوف طلق امرأته تماضر الكلبية في مرضه آخر تطليقاتها الثلاث وكانت تحته أم كلثوم بنت عقبة أخت عثمان بن عفان فورثها عثمان رضي الله عنه وروي أنه قال ما أتهمه ولكن لا أريد أن تكون سنة. وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: إن المطلقة ثلاثا وهو مريض ترثه ما دامت في العدة وروي عن أبي بن كعب ترثه ما لم تتزوج فإن قيل إن ابن الزبير مخالف فإنه روي عنه أنه قال في قصة تماضر ورثها عثمان بن عفان رضي الله عنه ولو كنت أنا لم أورثها فكيف ينعقد الإجماع مع مخالفته؟ فالجواب أن الخلاف لا يثبت بقوله هذا؛ لأنه محتمل يحتمل أن يكون معنى قوله: لو كنت أنا لما ورثتها أي عندي أنها لا ترث ويحتمل أن يكون معناه أي ظهر له من الاجتهاد والصواب ما لو كنت مكانه لكان لا يظهر لي فكان تصويبا له في اجتهاده وأن الحق في اجتهاده فلا يثبت الاختلاف مع الاحتمال بل حمله على الوجه الذي فيه تحقيق الموافقة أولى, ويحتمل أنها كانت سألت الطلاق فرأى عثمان رضي الله عنه توريثها مع سؤالها الطلاق فيرجع قوله: لو كنت أنا لما ورثتها إلى سؤالها الطلاق فلما ورثها عثمان رضي الله عنه مع مسألتها الطلاق فعند عدم السؤال أولى على أنه روي أن ابن الزبير رضي الله عنه إنما قال ذلك في ولايته وقد كان انعقد الإجماع قبله منهم على التوريث فخلافه بعد وقوع الاتفاق منهم لا يقدح في الإجماع؛ لأن انقراض العصر ليس بشرط لصحة الإجماع على ما عرف في أصول الفقه. وأما المعقول فهو أن سبب استحقاق الإرث وجد مع شرائط الاستحقاق فيستحق الإرث كما إذا طلقها طلاقا رجعيا, ولا كلام في سبب الاستحقاق وشرائطه وإنما الكلام في وقت الاستحقاق فنقول: وقت الاستحقاق هو مرض الموت أما على التفسير الأول والثاني وهو ثبوت الملك من كل وجه أو من وجه فالدليل عليه النص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ودلالة الإجماع والمعقول: أما النص فما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة على أعمالكم" أي تصدق باستيفاء ملككم عليكم في ثلث أموالكم زيادة على أعمالكم أخبر عن منة الله تعالى على عباده أنه استبقى لهم الملك في ثلث أموالهم ليكون وسيلة إلى الزيادة في أعمالهم بالصرف إلى وجوه الخير؛ لأن مثل هذا الكلام يخرج مخرج الإخبار عن المنة, وآخر أعمارهم مرض الموت فدل على زوال ملكهم عن الثلثين إذ لو لم يزل لم يكن ليمن عليهم بالتصدق بالثلث بل بالثلثين إذ الحكيم في موضع بيان المنة لا يترك أعلى المنتين ويذكر أدناهما, وإذا زال ملكه عن الثلثين يئول إلى ورثته؛ لأنهم أقرب الناس إليه فيرضى بالزوال إليهم لرجوع معنى الملك إليه بالدعاء والصدقة وأنواع الخير بخلاف الأحاديث. وأما إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال في مرض موته لعائشة رضي الله عنها: إني كنت نحلتك جداد عشرين وسقا من مالي بالعالية وإنك لم تكوني حزتيه ولا قبضتيه وإنما هو اليوم مال الوارث ولم تدع عائشة رضي الله عنها ولا أنكر عليه أحد وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم فيكون إجماعا منهم على أن مال المريض في مرض موته يصير ملك الوارث من كل وجه أو من وجه. وأما دلالة الإجماع فهي أنه لا ينفذ تبرعه فيما زاد على الثلث في حق الأجانب, وفي حق الورثة لا ينفذ بشيء أصلا ورأسا حتى كان للورثة أن يأخذوا الموهوب من يد الموهوب له من غير رضاه إذا لم يدفع القيمة ولو نفذ لما كان لهم الأخذ من غير رضاه فدل عدم النفاذ على زوال الملك وإذا زال يزول إلى الورثة لما بينا وأما المعقول فهو أن المال الفاضل عن حاجة الميت يصرف إلى الورثة بلا خلاف والكلام فيما إذا فضل ووقع من وقت المرض الفراغ عن حوائج الميت فهذه الدلائل تدل على ثبوت الملك من كل وجه للوارث في المال الفاضل عن حوائج الميت فيدل على ثبوت الملك من وجه لا محالة. وأما على التفسير الثالث وهو ثبوت حق الملك رأسا فلدلالة الإجماع والمعقول: أما دلالة الإجماع فهو أن ينقض تبرعه بعد الموت ولولا تعلق حق الوارث بماله في مرض موته لكان التبرع تصرفا من أهل في محل مملوك له لا حق للغير فيه فينبغي أن لا ينقض فدل حق النقض على تعلق الحق. وأما المعقول فهو أن النكاح

 

ج / 3 ص -220-       حال مرض الموت صار وسيلة إلى الإرث عند الموت, ووسيلة حق الإنسان حقه؛ لأنه ينتفع به والطلاق البائن والثلاث إبطال لهذه الوسيلة فيكون إبطالا لحقها وذلك إضرار بها فيرد عليه, ويلحق بالعدم في حق إبطال الإرث في الحال عملا بقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا ضرر ولا ضرار في الإسلام" فلم يعمل الطلاق في الحال في إبطال سببية النكاح لاستحقاق الإرث وكونه وسيلة إليه دفعا للضرر عنها وتأخر عمله فيه إلى ما بعد انقضاء العدة, وكذلك إذا أبانها بغير طلاق بخيار البلوغ بأن اختار نفسه, وتقبيل ابنتها أو أمها وردته أن ذلك إن كان في الصحة لا ترث هي منه ولا هو منها بالإجماع كما لو أبانها بالطلاق لانعدام سبب الاستحقاق في وقت الاستحقاق وهو مرض الموت إلا في الردة بأن ارتد الزوج في حال صحته فمات على الردة أو قتل أو لحق بدار الحرب وهي في العدة فإنها ترث منه؛ لأن الردة من الزوج في معنى مرض الموت لما نذكر إن شاء الله تعالى وإن كانت هذه الأسباب في حال المرض فهو على الاختلاف الذي ذكرنا في الطلاق أنها ترث منه عندنا خلافا للشافعي ولا يرث هو منها بالإجماع. ولو جامعها ابنه مكرهة أو مطاوعة لا ترث, أما إذا كانت مطاوعة فلأنها رضيت بإبطال حقها وإن كانت مكرهة فلم يوجد من الزوج إبطال حقها المتعلق بالإرث لوقوع الفرقة بفعل غيره, وإن كانت البيونة من قبل المرأة كما إذا قبلت ابن زوجها أو أباه بشهوة طائعة أو مكرهة أو اختارت نفسها في خيار الإدراك أو العتاق أو عدم الكفاءة فإن كان ذلك في حال الصحة فإنهما لا يتوارثان بالإجماع كما إذا كانت البيونة من قبل الزوج, وكذا إذا ارتدت بخلاف ردة الزوج في حال صحته. ووجه الفرق أن ردة الزوج في معنى مرض موته؛ لأنها تفضي إلى الموت إلا أن احتمال الصحة باحتمال الإسلام قائم فإذا قتل على الردة أو مات عليها فقد زال الاحتمال, وكذا إذا ألحق بدار الحرب؛ لأن الظاهر أنه لا يعود فتقرر المرض فتبين أن سبب الاستحقاق كان ثابتا في وقت الاستحقاق وهو مرض الموت وأن سبب الفرقة وجد في مرض الموت فترث منه كما لو كان مريضا حقيقة فأما ردتها فليست في معنى مرض موتها ليقال ينبغي أن يرث الزوج منها وإن كانت هي لا ترث منه؛ لأنها لا تفضي إلى الموت؛ لأنها لا تقتل عندنا فلم يكن النكاح القائم حال ردتها سببا لاستحقاق الإرث في حقه لانعدامه وقت الاستحقاق وهو مرض الموت لذلك افترقا, والله عز وجل أعلم. وإن كان في حال المرض فإن كان في حال مرض الزوج لا ترث منه وإن كانت في العدة لعدم شرط الإرث وهو عدم رضاها بسبب الفرقة ولحصول الفرقة بفعل غير الزوج, ويرث الزوج منها إن كان سبب الفرقة منها في مرضها وماتت قبل انقضاء عدتها لوجوب سبب الاستحقاق في حقه وهو النكاح في وقت الاستحقاق وهو مرض موتها ولوجود سبب إبطال حقه منها في حال المرض, والقياس فيما إذا ارتدت في مرضها ثم ماتت في العدة أن لا يرثها زوجها وإنما يرثها استحسانا. وجه القياس أن الفرقة لم تقع بفعلها؛ لأن فعلها الردة والفرقة لا تقع بها وإنما تقع باختلاف الدينين ولا صنيع لها في ذلك فلم يوجد منها في مرضها إبطال حق الزوج ليرد عليها فلا يرث منها. وجه الاستحسان ما ذكرنا ولسنا نسلم أن الفرقة لم تقع بفعلها فإن الردة من أسباب الفرقة وقد حصلت منها في حال تعلق حقه بالإرث وهو مرض موتها فيرث منها والله عز وجل أعلم. وأما شرائط الاستحقاق فنوعان: نوع يعم أسباب الإرث كلها, ونوع يخص النكاح أما الذي يعم الأسباب كلها فمنها شرط الأهلية وهو أن لا يكون الوارث مملوكا ولا مرتدا ولا قاتلا, فلا يرث المملوك ولا المرتد من أحد ولا يرث القاتل من المقتول, ودلائل هذه الجملة تذكر في كتاب الفرائض إن شاء الله تعالى. ويعتبر وجود الأهلية منها وقت الطلاق ودوامها إلى وقت الموت حتى لو كانت مملوكة أو كتابية وقت الطلاق لا ترث وإن أعتقت أو أسلمت في العدة؛ لأن السبب لا ينعقد مفيدا للحكم بدون شرطه فإذا لم يكن وقت صيرورة النكاح سببا للاستحقاق وهو مرض الموت من أهل الميراث لم ينعقد سببا فلا يعتبر حدوث الأهلية بعد ذلك. ولو كانت مسلمة وقت الطلاق ثم ارتدت في عدتها ثم أسلمت فلا ميراث لها. وإن كانت من أهل الميراث وقت الطلاق أما على طريق الاستناد فلأن الحكم من وجه يثبت عند الموت فلا بد من قيام السبب من وجه عنده ليثبت ثم يستند وقد بطل بالردة رأسا

 

ج / 3 ص -221-       فتعين الاستناد, وكذا من يقول بثبوت الحل في المرض دون الملك يعتبر قيام النكاح في حق الإرث عند الموت ولم يبق لبطلانه بالردة. وأما على طريق الظهور المحض فيشكل تخريج هذه المسألة؛ لأنه تبين أن الملك من كل وجه كان ثابتا للوارث وقت المرض, والنكاح كان قائما من كل وجه في ذلك الوقت, والأهلية كانت موجودة, وبقاء السبب ليس بشرط لبقاء الحكم, وكذا الأهلية شرط الثبوت لا شرط البقاء. وهذا بخلاف ما إذا طلقها في مرضه ثم قبلت ابن زوجها أو أباه بشهوة في عدتها ترث؛ لأنها بالتقبيل لم تخرج عن أهلية الإرث إذ ليس تحت التقبيل إلا التحريم, والتحريم لا يبطل أهلية الإرث بخلاف الردة فإنها مبطلة للأهلية ومنها شرط المحلية وهو أن يكون المتروك مالا فاضلا فارغا عن حوائج الميت حاجة أصلية فلا يثبت الإرث في المال المشغول بحاجته الأصلية, ومنها اتحاد الدين, ومنها اتحاد الدار لما نذكر إن شاء الله تعالى في كتاب الفرائض. وأما الذي يخص النكاح فشرطان: أحدهما قيام العدة حتى لو مات الزوج بعد انقضاء عدتها لا ترث, وهذا قول عامة العلماء. وقال ابن أبي ليلى هذا ليس بشرط وترث بعد انقضاء العدة ما لم تتزوج والصحيح قول العامة؛ لأن جريان الإرث بعد الإبانة والثلاث ثبت بخلاف القياس بإجماع الصحابة وهم شرطوا قيام العدة على ما روينا عنهم فصار شرطا بالإجماع غير معقول فيتبع معقد الإجماع, ولأن العدة إذا كانت قائمة كان بعض أحكام النكاح قائما من وجوب النفقة والسكنى والفراش وغير ذلك فأمكن إبقاؤه في حق حكم الإرث فالتوريث يكون موافقا للأصول. وإذا انقضت العدة لم يبق شيء من علائق النكاح فكان القول بالتوريث نصب شرع بالرأي وهذا لا يجوز. وقالوا فيمن طلق زوجته في مرضه ودام به المرض أكثر من سنتين فمات ثم جاءت بولد بعد موته بشهر أنه لا ميراث لها في قول أبي حنيفة ومحمد. وقال أبو يوسف لها الميراث بناء على انقضاء عدتها بالأقراء وبوضع الحمل عندهما بالأقراء, وعنده بوضع الحمل. وجه قول أبي يوسف أن الحمل حادث؛ لأن الولد لا يبقى في البطن أكثر من سنتين فيحمل على أنها وطئت بشبهة فلا يحكم بانقضاء عدتها إلا بوضع الحمل فلم تكن مقضية العدة عند موت الزوج فترث وهما يقولان لا شك أن الولد حصل بوطء حادث بعد الطلاق فلا يخلو إما أن يحمل على أن الزوج وطئها أو غيره, لا سبيل إلى الأول؛ لأن وطأه إياها حرام والظاهر من حاله أنه لا يرتكب الحرام. ولا وجه للثاني؛ لأن غير الزوج إما أن وطئها بنكاح أو بشبهة والوطء بشبهة حرام أيضا فتعين حمل أمرها على النكاح الصحيح وهو أن عدتها انقضت قبل التزوج بستة أشهر ثم تزوجت فكانت عدتها منقضية قبل موت الزوج فلا ترث ولهذا قال أبو حنيفة ومحمد أنها ترد نفقة ستة أشهر. وقال أبو يوسف لا ترد والله عز وجل أعلم. والثاني عدم الرضا منها بسبب الفرقة وشرطها, فإن رضيت بذلك لا ترث؛ لأنها رضيت ببطلان حقها, والتوريث ثبت نظرا لها لصيانة حقها فإذا رضيت بإسقاط حقها لم تبق مستحقة للنظر وعلى هذا تخريج ما إذا قال لها في مرضه أمرك بيدك أو اختاري فاختارت نفسها أو قال لها طلقي نفسك ثلاثا ففعلت أو قالت لزوجها طلقني ثلاثا ففعل أو اختلعت من زوجها ثم مات الزوج وهي في العدة أنها لا ترث؛ لأنها رضيت بسبب البطلان أو بشرطه أما إذا اختارت نفسها فلا شك فيه؛ لأنها باشرت سبب البطلان بنفسها. وكذا إذا أمرها بالطلاق فطلقت وكذا إذا سألته الطلاق فطلقها؛ لأنها رضيت بمباشرة السبب من الزوج وفي الخلع باشرت الشرط بنفسها فكل ذلك دليل الرضا ولو قالت لزوجها طلقني للرجعة فطلقها ثلاثا ورثت؛ لأن ما رضيت به وهو الطلاق الرجعي ليس بسبب لبطلان الإرث وما هو سبب البطلان وهو ما أتى به الزوج ما رضيت به فترث. وعلى هذا يخرج ما إذا علق الطلاق في مرضه أو صحته بشرط وكان الشرط في المرض, وجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو إما إن كان التعليق ووجود الشرط جميعا في الصحة, "وأما" إن كانا جميعا في المرض, "وأما" إن كان أحدهما في الصحة والآخر في المرض ولا يخلو إما إن علق بفعل نفسه أو بفعلها أو بفعل أجنبي أو بأمر سماوي فإن كان التعليق ووجود الشرط جميعا في الصحة لا شك أنها لا ترث أي شيء كان المعلق به لانعدام سبب استحقاق الإرث في وقت الاستحقاق وهو وقت مرض

 

ج / 3 ص -222-       الموت وإن كانا جميعا في المرض فإنها ترث أي شيء كان المعلق به لوجود سبب الاستحقاق في وقته وانعدام الرضا منها ببطلان حقها إلا إذا كان التعليق بفعلها الذي لها منه بد فإنها لا ترث لوجود الرضا منها بالشرط؛ لأنها فعلت من اختيار ولو أجل العنين وهو مريض ومضى الأجل وهو مريض وخيرت المرأة فاختارت نفسها فلا ميراث لها؛ لأن الفرقة وقعت باختيارها؛ لأنها تقدر أن تصبر عليه فإذا لم تصبر واختارت نفسها وقد باشرت سبب بطلان حقها باختيارها ورضاها فلا ترث. ولو آلى منها وهو مريض وبانت بالإيلاء وهو مريض ورثت ما دامت في العدة لوجود سبب الاستحقاق في وقته مع شرائطه ولو كان صحيحا وقت الإيلاء وانقضت مدة الإيلاء وهو مريض لم ترث لعدم سبب الاستحقاق في وقته؛ لأنه باشر الطلاق في صحته ولم يصنع في المرض شيئا. ولو قذف امرأته في المرض أو لاعنها في المرض ورثت في قولهم جميعا؛ لأن سبب الفرقة وجد في وقت تعلق حقها بالإرث ولم يوجد منها دليل الرضا ببطلان حقها لكونها مضطرة إلى المطالبة باللعان لدفع الشين عن نفسها والزوج هو الذي اضطرها بقذفه فيضاف فعلها إليه كأنه أكرهها عليه. وإن كان القذف في الصحة واللعان في المرض ورثت في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد لا ترث. وجه قوله أن سبب الفرقة وجد من الزوج في حال لم يتعلق حقها بالإرث وهو حال الصحة, والمرأة مختارة في اللعان فلا يضاف إلى الزوج. ولهما أن فعل المرأة يضاف إلى الزوج؛ لأنها مضطرة في المطالبة باللعان لاضطرارها إلى دفع العار عن نفسها والزوج هو الذي ألجأها إلى هذا فيضاف فعلها إليه كأنه أوقع الفرقة في المرض والله عز وجل أعلم. وإن كان أحدهما في الصحة والآخر في المرض فإن كان التعليق في الصحة والشرط في المرض فإن كان التعليق بأمر سماوي بأن قال لها إذا جاء رأس شهر كذا فأنت طالق, فجاء وهو مريض ثم مات وهي في العدة لا ترث عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر ترث. وجه قوله أن المعلق بالشرط كالمنجز عند الشرط فيصير قائلا عند الشرط أنت طالق ثلاثا وهو مريض. "ولنا" أن الزوج لم يصنع في مرض موته شيئا لا السبب ولا الشرط ليرد عليه فعله فلم يصر فارا, وقوله المعلق بالشرط يجعل منجزا عند الشرط ممنوع بل يقع الطلاق بالكلام السابق من غير أن يقدر باقيا إلى وقت وجود الشرط على ما عرف في مسائل الخلاف. وكذا إن كان بفعل أجنبي سواء كان منه بد كقدوم زيد أو لا بد منه كالصلاة المفروضة والصوم المفروض ونحوهما لما قلنا إنه لم يوجد من الزوج صنع في المرض لا بمباشرة السبب ولا بمباشرة الشرط, وإن كان بفعل نفسه ترث سواء كان فعلا له منه بد كما إذا قال لها إن دخلت الدار فأنت طالق أو لا بد منه كما إذا قال إن صليت أنا الظهر فأنت طالق؛ لأنه باشر شرط بطلان حقها فصار متعديا عليها مضرا بها لمباشرة الشرط فيرد عليه رفعا للضرر عنها؛ لأن العذر لا يعتبر في موضع التعدي والضرر, كمن أتلف مال غيره نائما أو خاطئا أو أصابته مخمصة فأكل طعام غيره حتى يجب عليه الضمان ولم يجعل معذورا في مباشرة الفعل الذي لا بد له منه لما قلنا. كذا هذا. وإن كان بفعل المرأة فإن كان فعلا لها منه بد كدخول الدار وكلام زيد ونحو ذلك لا ترث؛ لأنها رضيت ببطلان حقها حيث باشرت شرط البطلان من غير ضرورة, وإن كان فعلا لا بد لها منه كالأكل والشرب والصلاة المفروضة والصوم المفروض وحجة الإسلام وكلام أبويها واقتضاء الديون من غريمها فإنها ترث في قول أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد لا ترث. وكذا إذا علق بدخول دار لا غنى لها عن دخولها فهو على هذا الخلاف. كذا روي عن أبي يوسف. وجه قول محمد أنه لم يوجد من الزوج مباشرة بطلان حقها ولا شرط البطلان فلا يصير فارا كما لو علق بأمر سماوي أو بفعل أجنبي أو بفعلها الذي لها منه بد. وجه قولهما أن المرأة فيما فعلت من الشرط عاملة للزوج من وجه؛ لأن منفعة عملها عائدة عليه؛ لأنه منعها عما لو امتنعت عنه لحق الزوج مأثم فإذا لم تمتنع وفعلت لم يلحقه مأثم فكانت منفعة فعلها عائدة عليه فجعل ذلك فعلا له من وجه فوجب إبطال فعله صيانة لحقها ومن الوجه الذي بقي مقصورا عليها ليس بدليل للرضا؛ لأنها فعلته مضطرة لدفع العقوبة عن نفسها في الآخرة لا برضاها. وقالوا فيمن فوض طلاق امرأته إلى الأجنبي في الصحة فطلقها في المرض أن التفويض إن كان على وجه لا يملك

 

ج / 3 ص -223-       عزله عنه بأن ملكه الطلاق لا ترث؛ لأنه لما لم يقدر على فسخه بعد مرضه صار الإيقاع في المرض كالإيقاع في الصحة. وإن كان التفويض على وجه يمكنه العزل عنه فطلق في المرض ورثت؛ لأنه لما أمكنه عزله بعد مرضه فلم يفعل وصار كأنه أنشأ التوكيل في المرض؛ لأن الأصل في كل تصرف غير لازم أن يكون لبقائه حكم الابتداء والله عز وجل الموفق. وعلى هذا إذا قال في صحته لامرأته إن لم آت البصرة فأنت طالق ثلاثا فلم يأتها حتى مات ورثته؛ لأنه علق طلاقها بعدم إتيانه البصرة فلما بلغ إلى حالة وقع اليأس له عن إتيانه البصرة فقد تحقق العدم وهو مريض في ذلك الوقت فقد باشر شرط بطلان حقها في الميراث فصار فارا فترثه. وإن ماتت هي وبقي الزوج ورثها؛ لأنها ماتت وهي زوجته؛ لأن الطلاق لم يقع لعدم شرط الوقوع وهو عدم إتيانه البصرة لجواز أن يأتيها بعد موتها فلم يقع الطلاق فماتت وهي زوجته فيرثها. ولو قال لها إن لم تأت البصرة فأنت طالق ثلاثا فلم تأتها حتى مات الزوج ورثته؛ لأنه مات وهو زوجها لعدم وقوع الطلاق لانعدام شرط وقوعه؛ لأنها ما دامت حية يرجى منها الإتيان وإن ماتت هي وبقي الزوج لم يرثها؛ لأنه لم يوجد منها سبب الفرقة في مرضها فلم تصر فارة فلا يرثها. ولو قال لها إن لم أطلقك فأنت طالق ثلاثا فلم يطلقها حتى مات ورثته؛ لأنه علق طلاقها بشرط عدم التطليق منه وقد تحقق العدم إذا صار إلى حالة لا يتأتى منه التطليق وهو مريض في تلك الحالة فيصير فارا بمباشرة شرط بطلان حقها فترثه. ولو ماتت هي وبقي الزوج لم يرثها؛ لأنها لم تصر فارة لانعدام سبب الفرقة منها في مرضها فلا يرثها. وكذلك لو قال لها إن لم أتزوج عليك فأنت طالق ثلاثا فلم يفعل حتى مات ورثته. وإن ماتت هي وبقي الزوج لم يرثها لما ذكرنا في الحلف بالطلاق. ولو قال لامرأتين له في صحته إحداكما طالق ثم مرض فعين الطلاق في إحداهما ثم مات ورثته المطلقة؛ لأن وقوع الطلاق المضاف إلى المبهم معلق بشرط البيان هو الصحيح لما نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى والصحيح إذا علق طلاق امرأته بفعل في مرضه فإنها ترثه والله عز وجل أعلم. وقال فيمن قال في صحته لأمتين تحته إحداكما طالق ثنتين فأعتقتا ثم اختار الزوج أن يوقع على إحداهما في مرضه فلا ميراث للمطلقة ولا يملك الزوج الرجعة وهو الجواب عن قول من يقول إن الطلاق واقع في المعين, والبيان تعيين من وقع عليه الطلاق لا شرط وقوع الطلاق. ويقال إنه قول محمد؛ لأن الإيقاع والوقوع حصلا في حال لاحق لواحدة منهما وهي حالة الصحة فلا ترث ولا يملك الزوج الرجعة؛ لأن الإيقاع صادفها وهي أمة وطلاق الأمة ثنتان على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثبت الحرمة الغليظة فلا يملك الرجعة وأما على قول من يقول الطلاق غير واقع للحال بل معلق وقوعه بالاختيار وهو تفسير الإيقاع في الذمة ويقال إنه قول أبي يوسف فينبغي أن ترث ويملك الرجعة؛ لأن وقوع الطلاق تعلق بشرط اختياره. والصحيح إذا علق طلاق امرأته بفعله ففعل وهو مريض ثم مات وهي في العدة ترثه سواء كان فعلا له منه بد, أو لا بد له منه كما إذا قال وهو صحيح إن دخلت أنا الدار فأنت طالق فدخلها وهو مريض يملك الرجعة؛ لأن الطلاق واقع عليها وهي حرة فلا تحرم حرمة غليظة فيملك مراجعتها. ولو كانت إحداهما حرة فقال في صحته إحداكما طالق ثنتين فأعتقت الأمة ثم مرض الزوج فبين الطلاق في الأمة فالطلاق رجعي وللمطلقة الميراث في قول أبي يوسف الأول وهو قول محمد ثم رجع أبو يوسف وقال إذا اختار أن يوقع على التي كانت أمة فإنها لا تحل له إلا بعد زوج وذكر هذه المسألة في الزيادات وقال في جوابها إنها لا تحل له إلا بعد زوج ولها الميراث ولم يذكر خلافا. واختلاف الجواب بناء على اختلاف الطريق فمن جعل الطلاق واقعا في الجملة وجعل البيان تعيين من وقع عليه الطلاق يقول لا يملك الرجعة؛ لأنه وقع الطلاق عليها وهي أمة فحرمت حرمة غليظة وكان ينبغي أن لا ترث؛ لأن الإيقاع والوقوع كل ذلك وجد في حال الصحة؛ لأنه إنما قال بالتوريث لكون الزوج متهما في البيان لجواز أنه كان في قلبه الأخرى وقت الطلاق فبين في هذه فكان متهما في البيان فترث فأما من لا يرى الطلاق واقعا قبل الاختيار يقول يملك الرجعة؛ لأن الطلاقين وقعا وهي حرة فلا تحرم حرمة غليظة وترث؛ لأن الطلاق رجعي. وإن كان التعليق في المرض والشرط في الصحة بأن طلقها ثلاثا أو بائنا

 

ج / 3 ص -224-       وهو مريض ثم صح ثم مات لم ترث؛ لأنه لما صح تبين أن ذلك المرض لم يكن مرض الموت فلم يوجد الإيقاع ولا الشرط في المرض؛ فكان هذا والإيقاع في حال الصحة سواء, ولهذا كان هذا المرض والصحة سواء في جميع الأحكام. وأما وقت الاستحقاق فهو وقت مرض الموت عندنا لما ذكرنا فيما تقدم فلا بد من معرفة مرض الموت لتفريق الأحكام المتعلقة به فنقول وبالله التوفيق ذكر الكرخي أن المريض مرض الموت هو الذي أضناه المرض وصار صاحب فراش فأما إذا كان يذهب ويجيء وهو مع ذلك يحم فهو بمنزلة الصحيح. وذكر الحسن بن زياد عن أبي حنيفة: المريض الذي إذا طلق امرأته كان فارا هو أن يكون مضنى لا يقوم إلا بشدة وهو في حال يعذر في الصلاة جالسا. والحاصل أن مرض الموت هو الذي يخاف منه الموت غالبا. ويدخل في هذه العبارة ما ذكره الحسن عن أبي حنيفة وما ذكره الكرخي؛ لأنه إذا كان مضنى لا يقدر على القيام إلا بشدة يخشى عليه الموت. وكذا إذا كان صاحب فراش وكذا إذا كان يذهب ويجيء ولا يخشى عليه الموت غالبا. وإن كان يحم فلا يكون ذلك مرض الموت وكذلك صاحب الفالج والسل والنقرس ونحوها إذا طال به ذلك فهو في حكم الصحيح؛ لأن ذلك إذا طال لا يخاف منه الموت غالبا فلم يكن مرض الموت إلا إذا تغير حاله من ذلك ومات من ذلك التغير فيكون حال التغير مرض الموت؛ لأنه إذا تغير يخشى منه الموت غالبا فيكون مرض الموت. وكذا الزمن والمقعد ويابس الشق. وعلى هذا قالوا في المحصور والواقف في صف القتال ومن وجب عليه القتل في حد أو قصاص فحبس ليقتل أنه كالصحيح؛ لأنه ليس الغالب من هذه الأحوال الموت فإن الإنسان يتخلص منها غالبا لكثرة أسباب الخلاص ولو قدم ليقتل أو بارز قرنه وخرج من الصف فهو كالمريض إذ الغالب من هذه الحالة الهلاك فترتب عليه أحكام المريض إذا مات في ذلك الوجه. ولو كان في السفينة فهو كالصحيح إلا إذا هاجت الأمواج فيصير في حكم المريض في تلك الحالة؛ لأنه يخشى عليه منها الموت غالبا ولو أعيد المخرج إلى القتل أو إلى الحبس أو إذا رجع المبارز بعد المبارزة إلى الصف أو سكن الموج صار في حكم الصحيح كالمريض إذا برئ من مرضه والمرأة إذا ما أخذها الطلق فهي في حكم المريض إذا ماتت من ذلك؛ لأن الغالب منه خوف الهلاك وإذا سلمت من ذلك فهي في حكم الصحيح كما إذا كانت مريضة ثم صحت. ولو طلقها وهو مريض ثم صح وقام من مرضه وكان يذهب ويجيء ويقوى على الصلاة قائما ثم نكس فعاد إلى حالته التي كان عليها ثم مات لم ترثه في قول أصحابنا الثلاثة, وقال زفر ترثه. وجه قوله أن وقت تعلق الحق بالإرث ووقت الموت وقت ثبوت الإرث, والمرض قد أحاط بالوقتين جميعا فانقطاعه فيما بين ذلك لا يعتبر؛ لأنه ليس وقت التعليق ولا وقت الإرث. "ولنا" أنه لما صح بعد المرض تبين أن ذلك لم يكن مرض الموت فلم يوجد الطلاق في حال المرض فلا ترث والله عز وجل أعلم. وأما الذي يخص الطلاق المبهم فهو أن يكون لفظ الطلاق مضافا إلى مجهولة فجملة الكلام فيه أن الجهالة إما إن كانت أصلية "وأما" إن كانت طارئة: أما. الجهالة الأصلية فهي أن يكون لفظ الطلاق من الابتداء مضافا إلى المجهول وجهالة المضاف إليه يكون لمزاحمة غيره إياه في الاسم والمزاحم إياه في الاسم لا يخلو إما أن يكون محتملا للطلاق "وأما" أن لا يكون محتملا له, والمحتمل للطلاق لا يخلو إما أن يكون ممن يملك الزوج طلاقه أو لا يملك طلاقه, فإن كان ممن يملك طلاقه صحت الإضافة بالإجماع نحو أن يقول لنسائه الأربع إحداكن طالق ثلاثا أو يقول لامرأتين له إحداكما طالق ثلاثا. والكلام فيه يقع في موضعين؛ أحدهما في. بيان كيفية هذا التصرف أعني قوله لامرأتيه إحداكما طالق, والثاني في بيان الأحكام المتعلقة به أما الأول فقد اختلف مشايخنا في كيفية هذا التصرف قال بعضهم هو إيقاع الطلاق في غير المعين على معنى أنه يقع الطلاق للحال في واحدة منهما غير عين, واختار الطلاق في إحداهما وبيان الطلاق فيهما تعيين لمن وقع عليها الطلاق. ويقال إن هذا قول محمد وقال بعضهم: هو إيقاع الطلاق معلقا بشرط البيان معنى, ومعناه أن قوله: إحداكما طالق ينعقد سببا للحال لوقوع الطلاق عند البيان, والاختيار لا للحال بمنزلة تعليق الطلاق بسائر الشروط من دخول الدار وغيره غير أن هناك الشرط يدخل على السبب والحكم جميعا وههنا يدخل على الحكم لا على السبب كما في البيع بشرط الخيار فإذا

 

ج / 3 ص -225-       اختار طلاق إحداهما فقد وجد شرط وقوع الطلاق في حقها فيقع الطلاق عليها بالكلام السابق عند وجود شرط الوقوع وهو الاختيار كأنه علقه به نصا فقال إن اخترت طلاق إحداكما فهي طالق. ويقال إن هذا قول أبي يوسف والمسائل متعارضة في الظاهر بعضها يؤيد القول الأول وبعضها ينصر القول الثاني ونحن نشير إلى ذلك ههنا ونذكر وجه كل واحد من القولين وترجيح أحدهما على الآخر وتخريج المسائل عليه في كتاب العتاق إن شاء الله تعالى وقال بعضهم: البيان إظهار من وجه وإنشاء من وجه وزعموا أن المسائل تخرج عليه وأنه كلام لا يعقل بل هو محال, والبناء على المحال محال. الأحكام المتعلقة به فنوعان نوع يتعلق به في حال حياة الزوج ونوع يتعلق به بعد مماته. أما النوع الأول فنقول إذا قال لامرأتيه إحداكما طالق ثلاثا فله خيار التعيين يختار أيهما شاء للطلاق؛ لأنه إذا ملك الإبهام ملك التعيين. ولو خاصمتاه واستعدتا عليه القاضي حتى يبين, أعدى عليه وكلفه البيان. ولو امتنع أجبره عليه بالحبس؛ لأن لكل واحدة منهما حقا إما استيفاء حقوق النكاح منه "وأما" التوصل إلى زوج آخر, وحق الإنسان يجب إيفاؤه عند طلبه وإذا امتنع من عليه الحق يجبره القاضي على الإيفاء وذلك بالبيان ههنا فكان البيان حقها لكونه وسيلة إلى حقها, ووسيلة حق الإنسان حقه, والجبر على البيان يؤيد القول الأول؛ لأن الوقوع لو كان معلقا بشرط البيان لما أجبر إذ الحالف لا يجبر على تحصيل الشرط ولأن البيان إظهار الثابت, وإظهار الثابت ولا ثابت محال, ثم البيان نوعان نص ودلالة أما النص فنحو أن يقول إياها عنيت أو نويت أو أردت أو ما يجري مجرى هذا. ولو قال إحداكما طالق ثلاثا ثم طلق إحداهما عينا بأن قال لها أنت طالق وقال أردت به بيان الطلاق الذي لزمني لا طلاقا مستقبلا كان القول قوله؛ لأن البيان واجب عليه, وقوله أنت طالق يحتمل البيان؛ لأنه إن جعل إنشاء في الشرع لكنه يحتمل الإخبار فيحتمل البيان إذ هو إخبار عن كائن وهذا أيضا ينصر القول الأول؛ لأن الطلاق لو لم يكن واقعا لم يصدق في إرادة البيان للواقع "وأما" الدلالة فنحو أن يفعل أو يقول ما يدل على البيان نحو أن يطأ إحداهما أو يقبلها أو يطلقها أو يحلف بطلاقها أو يظاهر منها؛ لأن ذلك كله لا يجوز إلا في المنكوحة فكان الإقدام عليه تعيينا لهذه بالنكاح. وإذا تعينت هي للنكاح تعينت الأخرى للطلاق ضرورة انتفاء المزاحم. وإذا كن أربعا أو ثلاثا تعينت الباقيات لبيان الطلاق في واحدة منهن نصا أو دلالة بالفعل أو بالقول بأن يطأ الثانية والثالثة فتتعين الرابعة للطلاق أو يقول هذه منكوحة وهذه الرابعة إن كن أربعا وإن كن ثلاثا تتعين الثالثة للطلاق بوطء الثانية أو بقوله للثانية: هذه منكوحة. وكذلك إذا ماتت إحداهما قبل البيان طلقت الباقية؛ لأن التي ماتت خرجت عن احتمال البيان فيها؛ لأن الطلاق يقع عند البيان وقد خرجت عن احتمال الطلاق فخرجت عن احتمال البيان فتعينت الباقية للطلاق وهذا يؤيد القول الثاني؛ لأن الطلاق لو كان وقع في غير المعين لما افترقت الحال في البيان بين الحياة والموت إذ هو إظهار ما كان, فرق بين هذا وبين ما إذا باع أحد عبديه على أن المشتري بالخيار يأخذ أيهما شاء ويرد الآخر فمات أحدهما قبل البيان أنه لا يتعين الباقي منهما للبيع بل يتعين الميت للبيع ويصير المشتري مختارا للبيع في الميت قبيل الموت ويجب عليه رد الباقي إلى البائع. ووجه الفرق أن هناك وجد المبطل للخيار قبيل الموت وهو حدوث عيب لم يكن وقت الشراء وهو المرض إذ لا يخلو الإنسان عن مرض قبيل الموت عادة, وحدوث العيب في المبيع الذي فيه خيار مبطل للخيار فبطل الخيار قبيل الموت ودخل العبد في ملك المشتري فتعين الآخر للرد ضرورة, وهذا المعنى لم يوجد في الطلاق؛ لأن حدوث العيب في المطلقة لا يوجب بطلان الخيار. ولو ماتت إحداهما قبل البيان فقال الزوج إياها عنيت لم يرثها وطلقت الباقية؛ لأنها كما ماتت تعينت الباقية للطلاق فإذا قال عنيت الأخرى فقد أراد صرف الطلاق عن الباقية فلا يصدق فيه ويصدق في إبطال الإرث؛ لأن ذلك حقه والإنسان في إقراره بإبطال حق نفسه مصدق لانتفاء التهمة وكذلك إذا ماتتا جميعا أو إحداهما بعد الأخرى ثم قال عنيت التي ماتت أولا لم يرث منهما, أما في الثانية فلتعينها للطلاق بموت الأولى. "وأما" من الأولى فلإقراره أنه لا حق له في ميراثها وهو مصدق على نفسه. ولو ماتتا جميعا بأن سقط عليهما حائط

 

ج / 3 ص -226-       أو غرقتا يرث من كل واحدة منهما نصف ميراثها؛ لأنه لا يستحق ميراث كل واحدة منهما في حال ولا يستحقه في حال فيتنصف كما هو أصلنا في اعتبار الأحوال. وكذلك إذا ماتتا جميعا أو إحداهما بعد الأخرى لكن لا يعرف التقدم والتأخر فهذا بمنزلة موتهما معا. ولو ماتتا معا ثم عين إحداهما بعد موتهما وقال إياها عنيت لا يرث منها ويرث من الأخرى نصف ميراث زوج؛ لأنهما لما ماتتا فقد استحق من كل واحدة منهما نصف ميراث لما بينا فإذا أراد إحداهما عينا فقد أسقط حقه من ميراثها وهو النصف فيرث من الأخرى النصف. ولو ارتدتا جميعا قبل البيان فانقضت عدتهما وبانتا لم يكن له أن يبين الطلاق الثلاث في إحداهما أما البينونة فلأن الملك قد زال من كل وجه بالردة وانقضاء العدة وإذا زال الملك لا يملك البيان, وهذا يدل على أن الطلاق لم يقع قبل البيان إذ لو وقع لصح البيان بعد البينونة؛ لأن البيان حينئذ يكون تعيين من وقع عليه الطلاق فلا تفتقر صحته إلى قيام الملك. ولو كانتا رضيعتين فجاءت امرأة فأرضعتهما قبيل البيان بانتا, وهذا دليل ظاهر على صحة القول الثاني؛ لأنه لو وقع الطلاق على إحداهما لصارت أجنبية فلا يتحقق الجمع بين الأختين بالرضاع نكاحا فينبغي أن لا تبينا وقد بانتا وإذا بانتا بالرضاع لم يكن له أن يبين الطلاق في إحداهما لما قلنا وهو دليل على ما قلنا ولو بين الطلاق في إحداهما تجب عليها العدة من وقت البيان. كذا روي عن أبي يوسف حتى لو راجعها بعد ذلك صحت رجعته وكذا إذا بين الطلاق في إحداهما وقد كانت حاضت قبل البيان ثلاث حيض لا تعتد بما حاضت قبله وتستأنف العدة من وقت البيان وهذا يدل على أن الطلاق لم يكن واقعا قبل البيان. وروي عن محمد أنه تجب العدة من وقت الإرسال وتنقضي إذا حاضت ثلاث حيض من ذلك الوقت ولا تصح الرجعة بعد ذلك. وهذا يدل على أن الطلاق نازل في غير المعين. ومن هذا حقق القدوري الخلاف بين أبي يوسف ومحمد في كيفية هذا التصرف على ما ذكرنا من القولين واستدل على الخلاف بمسألة العدة. ولو قال لامرأتين له إحداكما طالق واحدة, والأخرى طالق ثلاثا, فحاضت إحداهما ثلاث حيض بانت بواحدة والأخرى طالق ثلاثا؛ لأن كل واحدة منهما مطلقة إلا أن إحداهما بواحدة والأخرى بثلاث فإذا حاضت إحداهما ثلاث حيض فقد زال ملكه عنها بيقين فخرجت عن احتمال بيان الثلاث فيها فتعينت الأخرى للثلاث ضرورة. ولو كان تحته أربع نسوة لم يدخل بهن فقال: إحداكن طالق ثلاثا ثم تزوج أخرى جاز له وإن كان مدخولا بهن فتزوج أخرى لم يجز وهذا حجة القول الأول؛ لأن الطلاق لو لم يكن واقعا في إحداهن لما جاز نكاح امرأة أخرى في الفصل الأول؛ لأنه يكون نكاح الخامسة ولجاز في الفصل الثاني؛ لأنه يكون نكاح الرابعة ولما كان الأمر على القلب من ذلك دل أن الطلاق لم يكن واقعا قبل البيان. ولو قال لامرأتين له في الصحة إحداكما طالق ثم بين في إحداهما في مرضه يصير فارا؛ وترثه المطلقة مع المنكوحة ويكون الميراث بينهما نصفين وهذا حجة القول الثاني؛ لأن الطلاق لو كان واقعا في إحداهما غير عين لكان وقوع الطلاق في الصحة فينبغي أن لا يصير فارا, كما إذا طلق واحدة منهما عينا والله عز وجل أعلم. وأما الذي يتعلق بما بعد موت الزوج فأنواع ثلاثة: حكم المهر, وحكم الميراث, وحكم العدة إذا مات قبل البيان:. أما حكم المهر فإن كانتا مدخولا بهما فلكل واحدة منهما جميع المهر؛ لأن كل واحدة منهما تستحق جميع المهر منكوحة كانت أو مطلقة أما المنكوحة فلا شك فيها "وأما" المطلقة فلأنها مطلقة بعد الدخول وإن كانتا غير مدخول بهما فلهما مهر ونصف مهر بينهما, لكل واحدة منهما ثلاثة أرباع المهر؛ لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون منكوحة ويحتمل أن تكون مطلقة فإن كانت منكوحة تستحق جميع المهر؛ لأن الموت بمنزلة الدخول. وإن كانت مطلقة تستحق النصف؛ لأن النصف قد سقط بالطلاق قبل الدخول فلكل واحدة منهما كل المهر في حال والنصف في حال وليست إحداهما بأولى من الأخرى فيتنصف فيكون لكل واحدة ثلاثة أرباع مهر هذا إذا كان قد سمى لهما مهرا فإن كان لم يسم لهما مهرا فلهما مهر ومتعة بينهما؛ لأن كل واحدة منهما إن كانت منكوحة فلها كمال مهر المثل, وإن كانت مطلقة فلها كمال المتعة فكل واحدة منهما تستحق كمال مهر المثل في حال ولا تستحق شيئا من مهر المثل في حال. وكذا المتعة فتتنصف كل واحدة

 

ج / 3 ص -227-       منهما فيكون لهما مهر ومتعة بينهما لكل واحدة منهما نصف مهر المثل ونصف متعة وإن كان سمى لإحداهما مهرا ولم يسم للأخرى فللمسمى لها ثلاثة أرباع المهر وللتي لم يسم لها مهرا نصف مهر المثل؛ لأن المسمى لها إذا كانت منكوحة فلها جميع المسمى وإن كانت مطلقة فلها النصف فيتنصف كل ذلك فيكون لها ثلاثة أرباع المهر المسمى. والتي لم يسم لها إن كانت منكوحة فلها جميع مهر المثل وإن كانت مطلقة فليس لها من مهر المثل شيء فاستحقت في حال ولم تستحق شيئا منه في حال فيكون لها نصف مهر المثل والقياس أن يكون لها نصف المتعة أيضا وهو قول زفر وفي الاستحسان ليس لها إلا نصف مهر المثل. "وجه" القياس أنها إن كانت منكوحة فلها كمال مهر المثل وإن كانت مطلقة فلها كمال المتعة فكان لها كمال مهر المثل في حال وكمال المتعة في حال فيتنصف كل واحدة منهما فيكون لها نصف مهر مثلها ونصف متعتها. وجه الاستحسان أن نصف مهر المثل إذا وجب لها امتنع وجوب المتعة؛ لأن المتعة بدل عن نصف مهر المثل, والبدل والمبدل لا يجتمعان هذا إذا كانت المسمى لها مهر المثل معلومة فإن لم تكن معلومة فلها مهر وربع مهر إذا كان مهر مثلها سواء ويكون بينهما؛ لأن كل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المسمى لها المهر فيكون لها ثلاثة أرباع المهر لما ذكرنا, ويحتمل أن تكون غير المسمى لها المهر فيكون لها نصف مهر المثل ففي حال يجب ثلاثة أرباع المهر وفي حال يجب نصف المهر فيتنصف كل ذلك فيكون لهما مهر وربع مهر بينهما لكل واحدة منهما نصف مهر وثمن مهر نصف مهر المسمى وثمن مهر المثل ولا تجب المتعة استحسانا والقياس أن يجب نصف المتعة أيضا ويكون بينهما, وهو قول زفر. وجه القياس والاستحسان على نحو ما ذكرنا والله عز وجل أعلم. وهذه المسائل تدل على أن الطلاق قد وقع في إحداهما غير عين وقت الإرسال حيث شاع فيهما بعد الموت إذ الواقع يشيع والله عز وجل الموفق. وأما حكم الميراث فهو أنهما يرثان منه ميراث امرأة واحدة ويكون بينهما نصفين في الأحوال كلها؛ لأن إحداهما منكوحة بيقين وليست إحداهما بأولى من الأخرى فيكون قدر ميراث امرأة واحدة بينهما فإن كان للزوج امرأة أخرى سواهما لم يدخلها في الطلاق فلها نصف ميراث النساء ولهما النصف؛ لأنه لا يزاحمها إلا واحدة منهما؛ لأن المنكوحة واحدة منهما والأخرى مطلقة فكان لها النصف ثم النصف الثاني يكون بين الأخريين نصفين إذ ليست إحداهما بأولى من الأخرى. وأما حكم العدة فعلى كل واحدة منهما عدة الوفاة وعدة الطلاق؛ لأن إحداهما منكوحة والأخرى مطلقة وعلى المنكوحة عدة الوفاة لا عدة الطلاق وعلى المطلقة عدة الطلاق لا عدة الوفاة فدارت كل واحدة من العدتين في حق كل واحدة من المرأتين بين الوجوب وعدم الوجوب. والعدة يحتاط في إيجابها ومن الاحتياط القول بوجوبها على كل واحدة منهما والله تعالى الموفق. وإن كان ممن لا يملك طلاقها لا تصح الإضافة بالإجماع بأن جمع بين امرأته وبين أجنبية فقال إحداكما طالق حتى لا تطلق زوجته؛ لأن هذا الكلام يستعمل للإنشاء ويستعمل للإخبار ولو حمل على الإخبار لصح؛ لأنه يخبر أن إحداهما طالق والأمر على ما أخبر ولو حمل على الإنشاء لم يصح؛ لأن إحداهما وهي الأجنبية لا تحتمل الإنشاء لعدم النكاح ولا طلاق قبل النكاح على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان حمله على الإخبار أولى. هذا إذا كان المزاحم في الاسم محتملا للطلاق فأما إذا لم يكن نحو ما إذا جمع بين امرأته وبين حجر أو بهيمة فقال إحداكما طالق فهل تصح الإضافة اختلف فيه قال أبو حنيفة وأبو يوسف تصح حتى يقع الطلاق على امرأته. وقال محمد لا تصح ولا تطلق امرأته وجه قوله أن الجمع بين المنكوحة وغير المنكوحة يوجب شكا في إيقاع الطلاق على المنكوحة كما لو جمع بين امرأة وبين أجنبية وقال إحداكما طالق فلا يقع مع الشك. ولهما أنه إذا جمع بين من يحتمل الطلاق وبين من لا يحتمل الطلاق في الاسم وأضاف الطلاق إليهما فالظاهر أنه أراد به من يحتمل الطلاق لا من لا يحتمل الطلاق؛ لأن إضافة الطلاق إلى من لا يحتمله سفه؛ فانصرف مطلق الإضافة إلى زوجته بدلالة الحال بخلاف ما إذا جمع بينها وبين أجنبية؛ لأن الأجنبية محتملة للطلاق في الجملة وهي محتملة للطلاق في الحال إخبارا إن كانت لا تحتمله إنشاء, وفي الصرف إلى الإخبار صيانة كلامه عن اللغو فصرف إليه. ولو جمع بين زوجته وبين رجل فقال إحداكما طالق لم يصح

 

ج / 3 ص -228-       في قول أبي حنيفة حتى لا تطلق زوجته وقال أبو يوسف يصح وتطلق زوجته. وجه قول أبي يوسف أن الرجل لا يحتمل الطلاق ألا ترى أنه لو قال لامرأته أنا منك طالق لم يصح فصار كما إذا جمع بين امرأته وبين حجر أو بهيمة وقال إحداكما طالق. ولأبي حنيفة أن الرجل يحتمل الطلاق في الجملة. ألا ترى أنه يحتمل البينونة حتى لو قال لامرأته أنا منك بائن ونوى الطلاق يصح والإبانة من ألفاظ الطلاق فإن الطلاق نوعان رجعي وبائن, وإذا كان محتملا للطلاق في الجملة حمل كلامه على الإخبار كما إذا جمع بينهما وبين أجنبية وقال إحداكما طالق. ولو جمع بين امرأته وبين امرأة ميتة فقال أنت طالق أو هذه وأشار إلى الميتة لم تصح الإضافة بالإجماع حتى لا تطلق زوجته الحية؛ لأن الميتة من جنس ما يحتمل الطلاق وقد كانت محتملة للطلاق قبل موتها فصار كما لو جمع بينها وبين أجنبية والله عز وجل الموفق. وأما الجهالة الطارئة فهي أن يكون الطلاق مضافا إلى معلومة ثم تجهل كما إذا طلق الرجل امرأة بعينها من نسائه ثلاثا ثم نسي المطلقة, والكلام في هذا الفصل في موضعين أيضا أحدهما في. بيان كيفية هذا التصرف والثاني في بيان أحكامه: أما الأول فلا خلاف في أن الواحدة منهن طالق قبل البيان؛ لأنه أضاف الطلاق إلى معينة وإنما طرأت الجهالة بعد ذلك والمعينة محل لوقوع الطلاق فيكون البيان ههنا إظهارا أو تعيينا لمن وقع عليها الطلاق. وأما الأحكام المتعلقة به فنوعان أيضا على ما مر أما الذي يتعلق به في حال حياة الزوج فهو أنه لا يحل له أن يطأ واحدة منهن حتى يعلم التي طلق فيجتنبها؛ لأن إحداهن محرمة بيقين وكل واحدة منهما يحتمل أن تكون هي المحرمة فلو وطئ واحدة منهما وهو لا يعلم بالمحرمة فربما وطئ المحرمة. والأصل فيه ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لوابصة بن معبد: "الحلال بين والحرام بين وبينهما أمور مشتبهات فدع ما يريبك إلى ما لا يريبك" ولا يجوز أن تطلق واحدة منهن بالتحري والأصل فيه أن كل ما لا يباح عند الضرورة لا يجوز فيه التحري, والفرج لا يباح عند الضرورة فلا يجوز فيه التحري بخلاف الذكية إذا اختلطت بالميتة أنه يجوز التحري في الجملة وهي ما إذا كانت الغلبة للذكية عندنا؛ لأن الميتة مما تباح عند الضرورة فإن جحدت كل واحدة منهن أن تكون المطلقة فاستعدين عليه الحاكم في النفقة والجماع أعدى عليه وحبسه على بيان التي طلق منهن وألزمه النفقة لهن؛ لأن لكل واحدة منهن حق المطالبة بحقوق النكاح, ومن عليه الحق إذا امتنع من الإيفاء مع قدرته عليه يحبس كمن امتنع من قضاء دين عليه وهو قادر على قضائه فيحبسه الحاكم ويقضي بنفقتهن عليه؛ لأن النفقة من حقوق النكاح فإن ادعت كل واحدة منهن أنها هي المطلقة ولا بينة لها وجحد الزوج فعليه اليمين لكل واحدة منهن؛ لأن الاستخلاف للنكول. والنكول بذل أو إقرار, والطلاق يحتمل البذل والإقرار فيستحلف فيه فإن أبى أن يحلف فرق بينه وبينهن؛ لأنه بذل الطلاق لكل واحدة منهن أو أقر به والطلاق يحتمل كل واحدة منهن, وإن حلف لهن لا يسقط عنه البيان بل لا بد أن يبين؛ لأن الطلاق لا يرتفع باليمين فبقي على ما كان عليه فيؤخذ بالبيان. وروى ابن سماعة عن محمد أنه قال إذا كانتا امرأتين فحلف للأولى طلقت التي لم يحلف لها؛ لأنه لما أنكر للأولى أن تكون مطلقة تعينت الأخرى للطلاق ضرورة وإن لم يحلف للأولى طلقت؛ لأنه بالنكول بذل الطلاق لها أو أقر به فإن تشاحنا على اليمين حلف لهما جميعا بالله تعالى ما طلق واحدة منهما؛ لأنهما استويا في الدعوى ويمكن إيفاء حقهما في الحلف فيحلف لهما جميعا فإن حلف لهما جميعا حجب عنهما حتى يبين؛ لأن إحداهما قد بقيت مطلقة بعد الحلف إذ الطلاق لا يرتفع باليمين فكانت إحداهما محرمة فلا يمكن منها إلى أن يبين فإن وطئ إحداهما فالتي لم يطأها مطلقة؛ لأن فعله محمول على الجواز, ولا يجوز إلا بالبيان فكان الوطء بيانا أن الموطوءة منكوحة فتعينت الأخرى للطلاق ضرورة انتفاء المزاحم, كما لو قال إحداكما طالق ثم وطئ إحداهما. وإذا طلق واحدة من نسائه بعينها فنسيها ولم يتذكر فينبغي فيما بينه وبين الله تعالى أن يطلق كل واحدة منهن تطليقة رجعية ويتركها حتى تنقضي عدتها فتبين؛ لأنه لا يجوز له أن يمسكهن فيقربهن جميعا؛ لأن إحداهن محرمة بيقين, ولا يجوز له أن يطأ واحدة منهن بالتحري؛ لأنه لا مدخل للتحري في الفرج, ولا يجوز له أن يتركهن بغير بيان لما فيه من الإضرار بهن بإبطال حقوقهن من هذا الزوج ومن غيره 

 

ج / 3 ص -229-       بالنكاح إذ لا يحل لهن النكاح؛ لأن كل واحدة منهن يحتمل أن تكون منكوحة فيوقع على كل واحدة منهن تطليقة رجعية ويتركها حتى تنقضي عدتها فتبين وإذا انقضت عدتهن وبن فأراد أن يتزوج الكل في عقدة واحدة قبل أن يتزوجن لم يجز؛ لأن واحدة منهن مطلقة ثلاثة بيقين. وإن أراد أن يتزوج واحدة منهن فالأحسن أن لا يتزوجها إلا بعد أن يتزوجن كلهن بزوج آخر لجواز أن تكون التي يتزوجها هي المطلقة ثلاثا فلا تحل له حتى تنكح زوجا غيره فإذا تزوجن بغيره فقد حللن بيقين فلو أنه تزوج واحدة منهن قبل أن يتزوجن بغيره جاز نكاحها؛ لأن فعله يحمل على الجواز والصحة ولا يصح إلا بالبيان فكان إقدامه على نكاحها بيانا أنها ليست بمطلقة بل هي منكوحة. وكذا إذا تزوج الثانية والثالثة جاز لما قلنا وتعينت الرابعة للطلاق ضرورة انتفاء المزاحم. وكذا إذا كانتا اثنتين فتزوج إحداهما تعينت الأخرى للطلاق؛ لأنا نحمل نكاح التي تزوجها على الجواز ولا جواز له إلا بتعيين الأخرى للطلاق فتتعين الأخرى للطلاق ضرورة هذا إذا كان الطلاق ثلاثا فإن كان بائنا ينكحهن جميعا نكاحا جديدا ولا يحتاج إلى الطلاق, وإن كان رجعيا يراجعهن جميعا. وإذا كان الطلاق ثلاثا فماتت واحدة منهن قبل البيان فالأحسن أن لا يطأ الباقيات إلا بعد بيان المطلقة لجواز أن تكون المطلقة فيهن, وإن وطئهن قبل البيان جاز؛ لأن فعل العاقل المسلم يحمل على وجه الجواز ما أمكن وههنا أمكن بأن يحمل فعله على أنه تذكر أن الميتة كانت هي المطلقة إذ البيان في الجهالة الطارئة إظهار وتعيين لمن وقع عليها الطلاق بلا خلاف فلا تكون حياتها شرطا لجواز بيان الطلاق فيها وإذا تعينت هي للطلاق تعينت الباقيات للنكاح فلا يمنع من وطئهن بخلاف الجهالة الأصلية إذا ماتت واحدة منهن أنها لا تتعين للطلاق؛ لأن الطلاق هناك يقع عند وجود الشرط وهو البيان مقصورا عليه, والمحل ليس بقابل لوقوع الطلاق وقت البيان ثم البيان ضربان نص ودلالة: أما النص فهو أن يبين المطلقة نصا فيقول هذه هي التي كنت طلقتها. وأما الدلالة فهي أن يفعل أو يقول ما يدل على البيان, مثل أن يطأ واحدة أو يقبلها أو يطلقها أو يحلف بطلاقها أو يظاهر منها فإن كانتا اثنتين تعينت الأخرى للطلاق؛ لأن فعله أو قوله يحمل على الجواز, ولا يجوز إلا بتعيين الأخرى للطلاق فكان الإقدام عليه تعيينا للأخرى للطلاق ضرورة. وكذا إذا قال هذه منكوحة, وأشار إلى إحداهما تتعين الأخرى للطلاق ضرورة. وكذا إذا قال هذه منكوحة, وإن كن أربعا أو ثلاثا تعينت الباقيات لكون المطلقة فيهن فتتعين بالبيان نصا أو دلالة بالفعل أو بالقول على ما مر بيانه في الفصل الأول ولو كن أربعا ولم يكن دخل بهن فتزوج أخرى قبل البيان جاز؛ لأن الطلاق واقع في إحداهن فكان هذا نكاح الرابعة فلا يتحقق الجمع بين الخمس فيجوز. وإن كن مدخولا بهن لا يجوز؛ لأنه يتحقق الجمع لقيام النكاح من وجه لقيام العدة ولو كان الطلاق في الصحة فبين في واحدة منهن في مرضه ثم مات لم ترثه؛ لأن البيان ههنا إظهار وتعيين لمن وقع عليه الطلاق والوقوع كان في الصحة فلا ترث بخلاف الفصل الأول. "وأما" الذي يتعلق به بعد موت الزوج فأحكامه ثلاثة: حكم المهر, وحكم الميراث, وحكم العدة, وقد بيناها في الفصل الأول, والفصلان لا يختلفان في هذه الأحكام فما عرفت من الجواب في الأول فهو الجواب في الثاني, والله تعالى أعلم.