بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الوقف والصدقة"
أما الوقف فالكلام فيه في مواضع: في بيان جواز الوقف وكيفيته, وفي بيان شرائط الجواز, وفي بيان حكم الوقف الجائز وما يتصل به "أما" الأول فنقول وبالله التوفيق: لا خلاف بين العلماء في جواز الوقف في حق وجوب التصدق بالفرع ما دام الوقف حيا, حتى أن من وقف داره أو أرضه يلزمه التصدق بغلة الدار والأرض, ويكون ذلك بمنزلة النذر بالتصدق بالغلة, ولا خلاف أيضا في جوازه في حق زوال ملك الرقبة إذا اتصل به قضاء القاضي أو أضافه إلى ما بعد الموت, بأن قال: إذا مت فقد جعلت داري أو أرضي وقفا على كذا أو قال: هو وقف في حياتي صدقة بعد وفاتي واختلفوا في جوازه مزيلا لملك الرقبة إذا لم توجد الإضافة إلى ما بعد الموت, ولا اتصل به حكم حاكم قال أبو حنيفة عليه الرحمة: لا يجوز, حتى كان للواقف بيع الموقوف وهبته, وإذا مات يصير ميراثا لورثته. وقال أبو يوسف ومحمد وعامة العلماء رضي الله تعالى عنهم: يجوز, حتى لا يباع ولا يوهب ولا يورث, ثم في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة لا فرق بين ما إذا وقف في حالة الصحة, وبين ما إذا وقف في حالة المرض, حتى لا يجوز عنده في الحالين جميعا إذا لم توجد الإضافة ولا حكم الحاكم. وروى الطحاوي عنه أنه إذا وقف في حالة المرض جاز عنده, ويعتبر من الثلث, ويكون بمنزلة الوصية بعد وفاته. وأما عندهما فهو جائز في الصحة والمرض وعلى هذا الخلاف إذا بنى رباطا أو خانا للمجتازين, أو سقاية للمسلمين, أو جعل أرضه مقبرة, لا تزول رقبة هذه الأشياء عن ملكه عند أبي حنيفة أضافه إلى ما بعد الموت أو حكم به حاكم وعندهما

 

ج / 6 ص -219-       يزول بدون ذلك, لكن عند أبي يوسف بنفس القول, وعند محمد بواسطة التسليم وذلك بسكنى المجتازين في الرباط والخان وسقاية الناس من السقاية والدفن في المقبرة, وأجمعوا على أن من جعل داره أو أرضه مسجدا يجوز, وتزول الرقبة عن ملكه لكن عزل الطريق وإفرازه والإذن للناس بالصلاة فيه, والصلاة شرط عند أبي حنيفة ومحمد, حتى كان له أن يرجع قبل ذلك, وعند أبي يوسف تزول الرقبة عن ملكه بنفس قوله: جعلته مسجدا, وليس له أن يرجع عنه على ما نذكره. "وجه" قول العامة الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين وعامة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أجمعين فإنه روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف, ووقف سيدنا أبو بكر, وسيدنا عمر, وسيدنا عثمان, وسيدنا علي, وغيرهم رضي الله عنهم وأكثر الصحابة وقفوا؛ ولأن الوقف ليس إلا إزالة الملك عن الموقوف وجعله لله تعالى خالصا فأشبه الإعتاق وجعل الأرض أو الدار مسجدا, والدليل عليه أنه يصح مضافا إلى ما بعد الموت, فيصح منجزا, وكذا لو اتصل به قضاء القاضي يجوز, وغير الجائز لا يحتمل الجواز لقضاء القاضي ولأبي حنيفة عليه الرحمة ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: لما نزلت سورة النساء وفرضت فيها الفرائض قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا حبس عن فرائض الله تعالى" أي لا مال يحبس بعد موت صاحبه عن القسمة بين ورثته, والوقف حبس عن فرائض الله تعالى عز شأنه, فكان منفيا شرعا وعن شريح أنه قال: جاء محمد ببيع الحبيس وهذا منه رواية عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه يجوز بيع الموقوف؛ لأن الحبيس هو الموقوف فعيل بمعنى المفعول, إذ الوقف حبس لغة فكان الموقوف محبوسا فيجوز بيعه وبه تبين أن الوقف لا يوجب زوال الرقبة عن ملك الواقف "وأما" وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنما جاز؛ لأن المانع من وقوعه حبسا عن فرائض الله عز وجل, ودفعه صلى الله عليه وسلم لم يقع حبسا عن فرائض الله تعالى, لقوله صلى الله عليه وسلم: "إنا معاشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة" "وأما" أوقاف الصحابة رضي الله عنهم فما كان منها في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم احتمل أنها كانت قبل نزول سورة النساء فلم تقع حبسا عن فرائض الله تعالى, وما كان بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فاحتمل أن ورثتهم أمضوها بالإجازة, وهذا هو الظاهر, ولا كلام فيه, وإنما جاز مضافا إلى ما بعد الموت؛ لأنه لما أضافه إلى ما بعد الموت فقد أخرجه مخرج الوصية فيجوز كسائر الوصايا, لكن جوازه بطريق الوصية لا يدل على جوازه لا بطريق الوصية, ألا ترى لو أوصى بثلث ماله للفقراء جاز, ولو تصدق بثلث ماله على الفقراء لا يجوز. وأما إذا حكم به حاكم فإنما جاز؛ لأن حكمه صادف محل الاجتهاد وأفضى اجتهاده إليه, وقضاء القاضي في موضع الاجتهاد, بما أفضى إليه اجتهاده, جائز, كما في سائر المجتهدات.

"فصل": وأما شرائط الجواز فأنواع بعضها يرجع إلى الواقف, وبعضها يرجع إلى نفس الوقف, وبعضها يرجع إلى الموقوف "أما" الذي يرجع إلى الواقف فأنواع: "منها" العقل "ومنها" البلوغ فلا يصح الوقف من الصبي والمجنون؛ لأن الوقف من التصرفات الضارة؛ لكونه إزالة الملك بغير عوض, والصبي والمجنون ليسا من أهل التصرفات الضارة, ولهذا لا تصح منهما الهبة والصدقة والإعتاق ونحو ذلك "ومنها" الحرية فلا يملكه العبد؛ لأنه إزالة الملك, والعبد ليس من أهل الملك, وسواء كان مأذونا أو محجورا؛ لأن هذا ليس من باب التجارة ولا من ضرورات التجارة, فلا يملكه المأذون كما لا يملك الصدقة والهبة والإعتاق. "ومنها" أن يخرجه الواقف من يده ويجعل له قيما ويسلمه إليه عند أبي حنيفة ومحمد, وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط, واحتج بما روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه وقف, وكان يتولى أمر وقفه بنفسه وكان في يده, وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه كان يفعل كذلك؛ ولأن هذا إزالة الملك لا إلى حد فلا يشترط فيه التسليم كالإعتاق ولهما أن الوقف إخراج المال عن الملك على وجه الصدقة, فلا يصح بدون التسليم كسائر التصرفات "وأما" وقف سيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما فاحتمل أنهما أخرجاه عن أيديهما وسلماه إلى المتولي بعد ذلك فصح, كمن وهب من آخر شيئا أو تصدق, أو لم يسلم إليه وقت الصدقة والهبة ثم سلم صح التسليم كذا هذا

 

ج / 6 ص -220-       ثم التسليم في الوقف عندهما أن يجعل له قيما ويسلمه إليه, وفي المسجد أن يصلى فيه جماعة بأذان وإقامة بإذنه كذا ذكر القاضي في شرح الطحاوي وذكر القدوري رحمه الله في شرحه أنه إذا أذن للناس بالصلاة فيه فصلى واحد كان تسليما, ويزول ملكه عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله, وهل يشترط أن لا يشرط الواقف لنفسه من منافع الوقف شيئا, عند أبي يوسف ليس بشرط, وعند محمد شرط "وجه" قول محمد أن هذا إخراج المال إلى الله تعالى وجعله خالصا له, وشرط الانتفاع لنفسه يمنع الإخلاص فيمنع جواز الوقف, كما إذا جعل أرضه أو داره مسجدا وشرط من منافع ذلك لنفسه شيئا, وكما لو أعتق عبده وشرط خدمته لنفسه ولأبي يوسف ما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه وقف وشرط في وقفه لا جناح على من وليه أن يأكل منه بالمعروف, وكان يلي أمر وقفه بنفسه, وعن أبي يوسف رحمه الله أن الواقف إذا شرط لنفسه بيع الوقف وصرف ثمنه إلى ما هو أفضل منه يجوز؛ لأن شرط البيع شرط لا ينافيه الوقف, ألا ترى أنه يباع باب المسجد إذا خلق, وشجر الوقف إذا يبس "ومنها" أن يجعل آخره بجهة لا تنقطع أبدا عند أبي حنيفة ومحمد, فإن لم يذكر ذلك لم يصح عندهما, وعند أبي يوسف ذكر هذا ليس بشرط بل يصح وإن سمى جهة تنقطع, ويكون بعدها للفقراء وإن لم يسمهم "وجه" قول أبي يوسف أنه ثبت الوقف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن الصحابة, ولم يثبت عنهم هذا الشرط ذكرا وتسمية ولأن قصد الواقف أن يكون آخره للفقراء وإن لم يسمهم هو الظاهر من حاله, فكان تسمية هذا الشرط ثابتا دلالة, والثابت دلالة كالثابت نصا, ولهما أن التأبيد شرط جواز الوقف لما نذكر, وتسمية جهة تنقطع توقيت له معنى فيمنع الجواز "وأما" الذي يرجع إلى نفس الوقف فهو التأبيد, وهو أن يكون مؤبدا حتى لو وقت لم يجز؛ لأنه إزالة الملك لا إلى حد فلا تحتمل التوقيت كالإعتاق وجعل الدار مسجدا.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى الموقوف فأنواع: "منها" أن يكون مما لا ينقل ولا يحول كالعقار ونحوه, فلا يجوز وقف المنقول مقصودا لما ذكرنا أن التأبيد شرط جوازه, ووقف المنقول لا يتأبد لكونه على شرف الهلاك, فلا يجوز وقفه مقصودا إلا إذا كان تبعا للعقار, بأن وقف ضيعة ببقرها وأكرتها وهم عبيده فيجوز, كذا قاله أبو يوسف, وجوازه تبعا لغيره لا يدل على جوازه مقصودا كبيع الشرب ومسيل الماء, والطريق أنه لا يجوز مقصودا ويجوز تبعا للأرض والدار, وإن كان شيئا جرت العادة بوقفه, كوقف المر والقدوم لحفر القبور, ووقف المرجل لتسخين الماء, ووقف الجنازة وثيابها. ولو وقف أشجارا قائمة, فالقياس أن لا يجوز؛ لأنه وقف المنقول, وفي الاستحسان يجوز لتعامل الناس ذلك, وما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن, ولا يجوز وقف الكراع والسلاح في سبيل الله تعالى عند أبي حنيفة لأنه منقول وما جرت العادة به, وعند أبي يوسف ومحمد يجوز, ويجوز عندهما بيع ما هرم منها, أو صار بحال لا ينتفع به فيباع ويرد ثمنه في مثله, كأنهما تركا القياس في الكراع والسلاح بالنص, وهو ما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال "أما خالد فقد احتبس أكراعا وأفراسا في سبيل الله تعالى" ولا حجة لهما في الحديث؛ لأنه ليس فيه أنه وقف ذلك فاحتمل قوله: حبسه, أي أمسكه للجهاد لا للتجارة "وأما" وقف الكتب فلا يجوز على أصل أبي حنيفة "وأما" على قولهما فقد اختلف المشايخ فيه, وحكي عن نصر بن يحيى أنه وقف كتبه على الفقهاء من أصحاب أبي حنيفة "ومنها" أن يكون الموقوف مقسوما عند محمد فلا يجوز وقف المشاع, وعند أبي يوسف هذا ليس بشرط, ويجوز مقسوما كان أو مشاعا؛ لأن التسليم شرط الجواز عند محمد, والشيوع يخل بالقبض والتسليم, وعند أبي يوسف التسليم ليس بشرط أصلا, فلا يكون الخلل فيه مانعا, وقد روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه ملك مائة سهم بخيبر فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "احبس أصلها" فدل على أن الشيوع لا يمنع صحة الوقف, وجواب محمد رحمه الله يحتمل أنه وقف مائة سهم قبل القسمة, ويحتمل أنه بعدها, فلا يكون حجة مع الشك والاحتمال, على أنه إن ثبت أن الوقف كان قبل القسمة, فيحمل أنه وقفها شائعا ثم قسم وسلم, وقد روي أنه فعل كذلك, وذلك جائز كما لو وهب مشاعا ثم قسم وسلم.

"فصل": وأما حكم الوقف الجائز وما يتصل به: فالوقف إذا جاز على اختلاف العلماء في ذلك, فحكمه أنه يزول