بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 7 ص -33-         "كتاب الحدود"
جمع محمد رحمه الله بين مسائل الحدود وبين مسائل التعزير, وبدأ بمسائل الحدود, فبدأ بما بدأ به فنقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق: الكلام في الحدود يقع في مواضع في بيان معنى الحد لغة وشرعا, وفي بيان أسباب وجوب الحدود وشرائط وجوبها, وفي بيان ما يظهر به وجوبها عند القاضي, وفي بيان صفاتها, وفي بيان مقدار الواجب منها, وفي بيان شرائط جواز إقامتها, وفي بيان كيفية إقامتها وموضع الإقامة, وفي بيان ما يسقطها بعد الوجوب, وفي بيان حكمها إذا اجتمعت, وفي بيان حكم المحدود. "أما" الأول: الحد في اللغة: عبارة عن المنع, ومنه سمي البواب حدادا؛ لمنعه الناس عن الدخول, وفي الشرع: عبارة عن عقوبة مقدرة واجبة حقا لله تعالى عز شأنه بخلاف التعزير فإنه ليس بمقدر, قد يكون بالضرب وقد يكون بالحبس وقد يكون بغيرهما, وبخلاف القصاص فإنه وإن كان عقوبة مقدرة لكنه يجب حقا للعبد, حتى يجري فيه العفو والصلح, سمي هذا النوع من العقوبة حدا؛ لأنه يمنع صاحبه إذا لم يكن متلفا وغيره بالمشاهدة, ويمنع من يشاهد ذلك ويعاينه إذا لم يكن متلفا؛ لأنه يتصور حلول تلك العقوبة بنفسه؛ لو باشر تلك الجناية فيمنعه ذلك من المباشرة, والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان أسباب وجوبها فلا يمكن الوصول إليه إلا بعد معرفة أنواعها؛ لأن سبب وجوب كل نوع يختلف باختلاف النوع, فنقول: الحدود خمسة أنواع: حد السرقة, وحد الزنا, وحد الشرب, وحد السكر, وحد القذف. "أما" حد السرقة: فسبب وجوبه السرقة, وسنذكر ركن السرقة وشرائط الركن في كتاب السرقة. "وأما" حد الزنا فنوعان: جلد, ورجم, وسبب وجوب كل واحد منهما وهو الزنا, وإنما يختلفان في الشرط, وهو الإحصان, فالإحصان شرط لوجوب الرجم وليس بشرط لوجوب الجلد, فلا بد من معرفة الزنا والإحصان في عرف الشرع, أما الزنا: فهو اسم للوطء الحرام في قبل المرأة الحية في حالة الاختيار في دار العدل, ممن التزم أحكام الإسلام العاري عن حقيقة الملك وعن شبهته, وعن حق الملك وعن حقيقة النكاح وشبهته, وعن شبهة الاشتباه في موضع الاشتباه في الملك والنكاح

 

ج / 7 ص -34-         جميعا. والأصل في اعتبار الشبهة في هذا الباب الحديث المشهور, وهو قوله عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود بالشبهات"؛ ولأن الحد عقوبة متكاملة فتستدعي جناية متكاملة, والوطء في القبل في غير ملك ولا نكاح لا يتكامل جناية؛ إلا عند انتفاء الشبهة كلها إذا عرف الزنا في عرف الشرع فنخرج عليه بعض المسائل فنقول: الصبي أو المجنون إذا وطئ امرأة أجنبية لا حد عليه؛ لأن فعلهما لا يوصف بالحرمة, فلا يكون الوطء منهما زنا, فلا حد على المرأة إذا طاوعته عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم, وقال زفر والشافعي رضي الله عنهم: عليها الحد. ولا خلاف في أن العاقل البالغ إذا زنى بصبية أو مجنونة أنه يجب عليه الحد ولا حد عليها, لهما أن المانع من وقوع الفعل زنا خص أحد الجانبين فيختص به المنع, كالعاقل البالغ إذا زنى بصبية أو مجنونة أنه يجب عليه الحد, وإن كان لا يجب عليها؛ لما قلنا. كذا هذا. "ولنا" أن وجوب الحد على المرأة في باب الزنا ليس لكونها زانية؛ لأن فعل الزنا لا يتحقق منها وهو الوطء؛ لأنها موطوءة وليست بواطئة, وتسميتها في الكتاب العزيز زانية مجاز لا حقيقة, وإنما وجب عليها؛ لكونها مزنيا بها, وفعل الصبي والمجنون ليس بزنا فلا تكون هي مزنيا بها, فلا يجب عليها الحد, وفعل الزنا يتحقق من العاقل البالغ فكانت الصبية أو المجنونة مزنيا بها, إلا أن الحد لم يجب عليها؛ لعدم الأهلية والأهلية ثابتة في جانب الرجل فيجب, وكذلك الوطء في الدبر في الأنثى أو الذكر لا يوجب الحد عند أبي حنيفة وإن كان حراما؛ لعدم الوطء في القبل فلم يكن زنا, وعندهما والشافعي يوجب الحد وهو الرجم إن كان محصنا والجلد إن كان غير محصن لا لأنه زنا؛ بل لأنه في معنى الزنا؛ لمشاركة الزنا في المعنى المستدعي لوجوب الحد وهو الوطء الحرام على وجه التمحض, فكان في معنى الزنا, فورود النص بإيجاب الحد هناك يكون ورودا ههنا دلالة. ولأبي حنيفة ما ذكرنا أن اللواطة ليست بزنا؛ لما ذكرنا أن الزنا اسم للوطء في قبل المرأة, ألا ترى أنه يستقيم أن يقال: لاط وما زنى, وزنى وما لاط, ويقال: فلان لوطي وفلان زاني, فكذا يختلفان اسما, واختلاف الأسامي دليل اختلاف المعاني في الأصل؛ ولهذا اختلف الصحابة رضي الله عنهم في حد هذا الفعل, ولو كان هذا زنا لم يكن لاختلافهم معنى؛ لأن موجب الزنا كان معلوما لهم بالنص فثبت أنه ليس بزنا ولا في معنى الزنا أيضا؛ لما في الزنا من اشتباه الأنساب وتضييع الولد ولم يوجد ذلك في هذا الفعل, إنما فيه تضييع الماء المهين الذي يباح مثله بالعزل, وكذا ليس في معناه فيما شرع له الحد وهو الزجر؛ لأن الحاجة إلى شرع الزاجر فيما يغلب وجوده ولا يغلب وجود هذا الفعل؛ لأن وجوده يتعلق باختيار شخصين, ولا اختيار إلا لداع يدعو إليه, ولا داعي في جانب المحل أصلا, وفي الزنا وجد الداعي من الجانبين جميعا وهو الشهوة المركبة فيهما جميعا فلم يكن في معنى الزنا فورود النص هناك ليس ورودا ههنا, وكذا اختلاف اجتهاد الصحابة رضي الله عنهم دليل على أن الواجب بهذا الفعل هو التعزير؛ لوجهين: أحدهما أن التعزير هو الذي يحتمل الاختلاف في القدر والصفة لا الحد. والثاني أنه لا مجال للاجتهاد في الحد بل لا يعرف إلا بالتوقيف, وللاجتهاد مجال في التعزير. وكذا وطء المرأة الميتة لا يوجب الحد ويوجب التعزير؛ لعدم وطء المرأة الحية. وكذا وطء البهيمة وإن كان حراما؛ لانعدام الوطء في قبل المرأة فلم يكن زنا, ثم إن كانت البهيمة ملك الواطئ قيل: إنها تذبح ولا تؤكل, ولا رواية فيه عن أصحابنا رحمهم الله لكن روى محمد عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه لم يحد واطئ البهيمة, وأمر بالبهيمة حتى أحرقت بالنار. وكذلك الوطء عن إكراه لا يوجب الحد. وكذلك الوطء في دار الحرب, وفي دار البغي لا يوجب الحد, حتى إن من زنى في دار الحرب أو دار البغي ثم خرج إلينا لا يقام عليه الحد؛ لأن الزنا لم ينعقد سببا لوجوب الحد حين وجوده؛ لعدم الولاية فلا يستوفى بعد ذلك, وكذلك الحربي المستأمن إذا زنى بمسلمة أو ذمية أو, ذمي زنى بحربية مستأمنة لا حد على الحربي والحربية عندهما, وعند أبي يوسف يحدان. وجه قوله أنه لما دخل دار الإسلام فقد التزم أحكام الإسلام مدة إقامته فيها فصار كالذمي؛ ولهذا يقام عليه حد القذف كما يقام على الذمي؛ ولهما أنه لم يدخل دار الإسلام على سبيل الإقامة والتوطن بل على سبيل العارية؛ ليعاملنا ونعامله, ثم يعود فلم يكن دخوله دار الإسلام دلالة التزامه حق الله سبحانه وتعالى خالصا, بخلاف حد القذف؛ لأنه لما طلب الأمان من المسلمين فقد

 

ج / 7 ص -35-         التزم أمانهم عن الإيذاء بنفسه وظهر حكم الإسلام في حقه, ثم يحد المسلمة والذمية عند أبي حنيفة رحمه الله وعند محمد رحمه الله لا يحد, ويحد الذمي بلا خلاف. "وجه" قول محمد رحمه الله أن الأصل فعل الرجل, وفعلها يقع تبعا فلما لم يجب على الأصل لا يجب على التبع كالمطاوعة للصبي والمجنون. "وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن فعل الحربي حرام محض, ألا ترى أنه يؤاخذ فكان زنا فكانت هي مزنيا بها, إلا أن الحد لم يجب على الرجل؛ لعدم التزامه أحكامنا, وهذا أمر يخصه, ويحد الذمي؛ لأنه بالذمة والعهد التزم أحكام الإسلام مطلقا إلا في قدر ما وقع الاستثناء فيه ولم يوجد ههنا.
وكذلك وطء الحائض والنفساء والصائمة والمحرمة والمجنونة والموطوءة بشبهة والتي ظاهر منها أو آلى منها؛ لا يوجب الحد وإن كان حراما؛ لقيام الملك والنكاح فلم يكن زنا. وكذلك وطء الجارية المشتركة والمجوسية والمرتدة والمكاتبة والمحرمة برضاع أو صهرية أو جمع؛ لقيام الملك وإن كان حراما وعلم بالحرمة, وكذلك وطء الأب جارية الابن لا يوجب الحد وإن علم بالحرمة؛ لأن له في مال ابنه شبهة الملك وهو الملك من وجه أو حق الملك لقوله عليه الصلاة والسلام
"أنت ومالك لأبيك" فظاهر إضافة مال الابن إلى الأب بحرف اللام يقتضي حقيقة الملك, فلئن تقاعد عن إفادة الحقيقة فلا يتقاعد على إيراث الشبهة أو حق الملك, وكذلك وطء جارية المكاتب؛ لأن المكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم فكان مملوك المولى رقبة, وملك الرقبة يقتضي ملك الكسب فإن لم يثبت مقتضاه حقيقة فلا أقل من الشبهة, وكذلك وطء جارية العبد المأذون, سواء كان عليه دين أو لم يكن, أما إذا لم يكن عليه دين فظاهر؛ لأنها ملك المولى, وكذلك إن كان عليه دين؛ لأن رقبة المأذون ملك المولى وملك الرقبة يقتضي ملك الكسب كما في جارية المكاتب وبل أولى؛ لأن كسب المأذون أقرب إلى المولى من كسب المكاتب, فلما لم يجب الحد هناك فههنا أولى؛ ولأن هذا الملك محل الاجتهاد؛ لأن العلماء اختلفوا فيه واختلافهم يورث شبهة فأشبه وطئا حصل في نكاح وهو محل الاجتهاد, وذا لا يوجب الحد كذا هذا. وكذلك وطء الجد أب الأب وإن علا عند عدم الأب بمنزلة وطء الأب؛ لأن له ولادا فنزل منزلة الأب, وكذلك الرجل من الغانمين إذا وطئ جارية من المغنم قبل القسمة بعد الإحراز بدار الإسلام أو قبله لا حد عليه, وإن علم أن وطأها عليه حرام لثبوت الحق له بالاستيلاء؛ لانعقاد سبب الثبوت, فإن لم يثبت فلا أقل من ثبوت الحق فيورث شبهة, ولو جاءت هذه الجارية بولد فادعاه لا يثبت نسبه منه؛ لأن ثبوت النسب يعتمد الملك في المحل, أما من كل وجه, أو من وجه, ولم يوجد قبل القسمة, بل الموجود حق عام, وأنه يكفي لسقوط الحد ولا يكفي لثبوت النسب. وكذلك وطء امرأة تزوجها بغير شهود أو بغير ولي عند من لا يجيزه لا يوجب الحد؛ لأن العلماء اختلفوا منهم من قال: يجوز النكاح بدون الشهادة والولاية, فاختلافهم يورث شبهة, وكذلك إذا تزوج معتدة الغير أو مجوسية أو مدبرة أو أمة على حرة أو أمة بغير إذن مولاها, أو العبد تزوج امرأة بغير إذن مولاه فوطئها لا حد عليه؛ لوجود لفظ النكاح من الأهل في المحل, وأنه يوجب شبهة. وكذلك إذا نكح محارمه أو الخامسة أو أخت امرأته فوطئها لا حد عليه عند أبي حنيفة وإن علم بالحرمة, وعليه التعزير, وعندهما والشافعي رحمهم الله تعالى عليه الحد, والأصل عند أبي حنيفة عليه الرحمة أن النكاح إذا وجد من الأهل مضافا إلى محل قابل لمقاصد النكاح يمنع وجوب الحد, سواء كان حلالا أو حراما, وسواء كان التحريم مختلفا فيه أو مجمعا عليه, وسواء ظن الحل فادعى الاشتباه أو علم بالحرمة, والأصل عندهما أن النكاح إذا كان محرما على التأبيد أو كان تحريمه مجمعا عليه يجب الحد, وإن لم يكن محرما على التأبيد أو كان تحريمه مختلفا فيه لا يجب عليه. "وجه" قولهم أن هذا نكاح أضيف إلى غير محله فيلغو, ودليل عدم المحلية أن محل النكاح هي المرأة المحللة؛ لقوله سبحانه وتعالى {وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ} والمحارم محرمات على التأبيد؛ لقول الله تعالى {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ} الآية إلا أنه إذا ادعى الاشتباه, وقال: ظننت أنها تحل. لي سقط الحد؛ لأنه ظن أن صيغة لفظ النكاح من الأهل في المحل دليل الحل فاعتبر هذا الظن في حقه, وإن لم يكن معتبرا حقيقة إسقاطا لما يدرأ بالشبهات, وإذا لم يدع خلا الوطء عن الشبهة فيجب الحد. "وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن لفظ النكاح صدر من أهله مضافا إلى محله فيمنع وجوب الحد, كالنكاح بغير شهود, ونكاح

 

ج / 7 ص -36-         المتعة ونحو ذلك, ولا شك في وجود لفظ النكاح والأهلية, والدليل على المحلية أن محل النكاح هو الأنثى من بنات سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام النصوص والمعقول, أما النصوص, فقوله سبحانه وتعالى {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ}, وقوله سبحانه وتعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا}, وقوله سبحانه وتعالى {وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} جعل الله سبحانه وتعالى النساء على العموم والإطلاق محل النكاح والزوجية. وأما المعقول؛ فلأن الأنثى من بنات سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام محل صالح لمقاصد النكاح من السكنى والولد والتحصين وغيرها, فكانت محلا لحكم النكاح؛ لأن حكم التصرف وسيلة إلى ما هو المقصود من التصرف, فلو لم يجعل محل المقصود محل الوسيلة لم يثبت معنى التوسل, إلا أن الشرع أخرجها من أن تكون محلا للنكاح شرعا مع قيام المحلية حقيقة, فقيام صورة العقد والمحلية يورث شبهة, إذ الشبهة اسم لما يشبه الثابت وليس بثابت, أو نقول: وجد ركن النكاح والأهلية والمحلية على ما بينا, إلا أنه فات شرط الصحة فكان نكاحا فاسدا, والوطء في النكاح الفاسد لا يكون زنا بالإجماع, وعلى هذا ينبغي أن يعلل فيقال: هذا الوطء ليس بزنا. فلا يوجب حد الزنا قياسا على النكاح بغير شهود وسائر الأنكحة الفاسدة.
ولو وطئ جارية الأب أو الأم فإن ادعى الاشتباه بأن قال: ظننت أنه تحل لي. لم يجب الحد وإن لم يدع يجب, وهو تفسير شبهة الاشتباه, وأنها تعتبر في سبعة مواضع: في جارية الأب وجارية الأم وجارية المنكوحة وجارية المطلقة ثلاثا ما دامت في العدة وأم الولد ما دامت تعتد منه والعبد إذا وطئ جارية مولاه والجارية المرهونة إذا وطئها المرتهن, في رواية كتاب الرهن, وفي رواية كتاب الحدود يجب الحد ولا يعتبر ظنه, أما إذا وطئ جارية أبيه أو أمه أو زوجته؛ فلأن الرجل ينبسط في مال أبويه وزوجته وينتفع به من غير استئذان وحشمة عادة, ألا ترى أنه يستخدم جارية أبويه ومنكوحته من غير استئذان؛ فظن أن هذا النوع من الانتفاع مطلق له شرعا أيضا, وهذا وإن لم يصلح دليلا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلا اعتبر في حقه؛ لإسقاط ما يندرئ بالشبهات. وإذا لم يدع ذلك فقد عرى الوطء عن الشبهة فتمحض حراما فيجب الحد ولا يثبت نسب الولد سواء ادعى بالاشتباه أو لا؛ لأن ثبات النسب يعتمد قيام معنى في المحل وهو الملك من كل وجه أو من وجه ولم يوجد, ولو ادعى أحدهما الظن ولم يدع الآخر لا حد عليهما ما لم يقرا جميعا أنهما قد علما بالحرمة؛ لأن الوطء يقوم بهما جميعا فإذا تمكنت فيه الشبهة من أحد الجانبين؛ فقد تمكنت من الجانب الآخر ضرورة. وأما من سوى الأب والأم من سائر ذوي الرحم المحرم, كالأخ والأخت ونحوهما إذا وطئ جاريته يجب الحد, وإن قال: ظننت أنها تحل لي؛ لأن هذا دعوى الاشتباه في غير موضع الاشتباه؛ لأن الإنسان لا ينبسط بالانتفاع بمال أخيه وأخته عادة, فلم يكن هذا ظنا مستندا إلى دليل فلا يعتبر, وكذلك إذا وطئ جارية ذات رحم محرم من امرأته؛ لما قلنا, أما إذا وطئ المطلقة ثلاثا في العدة؛ فلأن النكاح قد زال في حق الحل أصلا؛ لوجود المبطل لحل المحلية وهو الطلقات الثلاث, وإنما بقي في حق الفراش والحرمة على الأزواج فقط فتمحض الوطء حراما فكان زنا فيوجب الحد؛ إلا إذا ادعى الاشتباه وظن الحل؛ لأنه بنى ظنه على نوع دليل وهو بقاء النكاح في حق الفراش وحرمة الأزواج فظن أنه بقي في حق الحل أيضا, وهذا وإن لم يصلح دليلا على الحقيقة لكنه لما ظنه دليلا اعتبر في حقه درأ لما يندرئ بالشبهات, وإن كان طلاقها واحدة بائنة لم يجب الحد, وإن قال: علمت أنها علي حرام؛ لأن زوال الملك بالإبانة وسائر الكنايات مجتهد فيه؛ لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم فإن مثل سيدنا عمر رضي الله عنه يقول في الكنايات: إنها رواجع, وطلاق الرجعي لا يزيل الملك فاختلافهم يورث شبهة. ولو خالعها أو طلقها على مال فوطئها في العدة ذكر الكرخي أنه ينبغي أن يكون الحكم فيه كالحكم في المطلقة ثلاثا, وهو الصحيح؛ لأن زوال الملك بالخلع والطلاق على مال مجمع عليه فلم تتحقق الشبهة فيجب الحد إلا إذا ادعى الاشتباه؛ لما ذكرنا في المطلقة الثلاث, وكذلك إذا وطئ أم ولده وهي تعتد منه بأن أعتقها؛ لأن زوال الملك بالإعتاق مجمع عليه فلم تثبت الشبهة. وأما العبد إذا وطئ جارية مولاه, فإن العبد ينبسط في مال مولاه عادة بالانتفاع فكان وطؤه مستندا إلى ما هو دليل في حقه فاعتبر في حقه؛ لإسقاط الحد وإذا لم يدع يحد؛ لعراء الوطء عن

 

ج / 7 ص -37-         الشبهة.وأما المرتهن إذا وطئ الجارية المرهونة, "فوجه" رواية كتاب الرهن أن يد المرتهن يد استيفاء الدين؛ فصار المرتهن مستوفيا الدين من الجارية يدا, فقد وطئ جارية هي مملوكة له يدا؛ فلا يجب, الحد, كالجارية المبيعة إذا وطئها البائع قبل التسليم؛ إلا إذا ادعى الاشتباه وقال: ظننت أنها تحل لي؛ لأنه استند ظنه إلى نوع دليل وهو ملك اليد, فيعتبر في حقه درأ للحد, وإذا لم يدع فلا شبهة فلا يجب الحد. "وجه" رواية كتاب الحدود أن الاستيفاء في باب الرهن إنما يتحقق من مالية الرهن لا من عينه؛ لأن الاستيفاء لا يتحقق إلا في الجنس ولا مجانسة بين التوثيق وبين عين الجارية, فلا يتصور الاستيفاء من عينها فلا يعتبر ظنه. ولو وطئ البائع الجارية المبيعة قبل التسليم لا حد عليه, وكذلك الزوج إذا وطئ الجارية التي تزوج عليها قبل التسليم؛ لأن ملك الرقبة وإن زال بالبيع والنكاح فملك اليد قائم فيورث شبهة. ولو وطئ المستأجر جارية الإجارة, والمستعير جارية الإعارة, والمستودع جارية الوديعة يحد, وإن قال: ظننت أنها تحل لي؛ لأن هذا ظن عري عن دليل فكان في غير موضعه فلا يعتبر. ولو زفت إليه غير امرأته, وقلن النساء: إن هذه امرأتك فوطئها لا حد عليه, منهم من قال: إنما لم يجب الحد؛ لشبهة الاشتباه, وهذا غير سديد, فإنها إذا جاءت بولد يثبت النسب, ولو كان امتناع الوجوب لشبهة الاشتباه ينبغي أن لا يثبت؛ لأن النسب لا يثبت في شبهة الاشتباه كما فيما ذكرنا من المسائل, وههنا يثبت النسب, دل أن الامتناع ليس لشبهة الاشتباه بل لمعنى آخر. وهو إن وطئها بناء على دليل ظاهر يجوز بناء الوطء عليه, وهو الإخبار بأنها امرأته, بل لا دليل ههنا سواه فلئن تبين الأمر بخلافه فقيام الدليل المبيح من حيث الظاهر يورث شبهة, ولو وطئ أجنبية وقال: ظننت أنها امرأتي أو جاريتي أو شبهتها بامرأتي أو جاريتي يجب الحد؛ لأن هذا الظن غير معتبر؛ لعدم استناده إلى دليل فكان ملحقا بالعدم فلا يحل الوطء بناء على هذا الظن, ما لم يعرف أنها امرأته بدليل, إما بكلامها أو بإخبار مخبر, ولم يوجد, مع ما أنا لو اعتبرنا هذا الظن في إسقاط الحد لم يقم حد الزنا في موضع ما, إذ الزاني لا يعجز عن هذا القدر فيؤدي إلى سد باب الحد, وهكذا روي عن إبراهيم النخعي رحمه الله أنه قال: لو قيل هذا لما أقيم الحد على أحد, وكذلك لو كان الرجل أعمى فوجد امرأة في بيته فوقع عليها وقال: ظننتها امرأتي عليه الحد؛ لأن هذا ظن لم يستند إلى دليل, إذ قد يكون في البيت من لا يجوز وطؤها من المحارم والأجنبيات؛ فلا يحل الوطء بناء على هذا الظن فلم تثبت الشبهة. وروي عن محمد في رجل أعمى دعا امرأته فقال: يا فلانة, فأجابت غيرها, فوقع عليها؛ أنه يحد, ولو أجابته غيرها وقالت: أنا فلانة فوقع عليها لم يحد, ويثبت النسب وهي كالمرأة المزفوفة إلى غير زوجها؛ لأنه لا يحل له وطؤها بنفس الإجابة ما لم تقل أنا فلانة؛ لأن الإجابة قد تكون من التي ناداها, وقد تكون من غيرها, فلا يجوز بناء الوطء على نفس الإجابة, فإذا فعل لم يعذر, بخلاف ما إذا قالت: أنا فلانة فوطئها؛ لأنه لا سبيل للأعمى إلى أن يعرف أنها امرأته إلا بذلك الطريق, فكان معذورا فأشبه المرأة المزفوفة, حتى لو كان الرجل بصيرا لا يصدق على ذلك؛ لإمكان الوصول إلى أنها امرأته بالرؤية. وروي عن زفر في رجل أعمى وجد على فراشه أو مجلسه امرأة نائمة فوقع عليها وقال: ظننت أنها امرأتي؛ يدرأ عنه الحد وعليه العقر, وقال أبو يوسف: لا يدرأ. "وجه" قول زفر أنه ظن في موضع الظن, إذ الظاهر أنه لا ينام على فراشه غير امرأته, فكان ظنه مستندا إلى دليل ظاهر؛ فيوجب درأ الحد, كما لو زفت إليه غير امرأته فوطئها. "وجه" قول أبي يوسف أن النوم على الفراش لا يدل على أنها امرأته لجواز أن ينام على فراشه غير امرأته, فلا يجوز استحلال الوطء بهذا القدر, فإذا استحل وظهر الأمر بخلافه لم يكن معذورا, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما الإحصان, فالإحصان نوعان: إحصان الرجم, وإحصان القذف أما إحصان الرجم فهو عبارة في الشرع عن اجتماع صفات اعتبرها الشرع لوجوب الرجم, وهي سبعة: العقل والبلوغ والحرية والإسلام والنكاح الصحيح وكون الزوجين جميعا على هذه الصفات, وهو أن يكونا جميعا عاقلين بالغين حرين مسلمين, فوجود هذه الصفات جميعا فيهما شرط؛ لكون كل واحد منهما محصنا, والدخول في النكاح الصحيح بعد سائر الشرائط متأخرا عنها, فإن تقدمها لم يعتبر ما لم يوجد دخول آخر بعدها, فلا إحصان للصبي والمجنون والعبد والكافر, ولا بالنكاح الفاسد

 

ج / 7 ص -38-         ولا بنفس النكاح ما لم يوجد الدخول. وما لم يكن الزوجان جميعا وقت الدخول على صفة الإحصان, حتى أن الزوج العاقل البالغ الحر المسلم إذا دخل بزوجته, وهي صبية أو مجنونة أو أمة أو كتابية, ثم أدركت الصبية وأفاقت المجنونة وأعتقت الأمة وأسلمت الكافرة؛ لا يصير محصنا ما لم يوجد دخول آخر بعد زوال هذه العوارض, حتى لو زنى قبل دخول آخر لا يرجم, فإذا وجدت هذه الصفات صار الشخص محصنا؛ لأن الإحصان في اللغة عبارة عن الدخول في الحصن, يقال: أحصن, أي دخل الحصن, كما يقال: أعرق أي دخل العراق, وأشأم أي دخل الشام, وأحصن أي دخل في الحصن, ومعناه دخل حصنا عن الزنا إذا دخل فيه, وإنما يصير الإنسان داخلا في الحصن عن الزنا عند توفر الموانع, وكل واحد من هذه الجملة مانع عن الزنا, فعند اجتماعها تتوفر الموانع. أما العقل؛ فلأن للزنا عاقبة ذميمة, والعقل يمنع عن ارتكاب ما له عاقبة ذميمة. وأما البلوغ فإن الصبي؛ لنقصان عقله ولقلة تأمله لاشتغاله باللهو واللعب لا يقف على عواقب الأمور فلا يعرف الحميدة منها والذميمة. وأما الحرية؛ فلأن الحر يستنكف عن الزنا وكذا الحرة؛ ولهذا "لما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم آية المبايعة على النساء وبلغ إلى قول الله تعالى {وَلا يَزْنِينَ} قالت هند امرأة أبي سفيان: أوتزني الحرة يا رسول الله؟" وأما الإسلام؛ فلأنه نعمة كاملة موجبة للشكر فيمنع من الزنا الذي هو وضع الكفر في موضع الشكر. وأما اعتبار اجتماع هذه الصفات في الزوجين جميعا؛ فلأن اجتماعها فيهما يشعر بكمال حالهما, وذا يشعر بكمال اقتضاء الشهوة من الجانبين؛ لأن اقتضاء الشهوة بالصبية والمجنونة قاصر, وكذا بالرقيق؛ لكون الرق من نتائج الكفر فينفر عنه الطبع, وكذا بالكافرة؛ لأن طبع المسلم ينفر عن الاستمتاع بالكافرة. ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج يهودية: "دعها فإنها لا تحصنك" وأما الدخول بالنكاح الصحيح؛ فلأنه اقتضاء الشهوة بطريق حلال فيقع به الاستغناء عن الحرام, والنكاح الفاسد لا يفيد فلا يقع به الاستغناء. وأما كون الدخول آخر الشرائط؛ فلأن الدخول قبل استيفاء سائر الشرائط لا يقع اقتضاء الشهوة على سبيل الكمال, فلا تقع الغنية به عن الحرام على التمام, وبعد استيفائها تقع به الغنية على الكمال والتمام, فثبت أن هذه الجملة موانع عن الزنا فيحصل بها معنى الإحصان وهو الدخول في الحصن عن الزنا, ولا خلاف في هذه الجملة إلا في الإسلام, فإنه روي عن أبي يوسف أنه ليس من شرائط الإحصان حتى لا يصير المسلم محصنا بنكاح الكتابية, والدخول بها في ظاهر الرواية. وكذلك الذمي العاقل البالغ الحر الثيب إذا زنى لا يرجم في ظاهر الرواية بل يجلد, وعلى ما روي عن أبي يوسف يصير المسلم محصنا بنكاح الكتابية, ويرجم الذمي به, وبه أخذ الشافعي رحمه الله تعالى واحتجا بما روي "أنه عليه الصلاة والسلام رجم يهوديين" ولو كان الإسلام شرطا لما رجم؛ ولأن اشتراط الإسلام للزجر عن الزنا, والدين المطلق يصلح للزجر عن الزنا؛ لأن الزنا حرام في الأديان كلها. "ولنا" في زنا الذمي قوله تعالى {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} أوجب سبحانه وتعالى الجلد على كل زان وزانية, أو على مطلق الزاني والزانية من غير فصل بين المؤمن والكافر, ومتى وجب الجلد انتفى وجوب الرجم ضرورة؛ ولأن زنا الكافر لا يساوي زنا المسلم في كونه جناية, فلا يساويه في استدعاء العقوبة كزنا البكر مع زنا الثيب. وبيان ذلك: أن زنا المسلم اختص بمزيد قبح انتفى, ذلك في زنا الكافر وهو كون زناه وضع الكفران في موضع الشكر؛ لأن دين الإسلام نعمة ودين الكفر ليس بنعمة, وفي زنا المسلم بالكتابية قوله عليه الصلاة والسلام لحذيفة رضي الله عنه حين أراد أن يتزوج يهودية: "دعها فإنها لا تحصنك" وقوله عليه الصلاة والسلام "من أشرك بالله فليس بمحصن" والذمي مشرك على الحقيقة فلم يكن محصنا وما ذكرنا أن في اقتضاء الشهوة بالكافرة قصورا, فلا يتكامل معنى النعمة فلا يتكامل الزاجر, وقوله الزجر يحصل بأصل الدين قلنا: نعم, لكنه لا يتكامل إلا بدين الإسلام؛ لأنه نعمة فيكون الزنا من المسلم وضع الكفران في موضع الشكر, ودين الكفر ليس بنعمة؛ فلا يكون في كونه زاجرا مثله. وأما حديث رجم اليهوديين فيحتمل أنه كان قبل نزول آية الجلد؛ فانتسخ بها. ويحتمل أنه كان بعد نزولها, ونسخ خبر الواحد أهون من نسخ الكتاب العزيز, وإحصان كل واحد من الزانيين ليس بشرط

 

ج / 7 ص -39-         لوجوب الرجم على أحدهما, حتى لو كان أحدهما محصنا والآخر غير محصن, فالمحصن منهما يرجم, وغير المحصن يجلد, ثم إذا ظهر إحصان الزاني بالبينة أو بالإقرار يرجم بالنص والمعقول, أما النص فالحديث المشهور, وهو قوله عليه الصلاة والسلام "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى معان ثلاث: كفر بعد إيمان, وزنا بعد إحصان, وقتل نفس بغير حق". وروي "أنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا وكان محصنا". وأما المعقول فهو أن المحصن إذا توفرت عليه الموانع من الزنا, فإذا أقدم عليه مع توفر الموانع صار زناه غاية في القبح, فيجازى بما هو غاية في العقوبات الدنيوية وهو الرجم؛ لأن الجزاء على قدر الجناية, ألا ترى أن الله سبحانه وتعالى توعد نساء النبي عليه الصلاة والسلام بمضاعفة العذاب إذا أتين بفاحشة؛ لعظم جنايتهن؛ لحصولها مع توفر الموانع فيهن؛ لعظم نعم الله سبحانه وتعالى عليهن؛ لنيلهن صحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضاجعته, فكانت جنايتهن على تقدير الإتيان غاية في القبح, فأوعدن بالغاية من الجزاء. كذا ههنا, ولا يجمع بين الجلد والرجم عند عامة العلماء, وقال بعض الناس: يجمع بينهما؛ لظاهر قوله عليه الصلاة والسلام "والثيب بالثيب جلد مائة, ورجم بالحجارة". "ولنا" "أنه عليه الصلاة والسلام رجم ماعزا ولم يجلده", ولو وجب الجمع بينهما لجمع؛ ولأن الزنا جناية واحدة فلا يوجب إلا عقوبة واحدة, والجلد والرجم كل واحد منهما عقوبة على حدة, فلا يجبان لجناية واحدة, والحديث محمول على الجمع بينهما في الجلد والرجم, لكن في حالين فيكون عملا بالحديث, وإذا فقد شرط من شرائط الإحصان لا يرجم بل يجلد؛ لأن الواجب بنفس الزنا هو الجلد بآية الجلد؛ ولأن زنا غير المحصن لا يبلغ غاية في القبح فلا تبلغ عقوبته النهاية, فيكتفى بالجلد وهل يجمع بين الجلد والتغريب؟ اختلف فيه قال أصحابنا: لا يجمع إلا إذا رأى الإمام المصلحة في الجمع بينهما؛ فيجمع وقال الشافعي رحمه الله: يجمع بينهما, احتج بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال: "البكر بالبكر جلد مائة, وتغريب عام" وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه جلد وغرب, وكذا روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه فعل كذا, ولم ينكر عليهما أحد من الصحابة, فيكون إجماعا. "ولنا" قوله عز وجل {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ}. والاستدلال به من وجهين: أحدهما أنه عز وجل أمر بجلد الزانية والزاني, ولم يذكر التغريب, فمن أوجبه فقد زاد على كتاب الله عز وجل والزيادة عليه نسخ, ولا يجوز نسخ النص بخبر الواحد, والثاني أنه سبحانه وتعالى جعل الجلد جزاء, والجزاء اسم لما تقع به الكفاية مأخوذ من الاجتزاء وهو الاكتفاء فلو أوجبنا التغريب لا تقع الكفاية بالجلد, وهذا خلاف النص؛ لأن التغريب تعريض للمغرب على الزنا؛ لأنه ما دام في بلده يمتنع عن العشائر والمعارف حياء منهم, وبالتغريب يزول هذا المعنى فيعرى الداعي عن الموانع فيقدم عليه, والزنا قبيح فما أفضى إليه مثله, وفعل الصحابة محمول على أنهم رأوا ذلك مصلحة على طريق التعزير, ألا يرى أنه روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه نفى رجلا فلحق بالروم فقال: لا أنفي بعدها أبدا. وعن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: كفى بالنفي فتنة فدل أن فعلهم كان على طريق التعزير, ونحن به نقول: إن للإمام أن ينفي إن رأى المصلحة في التغريب, ويكون النفي تعزيرا لا حدا, والله سبحانه وتعالى أعلم وأما إحصان القذف فنذكره في حد القذف إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما حد الشرب فسبب وجوبه الشرب؛ وهو شرب الخمر خاصة, حتى يجب الحد بشرب قليلها وكثيرها, ولا يتوقف الوجوب على حصول السكر منها, وحد السكر سبب وجوبه السكر الحاصل بشرب ما سوى الخمر من الأشربة المعهودة المسكرة كالسكر ونقيع الزبيب, والمطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب أو التمر والزبيب والمثلث ونحو ذلك, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط وجوبها فمنها العقل, ومنها البلوغ, فلا حد على المجنون والصبي الذي لا يعقل, ومنها الإسلام فلا حد على الذمي والحربي المستأمن بالشرب ولا بالسكر في ظاهر الرواية, ومنها عدم الضرورة في شرب الخمر, فلا حد على من أكره على شرب خمر ولا على من أصابته مخمصة, وإنما كان كذلك؛ لأن الحد عقوبة محضة فتستدعي جناية محضة, وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بالجناية, وكذا الشرب لضرورة المخمصة, والإكراه حلال فلم

 

ج / 7 ص -40-         يكن جناية, وشرب الخمر مباح لأهل الذمة عند أكثر مشايخنا فلا يكون جناية, وعند بعضهم وإن كان حراما لكنا نهينا على التعريض لهم وما يدينون وفي إقامة الحد عليهم تعرض لهم من حيث المعنى؛ لأنها تمنعهم من الشرب, وعن الحسن بن زياد أنهم إذا شربوا وسكروا يحدون لأجل السكر لا لأجل الشرب؛ لأن السكر حرام في الأديان كلها, وما قاله الحسن حسن. ومنها بقاء اسم الخمر للمشروب وقت الشرب في حد الشرب؛ لأن وجوب الحد بالشرب تعلق به, حتى لو خلط الخمر بالماء, ثم شرب نظر فيه إن كانت الغلبة للماء لا حد عليه؛ لأن اسم الخمرية يزول عند غلبة الماء, وإن كانت الغلبة للخمر أو كانا سواء يحد؛ لأن اسم الخمر باق وهي عادة بعض الشربة أنهم يشربونها ممزوجة بالماء, وكذلك من شرب دردي الخمر لا حد عليه؛ لأن دردي الخمر لا يسمى خمرا وإن كان لا يخلو عن أجزاء الخمر. "فأما" الذكورة فليست بشرط حتى يجب الحد على الذكر والأنثى. وأما الحرية فكذلك إلا أن حد الرقيق يكون على النصف من حد الحر ولا حد على من توجد منه رائحة الخمر؛ لأن وجود رائحة الخمر لا يدل على شرب الخمر؛ لجواز أنه تمضمض بها ولم يشربها, أو شربها عن إكراه أو مخمصة, وكذلك من تقيأ خمرا لا حد عليه؛ لما قلنا, والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الأشربة التي تتخذ من الأطعمة كالحنطة والشعير والدخن والذرة والعسل والتين والسكر ونحوها, فلا يجب الحد بشربها؛ لأن شربها حلال عندهما, وعند محمد وإن كان حراما لكن هي حرمة محل الاجتهاد, فلم يكن شربها جناية محضة فلا تتعلق بها عقوبة محضة ولا بالسكر منها, وهو الصحيح؛ لأن الشرب إذا لم يكن حراما أصلا فلا عبرة بنفس السكر كشرب البنج ونحوه, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما حد القذف فسبب وجوبه القذف بالزنا؛ لأنه نسبه إلى الزنا, وفيها إلحاق العار بالمقذوف فيجب الحد دفعا للعار, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط وجوبه فأنواع: بعضها يرجع إلى القاذف, وبعضها يرجع إلى المقذوف, وبعضها يرجع إليهما جميعا, وبعضها إلى المقذوف به, وبعضها يرجع إلى المقذوف فيه, وبعضها يرجع إلى نفس القذف. أما الذي يرجع إلى القاذف فأنواع ثلاثة: أحدها العقل, والثاني البلوغ, حتى لو كان القاذف صبيا أو مجنونا لا حد عليه؛ لأن الحد عقوبة فيستدعي كون القذف جناية, وفعل الصبي والمجنون لا يوصف بكونه جناية, والثالث عدم إثباته بأربعة شهداء, فإن أتى بهم لا حد عليه؛ لقوله سبحانه وتعالى {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} علق سبحانه وتعالى وجوب إقامة الحد بعد الإثبات بأربعة شهود, وليس المراد منه عدم الإتيان في جميع العمر, بل عند القذف والخصومة, إذ لو حمل على الأبد لما أقيم حد أصلا, إذ لا يقام بعد الموت؛ ولأن الحد إنما وجب لدفع عار الزنا عن المقذوف, وإذا ظهر زناه بشهادة الأربعة لا يحتمل الاندفاع بالحد؛ ولأن هذا شرط يزجر عن قذف المحصنات. وأما حرية القاذف وإسلامه وعفته عن فعل الزنا فليس بشرط؛ فيحد الرقيق والكافر ومن لا عفة له عن الزنا, والشرط إحصان المقذوف لا إحصان القاذف, والله سبحانه وتعالى الموفق.

 

ج / 7 ص -41-         عن الزنا والحرية شرط, ودلت هذه الآية على أن المراد من المحصنات في هذه الآية الحرائر لا العفائف؛ لأنه سبحانه وتعالى جمع في هذه الآية بين المحصنات والغافلات في الذكر والغافلات العفائف؛ فلو أريد بالمحصنات العفائف لكان تكرارا؛ ولأن الحد إنما يجب لدفع العار عن المقذوف, ومن لا عفة له عن الزنا لا يلحقه العار بالقذف بالزنا, وكذا قوله عليه الصلاة والسلام "من أشرك بالله فليس بمحصن" يدل على أن الإسلام شرط؛ ولأن الحد إنما وجب بالقذف دفعا لعار الزنا عن المقذوف, وما في الكافر من عار الكفر أعظم, والله سبحانه وتعالى أعلم. ثم تفسير العفة عن الزنا: هو إن لم يكن المقذوف وطئ في عمره وطئا حراما في غير ملك ولا نكاح أصلا, ولا في نكاح فاسد فسادا مجمعا عليه في السلف, فإن كان فعل سقطت عفته سواء كان الوطء زنا موجبا للحد, أو لم يكن, بعد أن يكون على الوصف الذي ذكرنا, وإن كان وطئ وطئا حراما لكن في الملك أو النكاح حقيقة, أو في نكاح فاسد لكن فسادا هو محل الاجتهاد؛ لا تسقط عفته, وبيان هذه الجملة في مسائل: إذا وطئ امرأة بشبهة بأن زفت إليه غير امرأته فوطئها سقطت عفته؛ لوجود الوطء الحرام في غير ملك ولا نكاح أصلا, إلا أنه لم يجب الحد؛ لقيام الدليل المبيح من حيث الظاهر على ما ذكرنا فيما تقدم, وكذلك إذا وطئ جارية مشتركة بينه وبين غيره؛ لأن الوطء يصادف كل الجارية وكلها ليس ملكه فيصادف ملك الغير لا محالة, فكان الفعل زنا من وجه, لكن درئ الحد للشبهة. وكذلك إذا وطئ جارية أبويه أو زوجته أو جارية اشتراها, وهو يعلم أنها لغير البائع, ثم استحقت؛ لما قلنا, وكذلك لو وطئ جارية ابنه فأعلقها أو لم يعلقها؛ لوجود الوطء المحرم في غير ملك حقيقة. ولو وطئ الحائض أو النفساء أو الصائمة أو المحرمة أو الحرة التي ظاهر منها, أو الأمة المزوجة لم تسقط عفته؛ لقيام الملك أو النكاح حقيقة, وأنه محلل إلا أنه منع من الوطء لغيره, وكذا إذا وطئ مكاتبته في قولهما, وإحدى الروايتين عن أبي يوسف وفي رواية أخرى عنه, وهو قول زفر؛ تسقط عفته. "وجه" قولهما أن هذا وطء حصل في غير الملك؛ لأن عقد الكتابة أوجب زوال الملك في حق الوطء, ألا ترى أنه لا يباح له أن يطأها, وكذا المهر يكون لها لا للمولى, وهذا دليل زوال الملك في حق الوطء, ولنا أن الوطء يصادف الذات, وملك الذات قائم بعد الكتابة, فكان الملك المحلل قائما, وإنما الزائل ملك اليد فمنع من الوطء؛ لما فيه من استرداد يدها على نفسها فأشبهت الجارية المزوجة. ولو تزوج معتدة الغير أو منكوحة الغير أو مجوسية أو أخته من الرضاع؛ سقطت عفته, سواء علم أو لم يعلم في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما إذا كان لا يعلم لا تسقط. "وجه" قولهما أنه إذا لم يعلم لا يكون الوطء حراما, بدليل أنه لا يأثم ولو كان حراما لأثم, وإذا لم يكن حراما لم تسقط العفة, ولأبي حنيفة رحمه الله أن حرمة الوطء ههنا ثابتة بالإجماع, إلا أن الإثم منتف, والإثم ليس من لوازم الحرمة على ما عرف, وإذا كانت الحرمة ثابتة بيقين سقطت العفة, ولو قبل امرأة بشهوة أو نظر إلى فرجها بشهوة, ثم تزوج بابنتها فوطئها أو تزوج بأمها فوطئها؛ لا تسقط عفته في قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما تسقط. وجه قولهما أن التقبيل أو النظر أوجب حرمة المصاهرة, وإنها حرمة مؤبدة فتسقط العصمة كحرمة الرحم المحرم, ولأبي حنيفة رحمه الله أن هذه الحرمة ليست مجمعا عليها, بل هي محل الاجتهاد في السلف, فلا تسقط العفة. فأما إذا تزوج امرأة فوطئها, ثم تزوج ابنتها أو أمها فوطئها سقطت عفته بالإجماع؛ لأن هذا النكاح مجمع على فساده, فلم يكن محل الاجتهاد. ولو تزوج امرأة بغير شهود فوطئها سقطت عفته؛ لأن فساد هذا النكاح مجمع عليه لا اختلاف فيه في السلف, إذ لا يعرف الخلاف فيه بين الصحابة فلا يعتد بخلاف مالك فيه. ولو تزوج أمة وحرة في عقدة واحدة فوطئها, أو تزوج أمة على حرة فوطئهما لم تسقط عفته؛ لأن فساد هذا النكاح ليس مجمعا عليه في السلف, بل هو محل الاجتهاد فالوطء فيه لا يوجب سقوط العفة. ولو تزوج ذمي امرأة ذات رحم محرم منه ثم أسلم فقذفه رجل إن كان قد دخل بها بعد الإسلام سقطت عفته بالإجماع, وإن كان الدخول في حال الكفر لم تسقط في قول أبي حنيفة, وعندهما تسقط, هكذا ذكر الكرخي وذكر محمد رحمه الله في الأصل أنه يشترط إحصانه, ولم يذكر الخلاف وهو الصحيح؛ لأن هذا النكاح مجمع على فساده, وإنما سقط الحد على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة لنوع شبهة, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولا حد على من قذف امرأة محدودة

 

ج / 7 ص -42-         في الزنا, أو معها ولد لا يعرف له أب أو لاعنت بولد؛ لأن أمارة الزنا معها ظاهرة فلم تكن عفيفة, فإن لاعنت بغير الولد أو مع الولد لكنه لم يقطع النسب أو قطع لكن الزوج عاد وأكذب نفسه وألحق النسب بالأب حد؛ لأنه لم يظهر منها علامة الزنا فكانت عفيفة, والثاني أن يكون المقذوف معلوما فإن كان مجهولا لا يجب الحد كما إذا قال لجماعة: كلكم زان إلا واحدا, أو قال: ليس فيكم زان إلا واحد, أو قال لرجلين: أحدكما زان؛ لأن المقذوف مجهول, ولو قال لرجلين: أحدكما زان, فقال له رجل: أحدهما هذا, فقال: لا, لا حد للآخر؛ لأنه لم يقذف بصريح الزنا, ولا بما هو في معنى الصريح, ولو قال لرجل: جدك زان لا حد عليه لأن اسم الجد ينطلق على الأسفل وعلى الأعلى فكان المقذوف مجهولا ولو قال لرجل أخوك زان, فإن كان له إخوة, أو أخوان سواه لا حد على القاذف؛ لأن المقذوف مجهول, وإن لم يكن له إلا أخ واحد فعليه الحد إذا حضر وطالب؛ لأن المقذوف معلوم وليس لهذا الأخ ولاية المطالبة؛ لما نذكر في موضعه, إن شاء الله تعالى. "وأما" حياة المقذوف وقت القذف فليس بشرط؛ لوجوب الحد على القاذف, حتى يجب الحد بقذف الميت؛ لما نذكر في موضعه, إن شاء الله تعالى.

"فصل": وأما الذي يرجع إليهما جميعا فواحد, وهو أن لا يكون القاذف أب المقذوف ولا جده وإن علا, ولا أمه ولا جدته وإن علت, فإن كان لا حد عليه؛ لقول الله تعالى {فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} والنهي عن التأفيف نصا, نهي عن الضرب دلالة؛ ولهذا لا يقتل به قصاصا؛ ولقوله تبارك وتعالى {وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً} والمطالب بالقذف ليس من الإحسان في شيء فكان منفيا بالنص؛ ولأن توقير الأب واحترامه واجب شرعا وعقلا, والمطالبة بالقذف للجد ترك التعظيم والاحترام فكان حراما, والله سبحانه وتعالى الموفق.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقذوف به فنوعان: أحدهما أن يكون القذف بصريح الزنا وما يجري مجرى الصريح, وهو نفي النسب فإن كان بالكناية لا يوجب الحد؛ لأن الكناية محتملة والحد لا يجب مع الشبهة, فمع الاحتمال أولى, وبيان هذه الجملة في مسائل: إذا قال لرجل: يا زاني أو قال: زنيت, أو قال أنت زاني يحد, لأنه أتى بصريح القذف بالزنا, ولو قال: يا زانئ "بالهمز" أو: زنأت "بالهمز" يحد, ولو قال: عنيت به الصعود في الجبل لا يصدق, لأن العامة لا تفرق بين المهموز والملين, وكذا من العرب من يهمز الملين فبقي مجرد النية, فلا يعتبر, ولو قال: زنأت في الجبل يحد, ولو قال: عنيت به الصعود في الجبل لا يصدق في قولهما, وعند محمد رحمه الله يصدق, ولو قال: زنأت على الجبل, وقال: عنيت به الصعود لا يصدق بالإجماع. "وجه" قول محمد رحمه الله أن الزنا الذي هو فاحشة ملين يقال: زنى يزني زنى, والزنا الذي هو صعود مهموز, يقال: زنأ يزنأ زنئا, وقال الشاعر وارق إلى الخيرات زنئا في الجبل وأراد به الصعود إلا أنه إذا لم يقل عنيت به الصعود حمل على الزنا المعروف؛ لأن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفا وعادة, وإذا قال عنيت به الصعود فقد عنى به ما هو موجب اللفظ لغة فلزم اعتباره. "وجه" قولهما أن اسم الزنا يستعمل في الفجور عرفا وعادة, والعامة لا تفصل بين المهموز والملين بل تستعمل المهموز ملينا والملين مهموزا, فلا يصدق في الصرف عن المتعارف, كما إذا قال: زنيت في الجبل, وقال عنيت به الصعود, أو: زنأت ولم يذكر الجبل, إلا أنه استعمل كلمة "في" مكان كلمة "على", وأنه جائز, قال الله سبحانه وتعالى {وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} أي على جذوع النخل ومن مشايخنا من علل لهما بأن المهموز منه يحتمل معنى الملين وهو الزنا المعروف؛ لأن من العرب من يهمز الملين فيتعين معنى الملين بدلالة الحال وهي حال الغضب؛ لأن المسألة مقصورة فيها, وإذا قال: زنأت على الجبل, وقال عنيت به الصعود لم يصدق؛ لأنه لا تستعمل كلمة "على" في الصعود, فلا يقال: صعد على الجبل, وإنما يقال: صعد في الجبل. ولو قال لرجل: يا ابن الزاني فهو قاذف لأبيه, كأنه قال: أبوك زاني, ولو قال: يا ابن الزانية فهو قاذف لأمه, كأنه قال: أمك زانية, ولو قال: يا ابن الزاني والزانية فهو قاذف لأبيه وأمه, كأنه قال: أبواك زانيان, ولو قال: يا ابن الزنا أو يا ولد الزنا كان قذفا؛ لأن معناه في عرف الناس وعادتهم أنك مخلوق من ماء الزنا, ولو قال: يا ابن الزانيتين يكون قذفا, ويعتبر إحصان أمه التي ولدته لا إحصان جدته, حتى لو كانت أمه مسلمة فعليه الحد, وإن كانت

 

ج / 7 ص -43-         جدته كافرة وإن كانت أمه كافرة فلا حد عليه, وإن كانت جدته مسلمة؛ لأن أمه في الحقيقة والدته والجدة تسمى أما مجازا. وكذلك لو قال: يا ابن مائة زانية, أو يا ابن ألف زانية يكون قاذفا لأمه, ويعتبر في الإحصان حال الأم؛ لما قلنا, ويكون المراد من العدد المذكور عدد المرات لا عدد الأشخاص, أي أمك زنت مائة مرة أو ألف مرة, ولو قال: يا ابن القحبة لم يكن قاذفا؛ لأن هذا الاسم كما يطلق على الزانية يستعمل على المهيأة المستعدة للزنا وإن لم تزن, فلا يجعل قذفا مع الاحتمال, وكذلك لو قال: يا ابن الدعية؛ لأن الدعية هي المرأة المنسوبة إلى قبيلة لا نسب لها منهم, وهذا لا يدل على كونها زانية؛ لجواز ثبوت نسبها من غيرهم. ولو قال لرجل: يا زاني فقال الرجل: لا, بل أنت الزاني, أو قال: لا, بل أنت يحدان جميعا؛ لأن كل واحد منهما قذف صاحبه صريحا, ولو قال لامرأة: يا زانية, فقالت: زنيت بك لا حد على الرجل؛ لأن المرأة صدقته في القذف, فخرج قذفه من أن يكون موجبا للحد, وتحد المرأة؛ لأنها قذفته بالزنا نصا ولم يوجد منه التصديق, ولو قال لامرأة: يا زانية, فقالت زنيت معك لا حد على الرجل, ولا على المرأة, أما على الرجل؛ فلوجود التصديق منها إياه. وأما على المرأة؛ فلأن قولها زنيت معك يحتمل أن يكون المراد منه زنيت بك, ويحتمل أن يكون معناه زنيت بحضرتك, فلا يجعل قذفا مع الاحتمال, ولو قال لامرأته: يا زانية, فقالت لا, بل أنت حدت المرأة حد القذف, ولا لعان على الرجل؛ لأن كل واحد من الزوجين قذف صاحبه, وقذف المرأة يوجب حد القذف, وقذف الزوج امرأته يوجب اللعان, وكل واحد منهما حد. وفي البداية بحد المرأة إسقاط الحد عن الرجل؛ لأن اللعان شهادات مؤكدة بالأيمان, والمحدود في القذف لا شهادة له ونظير هذا ما قالوا فيمن قال لامرأته: يا زانية بنت الزانية, فخاصمت الأم أولا فحد الزوج حد القذف سقط اللعان؛ لأنه بطلت شهادته, ولو خاصمت المرأة أولا فلاعن القاضي بينهما, ثم خاصمت الأم يحد الرجل حد القذف, ولو قال لامرأته: يا زانية, فقالت زنيت بك لا حد ولا لعان؛ لأنه يحتمل أنها أرادت بقولها زنيت بك أي قبل النكاح ويحتمل أنها أرادت أي ما مكنت من الوطء غيرك فإن كان ذلك زنا فهو زنا؛ لأن هذا متعارف فإن أرادت الأول لا يجب اللعان, ويجب الحد؛ لأنها أقرت بالزنا وإن أرادت به الثاني يجب اللعان؛ لأن الزوج قذفها بالزنا, وهي لم تصدقه فيما قذفها به؛ ولا حد عليها فوقع الاحتمال في ثبوت كل واحد منهما فلا يثبت, ولو قال لامرأة: أنت زانية, فقالت المرأة: أنت أزنى مني يحد الرجل. ولا تحد المرأة, أما الرجل؛ فلأنه قذفها بصريح الزنا ولم يوجد منها التصديق. وأما المرأة؛ فلأن قولها: أنت أزنى مني يحتمل أنها أرادت به النسبة إلى الزنا على الترجيح, ويحتمل أنها أرادت أنت أقدر على الزنا وأعلم به مني, فلا يحمل على القذف مع الاحتمال, وكذلك إذا قال لإنسان: أنت أزنى الناس, أو أزنى الزناة, أو أزنى من فلان لا حد عليه؛ لما قلنا وروي عن أبي يوسف أنه فرق بين قوله: أزنى الناس, وبين قوله: أزنى مني أو من فلان, فقال في الأول: يحد, وفي الثاني: لا يحد. "ووجه" الفرق له أن قوله: أنت أزنى الناس, أمكن حمله على ما يقتضيه ظاهر الصيغة وهو الترجيح في وجود فعل الزنا منه؛ لتحقق الزنا من الناس في الجملة فيحمل عليه, وقوله: أنت أزنى مني أو من فلان, لا يمكن حمله على الترجيح في وجود الزنا؛ لجواز أنه لم يوجد الزنا منه أو من فلان, فيحمل على الترجيح في القدرة أو العلم, فلا يكون قذفا بالزنا, ولو قال لرجل: زنيت وفلان معك كان قاذفا لهما؛ لأنه قذف أحدهما وعطف الآخر عليه بحرف "الواو" وأنها للجمع المطلق, فكان مخبرا عن وجود الزنا من كل واحد منهما. رجلان استبا فقال أحدهما لصاحبه: ما أبي بزان ولا أمي بزانية, لم يكن هذا قذفا؛ لأن ظاهره نفي الزنا عن أبيه وعن أمه, إلا أنه قد يكني بهذا الكلام عن نسبة أب صاحبه وأمه إلى الزنا. لكن القذف على سبيل الكناية والتعريض لا يوجب الحد, ولو قال لرجل: أنت تزني لا حد عليه؛ لأن هذا اللفظ يستعمل للاستقبال ويستعمل للحال, فلا يجعل قذفا مع الاحتمال, وكذلك لو قال: أنت تزني وأنا أضرب الحد؛ لأن مثل هذا الكلام في عرف الناس لا يدل على قصد القذف, وإنما يدل على طريق ضرب المثل على الاستعجاب أن كيف تكون العقوبة على إنسان والجناية من غيره؟ كما قال الله تبارك وتعالى {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولو قال لامرأة: ما رأيت زانية خيرا منك, أو قال لرجل: ما رأيت زانيا خيرا منك لم يكن قذفا؛ لأنه ما جعل

 

ج / 7 ص -44-         هذا المذكور خير الزناة, وإنما جعله خيرا من الزناة. وهذا لا يقتضي وجود الزنا منه, ولو قال لامرأة: زنى بك زوجك قبل أن يتزوجك فهو قاذف؛ فإنه نسب زوجها إلى زنا حصل منه قبل التزوج في كلام موصول فيكون قذفا, ولو قال لامرأة: وطئك فلان وطئا حراما, أو جامعك حراما, أو فجر بك, أو قال لرجل: وطئت فلانة حراما, أو باضعتها أو جامعتها حراما فلا حد عليه؛ لأنه لم يوجد منه القذف بالزنا بل بالوطء الحرام. ويجوز أن يكون الوطء حراما ولا يكون زنا, كالوطء بشبهة ونحو ذلك, ولو قال لغيره: اذهب إلى فلان فقل له: يا زاني أو يا ابن الزانية لم يكن المرسل قاذفا؛ لأنه أمر بالقذف ولم يقذف. وأما الرسول فإن ابتدأ فقال لا على وجه الرسالة: يا زاني أو يا ابن الزانية فهو قاذف وعليه الحد, وإن بلغه على وجه الرسالة بأن قال: أرسلني فلان إليك وأمرني أن أقل لك: يا زاني أو يا ابن الزانية لا حد عليه؛ لأنه لم يقذف بل أخبر عن قذف غيره, ولو قال لآخر: أخبرت أنك زان أو أشهدت على ذلك لم يكن قاذفا؛ لأنه حكى خبر غيره بالقذف وإشهاد غيره بذلك, فلم يكن قاذفا, ولو قال لرجل: يا لوطي لم يكن قاذفا بالإجماع؛ لأن هذا نسبه إلى قوم لوط فقط, وهذا لا يقتضي أنه يعمل عملهم وهو اللواط, ولو أفصح وقال: أنت تعمل عمل قوم لوط, وسمى ذلك لم يكن قاذفا عند أبي حنيفة أيضا. وعندهما هو قاذف بناء على أن هذا الفعل ليس بزنا عند أبي حنيفة, وعندهما هو في معنى الزنا, والمسألة مرت في موضعها, ولو قال لرجل: يا زاني, فقال له آخر: صدقت يحد القاذف ولا حد على المصدق. أما الأول؛ فلوجود القذف الصريح منه. وأما المصدق؛ فلأن قوله: صدقت قذف بطريق الكناية, ولو قال: صدقت هو كما قلت يحد؛ لأن هذا في معنى الصريح, ولو قال لرجل: أخوك زان, فقال الرجل: لا, بل أنت يحد الرجل؛ لأن كلمة "لا بل"؛ لتأكيد الإثبات, فقد قذف الأول بالزنا على سبيل التأكيد. وأما الأول فينظر إن كان للرجل إخوة أو أخوان سواه فلا حد عليه, وإن لم يكن له إلا أخ واحد فله أن يطالبه بالحد, وليس لهذا الأخ المخاطب أن يطالبه؛ لما ذكرنا فيما تقدم, ولو قال: لست لأبيك فهو قاذف لأمه, سواء قال في غضب أو رضا؛ لأن هذا الكلام لا يذكر إلا لنفي النسب عن الأب, فكان قذفا لأمه, ولو قال: ليس هذا أبوك, أو قال: لست أنت ابن فلان لأبيه, أو قال: أنت ابن فلان لأجنبي, إن كان في حال الغضب فهو قذف, وإن كان في غير حال الغضب فليس بقذف؛ لأن هذا الكلام قد يذكر لنفي النسب وقد يذكر لنفي التشبه في الأخلاق, أي أخلاقك لا تشبه أخلاق أبيك, أو أخلاقك تشبه أخلاق فلان الأجنبي, فلا يجعل قذفا مع الشك والاحتمال. وكذلك إذا قال لرجل: يا ابن مزيقيا, أو يا ابن ماء السماء أنه يكون قذفا في حالة الغضب لا في حالة الرضا؛ لأنه يحتمل أنه أراد به نفي النسب, ويحتمل أنه أراد به المدح بالتشبيه برجلين من سادات العرب, فعامر بن حارثة كان يسمى ماء السماء؛ لصفائه وسخائه, وعمرو بن عامر كان يسمى المزيقيا؛ لمزقه الثياب, إذ كان ذا ثروة ونخوة, كان يلبس كل يوم ثوبا جديدا, فإذا أمسى خلعه ومزقه؛ لئلا يلبسه غيره فيساويه, فيحكم الحال في ذلك, فإن كان في حال الغضب فالظاهر أنه أراد به نفي النسب؛ فيكون قذفا, وإن كان في حال الرضا فالظاهر أنه أراد به المدح؛ فلم يكن قذفا, ولو قال لرجل: أنت ابن فلان لعمه أو لخاله, أو لزوج أمه لم يكن قذفا؛ لأن العم يسمى أبا. وكذلك الخال وزوج الأم, قال الله سبحانه وتعالى: {قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ} وإسماعيل كان عم يعقوب عليه الصلاة والسلام وقد سماه أباه, وقال سبحانه وتعالى {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} وقيل: إنهما أبوه وخالته وإذا كانت الخالة أما كان الخال أبا, وقال الله تعالى {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي} قيل في التفسير: إنه كان ابن امرأته من غيره, ولو قال: لست بابن لفلان لجده لم يكن قاذفا؛ لأنه صادق في كلامه حقيقة؛ لأن الجد لا يسمى أبا حقيقة بل مجازا, ولو قال للعربي: يا نبطي لم يكن قذفا, وكذلك إذا قال: لست من بني فلان, للقبيلة التي هو منها لم يكن قاذفا عند عامة العلماء. وقال ابن أبي ليلى: يكون قذفا, والصحيح قول العامة؛ لأن بقوله: يا نبطي؛ لم يقذفه, ولكنه نسبه إلى غير بلده, كمن قال للبلدي: يا رستاقي, وكذلك إذا قال: يا ابن الخياط, أو يا ابن الأصفر أو الأسود, وأبوه ليس كذلك لم يكن قاذفا بل يكون كاذبا, وكذلك إذا قال: يا ابن الأقطع, أو يا ابن الأعور, وأبوه ليس كذلك يكون كاذبا لا قاذفا, كما إذا قال للبصير: يا أعمى, ثم القذف بلسان العرب وغيره سواء ويجب الحد؛ لأن معنى القذف هو النسبة إلى الزنا, وهذا يتحقق بكل لسان, والله تعالى أعلم. والثاني

 

ج / 7 ص -45-         أن يكون المقذوف به متصور الوجود من المقذوف, فإن كان لا يتصور لم يكن قاذفا, وعلى هذا يخرج ما إذا قال لآخر: زنى فخذك, أو ظهرك أنه لا حد عليه؛ لأن الزنا لا يتصور من هذه الأعضاء حقيقة, فكان المراد منه المجاز من طريق النسب, كما قال عليه الصلاة والسلام: "العينان تزنيان, واليدان تزنيان, والرجلان تزنيان, والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه", وكذلك لو قال: زنيت بأصبعك؛ لأن الزنا بالأصبع لا يتصور حقيقة, ولو قال: زنى فرجك يحد؛ لأن الزنا بالفرج يتحقق, كأنه قال: زنيت بفرجك, ولو قال لامرأة: زنيت بفرس أو حمار أو بعير أو ثور لا حد عليه؛ لأنه يحتمل أنه أراد به تمكينها من هذه الحيوانات؛ لأن ذلك متصور حقيقة. ويحتمل أنه أراد به جعل هذه الحيوانات عوضا وأجرة على الزنا, فإن أراد الأول لا يكون قذفا؛ لأنها بالتمكين منها لا تصير مزنيا بها؛ لعدم تصور الزنا من البهيمة, وإن أراد به الثاني يكون قذفا, كما إذا قال زنيت بالدراهم أو بالدنانير أو بشيء من الأمتعة فلا يجعل قذفا مع الاحتمال, ولو قال لها: زنيت بناقة أو ببقرة أو أتان أو رمكة فعليه الحد؛ لأنه تعذر حمله على التمكين فيحمل على العوض. لأن حرف "الباء" قد يستعمل في الأعواض, ولو قال ذلك لرجل لم يكن قذفا في جميع ذلك سواء كان ذكرا أو أنثى؛ لأنه يمكن حمله على حقيقة الوطء, ووطؤها لا يتصور أن يكون زنا فلا يكون قذفا, ويمكن حمله على العوض فيكون قذفا فوقع الاحتمال في كونه قذفا فلا يجعل قذفا مع الاحتمال, ومن مشايخنا من فصل بين الذكر والأنثى فقال: يكون قذفا في الذكر لا في الأنثى؛ لأن فعل الوطء من الرجل يوجد في الأنثى فلا يحمل على العوض, ولا يوجد في الذكر فيحمل على العوض, والصحيح أنه لا فرق بين الذكر والأنثى؛ لأن الوطء يتصور في الصنفين في الجملة, ولو قال لامرأة زنيت وأنت مكرهة أو معتوهة أو مجنونة أو نائمة لم يكن قذفا؛ لأنه نسبها إلى الزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها, فكان كلامه كذبا لا قذفا, وبمثله لو قال لأمة أعتقت: زنيت وأنت أمة, أو قال لكافرة أسلمت: زنيت وأنت كافرة يكون قذفا وعليه الحد؛ لأن في المسألة الأولى قذفها للحال بالزنا في حال لا يتصور منها وجود الزنا فيها, فكان كلامه كذبا لا قذفا, وفي المسألة الثانية قذفها للحال لوجود الزنا منها في حال يتصور منها الزنا وهي حال الرق والكفر؛ لأنهما لا يمنعان وقوع الفعل زنا, وإنما يمنعان الإحصان. والإحصان يشترط وجوده وقت القذف؛ لأنه السبب الموجب للحد وقد وجد, ولو قال لإنسان: لست لأمك لا حد عليه؛ لأنه كذب محض؛ لأنه نفي النسب من الأم ونفي النسب من الأم لا يتصور, ألا ترى أن أمه ولدته حقيقة, وكذلك لو قال له: لست لأبويك؛ لأنه نفي نسبه عنهما ولا ينتفي عن الأم؛ لأنها ولدته فيكون كذبا, بخلاف قوله: لست لأبيك؛ لأن ذلك ليس بنفي لولادة الأم, بل هو نفي النسب عن الأب, ونفي النسب عن الأب يكون قذفا للأم, وكذلك لو قال له: لست لأبيك ولست لأمك في كلام موصول لم يكن قذفا؛ لأن هذا وقوله: لست لأبويك سواء. ولو قال له: لست لآدم أو لست لرجل أو لست لإنسان لا حد عليه؛ لأنه كذب محض؛ لأن نسبه لا يحتمل الانقطاع عن هؤلاء فكان كذبا محضا لا قذفا فلا يجب الحد, وعلى هذا يخرج ما إذا قال لرجل: يا زانية, أنه لا يكون قذفا عندهما, وعند محمد يكون قذفا. "وجه" قوله أن "الهاء" قد تدخل صلة زائدة في الكلام, قال الله تعالى عز شأنه خبرا عن الكفار {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} ومعناه: مالي وسلطاني "والهاء" زائدة؛ فيحذف الزائد فيبقى قوله: يا زاني, وقد تدخل في الكلام للمبالغة في الصفة, كما يقال: علامة ونسابة ونحو ذلك فلا يختل به معنى القذف, يدل عليه إن حذفه في نعت المرأة لا يخل بمعنى القذف, حتى لو قال لامرأة: يا زاني يجب الحد بالإجماع, فكذلك الزيادة في نعت الرجل, ولهما أنه قذفه بما لا يتصور فيلغو, ودليل عدم التصور؛ أنه قذفه بفعل المرأة وهو التمكين؛ لأن "الهاء" في الزانية "هاء" التأنيث كالضاربة والقاتلة والسارقة ونحوها, وذلك لا يتصور من الرجل بخلاف ما إذا قال لامرأة: يا زاني؛ لأنه أتى بمعنى الاسم وحذف "الهاء" وهاء التأنيث قد تحذف في الجملة كالحائض والطالق والحامل ونحو ذلك, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقذوف فيه وهو المكان فهو أن يكون القذف في دار العدل فإن كان في دار الحرب أو في دار البغي فلا يوجب الحد؛ لأن المقيم للحدود هم الأئمة, ولا ولاية لإمام أهل العدل على دار الحرب, ولا على دار البغي

 

ج / 7 ص -46-         فلا يقدر على الإقامة فيهما, فالقذف فيهما لا ينعقد موجبا للحد حين وجوده فلا يحتمل الاستيفاء بعد ذلك؛ لأن الاستيفاء للواجب, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى نفس القذف فهو أن يكون مطلقا عن الشرط والإضافة إلى وقت, فإن كان معلقا بشرط أو مضافا إلى وقت لا يوجب الحد؛ لأن ذكر الشرط أو الوقت يمنع وقوعه قذفا للحال, وعند وجود الشرط أو الوقت يجعل كأنه نجز القذف كما في سائر التعليقات والإضافات فكان قاذفا تقديرا مع انعدام القذف حقيقة؛ فلا يجب الحد, وعلى هذا يخرج ما إذا قال رجل: من قال كذا وكذا فهو زان أو ابن الزانية, فقال رجل: أنا قلت أنه لا حد على المبتدئ؛ لأنه علق القذف بشرط القول, وكذلك إذا قال لرجل: إن دخلت هذه الدار فأنت زان أو ابن الزانية فدخل لا حد على القائل؛ لما قلنا, وكذا من قال لغيره: أنت زان أو ابن الزانية غدا أو رأس شهر كذا, فجاء الغد والشهر لا حد عليه؛ لأن إضافة القذف إلى وقت يمنع تحقق القذف في الحال وفي المآل على ما بينا, والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما بيان ما تظهر به الحدود عند القاضي فنقول وبالله التوفيق: الحدود كلها تظهر بالبينة والإقرار, لكن عند استجماع شرائطها, أما شرائط البينة القائمة على الحد "فمنها" ما يعم الحدود كلها. "ومنها" ما يخص البعض دون البعض. أما الذي يعم الكل: فالذكورة والأصالة, فلا تقبل شهادة النساء ولا الشهادة على الشهادة, ولا كتاب القاضي إلى القاضي في الحدود كلها؛ لتمكن زيادة شبهة فيها ذكرناها في كتاب الشهادات والحدود لا تثبت مع الشبهات, ولو ادعى القاذف أن المقذوف صدقه وأقام على ذلك رجلا وامرأتين جاز, وكذلك الشهادة على الشهادة وكتاب القاضي إلى القاضي؛ لأن الشهادة ههنا قامت على إسقاط الحد لا على إثباته, والشبهة تمنع من إثبات الحد لا من إسقاطه.
"وأما" الذي يخص البعض دون البعض "فمنها" عدم التقادم, وأنه شرط في حد الزنا والسرقة وشرب الخمر, وليس بشرط في حد القذف, والفرق أن الشاهد إذا عاين الجريمة فهو مخير بين أداء الشهادة حسبة لله تعالى؛ لقوله تعالى عز وجل
{وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} وبين التستر على أخيه المسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: "من ستر على أخيه المسلم ستر الله عليه في الآخرة" فلما لم يشهد على فور المعاينة حتى تقادم العهد؛ دل ذلك على اختيار جهة الستر, فإذا شهد بعد ذلك دل على أن الضغينة حملته على ذلك فلا تقبل شهادته. لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: "أيما قوم شهدوا على حد لم يشهدوا عند حضرته فإنما شهدوا عن ضغن ولا شهادة لهم", ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر, فيكون إجماعا فدل قول سيدنا عمر رضي الله عنه أن مثل هذه الشهادة شهادة ضغينة, وأنها غير مقبولة؛ ولأن التأخير والحالة هذه يورث تهمة, ولا شهادة للمتهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم بخلاف حد القذف؛ لأن التأخير ثمة لا يدل على الضغينة والتهمة؛ لأن الدعوى هناك شرط فاحتمل أن التأخير كان لتأخير الدعوى من المدعي, والدعوى ليست بشرط في الحدود الثلاثة فكان التأخير؛ لما قلنا, ويشكل على هذا فصل السرقة فإن الدعوى هناك شرط ومع هذا التقادم مانع, واختلفت عبارات مشايخنا في الجواب عن هذا الإشكال فقال بعضهم: إن معنى الضغينة والتهمة حكمة المنع من قبول الشهادة. والسبب الظاهر هو كون الحد خالص حق الله تعالى, والحكم يدار على السبب الظاهر لا على الحكمة, وقد وجد السبب الظاهر في السرقة؛ فيوجب المنع من قبول الشهادة وهذا ليس بسديد؛ لأن الأصل تعليق الحكم بالحكمة إلا إذا كان وجه الحكمة خفيا لا يوقف عليه إلا بحرج, فيقام السبب الظاهر مقامه وتجعل الحكمة موجودة تقديرا, وههنا يمكن الوقوف عليه من غير حرج ولم توجد في السرقة؛ لما بينا, فيجب أن تقبل الشهادة بعد التقادم. وقال بعضهم: إنما لا تقبل الشهادة في السرقة؛ لأن دعوى السرقة بعد التقادم لم تصح؛ لأن المدعي في الابتداء مخير بين أن يدعي السرقة ويقطع طمعه عن ماله احتسابا لإقامة الحد, وبين أن يدعي أخذ المال سترا على أخيه المسلم فلما أخر دل تأخيره على اختيار جهة الستر والإعراض عن جهة الحسبة, فلما شهد بعد ذلك؛ فقد قصد الإعراض عن جهة الستر فلا يصح إعراضه ولم يجعل قاصدا جهة الحسبة؛ لأنه قد كان أعرض عنها عند اختياره جهة الستر فلم تصح دعواه السرقة فلم تقبل

 

ج / 7 ص -47-         الشهادة على السرقة؛ لأن قبول الشهادة يقف على دعوى صحيحة فيما تشترط فيه الدعوى, فبقي مدعيا أخذ المال لا غير؛ فتقبل الشهادة حسبة, إذ التقادم لا يمنع قبول الشهادة على الأموال بخلاف حد القذف؛ لأن المقذوف ليس بمخير بين بدل النفس وبين إقامة الحد بالدعوى, بل الواجب عليه دفع العار عن نفسه ودعوى القذف, فلا يتهم بالتأخير فكانت الدعوى صحيحة منه. والشيخ منصور الماتريدي رحمه الله أشار إلى معنى آخر في شرح الجامع الصغير حكيته بلفظه: وهو أن عادة السراق الإقدام على السرقة في حالة الغفلة وانتهاز الفرصة في موضع الخفية, وصاحب الحق لا يطلع على من شهد ذلك ولا يعرفهم إلا بهم وبخبرهم, فإذا كتموا أثموا, وقد يعلم المدعي شهوده في غير ذلك من الحقوق, ويطلبها إذا احتاج إليها فكانوا في سعة من تأخيرها. وإذا بطلت الشهادة على السرقة بالتقادم قبلت في حق المال؛ لأن بطلانها في حق الحد لتمكن الشبهة فيها, والحد لا يثبت مع الشبهة. وأما المال فيثبت معها, ثم التقادم إنما يمنع قبول الشهادة في الحدود الثلاثة؛ إذا كان التقادم في التأخير من غير عذر ظاهر, فأما إذا كان لعذر ظاهر بأن كان المشهود عليه في موضع ليس فيه حاكم فحمل إلى بلد فيه حاكم, فشهدوا عليه جازت شهادتهم وإن تأخرت؛ لأن هذا موضع العذر فلا يكون التقادم فيه مانعا, ثم لم يقدر أبو حنيفة رحمه الله للتقادم تقديرا, وفوض ذلك إلى اجتهاد كل حاكم في زمانه, فإنه روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال: كان أبو حنيفة رحمه الله لا يوقت في التقادم شيئا, وجهدنا به أن يوقت؛ فأبى, وأبو يوسف ومحمد رحمهما الله قدراه بشهر فإن كان شهرا أو أكثر فهو متقادم, وإن كان دون شهر فليس بمتقادم؛ لأن الشهر أدنى الأجل فكان ما دونه في حكم العاجل. ولأبي حنيفة رحمه الله أن التأخير قد يكون لعذر, والأعذار في اقتضاء التأخير مختلفة فتعذر التوقيت فيه؛ ففوض إلى اجتهاد القاضي فيما يعد إبطاء وما لا يعد, وإذا لم تقبل شهادة الشهود بزنا متقادم هل يحدون حد القذف؟ حكى الحسن بن زياد أنهم يحدون, وتأخيرهم محمول على اختيار جهة الستر, فخرج كلامهم عن كونه شهادة؛ فبقي قذفا فيوجب الحد, وقال الكرخي رحمه الله الظاهر أنه لا يجب عليهم الحد, وهكذا ذكر القاضي في شرحه أنه لا حد عليهم؛ لأن تأخيرهم وإن أورث تهمة وشبهة في الشهادة فأصل الشهادة باق, فلما اعتبرت الشبهة في إسقاط حد الزنا عن المشهود عليه, فلأن تعتبر حقيقة الشهادة لإسقاط حد القذف عن الشهود أولى. "ومنها" قيام الرائحة وقت أداء الشهادة في حد الشرب في قولهما. وعند محمد ليس بشرط, والحجج ستأتي في موضعها. "ومنها" عدد الأربع في الشهود في حد الزنا؛ لقوله عز اسمه {وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ} وقوله سبحانه وتعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ} وقوله تبارك وتعالى {لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ}؛ ولأن الشهادة أحد نوعي الحجة فيعتبر بالنوع الآخر؛ وهو الإقرار, وهناك عدد الأربع شرط. كذا ههنا, بخلاف سائر الحدود فإن عدد الأقارير الأربع لم يشترط فيها, فكذا عدد الأربع من الشهود؛ ولأن اشتراط عدد الأربع في الشهادة يثبت معدولا به عن القياس بالنص, والنص ورد في الزنا خاصة فإن شهد على الزنا أقل من أربعة لم تقبل شهادتهم؛ لنقصان العدد المشروط, وهل يحدون حد القذف؟ قال أصحابنا: يحدون. وقال الشافعي رحمه الله إذا جاءوا مجيء الشهود لم يحدوا, وعلى هذا الخلاف إذا شهد ثلاثة, وقال الرابع: رأيتهما في لحاف واحد ولم يزد عليه أنه يحد الثلاثة عندنا ولا حد على الرابع؛ لأنه لم يقذف إلا إذا كان قال في الابتداء: أشهد أنه قد زنى, ثم فسر الزنا بما ذكر فحينئذ يحد. "وجه" قول الشافعي رحمه الله أنهم إذا جاءوا مجيء الشهود كان قصدهم إقامة الشهادة حسبة لله تعالى لا القذف, فلم يكن جناية فلم يكن قذفا. "ولنا" ما روي أن ثلاثة شهدوا على مغيرة بالزنا, فقام الرابع وقال: رأيت أقداما بادية ونفسا عاليا وأمرا منكرا, ولا أعلم ما وراء ذلك, فقال سي دنا عمر رضي الله عنه له: الحمد لله الذي لم يفضح رجلا من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وحد الثلاثة, وكان ذلك بمحضر من الصحابة الكرام رضي الله عنهم, ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا؛ ولأن الموجود من الشهود كلام قذف حقيقة, إذ القذف هو النسبة إلى الزنا وقد وجد من الشهود حقيقة, فيدخلون تحت آية القذف, إلا أنا اعتبرنا تمام عدد الأربع إذا جاءوا مجيء الشهود فقد قصدوا إقامة الحسبة واجبا؛ حقا لله

 

ج / 7 ص -48-         تعالى فخرج كلامهم عن كونه قذفا وصار شهادة شرعا, فعند النقصان بقي قذفا حقيقة فيوجب الحد. ولو شهد ثلاثة على الزنا, وشهد رابع على شهادة غيره تحد الثلاثة؛ لأن شهادتهم صارت قذفا؛ لنقصان العدد, ولا حد على الرابع؛ لأنه لم يقذف بل حكى قذف غيره, ولو علم أن أحد الأربع عبد أو مكاتب أو صبي أو أعمى أو محدود في قذف حدوا جميعا؛ لأن الصبي والعبد ليست لهما أهلية الشهادة أصلا ورأسا, فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا, والأعمى والمحدود في القذف ليست لهم أهلية الشهادة, أو إن كانت لهم أهلية الشهادة تحملا وسماعا فقصرت أهليتهما للشهادة فانتقص العدد فصار كلامهم قذفا, وسواء علم ذلك قبل القضاء أو بعد القضاء قبل الإمضاء, وإن علم ذلك بعد الإمضاء فإن كان الحد جلدا فكذلك يحدون ولا يضمنون أرش الضرب في قول أبي حنيفة, وعندهما يجب في بيت المال على ما ذكرنا في كتاب الرجوع عن الشهادات, وإن كان رجما لا يحدون؛ لأنه تبين أن كلامهم وقع قذفا ومن قذف حيا, ثم مات المقذوف سقط الحد, وتكون الدية في بيت المال؛ لأن الخطأ حصل من القاضي, وخطأ القاضي على بيت المال؛ لأنه عامل لعامة المسلمين وبيت المال مال المسلمين. ولو شهد الزوج وثلاثة نفر حد الثلاثة ولاعن الزوج امرأته؛ لأن قذف الزوج يوجب اللعان لا الحد, فانتقص العدد في حق الباقين, فصار كلامهم قذفا؛ فيحدون حد القذف. ولو علم أن الشهود الأربعة عبيد أو كفار أو محدودون في قذف أو عميان يحدون حد القذف, وإن علم أنهم فساق لا يحدون, والفرق ما ذكرنا أن العبد والكافر لا شهادة لهما أصلا, والأعمى والمحدود في القذف لهما شهادة سماعا وتحملا لا أداء, فكان كلامهم قذفا, والفاسق له شهادة على أصل أصحابنا سماعا, وإذا كان كلام الفاسق شهادة لا قذفا فلا يحدون حد القذف, والله تعالى أعلم ولو ادعى المشهود عليه أن أحد الشهود الأربعة عبد فالقول قوله, حتى يقيم البينة أنه حر؛ لما روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: الناس أحرار إلا في أربع: الشهادة والقصاص والعقل والحدود, والمعنى فيه ما ذكرنا في غير موضع. "ومنها" اتحاد المجلس, وهو أن يكون الشهود مجتمعين في مجلس واحد عند أداء الشهادة, فإن جاءوا متفرقين يشهدون واحدا بعد واحد, لا تقبل شهادتهم, ويحدون وإن كثروا؛ لما ذكرنا أن كلامهم قذف حقيقة, وإنما يخرج عن كونه قذفا شرعا بشرط أن يكونوا مجتمعين في مجلس واحد وقت أداء الشهادة, فإذا انعدمت هذه الشريطة بقي قذفا فيوجب الحد, حتى لو جاءوا مجتمعين أو متفرقين, وقعدوا في موضع الشهود في ناحية من المسجد, ثم جاءوا واحدا بعد واحد وشهدوا جازت شهادتهم؛ لوجود اجتماعهم في مجلس واحد وقت الشهادة, إذ المسجد كله مجلس واحد, وإن كانوا خارجين من المسجد, فجاء واحد منهم ودخل المسجد وشهد, ثم جاء الثاني والثالث والرابع يضربون الحد, وإن كانوا مثل ربيعة ومضر, هكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: لو جاء ربيعة ومضر فرادى لحددتهم عن آخرهم, وإنما قال ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد منهم؛ فيكون إجماعا منهم, والله تعالى أعلم. "ومنها" أن يكون المشهود عليه بالزنا ممن يتصور منه الوطء, فإن كان ممن لا يتصور منه كالمجبوب لا تقبل شهادتهم ويحدون حد القذف. ولو كان المشهود عليه خصيا أو عنينا قبلت شهادتهم ويحد؛ لتصور الزنا منهما؛ لقيام الآلة بخلاف المجبوب "ومنها" أن يكون المشهود عليه بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة, فإن كان ممن لا يقدر كالأخرس لا تقبل شهادتهم؛ لأن من الجائز أنه لو كان قادرا لادعى شبهة, ولو كان المشهود عليه بالزنا أعمى قبلت شهادتهم؛ لأن الأعمى قادر على دعوى الشبهة لو كانت عنده شبهة. ولو شهدوا بالزنا, ثم قالوا: تعمدنا النظر إلى فرجها لا تبطل شهادتهم؛ لأن أداء الشهادة لا بد له من التحمل, ولا بد للتحمل من النظر إلى عين الفرج, ويباح لهم النظر إليها لقصد إقامة الحسبة, كما يباح للطبيب لقصد المعالجة, ولو قالوا: نظرنا مكررا بطلت شهادتهم؛ لأنه سقطت عدالتهم, والله تعالى أعلم. "ومنها" اتحاد الشهود, وهو أن يجمع الشهود الأربعة على فعل واحد فإن اختلفوا لا تقبل شهادتهم, وعلى هذا يخرج ما إذا شهد اثنان أنه زنى في مكان كذا, وشهد آخران أنه زنى في مكان آخر, والمكانان متباينان؛ بحيث يمتنع أن يقع فيهما فعل واحد عادة, كالبلدين والدارين والبيتين لا تقبل شهادتهم ولا حد على المشهود عليه؛ لأنهم شهدوا بفعلين مختلفين لاختلاف المكانين, وليس

 

ج / 7 ص -49-         على أحدهما شهادة الأربع ولا حد على الشهود أيضا عند أصحابنا, وعند زفر يحدون. "وجه" قوله أن عدد الشهود قد انتقص؛ لأن كل فريق شهد بفعل غير الذي شهد به الفريق الآخر, ونقصان عدد الشهود يوجب صيرورة الشهادة قذفا, كما لو شهد ثلاثة بالزنا. "ولنا" أن المشهود به لم يختلف عند الشهود؛ لأن عندهم أن هذا زنا واحد, وإنما وقع اختلافهم في المكان فثبت بشهادتهم شبهة اتحاد الفعل؛ فيسقط الحد, وعلى هذا إذا اختلفوا في الزمان فشهد اثنان أنه زنى بها في يوم كذا, واثنان في يوم آخر, ولو شهد اثنان أنه زنى في هذه الزاوية من البيت, وشهد اثنان أنه زنى في هذه الزاوية الأخرى منه يحد المشهود عليه؛ لجواز أن ابتداء الفعل وقع في هذه الزاوية من البيت وانتهاؤه في زاوية أخرى منه؛ لانتقالهما منه واضطرابهما فلم يختلف المشهود به فتقبل شهادتهم, حتى لو كان البيت كبيرا لا تقبل؛ لأنه يكون بمنزلة البيتين, ولو شهد أربعة بالزنا بامرأة, فشهد اثنان أنه استكرهها, واثنان أنها طاوعته لا حد على المرأة بالإجماع؛ لأن الحد لا يجب إلا بالزنا طوعا ولم تثبت الطواعية في حقها, "وأما" الرجل فلا حد عليه أيضا عند أبي حنيفة رحمه الله, وعندهما يحد. "وجه" قولهما أن زنا الرجل عن طوع ثبت بشهادة الأربع, إلا أنه تفرد اثنان منهم بإثبات زيادة الإكراه منه, وأنه لا يمنع وجوب الحد, كما لو زنى بها مستكرهة, ولأبي حنيفة عليه الرحمة أن المشهود قد اختلف؛ لأن فعل المكره غير فعل من ليس بمكره فقد شهدوا بفعلين مختلفين, وليس على أحدهما شهادة الأربع فلا يحد المشهود عليه ولا الشهود عند أصحابنا الثلاثة, خلافا لزفر وقد مر الكلام فيه في اختلافهم في المكان والزمان, والله تعالى أعلم. ثم الشهود إذا استجمعوا شرائط صحة الشهادة, وشهدوا عند القاضي سألهم القاضي عن الزنا ما هو وكيف هو ومتى زنى وأين زنى وبمن زنى؟ أما السؤال عن ماهية الزنا؛ فلأنه يحتمل أنهم أرادوا به غير الزنا المعروف؛ لأن اسم الزنا يقع على أنواع لا توجب الحد, قال عليه الصلاة والسلام: "العينان تزنيان واليدان تزنيان والرجلان تزنيان والفرج يصدق ذلك كله أو يكذبه" وأما السؤال عن الكيفية؛ فلأنه يحتمل أنهم أرادوا به الجماع فيما دون الفرج؛ لأن ذلك يسمى جماعا حقيقة أو مجازا فإنه لا يوجب الحد. وأما السؤال عن الزمان؛ فلأنه يحتمل أنهم شهدوا بزنا متقادم, والتقادم يمنع قبول الشهادة بالزنا, وأما السؤال عن المكان؛ فلأنه يحتمل أنه زنى في دار الحرب أو في دار البغي, وأنه لا يوجب الحد, وأما السؤال عن المزني بها؛ فلأنه يحتمل أن تكون الموطوءة ممن لا يجب الحد بوطئها كجارية الابن وغير ذلك, فإذا سألهم القاضي عن هذه الجملة فوصفوا, سأل المشهود عليه أهو محصن أم لا؟ فإن أنكر الإحصان, وشهد على الإحصان رجلان أو رجل وامرأتان على الاختلاف سأل الشهود عن الإحصان ما هو؛ لأن له شرائط يجوز أن تخفى على الشهود, فإذا وصفوا قضي بالرجم ولو شهدت بينة الإحصان أنه جامعها أو باضعها صار محصنا؛ لأن هذا اللفظ في العرف مستعمل في الوطء في الفرج, ولو شهدوا أنه دخل بها صار محصنا, وهذا وقوله جامعها سواء في قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله وقال محمد رحمه الله لا يصير محصنا. "وجه" قوله أن هذا اللفظ يستعمل في الوطء ويستعمل في الزفاف, فلا يثبت الإحصان مع الاحتمال, ولهما أن الدخول بالمرأة في عرف اللغة والشرع يراد به الوطء, قال الله تعالى عز شأنه {وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} حرم سبحانه وتعالى الربيبة بشرط الدخول بأمها, فعلم أن المراد من الدخول هو الوطء؛ لأنها تحرم بمجرد نكاح الأم من غير وطء, وذكر القاضي في شرحه الاختلاف على القلب فقال على قول أبي حنيفة رحمه الله: لا يصير محصنا ما لم يصرح بالوطء, وعلى قول محمد رحمه الله يصير محصنا, ولو شهدوا على الدخول وكان له منها ولد هو محصن بالإجماع, وكفى بالولد شاهدا, والله تعالى أعلم. "وأما" شرائط الإقرار بالحد فمنها ما يعم الحدود كلها, ومنها ما يخص البعض دون البعض, أما الذي يعم الحدود كلها فمنها: البلوغ, فلا يصح إقرار الصبي في شيء من الحدود؛ لأن سبب وجوب الحد لا بد وأن يكون جناية, وفعل الصبي لا يوصف بكونه جناية؛ فكان إقراره كذبا محضا, ومنها: النطق: وهو أن يكون الإقرار بالخطاب والعبارة دون الكتاب والإشارة, حتى إن الأخرس لو كتب الإقرار في كتاب أو أشار إليه إشارة معلومة لا حد عليه؛ لأن الشرع علق وجوب الحد بالبيان المتناهي, ألا ترى أنه لو أقر

 

ج / 7 ص -50-         بالوطء الحرام لا يقام عليه الحد ما لم يصرح بالزنا, والبيان لا يتناهى إلا بالصريح والكتابة والإشارة بمنزلة الكتابة فلا يوجب الحد. وأما البصر فليس بشرط لصحة الإقرار, فيصح إقرار الأعمى في الحدود كلها كالبصير؛ لأن الأعمى لا يمنع مباشرة سبب وجوبها, وكذا الحرية والإسلام والذكورة ليست بشرط؛ حتى يصح إقرار الرقيق والذمي والمرأة في جميع الحدود, وعند زفر رحمه الله لا يصح إقرار العبد بشيء من أسباب الحدود من غير تصديق المولى, والكلام في التصديق على نحو ما ذكرنا في كتاب السرقة, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الذي يخص البعض دون البعض فمنها: عدد الأربع في حد الزنا خاصة, وهو أن يقر أربع مرات, وهذا عندنا, وعند الشافعي عليه الرحمة ليس بشرط, ويكتفى بإقراره مرة واحدة. "وجه" قوله أن الإقرار إنما صار حجة في الشرع لرجحان جانب الصدق فيه على جانب الكذب, وهو المعنى عند التكرار والتوحد سواء؛ لأن الإقرار إخبار والخبر لا يزيد رجحانا بالتكرار, ولهذا لم يشترط في سائر الحدود, بخلاف عدد المثنى في الشهادة؛ لأن ذلك يوجب زيادة ظن عليه فيها, إلا أن شرط العدد الأربع في باب الزنا تعبد فيقتصر على موضع التعبد. "ولنا" أن القياس ما قاله, إلا أنا تركنا القياس بالنص وهو ما روي "أن ماعزا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقر بالزنا فأعرض عنه عليه الصلاة والسلام بوجهه الكريم, هكذا إلى الأربع, فلو كان الإقرار مرة مظهرا للحد لما أخره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الأربع"؛ لأن الحد بعد ما ظهر وجوبه للإمام لا يحتمل التأخير. "وأما" العدد في الإقرار بالقذف فليس بشرط بالإجماع, وهل يشترط في الإقرار بالسرقة والشرب والسكر؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: ليس بشرط. وقال أبو يوسف رحمه الله: إنه كلما يسقط بالرجوع فعدد الإقرار فيه كعدد الشهود وذكر الفقيه أبو الليث رحمه الله: إن عند أبي يوسف يشترط الإقرار مرتين في مكانين. "وجه" قوله أن حد السرقة والشرب والسكر خالص حق الله تعالى كحد الزنا, فتلزم مراعاة الاحتياط فيه باشتراط العدد كما في الزنا, إلا أنه يكتفى ههنا بالمرتين, ويشترط الأربع هناك استدلالا بالبينة؛ لأن السرقة والشرب كل واحد منهما يثبت بنصف ما يثبت به الزنا؛ وهو شهادة شاهدين, فكذلك الإقرار, ولهما أن الأصل أن لا يشترط التكرار في الإقرار؛ لما ذكرنا أنه إخبار والمخبر لا يزداد بتكرار الخبر, وإنما عرفنا عدد الأربع في باب الزنا بنص غير معقول المعنى؛ فيقتصر على مورد النص, ومنها عدد المجالس فيه, وهو أن يقر أربع مجالس, واختلف المشايخ في أنه يعتبر مجالس القاضي أو مجالس المقر, والصحيح أنه يعتبر مجالس المقر, وهكذا روي عن أبي حنيفة أنه يعتبر مجالس المقر؛ لأنه عليه الصلاة والسلام اعتبر اختلاف مجالس ماعز, حيث كان يخرج من المسجد في كل مرة, ثم يعود ومجلسه عليه الصلاة والسلام لم يختلف, وقد روي عن أبي حنيفة في تفسير اختلاف مجالس المقر: هو أن يقر مرة, ثم يذهب حتى يتوارى عن بصر القاضي, ثم يجيء فيقر ثم يذهب, هكذا أربع مرات, ومنها أن يكون إقراره بين يدي الإمام فإن كان عند غيره لم يجز إقراره؛ لأن إقرار ماعز كان عند رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولو أقر في غير مجلس القاضي وشهد الشهود على إقراره لا تقبل شهادتهم؛ لأنه إن كان مقرا فالشهادة لغو؛ لأن الحكم للإقرار لا للشهادة, وإن كان منكرا فالإنكار منه رجوع, والرجوع عن الإقرار في الحدود الخالصة حقا لله عز وجل صحيح, والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها الصحة في الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر حتى لو كان سكران لا يصح إقراره, أما على أصل أبي حنيفة رحمه الله فلأن السكران: من صار بالشرب إلى حال لا يعقل قليلا ولا كثيرا فكان عقله زائلا مستورا حقيقة. وأما على أصلهما؛ فلأنه إذا غلب الهذيان على كلامه؛ فقد ذهبت منفعة العقل, ولهذا لم تصح ردته فيورث ذلك شبهة في وجوب الحد, وليس بشرط في الإقرار بالحدود والقصاص؛ لأن القصاص خالص حق العبد, وللعبد حق في حد القذف؛ فيصح مع السكر كالإقرار بالمال وسائر التصرفات, وإذا صحا فإن دام على إقراره تقام عليه الحدود كلها, وإن أنكره فالإنكار منه رجوع فيصح في الحدود الخالصة وهو حد الزنا والشرب والسرقة في حق القطع, ولا يصح في القذف والقتل العمد, والله تعالى أعلم. ومنها: أن يكون الإقرار بالزنا ممن يتصور وجود الزنا منه, فإن كان لا يتصور كالمجبوب لم يصح إقراره؛ لأن الزنا لا يتصور منه؛ لانعدام

 

ج / 7 ص -51-         الآلة, ويصح إقرار الخصي والعنين لتصور الزنا منهما؛ لتحقق الآلة, والذي يجن ويفيق إذا أقر في حال إفاقته فهو مثل الصحيح؛ لأنه في حال إفاقته صحيح, ومنها: أن يكون المزني به في الإقرار بالزنا ممن يقدر على دعوى الشبهة, فإن لم يكن بأن أقر رجل أنه زنى بامرأة خرساء أو أقرت امرأة أنها زنت بأخرس لم يصح إقراره؛ لأن من الجائز أنه لو كان يقدر على النطق؛ لادعى النكاح أو أنكر الزنا ولم يدع شيئا فيندرئ عنه الحد؛ لما نذكر في موضعه إن شاء الله تعالى. وأما حضرة المزني بها في الإقرار بالزنا والشهادة عليه فليست بشرط, حتى لو أقر أنه زنى بامرأة غائبة أو شهد عليه الشهود بالزنا بامرأة غائبة صح الإقرار وقبلت الشهادة ويقام الحد على الرجل؛ لأن الغائب بالغيبة ليس إلا الدعوى وإنها ليست بشرط؛ ولهذا رجم ماعز من غير شرط حضور تلك المرأة, وكذلك العلم بالمزني بها ثم إذا صح إقراره بالزنا بامرأة غائبة يعرفها, فحضرت المرأة فلا يخلو إما أن حضرت قبل إقامة الحد على الرجل, وإما أن حضرت بعد الإقامة, فإن حضرت بعد الإقامة, فإن أقرت بمثل ما أقر به الرجل تحد أيضا كما حد الرجل, وإن أنكرت وادعت على الرجل حد القذف لا يحد الرجل حد القذف؛ لأنه لا يجب عليه حدان, وقد أقيم أحدهما فلا يقام الآخر. وإن حضرت قبل إقامة الحد على الرجل فإن أنكرت الزنا وادعت النكاح أو لم تدع, وادعت حد القذف على الرجل أو لم تدع فحكمه نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى, والعلم بالمزني بها ليس بشرط لصحة الإقرار, حتى لو قال: زنيت بامرأة ولا أعرفها صح إقراره ويحد والعلم بالمشهود به شرط صحة الشهادة, حتى لو شهد الشهود على رجل أنه زنى بامرأة وقالوا: لا نعرفها لا تقبل شهادتهم ولا يقام الحد على المشهود عليه, والفرق أن المقر في الإقرار على نفسه يبني الأمر على حقيقة الحال خصوصا في الزنا, فكان إقراره إخبارا عن وجود الزنا منه حقيقة, إلا أنه لم يعرف اسم المرأة ونسبها وذا لا يورث شبهة, فأما الشاهد فإنه بشهادته بنى الأمر على الظاهر لا على الحقيقة؛ لقصور علمه عن الوصول إلى الحقيقة, فقولهم: لا نعرف تلك المرأة يورث شبهة؛ لجواز أنها امرأته أو امرأة له فيها شبهة حل أو ملك, فهو الفرق, والله تعالى أعلم. وأما عدم التقادم فهل هو شرط لصحة الإقرار بالحد؟ أما في حد القذف فليس بشرط؛ لأنه ليس بشرط لقبول الشهادة, فأولى أن لا يكون شرطا لصحة الإقرار, وكذلك في حد الزنا عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر رحمه الله كما في الشهادة. "ولنا" الفرق بين الإقرار والشهادة, وهو أن المانع في الشهادة تمكن التهمة والضغينة, وهذا لا يوجد في الإقرار؛ لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه وكذا في حد السرقة؛ لما قلنا. وأما في حد الشرب فشرط عندهما, وعند محمد رحمه الله ليس بشرط؛ بناء على أن قيام الرائحة شرط صحة الإقرار والشهادة عندهما, ولهذا لا يبقى مع التقادم, وعنده ليس بشرط ولو لم يتقادم العهد, ولكن ريحها لا يوجد منه لم يصح الإقرار عندهما, خلافا له. "وجه" قول محمد رحمه الله أن حد الشرب ليس بمنصوص عليه في الكتاب والسنة, وإنما عرف بإجماع الصحابة, وإجماعهم لا ينعقد بدون عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ولم يثبت فتواه عند زوال الرائحة, فإنه روي أن رجلا جاء بابن أخ له إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاعترف عنده بشرب الخمر, فقال له عبد الله: بئس ولي اليتيم أنت, لا أدبته صغيرا ولا سترت عليه كبيرا, ثم قال رضي الله عنه: تلتلوه ومزمزوه واستنكهوه, فإن وجدتم رائحة الخمر فاجلدوه, وأفتى رضي الله عنه بالحد عند وجود الرائحة. ولم يثبت فتواه عند عدمها, وإذا لم يثبت فلا ينعقد الإجماع بدونه, فلا يجب بدونه؛ لأن وجوبه بالإجماع, ولا إجماع, ثم إنما تعتبر الرائحة إذا لم يكن سكران, فأما إذا كان سكرانا فلا؛ لأن السكر أدل على الشرب من الرائحة, ولذلك لو جيء به من مكان بعيد لا تبقى الرائحة بالمجيء من مثله عادة يحد, وإن لم توجد الرائحة للحال؛ لأن هذا موضع العذر فلا يعتبر قيام الرائحة فيه, والله تعالى أعلم. وإذا أقر إنسان بالزنا عند القاضي؛ ينبغي أن يظهر الكراهة أو يطرده, وكذا في المرة الثانية والثالثة هكذا فعل عليه الصلاة والسلام بماعز, وكذا روي عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال: "اطردوا المعترفين". أي بالزنا, فإذا أقر أربعا نظر في حاله أهو صحيح العقل أم به آفة؟ هكذا قال عليه الصلاة والسلام لماعز أبك خبل أم بك جنون؟ وبعث إلى قومه فسألهم عن حاله. فإذا عرف أنه صحيح العقل سأله عن ماهية الزنا وعن كيفيته وعن مكانه وعن المزني بها؛ لما ذكرنا في الشهادة,

 

ج / 7 ص -52-         ولا يسأله عن الزمان؛ لأن السؤال عن الزمان لمكان احتمال التقادم, والتقادم في الإقرار, وإنما يقدح في الشهادة ويجوز أن يسأل عن الزمان أيضا؛ لاحتمال أنه زنى في حال الصغر, فإذا بين ذلك كله سأله عن حاله أهو محصن أم لا؟ لأن حكم الزنا يختلف بالإحصان وعدمه, فإن قال: أنا محصن سأله عن ماهية الإحصان أنه ما هو؟ لأنه عبارة عن اجتماع شرائط لا يقدر عليها كل أحد فإذا بين رجمه. وأما علم القاضي فلا يظهر به حد الزنا والشرب والسكر والسرقة؛ حتى لا يقضي بشيء من ذلك بعلمه, لكنه يقضي بالمال في السرقة؛ لأن القاضي يقضي بعلمه في الأموال, سواء علم بذلك قبل زمان القضاء ومكانه أو بعدهما بلا خلاف بين أصحابنا, وسواء علم بذلك معاينة بأن رأى إنسانا يزني ويشرب ويسرق, أو بسماع الإقرار به في غير مجلسه الذي يقضي فيه بين الناس, فإن كان إقراره في مجلس القضاء لزمه موجب إقراره, إذ لو لم يقبل إقراره لاحتاج القاضي إلى أن يكون معه جماعة على الإقرار في كل حادثة, وإجماع الأمة بخلافه, والله تعالى أعلم. ويظهر به حد القذف في زمان القضاء ومكانه كالقصاص وسائر الحقوق والأموال بلا خلاف بين أصحابنا, وإنما اختلفوا في ظهور ذلك بعلمه في غير زمان القضاء ومكانه, وقد ذكرنا جملة ذلك بدلائله في كتاب آداب القاضي, ولا يظهر حد السرقة بالنكول, لكنه يقضي بالمال؛ لأن النكول إما بدل, وإما إقرار فيه شبهة العدم, والحد لا يحتمل البدل ولا يثبت بالشبهة, والمال يحتمل البدل والثبوت بالشبهة. وأما الخصومة فهل هي شرط ثبوت الحد بالشهادة والإقرار؟ فلا خلاف في أنها ليست بشرط في حد الزنا والشرب؛ لأنه خالص حق الله عز وجل والخصومة ليست بشرط في الحدود الخالصة لله تعالى؛ لأنها تقام حسبة لله تعالى فلا يتوقف ظهورها على دعوى العبد. ولا خلاف في حد السرقة أن الخصومة فيها شرط الظهور بالشهادة؛ لأن حد السرقة وإن كان حق الله تعالى خالصا, لكن هذا الحق لا يثبت إلا بعد كون المسروق ملكا للمسروق منه, ولا يظهر ذلك إلا بالخصومة, وفي كونها شرط الظهور بالإقرار خلاف ذكرناه في كتاب السرقة, ولا خلاف أيضا في أنها شرط الظهور بالشهادة على القذف والإقرار به, أما على أصل الشافعي رحمه الله فلأنه خالص حق العبد, فيشترط فيه الدعوى كما في سائر حقوق العباد, وعندنا حق الله تعالى عز شأنه وإن كان هو المغلب فيه, لكن للعبد فيه حق؛ لأنه ينتفع به بصيانة عرضه عن الهتك, فيشترط فيه الدعوى عن هذه الجهة وإذا عرف أن الخصومة في حد القذف شرط كون النية والإقرار مظهرين فيه فيقع الكلام في موضعين: أحدهما في بيان الأحكام التي تتعلق بالدعوى والخصومة, والثاني في بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها, أما الأول فنقول ولا قوة إلا بالله تعالى: الأفضل للمقذوف أن يترك الخصومة؛ لأن فيها إشاعة الفاحشة وهو مندوب إلى تركها, وكذا العفو عن الخصومة والمطالبة التي هي حقها من باب الفضل والكرامة. وقد قال الله تعالى {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى}, وقال سبحانه وتعالى {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ}, وإذا رفع إلى القاضي يستحسن للقاضي أن يقول قبل الإتيان بالبينة: أعرض عن هذا؛ لأنه ندب إلى الستر والعفو, وكل ذلك حسن, فإذا لم يترك الخصومة, وادعى القذف على القاذف, فأنكر ولا بينة للمدعي فأراد استحلافه بالله تعالى ما قذفه, هل يحلف؟ ذكر الكرخي عليه الرحمة أنه لا يحلف عند أصحابنا, خلافا للشافعي رحمه الله وذكر في آداب القاضي أنه يحلف في ظاهر الرواية عندهم, وإذا نكل يقضي عليه بالحد, وقال بعضهم: يحتمل أن يحلف, فإذا نكل يقضي عليه بالتعزير لا بالحد. وهذه الأقاويل ترجع إلى أصل وهو أن عند الشافعي رحمه الله حد القذف خالص حق العبد, فيجري فيه الاستحلاف كما في سائر حقوق العباد. وأما على أصل أصحابنا ففيه حق الله تعالى عز وجل وحق العبد فمن قال منهم: إنه يحلف ويقضي بالحد عند النكول اعتبر ما فيه من حق العبد فألحقه في التحليف بالتعزير, ومن قال منهم: إنه لا يحلف أصلا اعتبر حق الله سبحانه وتعالى فيه؛ لأنه المغلب, فألحقه بسائر حقوق الله سبحانه وتعالى الخالصة, والجامع أن المقصود من الاستحلاف هو النكول, وأنه على أصل أبي حنيفة عليه الرحمة بدل, والحد لا يحتمل البدل, وعلى أصلهما إقرار فيه شبهة العدم؛ لأنه ليس بصريح إقرار, بل هو إقرار بطريق السكوت, فكان فيه شبهة العدم, والحد لا يثبت بدليل فيه شبهة العدم, ومن قال منهم. إنه يحلف ويقضي عليه بالتعزير عند النكول

 

ج / 7 ص -53-         دون الحد, اعتبر حق العبد فيه للاستحلاف كالتعزير واعتبر حق الله سبحانه وتعالى للمنع من إقامة الحد عند النكول كسائر الحدود, ومثل هذا جائز كحد السرقة أنه يجري فيه الاستحلاف, ولا يقضي عند النكول بالحد, ولكن يقضي بالمال, وكما قال أبو يوسف ومحمد عليهما الرحمة في القصاص في الطرف والنفس: إنه يحلف, وعند النكول لا يقضي بالقصاص بل بالدية على ما عرف, وإن قال المدعي: لي بينة حاضرة في المصر على قذفه يحبس المدعى عليه القذف إلى قيام الحاكم من مجلسه. والمراد من الحبس الملازمة أي يقال للمدعي: لازمه إلى هذا الوقت, فإن أحضر البينة فيه وإلا خلي سبيله, ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه, هذا قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يؤخذ منه الكفيل, وهذا بناء على أن الكفالة في الحدود غير جائزة عند أبي حنيفة رحمه الله حيث قال في الكتاب: ولا كفالة في حد ولا قصاص, وعندهما يكفل ثلاثة أيام, وذكر الجصاص في تفسير قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن معناه لا يؤخذ الكفيل في الحدود والقصاص جبرا, فأما إذا بذل من نفسه وأعطى الكفيل فهو جائز بالإجماع, وظاهر إطلاق الكتاب يدل على عدم الجواز عنده؛ لأن كلمة النفي إذا دخلت على الأفعال الشرعية؛ يراد بها نفي الجواز من الأصل كما في قوله عليه الصلاة والسلام "لا صلاة إلا بطهور ولا نكاح إلا بشهود" ونحو ذلك. "وجه" قولهما أن الحبس جائز في الحدود, فالكفالة أولى؛ لأن معنى الوثيقة في الحبس أبلغ منه في الكفالة, فلما جاز الحبس فالكفالة أحق بالجواز, ولأبي حنيفة رحمه الله أن الكفالة شرعت للاستيثاق, والحدود مبناها على الدرء والإسقاط, قال عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود ما استطعتم". فلا يناسبها الاستيثاق بالكفالة, بخلاف الحبس فإن الحبس للتهمة مشروع, روي "أنه عليه الصلاة والسلام حبس رجلا بالتهمة" وقد ثبتت التهمة في هذه المسألة بقوله: لي بينة حاضرة في المصر, فجاز الحبس فإذا أقام المدعي شاهدين لا يعرفهما القاضي أي لم تظهر عدالتهما بعد الحبس فلا خلاف, ولا يؤخذ منه كفيل, وإن أقام شاهدا واحدا عدلا حبس عند أبي حنيفة رحمه الله, وعندهما لا يحبس ويؤخذ منه كفيل. "وجه" قولهما أن الحق لا يظهر بقول الواحد وإن كان عدلا, فالحبس من أين بخلاف الشاهدين؟ فإن سبب ظهور الحق قد وجد وهو كمال عدد الحجة, إلا أن توقف الظهور لتوقف ظهور العدالة فثبتت الشبهة؛ فيحبس. "وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن قول الشاهد الواحد وإن كان لا يوجب الحق فإنه يوجب التهمة, وحبس المتهم جائز, ولو قال المدعي: لا بينة لي أو بينتي غائبة أو خارج المصر لا يحبس بالإجماع؛ لعدم التهمة, فإن قامت البينة للمقذوف على القذف, أو أقر القاذف به فإن القاضي يقول له: أقم البينة على صحة قذفك. فإن أقام أربعة من الشهود على معاينة الزنا من المقذوف أو على إقراره بالزنا سقط الحد عن القاذف, ويقام حد الزنا على المقذوف, وإن عجز عن إقامة البينة يقيم حد القذف على القاذف؛ لقوله تعالى {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} وإن طلب التأجيل من القاضي, وقال: شهودي غيب, أو خارج المصر لم يؤجله, ولو قال: شهودي في المصر أجله إلى آخر المجلس, ولازمه المقذوف, ويقال له: ابعث أحدا إلى شهودك فأحضرهم, ولا يؤخذ منه كفيل بنفسه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما يؤجل يومين أو ثلاثة, ويؤخذ منه الكفيل. "وجه" قولهما أنه يحتمل أن يكون صادقا في إخباره أن له بينة في المصر, وربما لا يمكنه الإحضار في ذلك الوقت فيحتاج إلى التأخير إلى المجلس الثاني وأخذ الكفيل؛ لئلا يفوت حقه عسى, ولأبي حنيفة رحمه الله أن في التأجيل إلى آخر المجلس الثاني منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره, وهذا لا يجوز, بخلاف التأخير إلى آخر المجلس؛ لأن ذلك القدر لا يعد تأجيلا ولا منعا من استيفاء الحد بعد ظهوره. وروي عن محمد رحمه الله أنه إذا ادعى أن له بينة حاضرة في المصر ولم يجد أحدا يبعثه إلى الشهود, فإن القاضي يبعث معه من الشرط من يحفظه ولا يتركه حتى يقر, فإن لم يجد ضرب الحد, ولو ضرب بعض الحد ثم أقام القاذف البينة على صدق مقالته قبلت بينته وسقطت بينة الجلدات, ولا تبطل شهادته ويقام حد الزنا على المقذوف, كما لو أقامها قبل أن يضرب الحد أصلا ولو ضرب الحد بتمامه, ثم أقام البينة على زنا المقذوف قبلت بينته ويظهر أثر القبول في جواز شهادة القاذف, وأن لا يصير مردود الشهادة؛ لأنه تبين أنه لم يكن

 

ج / 7 ص -54-         محدودا في القذف حقيقة, حيث تبين أن المقذوف لم يكن محصنا؛ لأن من شرائط الإحصان العفة عن الزنا, وقد ظهر زناه بشهادة الشهود؛ فلم يصر القاذف مردود الشهادة, ولا يظهر أثر قبول هذه الشهادة في إقامة حد الزنا على المقذوف؛ لأن معنى القذف قد تقرر بإقامة الحد على القاذف. ولو قذف رجلا فقال: يا ابن الزانية, ثم ادعى القاذف أن أم المقذوف أمة أو نصرانية, والمقذوف يقول: هي حرة مسلمة فالقول قول القاذف, وعلى المقذوف إقامة البينة على الحرية والإسلام, وكذلك لو قذف إنسانا في نفسه, ثم ادعى القاذف أن المقذوف عبد فالقول قول القاذف, وكذلك لو قال القاذف: أنا عبد وعلي حد العبد, وقال المقذوف: أنت حر فالقول قول القاذف؛ لأن الظاهر وإن كان هو الحرية والإسلام؛ لأن دار الإسلام دار الأحرار, لكن الظاهر لا يصلح للإلزام على الغير, فلا بد من الإتيان بالبينة. وروي عن أبي يوسف فيمن قذف أم رجل فإن كان القاضي يعرف أمه حرة مسلمة جلد القاذف؛ لأن الحرية والإسلام يثبتان بالبينة فعلم القاضي أولى؛ لأنه فوق البينة؛ لأن الحرية والإسلام من شرائط الإحصان, والإحصان شرط الوجوب والقاضي يقضي بعلمه بسبب وجوب هذا الحد؛ فلأن يقضي بعلمه بشرط الوجوب أولى, فإن لم يعلم القاضي حبسه في السجن حتى يأتي بالبينة؛ لأنه ظهر منه القذف, وأنه يوجب العقوبة سواء كان المقذوف أمه حرة أو أمة, فجاز أن يستوثق منه بالحبس, وإن لم تقم بينته أخذ منه كفيلا أو أخرجه وأخذ الكفيل على مذهبه, فأما على مذهب أبي حنيفة رضي الله عنه فلا يؤخذ الكفيل على ما بينا ولا يعزره؛ لأن التعزير من القاضي حكم بإبطال إحصان المقذوف؛ لأن قذف المحصن يوجب الحد لا التعزير, ولا يجوز الحكم بإبطال الإحصان, ولو شهد شاهدان على القذف واختلفا في مكان القذف أو زمانه بأن شهد أحدهما أنه قذف في مكان كذا, وشهد الآخر أنه قذف في مكان آخر, أو شهد أحدهما أنه قذف يوم الخميس, وشهد الآخر أنه قذف يوم الجمعة قبلت شهادتهما, ووجب الحد عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما لا تقبل. "وجه" قولهما أنهما شهدا بقذفين مختلفين؛ لأن القذف في هذا المكان والزمان يخالف القذف في مكان آخر وزمان آخر, فقد شهد كل واحد منهما بقذف غير القذف الذي شهد به الآخر, وليس على أحدهما شهادة شاهدين فلا يثبت, ولأبي حنيفة رحمه الله أن اختلاف مكان القذف وزمانه لا يوجب اختلاف القذف؛ لجواز أنه كرر القذف الواحد في مكانين وزمانين؛ لأن القذف من باب الكلام والكلام مما يحتمل التكرار والإعادة, والمعاد عين الأول حكما, وإن كان غيره حقيقة فكان القذف واحدا, فقد اجتمع عليه شهادة شاهدين, وإن اتفقا في المكان والزمان واختلفا في الإنشاء والإقرار, بأن شهد أحدهما أنه قذفه في هذا المكان يوم الجمعة, وشهد الآخر أنه قذفه في هذا المكان يوم الجمعة لا تقبل ولا حد عليه في قولهم جميعا استحسانا والقياس أن تقبل ويحد. "وجه" القياس أن اختلاف كلامهما في الإنشاء والإقرار لا يوجب اختلاف القذف, كما إذا شهد أحدهما بإنشاء البيع والآخر بالإقرار به أنه تقبل شهادتهما, كذا هذا. "وجه" الاستحسان أن الإنشاء مع الإقرار أمران مختلفان حقيقة؛ لأن الإنشاء إثبات أمر لم يكن, والإقرار إخبار عن أمر كان, فكانا مختلفين حقيقة فكان المشهود به مختلفا, وليس على أحدهما شاهدان فلا تقبل. ونظيره من قال لامرأته: زنيت قبل أن أتزوجك فعليه اللعان لا الحد, ولو قال لها: قذفتك بالزنا قبل أن أتزوجك فعليه الحد لا اللعان؛ لأن قوله زنيت إنشاء القذف فكان قاذفا لها للحال, وهي للحال زوجته, وقذف الزوج يوجب اللعان لا الحد, وقوله: قذفتك بالزنا, إقرار منه بقذف كان منه قبل التزوج, وهي كانت أجنبية قبل التزوج, وقذف الأجنبية؛ يوجب الحد لا اللعان, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان من يملك الخصومة ومن لا يملكها فنقول ولا قوة إلا بالله تعالى: المقذوف لا يخلو إما أن يكون حيا وقت القذف, وإما أن يكون ميتا, فإن كان حيا فلا خصومة لأحد سواه, وإن كان ولده أو والده, وسواء كان حاضرا أو غائبا؛ لأنه إذا كان حيا وقت القذف كان هو المقذوف صورة ومعنى بإلحاق العار به, فكان حق الخصومة له, وهل تجوز الإنابة في هذه الخصومة وهو التوكيل بالإثبات بالبينة اختلف أصحابنا فيه عندهما يجوز, وقال أبو يوسف

 

ج / 7 ص -55-         لا يجوز والمسألة مرت في كتاب الوكالة ولا يجوز التوكيل فيه بالاستيفاء عندنا, خلافا للشافعي رحمه الله والمراد بذلك أن حضرة المقذوف بنفسه شرط جواز الاستيفاء عندنا, وعنده ليس بشرط, وتقوم حضرة الوكيل مقام حضرته على أن هذا الحد عنده حد المقذوف على الخلوص, فتجري فيه النيابة في الإثبات والاستيفاء جميعا. "ولنا" أن الاستيفاء عند غيبة الموكل بنفسه استيفاء مع الشبهة؛ لجواز أنه لو كان حاضرا لصدق القاذف في قذفه, والحدود لا تستوفى مع الشبهات ولو كان المقذوف حيا وقت القذف, ثم مات قبل الخصومة أو بعدها سقط الحد عندنا, خلافا للشافعي بناء على أن حد القذف لا يورث عندنا, وعنده يورث وستأتي المسألة في موضعها هذا إذا كان حيا وقت القذف. "وأما" إذا كان ميتا فلا خلاف في أن لولده ذكرا كان أو أنثى, ولابن ابنه, وبنت ابنه وإن سفلوا, ولوالده وإن علا, أن يخاصم القاذف في القذف؛ لأن معنى القذف: هو إلحاق العار بالمقذوف, والميت ليس بمحل لإلحاق العار به, فلم يكن معنى القذف راجعا إليه بل إلى فروعه وأصوله؛ لأنه يلحقهم العار بقذف الميت؛ لوجود الجزئية والبعضية, وقذف الإنسان يكون قذفا لأجزائه فكان القذف بهم من حيث المعنى فيثبت لهم حق الخصومة؛ لدفع العار عن أنفسهم, بخلاف ما إذا كان المقذوف حيا وقت القذف, ثم مات أنه ليس للولد والوالد حق الخصومة بل يسقط؛ لأن القذف أضيف إليه وهو كان محلا قابلا للقذف صورة ومعنى بإلحاق العار به؛ فانعقد القذف موجبا حق الخصومة له خاصة, فلو انتقل إلى ورثته لانتقل إليهم بطريق الإرث, وهذا الحد لا يحتمل الإرث لما نذكر فسقط ضرورة, ولا خلاف في أن الإخوة والأخوات والأعمام والعمات والأخوال والخالات لا يملكون الخصومة؛ لأن العار لا يلحقهم؛ لانعدام الجزئية والبعضية فالقذف لا يتناولهم لا صورة ولا معنى, وكذا ليس لمولى العتاقة ولاية الخصومة؛ لأن القذف لم يتناوله صورة ومعنى بإلحاق العار به, واختلف أصحابنا رضي الله عنهم في أولاد البنات أنهم هل يملكون الخصومة؟ عندهما يملكون, وعند محمد لا يملكون. "وجه" قوله أن ولد البنت ينسب إلى أبيه لا إلى جده فلم يكن مقذوفا معنى بقذف جده. "ولهما" أن معنى الولاد موجود والنسبة الحقيقية ثابتة بواسطة أمه؛ فصار مقذوفا معنى فيملك الخصومة. وهل يراعى فيه الترتيب بتقديم الأقرب على الأبعد؟ قال أصحابنا الثلاثة: لا يراعى والأقرب والأبعد سواء فيه, حتى كان لابن الابن أن يخاصم فيه مع قيام الابن الصلبي. وعند زفر رحمه الله يراعى فيه الترتيب وتثبت للأقرب فالأقرب, وليس للأبعد حق الخصومة والمطالبة بالقذف لإلحاق العار بالمخاصم, ولا شك أن عار الأقرب يزيد على الأبعد فكان أولى بالخصومة. "ولنا" أن هذا الحق ليس يثبت بطريق الإرث على معنى أنه يثبت الحق للميت, ثم ينتقل إلى الورثة بل يثبت لهم ابتداء لا بطريق الانتقال من الميت إليهم؛ لما ذكرنا أن الميت بالموت خرج عن احتمال لحوق العار به فلم يكن ثبوت الحق لهم بطريق الإرث, فلا يراعى فيه الأقرب والأبعد, وكذا لا يراعى فيه إحصان المخاصم, بل الشرط إحصان المقذوف عند أصحابنا الثلاثة, حتى لو كان الولد أو الوالد عبدا أو ذميا فله حق الخصومة. وقال زفر رحمه الله: إحصان المخاصم شرط, وليس للعبد ولا الكافر أن يخاصم. "وجه" قوله أن إثبات حق الخصومة له لصيرورته مقذوفا معنى بإضافة القذف إلى الميت, ولو أضيف إليه القذف ابتداء لا يجب الحد فههنا أولى. "ولنا" أن الحد لا يجب لعين القذف بل للحوق عار كامل بالمقذوف, وإن كان الميت محصنا فقد لحق الولد عار كامل فلا يشترط إحصانه؛ لأن اشتراطه للحوق عار كامل به, وقد لحقه بدونه ولو كان الوارث قتله حتى حرم الميراث فله أن يخاصم؛ لما ذكرنا أن هذا الحق لا يثبت بطريق الإرث, ولو قذف رجل أم ابنه وهي ميتة فليس للولد أن يخاصم أباه؛ لأن الأب لو قذف ولده وهو حي محصن ليس للولد أن يخاصم أباه؛ تعظيما له, ففي قذف الأم الميتة أولى. وكذلك المولى إذا قذف أم عبده وهي حرة ميتة فليس للعبد أن يخاصم مولاه في القذف؛ لأنه عبد مملوك لا يقدر على شيء, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما صفات الحدود فنقول وبالله التوفيق: لا خلاف في حد الزنا والشرب والسكر والسرقة أنه لا يحتمل العفو والصلح والإبراء بعد ما ثبت بالحجة؛ لأنه حق الله تعالى خالصا, لا حق للعبد فيه فلا يملك إسقاطه, وكذا يجري

 

ج / 7 ص -56-         فيه التداخل؛ حتى لو زنى مرارا أو شرب الخمر مرارا أو سكر مرارا لا يجب عليه إلا حد واحد؛ لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر وأنه يحصل بحد واحد, فكان في الثاني والثالث احتمال عدم حصول المقصود, فكان فيه احتمال عدم الفائدة, ولا يجوز إقامة الحد مع احتمال عدم الفائدة, ولو زنى أو شرب أو سكر أو سرق فحد, ثم زنى أو شرب أو سرق يحد ثانيا؛ لأنه تبين أن المقصود لم يحصل, وكذا إذا سرق سرقات من أناس مختلفة فخاصموا جميعا فقطع لهم كان القطع عن السرقات كلها, والكلام في الضمان نذكره في كتاب السرقة إن شاء الله تعالى. "وأما" حد القذف إذا ثبت بالحجة فكذلك عندنا لا يجوز العفو عنه والإبراء والصلح, وكذلك إذا عفا المقذوف قبل المرافعة, أو صالح على مال فذلك باطل ويرد به الصلح, وله أن يطالبه بعد ذلك, وعند الشافعي رحمه الله يصح ذلك كله, وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف رحمه الله وكذا يجري فيه التداخل عندنا حتى لو قذف إنسانا بالزنا بكلمة, أو قذف كل واحد بكلام على حدة لا يجب عليه إلا حد واحد سواء حضروا جميعا أو حضر واحد, وقال الشافعي رحمه الله إذا قذف كل واحد بكلام على حدة فعليه لكل واحد حد على حدة, ولو ضرب القاذف تسعة وسبعين سوطا, ثم قذف آخر ضرب السوط الأخير فقط عندنا, وعنده يضرب السوط الأخير للأول وثمانين سوطا أخر للثاني, ولو قذف رجلا فحد, ثم قذف آخر يحد للثاني بلا خلاف, وكذا هذا الحد لا يورث عند أصحابنا رضي الله عنهم, وعندهم يورث, ويقسم بين الورثة على فرائض الله عز شأنه في قول, وفي قول يقسم بين الورثة إلا الزوج والزوجة, والكلام في هذا الفرع بناء على أصل مختلف بيننا وبينه, وهو أن حد القذف خالص حق الله سبحانه وتعالى أو المغلب فيه حقه, وحق العبد مغلوب عندنا, وعنده هو حق العبد أو المغلب حق العبد. "وجه" قوله أن سبب وجوب هذا الحد؛ هو القذف, والقذف جناية على عرض المقذوف بالتعرض, وعرضه حقه بدليل أن بدل نفسه حقه وهو القصاص في العمد, أو الدية في الخطأ, فكان البدل حقه, والجزاء الواجب على حق الإنسان حقه كالقصاص, والدليل عليه أنه يشترط فيه الدعوى, والدعوى لا تشترط في حقوق الله تبارك وتعالى كسائر الحقوق, إلا أنه لم يفوض استيفاؤه إلى المقذوف لأجل التهمة؛ لأن ضرب القذف أخف الضربات في الشرع, فلو فوض إليه إقامة هذا الحد فربما يقيمه على وجه الشدة؛ لما لحقه من الغيظ بسبب القذف ففوض استيفاؤه إلى الإمام؛ دفعا للتهمة لا لأنه حق الله تعالى عز شأنه. "ولنا" أن سائر الحدود إنما كانت حقوق الله تبارك وتعالى على الخلوص؛ لأنها وجبت لمصالح العامة وهي دفع فساد يرجع إليهم ويقع حصول الصيانة لهم, فحد الزنا وجب؛ لصيانة الأبضاع عن التعرض, وحد السرقة وقطع الطريق وجب؛ لصيانة الأموال والأنفس عن القاصدين, وحد الشرب وجب؛ لصيانة الأنفس والأموال والأبضاع في الحقيقة بواسطة صيانة العقول عن الزوال والاستتار بالسكر, وكل جناية يرجع فسادها إلى العامة ومنفعة جزائها يعود إلى العامة, كان الجزاء الواجب بها حق الله عز شأنه على الخلوص تأكيدا للنفع والدفع؛ كي لا يسقط بإسقاط العبد وهو معنى نسبة هذه الحقوق إلى الله تبارك وتعالى, وهذا المعنى موجود في حد القذف؛ لأن مصلحة الصيانة ودفع الفساد يحصل للعامة بإقامة هذا الحد, فكان حق الله عز شأنه على الخلوص كسائر الحدود, إلا أن الشرع شرط فيه الدعوى من المقذوف, وهذا لا ينفي كونه حقا لله تعالى عز شأنه على الخلوص, كحد السرقة أنه خالص حق الله عز شأنه وإن كانت الدعوى من المسروق منه شرطا. ثم نقول: إنما شرط فيه الدعوى وإن كان خالص حق الله تعالى عز اسمه؛ لأن المقذوف يطالب القاذف ظاهرا أو غالبا؛ دفعا للعار عن نفسه فيحصل ما هو المقصود من شرع الحد كما في السرقة؛ ولأن حقوق العباد تجب بطريق المماثلة إما صورة ومعنى, وإما معنى لا صورة؛ لأنها تجب بمقابلة المحل جبرا, والجبر لا يحصل إلا بالمثل, ولا مماثلة بين الحد والقذف لا صورة ولا معنى؛ فلا يكون حقه. وأما حقوق الله سبحانه وتعالى فلا يعتبر فيها المماثلة؛ لأنها تجب جزاء للفعل كسائر الحدود. "ولنا" أيضا دلالة الإجماع من وجهين: أحدهما أن ولاية الاستيفاء للإمام بالإجماع ولو كان حق المقذوف لكان ولاية الاستيفاء له كما في القصاص. "والثاني" أنه يتنصف برق القاذف

 

ج / 7 ص -57-         وحق الله تعالى هو الذي يحتمل التنصيف بالرق لا حق العبد؛ لأن حقوق الله تعالى تجب جزاء للفعل, والجزاء يزداد بزيادة الجناية وينتقص بنقصانها, والجناية تتكامل بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله, فأما حق العبد فإنه يجب بمقابلة المحل ولا يختلف باختلاف حال الجاني, وإذا ثبت أن حد القذف حق الله تعالى خالصا أو المغلب فيه حقه فنقول: لا يصح العفو عنه؛ لأن العفو إنما يكون من صاحب الحق, ولا يصح الصلح والاعتياض؛ لأن الاعتياض عن حق الغير لا يصح ولا يجري فيه الإرث؛ لأن الإرث إنما يجري في المتروك من ملك أو حق للمورث على ما قال عليه الصلاة والسلام: "من ترك مالا أو حقا فهو لورثته" ولم يوجد شيء من ذلك فلا يورث ولا يجري فيه التداخل؛ لما ذكرنا, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان مقدار الواجب منها فمقدار الواجب في حد الزنا إذا لم يكن الزاني محصنا مائة جلدة إن كان حرا, وإن كان مملوكا فخمسون؛ لقوله عز شأنه {فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}؛ ولأن العقوبة على قدر الجناية, والجناية تزداد بكمال حال الجاني وتنتقص بنقصان حاله, والعبد أنقص حالا من الحر؛ لاختصاص الحر بنعمة الحرية, فكانت جنايته أنقص, ونقصان الجناية يوجب نقصان العقوبة؛ لأن الحكم يثبت على قدر العلة, هذا أمر معقول إلا أن التنقيص بالتنصيف في غيره من المقادير ثبت شرعا بقوله تعالى جل شأنه {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ}, وفي حد الشرب والسكر والقذف ثمانون في الحر وأربعون في العبد؛ لما قلنا, وفي حد السرقة لا يختلف قدر الواجب بالرق والحرية؛ لعموم قوله تبارك وتعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ولا يختلف بالذكورة والأنوثة في شيء من الحدود والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط جواز إقامتها فمنها ما يعم الحدود كلها, ومنها ما يخص البعض دون البعض, أما الذي يعم الحدود كلها فهو الإمامة: وهو أن يكون المقيم للحد هو الإمام أو من ولاه الإمام وهذا عندنا, وعند الشافعي هذا ليس بشرط, وللرجل أن يقيم الحد على مملوكه إذا ظهر الحد عنده بالإقرار أربعا عندنا, ومرة عنده وبالمعاينة بأن رأى عبده زنى بأجنبية, ولو ظهر عنده بالشهود بأن شهدوا عنده والمولى من أهل القضاء فله فيه قولان, وكذا في إقامة المرأة الحد على مملوكها, وإقامة المكاتب الحد على عبد من أكسابه له فيه قولان, احتج بما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أقيموا الحدود على ما ملكت أيمانكم" وهذا نص. وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها, فإن عادت فليجلدها, فإن عادت فليجلدها, فإن عادت فليبعها ولو بضفير" أي بحبل, وهذا أيضا نص في الباب؛ ولأن السلطان إنما ملك الإقامة؛ لتسلطه على الرعية, وتسلط المولى على مملوكه فوق تسلط السلطان على رعيته, ألا ترى أنه يملك الإقرار عليه بالدين, ويملك عليه التصرفات, والإمام لا يملك شيئا من ذلك: فلما ثبت الجواز للسلطان فالمولى أولى؛ ولهذا ملك إقامة التعزير عليه, كذا الحد. "ولنا" أن ولاية إقامة الحدود ثابتة للإمام بطريق التعيين, والمولى لا يساويه فيما شرع له بهذه الولاية, فلا يثبت له ولاية الإقامة استدلالا بولاية إنكاح الصغار والصغائر؛ لأنها لما ثبتت للأقرب لم تثبت لمن لا يساويه فيما شرع له الولاية وهو الأبعد, وبيان ذلك أن ولاية إقامة الحد إنما ثبتت للإمام؛ لمصلحة العباد وهي صيانة أنفسهم وأموالهم وأعراضهم؛ لأن القضاة يمتنعون من التعرض خوفا من إقامة الحد عليهم, والمولى لا يساوي الإمام في هذا المعنى؛ لأن ذلك يقف على الإمامة, والإمام قادر على الإقامة؛ لشوكته ومنعته وانقياد الرعية له قهرا وجبرا, ولا يخاف تبعة الجناة وأتباعهم؛ لانعدام المعارضة بينهم وبين الإمام, وتهمة الميل والمحاباة والتواني عن الإقامة منتفية في حقه فيقيم على وجهها فيحصل الغرض المشروع له الولاية بيقين. وأما المولى فربما يقدر على الإقامة نفسها وربما لا يقدر؛ لمعارضة العبد إياه؛ ولأنه رقباني مثله يعارضه فيمنعه عن الإقامة خصوصا عند خوف الهلاك على نفسه فلا يقدر على الإقامة, وكذا المولى يخاف على نفسه وماله من العبد الشرير, ولو قصد إقامة الحد عليه أن يأخذ بعض أمواله ويقصد إهلاكه, ويهرب منه فيمتنع عن الإقامة, ولو قدر على الإقامة فقد يقيم

 

ج / 7 ص -58-         وقد لا يقيم؛ لما في الإقامة من نقصان قيمته بسبب عيب الزنا والسرقة, أو يخاف سراية الجلدات إلى الهلاك. والمرء مجبول على حب المال, ولو أقام فقد يقيم على الوجه وقد لا يقيم على الوجه, بل من حيث الصورة فلا يحصل الزجر, فثبت أن المولى لا يساوي الإمام في تحصيل ما شرع له إقامة الحد, فلا يزاحمه في الولاية بخلاف التعزير من وجهين: أحدهما أن التعزير: هو التغيير والتوبيخ وذلك غير مقدر, فقد يكون بالحبس وقد يكون برفع الصوت وتعبيس الوجه, وقد يكون بضرب أسواط على حسب الجناية وحال الجاني؛ لما نذكره في موضعه, والمولى يساوي الإمام في هذا؛ لأنه من باب التأديب فله قدرة التأديب, والعبد ينقاد لمثله للمولى ولا يعارضه, فالمولى أيضا لا يمتنع عن هذا القدر من الإيلام؛ لأنه لا يوجب نقصانا في مالية العبد ولا تعييبا فيه, بخلاف الحد. والثاني أن في التعزير ضرورة ليست في الحد؛ لأن أسباب التعزير مما يكثر وجودها, فيحتاج المولى إلى أن يعزر مملوكه في كل يوم وفي كل ساعة, وفي الرفع إلى الإمام في كل حين وزمان حرج عظيم على الموالي؛ ففوضت إقامة الحد إلى الموالي شرعا, أو صار المولى مأذونا في ذلك من جهة الإمام دلالة, وصار نائبا عن الإمام فيه, ولا حرج في الحد؛ لأنه لا يكثر وجوده؛ لانعدام كثرة أسباب وجوبه وأما الحديثان فيحتمل أن يكون خطابا لقوم معلومين, علم عليه الصلاة والسلام منهم من طريق الوحي أنهم يقيمون الحدود من غير تقصير مثل الأمير والسلطان, ويحتمل أن يكون ذلك خطابا للأئمة في حق عبيدهم, والتخصيص للترغيب في إقامة الحد؛ لما أن الأئمة والسلاطين لا يباشرون الإقامة بأنفسهم عادة بل يفوضونها إلى الحكام والمحتسبين, وقد يجيء منهم في ذلك تقصير, ويحتمل الإقامة بطريق التسبب بالسعي لرفع ذلك إلى الإمام بطريق الحسبة, وتخصيص المولى للترغيب لهم في الإقامة؛ لاحتمال الميل والتقصير في ذلك, ويحتمل أن يكون المراد من الحد المذكور في الحديث التعزير؛ لوجود معنى الحد فيه وهو المنع فلا يصح الاحتجاج بهما مع الاحتمال, والله تعالى أعلم. وللإمام أن يستخلف على إقامة الحدود؛ لأنه لا يقدر على استيفاء الجميع بنفسه؛ لأن أسباب وجوبها توجد في أقطار دار الإسلام, ولا يمكنه الذهاب إليها, وفي الإحضار إلى مكان الإمام حرج عظيم, فلو لم يجز الاستخلاف لتعطلت الحدود وهذا لا يجوز؛ ولهذا "كان عليه الصلاة والسلام يجعل إلى الخلفاء تنفيذ الأحكام وإقامة الحدود", ثم الاستخلاف نوعان: تنصيص, وتولية, أما التنصيص: فهو أن ينص على إقامة الحدود؛ فيجوز للخليفة إقامتها بلا شك. وأما التولية فعلى ضربين: عامة, وخاصة فالعامة: هي أن يولي رجلا ولاية عامة, مثل إمارة إقليم أو بلد عظيم فيملك المولى إقامة الحدود وإن لم ينص عليها؛ لأنه لما قلده إمارة ذلك البلد فقد فوض إليه القيام بمصالح المسلمين وإقامة الحدود معظم مصالحهم فيملكها, والخاصة: هي أن يولي رجلا ولاية خاصة, مثل جباية الخراج ونحو ذلك فلا يملك إقامة الحدود؛ لأن هذه التولية لم تتناول إقامة الحدود, ولو استعمل أمير على الجيش الكبير فإن كان أمير مصر أو مدينة فغزا بجنده فإنه يملك إقامة الحدود في معسكره؛ لأنه كان يملك الإقامة في بلده, فإذا خرج بأهله أو ببعضهم ملك عليهم ما كان يملك فيهم قبل الخروج. وأما من أخرجه أمير البلد غازيا فما كان يملك إقامة الحد عليهم قبل الخروج وبعد الخروج, لم يفوض إليه الإقامة فلا يملك الإقامة, والإمام العدل له أن يقيم الحدود وينفذ القضاء في معسكره, كما له أن يفعل ذلك في المصر؛ لأن للإمام ولاية على جميع دار الإسلام ثابتة, وكذا إذا استعمل قاضيا له أن يفعل ذلك في المعسكر؛ لأنه نائب الإمام, والله تعالى أعلم. وأما الذي يخص البعض دون البعض فمنها البداية من الشهود في حد الرجم إذا ثبت بالشهادة, حتى لو امتنع الشهود عن البداية أو ماتوا أو غابوا كلهم أو بعضهم لا يقام الرجم على المشهود عليه, وهذا قول أبي حنيفة ومحمد, وإحدى الروايتين عن أبي يوسف استحسانا. وروي عن أبي يوسف رواية أخرى أنها ليست بشرط ويقام الرجم على المشهود عليه وهو قول الشافعي رحمه الله وهو القياس, وجه القياس أن الشهود فيما وراء الشهادة وسائر الناس سواء, ثم لا تشترط البداية من أحد منهم فكذا من الشهود؛ ولأن الرجم أحد نوعي الحد فيعتبر بالنوع الآخر وهو الجلد, والبداية من الشهود ليست بشرط فيه كذا في الرجم. "ولنا" ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: يرجم الشهود أولا, ثم الإمام, ثم الناس وكلمة "ثم" للترتيب, وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي

 

ج / 7 ص -59-         الله عنهم  ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد؛ فيكون إجماعا؛ ولأن في اعتبار الشرط احتياطا في درء الحد؛ لأن الشهود إذا بدءوا بالرجم ربما استعظموا فعله فيحملهم ذلك على الرجوع عن الشهادة فيسقط الحد عن المشهود عليه بخلاف الجلد؛ لأنا إنما عرفنا البداية شرطا استحسانا بالأثر فيسقط الحد عليه, والأثر ورد في الرجم خاصة فيبقى أمر الجلد على أصل القياس؛ ولأن الجلد لا يحسنه كل أحد ففوض استيفاؤه إلى الأئمة بخلاف الرجم, والله تعالى أعلم. ومنها أهلية أداء الشهادة للشهود عند الإقامة في الحدود كلها, حتى لو بطلت الأهلية بالفسق أو الردة أو الجنون أو العمى أو الخرس أو حد القذف, بأن فسق الشهود أو ارتدوا أو جنوا أو عموا أو خرسوا أو ضربوا حد القذف كلهم أو بعضهم لا يقام الحد على المشهود عليه؛ لأن اعتراض أسباب الجرح على الشهادة عند إمضاء الحد بمنزلة اعتراضها عند القضاء به, واعتراضها عند القضاء يبطل الشهادة فكذا عند الإمضاء في باب الحدود عن القضاء. وأما موت الشهود وغيبتهم عند الإقامة فلا يمنعان من الإقامة في سائر الحدود إلا الرجم, حتى لو ماتوا كلهم أو غابوا كلهم أو بعضهم يقام الحد على المشهود عليه إلا الرجم؛ لأنهما ليسا من أسباب الجرح؛ لأن أهلية الشهادة لا تبطل بالموت والغيبة بل تتناهى وتتقرر وتختم بها العدالة على وجه لا يحتمل الجرح, وفي حد الرجم إنما يمنعان الإقامة لا لأنهما يجرحان في الشهادة بل؛ لأن البداية من الشهود شرط جواز الإقامة ولم توجد. وروي عن محمد في الشهود إذا كانوا مقطوعي الأيدي أو بهم مرض لا يستطيعون الرمي أن الإمام يرمي, ثم الناس, وجعل قطع اليد أو المرض عذرا في فوات البداية, ولم يجعل الموت عذرا فيه, وإن ثبت الرجم بالإقرار يبدأ به الإمام, ثم الناس, والله تعالى أعلم. ومنها أن لا يكون في إقامة الجلدات خوف الهلاك؛ لأن هذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا, فلا يجوز الإقامة في الحر الشديد والبرد الشديد؛ لما في الإقامة فيهما من خوف الهلاك, ولا يقام على مريض حتى يبرأ؛ لأنه يجتمع عليه وجع المرض وألم الضرب؛ فيخاف الهلاك, ولا يقام على النفساء حتى ينقضي النفاس؛ لأن النفاس نوع مرض ويقام على الحائض؛ لأن الحيض ليس بمرض, ولا يقام على الحامل حتى تضع وتطهر من النفاس؛ لأن فيه خوف هلاك الولد والوالدة, ويقام الرجم في هذا كله إلا على الحامل؛ لأن ترك الإقامة في هذه الأحوال للاحتراز عن الهلاك والرجم حد مهلك, فلا معنى للاحتراز عن الهلاك فيه إلا أنه لا يقام على الحامل؛ لأن فيه إهلاك الولد بغير حق. ولا يجمع الضرب في عضو واحد؛ لأنه يفضي إلى تلف ذلك العضو, أو إلى تمزيق جلده, وكل ذلك لا يجوز, بل يفرق الضرب على جميع الأعضاء من الكتفين والذراعين والعضدين والساقين والقدمين إلا الوجه والفرج والرأس؛ لأن الضرب على الفرج مهلك عادة, وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه موقوفا عليه ومرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "اتق وجهه ومذاكيره" والضرب على الوجه يوجب المثلة وقد "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المثلة", والرأس مجمع الحواس وفيه العقل فيخاف من الضرب عليه فوات العقل أو فوات بعض الحواس. وفيه إهلاك الذات من وجه وقال أبو يوسف رحمه الله أيضا: لا يضرب الصدر والبطن, ويضرب الرأس سوطا أو سوطين أما الصدر والبطن؛ فلأن فيه خوف الهلاك. وأما الرأس؛ فلقول سيدنا عمر رضي الله عنه: اضربوا الرأس فإن فيه شيطانا, والجواب أن الحديث ورد في قتل أهل الحرب خصوصا قوما كانوا بالشام يحلقون أوساط رءوسهم, ثم تفريق الضرب على الأعضاء مذهبنا, وقال الشافعي عليه الرحمة: يضرب كله على الظهر, وهذا ليس بسديد؛ لأن المأمور به هو الجلد وأنه مأخوذ من ضرب الجلد, والضرب على عضو واحد ممزق للجلد, وبعد تمزيق الجلد لا يمكن الضرب على الجلد بعد ذلك؛ ولأن في الجمع على عضو واحد خوف الهلاك, وهذا الحد شرع زاجرا لا مهلكا, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما كيفية إقامة الحدود فأما حد الرجم فلا ينبغي أن يربط المرجوم بشيء, ولا أن يمسك, ولا أن يحفر له إذا كان رجلا بل يقام قائما؛ لأن ماعزا لم يربط ولم يمسك ولا حفر له, ألا يرى أنه روي أنه هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة ولو ربط أو مسك أو حفر له لما قدر على الهرب, وإن كان المرجوم امرأة فإن شاء الإمام حفر لها, وإن شاء لم يحفر, أما الحفر؛ فلأنه أستر لها, وقد روي "أنه عليه الصلاة والسلام حفر للمرأة الغامدية

 

ج / 7 ص -60-         إلى ثندوتها, وأخذ حصاة مثل الحمصة ورماها بها". وحفر سيدنا علي رضي الله عنه لشراحة الهمذانية إلى سرتها وأما ترك الحفر؛ فلأن الحفر للستر وهي مستورة بثيابها؛ لأنها لا تجرد عند إقامة الحد ولا بأس لكل من رمى أن يتعمد مقتله؛ لأن الرجم حد مهلك فما كان أسرع إلى الهلاك كان أولى, إلا إذا كان الرامي ذا رحم محرم من المرجوم فلا يستحب له أن يتعمد مقتله؛ لأنه قطع الرحم من غير ضرورة؛ لأن غيره يكفيه ويغنيه, وقد رويأن حنظلة غسيل الملائكة استأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قتل أبيه أبي عامر وكان مشركا فنهاه عليه الصلاة والسلام عن ذلك, وقال: "دعه يكفيك غيرك". وأما حد الجلد: فأشد الحدود ضربا حد الزنا ثم حد الشرب ثم حد القذف؛ لأن جناية الزنا أعظم من جناية الشرب والقذف, أما من جناية القذف فلا شك فيه؛ لأن القذف نسبة إلى الزنا فكانت دون حقيقة الزنا. وأما من جناية الشرب؛ فلأن قبح الزنا ثبت شرعا وعقلا وحرمة نفس الشرب ثبتت شرعا لا عقلا؛ ولهذا كان الزنا حراما في الأديان كلها بخلاف الشرب, وكذا الخمر يباح عند ضرورة المخمصة والإكراه ولا يباح الزنا عند الإكراه وغلبة الشبق, وكذا وجوب الجلد في الزنا ثبت بنص الكتاب العزيز المكنون ولا نص في الشرب وإنما استخرجه الصحابة الكرام رضي الله عنهم بالاجتهاد والاستدلال بالقذف فقالوا: إذا سكر هذى, وإذا هذى افترى, وحد المفتري ثمانون وقال سبحانه وتعالى جل شأنه في حد الزنا في حد الزنا {وَلا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} قيل في التأويل: أي بتخفيف الجلدات, وإنما كان ضرب القذف أخف الضربين؛ لوجهين: أحدهما أن وجوده ثبت بسبب متردد؛ لأن القاذف يحتمل أن يكون صادقا في قذفه, ولا حد عليه. والثاني أنه انضاف إليه رد الشهادة على التأبيد؛ فجرى فيه نوع تخفيف ويضرب قائما ولا يمد على العقابين ولا على الأرض, كما يفعل في زماننا؛ لأنه بدعة, بل يضرب قائما ولا يمد السوط بعد الضرب بل يرفع؛ لأن المد بعد الضرب بمنزلة ضربة أخرى؛ فيكون زيادة على الحد, ولا يمد الجلاد يده إلى ما فوق رأسه؛ لأنه يخاف فيه الهلاك أو تمزيق الجلد, ولا يضرب بسوط له ثمرة؛ لأن اتصال الثمرة بمنزلة ضربة أخرى, فيصير كل ضربة بضربتين؛ فيكون زيادة على القدر المشروع, وينبغي أن يكون الجلاد عاقلا بصيرا بأمر الضرب, فيضرب ضربة بين ضربتين ليس بالمبرح ولا بالذي لا يوجد فيه مس, ويجرد الرجل في حد الزنا ويضرب على إزار واحد؛ لأنه أشد الحدود ضربا, ومعنى الشدة لا يحصل إلا بالتجريد, وفي حد الشرب يجرد أيضا في الرواية المشهورة, وروي عن محمد رحمه الله أنه لا يجرد. وجه هذه الرواية أن ضرب الشرب أخف من ضرب الزنا, فلا بد من إظهار آية التخفيف وذلك بترك التجريد وجه الرواية المشهورة أنه قد جرى التخفيف فيه مرة في الضرب, فلو خفف فيه ثانيا بترك التجريد لا يحصل المقصود من الحد وهو الزجر, ولا يجرد في حد القذف بلا خلاف؛ لأن وجوبه بسبب متردد محتمل فيراعى فيه التخفيف بترك التجريد, كما روعي في أصل الضرب, بخلاف حد الشرب؛ لأن وجوبه ثبت بسبب لا تردد فيه. وأما المرأة فلا ينزع عنها ثيابها إلا الحشو والفرو في الحدود كلها؛ لأنها عورة وتضرب قاعدة؛ لأن ذلك أستر لها, ويفرق الضرب في الأعضاء كلها؛ لما ذكرنا؛ لأن الجمع في عضو واحد يقع إهلاكا للعضو أو تمزيقا أو تخريقا للجلد, وكل ذلك ليس بمشروع, فيفرق على الأعضاء كلها إلا الوجه والمذاكير والرأس, وقد ذكرنا ذلك فيما تقدم. ولا يقام شيء من ذلك في المسجد؛ لما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقام الحدود في المساجد" وهذا نص في الباب؛ ولأن تعظيم المسجد واجب, وفي إقامة الحدود فيه ترك تعظيمه, يؤيده أنا نهينا عن سل السيوف في المساجد, قال عليه الصلاة والسلام: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم وبياعاتكم وأشريتكم وسل سيوفكم تعظيما للمسجد" ومعلوم أن سل السيف في ترك التعظيم دون الجلد والرجم فلما كره ذلك؛ فلأن يكره هذا أولى؛ ولأن إقامة الحدود في المسجد لا تخلو عن تلويثه؛ فتجب صيانة المسجد عن ذلك, وينبغي أن تقام الحدود كلها في ملإ من الناس؛ لقوله تبارك وتعالى عز اسمه {وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} والنص وإن ورد في حد الزنا, لكن النص الوارد فيه يكون واردا في سائر الحدود دلالة؛ لأن المقصود من الحدود كلها واحد وهو زجر العامة, وذلك

 

ج / 7 ص -61-         لا يحصل إلا وأن تكون الإقامة على رأس العامة؛ لأن الحضور ينزجرون بأنفسهم بالمعاينة والغيب ينزجرون بإخبار الحضور فيحصل الزجر للكل, وكذا فيه منع الجلاد من المجاوزة عن الحد الذي جعل له؛ لأنه لو جاوز لمنعه الناس عن المجاوزة, وفيه أيضا دفع التهمة والميل فلا يتهمه الناس أن يقيم الحد عليه بلا جرم سبق منه, والله تعالى الموفق.

"فصل": وأما بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه فالمسقط له أنواع: منها الرجوع عن الإقرار بالزنا والسرقة والشرب والسكر؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقا في الرجوع وهو الإنكار, ويحتمل أن يكون كاذبا فيه, فإن كان صادقا في الإنكار يكون كاذبا في الإقرار, وإن كان كاذبا في الإنكار يكون صادقا في الإقرار فيورث شبهة في ظهور الحد, والحدود لا تستوفى مع الشبهات, وقد روي أن ماعزا لما أقر بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالزنا؛ لقنه الرجوع فقال عليه الصلاة والسلام: "لعلك قبلتها, لعلك مسستها". وقال عليه الصلاة والسلام: لتلك المرأة أسرقت قولي: "لا ما إخالك سرقت" وكان ذلك منه عليه الصلاة والسلام تلقينا للرجوع فلو لم يكن محتملا للسقوط بالرجوع ما كان للتلقين معنى, وهذا هو السنة للإمام إذا أقر إنسان عنده بشيء من أسباب الحدود الخالصة أن يلقنه الرجوع درأ للحد, كما فعل عليه الصلاة والسلام في الزنا والسرقة, وسواء رجع قبل القضاء أو بعده قبل الإمضاء أو بعد إمضاء بعض الجلدات أو بعض الرجم وهو حي بعد؛ لما قلنا, ثم الرجوع عن الإقرار قد يكون نصا, وقد يكون دلالة, بأن أخذ الناس في رجمه؛ فهرب ولم يرجع, أو أخذ الجلاد في الجلد؛ فهرب ولم يرجع, حتى لا يتبع ولا يتعرض له؛ لأن الهرب في هذه الحالة دلالة الرجوع وروي أنه لما هرب ماعز ذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "هلا خليتم سبيله" دل أن الهرب دليل الرجوع, وأن الرجوع مسقط للحد, وكما يصح الرجوع عن الإقرار بالزنا يصح عن الإقرار بالإحصان, حتى لو ثبت على الإقرار بالزنا, ورجع عن الإقرار بالإحصان يسقط عنه الرجم ويجلد؛ لأن الإحصان شرط صيرورة الزنا علة؛ لوجوب الرجم فيصح الرجوع عنه, كما يصح عن الزنا؛ فيبطل الإحصان ويبقى الزنا, فيجب الجلد. وأما الرجوع عن الإقرار بالقذف فلا يسقط الحد؛ لأن هذا الحد حق العبد من وجه, وحق العبد بعد ما ثبت لا يحتمل السقوط بالرجوع كالقصاص وغيره, ومنها تصديق المقذوف والقاذف في القذف؛ لأنه لما صدقه فقد ظهر صدقه في القذف, ومن المحال أن يحد الصادق على الصدق؛ ولأن حد القذف إنما وجب؛ لدفع عار الزنا وشينه عن المقذوف, ولما صدقه في القذف فقد التزم العار بنفسه, فلا يندفع عنه بالحد فيسقط ضرورة, ومنها تكذيب المقذوف المقر في إقراره بالقذف بأن يقول له: إنك لم تقذفني بالزنا؛ لأنه لما كذبه في القذف فقد كذب نفسه في الدعوى, والدعوى شرط ظهور هذا الحد. "ومنها" تكذيب المقذوف حجته على القذف وهي البينة بأن يقول بعد القضاء بالحد قبل الإمضاء: شهودي شهدوا بزور؛ لأنه يحتمل أن يكون صادقا في التكذيب فثبت الشبهة, ولا يجوز استيفاء الحد مع الشبهة. "ومنها" تكذيب المزني بها المقر بالزنا قبل إقامة الحد عليه بأن قال رجل: زنيت بفلانة فكذبته وأنكرت الزنا, وقالت: لا أعرفك ويسقط الحد عن الرجل, وهذا قولهما, وقال محمد: لا يسقط, كذا ذكر الكرخي رحمه الله الاختلاف, وذكر القاضي في شرحه قول أبي يوسف مع قول محمد. "وجه" قوله أن زنا الرجل قد ظهر بإقراره, وامتناع الظهور في جانب المرأة لمعنى يخصها وهو إنكارها؛ فلا يمنع الظهور في جانب الرجل, ولهما أن الزنا لا يقوم إلا بالفاعل والمحل, فإذا لم يظهر في جانبها امتنع الظهور في جانبه, هذا إذا أنكرت ولم تدعي على الرجل حد القذف, فإن ادعت على الرجل حد القذف يحد حد القذف ويسقط حد الزنا؛ لأنه لا يجب عليه حدان, هذا إذا كذبته ولم تدعي النكاح. "فأما" إذا ادعت النكاح والمهر قبل إقامة الحد عليه يسقط الحد عن الرجل بالإجماع؛ لأنه لم يجب عليها للشبهة؛ لاحتمال أن تكون صادقة في دعوى النكاح فتمكنت الشبهة في وجوب الحد عليها, وإذا لم يجب عليها الحد تعدى إلى جانب الرجل فسقط عنه وعليه المهر؛ لأن الوطء لا يخلو عن عقوبة أو غرامة, وإن كان دعوى النكاح منها بعد إقامة الحد على الرجل لا مهر لها عليه؛ لأن الوجوب في الفصل الأول لضرورة إقامة الحد ولم توجد, وعلى هذا إذا أقرت المرأة

 

ج / 7 ص -62-         بالزنا مع فلان, فأنكر الرجل وكذبها أو ادعى النكاح على الاتفاق والاختلاف, ولو أقر الرجل بالزنا بفلانة فادعت المرأة الاستكراه يحد الرجل بالاتفاق, فرق بين هذا وبين الأول. "ووجه" الفرق أن المرأة في الفصل الأول أنكرت وجود الزنا فلم يثبت الزنا من جانبها؛ فتعدى إلى جانب الآخر, وههنا أقرت بالزنا لكنها ادعت الشبهة لمعنى يخصها وهو كونها مكرهة فلا يتعدى إلى جانب الرجل, والدليل على التفرقة بينهما أنا لو تيقنا بالإكراه يقام الحد على الرجل بالإجماع, ولو تيقنا بالنكاح في الفصل الأول لا يقام الحد على الرجل, والله تعالى أعلم. "ومنها" رجوع الشهود بعد القضاء قبل الإمضاء؛ لأن رجوعهم يحتمل الصدق والكذب فيورث شبهة, والحدود لا تستوفى مع الشبهات, وقد ذكرنا الأحكام المتعلقة برجوع الشهود في باب الحدود كلهم أو بعضهم قبل القضاء أو بعده, قبل الإمضاء أو بعد الإمضاء, بما فيه من الاتفاق والاختلاف في كتاب الرجوع عن الشهادات. "ومنها" بطلان أهلية شهادتهم بعد القضاء قبل الإمضاء بالفسق والردة والجنون والعمى والخرس وحد القذف؛ لما ذكرنا فيما تقدم. "ومنها" موتهم في حد الرجم خاصة في ظاهر الرواية؛ لما ذكرنا أن البداية بالشهود شرط جواز الإقامة, وقد فات بالموت على وجه لا يتصور عوده فسقط الحد ضرورة. "وأما" اعتراض ملك النكاح أو ملك اليمين فهل يسقط الحد بأن زنى بامرأة, ثم تزوجها أو بجارية, ثم اشتراها؟ عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيه ثلاث روايات, روى محمد رحمه الله عنه أنه لا يسقط, وهو قول أبي يوسف ومحمد, وروى أبو يوسف عنه أنه يسقط, وروى الحسن عنه أن اعتراض الشراء يسقط, واعتراض النكاح لا يسقط. "وجه" رواية الحسن أن البضع لا يصير مملوكا للزوج بالنكاح, بدليل أنها إذا وطئت بشبهة كان العقر لها, والعقر بدل البضع, والبدل إنما يكون لمن كان له المبدل, فلم يحصل استيفاء منافع البضع من محل مملوك له, فلا يورث شبهة, وبضع الأمة يصير مملوكا للمولى بالشراء, ألا ترى أنها لو وطئت بشبهة كان العقر للمولى فحصل الاستيفاء من محل مملوك له؛ فيورث شبهة فصار كالسارق إذا ملك المسروق بعد القضاء قبل الإمضاء. "وجه" رواية أبي يوسف أن المرأة تصير مملوكة للزوج بالنكاح في حق الاستمتاع فحصل الاستيفاء من محل مملوك؛ فيصير شبهة كالسارق إذا ملك المسروق. "وجه" رواية محمد رحمه الله أن الوطء حصل زنا محضا؛ لمصادفته محلا غير مملوك له فحصل موجبا للحد والعارض وهو الملك لا يصلح مسقطا؛ لاقتصاره على حالة ثبوته؛ لأنه يثبت بالنكاح والشراء, وكل واحد منهما وجد للحال فلا يستند الملك الثابت به إلى وقت وجود الوطء, فبقي الوطء خاليا عن الملك, فبقي زنا محضا موجبا للحد, بخلاف السارق إذا ملك المسروق؛ لأن هناك وجد المسقط وهو بطلان ولاية الخصومة؛ لأن الخصومة هناك شرط, وقد خرج المسروق منه من أن يكون خصما بملك المسروق, ولذلك افترقا, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو غصب جارية فزنى بها فماتت؛ روى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أن عليه الحد وقيمة الجارية, وروى الحسن عنهما أن عليه القيمة ولا حد عليه, وذكر الكرخي أن هذا أصح الروايتين. "وجه" رواية أبي يوسف أن الضمان لا يجب إلا بعد هلاك الجارية, وهي بعد الهلاك لا تحتمل الملك فلا يملكها الغاصب بالضمان فلا يمتنع وجوب الحد. "وجه" رواية الحسن أن الضمان لا يجب بعد الهلاك وإنما يجب في آخر جزء من أجزاء الحياة, وهي محتملة للملك في ذلك الوقت فيستند إلى وقت وجود السبب؛ ولأن حياة المحل تشترط؛ لثبوت الملك فيه مقصودا بمبادلة مقصودة, والملك ههنا يثبت ضرورة استحالة اجتماع البدل والمبدل في ملك رجل واحد في عقد المبادلة, فلا يشترط له حياة المحل فيثبت الملك في الميت, وأنه يمنع وجوب الحد ولو غصب حرة فزنى بها فماتت فعليه الحد والدية؛ لأن ملك الضمان في الحرة لا يوجب ملك المضمون؛ لأن المحل لا يحتمل التملك فلا يمتنع وجوب الحد, بخلاف الأمة, والله عز وجل أعلم.

"فصل": وأما حكم الحدود إذا اجتمعت, فالأصل في أسباب الحدود إذا اجتمعت أن يقدم حق العبد في الاستيفاء على حق الله عز وجل؛ لحاجة العبد إلى الانتفاع بحقه, وتعالى الله تعالى عن الحاجات, ثم ينظر إن لم يمكن استيفاء حقوق الله تعالى تسقط ضرورة, وإن أمكن استيفاؤها فإن كان في إقامة شيء منها إسقاط البواقي يقام ذلك درءا للبواقي

 

ج / 7 ص -63-         لقوله عليه الصلاة والسلام: "ادرءوا الحدود ما استطعتم" وإن لم يكن في إقامة شيء منها إسقاط البواقي يقام الكل جمعا بين الحقين في الاستيفاء, وإذا ثبت هذا فنقول: إذا اجتمع القذف والشرب والسكر والزنا من غير إحصان والسرقة بأن قذف إنسانا بالزنا, وشرب الخمر وسكر من غير الخمر من الأشربة المعهودة, وزنى وهو غير محصن, وسرق مال إنسان, ثم أتي به إلى الإمام؛ بدأ الإمام بحد القذف فيضربه؛ لأنه حق الله عز شأنه من وجه, وما سواه حقوق العباد على الخلوص فيقدم استيفاؤه, ثم يستوفي حقوق الله تعالى؛ لأنه يمكن استيفاؤها. وليس في إقامة شيء منها إسقاط البواقي فلا يسقط, ثم إذا ضرب حد القذف يحبس حتى يبرأ من الضرب, ثم الإمام بالخيار في البداية إن شاء بدأ بحد الزنا, وإن شاء بحد السرقة, ويؤخر حد الشرب عنهما؛ لأنهما ثبتا بنص الكتاب العزيز, وحد الشرب لم يثبت بنص الكتاب الكريم, إنما ثبت بإجماع مبني على الاجتهاد أو على خبر الواحد, ولا شك أن الثابت بنص الكتاب آكد ثبوتا, ولا يجمع ذلك كله في وقت واحد, بل يقام كل واحد منهما بعد ما برأ من الأول؛ لأن الجمع بين الكل في وقت واحد يفضي إلى الهلاك. ولو كان من جملة هذه الحدود حد الرجم, بأن زنى وهو محصن يبدأ بحد القذف, ويضمن السرقة, ويرجم, ويدرأ عنه ما سوى ذلك؛ لأن حد القذف حق العبد فيقدم في الاستيفاء, وفي إقامة حد الرجم إسقاط البواقي فيقام درءا للبواقي؛ لأن الحدود واجبة الدرء ما أمكن؛ فيدرأ, إلا أنه يضمن السرقة؛ لأن المال لا يحتمل الدرء, وكذا لو كان مع هذه الحدود قصاص في النفس يبدأ بحد القذف ويضمن السرقة ويقتل قصاصا, ويدرأ ما سوى ذلك وإنما بدئ بحد القذف دون القصاص الذي هو خالص حق العبد؛ لأن في البداية بالقصاص إسقاط حد القذف ولا سبيل إليه؛ لذلك يبدأ بحد القذف ويقتل قصاصا ويبطل ما سوى ذلك؛ لتعذر الاستيفاء بعد القتل, إلا أنه يضمن السرقة؛ لما قلنا. ولو كان مع القصاص في النفس قصاص فيما دون النفس يحد حد القذف, ويقتص فيما دون النفس, ويقتص في النفس, ويلغى ما سوى ذلك, ولو لم يكن في الحدود حد القذف ويقتص فيما دون النفس, ثم يقتص في النفس, ويلغى ما سوى ذلك, ولو اجتمعت الحدود الخالصة والقتل يقتص ويلغى ما سوى ذلك؛ لأن تقديم القصاص على الحدود في الاستيفاء واجب, ومتى قدم استيفاؤه تعذر استيفاء الحدود؛ فتسقط ضرورة, والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما حكم المحدود فالحد إن كان رجما فإذا قتل يدفع إلى أهله فيصنعون به ما يصنع بسائر الموتى, فيغسلونه ويكفنونه ويصلون عليه ويدفنونه, بهذا "أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجم ماعزا فقال عليه الصلاة والسلام: اصنعوا به ما تصنعون بموتاكم", وإن كان جلدا فحكم المحدود وغيره سواء في سائر الأحكام من الشهادة وغيرها, إلا المحدود في القذف خاصة في أداء الشهادة, فإنه تبطل شهادته على التأبيد, حتى لا تقبل, وإن تاب إلا في الديانات عندنا, وعند الشافعي رحمه الله تقبل شهادته بعد التوبة وقد ذكرنا المسألة وفروعها في كتاب الشهادات والله الموفق.

"فصل": وأما التعزير فالكلام فيه في مواضع في بيان سبب وجوب التعزير, وفي بيان شرط وجوبه, وفي بيان قدره, وفي بيان وصفه, وفي بيان ما يظهر به. "أما" سبب وجوبه فارتكاب جناية ليس لها حد مقدر في الشرع, سواء كانت الجناية على حق الله تعالى كترك الصلاة والصوم ونحو ذلك, أو على حق العبد بأن آذى مسلما بغير حق بفعل أو بقول يحتمل الصدق والكذب بأن قال له: يا خبيث, يا فاسق, يا سارق, يا فاجر, يا كافر, يا آكل الربا, يا شارب الخمر, ونحو ذلك, فإن قال له: يا كلب, يا خنزير, يا حمار يا ثور, ونحو ذلك لا يجب عليه التعزير؛ لأن في النوع الأول إنما وجب التعزير؛ لأنه ألحق العار بالمقذوف, إذ الناس بين مصدق ومكذب فعزر؛ دفعا للعار عنه, والقاذف في النوع الثاني ألحق العار بنفسه بقذفه غيره بما لا يتصور؛ فيرجع عار الكذب إليه لا إلى المقذوف.

"فصل": وأما شرط وجوبه فالعقل فقط؛ فيعزر كل عاقل ارتكب جناية ليس لها حد مقدر, سواء كان حرا أو عبدا, ذكرا أو أنثى, مسلما أو كافرا, بالغا أو صبيا, بعد أن يكون عاقلا؛ لأن هؤلاء من أهل العقوبة, إلا الصبي العاقل فإنه

 

ج / 7 ص -64-         يعزر تأديبا لا عقوبة؛ لأنه من أهل التأديب, ألا ترى إلى ما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "مروا صبيانكم بالصلاة؛ إذا بلغوا سبعا واضربوهم عليها؛ إذا بلغوا عشرا" وذلك بطريق التأديب والتهذيب لا بطريق العقوبة؛ لأنها تستدعي الجناية, وفعل الصبي لا يوصف بكونه جناية, بخلاف المجنون والصبي الذي لا يعقل؛ لأنهما ليسا من أهل العقوبة ولا من أهل التأديب.

"فصل": وأما قدر التعزير فإنه إن وجب بجناية ليس من جنسها ما يوجب الحد, كما إذا قال لغيره: يا فاسق, يا خبيث, يا سارق, ونحو ذلك فالإمام فيه بالخيار إن شاء عزره بالضرب, وإن شاء بالحبس, وإن شاء بالكهر والاستخفاف بالكلام, وعلى هذا يحمل قول سيدنا عمر رضي الله عنه لعبادة بن الصامت: يا أحمق أن ذلك كان على سبيل التعزير منه إياه, لا على سبيل الشتم, إذ لا يظن ذلك من مثل سيدنا عمر رضي الله عنه لا بأحد فضلا عن الصحابي, ومن مشايخنا من رتب التعزير على مراتب الناس, فقال: التعازير على أربعة مراتب: تعزير الأشراف, وهم الدهاقون والقواد, وتعزير أشراف الأشراف وهم العلوية والفقهاء, وتعزير الأوساط: وهم السوقة, وتعزير الأخساء: وهم السفلة. فتعزير أشراف الأشراف بالإعلام المجرد, وهو أن يبعث القاضي أمينه إليه فيقول له: بلغني أنك تفعل كذا وكذا, وتعزير الأشراف بالإعلام والجر إلى باب القاضي والخطاب بالمواجهة, وتعزير الأوساط بالإعلام والجر والحبس, وتعزير السفلة بالإعلام والجر والضرب والحبس؛ لأن المقصود من التعزير هو الزجر, وأحوال الناس في الانزجار على هذه المراتب, وإن وجب بجناية في جنسها الحد لكنه لم يجب؛ لفقد شرطه كما إذا قال لصبي أو مجنون: يا زاني, أو لذمية أو أم ولد: يا زانية, فالتعزير فيه بالضرب ويبلغ أقصى غاياته, وذلك تسعة وثلاثون في قول أبي حنيفة عليه الرحمة, وعند أبي يوسف خمسة وسبعون وفي رواية النوادر عنه تسعة وسبعون, وقول محمد عليه الرحمة مضطرب ذكره الفقيه أبو الليث رحمه الله والحاصل أنه لا خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم أنه لا يبلغ التعزير الحد؛ لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من بلغ حدا في غير حد فهو من المعتدين" إلا أن أبا يوسف رحمه الله صرف الحد المذكور في الحديث على الأحرار. وزعم أنه الحد الكامل لا حد المماليك؛ لأن ذلك بعض الحد وليس بحد كامل, ومطلق الاسم ينصرف إلى الكامل في كل باب؛ ولأن الأحرار هم المقصودون في الخطاب, وغيرهم ملحق بهم فيه, ثم قال في رواية ينقص منها سوط, وهو الأقيس؛ لأن ترك التبليغ يحصل به, وفي رواية قال: ينتقص منها خمسة. وروي ذلك أثرا عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: يعزر خمسة وسبعين قال أبو يوسف رحمه الله فقلدته في نقصان الخمسة واعتبرت عنه أدنى الحدود. وروي عنه أنه قال: أخذت كل نوع من بابه, وأخذت التعزير في اللمس والقبلة من حد الزنا, والقذف بغير الزنا من حد القذف؛ ليكون إلحاق كل نوع ببابه, وأبو حنيفة صرفه إلى حد المماليك وهو أربعون؛ لأنه ذكر حدا منكرا فيتناول حدا ما, وأربعون حد كامل في المماليك فينصرف إليه؛ ولأن في الحمل على هذا الحد أخذا بالثقة والاحتياط؛ لأن اسم الحد يقع على النوعين, فلو حملناه على ما قاله أبو حنيفة يقع الأمن عن وعيد التبليغ؛ لأنه لا يبلغ, ولو حملناه على ما قاله أبو يوسف لا يقع الأمن عنه؛ لاحتمال أنه أراد به حد المماليك فيصير مبلغا غير الحد الحد؛ فيلحقه الوعيد فكان الاحتياط فيما قاله أبو حنيفة رحمه الله والله تعالى الموفق.

"فصل": وأما صفته فله صفات منها: أنه أشد الضرب, واختلف المشايخ في المراد بالشدة المذكورة قال بعضهم: أريد بها الشدة من حيث الجمع, وهي أن يجمع الضربات فيه على عضو واحد ولا يفرق بخلاف الحدود, وقال بعضهم: المراد منها الشدة في نفس الضرب وهو الإيلام, ثم إنما كان أشد الضرب لوجهين: أحدهما أنه شرع للزجر المحض ليس فيه معنى تكفير الذنب, بخلاف الحدود فإن معنى الزجر فيها يشوبه معنى التكفير للذنب, قال عليه الصلاة والسلام: "الحدود كفارات لأهلها" فإذا تمحض التعزير للزجر فلا شك أن الأشد أزجر فكان في تحصيل ما شرع له أبلغ. والثاني أنه قد نقص عن عدد الضربات فيه فلو لم يشدد في الضرب لا يحصل المقصود منه وهو الزجر, ومنها: أنه يحتمل العفو