بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

ج / 7 ص -65-         "كتاب السرقة"
يحتاج لمعرفة مسائل السرقة إلى معرفة ركن السرقة, وإلى معرفة شرائط الركن, وإلى معرفة ما يظهر به السرقة عند القاضي, وإلى معرفة حكم السرقة.
"فصل": أما ركن السرقة فهو الأخذ على سبيل الاستخفاء قال الله تبارك وتعالى {إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ} سمى سبحانه وتعالى أخذ المسموع على وجه الاستخفاء استراقا؛ ولهذا يسمى الأخذ على سبيل المجاهرة مغالبة أو نهبة, أو خلسة, أو غصبا, أو انتهابا واختلاسا لا سرقة وروي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه سئل عن المختلس, والمنتهب فقال: تلك الدعابة لا شيء فيها. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا قطع على نباش ولا منتهب ولا خائن", ثم الأخذ على وجه الاستخفاء نوعان: مباشرة, وتسبب "أما" المباشرة فهو أن يتولى السارق أخذ المتاع, وإخراجه من الحرز بنفسه حتى لو دخل الحرز, وأخذ متاعا فحمله, أو لم يحمله حتى ظهر عليه وهو في الحرز قبل أن يخرجه فلا قطع عليه؛ لأن الأخذ إثبات اليد, ولا يتم ذلك إلا بالإخراج من الحرز ولم يوجد. وإن رمى به خارج الحرز, ثم ظهر عليه قبل أن يخرج هو من الحرز فلا قطع عليه؛ لأن يده ليست بثابتة عليه عند الخروج من الحرز, فإن لم يظهر عليه حتى خرج, وأخذ ما كان رمى به خارج الحرز يقطع, وروي عن زفر رحمه الله: أنه لا يقطع. "وجه" قوله: أن الأخذ من الحرز لا يتم إلا بالإخراج منه, والرمي ليس بإخراج, والأخذ من الخارج ليس أخذا من الحرز فلا يكون سرقة. "ولنا" أن المال في حكم يده ما لم تثبت عليه يد غيره, فقد وجد منه الأخذ والإخراج من الحرز, ولو رمى به إلى صاحب له خارج الحرز فأخذه المرمي إليه فلا قطع على واحد منهما: "أما" الخارج؛ فلأنه لم يوجد منه الأخذ من الحرز. "وأما" الداخل؛ فلأنه لم يوجد منه الإخراج من الحرز لثبوت يد الخارج عليه, ولو ناول صاحبا له مناولة من وراء الجدار ولم يخرج هو: فلا قطع على واحد منهما عند أبي حنيفة رحمه الله وعندهما يقطع الداخل, ولا يقطع الخارج إذا كان الخارج لم يدخل يده إلى الحرز. "وجه" قولهما: أن الداخل لما ناول صاحبه فقد أقام يد صاحبه مقام يده, فكأنه خرج والمال في يده. "وجه" قوله على نحو ما ذكرنا في المسألة المتقدمة: أنه لا سبيل إلى إيجاب القطع على الخارج لانعدام فعل السرقة منه, وهو الأخذ من الحرز, ولا سبيل إلى إيجابه على الداخل؛ لانعدام ثبوت يده عليه حالة الخروج من الحرز؛ لثبوت يد صاحبه, بخلاف ما إذا رمى به إلى السكة, ثم خرج وأخذه؛ لأنه لما لم تثبت عليه يد غيره فهو في حكم يده, فكأنه خرج به حقيقة, وإن كان الخارج أدخل يده في الحرز فأخذه من يد الداخل: فلا قطع على واحد منهما في قول أبي حنيفة, وقال

"فصل": وأما بيان ما يظهر به فنقول: إنه يظهر به سائر حقوق العباد من الإقرار والبينة والنكول وعلم القاضي, ويقبل فيه شهادة النساء مع الرجال, والشهادة على الشهادة, وكتاب القاضي إلى القاضي, كما في سائر حقوق العباد, وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمهما الله لا يقبل فيه شهادة النساء, والصحيح هو الأول؛ لأنه حق العبد على الخلوص فيظهر بما يظهر به حقوق العباد, ولا يعمل فيه الرجوع كما لا يعمل في القصاص وغيره, بخلاف الحدود الخالصة لله تعالى, والله تعالى عز شأنه أعلم بالصواب, وإليه المرجع والمآب.

 

ج / 7 ص -66-         أبو يوسف: أقطعهما جميعا. "أما" عدم وجوب القطع على الداخل على أصل أبي حنيفة رحمه الله؛ فلعدم الإخراج من الحرز, يحققه أنه لو أخرج يده, وناول صاحبا له لم يقطع, فعند عدم الإخراج أولى, والوجوب عليه على أصل أبي يوسف رحمه الله لما ذكرنا في المسألة المتقدمة. "وأما" الكلام في الخارج فمبني على مسألة أخرى, وهي أن السارق إذا نقب منزلا, وأدخل يده فيه, وأخرج المتاع, ولم يدخل فيه هل يقطع؟ ذكر في الأصل, وفي الجامع الصغير: أنه لا يقطع, ولم يحك خلافا, وقال أبو يوسف في الإملاء: "أقطع ولا أبالي دخل الحرز, أو لم يدخل", وعلى هذا الخلاف إذا نقب ودخل, وجمع المتاع عند النقب, ثم خرج, وأدخل يده فرفع. "وجه" قوله أن الركن في السرقة هو الأخذ من الحرز, فأما الدخول في الحرز فليس بركن, ألا ترى أنه لو أدخل يده في الصندوق, أو في الجوالق, وأخرج المتاع يقطع, وإن لم يوجد الدخول, ولهما ما روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال: "إذا كان اللص ظريفا لم يقطع قيل: وكيف يكون ظريفا؟ قال: يدخل يده إلى الدار ويمكنه دخولها", ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر فيكون إجماعا؛ ولأن هتك الحرز على سبيل الكمال شرط؛ لأن به تتكامل الجناية, ولا يتكامل الهتك فيما يتصور فيه الدخول إلا بالدخول, ولم يوجد, بخلاف الأخذ من الصندوق, والجوالق؛ لأن هتكهما بالدخول متعذر, فكان الأخذ بإدخال اليد فيها هتكا متكاملا فيقطع ولو أخرج السارق المتاع من بعض بيوت الدار إلى الساحة: لا يقطع ما لم يخرج من الدار؛ لأن الدار مع اختلاف بيوتها حرز, واحد, ألا ترى أنه إذا قيل لصاحب الدار احفظ هذه الوديعة في هذا البيت فحفظ في بيت آخر فضاعت لم يضمن. وكذا إذا أذن لإنسان في دخول الدار فدخلها فسرق من البيت لا يقطع, وإن لم يأذن له بدخول البيت دل أن الدار مع اختلاف بيوتها حرز, واحد فلم يكن الإخراج إلى صحن الدار إخراجا من الحرز, بل هو نقل من بعض الحرز إلى البعض بمنزلة النقل من زاوية إلى زاوية أخرى, هذا إذا كانت الدار مع بيوتها لرجل واحد, فأما إذا كان كل منزل فيها لرجل فأخرج المتاع من البيت إلى الساحة يقطع؛ لأن كل بيت حرز على حدة, فكان الإخراج منه إخراجا من الحرز, وكذلك إذا كان في الدار حجر, ومقاصير فسرق من مقصور منها وخرج به إلى صحن الدار قطع؛ لأن كل مقصورة منها حرز على حدة, فكان الإخراج منها إخراجا من الحرز بمنزلة الدار المختلفة في محلة واحدة. ولو نقب رجلان, ودخل أحدهما فاستخرج المتاع فلما خرج به إلى السكة حملاه جميعا ينظر: إن عرف الداخل منهما بعينه قطع؛ لأنه هو السارق لوجود الأخذ والإخراج منه, ويعزر الخارج؛ لأنه أعانه على المعصية, وهذه معصية ليس فيها حد مقدر فيعزر, وإن لم يعرف الداخل منهما لم يقطع واحد منهما؛ لأن من عليه القطع مجهول, ويعزران: أما الخارج فلما ذكرنا. وأما الداخل فلارتكابه جناية لم يستوف فيها الحد لعذر فتعين التعزير, ولو نقب بيت رجل, ودخل عليه مكابرة ليلا حتى سرق منه متاعه يقطع؛ لأنه إن لم يوجد الأخذ على سبيل الاستخفاء من المالك فقد وجد من الناس؛ لأن الغوث لا يلحق بالليل؛ لكونه وقت نوم, وغفلة فتحققت السرقة والله تعالى أعلم.
وأما التسبب فهو أن يدخل جماعة من اللصوص منزل رجل, ويأخذوا متاعا ويحملوه على ظهر واحد, ويخرجوه من المنزل: فالقياس أن لا يقطع إلا الحامل خاصة, وهو قول زفر, وفي الاستحسان يقطعون جميعا. "وجه" القياس: أن ركن السرقة لا يتم إلا بالإخراج من الحرز, وذلك وجد منه مباشرة, فأما غيره فمعين له, والحد يجب على المباشر لا على المعين كحد الزنا والشرب. "وجه" الاستحسان: أن الإخراج حصل من الكل معنى؛ لأن الحامل لا يقدر على الإخراج إلا بإعانة الباقين وترصدهم للدفع, فكان الإخراج من الكل من حيث المعنى. ولهذا ألحق المعين بالمباشر في قطع الطريق, وفي الغنيمة كذا هذا؛ ولأن الحامل عامل لهم فكأنهم حملوا المتاع على حمار, وساقوه حتى أخرجوه من الحرز؛ ولأن السارق لا يسرق وحده عادة, بل مع أصحابه, ومن عادة السراق أنهم كلهم لا يشتغلون بالجمع والإخراج, بل يرصد البعض, فلو جعل ذلك مانعا من وجوب القطع لانسد باب القطع, وانفتح باب السرقة وهذا لا يجوز؛ ولهذا ألحقت الإعانة بالمباشرة في باب قطع الطريق كذا هذا والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما الشرائط فأنواع: بعضها يرجع إلى السارق, وبعضها يرجع إلى المسروق, وبعضها يرجع إلى المسروق منه

 

ج / 7 ص -67-         وبعضها يرجع إلى المسروق فيه, وهو المكان أما ما يرجع إلى السارق: فأهلية وجوب القطع وهي: العقل, والبلوغ فلا يقطع الصبي, والمجنون؛ لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "رفع القلم عن ثلاثة: عن الصبي حتى يحتلم, وعن المجنون حتى يفيق, وعن النائم حتى يستيقظ" أخبر عليه الصلاة والسلام أن القلم مرفوع عنهما. وفي إيجاب القطع إجراء القلم عليهما, وهذا خلاف النص؛ ولأن القطع عقوبة فيستدعي جناية, وفعلهما لا يوصف بالجنايات؛ ولهذا لم يجب عليهما سائر الحدود كذا هذا, ويضمنان السرقة؛ لأن الجناية ليست بشرط لوجوب ضمان المال, وإن كان السارق يجن مدة, ويفيق أخرى فإن سرق في حال جنونه لم يقطع, وإن سرق في حال الإفاقة؛ يقطع ولو سرق جماعة فيهم صبي, أو مجنون يدرأ عنهم القطع في قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله وقال أبو يوسف رحمه الله: "إن كان الصبي, والمجنون هو الذي تولى إخراج المتاع درئ عنهم جميعا, وإن كان وليه غيرهما؛ قطعوا جميعا إلا الصبي والمجنون". "وجه" قوله: أن الإخراج من الحرز هو الأصل في السرقة, والإعانة كالتابع فإذا وليه الصبي, أو المجنون؛ فقد أتى بالأصل, فإذا لم يجب القطع بالأصل كيف يجب بالتابع؟ فإذا وليه بالغ عاقل؛ فقد حصل الأصل منه, فسقوطه عن التبع لا يوجب سقوطه عن الأصل. "وجه" قول أبي حنيفة وزفر رحمهما الله أن السرقة واحدة, وقد حصلت ممن يجب عليه القطع, وممن لا يجب عليه القطع فلا يجب القطع على أحد كالعامد مع الخاطئ إذا اشتركا في القطع, أو في القتل, وقوله الإخراج أصل في السرقة مسلم, لكنه حصل من الكل معنى؛ لاتحاد الكل في معنى التعاون على ما بينا فيما تقدم, فكان إخراج غير الصبي, والمجنون كإخراج الصبي والمجنون ضرورة الاتحاد. على هذا الخلاف إذا كان فيهم ذو رحم محرم؛ لأنه المسروق منه أنه لا قطع على أحد عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف "يدرأ عن ذي الرحم المحرم, ويجب على الأجنبي", ولا خلاف في أنه إذا كان فيهم شريك المسروق منه أنه لا قطع على أحد, فأما الذكورة فليست بشرط لثبوت الأهلية فتقطع الأنثى؛ لقوله تعالى عز شأنه: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}, وكذلك الحرية فيقطع العبد, والأمة, والمدبر, والمكاتب, وأم الولد؛ لعموم الآية الشريفة, ويستوي الآبق وغيره؛ لما قلنا, وذكر في الموطأ أن عبدا لعبد الله ابن سيدنا عمر رضي الله عنهما سرق وهو آبق فبعث به عبد الله إلى سعيد بن العاص رضي الله عنه ليقطع يده فأبى سعيد أن يقطع يده وقال: "لا نقطع يد الآبق إذا سرق" فقال عبد الله: في أيما كتاب الله عز شأنه وجدت هذا: أن العبد الآبق إذا سرق لا تقطع يده, فأمر به عبد الله رضي الله عنه فقطعت يده؛ ولأن الذكورة, والحرية ليست من شرائط سائر الحدود, فكذا هذا الحد, وكذا الإسلام ليس بشرط فيقطع المسلم, والكافر لعموم آية السرقة.

"فصل": وأما ما يرجع إلى المسروق فأنواع: "منها" أن يكون مالا مطلقا لا قصور في ماليته, ولا شبهة, وهو أن يكون مما يتموله الناس, ويعدونه مالا؛ لأن ذلك يشعر بعزته, وخطره عندهم, وما لا يتمولونه فهو تافه حقير, قد روي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت: "لم تكن اليد تقطع على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشيء التافه", وهذا منها بيان شرع متقرر؛ ولأن التفاهة تخل في الحرز؛ لأن التافه لا يحرز عادة, أو لا يحرز إحراز الخطر, والحرز المطلق شرط على ما نذكر. وكذا تخل في الركن, وهو الأخذ على سبيل الاستخفاء؛ لأن أخذ التافه مما لا يستخفي منه فيتمكن الخلل والشبهة في الركن, والشبهة في باب الحدود ملحقة بالحقيقة ويخرج على هذا مسائل: إذا سرق صبيا حرا لا يقطع؛ لأن الحر ليس بمال, ولو سرق صبيا عبدا لا يتكلم, ولا يعقل يقطع في قول أبي حنيفة. وروي عن أبي يوسف رحمه الله: لا يقطع "ووجهه": أن العبد ليس بمال محض, بل هو مال من وجه, آدمي من وجه, فكان محل السرقة من وجه دون وجه؛ فلا تثبت المحلية بالشك فلا يقطع كالصبي العاقل. "ولنا" أنه مال من كل وجه؛ لوجود معنى المالية فيه على الكمال, ولا يد له على نفسه فيتحقق ركن السرقة كالبهيمة وكونه آدميا لا ينفي كونه مالا, فهو آدمي من كل وجه, ومال من كل وجه؛ لعدم التنافي فيتعلق القطع بسرقته من حيث إنه مال, لا من حيث إنه آدمي, بخلاف العاقل؛ لأنه وإن كان مالا من كل وجه لكنه في يد نفسه, فلا يتصور ثبوت يد غيره عليه؛ للتنافي فلا يتحقق فيه ركن السرقة: وهو الأخذ, ولو سرق ميتة, أو جلد ميتة لم يقطع؛ لانعدام المال

 

ج / 7 ص -68-         ولا يقطع في التبن, والحشيش, والقصب, والحطب؛ لأن الناس لا يتمولون هذه الأشياء. ولا يظنون بها؛ لعدم عزتها, وقلة خطرها عندهم, بل يعدون الظنة بها من باب الخساسة, فكانت تافهة, ولا قطع في التراب, والطين, والجص, واللبن, والنورة, والآجر, والفخار, والزجاج؛ لتفاهتها فرق بين التراب, وبين الخشب, حيث سوى في التراب بين المعمول منه وغير المعمول, وفرق في الخشب؛ لأن الصنعة في الخشب أخرجته عن حد التفاهة, والصنعة في التراب لم تخرجه عن كونه تافها, يعرف ذلك بالرجوع إلى عرف الناس وعاداتهم, ومن أصحابنا من فصل في الجواب في الزجاج بين المعمول, وغير المعمول, كما في الخشب, ومنهم من سوى بينهما, وهو الصحيح؛ لأن الزجاج بالعمل لم يخرج عن حد التفاهة؛ لأنه يتسارع إليه الكسر, بخلاف الخشب. ولا يقطع في الخشب إلا إذا كان معمولا بأن صنع منه أبوابا, أو آنية, ونحو ذلك ما خلا الساج, والقنا, والأبنوس, والصندل؛ لأن غير المصنوع من الخشب لا يتمول عادة, فكان تافها, وبالصنعة يخرج عن التفاهة فيتمول. وأما الساج, والأبنوس, والصندل فأموال لها عزة وخطر عند الناس فكانت أموالا مطلقة. "وأما" العاج فقد ذكر محمد: أنه لا يقطع إلا في المعمول منه, وقيل هذا الجواب في العاج الذي هو من عظم الجمل, فلا يقطع إلا في المعمول منه؛ لأنه لا يتمول لتفاهته, ويقطع في المعمول؛ لخروجه عن حد التفاهة بالصنعة كالخشب المعمول فأما ما هو من عظم الفيل فلا يقطع فيه أصلا سواء كان معمولا, أو غير معمول؛ لأن الفقهاء اختلفوا في ماليته. حتى حرم بعضهم بيعه, والانتفاع به, فأوجب ذلك قصورا في المالية, ولا قطع في قصب النشاب, فإن كان اتخذ منه نشابا قطع؛ لما قلنا في الخشب, ولا قطع في القرون معمولة كانت, أو غير معمولة, وقال أبو يوسف: "إن كانت معمولة وهي تساوي عشرة دراهم قطع" قيل إن اختلاف الجواب لاختلاف الموضوع, فموضوع المسألة على قول أبي حنيفة رحمه الله: في قرون الميتة؛ لأنها ليست بمال مطلق لاختلاف الفقهاء في ماليتها, وجواب أبي يوسف رحمه الله: في قرون المذكى فلم يوجب القطع في غير المعمول منها؛ لأنها من أجزاء الحيوان, وأوجب في المعمول كما في الخشب المعمول, وعن محمد في جلود السباع المدبوغة: أنه لا قطع فيها فإن جعلت مصلاة, أو بساطا قطع؛ لأن غير المعمول منها من أجزاء الصيد ولا قطع في الصيد فكذا في أجزائه, وبالصنعة صارت شيئا آخر فأشبه الخشب المصنوع. وهذا يدل على أن محمدا لم يعتد, بخلاف من يقول من الفقهاء: إن جلود السباع لا تطهر بالزكاة, ولا بالدباغ, ولا قطع في البواري؛ لأنها تافهة لتفاهة أصلها وهو القصب, ولا قطع في سرقة كلب, ولا فهد, ولا في سرقة الملاهي: من الطبل, والدف, والمزمار ونحوها؛ لأن هذه الأشياء مما لا يتمول, أو في ماليتها قصور, ألا ترى أنه لا ضمان على كاسر الملاهي عند أبي يوسف, ومحمد, ولا على قاتل الكلب, والفهد عند بعض الفقهاء. ولو سرق مصحفا, أو صحيفة فيها حديث, أو عربية, أو شعر فلا قطع وقال أبو يوسف: يقطع إذا كان يساوي عشرة دراهم؛ لأن الناس يدخرونها ويعدونها من نفائس الأموال. "ولنا" أن المصحف الكريم يدخر لا للتمول, بل للقراءة, والوقوف على ما يتعلق به مصلحة الدين والدنيا والعمل به, وكذلك صحيفة الحديث, وصحيفة العربية, والشعر يقصد بها معرفة الأمثال والحكم لا التمول. "وأما" دفاتر الحساب ففيها القطع إذا بلغت قيمتها نصابا؛ لأن ما فيها لا يصلح مقصودا بالأخذ, فكان المقصود هو قدر البياض من الكاغد, وكذلك الدفاتر البيض إذا بلغت نصابا؛ لما قلنا, على هذا يخرج ما قال أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله: "إن كل ما يوجد جنسه تافها مباحا في دار الإسلام فلا قطع فيه؛ لأن كل ما كان كذلك فلا عز له, ولا خطر فلا يتمول الناس, فكان تافها", والاعتماد على معنى التفاهة دون الإباحة؛ لما نذكر إن شاء الله تعالى, وعن أبي حنيفة أنه لا قطع في عفص, ولا إهليلج, ولا أشنان ولا فحم؛ لأن هذه الأشياء مباحة الجنس في دار الإسلام. وهي تافهة, وروي عن أبي يوسف أنه لا يقطع في العفص, والإهليلج, والأدوية اليابسة, ولا قطع في طير ولا صيد وحشيا كان, أو غيره؛ لأن الطير لا يتمول عادة, قد روي عن سيدنا عثمان, وسيدنا علي رضي الله عنهما أنهما قالا: "لا قطع في الطير" ولم ينقل عن غيرهما خلاف ذلك, فيكون إجماعا, وكذلك ما علم من الجوارح فصار صيودا فلا قطع على سراقه؛ لأنه وإن علم فلا يعد مالا وعلى هذا يخرج

 

ج / 7 ص -69-         النباش أنه لا يقطع فيما أخذ من القبور في قولهما وقال أبو يوسف: يقطع. "وجه" قوله أنه أخذ مالا من حرز مثله فيقطع, كما لو أخذ من البيت, ولهما أن الكفن ليس بمال؛ لأنه لا يتمول بحال؛ لأن الطباع السليمة تنفر عنه أشد النفار, فكان تافها, ولئن كان مالا ففي ماليته قصور؛ لأنه لا ينتفع به مثل ما ينتفع بلباس الحي, والقصور فوق الشبهة, ثم الشبهة تنفي وجوب الحد, فالقصور أولى, روى الزهري أنه قال: أخذ نباش في زمن مروان بالمدينة فأجمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم متوافرون أنه لا يقطع. وعلى هذا يخرج سرقة ما لا يحتمل الادخار, ولا يبقى من سنة إلى سنة, بل يتسارع إليه الفساد أنه لا قطع فيه؛ لأن ما لا يحتمل الادخار لا يعد مالا, فلا قطع في سرقة الطعام الرطب, والبقول, والفواكه الرطبة في قولهما, وعند أبي يوسف يقطع. "وجه" قوله أنه مال منتفع به حقيقة, مباح الانتفاع به شرعا على الإطلاق, فكان مالا, فيقطع كما في سائر الأموال, ولهما أن هذه الأشياء مما لا يتمول عادة, وإن كانت صالحة للانتفاع بها في الحال؛ لأنها لا تحتمل الادخار, والإمساك إلى زمان حدوث الحوائج في المستقبل؛ فقل خطرها عند الناس فكانت تافهة. ولو سرق تمرا من نخل, أو شجر آخر معلقا فيه فلا قطع عليه, وإن كان عليه حائط استوثقوا منه وأحرزوه, أو هناك حائط؛ لأن ما على رأس النخل لا يعد مالا؛ ولأنه ما دام على رأس الشجر لا يستحكم جفافه فيتسارع إليه الفساد, قد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع في ثمر ولا كثر" قال محمد: الثمر ما كان في الشجر, والكثر الجمار فإن كان قد جذ الثمر, وجعله في الجرين, ثم سرق فإن كان قد استحكم جفافه قطع؛ لأنه صار مالا مطلقا قابلا للادخار, وإليه أشار رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: "لا قطع في ثمر, ولا كثر حتى يؤويه الجرين" فإذا آواه فبلغ ثمن المجن ففيه القطع؛ لأنه لا يؤويه الجرين ما لم يستحكم جفافه عادة. فإذا استحكم جفافه لا يتسارع إليه الفساد, فكان مالا مطلقا, وكذلك الحنطة إذا كانت في سنبلها فهي بمنزلة الثمر المعلق في الشجر؛ لأن الحنطة ما دامت في السنبل لا تعد مالا, ولا يستحكم جفافها أيضا. "وأما" الفاكهة اليابسة التي تبقى من سنة إلى سنة فالصحيح من الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله: أنه يقطع فيما يتمول الناس إياها؛ لقبولها الادخار فانعدم معنى التفاهة المانعة من وجوب القطع. وروي عنه أنه سوى بين رطب الفاكهة ويابسها, وليست بصحيحة. ولو سرق من الحائط نخلة بأصلها لا يقطع؛ لأن أصل النخلة مما لا يتمول, فكان تافها, وروينا عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا قطع في ثمر ولا كثر" وقيل في تفسير ذلك: إنه النخل الصغار, ويقطع في الحناء, والوسمة؛ لأنه لا يتسارع إليه الفساد فلم يختل معنى المالية, ولا قطع في اللحم الطري, والصفيق؛ لأنه يتسارع إليه الفساد, وكذلك لا قطع في السمك طريا كان, أو مالحا؛ لأن الناس لا يعدونه مالا لتفاهته, ولتسارع الفساد إلى الطري منه, ولما أنه يوجد جنسه مباحا في دار الإسلام, ولا قطع في اللبن؛ لأنه يتسارع إليه الفساد, فكان تافها, ويقطع في الخل, والدبس لعدم التفاهة. ألا ترى أنه لا يتسارع إليهما الفساد, ولا قطع في: عصير العنب, ونقيع الزبيب, ونبيذ التمر؛ لأنه يتسارع إليه الفساد, فكان تافها كاللبن, ولا قطع في الطلاء وهو المثلث؛ لأنه مختلف في إباحته, وفي كونه مالا, فكان قاصرا في معنى المالية, وكذلك المطبوخ أدنى طبخة من نقيع الزبيب, ونبيذ التمر لاختلاف الفقهاء في إباحة شربه. وأما المطبوخ أدنى طبخة من عصير العنب فلا شك أنه لا قطع فيه؛ لأنه حرام فلم يكن مالا, ويقطع في الذهب, والفضة؛ لأنهما من أعز الأموال, ولا تفاهة فيهما بوجه, وكذلك الجواهر, واللآلئ؛ لما قلنا. وبهذا تبين أن التعويل في هذا الباب في منع وجوب القطع على معنى التفاهة, وعدم المالية لا على إباحة الجنس؛ لأن ذلك موجود في الذهب, والفضة, والجواهر, واللآلئ, وغيرها, ويقطع في الحبوب كلها, وفي الأدهان, والطيب كالعود, والمسك, وما أشبه ذلك لانعدام معنى التفاهة, ويقطع في الكتان, والصوف, والخز, ونحو ذلك, ويقطع في جميع الأواني من الصفر, والحديد, والنحاس, والرصاص؛ لما قلنا, وكذلك لو سرق النحاس نفسه أو الحديد نفسه, أو الرصاص لعزة هذه الأشياء, وخطرها في أنفسها: كالذهب, والفضة ومنها أن يكون متقوما مطلقا فلا يقطع في سرقة الخمر من مسلم, مسلما كان السارق, أو ذميا؛ لأنه لا قيمة للخمر في حق المسلم. وكذا الذمي إذا سرق من ذمي خمرا, أو خنزيرا لا يقطع

 

ج / 7 ص -70-         لأنه وإن كان متقوما عندهم فليس بمتقوم عندنا, فلم يكن متقوما على الإطلاق, ولا يقطع في المباح الذي ليس بمملوك, وإن كان مالا لانعدام تقومه, والله تعالى أعلم ومنها أن يكون مملوكا في نفسه فلا يقطع في سائر المباحات التي لا يملكها أحد, وإن كانت من نفائس الأموال: من الذهب, والفضة, والجواهر المستخرجة من معادنها لعدم المالك, وعلى هذا أيضا يخرج النباش على أصل أبي حنيفة, ومحمد أنه لا يقطع؛ لأن الكفن ليس بمملوك؛ لأنه لا يخلو إما أن يكون على ملك الميت, وإما أن يكون على ملك الورثة, لا سبيل إلى الأول؛ لأن الميت ليس من أهل الملك, ولا, وجه للثاني؛ لأن ملك الوارث مؤخر عن حاجة الميت إلى الكفن كما هو مؤخر عن الدين, والوصية فلم يكن مملوكا أصلا. ومنها أن لا يكون للسارق فيه ملك, ولا تأويل الملك أو شبهته؛ لأن المملوك, أو ما فيه تأويل الملك, أو الشبهة لا يحتاج فيه إلى مسارقة الأعين فلا يتحقق ركن السرقة, وهو الأخذ على سبيل الاستخفاء, والاستسرار على الإطلاق, ولأن القطع عقوبة السرقة قال الله في آية السرقة: {جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ} فيستدعي كون الفعل جناية محضة, وأخذ المملوك للسارق لا يقع جناية أصلا فالأخذ بتأويل الملك, أو الشبهة لا يتمحض جناية فلا يوجب القطع إذا عرف هذا فنقول: لا قطع على من سرق ما أعاره من إنسان, أو آجره منه؛ لأن ملك الرقبة قائم, ولا على من سرق رهنه من بيت المرتهن؛ لأن ملك العين له. وإنما الثابت للمرتهن حق الحبس لا غير ولو كان الرهن في يد العدل فسرقه المرتهن, أو الراهن فلا قطع على واحد منهما, أما الراهن فلما ذكرنا أنه ملكه فلا يجب القطع بأخذه, وإن منع من الأخذ كما لا يجب الحد عليه بوطئه الجارية المرهونة, وإن منع من الوطء "وأما" المرتهن فلأن يد العدل يده من وجه؛ لأن منفعة يده عائدة إليه؛ لأنه يمسكه لحقه فأشبه يد المودع, ولا على من سرق مالا مشتركا بينه, وبين المسروق منه؛ لأن المسروق ملكهما على الشيوع, فكان بعض المأخوذ ملكه فلا يجب القطع بأخذه, فلا يجب بأخذ الباقي؛ لأن السرقة سرقة واحدة, ولا على من سرق من بيت المال الخمس؛ لأن له فيه ملكا, وحقا. ولو سرق من عبده المأذون فإن لم يكن عليه دين فلا قطع؛ لأن كسبه خالص ملك المولى, وإن كان عليه دين يحيط به, وبما في يده لا يقطع أيضا "أما" على أصلهما فظاهر؛ لأن كسبه ملك المولى, وعلى أصل أبي حنيفة رحمه الله: إن لم يكن ملكه فله فيه ضرب اختصاص يشبه الملك ألا ترى أنه يملك استخلاصه لنفسه بقضاء دينه من مال آخر, فكان في معنى الملك؛ ولهذا لو كان الكسب جارية لم يجز له أن يتزوجها فيورث شبهة, أو نقول إذا لم يملكه المولى, ولا المأذون يملكه أيضا؛ لأنه عبد مملوك لا يقدر على شيء, والغرماء لا يملكون أيضا فهذا مال مملوك لا مالك, له معين فلا يجب القطع بسرقته, كمال بيت المال, وكمال الغنيمة. ولو سرق من مكاتبه لم يقطع؛ لأن كسب مكاتبه ملكه من, وجه, أو فيه شبهة الملك له ألا ترى أنه لو كان جارية لا يحل له أن يتزوجها, والملك من وجه, أو شبهة الملك يمنع وجوب القطع مع ما أن هذا ملك موقوف على المكاتب, وعلى مولاه في الحقيقة؛ لأنه إن أدى تبين أنه كان ملك المولى فتبين أنه أخذ مال نفسه, وإن عجز فرد في الرق تبين أنه كان ملك المكاتب, فكان الملك موقوفا للحال فيوجب شبهة, فلا يجب القطع كأحد المتبايعين إذا سرق ما شرط فيه الخيار, ولا قطع على من سرق من, ولده؛ لأن له في مال, ولده تأويل الملك, أو شبهة الملك لقوله عليه الصلاة والسلام: "أنت, ومالك لأبيك" فظاهر الإضافة إليه فاللام التمليك يقتضي ثبوت الملك له من كل وجه, إلا أنه لم يثبت لدليل, ولا دليل في الملك من وجه فيثبت, أو يثبت لشبهة الملك, وكل ذلك يمنع وجوب القطع؛ لأنه يورث شبهة في وجوبه. "وأما" السرقة من سائر ذي الرحم المحرم فلا توجب القطع أيضا لكن لفقد شرط آخر نذكره في موضعه إن شاء الله تعالى ولو دخل لص دار رجل فأخذ ثوبا فشقه في الدار نصفين, ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم مشقوقا يقطع في قولهما, وقال أبو يوسف رحمه الله: "لا يقطع" ولو أخذ شاة فذبحها, ثم أخرجها مذبوحة لا يقطع بالإجماع. "وجه" قوله: أن السارق وجد منه سبب ثبوت الملك قبل الإخراج, وهو الشق؛ لأن ذلك سبب لوجوب الضمان, ووجوب الضمان يوجب ملك المضمون من وقت وجود السبب على أصل أصحابنا, وذلك يمنع وجوب القطع؛ ولهذا لم يقطع إذا كان المسروق شاة فذبحها, ثم أخرجها كذا هذا, ولهما أن السرقة تمت في ملك

 

ج / 7 ص -71-         المسروق منه فيوجب القطع, وإنما قلنا ذلك؛ لأن الثوب المشقوق لا يزول عن ملكه مادام مختارا للعين, وإنما يزول عند اختيار الضمان, فقبل الاختيار كان الثوب على ملكه فصار سارقا ثوبين قيمتهما عشرة دراهم فيقطع, وهكذا نقول في الشاة: إن السرقة تمت في ملك المسروق منه إلا أنها تمت في اللحم, ولا قطع في اللحم. وقوله: وجب الضمان عليه بالشق, قلنا قبل الاختيار: ممنوع فإذا اختار تضمين السارق, وسلم الثوب إليه لا يقطع؛ لأنه عند اختيار الضمان ملكه من حين وجود الشق؛ فتبين أنه أخرج ملك نفسه عن الحرز فلا قطع عليه, وحكي عن الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله أنه قال: موضوع المسألة أنه شق الثوب عرضا, فأما لو شقه طولا فلا قطع؛ لأنه بالشق طولا خرقه خرقا متفاحشا فيملكه بالضمان, وذكر ابن سماعة أن السارق إذا خرق الثوب تخريقا مستهلكا, وقيمته بعد تخريقه عشرة: أنه لا قطع عليه في قول أبي حنيفة, ومحمد رحمهما الله وهذا يؤيد قول الفقيه أبي جعفر الهندواني رحمه الله؛ لأن التخريق إذا وقع استهلاكا أوجب استقرار الضمان, وذلك يوجب ملك المضمون. وإذا لم يقع استهلاكا؛ كان وجوب الضمان فيه موقوفا على اختيار المالك, فلا يجب قبل الاختيار, فلا يملك المضمون, والله تعالى أعلم وعلى هذا يخرج ما إذا سرق عشرة دراهم من غريم له عليه عشرة أنه لا يقطع؛ لأنه ملك المأخوذ بنفس الأخذ فصار قصاصا بحقه, فلم يبق في حق هذا المال سارقا, فلا يقطع, ولو كان المسروق من خلاف جنس حقه يقطع؛ لأنه لا يملكه بنفس الأخذ, بل بالاستبدال والبيع, فكان سارقا ملك غيره فيقطع كالأجنبي إلا إذا قال: أخذته لأجل حقي على ما نذكر, وههنا جنس من المسائل يمكن تخريجها إلى أصل آخر هو أولى بالتخريج عليه, وسنذكره إن شاء الله تعالى بعد. منها أن يكون معصوما ليس للسارق فيه حق الأخذ, ولا تأويل الأخذ, ولا شبهة التناول؛ لأن القطع عقوبة محضة فيستدعي جناية محضة, وأخذ غير المعصوم لا يكون جناية أصلا, وما فيه تأويل التناول, أو شبهة التناول لا يكون جناية محضة, فلا تناسبه العقوبة المحضة, ولأن ما ليس بمعصوم يؤخذ مجاهرة لا مخافتة فيتمكن الخلل في ركن السرقة, وإذا عرف هذا فنقول: لا قطع في سائر المباحات التي لا يملكها أحد, ولا في المباح المملوك, وهو مال الحربي في دار الحرب. "وأما" مال الحربي المستأمن في دار الإسلام فلا قطع فيه استحسانا, والقياس أن يقطع. "وجه" القياس أنه سرق مالا معصوما؛ لأن الحربي استفاد العصمة بالأمان بمنزلة الذمي؛ ولهذا كان مضمونا بالإتلاف كمال الذمي. "وجه" الاستحسان: أن هذا مال فيه شبهة الإباحة؛ لأن الحربي المستأمن من أهل دار الحرب, وإنما دخل دار الإسلام ليقضي بعض حوائجه, ثم يعود عن قريب, فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة في ماله؛ ولهذا أورث شبهة الإباحة في دمه حتى لا يقتل به المؤمن قصاصا؛ ولأنه كان مباحا, وإنما تثبت العصمة بعارض أمان هو على شرف الزوال, فعند الزوال يظهر أن العصمة لم تكن على الأصل المعهود, إن كل عارض على أصل, إذا زال؛ يلحق بالعدم من الأصل كأنه لم يكن فيجعل كأن العصمة لم تكن ثابتة, بخلاف الذمي؛ لأنه من أهل دار الإسلام, قد استفاد العصمة بأمان مؤبد, فكان معصوم الدم, والمال عصمة مطلقة ليس فيها شبهة الإباحة. وبخلاف ضمان المال؛ لأن الشبهة لا تمنع وجوب ضمان المال لأنه حق العبد, وحقوق العباد لا تسقط بالشبهات, وكذا لا قطع على الحربي المستأمن في سرقة مال المسلم, أو الذمي عند أبي حنيفة, ومحمد رحمهما الله لأنه أخذه على اعتقاده الإباحة, ولذا لم يلتزم أحكام الإسلام, وعند أبي يوسف يقطع, والخلاف فيه كالخلاف في حد الزنا, ولا يقطع العادل في سرقة مال الباغي؛ لأن ماله ليس بمعصوم في حقه كنفسه, ولا الباغي في سرقة مال العادل؛ لأنه أخذه عن تأويل, وتأويله. وإن كان فاسدا, لكن التأويل الفاسد عند انضمام المنعة إليه ملحق بالتأويل الصحيح في منع وجوب القطع؛ ولهذا ألحق به في حق منع وجوب القصاص والحد والله تعالى أعلم وعلى هذا تخرج السرقة من الغريم, وجملة الكلام فيه: أن الأمر لا يخلو إما أن كان سرق منه من جنس حقه, وإما إن كان سرق منه خلاف جنس حقه, فإن سرق جنس حقه بأن سرق منه عشرة دراهم, وله عليه عشرة فإن كان دينه عليه حالا لا يقطع؛ لأن الأخذ مباح له لأنه ظفر بجنس حقه, ومن له الحق إذا ظفر بجنس حقه؛ يباح له أخذه, وإذا أخذه يصير مستوفيا حقه. وكذلك إذا سرق منه أكثر من مقدار حقه؛ لأن

 

ج / 7 ص -72-         بعض المأخوذ حقه على الشيوع, ولا قطع فيه, فكذا في الباقي كما إذا سرق مالا مشتركا وإن كان دينه مؤجلا فالقياس أن يقطع, وفي الاستحسان لا يقطع. "وجه" القياس أن الدين إذا كان مؤجلا فليس له حق الأخذ قبل حلول الأجل ألا ترى أن للغريم أن يسترده منه فصار كما لو سرقه أجنبي "وجه" الاستحسان: أن حق الأخذ إن لم يثبت قبل حل الأجل؛ فسبب ثبوت حق الأخذ قائم, وهو الدين؛ لأن تأثير التأجيل في تأخير المطالبة لا في سقوط الدين, فقيام سبب ثبوته يورث الشبهة. وإن سرق خلاف جنس حقه بأن كان عليه دراهم فسرق منه دنانير, أو عروضا قطع, هكذا أطلق الكرخي رحمه الله وذكر في كتاب السرقة أنه إذا سرق العروض, ثم قال أخذت لأجل حقي لا يقطع فيحمل مطلق قول الكرخي على المطلق, وهو ما إذا سرق, ولم يقل: أخذت لأجل حقي؛ لأنه إذا لم يقل فقد أخذ مالا ليس له حق أخذه ألا ترى أنه لا يصير قصاصا إلا بالاستبدال, والتراضي, ولم يتأول الأخذ أيضا, فكان أخذه بغير حق, ولا شبهة حق, وهذا يدل على أنه لا يعيد, بخلاف قول من يقول من الفقهاء: إن لصاحب الحق إذا ظفر, بخلاف جنس حقه أن يأخذه؛ لأنه قول لم يقل به أحد من السلف فلا يعتبر خلافا مؤذنا للشبهة. وإذا قال أخذت لأجل حقي فقد أخذه متأولا؛ لأنه اعتبر المعنى, وهي المالية لا الصورة, والأموال كلها في معنى المالية متجانسة, فكان أخذا عن تأويل فلا يقطع ولو أخذ صنفا من الدراهم أجود من حقه, أو أردأ لم يقطع؛ لأن المأخوذ من جنس حقه من حيث الأصل, وإنما خالفه من حيث الوصف ألا ترى أنه لو رضي به يصير مستوفيا حقه, ولا يكون مستبدلا حتى يجوز في الصرف والسلم, مع أن الاستبدال ببدل الصرف, والسلم لا يجوز, وإذا كان المأخوذ من جنس حقه من حيث الأصل تثبت شبهة حق الأخذ فيلحق بالحقيقة في باب الحد كما في الدين المؤجل. ولو سرق حليا من فضة, وعليه دراهم, أو حليا من ذهب, وعليه دنانير يقطع؛ لأن هذا لا يصير قصاصا من حقه إلا بالمراضاة, ويكون ذلك بيعا, واستبدالا فأشبه العروض, وإن كان السارق قد استهلك العروض, أو الحلي, ووجبت عليه قيمته, وهو مثل الذي عليه من العين فإن هذا يقطع أيضا؛ لأن المقاصد إنما تقع بعد الاستهلاك فلا يوجب سوى القطع ولو سرق مكاتب, أو عبد من غريم مولاه يقطع؛ لأنه ليس له حق قبض دين المولى من غير أمره؛ فصار كالأجنبي حتى لو كان المولى وكله بقبض الدين لا يقطع لثبوت حق القبض له بالوكالة, فصار كصاحب الدين. ولو سرق من غريم مكاتبه, أو من غريم عبده المأذون فإن لم يكن على العبد دين لم يقطع؛ لأن ذلك ملك مولاه, فكان له حق أخذه, وإن كان عليه دين قطع؛ لأنه ليس له حق القبض؛ فصار كالأجنبي ولو سرق من غريم أبيه, أو ولده يقطع؛ لأنه لا حق له فيه, ولا في قبضه, إلا إذا كان غريم ولده الصغير فلا يقطع؛ لأن حق القبض له كما في دين نفسه, والله تعالى أعلم. وعلى هذا أيضا يخرج سرقة المصحف على أصل أبي حنيفة أنه لا قطع فيه؛ لأن له تأويل الأخذ إذ الناس لا يضنون ببذل المصاحف الشريفة لقراءة القرآن العظيم عادة فأخذه الآخذ متأولا, وكذلك سرقة البربط, والطبل, والمزمار, وجميع آلات الملاهي؛ لأن آخذها يتأول أنه يأخذها لمنع المالك عن المعصية, ونهيه عن المنكر, وذلك مأمور به شرعا, وكذلك سرقة شطرنج ذهب, أو فضة؛ لما قلنا, وكذلك سرقة صليب, أو صنم من فضة من حرز؛ لأنه يتأول أنه أخذه للكسر. "وأما" الدراهم التي عليها التماثيل فيقطع فيها؛ لأنها لا تعبد عادة فلا تأويل له في الأخذ للمنع من العبادة فيقطع, وعلى هذا يخرج ما إذا قطع سارق في مال, ثم سرقه منه سارق آخر أنه لا يقطع؛ لأن المسروق ليس بمعصوم في حق المسروق منه, ولا متقوم في حقه لسقوط عصمته, وتقومه في حقه بالقطع, ولأن كون يد المسروق منه يدا صحيحة؛ شرط وجوب القطع, ويد السارق ليست يدا صحيحة؛ لما نذكره إن شاء الله تعالى ولو سرق مالا فقطع فيه فرده إلى المالك, ثم عاد فسرقه منه ثانيا فجملة الكلام فيه أن المردود لا يخلو: إما أن كان على حاله لم يتغير, وإما إن أحدث المالك فيه ما يوجب تغيره, فإن كان على حاله لم يقطع استحسانا, والقياس أن يقطع, وهو رواية الحسن عن أبي يوسف, وبه أخذ الشافعي رحمهم الله. "أما" الكلام مع الشافعي رحمه الله فمبني على أن العصمة الثابتة للمسروق حقا للعبد قد سقطت عند السرقة الأولى لضرورة وجوب القطع على أصلنا, وعلى أصله لم تسقط, بل بقيت على ما كانت, وسنذكر

 

ج / 7 ص -73-         تقرير هذا الأصل في موضعه إن شاء الله تعالى "وأما" الكلام مع أبي يوسف "وجه" ما روى أن المحل وإن سقطت قيمته الثابتة حقا للمالكية في السرقة الأولى فقد عادت بالرد إلى المالك, ألا ترى أنها عادت في حق الضمان, حتى لو أتلفه السارق يضمن فكذا في حق القطع. "ولنا" أن العصمة, وإن عادت بالرد لكن مع شبهة العدم؛ لأن السقوط لضرورة وجوب القطع, وأثر القطع قائم بعد الرد فيورث شبهة في العصمة؛ ولأنه سقط تقوم المسروق في حق السارق بالقطع في السرقة الأولى, ألا ترى أنه لو أتلفه لا يضمن. وأثر القطع بعد الرد قائم فيورث شبهة عدم التقوم في حقه فيمنع وجوب القطع, ولا يمنع وجوب الضمان؛ لأن الضمان لا يسقط بالشبهة؛ لما بينا هذا إذا كان المردود على حاله لم يتغير "فأما" إذا أحدث المالك فيه حدثا يوجب تغيره عن حاله, ثم سرقه السارق الأول فالأصل فيه أنه لو فعل فيه ما لو فعله الغاصب في المغصوب لأوجب انقطاع حق المالك يقطع, وإلا فلا؛ لأنه إذا فعل ذلك فقد تبدلت العين, وتصير في حكم عين أخرى, وإذا لم يفعل لم تتبدل, وعلى هذا يخرج ما إذا سرق غزلا فقطع فيه, ورد إلى المالك فنسجه ثوبا فعاد فسرقه أنه يقطع؛ لأن المسروق قد تبدل. ألا ترى أنه لو كان مغصوبا لا يقطع حق المالك, ولو سرق ثوب خز فقطع فيه, ورد إلى المالك فنقضه فسرق النقض لم يقطع؛ لأن العين لم تتبدل ألا ترى أنه لو فعله الغاصب لا ينقطع حق المالك, ولو نقضه المالك, ثم غزله غزلا, ثم سرقه السارق لم يقطع؛ لأن هذا لو وجد من الغاصب لا ينقطع حق المغصوب منه فيدل على تبدل العين ولو سرق بقرة فقطع فيها, وردها على المالك فولدت, ولدا ثم سرق الولد يقطع؛ لأن الولد عين أخرى لم يقطع فيها فيقطع بسرقتها, وعلى هذا يخرج جنس هذه المسائل, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" أن يكون محرزا مطلقا خاليا عن شبهة العدم مقصودا بالحرز, والأصل في اعتبار شرط الحرز ما روي في الموطإ عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا قطع في ثمر معلق, ولا في حريسة جبل فإذا آواه المراح, أو الجرين فالقطع فيما بلغ ثمن المجن". وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا قطع في ثمر, ولا كثر حتى يؤويه الجرين, فإذا آواه الجرين ففيه القطع" علق عليه الصلاة والسلام القطع بإيواء المراح, والمراح حرز الإبل, والبقر, والغنم, والجرين حرز الثمر فدل أن الحرز شرط, ولأن ركن السرقة هو الأخذ على سبيل الاستخفاء, والأخذ من غير حرز لا يحتاج إلى الاستخفاء فلا يتحقق ركن السرقة؛ لأن القطع وجب لصيانة الأموال على أربابها قطعا لأطماع السراق عن أموال الناس. والأطماع إنما تميل إلى ما له خطر في القلوب, وغير المحرز لا خطر له في القلوب عادة, فلا تميل الأطماع إليه فلا حاجة إلى الصيانة بالقطع, وبهذا لم يقطع فيما دون النصاب, وما ليس بمال متقوم محتمل الادخار, ثم الحرز نوعان: حرز بنفسه, وحرز بغيره. "أما" الحرز بنفسه فهو: كل بقعة معدة للإحراز ممنوعة الدخول فيها إلا بالإذن: كالدور, والحوانيت, والخيم, والفساطيط, والخزائن, والصناديق. "وأما" الحرز بغيره: فكل مكان غير معد للإحراز يدخل إليه بلا إذن, ولا يمنع منه كالمساجد, والطرق, وحكمه حكم الصحراء إن لم يكن هناك حافظ. وإن كان هناك حافظ فهو حرز؛ لهذا سمي حرزا بغيره حيث وقف صيرورته حرزا على وجود غيره, وهو الحافظ, وما كان حرزا بنفسه لا يشترط فيه وجود الحافظ لصيرورته حرزا, ولو وجد فلا عبرة بوجوده, بل وجوده, والعدم سواء, وكل واحد من الحرزين معتبر بنفسه على حياله بدون صاحبه؛ لأنه عليه الصلاة والسلام علق القطع بإيواء المراح, والجرين من غير شرط وجود الحافظ. وروي أن "صفوان رضي الله عنه كان نائما في المسجد متوسدا بردائه فسرقه سارق من تحت رأسه فقطعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعتبر الحرز بنفسه" فدل أن كل واحد من نوعي الحرز معتبر بنفسه, فإذا سرق من النوع الأول يقطع سواء كان ثمة حافظ, أو لا لوجود الأخذ من الحرز. وسواء كان مغلق الباب, أو لا باب له بعد أن كان محجوزا بالبناء؛ لأن البناء يقصد به الإحراز كيف ما كان, وإذا سرق من النوع الثاني يقطع إذا كان الحافظ قريبا منه في مكان يمكنه حفظه, ويحفظ في مثله المسروق عادة, وسواء كان الحافظ مستيقظا في ذلك المكان, أو نائما؛ لأن الإنسان يقصد الحفظ في الحالين جميعا, ولا يمكن الأخذ إلا بفعله, ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قطع سارق صفوان, وصفوان كان نائما ولو أذن لإنسان بالدخول في داره فسرق المأذون له بالدخول شيئا منها لم يقطع

 

ج / 7 ص -74-         وإن كان فيها حافظ, أو كان صاحب المنزل نائما عليه؛ لأن الدار حرز بنفسها لا بالحافظ, وقد خرجت من أن تكون حرزا بالإذن فلا يعتبر وجود الحافظ؛ ولأنه لما أذن له بالدخول فقد صار في حكم أهل الدار. فإذا أخذ شيئا فهو خائن قد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا قطع على خائن", وكذلك لو سرق من بعض بيوت الدار المأذون في دخولها, وهو مقفل, أو من صندوق في الدار, أو من صندوق في بعض البيوت, وهو مقفل عليه إذا كان البيت من جملة الدار المأذون في دخولها؛ لأن الدار الواحدة حرز واحد قد خرجت بالإذن له من أن تكون حرزا في حقه فكذلك بيوتها, وما روي أن أسود بات عند سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله عنه فسرق حليا لهم فيحتمل أن يكون مسروقا من دار النساء لا من دار الرجال, والداران المختلفان إذا أذن بالدخول في إحداهما لا تصير الأخرى مأذونا بالدخول فيها, والمحتمل لا يكون حجة. وروي عن أبي يوسف أنه قال في رجل كان في حمام, أو خان, وثيابه تحت رأسه فسرقها سارق: إنه لا قطع عليه, سواء كان نائما أو يقظانا, وإن كان في صحراء, وثوبه تحت رأسه قطع, وكذلك روي عن محمد في رجل سرق من رجل, وهو معه في الحمام, أو سرق من رجل, وهو معه في سفينة, أو نزل قوم في خان فسرق بعضهم من بعض أنه لا قطع على السارق, وكذلك الحانوت؛ لأن الحمام, والخان, والحانوت كل واحد حرز بنفسه, فإذا أذن للناس في دخوله خرج من أن يكون حرزا فلا يعتبر فيه الحافظ فلا يصير حرزا بالحافظ؛ ولهذا قالوا: إذا سرق من الحمام ليلا يقطع؛ لأن الناس لم يؤذنوا بالدخول فيه ليلا فأما الصحراء, أو المسجد وإن كان مأذون الدخول إليه فليس حرزا بنفسه, بل بالحافظ, ولم يوجد الإذن من الحافظ فلا يبطل معنى الحرز فيه. وقالوا في السارق من المسجد: إذا كان ثمة حافظ يقطع, وإن لم يخرج من المسجد؛ لأن المسجد ليس بحرز بنفسه, بل بالحافظ, فكانت البقعة التي فيها الحافظ هي الحرز لا كل المسجد فإذا انفصل منها فقد انفصل من الحرز فيقطع. "فأما" الدار, فإنما صارت حرزا بالبناء, فما لم يخرج منها لم يوجد الانفصال من الحرز, وروي عن محمد في رجل سرق في السوق من حانوت فتخرب الحانوت, وقعد للبيع, وأذن للناس بالدخول فيه أنه لم يقطع, وكذلك لو سرق منه, وهو مغلق على شيء لم يقطع لأنه لما أذن للناس بالدخول فيه فقد أخرج الحانوت من أن يكون حرزا في حقهم, وكذلك إن أخذ من بيت قبة, أو صندوق فيه مقفل؛ لأن الحانوت كله حرز واحد كالدار على ما مر. وروي عن أبي يوسف رحمه الله أنه قال في رجل بأرض فلاة, ومعه جوالق وضعه, ونام عنده يحفظه فسرق منه رجل شيئا, أو سرق الجوالق: فإني أقطعه؛ لأن الجوالق بما فيها محرز بالحافظ فيستوي أخذ جميعه, وأخذ بعضه, وكذلك إذا سرق فسطاطا ملفوفا قد, وضعه, ونام عنده يحفظه أنه يقطع, وإن كان مضروبا لم يقطع؛ لأنه إذا كان ملفوفا كان محرزا بالحافظ كالباب المقلوع إذا كان في الدار فسرقه سارق, وإذا كان الفسطاط مضروبا كان حرزا بنفسه فإذا سرقه فقد سرق نفس الحرز, ونفس الحرز ليس في الحرز فلا يقطع كسارق باب الدار ولو كان الجوالق على ظهر دابة فشق الجوالق, وأخرج المتاع يقطع؛ لأن الجوالق حرز؛ لما فيه. وإن أخذ الجوالق كما هي لم يقطع؛ لأنه أخذ نفس الحرز, وكذلك إذا سرق الجمل مع الجوالق؛ لأن الحمل لا يوضع على الجمل للحفظ, بل للحمل؛ لأن الجمل ليس بمحرز, وإن ركبه صاحبه فلم يكن الجمل حرزا للجوالق فإذا أخذ الجوالق فقد أخذ نفس الحرز ولو سرق من المراعي بعيرا, أو بقرة, أو شاة لم يقطع سواء كان الراعي معها, أو لم يكن, وإن سرق من العطن, أو المراح الذي يأوي إليه يقطع إذا كان معها حافظ, أو ليس معها حافظ, غير أن الباب مغلق فكسر الباب, ثم دخل فسرق بقرة قادها قودا حتى أخرجها أو ساقها سوقا حتى أخرجها, أو ركبها حتى أخرجها؛ لأن المراعي ليست بحرز للمواشي. وإن كان الراعي معها؛ لأن الحفظ لا يكون مقصودا من الرعي, وإن كان قد يحصل به؛ لأن المواشي لا تجعل في مراعيها للحفظ, بل للرعي فلم يوجد الأخذ من حرز, بخلاف العطن, أو المراح فإن ذلك يقصد به الحفظ, ووضع له, فكان حرزا, وقال عليه الصلاة والسلام: "في حريسة الجبل غرامة مثليها, وجلدات نكالا" فإذا أواها المراح, وبلغت قيمتها ثمن المجن ففيها القطع, والله تعالى أعلم, ولا يقطع عبد في سرقة من مولاه مكاتبا كان العبد, أو مدبرا, أو تاجرا عليه دين, أو أم ولد سرقت من مال مولاها؛ لأن هؤلاء مأذونون بالدخول في بيوت ساداتهم للخدمة فلم

 

ج / 7 ص -75-         يكن بيت مولاهم حرزا في حقهم. وذكر في الموطأ أن عبد الله ابن سيدنا عمر, والحضرمي جاءا إلى عمر رضي الله عنه بعبد له فقال: اقطع هذا فإنه سرق فقال: وما سرق قال: مرآة لامرأتي ثمنها ستون درهما فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: أرسله ليس عليه قطع, خادمكم سرق متاعكم, ولم ينقل أنه أنكر عليه منكر؛ فيكون إجماعا, ولا قطع على خادم قوم سرق متاعهم, ولا على ضيف سرق متاع من أضافه, ولا على أجير سرق من موضع أذن له في دخوله؛ لأن الإذن بالدخول أخرج الموضع من أن يكون حرزا في حقه, وكذا الأجير إذا أخذ المتاع المأذون له في أخذه من موضع لم يأذن له بالدخول فيه لم يقطع؛ لأن الإذن بأخذ المتاع يورث شبهة الدخول في الحرز, ولأن الإذن بالأخذ فوق الإذن بالدخول, وذا يمنع القطع فهذا أولى. ولو سرق المستأجر من المؤاجر, وكل واحد منهما في منزل على حدة يقطع بلا خلاف؛ لأنه لا شبهة في الحرز. وأما المؤاجر إذا سرق من المستأجر فكذلك يقطع في قول أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما لا يقطع. "وجه" قولهما: أن الحرز ملك السارق فيورث شبهة في درء الحد؛ لأنه يورث شبهة في إباحة الدخول فيختل الحرز فلا قطع. "وجه" قول أبي حنيفة: أن معنى الحرز لا تعلق له بالملك إذ هو اسم لمكان معد للإحراز يمنع من الدخول فيه إلا بالإذن, قد وجد؛ لأن المؤاجر ممنوع عن الدخول في المنزل المستأجر من غير إذن فأشبه الأجنبي. ولا قطع على من سرق من ذي رحم محرم عندنا سواء كان بينهما ولاد, أو لا, وقال الشافعي: في الوالدين, والمولودين كذلك فأما في غيرهم فيقطع, وهو على اختلاف العتق, والنفقة, قد ذكرنا المسألة في كتاب العتاق, والصحيح قولنا؛ لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه بغير إذن عادة, وذلك دلالة الإذن من صاحبه فاختل معنى الحرز, ولأن القطع بسبب السرقة فعل يفضي إلى قطع الرحم. وذلك حرام, والمفضي إلى الحرام حرام ولو سرق جماعة فيهم ذو رحم محرم من المسروق لا يقطع واحد منهم عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف لا يقطع ذو الرحم المحرم, ويقطع سواه, والكلام على نحو الكلام فيما تقدم فيما إذا كان فيهم صبي, أو مجنون, قد ذكرناه فيما تقدم ولو سرق من ذي رحم غير محرم يقطع بالإجماع؛ لأن المباسطة بالدخول من غير استئذان غير ثابتة في هذه القرابة عادة, وكذا هذه القرابة لا تجب صيانتها عن القطيعة؛ ولهذا لم يجب في العتق, والنفقة, وغير ذلك. ولو سرق من ذي محرم لا رحم له بسبب الرضاع فقد قال أبو حنيفة, ومحمد رحمهما الله يقطع الذي سرق ممن يحرم عليه من الرضاع كائنا من كان, وقال أبو يوسف إذا سرق من أمه من الرضاع لا يقطع. "وجه" قوله: أن المباسطة بينهما في الدخول ثابتة عرفا, وعادة فإن الإنسان يدخل في منزل أمه من الرضاع من غير إذن كما يدخل في منزل أمه من النسب, بخلاف الأخت من الرضاع, ولهما أن الثابت بالرضاع ليس إلا الحرمة المؤبدة, وأنها لا تمنع وجوب القطع كما لو سرق من أم موطوءته؛ ولهذا يقطع في الأخت من الرضاع ولو سرق من امرأة أبيه, أو من زوج أمه, أو من حليلة ابنه, أو من ابن امرأته أو بنتها, أو أمها ينظر إن سرق مالهم من منزل من يضاف السارق إليه من أبيه, وأمه, وابنه, وامرأته لا يقطع بلا خلاف؛ لأنه مأذون بالدخول في منزل هؤلاء فلم يكن المنزل حرزا في حقه. وإن سرق من منزل آخر فإن كانا فيه لم يقطع بالإجماع, وإن كان لكل واحد منهما منزل على حدة اختلف فيه: قال أبو حنيفة عليه الرحمة: لا يقطع, وقال أبو يوسف: يقطع إذا سرق من غير منزل السارق, أو منزل أبيه أو ابنه, وذكر القاضي في شرح مختصر الطحاوي قول محمد مع قول أبي يوسف رحمهم الله "وجه" قولهما: أن المانع هو القرابة, ولا قرابة بين السارق, وبين المسروق, بل كل واحد منهما أجنبي عن صاحبه فلا يمنع وجوب القطع, كما لو سرق من أجنبي آخر. "وجه" قول أبي حنيفة: أن في الحرز شبهة؛ لأن حق التزاور ثابت بينه, وبين قريبه؛ لأن كون المنزل لغير قريبه لا يقطع التزاور, وهذا يورث شبهة إباحة الدخول للزيارة فيختل معنى الحرز, ولا قطع على أحد الزوجين إذا سرق من مال صاحبه سواء سرق من البيت الذي هما فيه, أو من بيت آخر؛ لأن كل واحد منهما يدخل في منزل صاحبه, وينتفع بماله عادة, وذلك يوجب خللا في الحرز, وفي الملك أيضا, وهذا عندنا, وقال الشافعي رحمه الله: إذا سرق من البيت الذي هما فيه لا يقطع, وإن سرق من بيت آخر يقطع, والمسألة مرت في كتاب الشهادة. وكذلك لو سرق أحد الزوجين من عبد صاحبه, أو أمته, أو مكاتبه, أو سرق عبد أحدهما, أو أمته, أو مكاتبه من صاحبه

 

ج / 7 ص -76-         أو سرق خادم أحدهما من صاحبه لا يقطع؛ لأنه مأذون في الدخول في الحرز ولو سرقت امرأة من زوجها, أو سرق رجل من امرأته, ثم طلقها قبل الدخول بها فبانت بغير عدة لم يقطع واحد منهما؛ لأن الأخذ حين, وجوده لم ينعقد موجبا للقطع لقيام الزوجية فلا ينعقد عند الإبانة؛ لأن الإبانة طارئة, والأصل أن لا يعتبر الطارئ مقارنا في الحكم؛ لما فيه من مخالفة الحقيقة إلا إذا كان في الاعتبار إسقاط الحد وقت الاعتبار وفي الاعتبار ههنا إيجاب الحد فلا يعتبر ولو سرق من مطلقته, وهي في العدة, أو سرقت مطلقته, وهي في العدة لم يقطع واحد منهما سواء كان الطلاق رجعيا أو بائنا, أو ثلاثا؛ لأن النكاح في حال قيام العدة قائم من وجه أو أثره قائم, وهو العدة, وقيام النكاح من كل وجه يمنع القطع فقيامه من وجه, أو قيام أثره يورث شبهة. ولو سرق رجل من امرأة أجنبية, ثم تزوجها فهذا لا يخلو من أحد, وجهين: "إما" أن تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع, وإما أن تزوجها بعدما قضي عليه بالقطع فإن تزوجها قبل أن يقضى عليه بالقطع؛ لم يقطع بلا خلاف؛ لأن هذا مانع طرأ على الحد, والمانع الطارئ في الحد كالمقارن؛ لأن الحدود تدرأ بالشبهات فيصير طريان الزوجية شبهة مانعة من القطع كقرانها, وإن تزوجها بعد ما قضي بالقطع لم يقطع عند أبي حنيفة رحمه الله وقال أبو يوسف: يقطع. "وجه" قوله: أن الزوجية القائمة عند السرقة إنما تمنع وجوب القطع باعتبار الشبهة, وهي شبهة عدم الحرز, أو شبهة الملك فالطارئة لو اعتبرت مانعة لكان ذلك اعتبار الشبهة, وإنها ساقطة في باب الحدود. "وجه" قول أبي حنيفة: أن الإمضاء في باب الحدود من القضاء فكانت الشبهة المعترضة على الإمضاء كالمعترضة على القضاء ألا ترى أنه لو قذف رجلا بالزنا, وقضي عليه بالحد, ثم إن المقذوف زنى قبل إقامة الحد على القاذف سقط الحد عن القاذف, وجعل الزنا المعترض على الحد كالموجود عند القذف ليعلم أن الطارئ على الحدود قبل الإمضاء بمنزلة الموجود قبل القضاء, والله تعالى أعلم. وذكر في الجامع الصغير في الطرار إذا طر الصرة من خارج الكم أنه لا قطع عند أبي حنيفة رحمه الله فإن أدخل يده في الكم فطرها؛ يقطع, وقال أبو يوسف هذا كله سواء, ويقطع, وبتفصيل الكلام فيه يرتفع الخلاف, ويتفق الجواب, وهو أن الطر لا يخلو إما أن يكون بالقطع, وإما أن يكون بحل الرباط, والدراهم لا تخلو إما أن كانت مصرورة على ظاهر الكم, وإما أن كانت مصرورة في باطنه, فإن كان الطر بالقطع, والدراهم مصرورة على ظاهر الكم لم يقطع؛ لأن الحرز هو الكم. والدراهم بعد القطع تقع على ظاهر الكم فلم يوجد الأخذ من الحرز, وعليه يحمل قول أبي حنيفة رحمه الله وإن كانت مصرورة في داخل الكم يقطع؛ لأنها بعد القطع تقع في داخل الكم, فكان الطر أخذا من الحرز, وهو الكم فيقطع, وعليه يحمل قول أبي يوسف, وإن كان الطر بحل الرباط ينظر إن كان بحال لو حل الرباط تقع الدراهم على ظاهر الكم بأن كانت العقدة مشدودة من داخل الكم لا يقطع؛ لأنه أخذها من غير حرز, وهو تفسير قول أبي حنيفة رحمه الله وإن كان إذا حل تقع الدراهم في داخل الكم, وهو يحتاج إلى إدخال يده في الكم للأخذ يقطع لوجود الأخذ من الحرز, وهو تفسير قول أبي يوسف, والله تعالى أعلم. وعلى هذا الأصل أيضا يخرج النباش على أصل أبي حنيفة, ومحمد رحمهما الله أنه لا يقطع؛ لأن القبر ليس بحرز بنفسه أصلا إذ لا تحفظ الأموال فيه عادة ألا ترى أنه لو سرق منه الدراهم, والدنانير لا يقطع, ولا حافظ للكفن ليجعل حرزا بالحافظ فلم يكن القبر حرزا بنفسه, ولا بغيره, أو فيه شبهة عدم الحرز؛ لأنه إن كان حرز مثله فليس حرزا لسائر الأموال فتمكنت الشبهة في كونه حرزا فلا يقطع, ثم اختلف أنه يعتبر في كل شيء حرز مثله, أو حرز نوعه قال بعض مشايخنا إنه: يعتبر في كل شيء حرز مثله كالإصطبل للدابة, والحظيرة للشاة حق لو سرق اللؤلؤة من هذه المواضع لا يقطع. وذكر الكرخي في مختصره عن أصحابنا أن ما كان حرز النوع يكون حرزا للأنواع كلها, وجعلوا سريجة البقال حرزا للجواهر فالطحاوي رحمه الله اعتبر العرف, والعادة, وقال: حرز الشيء هو المكان الذي يحفظ فيه عادة, والناس في العادات لا يحرزون الجواهر في الإصطبل, والكرخي رحمه الله اعتبر الحقيقة؛ لأن حرز الشيء ما يحرز ذلك الشيء حقيقة, وسريجة البقال تحرز الدراهم, والدنانير, والجواهر حقيقة, فكانت حرزا لها, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" أن يكون نصابا, والكلام في هذا الشرط يقع في ثلاثة مواضع: أحدها في أصل النصاب أنه شرط أم لا ؟, والثاني: في بيان

 

ج / 7 ص -77-         قدره, والثالث: في بيان صفاته. "أما" الأول فقد اختلف فيه قال عامة العلماء: إنه شرط فلا قطع فيما دون النصاب, وحكي عن الحسن البصري رحمه الله أنه ليس بشرط, ويقطع في القليل, والكثير, وهو قول الخوارج, واحتجوا بظاهر قوله سبحانه, وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} من غير شرط النصاب. وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده, ويسرق البيضة فتقطع يده", ومعلوم أن من الحبال ما لا يساوي دانقا, والبيضة لا تساوي حبة. "ولنا" دلالة النص, والإجماع من الصحابة, أما دلالة النص؛ فلأن الله سبحانه وتعالى أوجب القطع على السارق والسارقة, والسارق اسم مشتق من معنى, وهو السرقة, والسرقة اسم للأخذ على سبيل الاستخفاء, ومسارقة الأعين, وإنما تقع الحاجة في الاستخفاء فيما له خطر, والحبة لا خطر لها فلم يكن أخذها سرقة, فكان إيجاب القطع على السارق اشتراطا للنصاب دلالة. "وأما" الإجماع فإن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على اعتبار النصاب, وإنما جرى الاختلاف بينهم في التقدير, واختلافهم في التقدير إجماع منهم على أن أصل النصاب شرط, وبه تبين أن ما رووا من الحديث غير ثابت, أو منسوخ, أو يحمل المذكور على حبل له خطر كحبل السفينة, وبيضة خطيرة كبيضة الحديد توفيقا بين الدلائل, والله تعالى أعلم. "وأما" الكلام في قدر النصاب فقد اختلف فيه أيضا قال أصحابنا رضي الله عنهم: إنه مقدر بعشرة دراهم فلا قطع في أقل من عشرة دراهم, وقال مالك رحمه الله وابن أبي ليلى بخمسة, وذكر القدوري رحمه الله عند مالك رحمه الله بثلاثين, وقال الشافعي: بربع دينار حتى لو سرق ربع دينار إلا حبة, وهو مع نقصانه يساوي عشرة لا يقطع عنده, وعندنا يقطع ولو سرق ربع دينار لا يساوي عشرة لم يقطع عندنا, وعنده يقطع, وقيمة الدينار عندنا عشرة, وعنده اثنا عشر على ما نبين في كتاب الديات احتج من اعتبر الخمسة بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تقطع الخمسة إلا بخمسة", واحتج الشافعي رحمه الله بما روي عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا". وروي عن سيدنا عمر رضي الله عنه "أنه عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم", وهي قيمة ربع دينار عنده؛ لأن الدينار على أصله مقوم باثني عشر درهما. "ولنا" ما روى محمد في الكتاب بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عنه عليه الصلاة والسلام "أنه كان لا يقطع إلا في ثمن مجن", وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم, وفي رواية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا قطع فيما دون عشرة دراهم". وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا تقطع اليد إلا في دينار, أو في عشرة دراهم", وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال: "لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن", وكان يقوم يومئذ بعشرة دراهم, وعن ابن أم أيمن أنه قال "ما قطعت يد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن:", وكان يساوي يومئذ عشرة دراهم, وذكر محمد في الأصل أن سيدنا عمر رضي الله عنه أمر بقطع يد سارق ثوب بلغت قيمته عشرة دراهم فمر به سيدنا عثمان رضي الله عنه فقال: إن هذا لا يساوي إلا ثمانية فدرأ سيدنا عمر القطع عنه, وعن سيدنا عمر, وسيدنا عثمان, وسيدنا علي, وابن مسعود رضي الله عنه مثل مذهبنا, والأصل أن الإجماع انعقد على وجوب القطع في العشرة. وفيما دون العشرة اختلف العلماء؛ لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال في وجوب القطع فلا يجب مع الاحتمال, وإذا عرف أن النصاب شرط وجوب القطع بالسرقة فإن وجد ذلك القدر في أخذ سرقة واحدة قطع؛ لوجود الشرط, وهو كمال النصاب, وإن اختلفت السرقة لم يقطع؛ لفقد الشرط, وعلى هذا مسائل إذا دخل رجل دار الرجل فسرق من بيت فيها درهما فأخرجه إلى صحنها, ثم عاد فأخذ درهما من البيت فأخرجه, ثم عاد فأخذ درهما من البيت فأخرجه فلم يزل يفعل حتى أخذ عشرة دراهم, ثم أخرج العشرة من الدار قطع؛ لأن هذه سرقة واحدة؛ لأن الدار مع صحنها, وبيوتها حرز, واحد فما دام في الدار لم يوجد الإخراج من الحرز فإذا أخرج من الدار جملة فقد وجد إخراج نصاب من الحرز فيجب القطع. ولو كان خرج في كل مرة من الدار, ثم عاد حتى فعل ذلك عشر مرات لم يقطع؛ لأن هذه سرقات إذ كل فعل منه إخراج من الحرز, فكان

 

ج / 7 ص -78-         كل فعل منه معتبرا بنفسه, وأنه سرقة ما دون النصاب فلا يوجب القطع, وكذلك جماعة دخلوا دارا, وأخرجوا من بيت من بيوتها المتاع مرة بعد أخرى إلى صحن الدار, ثم أخرجوه من الصحن دفعة واحدة يقطعون إذا كان ما أخرجوا يخص كل واحد منهم عشرة دراهم, وإن تفرق الإخراج يعتبر كل واحد بنفسه؛ لأن الإخراج جملة واحدة فهو سرقة واحدة فإذا تفرق فهو سرقات, فكان كل واحد معتبرا بنفسه ولو سرق رجل واحد عشرة دراهم من منزلين مختلفين بأن سرق منه درهما, أو تسعة لم يقطع؛ لأنهما سرقتان مختلفتان؛ لأن كل واحد من المنزلين حرز بانفراده فهتك أحدهما بما دون النصاب لا يعتبر في هتك الآخر فيبقى كل, واحد منهما معتبرا في نفسه. ولو سرق رجل عشرة دراهم لعشرة أنفس في موضع واحد قطع, وإن تفرق ملاكها يعتبر في ذلك حال السارق, والسارق واحد, فكان النصاب كاملا, وإنما اعتبر حال السارق دون المسروق منه؛ لأن كمال النصاب شرط وجوب القطع, والقطع عليه فيعتبر جانب من عليه, ولا يعتبر جانب المسروق منه؛ لأن الحكم لم يجب له, بل لله سبحانه وتعالى وإن كان عشرة أنفس في دار كل واحد في بيت على حدة فسرق من كل واحد منهم درهما يقطع إذا خرج بالجميع من الدار؛ لما ذكرنا أن الدار حرز واحد. وقد أخرج منها نصابا كاملا, فكانت السرقة واحدة, وإن اختلف المسروق منه ولو كانت الدار عظيمة فيها حجر لكل واحد حجرة فسرق من كل حجرة أقل من عشرة لم يقطع؛ لأن ذلك سرقات إذ كل حجرة حرز بانفرادها, والسرقات إذا اختلفت يعتبر في كل واحد منها كمال النصاب, ولم يوجد ولو سرق عشرة أنفس من رجل واحد عشرة دراهم لم يقطعوا, بخلاف الواحد إذا سرق عشرة دراهم من عشرة أنفس أنه يقطع إذا كانت الدراهم في حرز واحد؛ لما بينا أن المعتبر جانب السارق لا جانب المسروق منه, فكانت السرقة واحدة فيعتبر كمال النصاب في حق السارق لا في حق المسروق منه. وسواء كانت الدراهم مجتمعة, أو متفرقة بعد أن كان الحرز واحدا حتى لو سرق عشرة دراهم متفرقا من كل كيس درهما من عشرة أنفس من منزل واحد يقطع؛ لأن الحرز واحد فإذا أخرجها منه فقد خرج بنصاب كامل من السرقة فيقطع ولو سرق ثوبا قيمته تسعة دراهم فوضعه على باب الدار, ثم دخل فأخذ ثوبا آخر يساوي تسعة فأخرجه لم يقطع؛ لأنه لم يبلغ المأخوذ في كل واحد منهما نصابا فلا يقطع, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" صفات النصاب "فمنها" أن تكون الدراهم المسروقة جيادا حتى لو سرق عشرة زيوفا, أو نبهرجة, أو ستوقة لا يقطع إلا أن تكون كثيرة تبلغ قيمة عشرة جياد, وكذلك المسروق من غير الدراهم إذا كان لا تبلغ قيمته قيمة عشرة دراهم جياد لا يقطع؛ لأن مطلق اسم الدراهم في الأحاديث ينصرف إلى الجياد. "ومنها" أن يعتبر عشرة دراهم وزن سبعة كذا قالوا؛ لأن اسم الدراهم عند الإطلاق يقع على ذلك, ألا ترى أنه قدر به النصاب في الزكوات, والديات, وكذا الناس أجمعوا على هذا في, وزن الدراهم. ولأن هذا أوسط المقادير؛ لأن الدراهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت صغارا, وكبارا فإذا جمع صغير, وكبير كانا درهمين من وزن سبعة, فكان هذا الوزن هو أوسط المقادير فاعتبر به لقوله عليه الصلاة والسلام "خير الأمور أوساطها", وهل يعتبر أن تكون مضروبة؟ ذكر الكرخي عليه الرحمة أنه يعتبر عشرة دراهم مضروبة, وهكذا روى بشر عن أبي يوسف, وابن سماعة عن محمد حتى لو كان تبرا قيمته عشرة دراهم مضروبة لا يقطع, وروى الحسن عن أبي حنيفة عليهم الرحمة أن السارق إذا سرق عشرة دراهم مما يجوز بين الناس, ويروج في معاملاتهم قطع, وهذا يدل على أن كونها مضروبة ليس بشرط. بل يقطع في المضروبة, وغيرها إذا كان مما يجوز بين الناس, ويروج في معاملاتهم لهما أن تقدير نصاب السرقة وقع بالدراهم, أو تقويم المجن, وقع بالدراهم, والدراهم اسم للمضروبة, والتبر ليس بمضروب, ولا في معنى المضروب في المالية أيضا؛ لأنه ينقص عنه في القيمة فأشبه نقصان الوزن, وأبو حنيفة رحمه الله اعتبر الجواز, والرواج في معاملات الناس فأجرى به التعامل بين الناس, يستوي في نصابه المضروب, والصحيح, والمكسر كما في نصاب الزكاة فما قاله أبو حنيفة رحمه الله أقرب إلى القياس, وما قاله أبو يوسف, ومحمد أقرب إلى الاحتياط في باب الحدود, ثم كمال النصاب في قيمة المسروق يعتبر وقت السرقة لا غير, أم وقت السرقة, والقطع جميعا ؟. وفائدة هذا تظهر فيما

 

ج / 7 ص -79-         إذا كانت قيمة المسروق كاملة وقت السرقة, ثم نقصت أنه هل يسقط القطع؟ فجملة الكلام فيه: أن نقصان المسروق لا يخلو إما أن كان نقصان العين بأن دخل المسروق عيب, أو ذهب بعضه. "وإما" أن كان نقصان السعر فإن كان نقصان العين يقطع السارق, ولا يعتبر كمال النصاب وقت القطع, بل وقت السرقة بلا خلاف؛ لأن نقصان عينه هلاك بعضه, وهلاك الكل لا يسقط القطع, فهلاك البعض أولى, وإن كان نقصان السعر ذكر الكرخي رحمه الله: لا يقطع في ظاهر الرواية, وتعتبر قيمته في الوقتين جميعا. وروى محمد رحمه الله أنه يقطع, وهكذا ذكر الطحاوي رحمه الله: أنه تعتبر قيمته وقت الإخراج من الحرز, وهو قول الشافعي رحمه الله. "وجه" هذه الرواية أن نقصان السعر دون نقصان العين؛ لأن ذلك لا يؤثر في المحل, وهذا يؤثر فيه, ثم نقصان العين لم يؤثر في إسقاط القطع, فنقصان السعر أولى "وجه" ظاهر الرواية على ما ذكره الكرخي رحمه الله الفرق بين النقصانين. "ووجه" الفرق بينهما أن نقصان السعر يورث شبهة نقصان في المسروق وقت السرقة؛ لأن العين بحالها قائمة لم تتغير, وتغير السعر ليس بمضمون على السارق أصلا فيجعل النقصان الطارئ كالموجود عند السرقة, بخلاف نقصان العين؛ لأنه يوجب تغير العين إذ هو هلاك بعض العين, وهو مضمون عليه في الجملة فلا يمكن تقدير وجوده وقت السرقة, وكذا إذا سرق في بلد فأخذ في بلد آخر, والقيمة فيه أنقص ذكر الكرخي رحمه الله: أنه لا يقطع حتى تكون القيمة جميعا في السعر عشرة دراهم, وعلى رواية الطحاوي رحمه الله: تعتبر قيمته وقت السرقة لا غير, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" أن يكون المسروق الذي يقطع فيه في الجملة مقصودا بالسرقة لا تبعا لمقصود, ولا يتعلق القطع بسرقته في قولهما, وقال أبو يوسف رحمه الله: هذا ليس بشرط, والأصل في هذا أن المقصود بالسرقة إذا كان مما يقطع فيه لو انفرد, وبلغ نصابا بنفسه يقطع بلا خلاف, وإن لم يبلغ بنفسه نصابا إلا بالتابع يكمل النصاب به فيقطع, وكذلك إذا كان واحدا منهما مقصودا, ولا يبلغ بنفسه نصابا يكمل أحدهما بالآخر ويقطع, وإن كان المقصود بالسرقة مما لا يقطع فيه لو انفرد لا يقطع, وإن كان معه غيره مما يبلغ نصابا إذا لم يكن الغير مقصودا بالسرقة, بل يكون تابعا في قولهما. وعند أبي يوسف رحمه الله يقطع إذا كان ذلك الغير نصابا كاملا, وبيان هذه الجملة في مسائل: إذا سرق إناء من ذهب, أو فضة فيه شراب, أو ماء أو لبن, أو ماء ورد, أو ثريد, أو نبيذ أو غير ذلك مما لا يقطع فيه لو انفرد؛ لم يقطع عندهما, وعند أبي يوسف يقطع. "وجه" قوله: أن ما في الإناء إذا كان مما لا يقطع فيه التحق بالعدم فيعتبر أخذ الإناء على الانفراد فيقطع فيه. "وجه" قولهما: أن المقصود من هذه السرقة ما في الإناء, والإناء تابع. ألا يرى أنه لو قصد الإناء بالأخذ لأبقى ما فيه, وما في الإناء لا يجب القطع بسرقته, فإذا لم يجب القطع بالمقصود لا يجب بالتابع, وإلى هذا أشار محمد رحمه الله في الكتاب فقال: إنما أنظر إلى ما في جوفه فإن كان ما في جوفه لا يقطع فيه؛ لم أقطعه ولو سرق ما في الإناء في الدار قبل أن يخرج الإناء منها, ثم أخرج الإناء فارغا منه قطع؛ لأنه لما سرق ما فيه في الدار علم أن مقصوده هو الإناء, والمقصود بالسرقة إذا كان مما يجب القطع بسرقته, وبلغ نصابا يقطع, وعلى هذا الخلاف إذا سرق صبيا حرا لا يعبر عن نفسه, وعليه حلي. وإن كان يعبر عن نفسه لا يقطع بالإجماع؛ لأن له يدا على نفسه, وعلى ما عليه من الحلي فلا يكون أخذه سرقة, بل يكون خداعا فلا يقطع, وكذلك إذا سرق عبدا صبيا يعبر عن نفسه وعليه حلي, أو لم يكن لا يقطع بلا خلاف, وإن كان لا يعبر عن نفسه يقطع عندهما, وعند أبي يوسف لا يقطع؛ بناء على أن سرقة مثل هذا العبد يوجب القطع عندهما, وعنده لا يوجب, والمسألة قد مرت ولو سرق كلبا, أو غيره من السباع في عنقه طوق لم يقطع, وكذلك لو سرق مصحفا مفضضا, أو مرصعا بياقوت لم يقطع عندهما, وعند أبي يوسف يقطع؛ لما ذكرنا. ولو سرق كوزا قيمته تسعة دراهم, وفيه عسل يساوي درهما يقطع؛ لأن المقصود ما فيه من العسل, والكوز تبع فيكمل نصاب الأصل به, وكذلك لو سرق حمارا يساوي تسعة, وعليه إكاف يساوي درهما يقطع؛ لما قلنا ولو سرق عشرة دراهم من ثوب, والثوب لا يساوي عشرة ينظر إن كان ذلك الثوب يصلح وعاء للدراهم بأن تشد فيه الدراهم عادة بأن كانت خرقة, ونحوها يقطع؛ لأن المقصود بالأخذ هو ما فيه, وإن كان لا يصلح بأن كان ثوب كرباس فإن كان تبلغ قيمة الثوب

 

ج / 7 ص -80-         نصابا بأن كان يساوي عشرة يقطع بلا خلاف؛ لأن الثوب مقصود بنفسه بالسرقة, وإن كان لا يبلغ نصابا قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يقطع. وذكر في الأصل أن اللص إن كان يعلم بالدراهم يقطع, وإن كان لا يعلم لا يقطع, وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة, وهو قول أبي يوسف, وروي عنه أنه يقطع علم بها أو لم يعلم. "ووجهه": أن العلم بالمسروق ليس بشرط لوجوب القطع, بل الشرط أن يكون نصابا, قد وجد. "وجه" رواية الأصل: أنه إذا كان يعلم بالدراهم كان مقصوده بالأخذ الدراهم وقد بلغت نصابا فيقطع, وإذا كان لا يعلم بها كان مقصوده الثوب, وأنه لم يبلغ النصاب فلا يقطع. "وجه" الرواية الأخرى لأبي حنيفة عليه الرحمة أن مثل هذا الثوب إذا كان مما لا تشد به الدراهم عادة كان مقصودا بنفسه بالسرقة, وإن لم يبلغ نصابا فلم يجب فيه القطع فكذا فيما فيه؛ لأنه تابع له ولو سرق جوالقا, أو جرابا فيه مال كثير قطع؛ لأن المقصود بالسرقة هو المظروف لا الظرف, والمقصود مما يجب القطع بسرقته فيقطع, وكذا إذا كان الثوب لا يساوي عشرة, وفيه مال عظيم علم به اللص يقطع؛ لأن الثوب يصلح وعاء للمال الكثير, ولا يصلح وعاء لليسير, ففيما صلح وعاء له يعتبر ما فيه, لأنا نعلم يقينا أن مقصوده ما فيه وفيما لا يصلح يعتبر نفسه مقصودا بالسرقة, وما فيه تابعا له ولا قطع في المقصود لنقصان النصاب فكذا في التابع؛ لأن التبع حكمه حكم الأصل, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المسروق منه فهو أن يكون له يد صحيحة, وهو يد الملك, أو يد الأمانة كيد المودع, والمستعير, والمضارب, والمبضع, أو يد الضمان كيد الغاصب, والقابض على سوم الشراء, والمرتهن فيجب القطع على السارق من هؤلاء, أما من المالك فلا شك فيه, وكذا من أمينه؛ لأن يد أمينه يده فالأخذ منه كالأخذ من المالك, فأما من الغاصب فإن منفعة يده عائدة إلى المالك إذ بها يتمكن من الرد على المالك؛ ليخرج عن العهدة, فكانت يده يد المالك من وجه, ولأن المغصوب مضمون على الغاصب. وضمان الغصب عندنا ضمان ملك فأشبه يد المشتري, والمقبوض على سوم الشراء مضمون على القابض, والمرهون مضمون على المرتهن بالدين؛ فيجب القطع على السارق منهم, وهل يستوفي بخصومتهم حال غيبة المالك؟ فيه خلاف نذكره إن شاء الله تعالى ولا يجب القطع على السارق من السارق؛ لأن يد السارق ليست بيد صحيحة إذ ليست يد ملك, ولا يد أمانة, ولا يد ضمان, فكان الأخذ منه كالأخذ من الطريق, وإن كان القطع درئ عن الأول قطع الثاني؛ لأنه إذا درئ عنه القطع صارت يده يد ضمان, ويد الضمان يد صحيحة كيد الغاصب, ونحوه والله تعالى عز شأنه أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المسروق فيه, وهو المكان فهو أن تكون السرقة في دار العدل فلا يقطع بالسرقة في دار الحرب, ودار البغي؛ لأنه لا يد للإمام في دار الحرب, ولا على دار البغي, فالسرقة الموجودة فيهما لا تنعقد سببا لوجوب القطع, وبيان هذا في مسائل التجار, أو الأسارى من أهل الإسلام في دار الحرب إذا سرق بعضهم من بعض, ثم خرجوا إلى دار الإسلام فأخذ السارق لا يقطعه الإمام؛ لأنه لا يد للإمام في دار الحرب, فالسرقة الموجودة فيهما لم تنعقد سببا لوجوب القطع, فلا تستوفي في دار الإسلام, وكذلك التجار من أهل العدل في معسكر أهل البغي, أو الأسارى في أيديهم إذا سرق بعضهم من بعض. ثم خرجوا إلى أهل العدل فأخذ السارق لم يقطعه الإمام؛ لأن السرقة وجدت في موضع لا يد للإمام عليه فأشبهت السرقة في دار الحرب, وكذلك رجل من أهل البغي جاء للإمام تائبا, وقد سرق من أهل البغي لم يقطعه؛ لما قلنا, وكذلك رجل من أهل العدل أغار على معسكر أهل البغي فسرق منهم لم يقطعه الإمام؛ لأن السرقة لم تنعقد موجبة للقطع لعدم ولاية الاستيفاء فيه؛ ولأنه أخذ عن تأويل؛ لأن لأهل العدل أن يأخذوا أموال أهل البغي, ويحبسونها عندهم حتى يتوبوا, فكان في العصمة شبهة العدم, وكذلك الرجل من أهل البغي إذا سرق من معسكر أهل العدل, وعاد إلى معسكره, ثم أخذ بعد ذلك لم يقطع؛ لأنهم يعتقدون إباحة أموالنا, ولهم منعة, فكان أخذه عن تأويل فلا يقطع بالسرقة كما لا يضمن بالإتلاف. ولو أن رجلا من أهل العدل سرق من إنسان مالا, وهو يشهد عليه بالكفر, ويستحل دمه, وماله يقطع؛ لأن مجرد اعتقاد الإباحة لا عبرة به, ولأنا لو اعتبرنا ذلك لأدى إلى سد باب الحد 

 

ج / 7 ص -81-         لأن كل سارق لا يعجز عن إظهار ذلك فيسقط القطع عن نفسه, وهذا قبيح فما يؤدي إليه مثله.

"فصل": وأما بيان ما تظهر به السرقة عند القاضي فنقول: وبالله التوفيق السرقة الموجبة للقطع عند القاضي تظهر بأحد أمرين: أحدهما: البينة, والثاني: الإقرار. أما البينة فتظهر بها السرقة إذا استجمعت شرائطها؛ لأنها خبر يرجح فيه جنبة الصدق على جنبة الكذب فيظهر المخبر به, وشرائط قبول البينة في باب السرقة بعضها يعم البينات كلها, قد ذكرنا ذلك في كتاب الشهادات, وبعضها يخص أبواب الحدود, والقصاص, وهو الذكورة, والعدالة, والأصالة فلا تقبل فيها شهادة النساء, ولا شهادة الفساق, ولا الشهادة على الشهادة؛ لأن في شهادة هؤلاء زيادة شبهة, لا ضرورة إلى تحملها فيما يحتال لدفعه, ويحتاط لدرئه, وكذا عدم تقادم العهد إلا في حد القذف, والقصاص حتى لو شهدوا بالسرقة بعد حين لم تقبل ولا يقطع, ويضمن المال, والأصل أن التقادم يبطل الشهادة على الحدود الخالصة, ولا يبطلها على حد القذف, ولا يبطل الإقرار أيضا. والفرق ذكرناه في كتاب الحدود, وإنما ضمن المال؛ لأن التقادم إنما يمنع من الشهادة على الحدود الخالصة للشبهة, والشبهة تمنع وجوب الحد, ولا تمنع وجوب المال, وبعضها يخص أرباب الأموال والحقوق, وهو الخصومة, والدعوى ممن له يد صحيحة, حتى لو شهدوا أنه سرق من فلان الغائب لم تقبل شهادتهم ما لم يحضر المسروق, منه ويخاصم لما ذكرنا أن كون المسروق ملكا لغير السارق شرط لكون الفعل سرقة ولا يظهر ذلك إلا بالخصومة فإذا لم توجد الخصومة لم تقبل شهادتهم, ولكن يحبس السارق؛ لأن إخبارهم أورث تهمة, ويجوز الحبس بالتهمة؛ لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم "حبس رجلا بالتهمة" وهل يشترط حضور المولى لقبول البينة القائمة على سرقة عبده مال إنسان, والعبد يجحد اختلف فيه قال أبو حنيفة عليه الرحمة: يشترط حتى لو كان مولاه غائبا لم تقبل البينة, وهو إحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عن أبي يوسف رحمه الله رواية أخرى أنه لا يشترط, ويقضى عليه بالقطع, وإن كان مولاه غائبا. "وجه" هذه الرواية أن القطع إنما يجب على العبد بالسرقة من حيث إنه آدمي مكلف لا من حيث إنه مال مملوك للمولى, ومن هذا الوجه المولى أجنبي عنه فلا معنى لاشتراط حضرته, كما لا تشترط حضرة سائر الأجانب؛ ولهذا لو أقر بالسرقة نفذ إقراره, ولا يشترط حضور المولى كذا هذا. "وجه" قول أبي حنيفة عليه الرحمة: أن هذه البينة تتضمن إتلاف ملك المولى فلا يقضى بها مع غيبة المولى كالبينة القائمة على ملك شيء من رقبة العبد, ولأن من الجائز أنه لو كان حاضرا لادعى شبهة مانعة من قبول الشهادة, والحدود تدرأ ما أمكن, بخلاف الإقرار؛ لأنه بعد ما وقع موجبا للحد لا يملك المولى رده بوجه فلم تتمكن فيه شبهة, ولا تظهر السرقة بالنكول حتى لو ادعى على رجل سرقة فأنكر فاستخلف فنكل لا يقضى عليه بالقطع, ويقضى بالمال؛ لأن النكول إما أن يجري مجرى البدل. والقطع مما لا يحتمل البدل والإباحة, والمال يحتمل البدل والإباحة, وإما أن يجري مجرى إقرار فيه شبهة العدم؛ لكونه إقرارا من طريق السكوت لا صريحا, والشبهة تمنع وجوب الحد, ولا تمنع وجوب المال. "وأما" الإقرار فتظهر به السرقة الموجبة للقطع أيضا؛ لأن الإنسان غير متهم في الإقرار على نفسه بالإضرار بنفسه فتظهر به السرقة, كما تظهر بالبينة, وبل أولى؛ لأن المرء قد يتهم في حق غيره ما لا يتهم في حق نفسه, وسواء كان الذي أقر بالسرقة عبدا مأذونا, أو محجورا بعد أن كان من أهل وجوب القطع عليه, وعند زفر رحمه الله لا يقطع بإقرار العبد من غير تصديق المولى. وجملة الكلام: أن العبد إذا أقر بسرقة عشرة دراهم لا يخلو إما أن كان مأذونا, أو محجورا, والمال قائم, أو هالك فإن كان مأذونا؛ يقطع ثم إن كان المال هالكا, أو مستهلكا لا ضمان عليه سواء صدقه مولاه في إقراره, أو كذبه؛ لأن القطع مع الضمان لا يجتمعان عندنا, وإن كان المال قائما فهو للمسروق منه, وهذا قول أصحابنا الثلاثة, وقال زفر رحمه الله: لا يقطع من غير تصديق المولى, والمال للمسروق منه. "وجه" قوله: أن إقرار العبد يتضمن إتلاف مال المولى؛ لأن ما في يد العبد مال مولاه فلا يقبل من غير تصديق المولى. "ولنا" أن العبد غير متهم في هذا الإقرار؛ لأن المولى إن كان يتضرر به فضرر العبد أعظم, فلم يكن متهما في إقراره فيقبل؛ ولأنه لا ملك للمولى في يد العبد في حق القطع, كما لا ملك له في نفسه في حق القتل, فكان العبد فيه مبقى على أصل الحرية فيقبل إقراره كالحروبه

 

ج / 7 ص -82-         تبين أن إقراره لم يتضمن إبطال حق المولى في حق القطع لعدم الحق له في حقه, وإن كان محجورا تقطع يده, ثم إن كان المال هالكا, أو مستهلكا لا ضمان عليه كذبه مولاه, أو صدقه, وإن كان قائما, فإن صدقه مولاه؛ تقطع يده, والمال للمسروق منه, وإن كذبه بأن قال: هذا مالي اختلف فيه أصحابنا الثلاثة قال أبو حنيفة: "تقطع يده, والمال للمسروق منه", وقال أبو يوسف: "تقطع يده, والمال للمولى, ولا ضمان على العبد في الحال, ولا بعد العتق". وقال محمد: "لا تقطع يده, والمال للمولى, ويضمن مثله للمقر له بعد العتق". "وجه" قوله ظاهر؛ لأن إقرار المحجور بالمال لا يصح؛ لأن ما في يده ملك مولاه ظاهرا وغالبا, وإذا لم ينفذ إقراره بالمال بقي المال على حكم ملك المولى, ولا قطع في مال المولى, بخلاف المأذون؛ لأن إقراره بالمال جائز, وإذا جاز إقراره بالمال لغيره تثبت السرقة منه فيقطع. "وجه" قول أبي يوسف: أن إقراره بالحد جائز, وإن كان لا يجوز بالمال إذ ليس من ضرورة جواز إقراره في حق الحد جوازه في المال ألا ترى أنه لو قال: سرقت هذا المال الذي في يد زيد من عمرو يقبل إقراره في القطع, ولا يقبل في المال كذا هذا. "وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله: أن إقرار العبد بالحد جائز؛ لما ذكرنا في العبد المأذون فلزمه القطع, فبعد ذلك لا يخلو إما أن يقطع في المال المقر به بعينه, ويرد المسروق إلى المولى, وإما أن يقطع في مال بغير عينه لا سبيل إلى الأول؛ لأن قطع اليد في مال محكوم به لمولاه لا يجوز, ولا يجوز أن يقطع في مال بغير عينه؛ لأن الإقرار صادف مالا معينا فتعين أن يقطع في المال المقر به بعينه, ويرد المال إلى المسروق منه هذا إذا كان العبد بالغا عاقلا وقت الإقرار, فأما إذا كان صبيا عاقلا فلا قطع عليه؛ لأنه ليس من أهل الخطاب بالشرائع, ثم ينظر إن كان مأذونا يصح إقراره بالمال فإن كان قائما يرد عليه. وإن كان هالكا يضمن, وإن كان محجورا لا يصح إقراره إلا بتصديق المولى, فإن كذبه فالمال للمولى إن كان قائما, وإن كان هالكا لا ضمان عليه لا في الحال, ولا بعد العتاق ولو أقر العبد بسرقة ما دون العشرة لا يقطع؛ لأن النصاب شرط, ثم ينظر إن كان مأذونا يصح إقراره, ويرد المال إلى المسروق منه, وإن كان هالكا يضمن سواء كان العبد مخاطبا أو لم يكن, وإن كان محجورا, فإن صدقه مولاه فكذلك, وإن كذبه فالمال للمولى, ويضمن العبد بعد العتق إن كان مخاطبا وقت الإقرار. وإن كان صغيرا لا ضمان عليه, والأصل في جنس هذه المسائل: أن كل ما لا يصح إقرار المولى على عبده يصح إقرار العبد فيه, ثم المولى إذا أقر على عبده بالقصاص, أو حد الزنا, أو حد القذف, أو السرقة, أو القطع في السرقة لا يصح, فإذا أقر العبد بهذه الأشياء يصح. "وأما" إذا أقر المولى على عبده بالجناية فيما دون النفس فيما يجب فيه الدفع, أو الفداء فإنه ينظر إن لم يكن عليه دين صح؛ لأن الجناية فيما دون النفس يسلك فيها مسلك الأموال فكأن المولى أقر عليه بالدين. ولو أقر عليه بالدين يصح كذا هذا, وإن كان عليه دين لا يصح؛ لأنه لو أقر عليه بالدين, وعليه دين لا يصح كذا إذا أقر عليه بالجناية, والله سبحانه وتعالى أعلم, وعدم التقادم في الإقرار "إقرار العبد بالسرقة" ليس بشرط لجوازه فيجوز سواء تقادم عهد السرقة, أو لا, بخلاف البينة, والفرق ذكرناه في كتاب الحدود, واختلف في العدد في هذا الإقرار: أنه هل هو شرط: قال أبو حنيفة, ومحمد رحمهما الله: ليس بشرط, ويظهر بالإقرار مرة واحدة, وقال أبو يوسف رحمه الله شرط فلا يقطع ما لم يقر مرتين في مكانين, والدلائل ذكرناها في كتاب الحدود. وكذا اختلف في دعوى المسروق منه أنها هل هي شرط كون الإقرار مظهرا للسرقة كما هي شرط كون البينة مظهرة لها؟ قال أبو حنيفة, ومحمد رحمهما الله شرط حتى لو أقر السارق أنه سرق مال فلان الغائب لم يقطع ما لم يحضر المسروق منه, ويخاصم عندهما, وقال أبو يوسف الدعوى في الإقرار ليست بشرط, ويقطع حال غيبة المسروق منه. "وجه" قوله: أن إقراره بالسرقة إقرار على نفسه, والإنسان يصدق في الإقرار على نفسه؛ لعدم التهمة, ولهذا لو أقر بالزنا بامرأة, وهي غائبة قبل إقراره حد كذا هذا, ولهما ما روي "أن سمرة رضي الله عنه قال للنبي عليه الصلاة والسلام: إني سرقت لآل فلان فأنفذ إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألهم فقالوا: إنا فقدنا بعيرا لنا في ليلة كذا فقطعه" فلولا أن المطالبة شرط ظهور السرقة بالإقرار لم يكن ليسألهم, بل كان يقطع السارق, ولأن كل من في يده شيء فالظاهر أنه ملكه. "فأما" إذا أقر به لغيره لم يحكم بزوال ملكه عنه حتى يصدقه المقر له, والغائب يجوز أن يصدقه فيه, ويجوز أن يكذبه فبقي على حكم

 

ج / 7 ص -83-         ملك السارق فلا يقطع, ولأن في ظهور السرقة بهذا الإقرار شبهة العدم لاحتمال التكذيب من المسروق منه فإنه يحتمل أن يحضر فيكذبه في إقراره, بخلاف الإقرار بالزنا بامرأة غائبة أنه يحد المقر, وإن كان يحتمل أن تحضر المرأة فتدعي شبهة؛ لأن هناك لو كانت حاضرة, وادعت الشبهة يسقط الحد لأجل الشبهة فلو سقط عند غيبتها لسقط لشبهة الشبهة, وأنها غير معتبرة في درء الحد, وههنا, بخلافه؛ لأن المسروق منه لو كان حاضرا, وكذب السارق في إقراره بالسرقة منه لم يقطع لا لمكان الشبهة, بل لانعدام فعل السرقة. فلم يكن السقوط حال الغيبة اعتبار شبهة الشبهة والله تعالى أعلم قال محمد: لو قال سرقت هذه الدراهم, ولا أدري لمن هي, أو قال: سرقتها, ولا أخبرك من صاحبها: لا يقطع؛ لأن جهالة المسروق منه فوق غيبته, ثم الغيبة لما منعت القطع على أصله فالجهالة أولى؛ ولأن الخصومة لما كانت شرطا, فإذا كان المسروق منه مجهولا تتحقق الخصومة فلا يقطع, وإذا عرف أن الخصومة شرط ظهور السرقة الموجبة للقطع بالبينة على الاتفاق, وبالإقرار على الاختلاف فلا بد من بيان من يملك الخصومة, ومن لا يملكها فنقول: وبالله التوفيق الأصل أن كل من كان له يد صحيحة يملك الخصومة, ومن لا فلا, فللمالك أن يخاصم السارق إذا سرق منه لا شك فيه؛ لأن يد المالك يد صحيحة. وأما المودع, والمستعير, والمضارب, والمبضع, والغاصب, والقابض على سوم الشراء, والمرتهن فلا خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم في أن لهم أن يخاصموا السارق, وتعتبر خصومتهم في حق ثبوت ولاية الاسترداد, والإعادة إلى أيديهم. وأما في حقوق القطع فكذلك عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله ويقطع السارق بخصومتهم, وعند زفر رحمه الله: لا تعتبر خصومتهم في حق القطع, ولا يقطع السارق بخصومة هؤلاء, وعند الشافعي رحمه الله: لا يعتبر بخصومة غير المالك أصلا لا في حق القطع, ولا في حق ولاية الاسترداد. "ووجه" قول زفر رحمه الله: أن يد هؤلاء ليست بيد صحيحة في الأصل أما يد المرتهن فظاهر؛ لأنها يد حفظ لا أنه يثبت له ولاية الخصومة لضرورة الإعادة إلى يد الحفظ ليتمكن من التسليم من المالك, وكذلك يد الغاصب, والقابض على سوم الشراء والمرتهن يدهم يد ضمان لا يد خصومة, وإنما يثبت لهم ولاية الخصومة لإمكان الرد إلى المالك, فكان ثبوت ولاية الخصومة لهم بطريق الضرورة, والثابت بضرورة يكون عدما فيما, وراء محل الضرورة؛ لانعدام علة الثبوت, وهي الضرورة, فكانت الخصومة منعدمة في حق القطع, ولا قطع بدون الخصومة؛ ولهذا لا يقطع بخصومة السارق كذا هذا. "ولنا" أن الخصومة شرط صيرورة البينة: حجة مظهرة للسرقة؛ لما بينا أن الفعل لا يتحقق سرقة ما لم يعلم أن المسروق ملك غير السارق, وإنما يعلم ذلك بالخصومة, فكانت الخصومة شرط كون البينة مظهرة للسرقة, وكونها مظهرة للسرقة ثبت بخصومة هؤلاء, وإذا ظهرت السرقة يقطع لقوله تعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}, بخلاف السارق أنه لا يقطع بخصومته؛ لأن يده ليست بصحيحة؛ لما نذكر على أن عدم القطع هناك لخلل في ملك المسروق؛ لما بينا فيما تقدم, وههنا لا خلل في العصمة ألا ترى أن هناك لا يقطع بخصومة المالك, وههنا يقطع ولو حضر المالك, وغاب المرتهن هل له أن يخاصم السارق, ويقطعه, ذكر في الجامع الصغير أن له ذلك, وروى ابن سماعة عن محمد رحمه الله أنه ليس له ذلك. "وجه" رواية ابن سماعة أن ولاية الخصومة للمسروق منه, والمالك ليس بمسروق منه؛ لأن السارق لم يسرق منه, وإنما سرق من غيره فلم يكن له ولاية الخصومة. "وجه" رواية الجامع أن الخصومة في باب السرقة إنما شرطت ليعلم أن المسروق ملك غير السارق, وهذا يحصل بخصومة المالك فتصح خصومته كما تصح خصومة المرتهن, بل أولى؛ لأن يد المرتهن يد نيابة فلما صحت الخصومة بيد النيابة فيد الأصالة أولى. ولو حضر المغصوب منه, وغاب الغاصب, ذكر في الجامع الصغير أن له أن يخاصم, ويطالب بالقطع, ولم يذكر ابن سماعة في الغصب خلافا, وذكر القدوري عليه الرحمة أنه ينبغي أن يكون الخلاف فيهما, واحدا, وليس للراهن أن يخاصم السارق فيقطعه؛ لأنه ليس له حق القبض قبل قضاء الدين فلا يملك المطالبة, حتى لو قضى الدين له أن يخاصم؛ لأنه ثبت ولاية القبض بالفكاك قال القدوري رحمه الله: وعلى قياس رواية ابن سماعة لا يثبت للراهن ولاية المطالبة مع غيبة المرتهن كما في المودع, بل أولى؛ لأن يد المرتهن أقوى من يد المودع؛ لأن يد المرتهن لنفسه, ويد المودع لغيره. ولو هلك الرهن 

 

ج / 7 ص -84-         في يد السارق كان للمرتهن أن يقطعه, ولا سبيل للراهن عليه؛ لأن المرتهن كان له ولاية القطع قبل الهلاك, وهلاك المحل لا يسقط القطع فيثبت الولاية. "فأما" الراهن فلم يبق له حق في المرهون ألا ترى أنه سقط عنه الدين بهلاكه فلا تثبت له ولاية المطالبة. "وأما" السارق فلا يملك الخصومة؛ لأن يده ليست بمضمونة؛ لأنها ليست بيد ملك, ولا يد ضمان, ولا يد أمانة فصار الأخذ من يده كالأخذ من الطريق فلم يكن له أن يخاصم الثاني بالقطع, ولا للمالك أيضا ولاية المخاصمة؛ لأن أخذ المال من اليد الصحيحة شرط وجوب القطع, ولم يوجد فلا يجب القطع, فلا تثبت له ولاية المطالبة. وهل للسارق الأول أن يطالب الثاني برد المسروق إلى يده قالوا: فيه روايتان في رواية له ذلك, وفي رواية ليس له ذلك. "وجه" الرواية الأولى على نحو ما بينا: أن المسروق منه لم تكن له يد صحيحة فصار الأخذ منه كالأخذ من الطريق سواء. "وجه" الرواية الثانية: أن من الجائز أن يختار المالك الضمان, ويترك القطع فيحتاج إلى أن يسترده من يده فيدفع إليه فيتخلص عن الضمان كما في الغصب, ونحوه على ما مر وذكر القدوري عليه الرحمة أنه يجوز أن يقال ما لم يقطع فله ذلك. "وأما" بعد القطع فليس له ذلك؛ لأن قبل القطع يحتمل اختيار الضمان, وبعده لا, قال ويجوز أن يقال له ذلك بعد القطع أيضا؛ لأن الضمان إن لم يجب عليه في القضاء فهو واجب عليه فيما بينه وبين الله تعالى؛ فيحتاج إلى الاسترداد ليتخلص عن الضمان الواجب عليه فيما بينه وبين الله سبحانه وتعالى ولا تظهر السرقة الموجبة للقطع بعلم القاضي, سواء استفاده قبل زمان القضاء, أو في زمان القضاء؛ لما ذكرنا في كتاب أدب القاضي, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم السرقة فنقول وبالله التوفيق: للسرقة حكمان: أحدهما: يتعلق بالنفس, والآخر: يتعلق بالمال "أما" الذي يتعلق بالنفس فالقطع لقوله سبحانه وتعالى {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}؛ ولما روينا من الأخبار, وعليه إجماع الأمة, فالكلام في هذا الحكم يقع في مواضع: في بيان صفات هذا الحكم, وفي بيان محل إقامته, وفي بيان من يقيمه, وفي بيان ما يسقط بعد ثبوته, وفي بيان حكم السقوط بعد الثبوت, أو عدم الثبوت أصلا لمانع من الشبهة. "أما" صفات هذا الحكم فأنواع: "منها" أن يبقى وجوب ضمان المسروق عندنا فلا يجب الضمان والقطع في سرقة واحدة, ولقب المسألة أن الضمان, والقطع هل يجتمعان في سرقة واحدة؟ عندنا لا يجتمعان حتى لو هلك المسروق في يد السارق بعد القطع, أو قبله لا ضمان عليه, وعند الشافعي رحمه الله: فيقطع, ويضمن ما استهلكه. "وجه" قوله: أنه وجد من السارق سبب وجوب القطع والضمان؛ فيجبان جميعا, وإنما قلنا ذلك؛ لأنه وجد منه السرقة, وإنها سبب لوجوب القطع, والضمان؛ لأنها جناية حقين: حق الله عز وجل وحق المسروق منه. "أما" الجناية على حق الله سبحانه وتعالى فهتك حرمة حفظ الله سبحانه وتعالى إذ المال حال غيبة المالك محفوظ بحفظ الله سبحانه وتعالى. "وأما" الجناية على حق العبد فبإتلاف ماله, فكانت الجناية على حقين, فكانت مضمونة بضمانين فيجب ضمان القطع من حيث إنها جناية على حق الله سبحانه وتعالى وضمان المال من حيث إنها جناية على حق العبد, كمن شرب خمر الذمي أنه يجب عليه الحد حقا لله تعالى, والضمان حقا للعبيد, وكذا قتل الخطأ يوجب الكفارة حقا لله تعالى, والدية حقا للعبد, كذا هذا, والدليل عليه أن المسروق لو كان قائما يجب رده على المالك فدل أنه بقي معصوما حقا للمالك. "ولنا" الكتاب, والسنة, والمعقول: أما الكتاب العزيز فقوله سبحانه وتعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا}, والاستدلال بالآية من وجهين: أحدهما: أن الله سبحانه وتعالى سمى القطع جزاء, والجزاء يبنى على الكفاية فلو ضم إليه الضمان لم يكن القطع كافيا فلم يكن جزاء تعالى الله سبحانه عز شأنه عن الخلف في الخبر والثاني: أنه جعل القطع كل الجزاء؛ لأنه عز شأنه ذكره, ولم يذكر غيره فلو أوجبنا الضمان لصار القطع بعض الجزاء؛ فيكون نسخا لنص الكتاب العزيز. وأما السنة فما روي عن سيدنا عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا قطع السارق فلا غرم عليه", والغرم في اللغة ما يلزم أداؤه, وهذا نص في الباب. "وأما" المعقول فمن وجهين: أحدهما: بناء, والآخر ابتداء "أما" وجه البناء فهو: أن المضمونات عندنا تملك عند أداء الضمان, أو اختياره من وقت الأخذ فلو ضمنا السارق

 

ج / 7 ص -85-         قيمة المسروق, أو مثله لملك المسروق من وقت الأخذ فتبين أنه قطع في ملك نفسه, وذلك لا يجوز. "وأما", وجه الابتداء فما قاله بعض مشايخنا وهو: أن الضمان إنما يجب بأخذ مال معصوم ثبتت عصمته حقا للمالك؛ فيجب أن يكون المضمون بهذه الصفة؛ ليكون اعتداء بالمثل في ضمان العدوانات, والمضمون حالة السرقة خرج من أن يكون معصوما حقا للمالك بدلالة وجوب القطع, ولو بقي معصوما حقا للمالك لما وجب, إذ الثابت حقا للعبد يثبت لدفع حاجته, وحاجة السارق كحاجة المسروق منه فتتمكن فيه شبهة الإباحة, وإنها تمنع وجوب القطع. والقطع واجب فينتفي الضمان ضرورة إلا أنه وجب رد المسروق حال قيامه؛ لأن وجوب الرد يقف على الملك لا على العصمة, ألا ترى أن من غصب خمر المسلم يؤمر بالرد إليه؛ لقيام ملكه فيها, ولو هلكت في يد الغاصب لا ضمان عليه؛ لعدم العصمة فلم يكن من ضرورة سقوط العصمة الثابتة حقا للعبد زوال ملكه عن المحل, وههنا الملك قائم فيؤمر بالرد إليه, والعصمة زائلة فلا يكون مضمونا بالهلاك, ويخرج على هذا الأصل مسائل إذا استهلك السارق المسروق بعد القطع لا يضمن في ظاهر الرواية, وروى الحسن عن أبي حنيفة رحمه الله أنه يضمن. "وجه" هذه الرواية: أن المسروق بعد القطع بقي على ملك المسروق منه ألا ترى أنه يجب رده على المالك, وقبض السارق ليس بقبض مضمون, فكان المسروق في يده بمنزلة الأمانة فإذا استهلكها ضمن. "وجه" ظاهر الرواية: أن عصمة المحل الثابتة حقا للمالك قد سقطت في حق السارق لضرورة إمكان إيجاب القطع, فلا يعود إلا بالرد إلى المالك فلم يكن معصوما قبله؛ فلا يكون مضمونا, ولو استهلك؛ رجل آخر يضمنه؛ لأن العصمة إنما سقطت في حق السارق لا في حق غيره؛ فيضمن, ولو سقط القطع لشبهة ضمن؛ لأن المانع من الضمان هو القطع, قد زال المانع. ولو باع السارق المسروق من إنسان, أو ملكه منه بوجه من الوجوه, فإن كان قائما فلصاحبه أن يأخذه؛ لأنه عين ملكه, وللمأخوذ منه أن يرجع على السارق بالثمن الذي دفعه؛ لأن الرجوع بالثمن لا يوجب ضمانا على السارق في عين المسروق؛ لأنه يرجع عليه بثمن المسروق لا بقيمته ليوجب ذلك ملك المسروق للسارق, وإن كان هلك في يده فلا ضمان على السارق, ولا على القابض هكذا روي عن أبي يوسف, أما السارق؛ فلأن القطع ينفي الضمان. "وأما" المشتري؛ فلأنه لو ضمنه المالك لكان له أن يرجع بالضمان على السارق فيصير كأن المالك ضمن السارق, وقطعه ينفي الضمان عنه, وإن كان استهلكه القابض كان للمالك أن يضمنه القيمة؛ لأنه قبض ماله بغير إذنه, وهلك في يده, وللمشتري أن يرجع على السارق بالثمن؛ لأن الرجوع بالثمن ليس بتضمين ولو اغتصبه إنسان من السارق فهلك في يده بعد القطع فلا ضمان للسارق, ولا للمسروق منه, "أما" السارق؛ فلأنه ليس بمالك. "وأما" المالك؛ فلأن العصمة الثابتة له حقا قد بطلت, قال القدوري: وكان للمولى أن يضمنه الغاصب؛ لأنه لو ضمن لا يرجع بالضمان على السارق, وعلى هذا يخرج ما إذا سرق ثوبا فخرقه في الدار خرقا فاحشا, ثم أخرجه وهو يساوي عشرة دراهم لا يقطع؛ لأن الخرق الفاحش سبب لوجوب الضمان, وأنه يوجب ملك المضمون, وذلك يمنع القطع, وإن خرقه عرضا؛ فقد مر الاختلاف فيه. "ومنها" أن يجري فيه التداخل, حتى إنه لو سرق سرقات فرفع فيها كلها فقطع, أو رفع في بعضها فقطع فيما رفع فالقطع للسرقات كلها, ولا يقطع في شيء منها بعد ذلك؛ لأن أسباب الحدود إذا اجتمعت وأنها من جنس واحد يكتفى فيها بحد واحد كما في الزنا, وهذا؛ لأن المقصود من إقامة الحد هو الزجر, والردع, وذلك يحصل بإقامة الحد الواحد, فكان في إقامة الثاني. والثالث شبهة عدم الفائدة فلا يقام؛ ولهذا يكتفى في باب الزنا بالإقامة لأول حد كذا هذا, ولأن محل الإقامة قد فات, إذ محلها اليد اليمنى؛ لأن كل سرقة وجدت ما أوجبت إلا قطع اليد اليمنى, فإذا قطعت في واحدة منها فقد فات محل الإقامة, وصار كما لو ذهبت اليد اليمنى بآفة سماوية. وأما حكم الضمان فلا خلاف بين أصحابنا رضي الله عنهم في أنه إذا حضر أصحاب السرقات, وخاصموا فيها فقطع بمخاصمتهم أنه لا ضمان على السارق في السرقات كلها؛ لأن مخاصمة المسروق منه بالقطع بمنزلة الإبراء عن الضمان عندنا, فإذا خاصموا جميعا فكأنهم أبرءوا. وأما إذا خاصم واحد في سرقة فقطع فلا ضمان على السارق فيما خوصم بإجماع بين أصحابنا

 

ج / 7 ص -86-         رضي الله عنهم. وأما فيما لم يخاصم فيه فقد اختلفوا, قال أبو حنيفة رحمه الله: "لا ضمان عليه في شيء من السرقات خاصموا, أو لم يخاصموا", وقال أبو يوسف, ومحمد رحمهما الله: "يضمن في السرقات كلها إلا فيما خوصم". "وجه" قولهما: أن المسروق منه مخير بين أن يدعي المال ليستوفي حقه, وهو الضمان, وبين أن يدعي السرقة ليستوفي في حق الله سبحانه وتعالى وهو القطع, ولا ضمان له, فكان سقوط الضمان مبنيا على دعوى السرقة والخصومة فيها, فمن خاصم منهم فقد وجد منه ما يوجب سقوط الضمان, ومن لم يخاصم؛ لم يوجد منه المسقط فيبقى حقه في الضمان كما كان. ولأبي حنيفة رحمه الله: أن النافي للضمان هو القطع, والقطع وقع للسرقات كلها فينفي الضمان في السرقات كلها, هذا إذا كان المسروق هالكا, أما إذا كان قائما رد كل مسروق إلى صاحبه؛ لأن القطع ينفي الضمان لا الرد ومنها أنه لا يحتمل العفو حتى لو أمر الإمام بقطع السارق فعفا عنه المسروق منه كان عفوه باطلا؛ لأن صحة العفو يعتمد كون المعفو عنه حقا للعافي, والقطع خالص حق الله سبحانه وتعالى لا حق للعبد فيه فلا يصح عفوه, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما محل إقامة هذا الحكم فالكلام فيه في موضعين: أحدهما: في بيان أصل المحل, ومراعاة الترتيب فيه, والثاني: في بيان موضع إقامة الحكم منه أما الأول فأصل المحل عند أصحابنا طرفان فقط, وهما: اليد اليمنى, والرجل اليسرى فتقطع اليد اليمنى في السرقة الأولى, وتقطع الرجل اليسرى في السرقة الثانية, ولا يقطع بعد ذلك أصلا, ولكنه يضمن السرقة, ويعزر, ويحبس حتى يحدث توبة عندنا, وعند الشافعي رحمه الله: الأطراف الأربعة محل القطع على الترتيب: فتقطع اليد اليمنى في المرة الأولى, وتقطع الرجل اليسرى في المرة الثانية, وتقطع اليد اليسرى في المرة الثالثة, وتقطع الرجل اليمنى في السرقة الرابعة, احتج الشافعي رحمه الله بقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}, والأيدي اسم جمع, والاثنان فما فوقهما جماعة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال الله تعالى: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا}, وأنه لم يكن لكل واحد إلا قلب واحد إلا أن الترتيب في قطع الأيدي ثبت بدليل آخر. وهذا لا يخرج اليد اليسرى من أن تكون محلا للقطع في الجملة, وروي أن سيدنا أبا بكر رضي الله عنه قطع سارق حلي أسماء, وكان أقطع اليد, والرجل. "ولنا" ما روي أن سيدنا عليا رضي الله عنه أتي بسارق فقطع يده, ثم أتي به الثانية وقد سرق فقطع رجله, ثم أتي به الثالثة وقد سرق فقال: لا أقطعه إن قطعت يده فبأي شيء يأكل بأي شيء يتمسح, وإن قطعت رجله بأي شيء يمشي إني لأستحي من الله فضربه بخشبة, وحبسه. وروي أن سيدنا عمر رضي الله عنه أتي بسارق أقطع اليد, والرجل قد سرق نعالا يقال له سدوم, وأراد أن يقطعه فقال له سيدنا علي رضي الله عنه إنما عليه قطع يد ورجل فحبسه سيدنا عمر رضي الله عنه ولم يقطعه, وسيدنا عمر وسيدنا علي رضي الله عنهما لم يزيدا في القطع على قطع اليد اليمنى, والرجل اليسرى, وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, ولم ينقل أنه أنكر عليهما منكر؛ فيكون إجماعا من الصحابة رضي الله عنهم. "ولنا" أيضا دلالة الإجماع, والمعقول, أما دلالة الإجماع فهي أنا أجمعنا على أن اليد اليمنى إذا كانت مقطوعة لا يعدل إلى اليد اليسرى, بل إلى الرجل اليسرى, ولو كان لليد اليسرى مدخلا في القطع لكان لا يعدل إلا إليها؛ لأنها منصوص عليها, ولا يعدل عن المنصوص عليه إلى غيره فدل العدول إلى الرجل اليسرى لا إليها على أنه لا مدخل لها في القطع بالسرقة أصلا. وهذا النوع من الاستدلال ذكره الكرخي رحمه الله وأما المعقول فهو أن في قطع اليد اليسرى تفويت جنس منفعة من منافع النفس أصلا, وهي منفعة البطش؛ لأنها تفوت بقطع اليد اليسرى بعد قطع اليمنى فتصير النفس في حق هذه المنفعة هالكة, فكان قطع اليد اليسرى إهلاك النفس من وجه, وكذا قطع الرجل اليمنى بعد قطع الرجل اليسرى تفويت منفعة المشي؛ لأن منفعة المشي تفوت بالكلية, فكان قطع الرجل اليمنى إهلاك النفس من كل وجه, وإهلاك النفس من كل وجه لا يصلح حدا في السرقة, كذا إهلاك النفس من وجه؛ لأن الثابت من وجه ملحق بالثابت من كل وجه في الحدود احتياطا, ولا حجة له في الآية الشريفة؛ لأن ابن مسعود رضي الله عنه قرأ "فاقطعوا أيمانهما", ولا يظن بمثله أن يقرأ ذلك من تلقاء نفسه. بل سماعا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت قراءته مخرج التفسير لمبهم الكتاب العزيز, وهكذا روي عن عبد الله بن

 

ج / 7 ص -87-         عباس  رضي الله عنهما في قوله عز وجل {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أنه قال أيمانهما, وهكذا روي عن الحسن, وإبراهيم رحمهما الله وأما حديث لا قطع فقد روى الزهري في الموطأ عن سيدتنا عائشة رضي الله عنها أنها قالت لما كان الذي سرق حلي أسماء أقطع اليد اليمنى فقطع سيدنا أبو بكر رضي الله عنه رجله اليسرى, وكانت تنكر أن يكون أقطع اليد, والرجل, ثم إنما تقطع يده اليمنى في الكرة الأولى إذا كانت اليد اليسرى صحيحة يمكنه أن ينتفع بها بعد قطع اليد اليمنى. والرجل اليمنى صحيحة يمكنه الانتفاع بها بعد قطع الرجل اليسرى, فإن كانت اليد اليسرى مقطوعة, أو شلاء, أو مقطوعة الإبهام, أو أصبعين سوى الإبهام لا تقطع اليد اليمنى؛ لأن القطع في السرقة شرع زاجرا لا مهلكا, فإذا لم تكن اليد اليسرى يمكن الانتفاع بها؛ فقطع اليد اليمنى يقع تفويتا لجنس المنفعة, وهي منفعة البطش أصلا فيقع إهلاكا للنفس من وجه فلا تقطع, ولا يقطع رجله اليسرى أيضا؛ لأنه يذهب أحد الشقين على الكمال فيهلك النفس من وجه ولو كانت اليد اليسرى مقطوعة أصبع واحدة سوى الإبهام تقطع يده اليمنى؛ لأن القطع لا يتضمن فوات جنس المنفعة. وكذا إن كانت الرجل اليمنى مقطوعة, أو شلاء, أو بها عرج يمنع المشي عليها لا تقطع اليد اليمنى؛ لما فيه من فوات الشق, ولا رجله اليسرى, وإن كانت صحيحة؛ لأنه يبقى بلا رجلين فيفوت جنس المنفعة ولو كانت رجله اليمنى مقطوعة الأصابع كلها فإن كان يستطيع القيام, والمشي عليها تقطع يده اليمنى؛ لأن الجنس لا يفوت, وإن كان لا يستطيع لا يقطع لفوات الشق ولو كانت يداه صحيحتين, ولكن رجله اليسرى مقطوعة, أو شلاء أو مقطوعة الإبهام أو الأصابع تقطع يده اليمنى؛ لأن جنس المنفعة لا يفوت, ولا فيه فوات الشق أيضا. ولو سرق ويمناه شلاء, أو مقطوعة الإبهام, أو الأصابع لقوله سبحانه وتعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} أي: أيمانهما من غير فصل بين يمين, ويمين, ولأنها لو كانت سليمة تقطع فالناقصة المعيبة أولى بالقطع, ثم فرق بين القطع في السرقة, وبين الإعتاق في الكفارة حيث جعل فوات إصبعين سوى الإبهام من اليد اليسرى نقصانا مانعا من قطع اليد اليمنى, ولم يجعل فوات إصبعين نقصانا مانعا من جواز الإعتاق ما لم يكن ثلاثا. "وجه" الفرق: أن القطع حد فهذا القدر من النقصان يورث شبهة, بخلاف العتق, والله سبحانه وتعالى أعلم ولو قال الحاكم للحداد اقطع يد السارق فقطع اليد اليسرى فهذا على, وجهين: إما أن قال اقطع يده مطلقا, وإما أن قيده فقال: اقطع يده اليمنى فإن أطلق فقال: له اقطع يده فقطع اليسرى لا ضمان عليه للحال؛ لأنه فعل ما أمر به حيث أمره بقطع اليد, وقد قطع اليد, وإن قيد فقال: اقطع يده اليمنى فقطع اليسرى فإن أخرج السارق يده, وقال هذا هو يميني فلا ضمان عليه أيضا؛ لأنه قطع بأمره فلا يضمن كمن قال لآخر اقطع يدي فقطعه لا ضمان عليه كذا هذا, وإن لم يخرج السارق يده, ولم يقل ذلك, ولكنه قطع اليسرى خطأ لا ضمان عليه عند أصحابنا رضي الله عنهم, وعند زفر رضي الله عنه يضمن؛ لأن الخطأ في حقوق العباد ليس بعذر. "ولنا" أن هذا خطأ في الاجتهاد؛ لأنه أقام اليسار مقام اليمين باجتهاده متمسكا بظاهر قوله سبحانه وتعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} من غير فصل بين اليمين, واليسار, فكان هذا خطأ من المجتهد في الاجتهاد, وأنه موضوع, وموضوع المسألة في هذا الخطأ لا فيما إذا أخطأ فظن اليسار يمينا مع اعتقاد وجوب قطع اليمين مع ما أن عند أبي حنيفة رحمه الله: لا يضمن هناك أيضا على ما نبين, وإن قطع اليسرى عمدا لا ضمان عليه أيضا عند أبي حنيفة, وعندهما يضمن لهما أنه تعمد الظلم بإقامة اليسار مقام اليمين فلم يكن معذورا فيضمن, ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه أتلف, وأخلف خيرا مما أتلف, فلا يضمن كرجلين شهدا على رجل ببيع عبد قيمته ألف بألفين, ثم رجعا أنهما لا يضمنان؛ لما قلنا كذا هذا. وإنما قلنا: إنه أخلف خيرا مما أتلف؛ لأنه لما قطع اليسرى فقد سلمت له اليمنى؛ لأنها لا تقطع بعد ذلك؛ لأنه لا يؤتى على أطرافه الأربعة, واليمنى خير من اليسرى ثم على قول أبي حنيفة عليه الرحمة هل يكون هذا القطع وهو قطع اليسرى قطعا من السرقة حتى إذا هلك المال في يد السارق, أو استهلكه لا يضمن, أو لا يكون من السرقة حتى يضمن؟ اختلف المشايخ فيه قال بعضهم: يكون, وقال بعضهم: لا يكون هذا كله إذا قطع الحداد بأمر الحاكم, فأما الأجنبي إذا قطع يده اليسرى فإن كان خطأ تجب الدية, وإن كان عمدا يجب القصاص, وسقط عنه القطع في اليمين؛ لأنه لو قطع يؤدي إلى إهلاك النفس من, وجه على ما بينا

 

ج / 7 ص -88-         ويرد عليه المسروق إن كان قائما, وعليه ضمانه في الهلاك؛ لأن المانع من الضمان هو القطع وقد سقط, ولو وجب عليه قطع اليد اليمين في السرقة فلم تقطع حتى قطع قاطع يمينه فهذا على وجهين: إما أن يكون قبل الخصومة, وإما أن يكون بعدها, فإن كان قبل الخصومة فعلى قاطعه القصاص إن كان عمدا, والأرش إن كان خطأ, وتقطع رجله اليسرى في السرقة كأنه سرق, ولا يمين له, وإن كان بعد الخصومة فإن كان قبل القضاء فكذلك الجواب, إلا أنا ههنا لا نقطع رجله اليسرى؛ لأنه لما خوصم كان الواجب في اليمين وقد فاتت؛ فسقط الواجب كما لو ذهب بآفة سماوية, وإن كان بعد القضاء فلا ضمان على القاطع؛ لأنه احتسب لإقامة حد الله سبحانه وتعالى فكان قطعه عن السرقة حتى لا يجب الضمان على السارق فيما هلك من مال السرقة في يده, أو استهلك. وأما الموضع الذي يقطع من اليد اليمنى فهو مفصل الزند عند عامة العلماء رضي الله عنهم. وقال بعضهم تقطع الأصابع, وقال الخوارج: تقطع من المنكب لظاهر قوله سبحانه وتعالى {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}, واليد اسم لهذه الجملة, والصحيح قولنا؛ لما روي أنه عليه الصلاة والسلام "قطع يد السارق من مفصل الزند", فكان فعله بيانا للمراد من الآية الشريفة كأنه نص سبحانه وتعالى فقال: {فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} من مفصل الزند, وعليه عمل الأمة من لدن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى يومنا هذا, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما بيان من يقيم هذا الحكم فالذي يقيمه الإمام, أو من ولاه؛ لأن هذا حد والمتولي لإقامة الحدود الأئمة أو من ولوهم من القضاة, والحكام, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله: المولى يملك إقامة الحد على مملوكه, والكلام في هذا الفصل استوفيناه في كتاب الحدود. وأما بيان ما يسقط الحد بعد وجوبه فنقول: ما يسقطه بعد وجوبه أنواع: منها تكذيب المسروق منه السارق في إقراره بالسرقة بأن يقول له: لم تسرق مني, ومنها تكذيبه البينة بأن يقول: شهد شهودي بزور؛ لأنه إذا كذب فقد بطل الإقرار والشهادة؛ فسقط القطع, ومنها رجوع السارق عن الإقرار بالسرقة فلا يقطع, ويضمن المال؛ لأن الرجوع يقبل في الحدود, ولا يقبل في المال؛ لأنه يورث شبهة في الإقرار, والحد يسقط بالشبهة, ولا يسقط المال رجلان أقرا بسرقة ثوب يساوي مائة درهم, ثم قال أحدهما: الثوب ثوبنا لم نسرقه, أو قال: هذا لي درئ القطع عنهما؛ لأنهما لما أقرا بالسرقة فقد ثبتت الشركة بينهما في السرقة. ثم لما أنكر أحدهما فقد رجع عن إقراره فبطل الحد عنه برجوعه فيورث شبهة في حق الشريك؛ لاتحاد السرقة ولو قال أحدهما: سرقنا هذا الثوب من فلان فكذبه الآخر, وقال كذبت لم نسرقه قطع المقر وحده في قول أبي حنيفة, وقال أبو يوسف: لا يقطع واحد منهما. "وجه" قول أبي يوسف: أنه أقر بسرقة واحدة بينهما على الشركة, فإذا لم تثبت في حق شريكه بإنكاره يؤثر ذلك في حق صاحبه ضرورة اتحاد السرقة, وهذا, بخلاف ما إذا أقر بالزنا بامرأة فأنكرت: إنه يحد الرجل على أصله؛ لأن إنكار المرأة لا يؤثر في إقرار الرجل إذ ليس من ضرورة عدم الزنا من جانبها عدمه من جانبه, كما لو زنى بصبية, أو مجنونة, بخلاف الإقرار بالسرقة؛ لأن ذلك وجد من أحدهما على وجه الشركة, فعدم السرقة من أحدهما يؤثر في حق الآخر. "وجه" قول أبي حنيفة: أن إقراره بالشركة في السرقة إقرار بوجود السرقة من كل واحد منهما, إلا أنه لما أنكر صاحبه السرقة لم يثبت منه فعل السرقة, وعدم الفعل منه لا يؤثر في وجود الفعل من صاحبه فبقي إقرار صاحبه على نفسه بالسرقة فيؤخذ به, بخلاف إقرار الرجل على نفسه بالزنا بامرأة, وهي تجحد؛ إنه لا يجب الحد على الرجل على أصله؛ لأن الزنا لا يقوم إلا بالرجل والمرأة فإذا أنكرت لم يثبت منها فلا يتصور الوجود من الرجل, بخلاف الإقرار بالسرقة على ما بينا, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها" رد السارق المسروق إلى المالك قبل المرافعة عندهما, وإحدى الروايتين عن أبي يوسف. وروي عنه أنه لا يسقط, ولا خلاف في أن الرد بعد المرافعة لا يسقط الحد. "وجه" رواية أبي يوسف: أن السرقة حين وجودها انعقدت موجبة للقطع فرد المسروق بعد ذلك لا يخل بالسرقة الموجودة؛ فلا يسقط القطع الواجب, كما لو رده بعد المرافعة, ولهما أن الخصومة شرط لظهور السرقة الموجبة للقطع؛ لما بينا فيما تقدم, ولما رد المسروق على المالك فقد بطلت الخصومة, بخلاف ما بعد المرافعة؛ لأن الشرط وجود الخصومة لا بقاؤها, وقد وجدت. "ومنها" ملك السارق المسروق قبل القضاء نحو ما إذا وهب المسروق منه

 

ج / 7 ص -89-         المسروق من السارق قبل القضاء, وجملة الكلام فيه أن الأمر لا يخلو إما أن وهبه منه قبل القضاء, وإما أن وهبه بعد القضاء قبل الإمضاء فإن وهبه قبل القضاء يسقط القطع بلا خلاف, وإن وهبه بعد القضاء قبل الإمضاء يسقط عندهما, وقال أبو يوسف: لا يسقط, وهو قول الشافعي رحمهما الله احتج أبو يوسف بما روي: "أن سارق رداء صفوان أخذ فأتي به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطع يده فقال صفوان يا رسول الله إني لم أرد هذا هو عليه صدقة فقال عليه الصلاة والسلام: "فهلا قبل أن تأتيني به" فدل أن الهبة قبل القضاء تسقط, وبعده لا تسقط. ولأن وجوب القطع حكم معلق بوجود السرقة وقد تمت السرقة, ووقعت موجبة للقطع لاستجماع شرائط الوجوب فطريان الملك بعد ذلك لا يوجب خللا في السرقة الموجودة فبقي القطع واجبا كما كان, كما لو رد المسروق على المالك بعد القضاء, بخلاف ما قبل القضاء؛ لأن الخصومة شرط ظهور السرقة الموجبة للقطع عند القاضي, وقد بطل حق الخصومة. "وجه" قولهما: أن القبض شرط لثبوت الملك في الهبة, والملك في الهبة يثبت من, وقت القبض فيظهر الملك له من ذلك الوقت من كل وجه, أو من وجه, وكون المسروق ملكا للسارق على الحقيقة أو الشبهة يمنع من القطع؛ ولهذا لم يقطع قبل القضاء فكذلك بعده؛ لأن القضاء في باب الحدود إمضاؤها فما لم يمض فكأنه لم يقض, ولو كان لم يقض أليس أنه لا يقطع فكذا إذا لم يمض. ولأن الطارئ في باب الحدود ملحق بالمقارن؛ إذا كان في الإلحاق إسقاط الحد, وههنا فيه إسقاط الحد فيلحق به. "وأما" الحديث فلا حجة له فيه؛ لأن المروي قوله "هو عليه صدقة", وقوله "هو" يحتمل أنه أراد به المسروق, ويحتمل أنه أراد به القطع, وهبة القطع لا تسقط الحد يدل عليه أنه روي في بعض الروايات أنه قال: وهبت القطع, وكذا يحتمل أنه تصدق عليه بالمسروق, أو وهبه منه, ولكنه لم يقبضه, والقطع إنما يسقط بالهبة مع القبض, وعلى هذا إذا باع المسروق من السارق قبل القضاء, أو بعده على الاتفاق, والاختلاف ولو زنى بامرأة ثم تزوجها لا يسقط الحد؛ لأن الملك الثابت بالنكاح لا يحتمل الاستناد إلى وقت الوطء فلا تثبت الشبهة في الزنا؛ فيحد. "وأما" حكم السقوط بعد الثبوت لمانع, وهو الشبهة وغيرها, فدخول المسروق في ضمان السارق حتى لو هلك في يده بنفسه, أو استهلكه السارق يضمن؛ لأن المانع من الضمان هو القطع, فإذا سقط القطع زال المانع فيضمن, والله تعالى أعلم. والثاني وجوب رد عين المسروق على صاحبه إذا كان قائما بعينه, وجملة الكلام فيه: أن المسروق في يد السارق لا يخلو إما أن كان على حاله لم يتغير, وإما أن أحدث السارق فيه حدثا, فإن كان على حاله رده على المالك؛ لما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: "على اليد ما أخذت حتى ترده". وروي أنه عليه الصلاة والسلام قال "من وجد عين ماله فهو أحق به". وروي "أنه عليه الصلاة والسلام رد رداء صفوان رضي الله عنه عليه, وقطع السارق فيه", وكذلك إن كان السارق قد ملك المسروق رجلا ببيع أو هبة, أو صدقة, أو تزوج امرأة عليه, أو كان السارق امرأته فاختلعت من نفسها به. وهو قائم في يد المالك فلصاحبه أن يأخذه؛ لأنه ملكه, إذ السرقة لا توجب زوال الملك عن العين المسروقة, فكان تمليك السارق باطلا, ويرجع المشتري على السارق بالثمن الذي اشتراه به؛ لما مر, فإن كان قد هلك في يدي القابض, وكان البيع قبل القطع, أو بعده فلا ضمان لا على السارق, ولا على القابض؛ لما بينا فيما تقدم, وإن أحدث السارق فيه حدثا لا يخلو إما أن أحدث حدثا أوجب النقصان, وإما إن أحدث حدثا أوجب الزيادة, فإن أحدث حدثا أوجب النقصان يقطع, وتسترد العين على المالك, وليس عليه ضمان النقصان؛ لأن نقصان المسروق هلاك بعضه, ولو هلك كله يقطع, ولا ضمان عليه كذا إذا هلك البعض, ويرد العين؛ لأن القطع لا يمنع الرد. ألا ترى أنه لا يمنع رد الكل فكذا البعض, وإن أحدث حدثا أوجب الزيادة فالأصل في هذا أن السارق إذا أحدث في المسروق حدثا لو أحدثه الغاصب في المغصوب لا يقطع حق المالك, ينقطع حق المسروق منه, وإلا فلا, إلا أن في باب الغصب يضمن الغاصب للمالك مثل المغصوب, أو قيمته, وههنا لا يضمن السارق لمانع وهو القطع, إذا عرف هذا فنقول: السارق إذا قطع الثوب المسروق, وخاطه قميصا؛ انقطع حق المالك؛ لأنه لو فعله الغاصب لانقطع حق المغصوب منه كذا إذا فعله السارق, ولا

 

ج / 7 ص -90-         ضمان على السارق؛ لما بينا ولو صبغه أحمر أو أصفر فكذلك لا سبيل للمالك على العين المسروقة في قول أبي حنيفة رحمه الله وفي قولهما يأخذ المالك الثوب, ويعطيه ما زاد الصبغ فيه. "وجه" قولهما: أنه لو وجد هذا من الغاصب لخير المالك بين أن يضمن الغاصب قيمة الثوب, وبين أن يأخذ الثوب, ويعطيه ما زاد الصبغ فيه, إلا أن التضمين ههنا متعذر لضرورة القطع فتعين الوجه الآخر وهو: أن يأخذ الثوب, ويعطيه ما زاد الصبغ فيه إذ الغصب, والسرقة لا يختلفان في هذا الباب إلا في الضمان, ولأبي حنيفة الفرق بين الغصب, والسرقة ههنا وهو: أن حق المغصوب منه إنما لم ينقطع عن الثوب بالصبغ؛ لأن أصل الثوب ملكه, وهو متقوم, وللغاصب فيه حق متقوم أيضا, إلا أنا أثبتنا الخيار للمالك لا للغاصب؛ لأن المالك صاحب أصل, والغاصب صاحب وصف, وههنا حق السارق في الصبغ متقوم, وحق المالك في أصل الثوب ليس بمتقوم في حق السارق لأجل القطع. ألا ترى أنه لو أتلفه السارق لا ضمان عليه, فاعتبر حق السارق, وجعل حق المالك في الأصل تبعا لحقه في الوصف, وتعذر تضمينه لضرورة القطع فيكون له مجانا, ولكن لا يحل له أن ينتفع بهذا الثوب بوجه من الوجوه كذا قال أبو حنيفة رحمه الله؛ لأن الثوب على ملك المسروق منه إلا أنه تعذر رده, وتضمينه في الحكم, والقضاء, فما لم يملكه السارق لا يحل له الانتفاع به؛ لأنه ملكه بوجه محظور من غير بدل لتعذر إيجاب الضمان؛ فلا يباح له الانتفاع به, ويجوز أن يصير مال إنسان في يد غيره على وجه يخرج من أن يكون واجب الرد, والضمان إليه من طريق الحكم والقضاء, لكن لا يحل له الانتفاع به فيما بينه, وبين الله تبارك وتعالى كالمسلم إذا دخل دار الحرب بأمان فأخذ شيئا من أموالهم لا يحكم عليه بالرد, ويلزمه ذلك فيما بينه, وبين الله جل جلاله. وكذلك الباغي إذا أتلف مال العادل, ثم تاب لا يحكم عليه بالضمان, ويفتى به فيما بينه, وبين الله تبارك وتعالى وكذلك الحربي إذا أتلف شيئا من مالنا, ثم أسلم لا يحكم عليه بالرد, ويفتى بذلك فيما بينه, وبين الله جلت عظمته وكذلك السارق إذا استهلك المسروق لا يقضى عليه بالضمان, ولكن يفتى به فيما بينه, وبين الله تعالى, وكذا قاطع الطريق إذا قتل إنسانا بعصا ثم جاء تائبا بطل عنه الحد, ويؤمر بأداء الدية إلى ولي القتيل, ولو قتل حربي مسلما بعصا, ثم أسلم لا يفتى بدفع الدية إلى الولي, بخلاف الباغي, وقاطع الطريق, والفرق أن القتل من الحربي لم يقع سببا لوجوب الضمان؛ لأن عصمة المقتول لم تظهر في حقه, فلا يجب بالإسلام؛ لأنه يجب ما قبله. وقال الله تعالى {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ}, بخلاف قاطع الطريق؛ لأن فعله, وقع سببا لوجوب الضمان إلا أنه لا يحكم بالضمان لمانع, وهو ضرورة إقامة الحد, إلا أن الحد إذا لم يجب لشبهة يحكم بالضمان فيظهر أثر المانع في الحكم, والقضاء لا في الفتوى, وكذا فعل الباغي, وقع سببا لوجوب الضمان لكن لم يحكم بالوجوب لمانع, وهو عدم الفائدة لقيام المنعة, وهذا المانع يخص الحكم, والقضاء, فكان الوجوب ثابتا عند الله سبحانه وتعالى فيقضى به, وعلى هذا يخرج ما إذا سرق نقرة فضة فضربها دراهم أنه يقطع, والدراهم ترد على صاحبها في قول أبي حنيفة. وعندهما ينقطع حق المالك عن الدراهم؛ بناء على أن هذا الصنع لا يقطع حق المالك في باب الغصب عنده, وعندهما ينقطع, ولو سرق حديدا, أو صفرا, أو نحاسا, أو ما أشبه ذلك فضربها أواني ينظر إن كان بعد الصناعة, والضرب تباع وزنا فهو على الاختلاف الذي ذكرنا, وإن كانت تباع عددا فيقطع حق المالك بالإجماع كما في الغصب وعلى هذا إذا سرق حنطة فطحنها, وغير ذلك من هذا الجنس, وسنذكر جملة ذلك في كتاب الغصب إن شاء الله تعالى, والله أعلم بالصواب.