بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب قطاع الطريق"
الكلام في هذا الكتاب على نحو الكلام في كتاب السرقة, وذلك في أربعة مواضع: في بيان ركن قطع الطريق, وفي بيان شرائط الركن, وفي بيان ما يظهر به قطع الطريق عند القاضي, وفي بيان حكم قطع الطريق
"فصل": أما ركنه فهو الخروج على المارة لأخذ المال على سبيل المغالبة على وجه يمتنع المارة عن المرور, وينقطع الطريق سواء كان القطع من جماعة, أو من واحد بعد أن يكون له قوة القطع, وسواء كان القطع بسلاح أو غيره من العصا

 

ج / 7 ص -91-         والحجر, والخشب, ونحوها؛ لأن انقطاع الطريق يحصل بكل من ذلك, وسواء كان بمباشرة الكل, أو التسبيب من البعض بالإعانة, والأخذ؛ لأن القطع يحصل بالكل كما في السرقة؛ ولأن هذا من عادة القطاع أعني: المباشرة من البعض, والإعانة من البعض بالتسمير للدفع, فلو لم يلحق التسبب بالمباشرة في سبب وجوب الحد؛ لأدى ذلك إلى انفتاح باب قطع الطريق, وانسداد حكمه, وأنه قبيح؛ ولهذا ألحق التسبب بالمباشرة في السرقة كذا ههنا.

"فصل": وأما الشرائط فأنواع: بعضها يرجع إلى القاطع خاصة, وبعضها يرجع إلى المقطوع عليه خاصة, وبعضها يرجع إليهما جميعا, وبعضها يرجع إلى المقطوع له, وبعضها يرجع إلى المقطوع فيه. "أما" الذي يرجع إلى القاطع خاصة فأنواع: "منها" أن يكون عاقلا. "ومنها" أن يكون بالغا فإن كان صبيا, أو مجنونا فلا حد عليهما؛ لأن الحد عقوبة فيستدعي جناية, وفعل الصبي, والمجنون لا يوصف بكونه جناية؛ ولهذا لم يتعلق به القطع في السرقة كذا هذا ولو كان في القطاع صبي, أو مجنون فلا حد على أحد في قولهما, وقال أبو يوسف رحمه الله: إن كان الصبي هو الذي يلي القطع فكذلك, وإن كان غيره؛ حد العقلاء البالغين, قد ذكرنا المسألة في كتاب السرقة. "ومنها" الذكورة في ظاهر الرواية حتى لو كانت في القطاع امرأة فوليت القتال, وأخذ المال دون الرجال لا يقام الحد عليها في الرواية المشهورة, وذكر الطحاوي رحمه الله وقال: النساء, والرجال في قطع الطريق سواء, وعلى قياس قوله تعالى يقام الحد عليها, وعلى الرجال. "وجه" ما ذكره الطحاوي: أن هذا حد يستوي في وجوبه الذكر, والأنثى كسائر الحدود؛ ولأن الحد إن كان هو القطع فلا يشترط في وجوبه الذكورة, والأنوثة كسائر الحدود, فلا يشترط في وجوبه الذكورة كحد السرقة, وإن كان هو القتل فكذلك كحد الزنا, وهو الرجم إذا كانت محصنة. "وجه" الرواية المشهورة: أن ركن القطع, وهو الخروج على المارة على وجه المحاربة, والمغالبة لا يتحقق من النساء عادة لرقة قلوبهن, وضعف بنيتهن, فلا يكن من أهل الحراب؛ ولهذا لا يقتلن في دار الحرب, بخلاف السرقة؛ لأنها أخذ المال على وجه الاستخفاء, ومسارقة الأعين, والأنوثة لا تمنع من ذلك, وكذا أسباب سائر الحدود تتحقق من النساء كما تتحقق من الرجال. "وأما" الرجال الذين معها فلا يقام عليهم الحد في قول أبي حنيفة, ومحمد رحمهما الله سواء باشروا معها, أو لم يباشروا فرق أبو يوسف بين الصبي, وبين المرأة حيث قال: إذا باشر الصبي لا حد على من لم يباشر من العقلاء البالغين, وإذا باشرت المرأة تحد الرجال. "ووجه" الفرق: له أن امتناع الوجوب على المرأة ليس لعدم الأهلية؛ لأنها من أهل التكليف, ألا ترى أنه تتعلق سائر الحدود بفعلها, بل لعدم المحاربة منها أو نقصانها عادة, وهذا لم يوجد في الرجال فلا يمتنع وجوب الحد عليهم, وامتناع الوجوب على الصبي لعدم أهلية الوجوب؛ لأنه ليس من أهل الإيجاب عليه؛ ولهذا لم يجب عليه سائر الحدود فإذا انتفى الوجوب عليه, وهو أصل امتنع التبع ضرورة. "وجه" قولهما: أن سبب الوجوب شيء, واحد, وهو قطع الطريق, وقد حصل ممن يجب عليه, وممن لا يجب عليه فلا يجب أصلا كما إذا كان فيهم صبي, أو مجنون, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الحرية فليست بشرط لعموم قوله تبارك, وتعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} الآية من غير فصل بين الحر والعبد؛ ولأن الركن, وهو قطع الطريق يتحقق من العبد حسب تحققه من الحر؛ فيلزمه حكمه كما يلزم الحر, وكذلك الإسلام؛ لما قلنا, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقطوع عليه خاصة فنوعان: أحدهما: أن يكون مسلما, أو ذميا فإن كان حربيا مستأمنا لا حد على القاطع؛ لأن مال الحربي المستأمن ليس بمعصوم مطلقا, بل في عصمته شبهة العدم؛ لأنه من أهل دار الحرب, وإنما العصمة بعارض الأمان مؤقتة إلى غاية العود إلى دار الحرب, فكان في عصمته شبهة الإباحة فلا يتعلق الحد بالقطع عليه, كما لا يتعلق بسرقة ماله, بخلاف الذمي؛ لأن عقد الذمة أفاد له عصمة ماله على التأبيد؛ فتعلق الحد بأخذه كما يتعلق بسرقته والثاني: أن تكون يده صحيحة بأن كانت يد ملك, أو يد أمانة, أو يد ضمان, فإن لم تكن صحيحة كيد السارق لا حد على القاطع كما لا حد على السارق على ما مر في كتاب السرقة, والله تعالى أعلم.

 

ج / 7 ص -92-         فإن كان لا يجب الحد؛ لأن بينهما تبسطا في المال, والحرز؛ لوجود الإذن بالتناول عادة فقد أخذ مالا لم يحرزه عنه الحرز المبني في الحضر, ولا السلطان الجاري في السفر فأورث ذلك شبهة في الأجانب لاتحاد السبب, وهو قطع الطريق, وكان الجصاص يقول: جواب الكتاب محمول على ما إذا كان المأخوذ مشتركا بين المقطوع عليهم, وفي القطاع من هو ذو رحم محرم من أحدهم, فأما إذا كان لكل واحد منهم مال مفرز يجب الحد على الباقين, وجواب الكتاب مطلق عن هذا التفصيل, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقطوع له فما ذكر في كتاب السرقة, وهو أن يكون المأخوذ مالا متقوما معصوما ليس فيه لأحد حق الأخذ, ولا تأويل التناول, ولا تهمة التناول مملوكا لا ملك فيه للقاطع, ولا تأويل الملك, ولا شبهة الملك محرزا مطلقا بالحافظ ليس فيه شبهة العدم نصابا كاملا: عشرة دراهم, أو مقدرا بها حتى لو كان المال المأخوذ لا يصيب كل واحد من القطاع عشرة لا حد عليهم, قد ذكرنا دلائل هذه الشرائط, والمسائل التي تخرج عليها في كتاب السرقة, وشرط الحسن بن زياد في نصاب قطع الطريق أن يكون عشرين درهما فصاعدا, وقال عيسى بن زياد: إن قتلوا قتلوا, وإن كان ما أخذ كل واحد منهم أقل من عشرة. "وجه" قول الحسن: أن الشرع قدر نصاب السرقة بعشرة, والواجب فيها قطع طرف الواحد, وههنا يقطع طرفان فيشترط نصابان, وذلك عشرون. "وجه" قول عيسى رحمه الله: أنا أجمعنا على أنهم لو قتلوا, ولم يأخذوا المال أصلا قتلوا, فإذا أخذوا شيئا من المال, وإن قل أولى أن يقتلوا. "ولنا" الفرق بين النوعين, وهو أنهم لما قتلوا, ولم يأخذوا المال أصلا علم أن مقصودهم القتل لا المال, والقتل جناية متكاملة في نفسها فيجازى بعقوبة متكاملة, وهي القتل, ولما أخذوا المال, وقتلوا دل أن مقصودهم المال, وإنما قتلوا ليتمكنوا من أخذ المال, وأخذ المال لا يتكامل جناية إلا إذا كان المأخوذ نصابا كما في السرقة, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما الذي يرجع إلى المقطوع فيه, وهو المكان فنوعان: أحدهما: أن يكون قطع الطريق في دار الإسلام, فإن كان في دار الحرب لا يجب الحد؛ لأن المتولي لإقامة الحد هو الإمام, وليس له ولاية في دار الحرب فلا يقدر على الإقامة فالسبب حين وجوده لم ينعقد سببا للوجوب؛ لعدم الولاية فلا يستوفيه في دار الإسلام؛ ولهذا لا يستوفي سائر الحدود في دار الإسلام إذا وجد أسبابها في دار الحرب كذا هذا والثاني: أن يكون في غير مصر فإن كان في مصر لا يجب الحد, سواء كان القطع نهارا, أو ليلا, وسواء كان بسلاح, أو غيره, وهذا استحسان, وهو قولهما, والقياس أن يجب, وهو قول أبي يوسف. "وجه" القياس: أن سبب الوجوب قد تحقق, وهو قطع الطريق فيجب الحد كما لو كان في غير مصر. "وجه" الاستحسان: أن القطع لا يحصل بدون الانقطاع, والطريق لا ينقطع في الأمصار, وفيما بين القرى؛ لأن المارة لا تمتنع عن المرور عادة فلم يوجد السبب, وقيل: إنما أجاب أبو حنيفة عليه الرحمة على ما شاهده في زمانه؛ لأن أهل الأمصار كانوا يحملون السلاح فالقطاع ما كانوا يتمكنون من مغالبتهم في المصر, والآن ترك الناس هذه العادة؛ فتمكنهم المغالبة فيجري عليهم الحد, وعلى هذا قال أبو حنيفة رحمه الله فيمن قطع الطريق بين الحيرة, والكوفة: إنه لا يجري عليه الحد؛ لأن الغوث كان يلحق هذا الموضع في زمانه؛ لاتصاله بالمصر, والآن صار ملتحقا بالبرية فلا يلحق الغوث؛ فيتحقق قطع الطريق. والثالث: أن يكون بينهم, وبين المصر مسيرة سفر, فإن كان أقل من ذلك لم يكونوا قطاع الطريق, وهذا على قولهما, فأما على قول أبي يوسف فليس بشرط, ويكونون قطاع الطريق, والوجه ما بينا فيجب الحد. وروي عن أبي يوسف في قطاع الطريق في المصر إن قاتلوا نهارا بسلاح يقام عليهم الحد, وإن خرجوا بخشب لهم لم يقم عليهم؛ لأن السلاح لا يلبث فلا يلحق الغوث, والخشب يلبث فالغوث يلحق, وإن قاتلوا ليلا بسلاح, أو بخشب يقام عليهم الحد؛ لأن الغوث قلما يلحق بالليل؛ فيستوي فيه السلاح, وغيره, والله سبحانه, وتعالى أعلم. ولو أشهر على رجل سلاحا نهارا أو ليلا في غير مصر, أو في مصر فقتله المشهور عليه عمدا فلا شيء عليه, وكذلك إن شهر عليه عصا ليلا في غير مصر, أو في مصر, وإن كان نهارا في مصر فقتله المشهور عليه يقتل به, والأصل في هذا أن من قصد قتل

 

ج / 7 ص -93-         إنسان لا ينهدر دمه, ولكن ينظر إن كان المشهور عليه يمكنه دفعه عن نفسه بدون القتل لا يباح له القتل, وإن كان لا يمكنه الدفع إلا بالقتل يباح له القتل؛ لأنه من ضرورات الدفع, فإن شهر عليه سيفه يباح له أن يقتله؛ لأنه لا يقدر على الدفع إلا بالقتل ألا ترى أنه لو استغاث الناس لقتله قبل أن يلحقه الغوث إذ السلاح لا يلبث, فكان القتل من ضرورات الدفع؛ فيباح قتله فإذا قتله فقد قتل شخصا مباح الدم فلا شيء عليه. وكذا إذا أشهر عليه العصا ليلا؛ لأن الغوث لا يلحق بالليل عادة سواء كان في المفازة, أو في المصر, وإن أشهر عليه نهارا في المصر لا يباح قتله؛ لأنه يمكنه دفع شره بالاستغاثة بالناس, وإن كان في المفازة يباح قتله؛ لأنه لا يمكنه الاستغاثة فلا يندفع شره إلا بالقتل؛ فيباح له القتل, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما أنه لو قصد قتله بما لو قتله به لوجب عليه القصاص فقتله المقصود قتله لا يجب عليه القصاص؛ لأنه يباح قتله إذ لو لم يبح لقتله القاصد. وإذا قتله يقتل به قصاصا, فكان فيه إتلاف نفسين, فإذا أبيح قتله كان فيه إتلاف أحدهما, فكان أهون ولو قصد قتله بما لو قتله به لكان لا يجب القصاص لا يباح للمقصود قتله أن يقتل القاصد فإن قتله يجب عليه القصاص؛ لأنه ليس في ترك الإباحة ههنا إتلاف نفس فلا يباح, فإذا قتله فقد قتل شخصا معصوم الدم على الأبد فيجب القصاص, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يظهر به القطع عند القاضي: فالذي يظهر به البينة أو الإقرار عقيب خصومة صحيحة, ولا يظهر بعلم القاضي على ما ذكرنا في كتاب السرقة, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم قطع الطريق فله حكمان: أحدهما: يتعلق بالنفس, والآخر يتعلق بالمال: أما الذي يتعلق بالنفس فهو وجوب الحد, والكلام في هذا الحكم في مواضع: في بيان أصل هذا الحكم, وفي بيان صفاته, وفي بيان محل إقامته, وفي بيان من يقيمه, وفي بيان ما يسقطه بعد الوجوب, وفي بيان حكم السقوط بعد الوجوب, أو عدم الثبوت لمانع: أما أصل الحكم الذي يتعلق بالنفس فلن يمكن الوصول إلى معرفته إلا بعد معرفة أنواع قطع الطريق؛ لأنه يختلف باختلاف أنواعه فنقول وبالله التوفيق: قطع الطريق أربعة أنواع:. إما أن يكون بأخذ المال لا غير, وإما أن يكون بالقتل لا غير, وإما أن يكون بهما جميعا, وإما أن يكون بالتخويف من غير أخذ, ولا قتل, فمن أخذ المال, ولم يقتل قطعت يده, ورجله من خلاف, ومن قتل, ولم يأخذ المال قتل, ومن أخذ المال, وقتل قال أبو حنيفة رضي الله عنه: الإمام بالخيار إن شاء قطع يده, ورجله, ثم قتله أو صلبه, وإن شاء لم يقطه, وقتله أو صلبه, وقيل: إن تفسير الجمع بين القطع والقتل عند أبي حنيفة رحمه الله هو: أن يقطعه الإمام, ولا يحسم موضع القطع, بل يتركه حتى يموت, وعندهما يقتل, ولا يقطع, ومن أخاف, ولم يأخذ مالا, ولا قتل نفسا ينفى, وقال مالك رحمه الله في قاطع الطريق: مخير بين الأجزية المذكورة. والأصل فيه قوله عز وجل {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} احتج مالك رحمه الله بظاهر الآية, وهو أن الله تبارك وتعالى ذكر الأجزية فيها بحرف, أو, وأنها للتخيير كما في كفارة اليمين, وكفارة جزاء الصيد؛ فيجب العمل بحقيقة هذا الحرف إلا حيث قام الدليل, بخلافها. "ولنا" أنه لا يمكن إجراء الآية على ظاهر التخيير في مطلق المحارب؛ لأن الجزاء على قدر الجناية يزداد بزيادة الجناية, وينتقص بنقصانها هذا هو مقتضى العقل, والسمع أيضا قال الله تبارك وتعالى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} فالتخيير في الجناية القاصرة بالجزاء في الجزاء الذي هو جزاء في الجناية الكاملة, وفي الجناية الكاملة بالجزاء الذي هو جزاء في الجناية القاصرة خلاف المشروع يحققه أن الأمة اجتمعت على أن القطاع لو أخذوا المال, وقتلوا لا يجازون بالنفي وحده. وإن كان ظاهر الآية يقتضي التخيير بين الأجزية الأربع دل أنه لا يمكن العمل بظاهر التخيير على أن التخيير الوارد في الأحكام المختلفة من حيث الصورة بحرف التخيير إنما يجري على ظاهره إذا كان سبب الوجوب واحدا, كما في كفارة اليمين, وكفارة جزاء الصيد, أما إذا كان مختلفا فيخرج مخرج بيان الحكم لكل في نفسه كما في قوله تعالى {قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً} إن ذلك ليس للتخيير بين المذكورين, بل لبيان

 

ج / 7 ص -94-         الحكم لكل في نفسه؛ لاختلاف سبب الوجوب, وتأويله إما أن تعذب من ظلم أو تتخذ الحسن فيمن آمن, وعمل صالحا. ألا ترى إلى قوله {أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ} الآية {وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى} الآية, وقطع الطريق متنوع في نفسه, وإن كان متحدا من حيث الذات قد يكون بأخذ المال وحده, وقد يكون بالقتل لا غير, وقد يكون بالجمع بين الأمرين, قد يكون بالتخويف لا غير, فكان سبب الوجوب مختلفا فلا يحمل على التخيير, بل على بيان الحكم لكل نوع, أو يحتمل هذا, ويحتمل ما ذكرتم فلا يكون حجة مع الاحتمال. وإذا لم يمكن صرفت الآية الشريفة إلى ظاهر التخيير في مطلق المحارب فإما أن يحمل على الترتيب, ويضمر في كل حكم مذكور نوع من أنواع قطع الطريق كأنه قال سبحانه وتعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا} إن أخذوا المال, وقتلوا {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ} إن أخذوا المال لا غير {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} إن أخافوا هكذا "ذكر سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما قطع أبو بردة رضي الله عنه بأصحابه الطريق على أناس جاءوا يريدون الإسلام أن من قتل قتل, ومن أخذ المال ولم يقتل قطعت يده ورجله من خلاف ومن قتل وأخذ المال صلب, ومن جاء مسلما هدم الإسلام ما كان قبله من الشرك", وإلى هذا التأويل يذهب عبد الله بن عباس رضي الله عنهما, وإبراهيم النخعي, وإما أن يعمل بظاهر التخيير بين الأجزية الثلاثة, لكن في محارب خاص, وهو الذي أخذ المال, وقتل, فكان العمل بظاهر التخيير على هذا الوجه أقرب من ظاهر الآية؛ لأن الله تبارك وتعالى جمع بين القتل, وقطع الطريق في الذكر بقوله تبارك وتعالى {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَاداً} فالمحاربة هي القتل, والفساد في الأرض هو قطع الطريق فأوجب سبحانه وتعالى أحد الأجزية من الفعلين بما ذكر, وفيه عمل بحقيقة حرف التخيير, وعمل بحقيقة ما أضيف إليه الجزاء. وهو ما ذكر سبحانه وتعالى من المحاربة, والسعي في الأرض بالفساد, فكان أقرب إلى ظاهر الآية, إلى هذا التأويل يذهب الحسن, وابن المسيب, ومجاهد, وغيرهم رضي الله عنهم, ثم أبو يوسف, ومحمد رحمهما الله أخذا بالتأويل الأول, وهو تأويل الترتيب في المحارب إذا أخذ المال, وقيل: إنه يقتل لا غير؛ لأن سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام ذكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم على ما مر, وحد قطاع الطريق لم يعرف إلا بهذا النص, ولأن أخذ المال, والقتل جناية واحدة, وهي جناية قطع الطريق فلا يقابل إلا بعقوبة واحدة, والقتل, والقطع عقوبتان على أنهما إن كانتا جنايتين يجب بكل واحدة منهما جزاء عند الانفراد حقا لله تعالى لكنهما إذا اجتمعا يدخل ما دون النفس في النفس كالسارق إذا زنى, وهو محصن. وكمن زنى وهو غير محصن ثم أحصن فزنى: أنه لا يرجم لا غير كذا ههنا؛ ولأنه لا فائدة في إقامة القطع؛ لأن ما هو المقصود من الحد وهو الزجر, وما هو غير مقصود به وهو التكفير يحصل بالقتل وحده فلا يفيد القطع, فلا يشرع, وأبو حنيفة رحمه الله أخذ بالتأويل الثاني, وهو التخيير بين الأجزية الثلاثة في المحارب الذي جمع بين أخذ المال, والقتل, وهو أحق التأويلين للآية؛ لما ذكرنا أن فيه عملا بحقيقة حرف التخيير, وبحقيقة ما أضيف إليه الجزاء, وهو المحاربة, والسعي في الأرض بالفساد, فكان أقرب إلى ظاهر الآية, وإنما عرفنا حكم أخذ المال وحده, وحكم القتل وحده لا بهذه الآية الشريفة, ولكن بحديث سيدنا جبريل عليه الصلاة والسلام أو غيره, أو بالاستدلال بحالة الاجتماع. وهو أنه لما وجب الجمع بين الموجبين عند وجود القطعين؛ يجب القبول بإفراد كل واحد منهما عند الانفراد, ويمكن أن يقال: إنه يقول في تأويل الآية الكريمة بالترتيب فيوجب الصلب بظاهر الآية الشريفة, والقطع بالاستدلال بحالة الانفراد أنه يجب على كل واحد منهما, فعند الاجتماع يجب أن يجمع إلا أن في بعض المواضع قام دليل إسقاط الأخف, ولم يقم ههنا, بل قام دليل الوجوب؛ لأن مبنى هذا الباب على التغليظ ألا ترى أنه يجمع بين قطع اليد, والرجل في أخذ المال, ولا يجمع بينهما في أخذ المال في المصر, وكذلك يصلب في القتل وحده ههنا, ولم يجب أن يصلب في غيره من القتل في المصر فكذا جاز أن يجمع بين الموجبين عند مباشرة النوعين ههنا دون سائر المواضع, والله سبحانه

 

ج / 7 ص -95-         وتعالى أعلم. وأما كيفية الصلب فقد روي عن أبي يوسف رحمه الله أنه يصلب حيا, ثم يطعن برمح حتى يموت, وكذا ذكر الكرخي, وعن أبي عبيد أنه يقتل, ثم يصلب, وكذا ذكر الطحاوي رحمه الله أن الصلب حيا من باب المثلة, قد "نهى النبي عليه الصلاة والسلام عن المثلة", والصحيح هو الأول؛ لأن الصلب في هذا الباب شرع لزيادة في العقوبة تغليظا, والميت ليس من أهل العقوبة؛ ولأنه لو جاز أن يقال: يصلب بعد الموت؛ لجاز أن يقال: تقطع يده, ورجله من خلاف بعد الموت, وذلك بعيد فكذا هذا. والمراد من المثلة في الحديث قطع بعض الجوارح كذا قاله محمد رحمه الله وقيل: إذا صلبه الإمام تركه ثلاثة أيام عبرة للخلق, ثم يخلي بينه, وبين أهله؛ لأنه بعد الثلاث يتغير؛ فيتضرر به الناس. وأما النفي في قوله تبارك وتعالى {أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} فقد اختلف أهل التأويل فيه قال بعضهم: المراد منه, وينفوا من الأرض بحذف الألف, ومعناه: وينفوا من الأرض بالقتل, والصلب إذا هو النفي من وجه الأرض حقيقة, وهذا على قول من تأول الآية الشريفة في المحارب الذي أخذ المال, وقيل: إن الإمام يكون مخيرا بين الأجزية الثلاثة, والنفي من الأرض ليس غير واحد من هذه الثلاثة في التخيير؛ لأن بالقتل, والصلب يحصل النفي فكذا لا يجوز أن يجعل النفي مشاركا الأجزية الثلاثة في التخيير؛ لأنه لا يزاحم القتل؛ لأنه دونه بكثير, وقيل: نفيه أن يطرد حتى يخرج من دار الإسلام, وهو قول الحسن. وعن إبراهيم النخعي رحمه الله في رواية أن نفيه طلبه وبه قال الشافعي رحمه الله: إنه يطلب في كل بلد, والقولان لا يصحان؛ لأنه إن طلب في البلد الذي قطع الطريق, ونفي عنه فقد ألقى ضرره إلى بلد آخر, وإن طلب من كل بلد من بلاد الإسلام, ونفي عنه يدخل دار الحرب, وفيه تعريض له على الكفر, وجعله حربا لنا, وهذا لا يجوز, وعن النخعي رحمه الله في رواية أخرى أنه يحبس حتى يحدث توبة, وفيه نفي عن وجه الأرض مع قيام الحياة إلا عن الموضع الذي حبس فيه, ومثل هذا في عرف الناس يسمى نفيا عن وجه الأرض, وخروجا عن الدنيا كما أنشد لبعض المحبوسين

خرجنا من الدنيا ونحن من أهلها                 فلسنا من الأحياء فيها ولا الموتى

إذا جاءنا السجان يوما لحاجة                    عجبنا وقلنا جاء هذا من الدنيا.

"فصل": وأما صفات هذا الحكم فأنواع: منها أنه ينفي وجوب ضمان المال, والجراحات عمدا كانت الجراحة, أو خطأ, أما المال؛ فلأنه لا يجمع بين الحد, والضمان عندنا. وأما الجراحات إذا كانت خطأ؛ فلأنها توجب الضمان وإن كانت عمدا؛ فلأن الجناية فيما دون النفس يسلك بها مسلك الأموال, ولا يجب ضمان المال فكذا ضمان الجراحات, قد ذكرنا ما يتعلق من المسائل بهذا الأصل في كتاب السرقة ومنها أن يجري فيها التداخل حتى لو قطع قطعات فرفع في بعضها فقطعت يده, ورجله فيما رفع فيه كان ذلك للقطعات كلها كما في السرقة إلا أن ثمة التداخل لاحتمال عدم الفائدة مع بقاء محل القطع, وهو الرجل اليسرى, وههنا التداخل لعدم المحل. والكلام في الضمان فيما لم يخاصم فيه ما هو الكلام في السرقة أنه إذا كان المال قائما يرده, وإن كان هالكا فعلى الاختلاف الذي ذكرنا في كتاب السرقة, ومنها أنه لا يحتمل العفو, والإسقاط, والإبراء, والصلح عنه فكل ما وجب على قاطع الطريق من قتل, أو قطع, أو صلب يستوفى منه, سواء عفا الأولياء, وأرباب الأموال عن ذلك, أو لم يعفو أو سواء أبرءوا منه, أو صالحوا عليه, وليس للإمام أيضا إذا ثبت ذلك عنده تركه, وإسقاطه, والعفو عنه؛ لأن الواجب حد, والحدود حقوق الله تبارك وتعالى فلا يعمل فيها العبد, ولا صلحه, ولا الإبراء عنها.

"فصل": وأما محل إقامة هذا الحكم فنقول: محل إقامة هذا الحكم يختلف باختلاف الحكم, فإن كان الحكم هو القتل بأن قتل, أو أخذ المال, وقتل, أو الحبس بأن لم يأخذ المال, ولم يقتل, ولكنه خوف لا غير فمحل إقامته النفس, وإن كان الحكم هو القطع بأن أخذ المال لا غير فمحل إقامته اليد اليمنى, والرجل اليسرى؛ لقوله تبارك وتعالى {أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ}, ويعتبر في ذلك سلامة اليد اليسرى, والرجل اليمنى على ما ذكرنا في كتاب السرقة, وكذلك حكم فعل الحداد إذا قطع اليد اليسرى مكان اليمنى متعمدا, أو مخطئا, وحكم فعل الأجنبي إذا قطع اليد اليسرى خطأ أو عمدا ههنا

 

ج / 7 ص -96-         مثل الحكم في السرقة, قد استوفينا الكلام فيه في كتاب السرقة, وكذا محل القطع من اليد اليمنى هو المفصل كما في السرقة, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان من يقيم هذا الحكم فالذي يقيمه الإمام, أو من ولاه الإمام الإقامة, ليس إلى الأولياء, ولا إلى أرباب الأموال شيء, بل يقيمه الإمام طالب الأولياء, وأرباب الأموال بالإقامة, أو لم يطالبوا, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله: المولى يملك إقامة الحد على مملوكه من غير تولية الإمام, والكلام في هذا الفصل على الاستقصاء ذكرناه في كتاب الحدود.

"فصل": وأما بيان ما يسقط هذا الحكم بعد وجوبه فالمسقط له بعد الوجوب أشياء ذكرناها في كتاب السرقة: "منها" تكذيب المقطوع عليه القاطع في إقراره بقطع الطريق أنه لم يقطع عليه الطريق. "ومنها" رجوع القاطع عن إقراره بقطع الطريق. "ومنها" تكذيب المقطوع عليه البينة. "ومنها" ملك القاطع المقطوع له, وهو المال قبل الترافع أو بعده على التفصيل على الاختلاف الذي ذكرناه في كتاب السرقة. "ومنها" توبة القاطع قبل أن يقدر عليه؛ لقوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي: رجعوا عما فعلوا فندموا على ذلك, وعزموا على أن لا يفعلوا مثله في المستقبل فدلت هذه الآية الشريفة على أن قاطع الطريق إذا تاب قبل أن يظفر به يسقط عنه الحد, وتوبته برد المال على صاحبه إن كان أخذ المال لا غير, مع العزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل. ويسقط عنه القطع أصلا, ويسقط عنه القتل حدا, وكذلك إن أخذ المال, وقتل حتى لم يكن للإمام أن يقتله, ولكن يدفعه إلى أولياء القتيل ليقتلوه قصاصا إن كان القتل بسلاح على ما نذكره إن شاء الله تعالى, وإن لم يأخذ المال, ولم يقتل فتوبته الندم على ما فعل, والعزم على ترك مثله في المستقبل, وهو أن يأتي الإمام عن طوع, واختيار, ويظهر التوبة عنده, ويسقط عنه الحبس؛ لأن الحبس للتوبة, وقد تاب فلا معنى للحبس, وكذلك السرقة الصغرى, إذا تاب السارق قبل أن يظفر به, ورد المال إلى صاحبه يسقط عنه القطع, بخلاف سائر الحدود أنها لا تسقط بالتوبة. والفرق أن الخصومة شرط في السرقة الصغرى والكبرى؛ لأن محل الجناية خالص حق العباد, والخصومة تنتهي بالتوبة, والتوبة تمامها برد المال إلى صاحبه, فإذا وصل المال إلى صاحبه لم يبق له حق الخصومة مع السارق, بخلاف سائر الحدود فإن الخصومة فيها ليست بشرط فعدمها لا يمنع من إقامة الحدود, وفي حد القذف إن كانت شرطا لكنها لا تبطل بالتوبة؛ لأن بطلانها برد المال إلى صاحبه, ولم يوجد, وقد روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه كتب إليه عامله بالبصرة أن حارثة بن زيد حارب الله, ورسوله, وسعى في الأرض فسادا فكتب إليه سيدنا علي رضي الله عنه أن حارثة قد تاب قبل أن تقدر عليه فلا تتعرض له إلا بخير هذا إذا تاب قاطع الطريق قبل القدرة عليه. فأما إذا تاب بعد ما قدر عليه بأن أخذ, ثم تاب لا يسقط عنه الحد؛ لأن التوبة عن السرقة إذا أخذ المال برد المال على صاحبه, وبعد الأخذ لا يكون رد المال, بل يكون استردادا منه جبرا فلا يسقط الحد, وإذا لم يأخذ المال فهو بعد الأخذ متهم في إظهار التوبة فلا تتحقق توبته, والله سبحانه وتعالى أعلم.