بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الإقرار"
الكلام في هذا الكتاب يقع في مواضع: في بيان ركن الإقرار وفي بيان الشرائط التي يصير الركن بها إقرارا شرعا وفي بيان ما يصدق المقر فيما ألحق بإقراره من القرائن ما لا يكون رجوعا حقيقة وما لا يصدق فيه مما يكون رجوعا عنه وفي بيان ما يبطل به الإقرار بعد وجوده. أما ركن الإقرار فنوعان: صريح ودلالة, فالصريح نحو أن يقول: لفلان علي ألف درهم؛ لأن كلمة علي كلمة إيجاب لغة وشرعا قال الله تبارك وتعالى
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} وكذا إذا قال

 

ج / 7 ص -208-       لرجل لي عليك ألف درهم فقال الرجل نعم؛ لأن كلمة نعم خرجت جوابا لكلامه, وجواب الكلام إعادة له لغة كأنه قال: لك علي ألف درهم وكذلك إذا قال: لفلان في ذمتي ألف درهم؛ لأن ما في الذمة هو الدين فيكون إقرارا بالدين ولو قال: لفلان قبلي ألف درهم, ذكر القدوري رحمه الله أنه إقرار بأمانة في يده وذكر الكرخي رحمه الله أنه يكون إقرارا بالدين وجه ما ذكره الكرخي أن القبالة هي الكفالة قال الله سبحانه وتعالى عز من قائل {وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلاً} أي كفيلا والكفالة هي الضمان قال الله تبارك وتعالى: {وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا} على قراءة التخفيف أي ضمن القيام بأمرها وجه ما ذكره القدوري رحمه الله أن القبالة تستعمل بمعنى الضمان وتستعمل بمعنى الأمانة فإن محمدا رحمه الله ذكر في الأصل أن من قال: لا حق لي على فلان يبرأ عن الدين, ومن قال: لا حق لي عند فلان أو معه يبرأ عن الأمانة. ولو قال: لا حق لي قبله يبرأ عن الدين والأمانة جميعا فكانت القبالة محتملة للضمان والأمانة, والضمان لم يعرف وجوبه فلا يجب بالاحتمال ولو قال له: في دراهمي هذه ألف درهم يكون إقرارا بالشركة ولو قال له: في مالي ألف درهم, ذكر في الأصل أن هذا إقرار له ولم يذكر أنه مضمون أو أمانة واختلف المشايخ فيه قال الجصاص رحمه الله إنه يكون إقرارا بالشركة له كما في الفصل الأول؛ لأنه جعل ماله ظرفا للمقر به وهو الألف فيقتضي الخلط وهو معنى الشركة. وقال بعضهم: إن كان ماله محصورا يكون إقرارا بالشركة, وإن لم يكن محصورا يكون إقرارا بالدين فظاهر إطلاق الكتاب يدل على الإقرار بالدين كيفما كان؛ لأن كلمة الظرف في مثل هذا تستعمل في الوجوب؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام "في الرقة ربع العشر وفي خمس من الإبل السائمة شاة وفي الركاز الخمس" ولو قال: له في مالي ألف درهم لا يكون إقرارا بل يكون هبة لأنه ليس فيه ما يدل على الوجوب في الذمة؛ لأن اللام المضاف إلى أهل الملك للتمليك, والتمليك بغير عوض هبة وإذا كان هبة فلا يملكها إلا بالقبول والتسليم. ولو قال: له في مالي ألف درهم لا حق له فيها فهو إقرار بالدين لأن الألف التي لا حق له فيها لا تكون دينا, إذ لو كانت هبة لكان له فيها حق ولو قال: له عندي ألف درهم فهو وديعة؛ لأن عندي لا تدل على الوجوب في الذمة بل هي كلمة حضرة وقرب ولا اختصاص لهذا المعنى بالوجوب في الذمة فلا يثبت الوجوب إلا بدليل زائد وكذلك لو قال: لفلان معي أو في منزلي أو في بيتي أو صندوقي ألف درهم فذلك كله وديعة؛ لأن هذه الألفاظ لا تدل إلا على قيام اليد على المذكور, وذا لا يقتضي الوجوب في الذمة لا محالة فلم يكن إقرارا بالدين فكانت وديعة؛ لأنها في متعارف الناس تستعمل في الودائع فعند الإطلاق تصرف إليها ولو قال: له عندي ألف درهم عارية, فهو قرض؛ لأن عندي تستعمل في الأمانات وقد فسر بالعارية, وعارية الدراهم والدنانير تكون قرضا إذ لا يمكن الانتفاع بها إلا باستهلاكها, وإعارة ما لا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاكه يكون قرضا في المتعارف, وكذلك هذا في كل ما يكال أو يوزن لتعذر الانتفاع بها بدون الاستهلاك, فكان الإقرار بإعارتها إقرارا بالقرض, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الدلالة فهي أن يقول له رجل: لي عليك ألف, فيقول: قد قضيتها؛ لأن القضاء اسم لتسليم مثل الواجب في الذمة فيقتضي سابقية الوجوب فكان الإقرار بالقضاء إقرارا بالوجوب ثم يدعي الخروج عنه بالقضاء فلا يصح إلا بالبينة وكذلك إذا قال له رجل: لي عليك ألف درهم فقال: اتزنها لأنه أضاف الاتزان إلى الألف المدعاة, والإنسان لا يأمر المدعي باتزان المدعى إلا بعد كونه واجبا عليه, فكان الأمر بالاتزان إقرارا بالدين دلالة. وكذلك إذا قال انتقدها لما قلنا ولو قال: أتزن أو أنتقد لم يكن إقرارا لأنه لم توجد الإضافة إلى المدعى فيحتمل الأمر باتزان شيء آخر فلا يحمل على الإقرار بالاحتمال وكذا إذا قال: أجلني بها؛ لأن التأجيل تأخير المطالبة مع قيام أصل الدين في الذمة كالدين المؤجل, والله تعالى أعلم ولو قال له رجل: لي عليك ألف درهم, فقال: حقا, يكون إقرارا؛ لأن معناه حققت فيما قلت لأن انتصاب المصدر لا بد له من إظهار صدره وهو الفعل ويحتمل أن يكون معناه: قل حقا أو الزم حقا, ولكن الأول أظهر وكذلك إذا قال: الحق؛ لأنه تعريف المصدر وهو قوله حقا وكذلك لو قال: صدقا, أو الصدق, أو يقينا, أو اليقين لما قلنا ولو قال: برا, أو البر لا يكون إقرارا؛ لأن لفظة البر مشترك, تذكر على إرادة الصدق وتذكر على إرادة التقوى وتذكر على إرادة الخير فلا يحمل على الإقرار بالاحتمال وكذلك لو قال: صلاحا أو

 

ج / 7 ص -209-       الصلاح, لا يكون إقرارا لأن لفظة الصلاح لا تكون بمعنى التصديق والإقرار, فإنه لو صرح وقال له: صلحت, لا يكون تصديقا فيحمل على الأمر بالصلاح والاجتناب عن الكذب هذا إذا ذكر لفظة مفردة من هذه الألفاظ الخمسة فإن جمع بين لفظتين متجانستين أو مختلفتين فحكمه يعرف في إقرار الجامع إن شاء الله تعالى. ثم ركن الإقرار لا يخلو إما أن يكون مطلقا وإما أن يكون ملحقا بقرينة فالمطلق هو قوله: لفلان علي كذا, وما يجري مجراه خاليا عن القرائن "وأما" الملحق بالقرينة فبيانه يشتمل على فصل بيان ما يصدق للمقر فيما ألحق بإقراره من القرائن ما لا يكون رجوعا وما لا يصدق فيه مما يكون رجوعا, فنقول: القرينة في الأصل نوعان: قرينة مغيرة من حيث الظاهر مبنية على الحقيقة, وقرينة مبنية على الإطلاق. أما القرينة المغيرة من حيث الظاهر والمبنية على الحقيقة فهي المسقطة لاسم الجملة فيعتبر بها الاسم لكن يتبين بها المراد فكان تغييرا صورة تبيينا معنى "وأما" القرينة المغيرة فتتنوع ثلاثة أنواع: نوع يدخل في أصل الإقرار, ونوع يدخل على وصف المقر به, ونوع يدخل على قدره وكل ذلك قد يكون متصلا وقد يكون منفصلا "أما" الذي يدخل على أصل الإقرار فنحو التعليق بمشيئة الله تعالى متصلا باللفظ بأن قال: لفلان علي ألف درهم إن شاء الله تعالى, وهذا يمنع صحة الإقرار أصلا؛ لأن تعليق مشيئة الله تبارك وتعالى بكون الألف في الذمة أمرا لا يعرف فإن شاء كان وإن لم يشأ لم يكن, فلا يصح الإقرار مع الاحتمال, ولأن الإقرار إخبار عن كائن, والكائن لا يحتمل تعليق كونه بالمشيئة فإن الفاعل إذا قال: أنا فاعل إن شاء الله تعالى, يستحق؛ ولهذا أبطلنا القول بالاستثناء في الأيمان, والله تعالى أعلم بالصواب. وكذا إذا علقه بمشيئة فلان لا يصح الإقرار لما قلنا ولو أقر بشرط الخيار بطل الشرط وصح الإقرار لما ذكرنا أن الإقرار إخبار عن ثابت في الذمة, وشرط الخيار في معنى الرجوع, والإقرار في حقوق العباد لا يحتمل الرجوع "وأما" الذي يدخل على وصف المقر به فإن كان متصلا باللفظ بأن قال: لفلان علي ألف درهم وديعة, يصح ويكون إقرارا الوديعة وإن كان منفصلا عنه بأن سكت ثم قال: عنيت به الوديعة لا يصح ويكون إقرارا بالدين؛ لأن بيان المغير لا يصح إلا بشرط الوصل كالاستثناء؛ وهذا لأن قوله: لفلان علي ألف درهم إخبار عن وجوب الألف عليه من حيث الظاهر ألا ترى أنه لو سكت عليه لكان كذلك فإن قرن به قوله وديعة, وحكمها وجوب الحفظ, فقد غير حكم الظاهر من وجوب العين إلى وجوب الحفظ فكان بيان تغيير من حيث الظاهر فلا يصح إلا موصولا كالاستثناء. وإنما يصح موصولا؛ لأن قوله علي ألف درهم يحتمل وجوب الحفظ أي علي حفظ ألف درهم, وإن كان خلاف الظاهر فيصح بشرط الوصل ولو قال علي ألف درهم وديعة قرضا أو مضاربة قرضا أو بضاعة قرضا أو قال دينا مكان قوله قرضا فهو إقرار بالدين لأن الجمع بين اللفظين في معناهما ممكن لجواز أن يكون أمانة في الابتداء ثم يصير مضمونا في الانتهاء إذ الضمان قد يطرأ على الأمانة كالوديعة المستهلكة ونحوها, سواء وصل أو فصل؛ لأن الإنسان في الإقرار بالضمان على نفسه غير متهم. "وأما" الذي يدخل على قدر المقر به فنوعان: أحدهما الاستثناء والثاني الاستدراك. أما الاستثناء في الأصل فنوعان: أحدهما أن يكون المستثنى من جنس المستثنى منه والثاني أن يكون من خلاف جنسه وكل واحد منهما نوعان متصل ومنفصل فإن كان المستثنى من جنس المستثنى منه والاستثناء متصل فهو على ثلاثة أوجه: استثناء القليل من الكثير واستثناء الكثير من القليل واستثناء الكل من الكل أما استثناء القليل من الكثير فنحو أن يقول علي عشرة دراهم إلا ثلاثة دراهم, ولا خلاف في جوازه ويلزمه سبعة دراهم؛ لأن الاستثناء في الحقيقة تكلم بالباقي بعد الثنيا كأنه قال: لفلان علي سبعة دراهم إلا أن للسبعة اسمين: أحدهما سبعة, والآخر عشرة إلا ثلاثة؛ قال الله تبارك وتعالى {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَاماً} معناه أنه لبث فيهم تسعمائة وخمسين عاما وكذلك إذا قال: لفلان علي ألف درهم سوى ثلاثة دراهم؛ لأن سوى من ألفاظ الاستثناء. وكذا إذا قال: غير ثلاثة؛ لأن غير بالنصب للاستثناء, فإن قال: لفلان علي درهم غير دانق, يلزمه خمسة دوانق ولو قال: غير دانق بالرفع يلزمه درهم تام "وأما" استثناء الكثير من القليل بأن قال: لفلان علي تسعة دراهم إلا عشرة فجائز في ظاهر الرواية ويلزمه درهم

 

ج / 7 ص -210-       إلا ما روي عن أبي يوسف رحمه الله لا يصح وعليه العشرة, والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن المنقول عن أئمة اللغة رحمهم الله أن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا, وهذا المعنى كما يوجد في استثناء القليل من الكثير يوجد في استثناء الكثير من القليل إلا أن هذا النوع من الاستثناء غير مستحسن عند أهل اللغة؛ لأنهم إنما وضعوا الاستثناء لحاجتهم إلى استدراك الغلط, ومثل هذا الغلط مما يندر وقوعه غاية الندرة فلا حاجة إلى استدراكه لكن يحتمل الوقوع في الجملة فيصح "وأما" استثناء الكل من الكل بأن يقول: لفلان علي عشرة دراهم إلا عشرة دراهم فباطل وعليه عشرة كاملة لأن هذا ليس باستثناء إذ هو تكلم بالحاصل بعد الثنيا, ولا حاصل ههنا بعد الثنيا فلا يكون استثناء بل يكون إبطالا للكلام ورجوعا عما تكلم به والرجوع عن الإقرار في حق العباد لا يصح فبطل الرجوع وبقي الإقرار. ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما زائفا, لا يصح الاستثناء عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه عشرة جياد وقال أبو يوسف يصح وعليه عشرة جياد للمقر له وعلى المقر له درهم زائف للمقر بناء على أن الأصل عند أبي حنيفة رحمه الله أن المقاصة لا تقف على صفة الجودة بل تقف على الوزن. وعند أبي يوسف لا تتحقق المقاصة إلا بهما جميعا ووجه البناء على هذا الأصل أنه لو صح الاستثناء لوجب على المقر له درهم زائف وحينئذ تقع المقاصة؛ لأن اختلاف صفة الجودة لا تمنع المقاصة عنده, وإذا وقعت المقاصة يصير المستثنى درهما جيدا لا زائفا وهذا خلاف موجب تصرفه فلم يصح الاستثناء وعند أبي يوسف رحمه الله لما كان اتحادهما في صفة الجودة شرطا لتحقق المقاصة ولم يوجد ههنا لا تقع المقاصة وإذا لم تقع كان الواجب على كل واحد منهما أداء ما عليه فلا يؤدي إلى تغيير موجب الاستثناء فيصح الاستثناء, والصحيح أصل أبي حنيفة رضي الله عنه لأن الجودة في الأموال الربوية ساقطة الاعتبار شرعا لقول النبي عليه الصلاة والسلام "جيدها ورديئها سواء" والساقط شرعا والعدم حقيقة سواء. ولو انعدمت حقيقة لوقعت المقاصة, كذا إذا انعدمت شرعا ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم إلا درهم ستوق فقياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله أنه يصح الاستثناء وعليه عشرة دراهم إلا قيمة درهم ستوق وقياس قول محمد وزفر رحمهما الله أنه لا يصح الاستثناء أصلا وعليه عشرة كاملة بناء على أن المجانسة ليست بشرط لصحة الاستثناء عند أبي حنيفة وأبي يوسف عليهما الرحمة وعند محمد وزفر شرط على ما سنذكره إن شاء الله تعالى. ولو قال لفلان: علي ألف إلا قليلا فعليه أكثر من نصف الألف, والقول في الزيادة على الخمسمائة قوله؛ لأن القليل من أسماء الإضافة فيقتضي أن يكون ما يقابله أكثر منه ليكون هو بالإضافة إليه قليلا فإذا استثنى القليل من الألف فلا بد وأن يكون المستثنى منه أكثر من المستثنى, وهو الأكثر من نصف الألف ولهذا قال بعض أهل التأويل في قوله تبارك وتعالى {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلاً} إن استثناء القليل من الأمر بقيام الليل يقتضي الأمر بقيام أكثر الليل, والقول في مقدار الزيادة على نصف الألف قوله لأنه المجمل في قدر الزيادة فكان البيان إليه وكذلك إذا قال: إلا شيئا؛ لأن الاستثناء بلفظة شيء لا يستعمل إلا في القليل هذا إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه. فإن كان من خلاف جنسه ينظر إن كان المستثنى مما لا يثبت دينا في الذمة مطلقا كالثوب, لا يصح الاستثناء, وعليه جميع ما أقر به عندنا بأن قال: له علي عشرة دراهم إلا ثوبا, وعند الشافعي رحمه الله يصح ويلزمه قدر قيمة الثوب وإن كان المستثنى مما يثبت دينا في الذمة مطلقا من المكيل والموزون والعددي المتقارب بأن قال: لفلان علي عشرة إلا درهما أو إلا قفيز حنطة أو مائة دينار إلا عشرة دراهم أو دينار إلا مائة جوزة, يصح الاستثناء عند أبي حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما ويطرح مما أقر به قدر قيمة المستثنى وعند محمد وزفر رحمهما الله لا يصح الاستثناء أصلا "أما" الكلام مع الشافعي رحمه الله في المسألة الأولى فوجه قول الشافعي رحمه الله أن لنص الاستثناء حكما على حدة كما لنص المستثنى منه من النفي والإثبات؛ لأن الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات نفي لغة, فقوله: لفلان علي عشرة دراهم إلا درهما معناه إلا درهما فإنه ليس علي, فيصير دليل النفي معارضا لدليل الإثبات في قدر المستثنى, ولهذا قال: إن الاستثناء يعمل بطريق المعارضة فصار قوله: لفلان علي ألف درهم إلا ثوبا أي إلا ثوبا فإنه ليس علي من الألف, ومعلوم أن عين

 

ج / 7 ص -211-       الثوب من الألف ليس عليه فكان المراد قدر قيمته أي مقدار قيمة الثوب ليس علي من الألف. وجه قول أصحابنا رضي الله عنهم أنه لا حكم لنص الاستثناء إلا بيان أن القدر المستثنى لم يدخل تحت المستثنى منه أصلا؛ لأن أهل اللغة قالوا: إن الاستثناء تكلم بالباقي بعد الثنيا, وإنما يكون تكلما بالباقي إذا كان ثابتا فكان انعدام حكم نص المستثنى منه في المستثنى لانعدام تناول اللفظ إياه لا للمعارضة مع ما أن القول بالمعارضة فاسد؛ لوجوه: أحدها أن الاستثناء مقارن للمستثنى منه فكانت المعارضة مناقضة. والثاني أن المعارضة إنما تكون بدليل قائم بنفسه, ونص الاستثناء ليس بنص قائم بنفسه فلا يصلح معارضا إلا أن يزاد عليه قوله إلا كذا فإنه كذا, وهذا تغيير ومهما أمكن العمل بظاهر اللفظ من غير تغيير كان أولى والثالث أن القول بالمعارضة يكون رجوعا عن الإقرار, والرجوع عن الإقرار في حقوق العباد لا يصح كما إذا قال له علي عشرة دراهم وليس له علي عشرة دراهم, وإذا كان بيانا فمعنى البيان لا يتحقق إلا إذا كان المستثنى من جنس المستثنى منه إما في الاسم أو في احتمال الوجوب في الذمة على الإطلاق, ولم يوجد ههنا على ما نذكره إن شاء الله تعالى وقولهم: الاستثناء من الإثبات نفي ومن النفي إثبات محمول على الظاهر إذ هو في الظاهر كذلك دون الحقيقة لأنه تحقق معنى المعارضة وهو محال على ما ذكرنا وجه إحالته فيكون بيانا حقيقة نفيا أو إثباتا جمعا بين النقلين بقدر الإمكان, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. "وأما" الكلام في المسألة الثانية فوجه قول محمد وزفر رحمهما الله أن الاستثناء استخراج بعض ما لولاه لدخل تحت نص المستثنى منه, وذا لا يتحقق إلا في الجنس ولهذا لو كان المستثنى ثوبا لم يصح الاستثناء وجه قول أبي حنيفة وأبي يوسف أن الداخل تحت قوله: لفلان علي عشرة دراهم, عشرة موصوفة بأنها واجبة مطلقا مسماة بالدراهم فإن لم يمكن تحقيق معنى المجانسة في اسم الدراهم أمكن تحقيقها في الوجوب في الذمة على الإطلاق؛ لأن الحنطة في احتمال الوجوب في الذمة على الإطلاق من جنس الدراهم ألا ترى أنها تجب دينا موصوفا في الذمة حالا بالاستقراض والاستهلاك كما تجب سلما وثمنا حالا كالدراهم. "فأما" الثوب فلا يحتمل الوجوب في الذمة على الإطلاق بل سلما أو ثمنا مؤجلا "فأما" ما لا يحتمله استقراضا واستهلاكا وثمنا حالا غير مؤجل فأمكن تحقيق معنى المجانسة بينهما في وصف الوجوب في الذمة على الإطلاق إن لم يكن في اسم الدراهم فأمكن العمل بالاستثناء في تحقق معناه وهو البيان من وجه, ولا مجانسة بين الثياب والدراهم لا في الاسم ولا في احتمال الوجوب في الذمة على الإطلاق فانعدم معنى الاستثناء أصلا فهو الفرق, والله تعالى أعلم. ولو أقر لإنسان بدار واستثنى بناءها لنفسه فالاستثناء باطل لأن اسم الدار لا يتناول البناء لغة بل وضع دلالة على العرصة في اللغة, وإنما البناء فيها بمنزلة الصفة فلم يكن المستثنى من جنس المستثنى منه فلم يصح الاستثناء وتكون الدار مع البناء للمقر له لأنه إن لم يكن اسما عاما لكنه يتناول هذه الأجزاء بطريق التضمن كمن أقر لغيره بخاتم كان له الحلقة والفص لا لأنه اسم عام بل هو اسم لمسمى واحد وهو المركب من الحلقة والفص ولكنه يتناوله بطريق التضمن وكذا من أقر بسيف لغيره كان له النصل والجفن والحمائل لما قلنا وكذا من أقر بحجلة كان له العيدان والكسوة بخلاف ما إذا استثنى ربع الدار أو ثلثها أو شيئا منها أنه يصح الاستثناء لما بينا أن الدار اسم للعرصة فكان المستثنى من جنس المستثنى منه فصح. ولو قال بناء هذه الدار لي والعرصة لفلان صح؛ لأن اسم البناء لا يتناول العرصة إذ هي اسم للبقعة, والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا الذي ذكرنا حكم الاستثناء إذا ورد على الجملة الملفوظة, فأما إذا ورد الاستثناء على الاستثناء فالأصل فيه أن الاستثناء الداخل على الاستثناء يكون استثناء من المستثنى منه؛ لأن المستثنى منه أقرب المذكور إليه فيصرف الاستثناء الثاني إليه ويجعل الباقي منه مستثنى من الجملة الملفوظة وعلى هذا إذا ورد الاستثناء على الاستثناء مرة بعد أخرى وإن كثر فالأصل فيه أن يصرف كل استثناء إلى ما يليه لكونه أقرب المذكور إليه فيبدأ من الاستثناء الأخير فيستثنى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي مما يليه ثم ينظر إلى الباقي هكذا إلى الاستثناء الأول ثم ينظر إلى الباقي منه فيستثنى ذلك من الجملة الملفوظة فما بقي منها فهو القدر المقر به. بيان هذه الجملة إذا قال: لفلان علي عشرة دراهم إلا إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بثمانية دراهم لأنا صرفنا

 

ج / 7 ص -212-       الاستثناء الأخير إلى ما يليه فبقي درهمان يستثنيهما من العشرة فيبقى ثمانية, والأصل فيه قوله سبحانه وتعالى خبرا عن الملائكة {قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ} استثنى الله تبارك وتعالى آل لوط من أهل القرية لا من المجرمين؛ لأن حقيقة الاستثناء من الجنس وآل لوط لم يكونوا مجرمين ثم استثنى امرأته من آله فبقيت في الغابرين. ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم إلا خمسة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بسبعة لأنا جعلنا الدرهم مستثنى مما يليه وهي ثلاثة فبقي درهمان استثناهما من خمسة فبقي ثلاثة استثناها من الجملة الملفوظة فبقي سبعة وكذلك لو قال: لفلان علي عشرة دراهم إلا سبعة دراهم إلا خمسة دراهم إلا ثلاثة دراهم إلا درهما يكون إقرارا بستة لما ذكرنا من الأصل وهذا الأصل لا يخطئ في إيراد الاستثناء على الاستثناء وإن كثر هذا إذا كان الأصل متصلا بالجملة المذكورة فأما إذا كان منفصلا عنها بأن قال: لفلان علي عشرة دراهم وسكت ثم قال إلا درهما لا يصح الاستثناء عند عامة العلماء وعامة الصحابة رضي الله تعالى عنهم إلا ما روي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه يصح وبه أخذ بعض الناس, ووجهه أن الاستثناء بيان لما ذكرنا فيصح متصلا ومنفصلا كبيان المجمل والتخصيص للعام عندنا. وجه قول العامة أن صيغة الاستثناء إذا انفصلت عن الجملة الملفوظة لا تكون كلام استثناء لغة؛ لأن العرب ما تكلمت به أصلا, ولو اشتغل به أحد يضحك عليه كمن قال: لفلان علي كذا, ثم قال: بعد شهر إن شاء الله تعالى لا يعد ذلك تعليقا بالمشيئة حتى لا يصح, كذا هذا والرواية عن ابن عباس لا تكاد تصح, بخلاف بيان المجمل والعام؛ لأنهم يتكلمون بذلك مستعمل عندهم متصلا ومنفصلا على ما عرف في أصول الفقه, والله سبحانه وتعالى أعلم. وعلى هذا قال أبو حنيفة فيمن قال: أنت حر وحر إن شاء الله تعالى, أنه لا يصح الاستثناء؛ لأن تكرير صيغة التحرير لغو فكان في معنى السكتة ولو قال: لفلان علي كر حنطة وكر شعير إلا كر حنطة وقفيز شعير, لا يصح استثناء كر الحنطة بالاتفاق لانصراف كر الحنطة إلى جنسه فيكون استثناء للكل من الكل فلم يصح, وهل يصح استثناء القفيز من الشعير؟ قال أبو حنيفة رحمه الله: لا يصح لأنه لما لم يصح استثناء كر الحنطة فقد لغا فكأنه سكت ثم استثنى قفيز شعير فلم يصح استثناؤه أصلا, والله عز وجل أعلم. "وأما" الاستدراك فهو في الأصل لا يخلو من أحد وجهين: إما أن يكون في القدر, وإما أن يكون في الصفة فإن كان في القدر فهو على ضربين: إما أن يكون في الجنس, وإما أن يكون في خلاف الجنس, فنحو أن يقول: لفلان علي ألف درهم لا بل ألفان فعليه ألفان استحسانا, والقياس أن يكون عليه ثلاثة آلاف. "وجه" القياس أن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بألف وقوله لا رجوع وقوله بل استدراك, والرجوع عن الإقرار في حقوق العباد غير صحيح, والاستدراك صحيح فأشبه الاستدراك في خلاف الجنس وكما إذا قال لامرأته: أنت طالق واحدة لا بل ثنتين أنه يقع ثلاث تطليقات وجه الاستحسان أن الإقرار إخبار والمخبر عنه مما يجري الغلط في قدره أو وصفه عادة فتقع الحاجة إلى استدراك الغلط فيه فيقبل إذا لم يكن متهما فيه, وهو غير متهم في الزيادة على المقر به فتقبل منه بخلاف الاستدراك في خلاف الجنس؛ لأن الغلط في خلاف الجنس لا يقع عادة فلا تقع الحاجة إلى استدراكه. وبخلاف مسألة الطلاق أن قوله أنت طالق إنشاء الطلاق لغة وشرعا, والإنشاء لا يحتمل الغلط حتى لو كان إخبارا بأن قال لها: كنت طلقتك أمس واحدة لا بل اثنتين لا يقع عليها إلا طلاقان, والله تعالى أعلم وكذلك إذا قال: لفلان علي كر حنطة لا بل كران ولو قال: لفلان علي ألف درهم لا بل ألف درهم فعليه ألفان لأنه متهم في النقصان فلا يصح استدراكه مع ما أن مثل هذا الغلط نادر فلا حاجة إلى استدراكه لالتحاقه بالعدم. "وأما" في خلاف الجنس كما لو قال: لفلان علي ألف درهم لا بل مائة دينار أو لفلان علي كر حنطة لا بل كر شعير لزمه الكل لما بينا أن مثل هذا الغلط لا يقع إلا نادرا, والنادر ملحق بالعدم هذا إذا وقع الاستدراك في قدر المقر به "فأما" إذا وقع في صفة المقر به بأن قال: لفلان علي ألف درهم بيض لا بل سود ينظر فيه إلى أرفع الصفتين, وعليه ذلك لأنه غير متهم في زيادة الصفة متهم في النقصان فكان مستدركا في الأول راجعا في الثاني فيصح استدراكه ولا يصح رجوعه كما في الألف

 

ج / 7 ص -213-       والألفين, والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا رجع الاستدراك إلى المقر به فأما إذا رجع إلى المقر له بأن قال: هذه الألف لفلان لا بل لفلان وادعاها كل واحد منهما يدفع إلى المقر له الأول لأنه لما أقر بها للأول صح إقراره له فصار واجب الدفع إليه, فقوله: لا بل لفلان رجوع عن الإقرار الأول فلا يصح رجوعه في حق الأول ويصح إقراره بها للثاني في حق الثاني ثم إن دفعه إلى الأول بغير قضاء القاضي يضمن للثاني؛ لأن إقراره بها للثاني في حق الثاني صحيح وإن لم يصح في حق الأول, وإذا صح صار واجب الدفع إليه فإذا دفعها إلى الأول فقد أتلفها عليه فيضمن وإن دفعها إلى الأول بقضاء القاضي لا يضمن؛ لأنه لو ضمن لا يخلو إما أن يضمن بالدفع. "وإما" أن يضمن بالإقرار, لا سبيل إلى الأول؛ لأنه مجبور في الدفع من جهة القاضي فيكون كالمكره, ولا سبيل إلى الثاني لأن الإقرار للغير بملك الغير لا يوجب الضمان ولو قال: غصبت هذا العبد من فلان لا بل من فلان, يدفع إلى الأول ويضمن للثاني, سواء دفع إلى الأول بقضاء أو بغير قضاء بخلاف المسألة الأولى "ووجه" الفرق أن الغصب سبب لوجوب الضمان فكان الإقرار به إقرارا بوجود سبب وجوب الضمان, وهو رد العين عند القدرة وقيمة العين عند العجز, وقد عجز عن رد العين إلى المقر له الثاني فيلزمه رد قيمته بخلاف المسألة الأولى؛ لأن الإقرار بملك الغير للغير ليس بسبب لوجوب الضمان لانعدام الإتلاف وإنما التلف في تسليم مال الغير إلى الغير باختياره على وجه يعجز عن الوصول إليه فلا جرم إذا وجد يجب الضمان وكذلك لو قال: هذه الألف لفلان, أخذتها من فلان, أو أقرضنيها فلان, وادعاها كل واحد منهما فهي للمقر له الأول ويضمن للذي أقر أنه أخذ منه أو أقرضه ألفا مثله؛ لأن الأخذ والقرض كل واحد منهما سبب لوجوب الضمان فكان الإقرار بهما إقرارا بوجود سبب وجوب الضمان فيرد الألف القائمة إلى الأول لصحة إقراره بها له, ويضمن للثاني ألفا أخرى ضمانا للأخذ والقرض ولو قال: أودعني فلان هذه الألف لا بل فلان, يدفع إلى المقر له الأول لما بينا ثم إن دفع إليه بغير قضاء القاضي يضمن للثاني بالإجماع وإن دفع بقضاء القاضي فعند أبي يوسف لا يضمن, وعند محمد يضمن "وجه" قول محمد رحمه الله أن إقراره بالإيداع من الثاني صحيح في حق الثاني فوجب عليه الحفظ بموجب العقد وقد فوته بالإقرار للأول بل استهلكه فكان مضمونا عليه "وجه" قول أبي يوسف رحمه الله أن فوات الحفظ والهلاك حصل بالدفع إلى الأول بالإقرار, والدفع بقضاء القاضي لا يوجب الضمان لما بينا ولو قال دفع إلي هذه الألف فلان وهي لفلان, وادعى كل واحد منهما أنها له فهي للدافع؛ لأن إقراره بدفع فلان قد صح فصار واجب الرد عليه وهذا يمنع صحة إقراره للثاني في حق الأول لكن يصح في حق الثاني ولو قال: هذه الألف لفلان, دفعها إلي فلان فهي للمقر له بالملك, ولا يكون للدافع شيء, فإذا ادعى الثاني ضمن له ألفا أخرى لما بينا أن الإقرار بها للأول يوجب الرد إليه, وهذا يمنع صحة إقراره للثاني في حق الأول لكنه يصح في حق الثاني ثم إن دفعه إلى الأول بغير قضاء القاضي يضمن وإن دفعه بقضاء القاضي, فكذلك عند محمد وعند أبي يوسف لا يضمن, والحجج من الجانبين على نحو ما ذكرنا ولو قال: هذه الألف لفلان أرسل بها إلى فلان, فإنه يردها على الذي أقر أنها ملكه وهذا قياس قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى لما قلنا, ولا يصح إقراره للثاني عند أبي حنيفة, فرق أبو حنيفة عليه الرحمة بين العين والدين بأن قال: لفلان علي ألف درهم قبضتها من فلان, فادعاها كل واحد منهما أن عليه لكل واحد منهما ألفا "ووجه" الفرق أن المقر به للأول هناك ألف في الذمة فيلزمه ذلك بإقراره له, ولزمه ألف أخرى لفلان بإقراره بقبضها منه إذ القبض سبب لوجوب الضمان فلزمه ألفان, وههنا المقر به عين مشار إليها فمتى صح إقراره بها لم يصح للثاني وذكر قول أبي يوسف في الأصل في موضعين: أحدهما أنه لا ضمان عليه للثاني بحال بانتهاء الرسالة بالوصول إلى المقر, وفي الآخر أنه إن دفع بغير قضاء القاضي يضمن فإن قال الذي أقر له: إنها ملكه ليست الألف لي, وادعاها الرسول؛ لأن إقراره للأول قد ارتد برده, وقد أقر باليد للرسول, فيؤمر بالرد إليه ولو كان الذي أقر له أنها ملكه غائبا وأراد الرسول أن يأخذها وادعاها لنفسه لم يأخذها, كذا روي عن أبي يوسف؛ لأن رسالته قد انتهت بالوصول إلى المقر ولو أقر إلى خياط فقال: هذا الثوب أرسله إلي فلان لأقطعه قميصا وهو لفلان, فهو للذي

 

ج / 7 ص -214-       أرسله إليه, وليس للثاني شيء؛ لأنه أقر باليد للمرسل فصار واجب الرد عليه, وهذا يمنع صحة إقراره بالملك الثاني, كما إذا قال: دفع إلي هذه الألف فلان وهي لفلان, على ما بينا ولو قال الخياط: هذا الثوب الذي في يدي لفلان أرسله إلي فلان, وكل واحد منهما يدعيه فهو للذي أقر له أول مرة, ولا يضمن للثاني شيئا في قياس قول أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يضمن بناء على أن الأجير المشترك لا ضمان عليه فيما هلك في يده عنده فأشبه الوديعة, وعندهما عليه الضمان فأشبه الغصب, والله سبحانه وتعالى العليم.

"فصل": "وأما" القرينة المبنية على الإطلاق فهي المعينة لبعض ما يحتمله اللفظ بأن كان اللفظ يحتمل هذا وذاك قبل وجود القرينة, فإذا وجدت القرينة يتعين البعض مرادا باللفظ من غير تغيير أصلا ثم ينظر إن كان اللفظ يحتملهما على السواء يصح بيانه متصلا كان أو منفصلا. وإن كان لأحدهما ضرب رجحان فإن كان الإفهام إليه أسبق عند الإطلاق من غير قرينة, فإن كان منفصلا لا يصح, وإن كان متصلا يصح إذا لم يتضمن الرجوع, وإن تضمن معنى الرجوع لا يصح إلا بتصديق المقر له وهذا النوع من القرينة أيضا يتنوع ثلاثة أنواع: نوع يدخل على أصل المقر به, ونوع يدخل على وصف المقر به, ونوع يدخل على قدر المقر به "أما" الذي يدخل على أصل المقر به فهو أن يكون المقر به مجهول الذات بأن قال: لفلان علي شيء أو حق يصح؛ لأن جهالة المقر به لا تمنع صحة الإقرار؛ لأن الإقرار إخبار عن كائن, وذلك قد يكون معلوما وقد يكون مجهولا بأن أتلف على آخر شيئا ليس من ذوات الأمثال فوجبت عليه قيمته أو جرح آخر جراحة ليس لها في الشرع أرش مقدر فأقر بالقيمة والأرش فكان الإقرار بالمجهول إخبارا عن المخبر على ما هو به وهو حد الصدق. بخلاف الشهادة؛ لأن جهالة المشهود به تمنع القضاء بالشهادة لتعذر القضاء بالمجهول بخلاف الإقرار فيصح ويقال له بين لأنه المجمل فكان البيان عليه قال الله تبارك وتعالى {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} ويصح بيانه متصلا ومنفصلا لأنه بيان محض فلا يشترط فيه الوصل كبيان المجمل والمشترك لكن لا بد وأن يبين شيئا له قيمة لأنه أقر بما في ذمته وما لا قيمة له لا يثبت في الذمة ثم إذا بين شيئا له قيمة فالأمر لا يخلو من أحد وجهين: إما أن صدقه في ذلك وادعى عليه زيادة وإما إن كذبه وادعى عليه مالا آخر. فإن صدقه فيما بين وادعى عليه زيادة أخذ ذلك القدر المبين وأقام البينة على الزيادة وإلا حلفه عليها إن أراد لأنه منكر للزيادة, والقول قول المنكر مع يمينه وإن كذبه وادعى عليه مالا آخر أقام بينة على مال آخر وإلا حلفه عليه وليس له أن يأخذ القدر المبين لأنه أبطل إقراره له بالتكذيب وكذلك إذا أقر أنه غصب من فلان شيئا ولم يبين يلزمه البيان لما قلنا, ولكن لا بد وأن يبين شيئا يتمانع في العادة ويقصد بالغصب؛ لأن ما لا يتمانع عادة ولا يقصد غصبه نحو كف من تراب أو غيره لا يطلق فيه اسم الغصب, وهل يشترط مع ذلك أن يكون مالا متقوما؟ اختلف المشايخ فيه, قال مشايخ العراق: لا يشترط, وقال مشايخنا رحمهم الله تعالى: يشترط حتى لو بين أنه غصب صبيا حرا أو غصب جلد ميتة أو خمر مسلم يصدق عند الأولين ولا يصدق عند الآخرين حتى يبين شيئا هو مال متقوم "وجه" قول مشايخ العراق أن الحكم الأصلي للغصب وجوب رد المغصوب, وهذا لا يقف على كون المغصوب مالا متقوما "وجه" قول مشايخنا أن المغصوب مضمون على الغاصب وله ضمانان: أحدهما وجوب رد العين عند القدرة, والثاني وجوب قيمتها عند العجز فكان إقراره بغصب شيء إقرارا بغصب ما يحتمل موجبه وهو المال المتقوم ولو بين غصب العقار؟ ذكر القدوري رحمه الله أنه يصدق, وهذا على قياس قول مشايخ العراق؛ لأن العقار وإن لم يكن مضمون القيمة بالغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله فهو مضمون الرد بالاتفاق وعند محمد رحمه الله هو مضمون القيمة أيضا فأما على قياس قول مشايخنا على قياس قول محمد يصدق "وأما" على قياس قولهما لا يصدق لأنه غير مضمون القيمة بالغصب عندهما, والله عز وجل أعلم وعلى هذا إذا قال: لفلان علي مال يصدق في القليل والكثير؛ لأن المال اسم ما يتمول وذا يقع على القليل والكثير فيصح بيانه متصلا ومنفصلا ولو قال: لفلان علي ألف, ولم يبين فالبيان إليه, والله تعالى أعلم بالصواب

 

ج / 7 ص -215-       فصل": وأما الذي يدخل على وصف المقر به فهو أن يكون المقر به معلوم الأصل مجهول الوصف نحو أن يقول غصب من فلان عبدا أو جارية أو ثوبا من العروض فيصدق في البيان من جنس ذلك, سليما كان أو معيبا؛ لأن الغصب يرد على السليم والمعيب عادة, وقد بين الأصل, وأجمل الوصف فيرجع في بيان الوصف إليه فيصح متصلا ومنفصلا, ومتى صح بيانه يلزمه الرد إن قدر عليه وإن عجز عنه تلزمه القيمة؛ لأن المغصوب مضمون على هذا الوجه. والقول قوله في مقدار قيمته مع يمينه لأنه منكر للزيادة, والقول قول المنكر مع اليمين وكذلك لو أقر أنه غصب من فلان دارا, وقال: هي بالبصرة, يصدق لأنه أجمل المكان فكان القول في بيان المكان إليه فيلزمه تسليم الدار إليه إن قدر عليه, وإن عجز عنه بأن خربت أو قال: هي هذه الدار التي في يدي زيد وزيد ينكر فالقول قول المقر عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى الآخر ولا يضمن وعند محمد يضمن قيمة الدار بناء على أن العقار غير مضمون القيمة بالغصب عندهما خلافا له فإذا أقر بألف درهم, وقال: هي زيوف أو نبهرجة فهذا في الأصل لا يخلو من أحد وجهين إما أن أقر بذلك مطلقا من غير بيان الجهة وإما إن بين الجهة. فإن أطلق بأن قال: لفلان علي ألف درهم ولم يذكر له جهة أصلا وقال: هي زيوف أو نبهرجة, فإن وصل يصدق, وإن فصل لا يصدق لأن اسم الدراهم اسم جنس يقع على الجياد والزيوف فكان قوله زيوف بيانا للنوع إلا أنه يصح موصولا لا مفصولا لأنها عند الإطلاق تصرف إلى الجياد فكان فصل البيان رجوعا عما أقر به فلا يصح ولو قال: لفلان عندي ألف درهم, وقال: هي زيوف أو نبهرجة يصدق, وصل أو فصل؛ لأن هذا إقرار الوديعة, الوديعة مال محفوظ عند المودع وقد يكون ذلك جيدا وقد يكون زيوفا أو نبهرجة على حسب ما يودع فيقبل بيانه هذا إذا أطلق ولم يبين الجهة أما إذا بين الجهة بأن قال: لفلان علي ألف درهم ثمن مبيع وقال هي زيوف أو نبهرجة فلا يصدق وإن وصل وعليه الجياد إذا ادعى المقر له الجياد عند أبي حنيفة وعند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق. "وجه" قولهما ما ذكرنا آنفا أن اسم الدراهم يقع على الزيوف كما يقع على الجياد إذ هو اسم جنس والزيافة عيب فيها, واسم كل جنس يقع على السليم والمعيب من ذلك الجنس لأنه نوع من الجنس لكن عند الإطلاق ينصرف إلى الجياد فيصح بيانه موصولا لوقوعه تعيينا لبعض ما يحتمله اللفظ ولا يصح مفصولا لكونه رجوعا عن الإقرار "وجه" قول أبي حنيفة عليه الرحمة أن قوله هي زيوف بعد النسبة إلى ثمن المبيع رجوع عن الإقرار فلا يصح بيانه أن البيع عقد مبادلة فيقتضي سلامة البدلين؛ لأن كل واحد من العاقدين لا يرضى إلا بالبدل السليم فكان إقراره بكون الدراهم ثمنا إقرارا بصفة السلامة فإخباره عن الزيافة يكون رجوعا فلا يصح, كما إذا قال: بعتك هذا العبد على أنه معيب لا يصدق وإن وصل, كذا هذا ولو قال: لفلان علي ألف درهم قرضا, وقال هي زيوف, فالجواب فيه كالجواب في البيع إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق بخلاف البيع "وجه" الرواية الأولى أن القرض في الحقيقة مبادلة المال بالمال كالبيع فكان في استدعاء صفة السلامة كالبيع "وجه" الرواية الأخرى أن القرض يشبه الغصب لأنه يتم بالقبض كالغصب ثم بيان الزيافة مقبول في الغصب, كذا في القرض ويشبه البيع؛ لأنه تمليك مال بمال فلشبهه بالغصب احتمل البيان في الجملة ولشبهه بالبيع شرطنا الوصل عملا بالشبهين بقدر الإمكان ولو قال: غصب من فلان ألف درهم وقال هي زيوف أو نبهرجة يصدق سواء وصل أو فصل وروي عن أبي يوسف أنه لا يصدق إذا فصل, والصحيح جواب ظاهر الرواية؛ لأن الغصب في الأجود لا يستدعي صفة السلامة؛ لأنه كما يرد على السليم يرد على المعيب على حسب ما يتفق فكان محتملا للبيان متصلا أو منفصلا لانعدام معنى الرجوع فيه, ولهذا لو كان المقر به غصب عبد بأن قال: غصبت من فلان عبدا ثم قال: غصبته وهو معيب, يصدق وإن فصل, كذا هذا ولو قال: أودعني فلان ألف درهم وقال هي زيوف يصدق بلا خلاف فصل أو وصل؛ لأن الإيداع استحفاظ المال, وكما يستحفظ السليم يستحفظ المعيب فكان الإخبار عن الزيافة بيانا محضا فلا يشترط لصحته الوصل لانعدام تضمن معنى الرجوع وأبو يوسف رحمه الله على ما روي عنه فرق بين الوديعة وبين الغصب حيث صدقه في الوديعة موصولا كان البيان أو مفصولا ولم يصدقه

 

ج / 7 ص -216-       في الغصب إلا موصولا "ووجه" الفرق له أن ضمان الغصب مبادلة إذا المضمونات تملك عند أداء الضمان فأشبه ضمان المبيع وهو الثمن, وفي باب البيع لا يصدق إذا فصل عنده كذا في الغصب "فأما" الواجب في باب الوديعة فهو الحفظ, والمعيب في احتمال الحفظ كالسليم فهو الفرق له, والله أعلم بالصواب هذا إذا أقر بالدراهم وقال هي زيوف أو نبهرجة فأما إذا أقر بها وقال هي ستوقة أو رصاص ففي الوديعة والغصب يصدق إن وصل وإن فصل لا يصدق؛ لأن الستوق والرصاص ليسا من جنس الدراهم إلا أنه يسمى بها مجازا فكان الإخبار عن ذلك بيانا مغيرا فيصح موصولا لا مفصولا كالاستثناء "وأما" في البيع إذا قال: ابتعت بألف ستوقة أو رصاص فلا يصدق عند أبي حنيفة, فصل أو وصل وهذا لا يشكل عنده؛ لأنه لو قال: ابتعت بألف زيوف لا يصدق عنده, وصل أو فصل, فههنا أولى وعند أبي يوسف يصدق ولكن يفسد البيع أما التصديق فلأن قوله ستوقة أو رصاص خرج بيانا لوصف الثمن فيصح, كما إذا قال بألف بيض أو بألف سود "وأما" فساد البيع فلأن تسمية الستوقة في البيع يوجب فساده كتسمية العروض وروي عن أبي يوسف فيمن قال: لفلان علي ألف درهم بيض زيوف أو وضح زيوف أنه يصدق إذا وصل ولو قال: لفلان علي ألف درهم جياد زيوف أو نقد بيت المال زيوف لا يصدق, والفرق ظاهر؛ لأن البياض يحتمل الجودة والزيافة إذ البيض قد تكون جيادا وقد تكون زيوفا فاحتمل البيان بخلاف قوله جياد؛ لأن الجودة لا تحتمل الزيافة لتضاد بين الصفتين فلا يصدق أصلا وعلى هذا إذا أقر بألف ثمن عبد اشتراه لم يقبضه فهذا لا يخلو من أحد وجهين: إما أن ذكر عبدا معينا مشارا إليه بأن قال: ثمن هذا العبد وإما إن ذكر عبدا من غير تعيين بأن قال: لفلان علي ألف درهم ثمن عبد اشتريته منه ولم أقبضه فإن ذكرا عبدا بعينه, فإن صدقه في البيع يقال للمقر له إن شئت أن تأخذ الألف فسلم العبد وإلا فلا شيء لك لأن المقر به ثمن المبيع وقد ثبت البيع بتصادقهما والبيع يقتضي تسليما بإزاء تسليم, وإن كذبه في البيع وقال: ما بعت منك شيئا والعبد عبدي ولي عليك ألف درهم بسبب آخر, فالعبد للمقر له لأنه يدعي عليه البيع وهو ينكر, ولا شيء له على المقر من الثمن؛ لأن المقر به ثمن المبيع لا غيره ولم يثبت البيع فإن ذكر عبدا بغير عينه فعليه الألف عند أبي حنيفة ولا يصدق في عدم القبض سواء وصل أم فصل, صدقه المقر له في البيع أو كذبه وكان أبو يوسف أولا يقول إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق, ثم رجع وقال يسأل المقر له عن الجهة فإن صدقه فيها لكن كذبه في القبض كان القول قول المقر, سواء وصل أو فصل وإن كذبه في البيع وادعى عليه ألفا أخرى إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق وهو قول محمد "وجه" قوله الأول أن المقر به ثمن المبيع, والمبيع قد يكون مقبوضا وقد لا يكون إلا أن الغالب هو القبض فكان قوله لم أقبضه بيانا فيه معنى التغيير من حيث الظاهر فيصدق بشرط الوصل كالاستثناء "وجه" قوله الآخر وهو قول محمد أن القبض بعد ثبوت الجهة بتصادقهما يحتمل الوجود والعدم؛ لأن القبض لا يلزم في البيع فكان قوله لم أقبضه تعيينا لبعض ما يحتمله كلامه فكان بيانا محضا فلا يشترط له الوصل لبيان المجمل والمشترك, وإذا كذبه يشترط الوصل لأنه لو اقتصر على قوله لفلان علي ألف درهم لوجب عليه التسليم للمال, فإذا قال: ثمن عبد لم أقبضه, لا يجب عليه التسليم إلا بتسليم العبد فكان بيانا فيه معنى التغيير فلا يصح إلا بشرط الوصل كالاستثناء "ووجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله لم أقبضه رجوع عن الإقرار فلا يصح, بيانه أن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بولاية المطالبة للمقر له بالألف ولا تثبت ولاية المطالبة إلا بقبض المبيع فكان الإقرار به إقرارا بقبض المبيع, فقوله لم أقبضه يكون رجوعا عما أقر به فلا يصح ولو قال: لفلان علي ألف درهم ثمن خمر أو خنزير فعليه ألف ولا يقبل تفسيره عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد لا يلزمه شيء "وجه" قولهما أن المقر به مما لا يحتمل الوجوب في ذمة المسلم لأنه ثمن خمر أو خنزير, وذمة المسلم لا تحتمله فلا يصح إقراره أصلا "وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن قوله لفلان علي ألف درهم إقرار بألف واجب في ذمته, وقوله ثمن خمر أو خنزير إبطال لما أقر به لأن ذمة المسلم لا تحتمل ثمن الخمر والخنزير فكان رجوعا فلا يصح ولو قال: اشتريت من فلان عبدا بألف درهم لكني لم أقبضه يصدق, وصل أو فصل؛ لأن الشراء قد

 

ج / 7 ص -217-       يتصل به القبض وقد لا يتصل فكان قوله لم أقبض بيانا محضا فيصح متصلا أو منفصلا ولو قال: أقرضني فلان ألف درهم ولم أقبض إنما طلبت إليه القبض فأقرضني ولم أقبض, إن وصل يصدق وإن فصل لا يصدق, وهذا استحسان والقياس أن يصدق وصل أو فصل "وجه" القياس أن المقر به هو القرض وهو اسم للعقد لا للقبض فلا يكون الإقرار به إقرارا بالقبض كما لا يكون الإقرار بالبيع إقرارا بالقبض "وجه" الاستحسان أن تمام القرض بالقبض كما أن تمام الإيجاب بالقبول فكان الإقرار به إقرارا بالقبض ظاهرا لكن يحتمل الانفصال في الحكم فكان قوله لم أقبض بيانا معنى فلا يصح إلا بشرط الوصل كالاستثناء والاستدراك وكذلك لو قال: أعطيتني ألف درهم أو أودعتني أو أسلفتني أو أسلمت إلي وقال لم أقبض لا يصدق إن فصل, وإن وصل يصدق؛ لأن الإعطاء والإيداع والإسلاف يستدعي القبض حقيقة خصوصا عند الإضافة فلا يصح منفصلا لكن يحتمل العدم في الجملة فيصح متصلا ولو قال بعتني دارك أو آجرتني أو أعرتني أو وهبتني أو تصدقت علي وقال لم أقبض يصدق وصل أم فصل أما البيع والإجارة والإعارة؛ لأن القبض ليس بشرط لصحة هذه التصرفات فلا يكون الإقرار بها إقرارا بالقبض وأما الهبة والصدقة فلأن الهبة اسم للركن وهو التمليك وكذلك الصدقة وإنما القبض فيهما شرط الحكم ولهذا لو حلف لا يهب ولا يتصدق ففعل ولم يقبض الموهوب له والمتصدق عليه يحنث ولو قال: نقدتني ألف درهم أو دفعت إلي ألف درهم وقال لم أقبض, إن فصل لا يصدق بالإجماع, وإن وصل لا يصدق عند أبي يوسف, وعند محمد يصدق وجه قوله أن النقد والدفع يقتضي القبض حقيقة بمنزلة الأداء والتسليم والإعطاء والإسلام ويحتمل الانفصال في الجملة فيصح بشريطة الوصل كما في هذه الأشياء "وجه" قول أبي يوسف أن القبض من لوازم هذين الفعلين أعني النقد والدفع خصوصا عند صريح الإضافة, والإقرار بأحد المتلازمين إقرار بالآخر فقوله لم أقبض يكون رجوعا عما أقر به فلا يصح وعلى هذا إذا قال لرجل: أخذت منك ألف درهم وديعة فهلكت عندي فقال الرجل: لا بل أخذتها غصبا, لا يصدق فيه المقر, والقول قول المقر له مع يمينه والمقر ضامن ولو قال المقر له: لا بل أقرضتك, فالقول قول المقر مع يمينه "ووجه" الفرق أن أخذ مال الغير سبب لوجوب الضمان في الأصل لقول النبي عليه الصلاة والسلام "على اليد ما أخذت حتى ترد" فكان الإقرار بالأخذ إقرارا بسبب الوجوب فدعوى الإذن تكون دعوى البراءة عن الضمان وصاحبه ينكر فكان القول قوله مع يمينه بخلاف قوله أقرضتك لأن إقراره بالقبض إقرار بالأخذ بالإذن فتصادقا على أن الأخذ كان بإذن والأخذ بإذن لا يكون سببا لوجوب الضمان في الأصل فكان دعوى الإقراض دعوى الأخذ بجهة الضمان فلا يصدق إلا ببينة ولو قال: أودعتني ألف درهم أو دفعت إلي ألف درهم وديعة أو أعطيتني ألف درهم وديعة فهلكت عندي, وقال المقر له: لا بل غصبتها مني كان القول قول المقر مع يمينه لأنه ما أقر بسبب وجوب الضمان إذ المقر به هو الإيداع والإعطاء وإنهما ليسا من أسباب الضمان ولو قال له: أعرتني ثوبك أو دابتك فهلكت عندي, وقال المقر له غصبت مني نظر في ذلك: إن هلك قبل اللبس أو الركوب فلا ضمان عليه؛ لأن المقر به الإعارة وإنها ليست بسبب لوجوب الضمان وإن هلك بعد اللبس والركوب فعليه الضمان؛ لأن لبس ثوب الغير وركوب دابة الغير سبب لوجوب الضمان في الأصل فكان دعوى الإذن دعوى البراءة عن الضمان فلا يثبت إلا بحجة وكذلك إذا قال له: دفعت إلي ألف درهم مضاربة فهلكت عندي فقال المقر له: بل غصبتها مني أنه إن هلك قبل التصرف فلا ضمان عليه, وإن هلك بعده يضمن لما قلنا في الإعارة ولو أقر بألف درهم مؤجلة بأن قال: لفلان علي ألف درهم إلى شهر, وقال المقر له: لا بل هي حالة فالقول قول المقر له؛ لأن هذا إقرار على نفسه, ودعوى الأجل على الغير فإقراره مقبول ولا تقبل دعواه إلا بحجة ويحلف المقر له على الأجل لأنه منكر للأجل, والقول قول المنكر مع اليمين وهذا بخلاف ما إذا أقر وقال: كفلت لفلان بعشرة دراهم إلى شهر, وقال المقر له لا بل كفلت بها حالة أن القول قول المقر عند أبي حنيفة ومحمد؛ لأن الظاهر شاهد للمقر؛ لأن الكفالة تكون مؤجلة عادة بخلاف الدين, والله تعالى أعلم وعلى هذا إذا أقر أنه اقتضى من فلان ألف درهم كانت له عليه وأنكر المقر

 

ج / 7 ص -218-       له أن يكون له عليه شيء, وقال هو مالي قبضته مني, فالقول قوله مع يمينه ويؤمر بالرد إليه لأن الإقرار بالاقتضاء إقرار بالقبض, والقبض سبب لوجوب الضمان في الأصل بالنص فكان الإقرار بالقبض إقرارا بوجود سبب وجوب الضمان منه فهو بدعوة القبض بجهة الاقتضاء يدعي براءته عن الضمان, وصاحبه ينكر فيكون القول قوله مع يمينه وكذلك إذا أقر أنه قبض منه ألف درهم كانت عنده وديعة وأنكر المقر له فالقول قول المقر له لما قلنا. ولو قال: أسكنت فلانا بيتي ثم أخرجته وادعى الساكن أنه له فالقول قول المقر عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد القول قول الساكن مع يمينه ولو قال: أعرته دابتي ثم أخذتها منه, وقال صاحبه: هي لي فهو على هذا الاختلاف. "وجه" قولهما أن قوله أسكنته داري ثم أخرجته وأعرته دابتي ثم أخذتها منه إقرار منه باليد لهما ثم الأخذ منهما فيؤمر بالرد عليهما لقوله عليه الصلاة والسلام "على اليد ما أخذت حتى ترد" ولهذا لو غايباه سكن الدار فزعم المقر أنه أعارهما "1" منه لم يقبل قوله فكذا إذا أقر وجه قول أبي حنيفة أن المقر به ليس هو اليد المطلقة بل اليد بجهة الإعارة والسكنى, وهذا لأن اليد لهما ما عرفت إلا بإقراره فبقيت على الوجه الذي أقر به فيرجع في بيان كيفية اليد إليه ولو أقر فقال: إن فلانا الخياط خاط قميصي بدرهم وقبضت منه القميص وادعى الخياط أنه له فهو على هذا الاختلاف الذي ذكرنا ولو قال: خاط لي هذا القميص ولم يقل قبضه منه لم يؤمر بالرد عليه بالإجماع لأنه إذا لم يقبل قبضه منه لم يوجد منه الإقرار باليد للخياط لجواز أنه خاطه في بيته فلم تثبت يده عليه فلا يجبر على الرد هذا إذا لم يكن الدار والثوب معروفا له فإن كان معروفا للمقر فالقول قوله بالإجماع لأنه إذا لم يكن معروفا له كان قول صاحبه هو لي منه دعوى التملك فلا يسمع منه إلا ببينة ولو أقر أن فلانا ساكن في هذا البيت والبيت لي وادعى ذلك الرجل البيت فهو له وعلى المقر البينة؛ لأن الإقرار بالسكنى إقرار باليد فصار هو صاحب يد فلا يثبت الملك للمدعي إلا ببينة. ولو أقر أن فلانا زرع هذه الأرض أو بنى هذه الدار أو غرس هذا الكرم وذلك في يدي المقر وادعى المقر له أنه له فالقول قول المقر لأن الإقرار بالزرع والغرس والبناء لا يكون إقرارا باليد لجواز وجودها في يد الغير فلا يؤمر بالرد إليه, والله تعالى أعلم وعلى هذا أن من أعتق عبده ثم أقر المولى أنه أخذ منه هذا الشيء في حال الرق وهو قائم بعينه وقال العبد: لا بل أخذته بعد العتق فالقول قول العبد ويؤمر بالرد إليه بالإجماع؛ لأن قول العبد يقتضي وجوب الرد وقول المولى لا ينفي الوجوب بل يقتضيه لأن الأخذ في الأصل سبب لوجوب ضمان الرد, والإضافة إلى حال الرق لا تنفي الوجوب فإن المولى إذا أخذ كسب عبده المأذون المديون يلزمه الرد إليه ولو أقر بالإتلاف بأن قال: أتلفت عليك مالا وأنت عبدي, وقال العبد: لا بل أتلفته وأنا حر فالقول قول العبد عند أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد القول قول المولى وعلى هذا الاختلاف إذا قال المولى: قطعت يدك قبل العتق, وقال العبد: لا بل قطعتها بعد العتق ولو تنازعا في الضريبة فقال المولى: أخذت منك ضريبة كل شهر كذا, وهي ضريبة مثله, وقال العبد: لا بل كان بعد العتق فالقول قول المولى بالاتفاق. وكذلك لو ادعى المولى وطء الأمة قبل العتق وادعت الأمة بعد العتق فالقول قول المولى بالإجماع "وجه" قول محمد وزفر رحمهما الله أن المولى ينكر وجوب الضمان فكان القول قوله, وهذا لأنه أضاف الضمان إلى حال الرق حيث قال: أتلفت وهو رقيق والرق ينافي الضمان, إذ المولى لا يجب عليه لعبده ضمان فكان منكرا وجوب الضمان, والعبد بقوله أتلفت بعد العتق يدعي وجوب الضمان عليه وهو ينكر فكان القول قوله, ولهذا كان القول قوله في الغلة والوطء, كذا هذا "وجه" قول أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله تعالى أن اعتبار قول العبد يوجب الضمان على المولى لأن إتلاف مال الحر يوجب الضمان واعتبار قول المولى لا ينفي الوجوب لأنه أقر بالأخذ والأخذ في الأصل سبب لوجوب الضمان, والإضافة إلى حال الرق لا تنفي الوجوب فإن إتلاف كسب العبد المأذون المديون دينا مستغرقا للرقبة والكسب موجب للضمان فإذا وجد الموجب وانعدم المانع بقي خبره واجب القبول بخلاف الوطء والغلة؛ لأن وطء الرقيقة لا يوجب الضمان أصلا, وكذلك أخذ ضريبة العبد وهي الغلة لا يوجب الضمان على المولى فإن المولى إذا أخذ ضريبة العبد وعليه دين مستغرق ليس للغرماء حق الاسترداد على ما مر في كتاب المأذون فكان المولى بقوله كان

 

ج / 7 ص -219-       قبل العتق منكرا وجوب الضمان, فكان القول قوله مع ما أن الظاهر شاهد للمولى؛ لأن الأصل في الوطء أن لا يكون سببا لوجوب الضمان لأنه إتلاف منافع البضع, والأصل في المنافع أن لا تكون مضمونة بالإتلاف فترجح خبر المولى بشهادة الأصل له فكان أولى بالقبول كما في الإخبار عن طهارة الماء ونجاسته فأما الأصل في أخذ المال أن يكون سببا لوجوب الضمان فكان الظاهر شاهدا للعبد وكذلك الغلة لأنها بدل المنفعة, والمنافع في الأصل غير مضمونة, والله سبحانه وتعالى أعلم وعلى هذا إذا استأمن الحربي أو صار ذمة فقال له رجل مسلم: أخذت منك ألف درهم وأنت حربي في دار الحرب, فقال له المقر: لا بل أخذته وأنا مستأمن أو ذمي في دار الإسلام, والألف قائمة بعينهما, فالقول قول المقر له ويؤمر بالرد إليه بالإجماع قال أخذت منك ألفا فاستهلكتها وأنت حربي في دار الحرب أو قال قطعت يدك وقال المقر له لا بل فعلت وأنا مستأمن أو ذمي في دار الإسلام فالقول قول المقر له ويضمن له المقر ما قطع وأتلف عند أبي حنيفة وأبي يوسف, وعند محمد وزفر رحمهم الله لا يضمن شيئا "وجه" قول محمد وزفر أن المولى منكر وجوب الضمان لإضافة الفعل إلى حالة منافية للوجوب وهي حالة الحراب والقول قول المنكر. "وجه" قول أبي حنيفة وأبي يوسف أن الظاهر شاهد للعبد إذ العصمة أصل في النفوس, والسقوط بعارض المسقط فالقول قول من يشهد له الأصل وعلى هذا إذا قال: لفلان علي ألف درهم ولم يذكر الوزن يلزمه الألف وزنا لا عددا لأن الدراهم في الأصل موزونة إلا إذا كان الإقرار في بلدة دراهمها عددية فينصرف إلى العدد المتعارف إذا ذكر العدد بأن قال: لفلان علي ألف درهم عددا يلزمه ألف درهم وزنا ويلغو ذكر العدد ويقع على ما يتعارفه أهل البلد من الوزن وهو في ديارنا وخراسان والعراق وزن سبعة, وهو الذي يكون كل عشرة منها سبعة مثاقيل فإن كان الإقرار في هذه البلاد يلزمه بهذا الوزن, وإن كان الإقرار في بلد يتعاملون فيه بدراهم وزنها ينقص عن وزن سبعة مثاقيل يقع إقراره على ذلك الوزن لانصراف مطلق الكلام إلى المتعارف حتى لو ادعى وزنا أقل من وزن بلده يصدق لأنه يكون رجوعا. ولو كان في البلد أوزان مختلفة يعتبر فيه الغالب كما في نقد البلد فإن استوت يحمل على الأقل منها؛ لأن الأقل متيقن به والزيادة مشكوك فيها والوجوب في الذمة أو لم يكن والوجوب في أقله لم يكن فمتى وقع الشك في ثبوته فلا يثبت مع الشك ولو سمى زيادة على وزن البلد أو أنقص منه بأن قال: لفلان علي ألف درهم وزن خمسة, إن كان موصولا يقبل وإلا فلا؛ لأن اسم الدراهم يحتمله لكنه خلاف الظاهر فاحتمل البيان الموصول, ولا يصدق إذا فصل لانصراف الأفهام عند الإطلاق إلى وزن البلد فكان الإخبار عن غيره رجوعا فلا يصح وكذلك إذا قال: لفلان علي ألف درهم مثاقيل يلزمه ذلك لأنه زاد على الوزن المعروف وهو غير متهم في الإقرار على نفسه بالزيادة فيقبل منه ولو أقر وهو ببغداد فقال: لفلان علي ألف درهم طبرية يلزمه ألف درهم طبرية لكن بوزن سبعة لأن قوله طبرية خرج وصفا للدراهم أي دراهم منسوبة إلى طبرستان فلا يوجب تغيير وزن البلد وكذلك إذا قال: لفلان علي كر حنطة موصلية, والمقر ببغداد يلزمه كر حنطة موصلية لكن بكيل بغداد لما قلنا. ولو قال: لفلان علي دينار شامي أو كوفي فعليه أن يعطيه دينارا واحدا وزنه مثقال, ولا يجوز أن يعطيه دينارين وزنهما جميعا مثقال, بخلاف الدراهم أنه إذا أعطاه درهمين صغيرين مكان درهم واحد كبير أنه يجبر على القبول كذا ذكر في الكتاب وكان في عرفهم أن الدينار إذا كان ناقص الوزن يكون ناقص القيمة فكان نقصان الوزن فيه وضيعة, كذلك اعتبر الوزن والعدد جميعا وفي الدراهم بخلاف فأما في عرف ديارنا فالعبرة للوزن, فسواء أعطاه دينارا واحدا أو دينارين يجبر على القبول بعد أن يكون وزنهما مثقالا, وكذلك لو قال: لفلان علي قفيز حنطة فهو بقفيز البلد, وكذلك الأوقار والأمنان لما قلنا في الدراهم, والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما الذي يدخل على قدر المقر به فهو أن يكون المقر به مجهول القدر وأنه في الأصل لا يخلو من أحد وجهين إما أن يذكر عددا واحدا وإما أن يجمع بين عددين, فالأول نحو أن يقول: لفلان علي دراهم أو دنانير لا يصدق في أقل من ثلاثة؛ لأن الثلاثة أقل الجمع الصحيح فكان ثابتا بيقين, وفي الزيادة عليها شك وحكم الإقرار لا يلزم بالشك. ولو قال: لفلان علي دريهم

 

ج / 7 ص -220-       أو دنينير فعليه درهم تام ودينار كامل لأن التصغير له قد يذكر لصغر الحجم وقد يذكر لاستحقار الدرهم واستقلاله وقد يذكر لنقصان الوزن فلا ينقص عن الوزن بالشك وروي عن أبي يوسف فيمن قال: لفلان علي شيء من دراهم أو شيء من الدراهم أن عليه ثلاثة دراهم لأنه أجمل الشيء وفسره بدراهم أي الشيء الذي هو دراهم كما في قوله تبارك وتعالى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} أي الرجس التي هي أوثان والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو قال: لفلان علي دراهم مضاعفة لا يصدق في أقل من ستة؛ لأن أقل الجمع الصحيح للدراهم ثلاثة, وأقل التضعيف مرة واحدة فإذا ضعفنا الثلاثة مرة تصير ستة ولو قال: لفلان علي دراهم أضعافا مضاعفة لا يصدق في أقل من ثمانية عشر لما بينا أن الدراهم المضاعفة ستة, وأقل أضعاف الستة ثلاث مرات فذلك ثمانية عشر. ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم وأضعافها مضاعفة لا يصدق في أقل من ثمانين لأنه ذكر عشرة دراهم وضاعف عليها أضعافها مضاعفة, وأقل أضعاف العشرة ثلاثون فذلك أربعون, وأقل تضعيف الأربعين مرة فذلك ثمانون. وروي عن محمد فيمن قال: لفلان علي غير ألف أن عليه ألفين ولو قال: غير ألفين, عليه أربعة آلاف؛ لأن غير من أسماء الإضافة فيقتضي ما يغايره لاستحالة مغايرة الشيء نفسه فاقتضى ألفا تغاير الألف الذي عليه فصار معناه: لفلان علي غير ألف أي غير هذا الألف ألف آخر فكان إقرارا بألفين, وكذا هذا الاعتبار في قوله غير ألفين, ويحتمل أن يكون قوله غير ألف أي مثل ألف؛ لأن المغايرة من لوازم المماثلة لاستحالة كون الشيء مماثلا لنفسه ولهذا قيل في حدها: غير أن ينوب كل واحد منهما مناب صاحبه ويسد مسده والملازمة بين شيئين طريق الكتابة فصحت الكتابة عن المماثلة بالمغايرة, فإذا قال: لفلان علي غير ألف درهم فكأنه قال مثل ألف ومثل الألف ألف مثله فكان إقرارا بألفين, وكذا هذا الاعتبار في قوله غير ألفين. ولو قال علي زهاء ألف أو عظم ألف أو جل ألف فعليه خمسمائة وشيء؛ لأن هذه عبارات عن أكثر هذا القدر في العرف وكذا إذا قال: قريب من ألف؛ لأن خمسمائة وشيئا أقرب إلى الألف من خمسمائة ولو قال: لفلان علي دراهم كثيرة لا يصدق في أقل من عشرة دراهم عند أبي حنيفة وعند أبي يوسف ومحمد رحمهم الله لا يصدق في أقل من مائتي درهم "وجه" قولهما أن المقر به دراهم كثيرة وما دون المائتين في حد القلة, ولهذا لم يعتبر ما دونه نصاب الزكاة "وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه جعل الكثرة صفة للدراهم, وأكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم العشرة, ألا ترى أنه إذا زاد على العشرة يقال: أحد عشر درهما واثني عشر درهما هكذا, ولا يقال دراهم فكانت العشرة أكثر ما يستعمل فيه اسم الدراهم فلا تلزمه الزيادة عليها ولو قال: لفلان علي مال عظيم أو كثير لا يصدق في أقل من مائتي درهم في المشهور وروي عن أبي حنيفة رحمه الله أن عليه عشرة "وجه" ما روي عنه أنه وصف المال بالعظم, والعشرة لها عظم في الشرع, ألا ترى أنه علق قطع اليد بها في باب السرقة, وقدر بها بدل البضع وهو المهر في باب النكاح. "وجه" القول المشهور أن العشرة لا تستعظم في العرف وإنما يستعظم النصاب ولهذا استعظمه الشرع حيث علق وجوب المعظم وهو الزكاة به فكان هذا أقل ما استعظمه الشرع عرفا فلا يصدق في أقل من ذلك وقيل: إن كان الرجل غنيا يقع على ما يستعظم عند الأغنياء, وإن كان فقيرا يقع على ما يستعظم عند الفقراء ولو قال: علي أموال عظام فعليه ستمائة درهم؛ لأن "عظام" جمع عظيم, وأقل الجمع الصحيح ثلاثة وهذا على المشهور من الروايات فأما على ما روي عن أبي حنيفة رضي الله عنه فيقع على ثلاثين درهما ولو قال: غصبت فلانا إبلا كثيرة فهو على خمس وعشرين لأنه وصف بالكثرة ولا تكثر إلا إذا بلغت نصابا تجب الزكاة فيها في جنسها, وأقل ذلك خمس وعشرون ولو قال: لفلان علي حنطة كثيرة فعند أبي حنيفة رحمه الله البيان إليه, وعندهما لا يصدق في أقل من خمسة أوسق بناء على أن النصاب في باب العشر ليس بشرط عند أبي حنيفة, وعندهما شرط ولو قال: لفلان علي ما بين مائة إلى مائتين أو من مائة إلى مائتين فعليه مائة وتسعة وتسعون عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد عليه مائتان, وعند زفر عليه تسعة وتسعون. وكذلك إذا قال: لفلان علي ما بين درهم إلى عشرة أو من درهم إلى عشرة فعليه تسعة دراهم عند أبي حنيفة, وعندهما

 

ج / 7 ص -221-       عليه عشرة, وعند زفر عليه ثمانية ولو قال: ما بين هذين الحائطين لفلان, لم يدخل الحائطان في إقراره بالإجماع لو وضع بين يديه عشرة مرتبة فقال: ما بين هذا الدرهم إلى هذا الدرهم وأشار إلى الدرهمين لفلان لم يدخل الدرهمان تحت إقراره بالاتفاق, والأصل فيه أن الغايتان لا يدخلان, وعندهما يدخلان, وعند أبي حنيفة يدخل الأول دون الآخر وجه قول زفر أن المقر به ما ضربت به الغاية لا الغاية فلا تدخل الغاية تحت ما ضربت له الغاية وهنا لم يدخل في باب البيع "وجه" قولهما أنه لما جعلهما غايتين فلا بد من وجودهما ومن ضرورة وجودهما لزومهما "وجه" قول أبي حنيفة الرجوع إلى العرف والعادة فإن من تكلم بمثل هذا الكلام يريد به دخول الغاية الأولى دون الثانية ألا ترى أنه إذا قيل: سن فلان ما بين تسعين إلى مائة لا يراد به دخول المائة, كذا ههنا ولو قال: لفلان علي ما بين كر شعير إلى كر حنطة فعليه كر شعير وكر حنطة إلا قفيزا على قياس قول أبي حنيفة, وعندهما عليه كران ولو قال: لفلان علي من درهم إلى عشرة دنانير أو من دينار إلى عشرة دراهم فعند أبي حنيفة رحمه الله عليه أربعة دنانير وخمسة دراهم تجعل الغاية الأخيرة من أفضلهما, وعندهما عليه خمسة دنانير وخمسة دراهم, وعند زفر عليه من كل جنس أربعة ولو قال له علي من عشرة دراهم إلى عشرة دنانير عليه عشرة دراهم وتسعة دنانير عند أبي حنيفة رحمه الله وكذلك لو قال له علي من عشرة دنانير إلى عشرة دراهم قدم أو أخر, وعندهما عليه الكل وكذلك هذا الاختلاف في الوصية والطلاق. ولو قال: لفلان علي خمسة دراهم في خمسة دراهم ونوى الضرب والحساب فعليه خمسة, وقال زفر عليه خمسة وعشرون "وجه" قوله أن خمسة في خمسة على طريق الضرب والحساب خمسة وعشرون فيلزمه ذلك. "ولنا" أن الشيء لا يتكثر في نفسه بالضرب وإنما يتكثر بأجزائه فخمسة في خمسة له خمسة أجزاء فيلزمه ذلك بالإقرار وإن نوى به خمسة مع خمسة فعليه عشرة؛ لأن "في" تحتمل "مع" لمناسبة بينهما في معنى الاتصال ولو أقر بتمر في قوصرة فعليه التمر والقوصرة جميعا وكذلك إذا قال: غصبت من فلان ثوبا في منديل يلزمه الثوب والمنديل, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله لا يلزمه الظرف ولو أقر بدابة في إصطبل لا يلزمه الإصطبل بالإجماع "وجه" قول الشافعي رحمه الله أن الداخل تحت الإقرار التمر والثوب لا القوصرة والمنديل؛ لما ذكرنا أن ذلك ظرفا فالإقرار بشيء في ظرفه لا يكون إقرارا به وبظرفه كالإقرار بدابة في الإصطبل وبنخلة في البستان أنه لا يكون إقرارا بالإصطبل والبستان. "ولنا" أن الإقرار بالتمر في قوصرة إقرار بوجود سبب وجوب الضمان فيهما وكذلك الإقرار بغصب الثوب في منديل؛ لأن الثوب يغصب مع المنديل الملفوف فيه عادة, وكذلك التمر مع القوصرة. وأما غصب الدابة مع الإصطبل فغير معتاد مع ما أن العقار لا يحتمل الغصب عند أبي حنيفة وأبي يوسف رحمهما الله ولو قال: لفلان علي ثوب في ثوب, فعليه ثوبان لما قلنا ولو قال: ثوب في عشرة أثواب فليس عليه إلا ثوب واحد عند أبي يوسف, وعند محمد رحمه الله أحد عشر ثوبا "وجه" قول محمد رحمه الله أنه جعل عشرة أثواب ظرفا لثوب واحد, وذلك محتمل بأن يكون في وسط العشرة فأشبه الإقرار بثوب في منديل أو في ثوب. "وجه" قول أبي يوسف أن ما ذكره محمد ممكن لكنه غير معتاد ومطلق الكلام للمعتاد هذا إذا ذكر عددا واحدا مجملا فإن ذكر عددا واحدا معلوما لكن أضافه إلى صنفين بأن قال: لفلان علي مائتا مثقال ذهب وفضة أو كرا حنطة وشعير فله من كل واحد منهما النصف وكذلك لو سمى أجناسا ثلاثة فعليه من كل واحد الثلث وكذلك لو تزوج على ذلك لأنه ذكر عددا واحدا وأضافه إلى عددين من غير بيان حصة كل واحد منهما فتكون حصة كل واحد منهما على السواء كما إذا أضافه إلى شخص واحد بأن أقر بمائتي درهم لرجلين فإن لكل واحد منهما النصف, كذا هذا ولو قال: استودعني ثلاثة أثواب زطي ويهودي فالقول قول المقر إن شاء جعل زطيين ويهوديا, وإن شاء جعل يهوديين وزطيا لأنه جعل الأثواب الثلاثة من جنس الزطي واليهودي فيكون زطي ويهودي مرادا بيقين فكان البيان في الآخر إليه لتعذر اعتبار المساواة فيه. ولو قال: استودعني عشرة أثواب هروية ومروية كان من كل صنف النصف؛ لأن اعتبار المساواة ههنا ممكن وأما إذا جمع بين عددين فلا يخلو إما أن جمع بين عددين مجملين وإما إن أجمل

 

ج / 7 ص -222-       أحدهما وبين الآخر فإن جمع بين عددين مجملين بأن قال: لفلان علي كذا كذا درهما, لا يصدق في أقل من أحد عشر درهما لأنه جمع بين عددين مبهمين وجعلهما اسما واحدا من غير حرف الجمع وذلك يحتمل أحد عشر واثني عشر هكذا إلى تسعة عشر إلا أن أقل عدد يعبر عنه بهذه الصيغة أحد عشر فيحمل عليه لكونه متيقنا به ويلزمه أحد عشر درهما لأنه فسر هذا العدد بالدراهم لا بغيرها ولو قال: لفلان علي كذا وكذا درهما لا يصدق في أقل من إحدى وعشرين درهما لأنه جمع بين عددين مبهمين بحرف الجمع وجعلهما اسما واحدا, وأقل ذلك إحدى وعشرون وأما إذا أجمل أحدهما وبين الآخر فنحو أن يقول: لفلان علي عشرة دراهم ونيف فعليه عشرة والقول قوله في النيف من درهم أو أكثر أو أقل لأنه عبارة عن مطلق الزيادة ولو قال: لفلان علي بضع وخمسون درهما لا يصدق في بيان البضع في أقل من ثلاثة دراهم؛ لأن البضع في اللغة اسم لقطعة من العدد, وفي عرف اللغة يستعمل في الثلاثة إلى التسعة فيحمل على أقل المتعارف لأنه متيقن به ولو قال: لفلان علي عشرة دراهم ودانق أو قيراطا فالدانق والقيراط من الدراهم لأنه عبارة عن جزء من الدراهم كأنه قال: لفلان علي عشرة وسدس ولو قال: لفلان علي مائة ودرهم فالمائة دراهم ولو قال: مائة ودينار فالمائة دنانير ويكون المعطوف عليه من جنس المعطوف وهذا استحسان والقياس أن يلزمه درهم والقول قوله في المائة. "وجه" القياس أنه أبهم المائة وعطف الدرهم عليها فيعتبر تصرفه على حسب ما أوقعه فيلزمه درهم والقول في المبهم قوله "وجه" الاستحسان أن قوله: لفلان علي مائة ودرهم أي مائة درهم ودرهم, هذا معنى هذا في عرف الناس, إلا أنه حذف الدرهم طلبا للاختصار على ما عليه عادة العرب من الإضمار والحذف في الكلام وكذلك لو قال: لفلان علي مائة وشاة فالمائة من الشياه عليه الناس ولو قال: لفلان علي مائة وثوب فعليه ثوب, والقول في المائة قوله؛ لأن مثل هذا لا يستعمل في بيان كون المعطوف عليه من جنس المعطوف فبقيت المائة مجملة فكان البيان فيما أجمل عليه وكذلك إذا قال: مائة وثوبان ولو قال: مائة وثلاثة أثواب فالكل ثياب؛ لأن قوله مائة وثلاثة كل واحد منهما مجمل, وقوله أثواب يصلح تفسيرا لهما فجعل تفسيرا لهما وكذلك روي عن أبي يوسف رحمه الله فيمن قال: لفلان علي عشرة وعبد أن عليه عبدا, والبيان في العشرة إليه, والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك إذا قال: لفلان علي عشرة ووصيفة أن عليه وصيفة, والبيان في العشرة إليه ولو أقر لرجل بألف في مجلس ثم أقر له بألف أخرى نظر في ذلك: فإن أقر له في مجلس آخر فعليه ألفان عند أبي حنيفة رحمه الله وعند أبي يوسف ومحمد عليه ألف واحدة, وهو إحدى الروايتين عن أبي حنيفة رضي الله عنه أيضا. وإن أقر له في مجلس واحد فعندهما لا يشكل أن عليه ألفا واحدا وأما عند أبي حنيفة ذكر عن الكرخي أن عليه ألفين وذكر عن الطحاوي أن عليه ألفا واحدا وهو الصحيح "وجه" قول أبي يوسف ومحمد أن العادة بين الناس بتكرار الإقرار بمال واحد في مجلسين مختلفين لتكثير الشهود كما جرت العادة بذلك في مجلس واحد ليفهم الشهود فلا يحمل على إنشاء الإقرار مع الشك "وجه" قول أبي حنيفة أن الألف المذكور في الإقرار الثاني غير الألف المذكور في الإقرار الأول لأنه ذكر كل واحد من الألفين منكرا, والأصل أن النكرة إذا كررت يراد بالثاني غير الأول قال الله تبارك وتعالى {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً} حتى قال ابن عباس رضي الله عنه لن يغلب عسر يسرين إلا أنا تركنا هذا الأصل في المجلس الواحد للعادة, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما شرائط الركن فأنواع لكن بعضها يعم الأقارير كلها وبعضها يخص البعض دون البعض, أما الشرائط العامة فأنواع: منها العقل فلا يصح إقرار المجنون والصبي الذي لا يعقل فأما البلوغ فليس بشرط فيصح إقرار الصبي العاقل بالدين والعين؛ لأن ذلك من ضرورات التجارة على ما ذكرنا في كتاب المأذون إلا أنه لا يصح إقرار المحجور لأنه من التصرفات الضارة المحضة من حيث الظاهر, والقبول من المأذون للضرورة ولم يوجد. وأما الحرية فليست بشرط لصحة الإقرار فيصح إقرار العبد المأذون بالدين والعين لما بينا في كتاب المأذون, وكذا بالحدود والقصاص, وكذا العبد المحجور يصح إقراره بالمال لكن لا ينفذ على المولى للحال حتى لا تباع رقبته بالدين بخلاف

 

ج / 7 ص -223-       المأذون؛ لأن إقرار المأذون إنما صح لكونه من ضرورات التجارة على ما ذكر في كتاب المأذون, والمحجور لا يملك التجارة فلا يملك ما هو من ضروراتها إلا أنه يصح إقراره في حق نفسه حتى يؤاخذ به بعد الحرية لأنه من أهل الإقرار لوجود العقل والبلوغ إلا أنه امتنع النفاذ على المولى للحال لحقه فإذا عتق فقد زال المانع فيؤاخذ به وكذا يصح إقراره بالحدود والقصاص فيؤاخذ به للحال؛ لأن نفسه في حق الحدود والقصاص كالخارج عن ملك المولى ولهذا لو أقر المولى عليه بالحدود والقصاص لا يصح. وكذلك الصحة ليست بشرط لصحة الإقرار والمرض ليس بمانع حتى يصح إقرار المريض في الجملة لأن صحة إقرار الصحيح برجحان جانب الصدق على جانب الكذب, وحال المريض أدل على الصدق فكان إقراره أولى بالقبول على ما نذكره في موضعه وكذلك الإسلام ليس بشرط لصحة الإقرار لأنه في الإقرار على نفسه غير متهم ومنها أن لا يكون متهما في إقراره لأن التهمة تخل برجحان الصدق على جانب الكذب في إقراره؛ لأن إقرار الإنسان على نفسه شهادة قال الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} والشهادة على نفسه إقرار دل أن الإقرار شهادة وأنها ترد بالتهمة. وفروع هذه المسائل تأتي في خلال المسائل إن شاء الله تعالى ومنها الطوع حتى لا يصح إقرار المكره لما ذكرنا في كتاب الإكراه ومنها أن يكون المقر معلوما حتى لو قال: رجلان لفلان على واحد منا ألف درهم, لا يصح لأنه إذا لم يكن معلوما لا يتمكن المقر له من المطالبة فلا يكون في هذا الإقرار فائدة فلا يصح وكذلك إذا قال أحدهما: غصب واحد منا, وكذلك إذا قال: واحد منا زنى أو سرق أو شرب أو قذف؛ لأن من عليه الحد غير معلوم فلا يمكن إقامة الحد.
وأما الذي يخص بعض الأقارير دون البعض فمعرفته مبنية على معرفة أنواع المقر به فنقول ولا قوة إلا بالله تعالى إن المقر به في الأصل نوعان: أحدهما حق الله تعالى عز شأنه والثاني حق العبد أما حق الله سبحانه وتعالى فنوعان أيضا: أحدهما أن يكون خالصا لله تعالى وهو حد الزنا والسرقة والشرب, والثاني أن يكون للعبد فيه حق وهو حد القذف, ولصحة الإقرار بها شرائط ذكرناها في كتاب الحدود.

"فصل": وأما حق العبد فهو المال من العين والدين والنسب والقصاص والطلاق والعتاق ونحوها, ولا يشترط لصحة الإقرار بها ما يشترط لصحة الإقرار بحقوق الله تعالى, وهي ما ذكرنا من العدد ومجلس القضاء والعبارة حتى إن الأخرس إذا كتب الإقرار بيده أو أومأ بما يعرف أنه إقرار بهذه الأشياء يجوز بخلاف الذي اعتقل لسانه لأن للأخرس إشارة معهودة فإذا أتى بها يحصل العلم بالمشار إليه, وليس ذلك لمن اعتقل لسانه ولأن إقامة الإشارة مقام العبارة أمر ضروري, والخرس ضرورة لأنه أصلي "فأما" اعتقال اللسان فليس من باب الضرورة لكونه على شرف الزوال بخلاف الحدود لأنه لا يجعل ذلك إقرارا بالحدود لما بينا أن مبنى الحدود على صريح البيان بخلاف القصاص فإنه غير مبني على صريح البيان, فإنه إذا أقر مطلقا عن صفة التعمد بذكر آلة دالة عليه, وهي السيف ونحوه يستوفى بمثله القصاص وكذا لا يشترط لصحة الإقرار بها الصحو حتى يصح إقرار السكران لأنه يصدق في حق المقر له أنه غير صاح أو لأنه ينزل عقله قائما في حق هذه التصرفات فيلحق فيها بالصاحي مع زواله حقيقة عقوبة عليه, وحقوق العباد تثبت مع الشبهات بخلاف حقوق الله تعالى. لكن الشرائط المختصة بالإقرار بحقوق العباد نوعان: نوع يرجع إلى المقر له, ونوع يرجع إلى المقر به "أما" الذي يرجع إلى المقر له فنوع واحد وهو أن يكون معلوما موجودا كان أو حملا حتى لو كان مجهولا بأن قال لواحد من الناس علي أو لزيد علي ألف درهم لا يصح لأنه لا يملك أحد مطالبته فلا يفيد الإقرار حتى لو عين واحدا بأن قال: عنيت به فلانا يصح, ولو قال لحمل فلانة علي ألف درهم فإن بين جهة يصح وجوب الحق للحمل من تلك الجهة بأن قال المقر: أوصى بها فلان له أو مات أبوه فورثه صح الإقرار؛ لأن الحق يجب له من هذه الجهة فكان صادقا في إقراره فيصح. وإن أجمل الإقرار لا يصح عند أبي يوسف وعند محمد يصح "وجه" قول محمد أن إقرار العاقل يجب حمله على الصحة ما أمكن وأمكن حمله على إقراره على جهة مصححة له وهي ما ذكرنا فوجب

 

ج / 7 ص -224-       حمله عليه "وجه" قول أبي يوسف أن الإقرار المبهم له جهة الصحة والفساد لأنه إن كان يصح بالحمل على الوصية, والإرث يفسد بالحمل على البيع والغصب والقرض فلا يصح مع الشك مع ما أن الحمل في نفسه محتمل الوجود والعدم, والشك من وجه واحد يمنع صحة الإقرار فمن وجهين أولى, والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا أقر للحمل "أما" إذا أقر بالحمل بأن أقر بحمل جارية أو بحمل شاة لرجل صح أيضا؛ لأن حمل الجارية والشاة مما يحتمل الوجوب في الذمة بأن أوصى له به مالك الجارية والشاة فأقر به والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الذي يرجع إلى المقر به أما الإقرار بالعين والدين فشرط صحة الفراغ عن تعلق حق الغير فإن كان مشغولا بحق الغير لم يصح؛ لأن حق الغير معصوم محترم فلا يجوز إبطاله من غير رضاه فلا بد من معرفة وقت التعلق ومعرفة محل التعلق "أما" وقت التعلق فهو وقت مرض الموت, فما دام المديون صحيحا فالدين في ذمته فإذا مرض مرض الموت يتعلق بتركته أي يتعين فيها ويتحول من الذمة إليها إلا أنه لا يعرف كون المرض مرض الموت إلا بالموت فإذا اتصل به الموت تبين أن المرض كان مرض الموت من وقت وجوده فتبين أن التعلق يثبت من ذلك الوقت وبيان ذلك الوقت ببيان حكم إقرار المريض والصحيح وما يفترقان فيه وما يتصل به وما يستويان فيه فنقول وبالله التوفيق إقرار المريض في الأصل نوعان: إقراره بالدين لغيره وإقراره باستيفاء الدين من غيره "فأما" إقراره بالدين لغيره فلا يخلو من أحد وجهين "أما" إن أقر به لأجنبي أو لوارث: فإن أقر به لوارث فلا يصح إلا بإجازة الباقين عندنا, وعند الشافعي يصح "وجه" قول الشافعي رحمه الله أن جهة الصحة للإقرار هي رجحان جانب الصدق على جانب الكذب, وهذا في الوارث مثل ما في الأجنبي ثم يقبل إقرار الأجنبي كذا الوارث. "ولنا" ما روي عن سيدنا عمر وابنه سيدنا عبد الله رضي الله عنهما أنهما قالا: إذا أقر المريض لوارثه لم يجز وإذا أقر لأجنبي جاز ولم يرو عن غيرهما خلاف ذلك فيكون إجماعا ولأنه متهم في هذا الإقرار لجواز أنه آثر بعض الورثة على بعض بميل الطبع أو بقضاء حق موجب للبعث على الإحسان وهو لا يملك ذلك بطريق التبرع والوصية به فأراد تنفيذ غرضه بصورة الإقرار من غير أن يكون للوارث عليه دين فكان متهما في إقراره فيرد, ولأنه لما مرض مرض الموت فقد تعلق حق الورثة بماله ولهذا لا يملك أن يتبرع عليه بشيء من الثلث مع ما أنه خالص ملكه لا حق لأجنبي فيه فكان إقراره للبعض إبطالا لحق الباقين فلا يصح في حقهم ولأن الوصية لم تجز لوارث فالإقرار أولى لأنه لو جاز الإقرار لارتفع بطلان الوصية لأنه يميل إلى الإقرار اختيارا للإيثار بل هو أولى من الوصية لأنه لا يذهب بالوصية إلا الثلث, وبالإقرار يذهب جميع المال فكان إبطال الإقرار إبطال الوصية بالطريق الأولى, ويصح إقرار الصحيح لوارث؛ لأن ما ذكرنا من الموانع منعدمة في إقراره هذا إذا أقر لوارث فإن أقر لأجنبي فإن لم يكن عليه دين ظاهر معلوم في حالة الصحة يصح إقراره من جميع التركة استحسانا والقياس أن لا يصح إلا في الثلث. "وجه" القياس أن حق الورثة بما زاد على الثلث متعلق ولهذا لم يملك التبرع بما زاد على الثلث لكنا تركنا القياس بالأثر, وهو ما روي عن ابن سيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما أنه قال: إذا أقر المريض بدين لأجنبي جاز ذلك من جميع تركته ولم يعرف له فيه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم مخالف فيكون إجماعا ولأنه في الإقرار للأجنبي غير متهم فيصح, ويصح إقرار الصحيح للأجنبي من جميع المال لانعدام تعلق حق الورثة بماله في حالة الصحة بل الدين في الذمة, وإنما يتعلق بالتركة حالة المرض وكذا لو أقر الصحيح بديون لأناس كثيرة متفرقة بأن أقر بدين جاز عليه كله؛ لأن حال الصحة حال الإطلاق لوجود الموجب للإطلاق وإنما الامتناع لعارض تعلق حق الورثة أو للتهمة, وكل ذلك ههنا منعدم ويستوي فيه المتقدم والمتأخر لحصول الكل في حالة الإطلاق ولو أقر المريض بديون لأناس كثيرة متفرقة بأن أقر بدين ثم بدين جاز ذلك كله واستوى فيه المتقدم والمتأخر استواء الكل في التعلق لاستوائهما في زمان التعلق وهو زمان المرض إذ زمن المرض مع امتداده بتجدد أمثاله حقيقة بمنزلة زمان واحد في الحكم فلا يتصور فيه التقدم والتأخر ولو أقر وهو مريض بدين ثم بعين بأن أقر أن هذا الشيء الذي في يده وديعة لفلان فهما دينان ولا تقدم

 

ج / 7 ص -225-       الوديعة لأن إقراره بالدين قد صح فأوجب تعلق حق الغرماء بالعين لكونها مملوكة له من حيث الظاهر, والإقرار الوديعة لا يبطل التعلق؛ لأن حق الغير يصان عن الإبطال ما أمكن وأمكن أن يجعل ذلك إقرارا بالدين لإقراره باستهلاك الوديعة بتقديم الإقرار بالدين عليه, وإذا صار مقرا باستهلاك الوديعة فالإقرار باستهلاك الوديعة يكون إقرارا بالدين لذلك كانا دينين ولو أقر الوديعة أولا ثم أقر بالدين فالإقرار الوديعة أولى لأن الإقرار الوديعة لما صح خرجت الوديعة من أن تكون محلا للتعلق لخروجها عن ملكه فلا يثبت التعلق بالإقرار؛ لأن حق غريم المريض يتعلق بالتركة لا بغيرها ولم يوجد وكذلك لو أقر المريض بمال في يده أنه بضاعة أو مضاربة فحكمه وحكم الوديعة سواء, والله سبحانه وتعالى أعلم. هذا إذا أقر المريض بالدين وليس عليه دين ظاهر معلوم في حال الصحة يعتبر إقراره فأما إذا كان عليه دين ظاهر معلوم بغير إقراره ثم أقر بدين آخر نظر في ذلك: فإن لم يكن المقر به ظاهرا معلوما بغير إقراره تقدم الديون الظاهرة لغرماء الصحة في القضاء فتقضى ديونهم أولا من التركة فما فضل يصرف إلى غير غرماء الصحة, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه الله يستويان "وجه" قوله أن غريم المرض مع غريم الصحة استويا في سبب الاستحقاق وهذا؛ لأن الإقرار إنما كان سببا لظهور الحق لرجحان جانب الصدق على جانب الكذب, وحالة المرض أدل على الصدق لأنها حالة يتدارك الإنسان فيها ما فرط في حالة الصحة فإن الصدق فيها أغلب فكان أولى بالقبول. "ولنا" أن شرط صحة الإقرار في حق غريم الصحة لم يوجد فلا يصح في حقه, ودليل ذلك أن الشرط فراغ المال عن تعلق حق الغير به لما بينا, ولم يوجد؛ لأن حق غريم الصحة متعلق بماله من أول المرض بدليل أنه لو تبرع بشيء من ماله لا ينفذ تبرعه ولولا تعلق حق الغير به لنفذ لأنه حينئذ كان التبرع تصرفا من الأصل في محل هو خالص ملكه وحكم الشرع في مثله النفاذ فدل عدم النفاذ على تعلق النفاذ, وإذا ثبت التعلق فقد انعدم الفراغ الذي هو شرط صحة الإقرار في حق غريم الصحة فلا يصح في حقه ولأنه إذا لم يعلم وجوبه بسبب ظاهر معلوم سوى إقراره كان متهما في هذا الإقرار في حق غرماء الصحة لجواز أن يكون له ضرب عناية في حق شخص يميل طبعه إلى الإحسان إليه أو بينهما حقوق تبعثه على المعروف والصلة في حقه ولا يملك ذلك بطريق التبرع فيريد به تحصيل مراده بصورة الإقرار فكان متهما في حق أصحاب الديون الظاهرة أنه أظهر الإقرار من غير أن يكون عليه دين فيرد إقراره بالتهمة وكذلك إذا كان عليه دين الصحة فأقر بعبده في يده أنه لفلان لا يصح إقراره في حق غرماء الصحة وكانوا أحق بالغرماء من الذي أقر له لأنه لما مرض مرض الموت فقد تعلق حق الغرماء بالعبد لما بينا وكان الإقرار بالعبد لفلان إبطالا لحقهم فلا يصح إقراره في حقهم هذا الذي ذكرنا إذا لم يكن الدين المقر به ظاهرا معلوما بغير إقراره. "فأما" إذا كان بأن كان بدلا عن مال ملكه كبدل القرض وثمن المبيع أو بدلا عن مال استهلكه فهو بمنزلة دين الصحة ويقدمان جميعا على دين المرض لأنه إذا كان ظاهرا معلوما بسبب معلوم لم يحتمل الرد فيظهر وجوبه بإقراره وتعلقه بالتركة من أول المرض وكذا إذا كان ظاهرا معلوما بسبب معلوم لا يتهم في إقراره, والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك إذا تزوج امرأة في مرضه بألف درهم ومهر مثلها ألف درهم جاز ذلك على غرماء الصحة والمرأة تخاصمهم بمهرها لأنه لما جاز النكاح ولا يجوز إلا بوجوب المهر كان وجوبه ظاهرا معلوما لظهور سبب وجوبه وهو النكاح فلم يكن وجوبه محتملا للرد فيتعلق بماله ضرورة يحققه أن النكاح إذا لم يجز بدون وجوب المهر, والنكاح من الحوائج الأصلية للإنسان, فكذلك وجوب المهر الذي هو من لوازمه شرعا والمريض غير محجور عن صرف ماله إلى حوائجه الأصلية كثمن الأغذية والأدوية وإن كان عليه دين الصحة, وللصحيح أن يؤثر بعض الغرماء على بعض حتى أنه لو قضى دين أحدهم لا يشاركه فيه الباقون لما بينا أن الدين في حالة الصحة لم يتعلق بالمال بل هو في الذمة فلا يكون في إيثار البعض إبطال حق الباقين إلا أن يقر لرجلين بدين واحد فما قبض أحدهما منه شيئا كان لصاحبه أن يشاركه فيه لأنه قضى دينا مشتركا فكان المقبوض على الشركة وليس للمريض أن يؤثر بعض غرمائه على بعض, سواء كانوا غرماء المرض أو غرماء الصحة حتى أنه لو قضى

 

ج / 7 ص -226-       دين أحدهم شاركه الباقون في المقبوض؛ لأن المرض أوجب تعلق الحق بالتركة, وحقوقهم في التعلق على السواء فكان في إيثار البعض إبطال حق الباقين إلا أن يكون ذلك بدل قرض أو ثمن مبيع بأن استقرض في مرضه أو اشترى شيئا بمثل قيمته, وكان ذلك ظاهرا معلوما فله أن يقضي القرض وينقد الثمن ولا يشاركه الغرماء في المقبوض والمنقود لأن الإيثار في هذه الصورة ليس إبطالا لحق الباقين؛ لأن حقوقهم متعلقة بمعنى التركة لا بصورتها والتركة قائمة من حيث المعنى لقيام بدلها لأن بدل الشيء يقوم مقامة كأنه هو فلم يكن ذلك إبطالا معنى ولو تزوج امرأة أو استأجر أجيرا فنقدهما المهر والأجرة لا يسلم لهما المنقود بل الغرماء يتبعونهما ويخاصمونهما بديونهم وكانوا أسوة الغرماء؛ لأن التسليم أعني جعل المنقود سالما لهما إبطال حق الغرماء صورة ومعنى؛ لأن المهر بدل عن ملك النكاح وملك النكاح لا يحتمل تعلق حق الغرماء به وكذلك الأجرة بدل عن المنفعة المستوفاة وهي مما لا يحتمل تعلق الحق به لذلك لزم الاستواء في القسمة, والله تعالى أعلم. وعلى هذا الأصل يخرج تقديم الدين على الوصية والميراث؛ لأن الميراث حق وضع في المال الفارغ عن حاجة الميت, فإذا مات وعليه دين مستغرق للتركة والتركة مشغولة بحاجته فلم يوجد شرط جريان الإرث فيه قال الله تعالى عز من قائل {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقد قدم الدين على الميراث, وسواء كان دين الصحة أو دين المرض؛ لأن الدليل لا يوجب الفصل بينهما وهو ما بينا, وإذا اجتمعت الديون فالغرماء يقسمون التركة على قدر ديونهم بالحصص ولو توى شيء من التركة قبل القسمة اقتسموا الباقي بينهم بالحصص ويجعل التاوي كأنه لم يكن أصلا لأن حق كل واحد منهم تعلق بكل جزء من التركة فكان الباقي بينهم على قدر ديونهم, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان محل تعلق الحق فمحل تعلق الحق هو المال؛ لأن الدين يقضى من المال لا من غيره فيتعلق حق الغرماء بكل متروك وهو مال من العين, والدين, ودية المديون, وأرش الجنايات الواجبة له بالجناية عليه خطأ أو عمدا؛ لأن كل ذلك مال ولا يتعلق بالقصاص في النفس وما دونها حتى لا يصح عفوهم لأنه ليس بمال ولو عفا بعض الورثة عن القصاص حتى انقلب نصيب الباقين مالا يتعلق حق الغرماء به ويقضى منه ديونهم لأنه بدل نفس المقتول فكان حقه فيصرف إلى ديونه كسائر أمواله المتروكة. وكذلك المديون إذا كانت امرأة يتعلق حق الغرماء بمهرها ويقسم بينهم بالحصص؛ لأن المهر مال, والله سبحانه وتعالى أعلم وما عرف من أحكام الأقارير وتفاصيلها في الصحة والمرض في إقرار الحر فهو الحكم في إقرار العبد المأذون لأنه يملك الإقرار بالدين والعين لكونه من ضرورات التجارة على ما بينا في كتاب المأذون فكان هو في حكم الإقرار والحر سواء ولو تصرف المأذون في مرضه جازت محاباته من جميع المال ومحاباة الحر المريض لا تجوز إلا من الثلث "ووجه" الفرق أن انحجار الحر عن المحاباة لتعلق حق الورثة, والعبد لا وارث له وحكم تصرفه يقع لمولاه فأشبه الوكيل بالبيع إذا باع في مرض موته وحابى أنه تجوز محاباته من جميع المال, كذا هذا ولو كان على العبد دين وفي يده وفاء بالدين أخذ الغرماء ديونهم وجازت المحاباة فيما بقي من المال, وإن كان الدين محيطا بما في يده يقال للمشتري إن شئت فأد جميع المحاباة وإلا فاردد المبيع, كالحر المريض إذا حابى وعليه دين, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما إقرار المريض باستيفاء دين وجب له على غيره فلا يخلو من أحد وجهين إما أن أقر باستيفاء دين وجب له على وارث, وإما إن أقر باستيفاء دين وجب له على أجنبي فإن أقر باستيفاء دين وجب له على أجنبي فإما إن أقر باستيفاء دين وجب له في حالة الصحة وإما إن أقر باستيفاء دين وجب له في حالة المرض: فإن أقر باستيفاء دين وجب له في حالة الصحة يصح ويصدق في إقراره بالاستيفاء حتى يبرأ الغريم عن الدين, سواء كان الدين الواجب في حالة الصحة بدلا عما ليس بمال نحو أرش جناية أو بدل صلح عن عمد أو كان بدلا عما هو مال نحو بدل قرض أو ثمن مبيع, وسواء لم يكن عليه دين الصحة أو كان عليه دين الصحة. أما إذا وجب بدلا عما هو مال فلان المريض

 

ج / 7 ص -227-       بهذا الإقرار لم يبطل حق الغرماء؛ لأن المديون استحق البراءة عن الدين بالإقرار باستيفاء الدين حالة الصحة كما استحقها بإيفاء الدين بالتخلية بين المال وبين صاحب الدين, والعارض هو المرض وأثره في حجر المريض عما كان له لا في حجره عما كان حقا مستحقا عليه كالعبد المأذون إذا أقر بعد الحجر باستيفاء دين ثبت له في حالة الإذن أنه يصح إقراره لما قلنا, كذا هذا بل أولى؛ لأن حجر العبد أقوى لأنه يصير محجورا عن البيع والشراء, والمريض لا يصير محجورا عن البيع والشراء ثم أثر الحجر هناك ظهر فيما له لا فيما عليه فههنا أولى "وأما" إذا وجب بدلا عما ليس بمال فلأن بالمرض لم يتعلق حق الغرماء بالمبدل وهو النفس لأنه ليس بمال فلا يتعلق بالبدل, وإذا لم يتعلق حقهم به فلا يكون الإقرار باستيفاء الدين إبطالا لحق الغرماء فيصح ويبرأ الغريم وكذلك إذا أقر المولى باستيفاء بدل الكتابة الواقعة في حالة الصحة يصدق ويبرأ المكاتب لما قلنا: هذا إذا أقر باستيفاء دين وجب له في حالة الصحة فأما إذا أقر باستيفاء دين وجب له في حالة المرض فإن وجب بدلا عما هو مال لم يصح إقراره لا يصدق في حق غرماء الصحة ويجعل ذلك منه إقرارا بالدين لأنه لما مرض فقد تعلق حق الغرماء بالمبدل لأنه مال فكان البيع والقرض إبطالا لحقهم عن المبدل إلا أن يصل البدل إليهم فيكون بدلا معنى لقيام البدل مقامه لما أقر بالاستيفاء فلا وصول للبدل إليهم فلم يصح إقراره بالاستيفاء في حقهم فبقي إقرارا بالدين؛ لأن الإقرار بالاستيفاء إقرار بالدين؛ لأن كل من استوفى دينا من غيره يصير المستوفى دينا في ذمة المستوفي ثم تقع المقاصة فكان الإقرار بالاستيفاء إقرارا بالدين وإقرار المريض بالدين وعليه دين الصحة لا يصح في حق غرماء الصحة. وكذلك لو أتلف رجل على المريض شيئا في مرضه فأقر المريض بقبض القيمة منه لم يصدق في ذلك إذا كان عليه دين الصحة؛ لأن الحق كان متعلقا بالمبدل حالة المرض فيتعلق بالبدل ولو أتلف في حالة الصحة فأقر في حالة المرض صح؛ لأن الإقرار بقبض دين الصحة في حالة المرض صحيح وإن كان بدلا عما هو بالمال لما بينا, وإن وجب بدلا عما ليس بمال يصح إقراره لأنه بالمرض لم يتعلق حق غرماء الصحة بالمبدل لأنه لا يحتمل التعلق لأنه ليس بمال فلا يتعلق بالبدل فصار الإقرار باستيفائه والإقرار باستيفاء دين وجب له في حال الصحة سواء وذلك صحيح, وكذا هذا. وكذلك لو أقر رجل للمريض أنه قتل عبدا في مرضه خطأ أو قطع يد العبد أو قامت البينة على ذلك فلزمه نصف القيمة فأقر المريض بالاستيفاء فهو مصدق؛ لأن الواجب بقتل العبد بدل النفس عندنا لا بدل المال بدليل أنه يجب مقدرا كأرش الأحرار حتى لو قطع يد عبد قيمته ثلاثون ألف درهم فعليه عشرة آلاف درهم إلا أحد عشر درهما عند أبي يوسف رحمه الله فينقص عشرة عن عشرة آلاف لئلا يبلغ دية الحر وينقص الدرهم الحادي عشر لئلا تبلغ بدل يده بدل نفسه, وعند محمد رحمه الله يجب بقطع يد هذا العبد خمسة آلاف إلا عشرة دراهم دل أن أرش يد العبد وجب مقدرا فكان بدلا عما ليس بمال كأرش الحر فلا يتعلق به حق الغرماء فلا يكون الإقرار بالاستيفاء إبطالا لحقهم وكذلك لو كان الجاني قتل العبد متعمدا فصالحه المريض على مال ثم أقر أنه استوفى بدل الصلح جاز وكان مصدقا؛ لأن بدل الصلح بدل عما ليس بمال, والله تعالى أعلم.

"فصل": وإن أقر باستيفاء دين وجب له على وارث لا يصح سواء وجب بدلا عما هو مال أو بدلا عما ليس بمال لأنه إقرار بالدين لما بينا أن استيفاء الدين بطريق المقاصة, وهو أن يصير المستوفى دينا في ذمة المستوفي فكان إقراره بالاستيفاء إقرارا بالدين, وإقرار المريض لوارثه باطل. وعلى هذا إذا تزوج امرأة فأقرت في مرض موتها أنها استوفت مهرها من زوجها ولا يعلم ذلك إلا بقولها وعليها دين الصحة ثم ماتت قبل أن يطلقها زوجها ولا مال لها غير المهر لا يصح إقرارها ويؤمر الزوج برد المهر إلى الغرماء فيكون بين الغرماء بالحصص؛ لأن الزوج وارثها وإقرار المريض بدين وجب له على وارثه لا يصح وإن وجب بدلا عما ليس بمال لما بينا أن ذلك إقرار بالدين للوارث وأنه باطل ولو أقرت في مرضها أنها استوفت المهر من زوجها ثم طلقها الزوج قبل الدخول بها يصح إقرارها؛ لأن الزوج بالطلاق قبل الدخول خرج من أن يكون وارثا لها فلم يكن إقرارها باستيفاء المهر منه إقرارا بالدين للوارث فصح, وليس

 

ج / 7 ص -228-       للزوج أن يضارب الغرماء بنصف المهر فيقول أنها أقرت باستيفاء جميع المهر مني وهي لا تستحق بالطلاق قبل الدخول إلا نصف المهر فصار نصف المهر دينا لي عليها فأنا أضرب مع غرمائها؛ لأن إقرارها بالاستيفاء إنما يصح في حق براءة الزوج عن المهر لا في حق إثبات الشركة في مالها مع غرمائها؛ لأن ديونهم ديون الصحة, وإقرارها للزوج في حالة المرض فلا يصح في حقهم ولو كان الزوج دخل بها فأقرت باستيفاء المهر ثم طلقها طلاقا بائنا أو رجعيا ثم ماتت بعد انقضاء العدة فكذلك الجواب؛ لأن الزوج عند الموت ليس بوارث ولو ماتت قبل انقضاء العدة لا يصح إقرارها "أما" في الطلاق الرجعي فلأن الزوجية باقية والوراثة قائمة "وأما" في البائن فلأن العدة باقية, وكانت ممنوعة من هذا الإقرار لقيام النكاح في حالة العدة فكان النكاح قائما من وجه فلا يزول المنع ما دام المانع قائما من وجه, ولهذا لا تقبل شهادة المعتدة لزوجها وإن كان الطلاق بائنا, وإذا لم يصح إقرارها وعليها ديون الصحة فيستوفي أصحاب ديون الصحة ديونهم فإن فضل من مالها شيء ينظر إلى المهر وإلى ميراثه منها فيسلم له الأقل منهما ومشايخنا يقولون إن هذا الجواب على قول. أبي حنيفة رضي الله عنه "وأما" على قولهما يجب أن يكون إقرارها باستيفاء المهر من الزوج صحيحا في حق التقديم على الورثة في جميع ما أقرت "وأصل" المسألة في كتاب الطلاق في المريض يطلق امرأته بسؤالها ثم يقر لها بمال أنه يصح إقراره عندهما لأنها أجنبية لا ميراث لها منه, وأبو حنيفة رضي الله عنه يقول لها الأقل من نصيبها من الميراث ومما أقر لها به فهما يعتبران ظاهر كونها أجنبية, وأبو حنيفة رحمه الله يقول: يحتمل أنهما تواضعا على ذلك ليقر لها بأكثر من نصيبها فكان متهما فيما زاد على ميراثها في حق سائر الورثة فلم يصح فهذا كذلك, والعبد المأذون في حالة المرض في الإقرار باستيفاء دين الصحة والمرض كالحر؛ لأنه يملك الإقرار باستيفاء الدين وقبضه كالحر, فكل ما صح من الحر يصح منه وما لا فلا, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما إقرار المريض بالإبراء بأن أقر المريض أنه كان أبرأ فلانا من الدين الذي عليه في صحته لا يجوز لأنه لا يملك إنشاء الإبراء للحال فلا يملك الإقرار به بخلاف الإقرار باستيفاء الدين لأنه إقرار بقبض الدين وأنه يملك إنشاء القبض فيملك الإخبار عنه بالإقرار, والله تعالى أعلم.

"فصل": وأما الإقرار بالنسب فهو الإقرار بالوارث وهو نوعان: أحدهما إقرار الرجل بوارث والثاني إقرار الوارث بوارثه, ويتعلق بكل واحد منهما حكمان: حكم النسب وحكم الميراث أما الإقرار بوارث فلصحته في حق ثبات النسب شرائط, منها: أن يكون المقر به محتمل الثبوت؛ لأن الإقرار إخبار عن كائن فإذا استحال كونه فالإخبار عن كائن يكون كذبا محضا, وبيانه أن من أقر بغلام أنه ابنه ومثله لا يلد مثله لا يصح إقراره لأنه يستحيل أن يكون ابنا له فكان كذبا في إقراره بيقين ومنها أن لا يكون المقر بنسبه معروف النسب من غيره, فإن كان لم يصح لأنه إذا ثبت نسبه من غيره لا يحتمل ثبوته له بعده, ومنها تصديق المقر بنسبه إذا كان في يد نفسه؛ لأن إقراره يتضمن إبطال يده فلا تبطل إلا برضاه, ولا يشترط صحة المقر لصحة إقراره بالنسب حتى يصح من الصحيح والمريض جميعا؛ لأن المرض ليس بمانع لعينه بل لتعلق حق الغير أو التهمة فكل ذلك منعدم, أما التعلق فظاهر العدم لأنه لا يعرف التعلق في مجهول النسب وكذلك معنى التهمة؛ لأن الإرث ليس من لوازم النسب فإن لحرمان الإرث أسبابا لا تقدح في النسب من القتل والرق واختلاف الدين والدار, والله سبحانه وتعالى أعلم. ومنها أن يكون فيه حمل النسب على الغير سواء كذبه المقر بنسبه أو صدقه؛ لأن إقرار الإنسان حجة على نفسه لا على غيره لأنه على غيره شهادة أو دعوى والدعوى المفردة ليست بحجة وشهادة الفرد فيما يطلع عليه الرجال, وهو من باب حقوق العباد, غير مقبولة والإقرار الذي فيه حمل نسب الغير على غيره إقرار على غيره لا على نفسه فكان دعوى أو شهادة وكل ذلك لا يقبل إلا بحجة وعلى هذا يجوز إقرار الرجل بخمسة نفر: الوالدين والولد والزوجة والمولى, ويجوز إقرار المرأة بأربعة نفر: الوالدين والزوج والمولى, ولا يجوز بالولد لأنه ليس في الإقرار بهؤلاء حمل نسب الغير على غيره أما الإقرار بالولاء فظاهر لأنه ليس فيه حمل نسب إلى أحد

 

ج / 7 ص -229-       وكذلك الإقرار بالزوجية ليس فيه حمل نسب الغير على غيره لكن لا بد من التصديق لما ذكرنا, ثم إن وجد التصديق في حال حياة المقر جاز بلا خلاف وإن وجد بعد وفاته فإن كان الإقرار من الزوج يصح تصديق المرأة سواء صدقته في حال حياته أو بعد وفاته بالإجماع بأن أقر الرجل بالزوجية فمات ثم صدقته المرأة؛ لأن النكاح يبقى بعد الموت من وجه لبقاء بعض أحكامه في العدة فكان محتملا للتصديق, وإن كان الإقرار بالزوجية من المرأة فصدقها الزوج بعد موتها لا يصح عند أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد يصح "وجه" قولهما ما ذكرنا أن النكاح يبقى بعد الموت من وجه فيجوز التصديق كما إذا أقر الزوج بالزوجية وصدقته المرأة بعد موته "وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله أن النكاح للحال عدم حقيقة فلا يكون محلا للتصديق إلا أنه أعطي له حكم البقاء لاستيفاء أحكام كانت ثابتة قبل الموت, والميراث حكم لا يثبت إلا بعد الموت فكان زائلا في حق هذا الحكم فلا يحتمل التصديق, والله سبحانه وتعالى أعلم وأما الإقرار بالولد فلأنه ليس فيه حمل نسب غيره على غيره بل على نفسه فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل لكن لا بد من التصديق إذا كان في يد نفسه لما قلنا, وسواء وجده في حال حياته أو بعد وفاته؛ لأن النسب لا يبطل بالموت فيجوز التصديق في الحالين جميعا, وكذلك الإقرار بالوالدين ليس فيه حمل نسب غيره على غيره فيكون إقرارا على نفسه لا على غيره فيقبل وكذلك إقرار المرأة بهؤلاء لما ذكرنا إلا الولد؛ لأن فيه حمل نسب غيره على غيره وهو نسب الولد على الزوج فلا يقبل إلا إذا صدقها الزوج أو تشهد امرأة على الولادة بخلاف الرجل؛ لأن فيه حمل نسب الولد على نفسه ولا يجوز الإقرار بغير هؤلاء من العم والأخ؛ لأن فيه حمل نسب غيره على غيره وهو الأب والجد وكذلك الإقرار بوارث في حق حكم الميراث يشترط له ما يشترط للإقرار به في حق ثبات النسب وهو ما ذكرنا إلا شرط حمل النسب على الغير فإن الإقرار بنسب يحمله المقر على غيره لا يصح في حق ثبات النسب أصلا ويصح في حق الميراث لكن بشرط أن لا يكون له وارث أصلا ويكون ميراثه له؛ لأن تصرف العاقل واجب التصحيح ما أمكن, فإن لم يمكن في حق ثبات النسب لفقد شرط الصحة أمكن في حق الميراث, وإن كان ثمة وارث قريبا كان أو بعيدا لا يصح إقراره أصلا ولا شيء له في الميراث بأن أقر بأخ وله عمة أو خالة فميراثه لعمته أو لخالته ولا شيء للمقر له لأنهما وارثان بيقين فكان حقهما ثابتا بيقين فلا يجوز إبطاله بالصرف إلى غيرهما وكذلك إذا أقر بأخ أو ابن ابن وله مولى الموالاة ثم مات فالميراث للمولى ولا شيء للمقر له لأن الولاء من أسباب الإرث ولا يكون إقراره بذلك رجوعا عن عقد الموالاة لانعدام الرجوع حقيقة فبقي العقد وأنه يمنع صحة الإقرار بالمذكور وكذلك لو كان مولى الموالاة هو مولى العتاقة من طريق الأولى لأنه عصبته ولو لم يكن له وارث ولكنه أوصى بجميع ماله لرجل فالثلث للموصى له والباقي للأخ المقر به لأنه وارث في زعمه وظنه, ولو كان مع الموصى له بالمال مولى الموالاة أيضا فللموصى له الثلث والباقي للمولى ولا شيء للمقر له؛ لأن الموالاة لا تمنع صحة الوصية لكنها تمنع صحة الإقرار بالمذكور لما بينا وكذلك لو كان مكان مولى الموالاة مولى العتاقة؛ لأن مولى العتاقة آخر العصبات مقدم على ذوي الأرحام, ومولى الموالاة آخر الورثة مؤخر عن ذوي الأرحام فأضعف الولاءين لما منع صحة الإقرار بالمذكور فأقواهما أولى ولو أقر بأخ في مرض الموت وصدقه المقر له ثم أنكر المريض بعد ذلك وقال ليس بيني وبينك قرابة بطل إقراره في حق الميراث أيضا حتى أنه لو أوصى بعد الإنكار بماله لإنسان ثم مات ولا وارث له فالمال كله للموصى له بجميع المال لأن الإنكار منه رجوع, والرجوع عن مثل هذا الإقرار صحيح لأنه يشبه الوصية وإن لم يكن وصية في الحقيقة والرجوع عن الوصية صحيح ولو أنكر وليس هناك موصى له بالمال أصلا فالمال لبيت المال لبطلان الإقرار أصلا بالرجوع, والله تعالى أعلم. وأما الإقرار بوارث فالكلام فيه في موضعين: أحدهما في حق ثبات النسب, والثاني في حق الميراث أما الأول فالأمر فيه لا يخلو من أحد وجهين: إما إن كان الوارث واحدا وإما إن كان أكثر من واحد بأن مات رجل وترك ابنا فأقر بأخ هل يثبت نسبه من الميت؟ اختلف فيه. قال أبو حنيفة ومحمد: لا يثبت النسب بإقرار وارث واحد, وقال أبو يوسف: يثبت وبه أخذ

 

ج / 7 ص -230-       الكرخي رحمه الله وإن كان أكثر من واحد بأن كانا رجلين أو رجلا وامرأتين فصاعدا يثبت النسب بإقرارهم بالإجماع "وجه" قول أبي يوسف رحمه الله أن إقرار الواحد مقبول في حق الميراث فيكون مقبولا في حق النسب كإقرار الجماعة. "وجه" قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما أن الإقرار بالأخوة إقرار على غيره لما فيه من حمل نسب غيره على غيره فكان شهادة وشهادة الفرد غير مقبولة بخلاف ما إذا كانا اثنين فصاعدا؛ لأن شهادة رجلين أو رجل وامرأتين في النسب مقبولة وأما في حق الميراث فإقرار الوارث الواحد بوارث يصح ويصدق في حق الميراث بأن أقر الابن المعروف بأخ, وحكمه أنه يشاركه فيما في يده من الميراث؛ لأن الإقرار بالأخوة إقرار بشيئين: النسب واستحقاق المال والإقرار بالنسب إقرار على غيره وذلك غير مقبول لأنه دعوى في الحقيقة أو شهادة, والإقرار باستحقاق المال إقرار على نفسه وأنه مقبول, ومثل هذا جائز أن يكون الإقرار الواحد مقبولا بجهة غير مقبول بجهة أخرى كمن اشترى عبدا ثم أقر أن البائع كان أعتقه قبل البيع يقبل إقراره في حق العتق ولا يقبل في حق ولاية الرجوع بالثمن على البائع فعلى ذلك ههنا جاز أن يقبل الإقرار بوارث في حق الميراث, ولا يقبل في حق ثبات النسب. ولو أقر الابن المعروف بأخت أخذت ثلث ما في يده لأن إقراره قد صح في حق الميراث ولها مع الأخ ثلث الميراث ولو أقر بامرأة أنها زوجة أبيه فلها ثمن ما في يده ولو أقر بجدة هي أم الميت فلها سدس ما في يده, والأصل أن المقر فيما في يده يعامل معاملة ما لو ثبت النسب ولو أقر ابن الميت بابن ابن للميت وصدقه لكن أنكر أن يكون المقر ابنه فالقول قول المقر والمال بينهما نصفان استحسانا, والقياس أن يكون القول قول المقر له والمال كله له ما لم يقم البينة على النسب "وجه" القياس أنهما تصادقا على إثبات وراثة المقر له واختلفا في وراثة المقر فيثبت المتفق عليه ويقف المختلف فيه على قيام الدليل "وجه" الاستحسان أن المقر له إنما استفاد الميراث من جهة المقر فلو بطل إقراره لبطلت وراثته وفي بطلان وراثته بطلان وراثة المقر له وكذلك لو أقر بابنة للميت وصدقته لكنها أنكرت أن يكون المقر ابنه فالقول قول المقر استحسانا لما قلنا ولو أقرت امرأة بأخ للزوج الميت وصدقها الأخ ولكنه أنكر أن تكون هي امرأة الميت فالقول قول المقر له عند أبي حنيفة ومحمد وزفر رحمهم الله تعالى, وهو القياس, وعلى المرأة إثبات الزوجية بالبينة وعند أبي يوسف رحمه الله القول قول المرأة والمال بينهما على قدر مواريثها ولو أقر زوج المرأة الميتة بأخ لها وصدقه الأخ لكنه أنكر أن يكون هو زوجها فهو على الاختلاف. "وجه" قول أبي يوسف قياس هذه المسألة على المسألة الأولى بالمعنى الجامع الذي ذكرناه في المسألة الأولى ولأبي حنيفة رحمه الله الفرق بين المسألتين "ووجهه" أن النكاح ينقطع بالموت والإقرار بسبب منقطع لا يسمع إلا ببينة بخلاف النسب ولو ترك ابنين فأقر أحدهما بأخ ثالث فإن صدقه الأخ المعروف في ذلك شاركهما في الميراث كما إذا أقرا جميعا لما بينا وإن كذبه فيه فإنه يقسم المال بين الأخوين المعروفين أولا نصفين فيدفع النصف إلى الأخ المنكر وأما النصف الآخر فيقسم بين الأخ المقر وبين المقر له نصفين عند عامة العلماء. وعند ابن أبي ليلى أثلاثا ثلثاه للمقر وثلثه للمقر له "وجه" قول ابن أبي ليلى أن من زعم المقر أن المال بين الإخوة الثلاثة أثلاث وأن ثلث المقر له نصفه في يده ونصفه في يد أخيه المنكر على الشيوع إلا أن إقراره على أخيه لا ينفذ فيما في يد أخيه فينفذ فيما في يده فيعطيه ثلث ذلك. "ولنا" أن من زعم المقر أن حق المقر بنسبه في الميراث حقه وأن المنكر فيما يأخذ من الزيادة وهو النصف التام ظالم فيجعل ما في يده بمنزلة الهالك فيكون النصف الباقي بينهما بالسوية لكل واحد منهما ربع المال ولو أقر أحدهما بأخت فإن صدقه الآخر فالأمر ظاهر, وإن كذبه فيقسم المال أولا نصفين بين الأخوين, النصف للأخ المنكر ثم يقسم النصف الباقي بين الأخ المقر وأخته للذكر مثل حظ الأنثيين ولو أقر أحدهما لامرأة أنها زوجة أبينا فإن صدقه الآخر فالأمر واضح للمرأة الثمن والباقي بينهما لكل واحد منهما سبعة لا تستقيم عليها فتصحح المسألة فتضرب سهمين في ثمانية فتصير ستة عشر لها ثمنها والباقي بينهما لكل واحد منهما سبعة, وإن كذبه فلها تسع ما في يده عند عامة العلماء رضي الله عنهم. وعند ابن أبي ليلى رحمه الله لها ثمن ما في يده "وجه" قوله في أن زعم المقر أن

 

ج / 7 ص -231-       للمرأة ثمن ما في يدي الأخوين إلا أن إقراره صح فيما في يد نفسه ولم يصح في حق صاحبه, وإذا صح في حق نفسه يعطيها ثمن ما في يده "وجه" قول العامة أن في زعم المقر أن ثمن التركة لها وسبعة أثمانها لهما بينهما على السوية, أصل المسألة وقسمتها ما ذكرنا إلا أن الأخ المنكر فيما يأخذ من الزيادة ظالم فيجعل ما في يده كالهالك ويقسم النصف الذي في يد المقر بينه وبينها على قدر حقهما ويجعل ما يحصل للمقر, وذلك سبعة على تسعة أسهم سهمان من ذلك لها وسبعة أسهم له, وإذا جعل هذا النصف على تسعة صار كل المال على ثمانية عشر: تسعة منها للأخ المنكر وسهمان للمرأة وسبعة أسهم للأخ المقر هذا إذا أقر الوارث بوارث واحد. فأما إذا أقر بوارث بعد وارث بأن أقر بوارث ثم أقر بوارث آخر فالأصل في هذا الإقرار أنه إن صدق المقر بوراثة الأول وفي إقراره بالوراثة للثاني فالمال بينهم على فرائض الله تعالى, وإن كذبه فيه فإن كان المقر دفع نصيب الأول إليه بقضاء القاضي لا يضمن ويجعل ذلك كالهالك, ويقسمان على ما في يد المقر على قدر حقهما, وإن كان الدفع بغير قضاء القاضي يضمن ويجعل المدفوع كالقائم في يده فيعطى الثاني حقه من كل المال. بيان هذه الجملة فيمن هلك وترك ابنا فأقر بأخ له من أبيه وأمه فإنه يدفع إليه نصف الميراث لما ذكرنا أن إقراره بالإخوة صحيح في حق الميراث, فإن أقر بأخ آخر فهذا على وجهين: إما أن أقر به بعدما دفع إلى الأول, وإما إن أقر قبل أن يدفع إلى الأول نصيبه, فإن أقر به بعد ما دفع إلى الأول نصيبه فإن كان الدفع بقضاء القاضي فللثاني ربع المال ويبقى في يد المقر الربع؛ لأن الربع في القضاء في حكم الهالك لكونه مجبورا في الدفع فيكون الباقي بينهما نصفين؛ لأن في زعم المقر أن الثاني يساويه في استحقاق الميراث فيكون لكل واحد منهما نصف النصف وهو ربع الكل. وكذلك إذا كان لم يدفع إلى الأول شيئا؛ لأن نصف المال صار مستحق الصرف إليه والمستحق كالمصروف كان دفع إليه بغير قضاء القاضي أعطى الثاني ثلث جميع المال لما ذكرنا أن الدفع بغير قضاء مضمون عليه, والمضمون كالقائم فيدفع ثلث جميع المال إليه ويبقى في يده الثلث فإن دفع ثلث المال إلى الثاني بعد قضاء القاضي ثم أقر بأخ ثالث وكذبه الثالث في الإقرار بالأولين أخذ الثالث من الابن المعروف ربع جميع المال؛ لأن كل المال قائم معنى؛ لأن الدفع بغير القضاء مضمون على الدافع فيأخذ السدس الذي في يد المقر ونصف سدس آخر؛ لأن الدفع إلى الأولين من غير قضاء القاضي لم يصح في حق الثالث فيضمن له قدر نصف سدس فيدفعه مع السدس الذي في يده إليه وعلى هذا إذا ترك ابنين فأقر أحدهما بأخ ثم أقر بأخ آخر فإن صدقه الابن المعروف اشتركوا في الميراث, وإن كذبه فإن صدقه المقر بوراثته الأول فنصف المال بينهم أثلاث لأن إقراره بالوراثة في حقه وفي حق المقر بوراثته الأول صحيح لكنه لم يصح في حق الابن المعروف وكان النصف للابن المعروف, والنصف الباقي بينهم أثلاثا وإن كذبه فإن كان المقر دفع نصف ما في يده وهو ربع جميع المال إليه بقضاء القاضي كان الباقي بينه وبين الثاني نصفين؛ لأن الدفع بقضاء القاضي في حكم الهالك فكان الباقي بينهما نصفين لكل واحد ثمن المال, وإن كان دفع إليه بغير قضاء القاضي فإن كان المقر يعطي الثاني مما في يده وهو ربع المال سدس جميع المال؛ لأن الدفع بغير قضاء مضمون على الدافع فيكون ذلك الربع كالقائم. ولو أقر أحدهما بأخت ودفع إليها نصيبها ثم أقر بأخت أخرى وكذبه الأخ فإن صدقته الأخت الأولى فنصف المال للأخ المنكر والنصف بين الأخ المقر وبين الأختين للذكر مثل حظ الأنثيين, وإن كذبته فإن كان دفع إليها نصيبها وهو ثلث النصف, وذلك سدس الكل بقضاء والباقي بين المقر وبين الأخت الأخرى للذكر مثل حظ الأنثيين لما مر أن المدفوع بغير قضاء في حكم الهالك فلا يكون مضمونا على الدافع, وإن كان الدفع بغير قضاء فإن المقر يعطي للأخت الأخرى مما في يده نصف ربع جميع المال لأن الدفع بغير القضاء إتلاف فصار كأنه قائم في يده وقد أقر بأختين ولو كان كذلك يكون لهما ربع جميع المال لكل واحدة الثمن كذلك ههنا يعطي الأخت الأخرى مما في يده نصف ربع جميع المال, والله سبحانه وتعالى أعلم لو أقر أحدهما بامرأة لأبيه ثم أقر بأخرى فإن أقر بهما معا فذلك التسعان لهما جميعا وهذا ظاهر؛ لأن فرض الزوجات لا يختلف بالقلة والكثرة, وإن أقر بالأولى ودفع إليها ثم

 

ج / 7 ص -232-       بالأخرى فإن صدقته الأولى فكذلك الجواب وإن كذبته فالنصف للأخ المنكر وتسعان للأولى فبقي هناك الابن المعروف والمرأة الأخرى فينظر إن كان دفع التسعين إلى الأولى بالقضاء يجعل ذلك كالهالك ويجعل كأن لم يكن له مال سوى الباقي وهو سبعة أسهم, فيكون ذلك بين الابن المقر وبين المرأة الأخرى على ثمانية أسهم: ثمن من ذلك للمرأة وسبعة للابن المقر وإن كان دفع إليها بغير قضاء يعطي من التسعة التي هي عنده سهما للمرأة الأخرى وهو سبع نصف جميع المال لأن المدفوع كالقائم عنده ولو كان نصف المال عنده قائما يعطي الأخرى التسع وذلك سهم؛ لأن المقر به ثمن المال للمرأتين جميعا, والثمن هو تسعان تسع للأولى وتسع للأخرى إلا أن الأولى ظلمت حيث أخذت زيادة سهم, وذلك الظلم حصل على الأخ المقر لأنه هو الذي دفع بغير قضاء القاضي فيدفع التسع الثاني إلى الأخرى وهو سبع نصف المال والباقي للابن وهو ستة أسهم, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو مات رجل وترك ابنا معروفا وألف درهم في يده فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الابن أو نكل عن اليمين فدفع إلى الغريم ذلك ثم ادعى رجل آخر على الميت ألف درهم فصدقه الابن أو نكل عن اليمين فإن كان دفع إلى الأول بقضاء لم يضمن للثاني شيئا؛ لأنه في الدفع مجبور فكان في حكم الهالك, وإن كان بغير قضاء يضمن للثاني نصف المال لأنه مختار في الدفع فكان إتلافا فيضمن, كما إذا أقر لهما ثم دفع إلى أحدهما ولو مات وترك ألف درهم فأقر بأخ ثم رجع وقال لست بأخ لي وإنما أخي هذا الرجل الآخر وصدقه الآخر بذلك وكذبه في الإقرار الأول, فإن كان دفع النصف إلى الأول بقضاء يشاركه الثاني فيما في يده فيقتسمان نصفين؛ لما بينا أن الدفع بقضاء في حكم الهلاك, وإن كان بغير قضاء يدفع جميع ما في يده وهو نصف المال إلى الآخر لما بينا. ولو مات وترك ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الوارث ودفع إليه بقضاء أو بغير قضاء وادعى رجل آخر على الميت دينا ألف درهم وكذبه الوارث وصدقه الغريم الأول وأنكر الغريم الثاني دين الغريم الأول لم يلتفت إلى إنكاره ويقتسمان الألف بينهما نصفين؛ لأن استحقاق الغريم الثاني إنما يثبت بإقرار الغريم الأول وهو يصدقه, وهو ما أقر له إلا بالنصف وكذلك لو أقر الغريم الثاني لغريم ثالث فإن الغريم الثالث يأخذ نصف ما في يده لما قلنا ولو مات وترك ألفا في يد رجل فقال الرجل: أنا أخوه لأبيه وأمه وأنت أخوه لأبيه وأمه وأنكر المقر به أن يكون المقر أخا له فالقول قول المقر استحسانا على ما بينا ولو قال المقر للمقر به: أنا وأنت أخواه لأبيه وأمه ولي عليه ألف درهم دين وأنكر المقر به الدين فالمال بينهما نصفان؛ لأن دعوى الدين دعوى أمر عارض مانع من الإرث فلا يثبت إلا بحجة. ولو مات وترك ابنا وألف درهم فادعى رجل على الميت ألف درهم فصدقه الوارث بذلك ودفع إليه ثم ادعى رجل آخر أن الميت أوصى له بثلث ماله أو ادعى أنه ابن الميت وصدقهما بذلك الابن المعروف وكذباه فيما أقر فإن كان دفع بغير قضاء فلا ضمان على الدافع؛ لأن الإرث والوصية مؤخران عن الدين فإقراره لم يصح في حق ثبات النسب, وإنما يصح في حق الميراث ولم يوجد الميراث ولو أقر لهما أول مرة ودفع إليهما ثم أقر للغريم كان للغريم أن يضمنه ما دفع إلى الأولين؛ لأن الدين مقدم فإذا دفع بغير قضاء فقد أتلف على الغريم حقه, وإن كان الدفع بقضاء لا ضمان عليه لما بينا ولو ثبت الوصية أو الميراث بالبينة بقضاء أو بغير قضاء ثم أقر الغريم بدينه فلا ضمان عليه للغريم فيما دفعه إلى الوارث والموصى له لأنه لما قامت البينة على الميراث أو الوصية فقد ظهر أنه وارث معروف أو موصى له فالإقرار بالدين لا يوجب بطلان حقهما ولو لم يكن دفع إليه لا يجوز له أن يدفع إلى الغريم ويجبره القاضي على الدفع إلى الوارث والموصى له لما قلنا, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما بيان ما يبطل به الإقرار بعد وجوده فنقول وبالله التوفيق: الإقرار بعد وجوده يبطل بشيئين أحدهما تكذيب المقر له في أحد نوعي الإقرار وهو الإقرار بحقوق العباد؛ لأن إقرار المقر دليل لزوم المقر به وتكذيب المقر دليل عدم اللزوم, واللزوم لم يعرف ثبوته فلا يثبت مع الشك. والثاني رجوع المقر عن إقراره فيما يحتمل الرجوع في أحد نوعي الإقرار بحقوق الله تبارك وتعالى خالصا كحد الزنا لأنه يحتمل أن يكون صادقا في الإنكار فيكون كاذبا

 

ج / 7 ص -233-       في الإقرار ضرورة فيورث شبهة في وجوب الحد وسواء رجع قبل القضاء أو بعده قبل تمام الجلد أو الرجم قبل الموت لما قلنا. وروي "أن ماعزا لما رجم بعض الحجارة هرب من أرض قليلة الحجارة إلى أرض كثيرة الحجارة فلما بلغ ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عليه الصلاة والسلام "سبحان الله هلا خليتم سبيله" ولهذا يستحب للإمام تلقين المقر الرجوع بقوله: لعلك لمستها أو قبلتها كما لقن رسول الله صلى الله عليه وسلم ماعزا وكما لقن عليه الصلاة والسلام السارق والسارقة بقوله عليه الصلاة والسلام "ما إخاله سرق أو أسرقت, قولي لا" لو لم يكن محتملا للرجوع لم يكن للتلقين معنى وفائدة فكان التلقين منه عليه أفضل التحية والتسليم احتيالا للدرء لأنه أمرنا به بقوله عليه أفضل التحية "ادرءوا الحدود بالشبهات" وقوله عليه الصلاة والسلام "ادرءوا الحدود ما استطعتم" وكذلك الرجوع عن الإقرار بالسرقة والشرب لأن الحد الواجب بهما حق الله سبحانه وتعالى خالصا فيصح الرجوع عن الإقرار بهما إلا أن في السرقة يصح الرجوع في حق القطع لا في حق المال لأن القطع حق الله تعالى عز شأنه على الخلوص فيصح الرجوع عنه, فأما المال فحق العبد فلا يصح الرجوع فيه. وأما حد القذف فلا يصح الرجوع عن الإقرار فيه لأن للعبد فيه حقا فيكون متهما في الرجوع فلا يصح كالرجوع عن سائر الحقوق المتمحضة للعباد وكذلك الرجوع عن الإقرار بالقصاص؛ لأن القصاص خالص حق العباد فلا يحتمل الرجوع, والله تعالى أعلم بالصواب.