بدائع
الصنائع في ترتيب الشرائع "كتاب الجنايات"
الجناية في الأصل نوعان:
جناية على البهائم والجمادات, وجناية على
الآدمي. "أما" الجناية على البهائم والجمادات
فنوعان أيضا: غصب وإتلاف, وقد ذكرنا كل واحد
منهما في كتاب الغصب, وهذا الكتاب وضع لبيان
حكم الجناية على الآدمي خاصة, فنقول وبالله
تعالى التوفيق: الجناية على الآدمي في الأصل
أنواع ثلاثة: جناية على النفس مطلقا, وجناية
على ما دون النفس مطلقا, وجناية على ما هو نفس
من وجه دون وجه. "أما" الجناية على النفس
مطلقا فهي قتل المولود, والكلام في القتل في
مواضع: في بيان أنواع القتل, وفي بيان صفة كل
نوع, وفي بيان حكم كل نوع منه. "أما" الأول:
فالقتل أربعة أنواع: قتل هو عمد محض ليس فيه
شبهة العمد, وقتل عمد فيه شبهة العمد, وهو
المسمى بشبه العمد, وقتل هو خطأ محض ليس فيه
شبهة العمد, وقتل هو في معنى القتل الخطأ.
"أما" الذي هو عمد محض فهو أن يقصد القتل
بحديد له حد أو طعن كالسيف, والسكين, والرمح,
والإشفى, والإبرة, وما أشبه ذلك, أو ما يعمل
عمل هذه الأشياء في الجرح, والطعن كالنار,
والزجاج, وليطة القصب, والمروة, والرمح الذي
لا سنان له, ونحو ذلك, وكذلك الآلة المتخذة من
النحاس, وكذلك القتل بحديد لا حد له كالعمود,
وصنجة الميزان, وظهر الفأس, والمرو, ونحو ذلك
عمد في ظاهر الرواية, "وروى" الطحاوي عن أبي
حنيفة رضي الله عنهم أنه ليس بعمد, فعلى ظاهر
الرواية العبرة للحديد نفسه سواء جرح أو لا,
وعلى رواية الطحاوي العبرة للجرح نفسه حديدا
كان أو غيره, وكذلك إذا كان في معنى الحديد
كالصفر, والنحاس, والآنك, والرصاص, والذهب,
والفضة فحكمه حكم الحديد. وأما شبه العمد
فثلاثة أنواع بعضها متفق على كونه شبه عمد,
وبعضها مختلف فيه, أما المتفق عليه فهو أن
يقصد القتل بعصا صغيرة أو بحجر صغير أو لطمة,
ونحو ذلك مما لا يكون الغالب فيه الهلاك
كالسوط, ونحوه إذا ضرب ضربة أو ضربتين, ولم
يوال في الضربات. وأما المختلف فيه فهو أن
يضرب بالسوط الصغير, ويوالي في الضربات إلى أن
يموت, وهذا شبه عمد بلا خلاف بين أصحابنا
رحمهم الله تعالى وعند الشافعي رحمه الله هو
عمد, وإن قصد قتله بما يغلب فيه الهلاك مما
ليس بجارح, ولا طاعن كمدقة القصارين, والحجر
الكبير, والعصا الكبيرة, ونحوها فهو شبه عمد
عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما, والشافعي
هو عمد, ولا يكون فيما دون النفس شبه عمد, فما
كان شبه عمد في النفس فهو عمد فيما دون النفس؛
لأن ما دون النفس لا يقصد إتلافه بآلة دون آلة
عادة فاستوت الآلات كلها في الدلالة على القصد
فكان الفعل عمدا
ج / 7 ص -234-
محضا
فينظر إن أمكن إيجاب القصاص يجب القصاص, وإن
لم يمكن يجب الأرش. وأما القتل الخطأ فالخطأ
قد يكون في نفس الفعل, وقد يكون في ظن الفاعل
أما الأول: فنحو أن يقصد صيدا فيصيب آدميا,
وأن يقصد رجلا فيصيب غيره, فإن قصد عضوا من
رجل فأصاب عضوا آخر منه فهذا عمد, وليس بخطأ.
وأما الثاني: فنحو أن يرمي إلى إنسان على ظن
أنه حربي أو مرتد فإذا هو مسلم. وأما الذي هو
في معنى الخطأ فنذكر حكمه, وصفته بعد هذا إن
شاء الله تعالى فهذه صفات هذه الأنواع. وأما
بيان أحكامها فوقوع القتل بإحدى هذه الصفات لا
يخلو إما أن علم, وإما أن لم يعلم بأن وجد
قتيل لا يعلم قاتله فإن علم ذلك. أما القتل
العمد المحض فيتعلق به أحكام: منها وجوب
القصاص, والكلام في القصاص في مواضع: في بيان
شرائط وجوب القصاص, وفي بيان كيفية وجوبه, وفي
بيان من يستحق القصاص, وفي بيان من يلي
استيفاء القصاص, وشرط جواز استيفائه, وفي بيان
ما يستوفى به القصاص, وكيفية الاستيفاء, وفي
بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه. "أما" الأول:.
فلوجوب القصاص شرائط: بعضها يرجع إلى القاتل,
وبعضها يرجع إلى المقتول, وبعضها يرجع إلى نفس
القتل, وبعضها يرجع إلى ولي القتيل أما الذي
يرجع إلى القاتل فخمسة: أحدها: أن يكون عاقلا,
والثاني: أن يكون بالغا, فإن كان مجنونا أو
صبيا لا يجب؛ لأن القصاص عقوبة, وهما ليسا من
أهل العقوبة, لأنها لا تجب إلا بالجناية,
وفعلهما لا يوصف بالجناية. ولهذا لم تجب
عليهما الحدود. وأما ذكورة القاتل, وحريته,
وإسلامه فليس من شرائط الوجوب, والثالث: أن
يكون متعمدا في القتل قاصدا إياه فإن كان
مخطئا فلا قصاص عليه لقول النبي "العمد قود"
أي القتل العمد يوجب القود, شرط العمد لوجوب
القود, ولأن القصاص عقوبة متناهية فيستدعي
جناية متناهية, والجناية لا تتناهى إلا
بالعمد, والرابع: أن يكون القتل منه عمدا محضا
ليس فيه شبهة العمد, لأنه عليه الصلاة والسلام
شرط العمد مطلقا بقول النبي
"العمد قود", والعمد
المطلق هو العمد من كل وجه, ولا كمال مع شبهة
العمد. ولأن الشبهة في هذا الباب ملحقة
بالحقيقة, وعلى هذا يخرج القتل بضربة أو
ضربتين على قصد القتل أنه لا يوجب القود؛ لأن
الضربة أو الضربتين مما لا يقصد به القتل عادة
بل التأديب والتهذيب, فتمكنت في القصد شبهة
العمد, وعلى هذا يخرج قول أصحابنا رضي الله
عنهم في الموالاة في الضربات أنها لا توجب
القصاص خلافا للشافعي. "وجه" قوله أن الموالاة
في الضربات دليل قصد القتل لأنها لا يقصد بها
التأديب عادة, وأصل القصد موجود فيتمحض القتل
عمدا فيوجب القصاص. "ولنا" أن شبهة عدم القصد
ثابتة, لأنه يحتمل حصول القتل بالضربة,
والضربتين على سبيل الاستقلال من غير الحاجة
إلى الضربات الأخر, والقتل بضربة أو ضربتين لا
يكون عمدا, فتبين بذلك أنه لا يوجب القصاص,
وإذا جاء الاحتمال جاءت الشبهة وزيادة, وعلى
هذا يخرج قول أبي حنيفة رضي الله عنه في القتل
بالمثقل أنه لا يوجب القود خلافا لهما,
والشافعي رحمهم الله. "وجه" قولهم أن الضرب
بالمثقل مهلك عادة ألا ترى أنه لا يستعمل إلا
في القتل فكان استعماله دليل القصد إلى القتل
كاستعمال السيف, وقد انضم إليه أصل القصد فكان
القتل الحاصل به عمدا محضا, ولأبي حنيفة رحمه
الله طريقان مختلفان على حسب اختلاف الروايتين
عنه, أحدهما أن القتل بآلة غير معدة للقتل
دليل عدم القصد, لأن تحصيل كل فعل بالآلة
المعدة له, فحصوله بغير ما أعد له دليل عدم
القصد, والمثقل, ما يجري مجراه ليس بمعد للقتل
عادة فكان القتل به دلالة عدم القصد, فيتمكن
في العمدية شبهة العمد, بخلاف القتل بحديد لا
حد له؛ لأن الحديد آلة معدة للقتل قال الله
تبارك, وتعالى:
{وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ}, والقتل بالعمود معتاد, فكان القتل به دليل القصد فيتمحض عمدا,
وهذا على قياس ظاهر الرواية, والثاني وهو قياس
رواية الطحاوي رحمه الله هو اعتبار الجرح أنه
يمكن القصور في هذا القتل لوجود فساد الباطن
دون الظاهر, وهو نقض التركيب, وفي الاستيفاء
إفساد الباطن والظاهر جميعا, فلا تتحقق
المماثلة, وعلى هذا الخلاف إذا خنق رجلا فقتله
أو غرقه بالماء أو ألقاه من جبل أو سطح فمات
أنه لا قصاص فيه عند أبي حنيفة, وعندهما يجب,
ولو طين على أحد بيتا حتى مات جوعا أو عطشا لا
يضمن شيئا عند أبي حنيفة, وعندهما يضمن الدية.
"وجه" قولهما أن الطين الذي عليه تسبيب
لإهلاكه, لأنه لا بقاء للآدمي إلا بالأكل,
والشرب فالمنع عند استيلاء الجوع والعطش عليه
يكون
ج / 7 ص -235-
إهلاكا
له, فأشبه حفر البئر على قارعة الطريق, ولأبي
حنيفة رحمه الله أن الهلاك حصل بالجوع والعطش
لا بالتطيين, ولا صنع لأحد في الجوع والعطش,
بخلاف الحفر فإنه سبب للوقوع, والحفر حصل من
الحافر فكان قتلا تسبيبا, ولو أطعم غيره سما
فمات, فإن كان تناول بنفسه فلا ضمان على الذي
أطعمه؛ لأنه أكله باختياره, لكنه يعزر, ويضرب,
ويؤدب؛ لأنه ارتكب جناية ليس لها حد مقدر, وهي
الغرور فإن أوجره السم فعليه الدية عندنا,
وعند الشافعي رحمه الله عليه القصاص, ولو غرق
إنسانا فمات أو صاح على وجهه فمات فلا قود
عليه عندنا, وعليه الدية, وعنده عليه القود,
والخامس: أن يكون القاتل مختارا, اختيار
الإيثار عند أصحابنا الثلاثة رحمهم الله وعند
زفر, والشافعي رحمهما الله هذا ليس بشرط, وعلى
هذا يخرج المكره على القتل أنه لا قصاص عليه
عندنا, خلافا لهما, والمسألة مرت في كتاب
الإكراه. وأما الذي يرجع إلى المقتول فثلاثة
أنواع: أحدها: أن لا يكون جزء القاتل, حتى لو
قتل الأب ولده لا قصاص عليه, وكذلك الجد أب
الأب أو أب الأم وإن علا, وكذلك إذا قتل الرجل
ولد ولده وإن سفلوا, وكذا الأم إذا قتلت ولدها
أو أم الأم أو أم الأب إذا قتلت ولد ولدها,
والأصل فيه ما روي عن النبي عليه الصلاة
والسلام أنه قال:
"لا يقاد الوالد بولده", واسم
الوالد والولد يتناول كل والد, وإن علا, وكل
ولد وإن سفل, ولو كان في ورثة المقتول ولد
القاتل أو ولد ولده فلا قصاص, لأنه تعذر إيجاب
القصاص للولد في نصيبه, فلا يمكن الإيجاب
للباقين, لأنه لا يتجزأ وتجب الدية للكل.
ويقتل الولد بالوالد لعمومات القصاص من غير
فصل, ثم خص منها الوالد بالنص الخالص فبقي
الولد داخلا تحت العموم, ولأن القصاص شرع
لتحقيق حكمة الحياة بالزجر, والردع, والحاجة
إلى الزجر في جانب الولد لا في جانب الوالد؛
لأن الوالد يحب ولده لولده لا لنفسه بوصول
النفع إليه من جهته, أو يحبه لحياة الذكر لما
يحيا به ذكره, وفيه أيضا زيادة شفقة تمنع
الوالد عن قتله, فأما الولد فإنما يحب والده
لا لوالده بل لنفسه, وهو وصول النفع إليه من
جهته, فلم تكن محبته وشفقته مانعة من القتل,
فلزم المنع بشرع القصاص كما في الأجانب, ولأن
محبة الولد لوالده لما كانت لمنافع تصل إليه
من جهته لا لعينه فربما يقتل الوالد ليتعجل
الوصول إلى أملاكه, لا سيما إذا كان لا يصل
النفع إليه من جهته لعوارض, ومثل هذا يندر في
جانب الأب. والثاني: أن لا يكون ملك القاتل,
ولا له فيه شبهة الملك حتى لا يقتل المولى
بعبده لقوله عليه الصلاة والسلام
"لا يقاد الوالد بولده, ولا السيد بعبده", ولأنه لو وجب القصاص لوجب له والقصاص الواحد كيف يجب له وعليه
وكذا إذا كان يملك بعضه فقتله لا قصاص عليه
لأنه لا يمكن استيفاء بعض القصاص دون بعض؛
لأنه غير متجزئ, وكذا إذا كان له فيه شبهة
الملك كالمكاتب إذا قتل عبدا من كسبه؛ لأن
للمكاتب شبهة في أكسابه, والشبهة في هذا الباب
ملحقة بالحقيقة, ولا يقتل المولى بمدبره, وأم
ولده, ومكاتبه, لأنهم مماليكه حقيقة, ألا ترى
أنه لو قال: "كل مملوك لي فهو حر" عتق هؤلاء
إلا المكاتب فإنه لا يعتق إلا بالنية لقصور في
الإضافة إليه بالملك لزوال ملك اليد. ويقتل
العبد بمولاه, وكذا المدبر, وأم الولد,
والمكاتب لعمومات النصوص, ولتحقيق ما شرع له
القصاص, وهو الحياة بالزجر والردع, بخلاف
المولى إذا قتل هؤلاء؛ لأن شفقة المولى على
ماله تمنعه عن القتل عند سيحان العداوة الحامل
على القتل إلا نادرا, فلا حاجة إلى الزجر
بالقصاص بخلاف العبد, ولو اشترك اثنان في قتل
رجل أحدهما ممن يجب القصاص عليه لو انفرد,
والآخر لا يجب عليه لو انفرد ممن ذكرنا كالصبي
مع البالغ, والمجنون مع العاقل, والخاطئ مع
العامد, والأب مع الأجنبي, والمولى مع الأجنبي
لا قصاص عليهما عندنا, وقال الشافعي رحمه الله
يجب القصاص على العاقل, والبالغ, والأجنبي إلا
العامد فإنه لا قصاص عليه إذا شاركه الخاطئ.
"وجه" قوله أن سبب الوجوب وجد من كل واحد
منهما, وهو القتل العمد, إلا أنه امتنع الوجوب
على أحدهما لمعنى يخصه فيجب على الآخر, ولنا
أنه تمكنت شبهة عدم القتل في فعل كل واحد
منهما, لأنه يحتمل أن يكون فعل من لا يجب عليه
القصاص لو انفرد مستقلا في القتل, فيكون فعل
الآخر فضلا, ويحتمل على القلب, وهذه الشبهة
ثابتة في الشريكين الأجنبيين, إلا أن الشرع
أسقط اعتبارها, وألحقها بالعدم فتحا لباب
القصاص, وسدا لباب العدوان, لأن الاجتماع ثم
يكون أغلب, وههنا أندر فلم يكن في معنى مورد
الشرع فلا يلحق
ج / 7 ص -236-
به,
وعليهما الدية لوجود القتل إلا أنه امتنع وجوب
القصاص للشبهة فتجب الدية, ثم ما يجب على
الصبي والمجنون والخاطئ تتحمله العاقلة, وما
يجب على البالغ والعاقل والعامد يكون في ماله؛
لأن القتل عمد لكن سقط القصاص للشبهة,
والعاقلة لا تعقل العمد وفي الأب, والأجنبي
الدية في مالهما؛ لأن القتل عمد, وفي المولى
مع الأجنبي على الأجنبي نصف قيمة العبد في
ماله لما قلنا, وكذلك إذا جرح نفسه, وجرحه
أجنبي فمات لا قصاص على الأجنبي عندنا خلافا
للشافعي, وعلى الأجنبي نصف الدية, لأنه مات
بجرحين أحدهما هدر, والآخر معتبر, وعلى هذا
مسائل تأتي في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
والثالث: أن يكون معصوم الدم مطلقا, فلا يقتل
مسلم, ولا ذمي بالكافر الحربي, ولا بالمرتد
لعدم العصمة أصلا ورأسا, ولا بالحربي المستأمن
في ظاهر الرواية؛ لأن عصمته ما ثبتت مطلقة بل
مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام, وهذا
لأن المستأمن من أهل دار الحرب, وإنما دخل دار
الإسلام لا لقصد الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها
ثم يعود إلى وطنه الأصلي, فكانت في عصمته شبهة
العدم. وروي عن أبي يوسف أنه يقتل به قصاصا
لقيام العصمة وقت القتل, وهل يقتل المستأمن
بالمستأمن؟ ذكر في السير الكبير أنه يقتل,
وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يقتل. ولا يقتل
العادل بالباغي لعدم العصمة بسبب الحرب, لأنهم
يقصدون أموالنا وأنفسنا ويستحلونها, وقد قال
عليه الصلاة والسلام:
"قاتل دون
نفسك", وقال عليه الصلاة والسلام
"قاتل دون مالك",
ولا يقتل الباغي بالعادل أيضا عندنا, وعند
الشافعي رحمه الله يقتل, لأن المقتول معصوم
مطلقا. "ولنا" أنه غير معصوم في زعم الباغي,
لأنه يستحل دم العادل بتأويل, وتأويله وإن كان
فاسدا لكن له منعة, والتأويل الفاسد عند وجود
المنعة ألحق بالتأويل الصحيح في حق وجوب
الضمان بإجماع الصحابة رضي الله عنهم, فإنه
روي عن الزهري أنه قال: وقعت الفتنة, والصحابة
متوافرون, فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل
القرآن العظيم فهو موضوع, وعلى هذا يخرج ما
إذا قال الرجل لآخر: اقتلني, فقتله أنه لا
قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة, وعند زفر يجب
القصاص. "وجه" قوله أن الآمر بالقتل لم يقدح
في العصمة, لأن عصمة النفس مما لا تحتمل
الإباحة بحال, ألا ترى أنه يأثم بالقول؟ فكان
الأمر ملحقا بالعدم بخلاف الأمر بالقطع, لأن
عصمة الطرف تحتمل الإباحة في الجملة فجاز أن
يؤثر الأمر فيها, ولنا أنه تمكنت في هذه
العصمة شبهة العدم, لأن الأمر, وإن لم يصح
حقيقة فصيغته تورث شبهة, والشبهة في هذا الباب
لها حكم الحقيقة, وإذا لم يجب القصاص فهل تجب
الدية؟ فيها روايتان عن أبي حنيفة رضي الله
عنه في رواية تجب, وفي رواية لا تجب, وذكر
القدوري رحمه الله أن هذا أصح الروايتين, وهو
قول أبي يوسف, ومحمد رحمهما الله, وينبغي أن
يكون الأصح هي الأولى؛ لأن العصمة قائمة مقام
الحرمة, وإنما سقط القصاص لمكان الشبهة,
والشبهة لا تمنع وجوب المال, ولو قال اقطع يدي
فقطع لا شيء عليه بالإجماع؛ لأن الأطراف يسلك
بها مسلك الأموال, وعصمة الأموال تثبت حقا له,
فكانت محتملة للسقوط بالإباحة والإذن, كما لو
قال له: أتلف مالي فأتلفه, ولو قال: اقتل عبدي
أو اقطع يده فقتل أو قطع فلا ضمان عليه؛ لأن
عبده ماله, وعصمة ماله ثبتت حقا له فجاز أن
يسقط بإذنه كما في سائر أمواله, ولو قال: اقتل
أخي فقتله, وهو وارثه القياس أن يجب القصاص,
وهو قول زفر رحمه الله, وقال أبو حنيفة رضي
الله عنه أستحسن أن آخذ الدية من القاتل.
"وجه" القياس أن الأخ الآمر أجنبي عن دم أخيه
فلا يصح إذنه بالقتل فالتحق بالعدم. "وجه"
الاستحسان أن القصاص لو وجب بقتل أخيه لوجب
له, والقتل حصل بإذنه, والإذن إن لم يعمل شرعا
لكنه وجد حقيقة من حيث الصيغة, فوجوده يورث
شبهة كالإذن بقتل نفسه, والشبهة لا تؤثر في
وجوب المال, وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي
الله عنهما فيمن أمر إنسانا أن يقتل ابنه
فقتله أنه يقتل به, وهذا يوجب اختلاف
الروايتين في المسألتين, ولو أمره أن يشجه
فشجه فلا شيء عليه إن لم يمت من الشجة؛ لأن
الأمر بالشجة كالأمر بالقطع, وإن مات منها
كانت عليه الدية كذا ذكر في الكتاب, ويحتمل
هذا أن يكون على أصل أبي حنيفة رحمه الله خاصة
بناء على أن العفو عن الشجة لا يكون عفوا عن
القتل عنده, فكذا الأمر بالشجة لا يكون أمرا
بالقتل, ولما مات تبين أن الفعل, وقع قتلا من
حين وجوده لا شجا, وكان
ج / 7 ص -237-
القياس
أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فتجب الدية,
فأما على أصلهما فينبغي أن لا يكون عليه شيء,
لأن العفو عن الشجة يكون عفوا عن القتل
عندهما, فكذا الأمر بالشجة يكون أمرا بالقتل.
روى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله فيمن أمر
إنسانا بأن يقطع يده ففعل فمات من ذلك أنه لا
شيء على قاطعه, ويحتمل أن يكون هذا قولهما
خاصة, كما قالا فيمن له القصاص في الطرف إذا
قطع طرف من عليه القصاص فمات: إنه لا شيء عليه
فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن
تجب الدية؛ لأنه لما مات تبين أن الفعل وقع
قتلا, والمأمور به القطع لا القتل, وكان
القياس أن يجب القصاص كما قال فيمن له القصاص
في الطرف, إلا أنه سقط لمكان الشبهة فتجب
الدية, وعلى هذا يخرج الحربي إذا أسلم في دار
الحرب, ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم أنه لا
قصاص عليه عندنا, لأنه وإن كان مسلما فهو من
أهل دار الحرب قال الله تبارك وتعالى
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ} فكونه من أهل دار الحرب أورث شبهة في عصمته, ولأنه إذا لم يهاجر
إلينا فهو مكثر سواد الكفرة, ومن كثر سواد قوم
فهو منهم على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو وإن لم يكن منهم دينا فهو منهم دارا
فيورث الشبهة. ولو كانا مسلمين تاجرين أو
أسيرين في دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فلا
قصاص أيضا, وتجب الدية, والكفارة في التاجرين,
وفي الأسيرين خلاف ما ذكرناه في كتاب السير,
ولا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال
الذات, وهو سلامة الأعضاء, ولا أن يكون مثله
في الشرف, والفضيلة فيقتل سليم الأطراف بمقطوع
الأطراف, والأشل, ويقتل العالم بالجاهل,
والشريف بالوضيع, والعاقل بالمجنون, والبالغ
بالصبي, والذكر بالأنثى, والحر بالعبد,
والمسلم بالذمي الذي يؤدي الجزية, وتجري عليه
أحكام الإسلام, وقال الشافعي رحمه الله: كون
المقتول مثل القاتل في شرف الإسلام والحرية
شرط وجوب القصاص, ونقصان الكفر, والرق يمنع من
الوجوب, فلا يقتل المسلم بالذمي, ولا الحر
بالعبد, ولا خلاف في أن الذمي إذا قتل ذميا ثم
أسلم القاتل أنه يقتل به قصاصا, وكذا العبد
إذا قتل عبدا ثم عتق القاتل احتج في عدم قتل
المسلم بالذمي بما روي عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال
"لا يقتل مؤمن بكافر", وهذا
نص في الباب, ولأن في عصمته شبهة العدم
لثبوتها مع القيام المنافي, وهو الكفر؛ لأنه
مبيح في الأصل لكونه جناية متناهية فيوجب
عقوبة متناهية, وهو القتل لكونه من أعظم
العقوبات الدنيوية, إلا أنه منع من قتله
لغيره, وهو نقض العهد الثابت بالذمة فقيامه
يورث شبهة؛ ولهذا لا يقتل المسلم بالمستأمن
فكذا الذمي؛ ولأن المساواة شرط وجوب القصاص,
ولا مساواة بين المسلم, والكافر, ألا ترى أن
المسلم مشهود له بالسعادة, والكافر مشهود له
بالشقاء فأنى يتساويان ؟. "ولنا" عمومات
القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى
{كُتِبَ
عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى},
وقوله سبحانه, وتعالى:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ
النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}, وقوله جلت عظمته:
{وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً} من غير فصل بين قتيل وقتيل, ونفس ونفس, ومظلوم ومظلوم, فمن ادعى
التخصيص والتقييد فعليه الدليل, وقوله سبحانه,
وتعالى عز من قائل:
{وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ}, وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم
بالمسلم؛ لأن العداوة الدينية تحمله على القتل
خصوصا عند الغضب, ويجب عليه قتله لغرمائه
فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس فكان في شرع
القصاص فيه في تحقيق معنى الحياة أبلغ, وروى
محمد بن الحسن رحمهما الله بإسناده عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم أنه
"أقاد مؤمنا بكافر", وقال عليه الصلاة والسلام "أنا أحق من وفى ذمته". وأما الحديث فالمراد من الكافر المستأمن, لأنه قال عليه الصلاة
والسلام
"لا يقتل مؤمن
بكافر, ولا ذو عهد في عهده" عطف
قوله,
"ولا ذو عهد في عهده" على المسلم فكان معناه لا يقتل مؤمن بكافر, ولا ذو عهد به, ونحن به
نقول أو نحمله على هذا توفيقا بين الدلائل
صيانة لها عن التناقض. وأما قوله: "في عصمته
شبهة العدم" ممنوع بل دمه حرام لا يحتمل
الإباحة بحال مع قيام الذمة بمنزلة دم المسلم
مع قيام الإسلام, وقوله: "الكفر مبيح على
الإطلاق" ممنوع بل المبيح هو الكفر الباعث على
الحراب, وكفره ليس بباعث على الحراب فلا يكون
مبيحا, وقوله: "لا مساواة بين المسلم والكافر"
قلنا: المساواة في الدين ليس بشرط, ألا ترى أن
الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل يقتل به
قصاصا, ولا
ج / 7 ص -238-
مساواة
بينهما في الدين, لكن القصاص محنة امتحنوا
الخلق بذلك, فكل من كان أقبل بحق الله تعالى,
وأشكر لنعمه كان أولى بهذه المحنة, لأن العذر
له في ارتكاب المحذور أقل, وهو بالوفاء بعهد
الله تعالى أولى, ونعم الله تعالى في حقه أكمل
فكانت جنايته أعظم, واحتج في قتل الحر بالعبد
بقول الله تبارك وتعالى
{الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ
بِالْعَبْدِ}, وفسر القصاص المكتوب في صدر الآية بقتل الحر بالحر, والعبد بالعبد
فيجب أن لا يكون قتل الحر بالعبد قصاصا, ولأنه
لا مساواة بين النفسين في العصمة لوجهين:
أحدهما: أن الحر آدمي من كل وجه, والعبد آدمي
من وجه, مال من وجه, وعصمة الحر تكون له,
وعصمة المال تكون للمالك, والثاني: أن في عصمة
العبد شبهة العدم؛ لأن الرق أثر الكفر, والكفر
مبيح في الأصل فكان في عصمته شبهة العدم,
وعصمة الحر تثبت مطلقة فأنى يستويان في
العصمة, وكذا لا مساواة بينهما في الفضيلة,
والكمال؛ لأن الرق يشعر بالذل والنقصان,
والحرية تنبئ عن العزة, والشرف. "ولنا" عمومات
القصاص من غير فصل بين الحر والعبد؛ ولأن ما
شرع له القصاص, وهو الحياة لا يحصل إلا بإيجاب
القصاص على الحر بقتل العبد؛ لأن حصوله يقف
على حصول الامتناع عن القتل خوفا على نفسه,
فلو لم يجب القصاص بين الحر والعبد لا يخشى
الحر تلف نفسه بقتل العبد فلا يمتنع عن قتله
بل يقدمه عليه عند أسباب حاملة على القتل من
الغيظ المفرط, ونحو ذلك, فلا يحصل معنى
الحياة, ولا حجة له في الآية, لأن فيها أن قتل
الحر بالحر, والعبد بالعبد قصاص, وهذا لا ينفي
أن يكون قتل الحر بالعبد قصاصا, لأن التنصيص
لا يدل على التخصيص, ونظيره قوله عليه الصلاة
والسلام
"البكر بالبكر جلد مائة, وتغريب عام, والثيب جلد مائة, ورجم بالحجارة" ثم البكر
إذا زنى بالثيب وجب الحكم الثابت بالحديث, فدل
أنه ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم به, يدل
عليه أن العبد يقتل بالحر, والأنثى بالذكر,
ولو كان التنصيص على الحكم في نوع موجبا تخصيص
الحكم به لما قتل, ثم قوله تعالى:
{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} حجة عليكم, لأنه قال:
{وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى} مطلقا فيقتضي أن تقتل الحرة بالأمة, وعندكم لا تقتل, فكان حجة
عليكم, وقوله: "العبد آدمي من وجه مال من وجه"
قلنا: لا, بل آدمي من كل وجه؛ لأن الآدمي اسم
لشخص على هيئة مخصوصة منسوب إلى سيدنا آدم
عليه الصلاة والسلام والعبد بهذه الصفة فكانت
عصمته مثل عصمة الحر بل فوقها, على أن نفس
العبد في الجناية له, لا لمولاه, بدليل أن
العبد لو أقر على نفسه بالقصاص والحد يؤخذ به,
ولو أقر عليه مولاه بذلك لا يؤخذ به فكان نفس
العبد في الجناية له لا للمولى كنفس الحر
للحر. وأما قوله: "الحر أفضل من العبد" فنعم
لكن التفاوت في الشرف, والفضيلة لا يمنع وجوب
القصاص؟ ألا ترى أن العبد لو قتل عبدا ثم أعتق
القاتل يقتل به قصاصا, وإن استفاد فضل الحرية.
وكذا الذكر يقتل بالأنثى وإن كان أفضل من
الأنثى, وكذا لا تشترط المماثلة, في العدد في
القصاص في النفس, وإنما تشترط في الفعل
بمقابلة الفعل زجرا, وفي الفائت بالفعل جبرا,
حتى لو قتل جماعة واحدا يقتلون به قصاصا وإن
لم يكن بين الواحد والعشرة مماثلة لوجود
المماثلة في الفعل, والفائت به زجرا, وجبرا
على ما نذكره إن شاء الله تعالى وأحق ما يجعل
فيه القصاص إذا قتل الجماعة الواحد؛ لأن القتل
لا يوجد عادة إلا على سبيل التعاون, والاجتماع
فلو لم يجعل فيه القصاص لانسد باب القصاص؛ إذ
كل من رام قتل غيره استعان بغير يضمه إلى نفسه
ليبطل القصاص عن نفسه, وفيه تفويت ما شرع له
القصاص, وهو الحياة, هذا إذا كان القتل على
الاجتماع, فأما إذا كان على التعاقب بأن شق
رجل بطنه ثم حز آخر رقبته فالقصاص على الحاز
إن كان عمدا. وإن كان خطأ فالدية على عاقلته,
لأنه هو القاتل لا الشاق, ألا ترى أنه قد يعيش
بعد شق البطن بأن يخاط بطنه, ولا يحتمل أن
يعيش بعد حز رقبته عادة, وعلى الشاق أرش الشق,
وهو ثلث الدية؛ لأنه جائفة, وإن كان الشق نفذ
من الجانب الآخر فعليه ثلثا الدية في سنتين,
في كل سنة ثلث الدية, لأنهما جائفتان, هذا إذا
كان الشق مما يحتمل أن يعيش بعده يوما أو بعض
يوم, فأما إذا كان لا يتوهم ذلك, ولم يبق معه
إلا غمرات الموت, والاضطراب فالقصاص على
الشاق, لأنه القاتل, ولا ضمان على الحاز, لأنه
قتل المقتول من حيث المعنى, لكنه يعزر
لارتكابه جناية ليس لها مقدر, وكذلك لو جرحه
رجل جراحة مثخنة لا يعيش
ج / 7 ص -239-
معها
عادة ثم جرحه آخر جراحة أخرى فالقصاص على
الأول, لأنه القاتل؛ لإتيانه بفعل مؤثر في
فوات الحياة عادة, فإن كانت الجراحتان معا
فالقصاص عليهما, لأنهما قاتلان. ولو جرحه
أحدهما جراحة واحدة, والآخر عشر جراحات
فالقصاص عليهما, ولا عبرة بكثرة الجراحات؛ لأن
الإنسان قد يموت بجراحة واحدة ولا يموت
بجراحات كثيرة, والله سبحانه وتعالى أعلم.
وكذلك الواحد يقتل بالجماعة قصاصا اكتفاء, ولا
يجب مع القود شيء من المال عندنا, وقال
الشافعي رحمه الله ينظر إن قتلهم على التعاقب
يقتل بالأول قصاصا, وتؤخذ ديات الباقين من
تركته, وإن قتلهم معا فله فيه قولان: في قول:
يقرع بينهم فمن خرجت قرعته يقتل, وتجب الدية
للباقين, وفي قول: يجتمع أولياء القتلى
فيقتلونه, وتقسم ديات الباقين بينهم. "وجه"
قوله أن المماثلة مشروطة في باب القصاص, ولا
مماثلة بين الواحد والجماعة, فلا يجوز أن يقتل
الواحد بالجماعة على طريق الاكتفاء به, فيقتل
الواحد بالواحد, وتجب الديات للباقين, كما لو
قطع واحد يميني رجلين أنه لا يقطع بهما اكتفاء
بل يقطع بإحداهما, وعليه أرش الأخرى؛ لما
قلنا, كذا هذا, وكان ينبغي أن لا يقتل الجماعة
بالواحد قصاصا إلا أنا عرفنا ذلك بإجماع
الصحابة رضي الله تعالى عنهم غير معقول أو
معقولا بحكمة الزجر والردع لما يغلب وجود
القتل بصفة الاجتماع, فتقع الحاجة إلى الزجر
فيجعل كل واحد منهم قاتلا على الكمال كأن ليس
معه غيره تحقيقا للزجر, وقتل الواحد الجماعة
لا يغلب وجوده بل يندر فلم يكن في معنى ما ورد
الشرع به فلا يلحق به, وإنا نقول: حق الأولياء
في القتل مقدور الاستيفاء لهم فلو أوجبنا معه
المال لكان زيادة على القتل. وهذا لا يجوز,
والدليل على أن القتل مقدور الاستيفاء لهم أن
التماثل في باب القصاص إما أن يراعى في الفعل
زجرا, وإما أن يراعى في الفائت بالفعل جبرا,
وإما أن يراعى فيهما جميعا, وكل ذلك موجود
ههنا, أما في الفعل زجرا فلأن الموجود من
الواحد في حق كل واحد من الجماعة فعل مؤثر في
فوات الحياة عادة, والمستحق لكل واحد من
أولياء القتلى قبل القاتل قتله, فكان الجزاء
مثل الجناية. وأما في الفائت جبرا فلأنه بقتله
الجماعة ظلما انعقد سبب هلاك ورثة القتلى؛
لأنهم يقصدون قتله طلبا للثأر وتشفيا للصدر
فيقصد هو قتلهم دفعا للهلاك عن نفسه فتقع
المحاربة بين القبيلتين, ومتى قتل منهم قصاصا
سكنت الفتنة, واندفع سبب الهلاك عن ورثتهم
فتحصل الحياة لكل قتيل معنى ببقاء حياة ورثته
بسبب القصاص, فيصير كأن القاتل دخر حياة كل
قتيل تقديرا بدفع سبب الهلاك عن ورثته, فيتحقق
الجبر بالقدر الممكن كما في قتل الواحد
بالواحد, والجماعة بالواحد من غير تفاوت. وأما
الذي يرجع إلى نفس القتل فنوع واحد, وهو أن
يكون القتل مباشرة فإن كان تسبيبا لا يجب
القصاص؛ لأن القتل تسبيبا لا يساوي القتل
مباشرة, والجزاء قتل بطريق المباشرة, وعلى هذا
يخرج من حفر بئرا على قارعة الطريق فوقع فيها
إنسان ومات أنه لا قصاص على الحافر؛ لأن الحفر
قتل سببا لا مباشرة, وعلى هذا يخرج شهود
القصاص إذا رجعوا بعد قتل المشهود عليه أو جاء
المشهود بقتله حيا أنه لا قصاص عليهم عندنا
خلافا للشافعي رحمه الله. "وجه" قوله أن شهادة
الشهود وقعت قتلا, لأن القتل اسم لفعل مؤثر في
فوات الحياة عادة, وقد وجد من الشهود؛ لأن
شهادتهم مؤثرة في ظهور القصاص, والظهور مؤثر
في وجوب القضاء على القاضي وقضاء القاضي مؤثر
في ولاية الاستيفاء, وولاية الاستيفاء مؤثرة
في الاستيفاء طبعا وعادة, فكانت فوات الحياة
بهذه الوسائط مضافة إلى الشهادة السابقة فكانت
شهادتهم قتلا تسبيبا, والقتل تسبيبا مثل القتل
مباشرة في حق وجوب القصاص كالإكراه على القتل
أنه يوجب القصاص على المكره, وإن لم يكن قتلا
بطريق المباشرة لوقوعه قتلا بطريق التسبيب,
كذا هذا. "ولنا" ما ذكرنا أن القتل تسبيبا لا
يساوي القتل مباشرة؛ لأن القتل تسبيبا قتل
معنى لا صورة, والقتل مباشرة قتل صورة ومعنى,
والجزاء قتل مباشرة بخلاف الإكراه على القتل؛
لأنه قتل مباشرة, لأنه يجعل المكره آلة المكره
كأنه أخذه وضربه على المكره على قتله, والفعل
لمستعمل الآلة لا للآلة فكان قتلا مباشرة,
ويضمنون الدية بوجود القتل منهم, وهل يرجعون
بها على الولي؟ اختلف أصحابنا الثلاثة فيه,
قال أبو حنيفة عليه الرحمة: لا يرجعون,
وعندهما يرجعون, ولهما أن الشهود بأداء الضمان
قاموا مقام المقتول في ملك بدله إن لم يقوموا
مقامه في ملك
ج / 7 ص -240-
عينه
فأشبه غاصب المدبر إذا غصب منه فمات في يد
الغاصب الثاني أن للأول أن يرجع على الثاني
بما ضمنه المالك لما ذكرنا كذا هذا ولأبي
حنيفة رحمه الله أن الدية بدل النفس, ونفس
الحر لا يحتمل التملك فلا يثبت الملك لهم في
البدل بخلاف المدبر؛ لأنه محتمل للتملك لكونه
قاتلا, إلا أنه امتنع ثبوت الملك فيه لمعارض
وهو التدبير, فيثبت في بدله, والله سبحانه,
وتعالى أعلم. وأما الذي يرجع إلى ولي القتيل
فواحد أيضا, وهو أن يكون الولي معلوما, فإن
كان مجهولا لا يجب القصاص؛ لأن وجوب القصاص
وجوب للاستيفاء, والاستيفاء من المجهول متعذر
فتعذر الإيجاب له, وعلى هذا يخرج ما إذا قتل
المكاتب, وترك وفاء وورثة أحرارا غير المولى
أنه لا قصاص على القاتل بالإجماع؛ لأن المولى
مشتبه, يحتمل أن يكون هو الوارث, ويحتمل أن
يكون هو المولى لاختلاف الصحابة الكرام رضي
الله عنهم في موته حرا أو عبدا, فإن مات حرا
كان وليه الوارث, وإن مات عبدا كان وليه
المولى وموضع الاختلاف موضع التعارض
والاشتباه, فلم يكن الولي معلوما فامتنع
الوجوب, وإن اجتمعا ليس لهما أن يستوفيا؛ لأن
الاشتباه لا يزول بالاجتماع هذا إذا ترك وفاء
وورثة غير المولى, فأما إذا ترك وفاء ولم يترك
ورثة غير المولى فقد اختلف أصحابنا فيه:
عندهما يجب القصاص للمولى. وعند محمد لا يجب
القصاص أصلا, وهو رواية عن أبي يوسف أيضا وجه
قول محمد أنه وقع الاشتباه في سبب ثبوت
الولاية؛ لأنه إن مات حرا كان سبب ثبوت
الولاية فلا تثبت الولاية للمولى, وإن مات
عبدا كان السبب هو الملك فتثبت الولاية
للمولى, فوقع الاشتباه في ثبوت الولاية فلا
تثبت ولهما أن من له الحق متعين غير مشتبه؛
لأن الاشتباه موجب المزاحمة, ولم يوجد, ولو
قتل ولم يترك وفاء وجب القصاص بالإجماع؛ لأن
الولي معلوم, وهو المولى؛ لأنه يموت رقيقا بلا
خلاف فكان القصاص للمولى كالعبد القن إذا قتل,
وكذلك المدبر, والمدبرة, وأم الولد, وولدها
بمنزلة العبد القن؛ لأنهم قتلوا على ملك
المولى فكان الولي معلوما, ولو قتل عبد
المكاتب فلا قصاص؛ لأن المكاتب له نوع ملك,
وللمولى أيضا فيه نوع ملك فاشتبه الولي فامتنع
الوجوب, وعلى هذا يخرج ما إذا قطع رجل يد عبد
فأعتقه مولاه ثم مات من ذلك أنه إن كان للعبد
وارث حر غير المولى فلا قصاص لاشتباه ولي
القصاص؛ لأن القصاص يجب عند الموت مستندا إلى
القطع السابق, والحق عند القطع للمولى لا
للورثة, وعند ثبوت الحكم, وهو الوجوب, وذلك
عند الموت, الحق للوارث لا للمولى, فاشتبه
المولى فلم يجب القصاص, ولو اجتمع المولى مع
الوارث فلا قصاص؛ لأن الاشتباه لا يزول
باجتماعهما. فرق بين هذا وبين العبد الموصى
برقبته لإنسان, وبخدمته لآخر قتل, واجتمعا,
أنه يجب القصاص؛ لأن هناك لم يشتبه الولي؛ لأن
لصاحب الرقبة ملكا, ولصاحب الخدمة حقا يشبه
الملك فلم يشتبه الولي, وههنا اشتبه الولي؛
لأن وقت القطع لم يكن للوارث فيه حق, ووقت
الموت لم يكن للمولى فيه حق فصار الولي مشتبها
فامتنع الوجوب, وإن لم يكن وارث سوى المولى
فهو على الاختلاف الذي ذكرنا أن على قولهما:
للمولى أن يستوفي القصاص؛ لأن الحق له وقت
القطع, ووقت الموت, وعلى قول محمد ليس له حق
الاقتصاص لاشتباه سبب الولاية؛ لأن الثابت
للمولى وقت القطع كان ولاية الملك, وبعد الموت
له ولاية العتاقة, فاشتبه سبب الولاية, هذا
إذا كان القطع عمدا, فأما إذا كان خطأ فأعتقه
ثم مات من ذلك فلا شيء على القاطع غير أرش
اليد, وهو نصف قيمة العبد, وإعتاقه إياه
بمنزلة برئه في اليد لتبدل المحل حكما
بالإعتاق فتنقطع آية السراية, هذا إذا أعتقه
المولى بعد القطع عمدا أو خطأ فمات من ذلك,
فأما إذا لم يعتقه, ولكنه دبره أو كانت أمة
فاستولدها ثم مات من ذلك فإن كان القطع عمدا
فللمولى القصاص؛ لأن الحق له وقت القطع,
والموت جميعا فلم يشبه الولي, وإن كان خطأ لا
تنقطع السراية فيجب نصف القيمة دية اليد, ويجب
ما نقص بعد الجناية قبل الموت لحصول ذلك في
ملك المولى ولو كاتبه والمسألة بحالها, فإن
كان القطع عمدا ينظر إن مات عاجزا فللمولى
القصاص؛ لأنه مات عبدا. وإن مات عن وفاء فإن
كان له وارث يحجب المولى أو يشاركه لا يجب
القصاص لاشتباه الولي, وعليه أرش اليد لا غير,
ولو لم يكن له وارث غير المولى فللمولى أن
يقتص عندهما, وعند محمد ليس له أن يقتص, وعليه
أرش اليد, وإن كان القطع خطأ لا شيء على
القاطع إلا أرش اليد, وهو نصف القيمة للمولى,
وتنقطع السراية
ج / 7 ص -241-
هذا
إذا كان القطع قبل الكتابة, فإن كان بعدها
فمات فإن كان القطع عمدا ينظر إن مات عاجزا
فللمولى أن يقتص؛ لأنه مات عبدا, وإن مات عن
وفاء فإن كان مع المولى وارث آخر أو غيره
يشاركه في الميراث فلا قصاص لاشتباه الولي,
وإن لم يكن له وارث غير المولى فعلى الاختلاف
الذي ذكرنا, وإن كان القطع خطأ فإن مات عاجزا
فالقيمة للمولى؛ لأنه مات عبدا, وإن مات عن
وفاء فالقيمة للورثة؛ لأنه مات حرا, والله
سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما كيفية وجوب القصاص فهو أنه واجب عينا حتى لا يملك الولي أن
يأخذ الدية من القاتل من غير رضاه, ولو مات
القاتل أو عفا الولي سقط الموجب أصلا, وهذا
عندنا, وللشافعي رحمه الله قولان: في قول:
القصاص ليس بواجب عينا بل الواجب أحد الشيئين
غير عين "إما" القصاص "وإما" الدية, وللولي
خيار التعيين إن شاء استوفى القصاص, وإن شاء
أخذ الدية من غير رضا القاتل, فعلى هذا القول
إذا مات القاتل يتعين المال واجبا, فإذا عفا
الولي سقط الموجب أصلا, وفي قول القصاص واجب
عينا لكن للولي أن يأخذ المال من غير رضا
القاتل, وإذا عفا له أن يأخذ المال, وإذا مات
القاتل سقط الموجب أصلا احتج بقوله تعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ
وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ}. معناه فليتتبع وليؤد الدية, أوجب سبحانه وتعالى على القاتل أداء
الدية إلى الولي مطلقا عن شرط الرضا؛ لأن أداء
الدية صيانة النفس عن الهلاك, وإنه واجب قال
الله تعالى جل شأنه
{وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى
التَّهْلُكَةِ}, ولأن ضمان القتل يجب حقا للمقتول؛ لأن الجناية وردت على حقه فكان
الواجب بها حقا له, وحق العبد ما ينتفع به.
والمقتول لا ينتفع بالقصاص, وينتفع بالمال؛
لأنه تقضى منه ديونه, وتنفذ منه وصاياه, وكان
ينبغي أن لا يشرع القصاص أصلا إلا أنه شرع
لحكمة الزجر؛ لأن الإنسان لا يمتنع من قتل
عدوه خوفا من لزوم المال, فشرع ضمانا زاجرا
كان ينبغي أن يجمع بينهما كما في شرب خمر
الذمي إلا أنه تعذر الجمع؛ لأن الدية بدل
النفس, وفي القصاص معنى البدلية قال الله
تبارك وتعالى
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ}, والباء تستعمل في الإبدال فتؤدي إلى الجمع بين البدلين, وهذا لا
يجوز فخير بينهما. "ولنا" قوله تعالى
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي
الْقَتْلَى}, وهذا
يفيد تعين القصاص موجبا, ويبطل مذهب الإبهام
جميعا, أما الإبهام فلأنه أخبر عن كون القصاص
واجبا فيصدق القول عليه بأنه واجب, وإن كان
عليه أحد حقين لا يصدق القول على أحدهما بأنه
أوجب "وأما" التعيين فلأنه إذا أوجب القصاص
على الإشارة إليه بطل القول بوجوب الدية
بضرورة النص؛ لأنه لا يقابل بالجمع بينهما,
فبطل القول باختيار الدية من غير رضا القاتل؛
ولأن القصاص إذا كان عين حقه كانت الدية بدل
حقه, وليس لصاحب الحق أن يعدل من غير الحق إلى
بدله من غير رضا من عليه الحق كمن عليه حنطة
موصوفة فأراد صاحب الحق أن يأخذ منه قيمتها من
غير رضاه ليس له ذلك, كذا هذا, وقوله عليه
الصلاة والسلام
"العمد قود" وجه الاستدلال به على نحو وجه الاستدلال بالآية الشريفة؛ ولأن ضمان
العدوان الوارد على حق العبد مقيد بالمثل,
والقصاص وهو القتل الثاني مثل القتل الأول
لأنه ينوب مناب الأول ويسد مسده, ومثل الشيء
غيره الذي ينوب منابه, ويسد مسده, وأخذ المال
لا ينوب مناب القتل, ولا يسد مسده, فلا يكون
مثلا له فلا يصلح ضمانا للقتل العمد, وكان
ينبغي أن لا يجب أصلا إلا أن الوجوب في قتل
الخطأ ثبت شرعا تخفيفا على الخاطئ نظرا له
إظهارا لخطر الدم صيانة له عن الهدر, والعامد
لا يستحق التخفيف, والصيانة تحصل بالقصاص,
فبقي ضمانا أصليا في الباب. "وأما" الآية
الشريفة فالمراد من قوله سبحانه وتعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} هو الولي لا القاتل؛ لأنه قال الله تبارك وتعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ}, والقاتل معفو عنه لا معفو له, ولأنه قال تعالى اسمه
{فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} فليتبع, وإنه أمر لمن دخل تحت كلمة فمن, ومعلوم أن القاتل لا يتبع
أحدا بل هو المتبع, وإنما المتبع هو الولي,
فكان هو الداخل تحت كلمة فمن فكان معنى الآية
الكريمة فمن بذل له, وأعطي له من أخيه شيء
بطريق الفضل, والسهولة فليتبع بالمعروف, ويجوز
استعمال لفظ العفو بمعنى الفضل لغة قال الله
سبحانه وتعالى
{وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} أي الفضل, وتقول العرب خذ ما أتاك عفوا أي فضلا, ونحن به نقول: إنه
يجوز أخذ المال من القاتل برضاه, وقيل الآية
ج / 7 ص -242-
الشريفة نزلت في الصلح عن دم العمد, وقيل نزلت
في دم بين نفر يعفو أحدهم عن القاتل فللباقين
أن يتبعوا بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه قال
سبحانه وتعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}, وهو العفو عن بعض الحق, ونحن به نقول: أوقع الاحتمال في المراد
بالآية فلا يصح الاحتجاج بها مع الاحتمال,
وقوله: في دفع الدية صيانة نفس القاتل عن
الهلاك, وأنه واجب, قلنا: نعم لكن قضيته أن
يصير آثما بالامتناع لا أن يملك الولي أخذه من
غير رضاه كمن أصابته مخمصة, وعند صاحبه طعام
يبيعه بمثل قيمته يجب عليه أن يشتريه دفعا
للهلاك عن نفسه, فإن امتنع عن الشراء ليس
لصاحب الطعام أن يدفع الطعام إليه, ويأخذ
الثمن من غير رضاه, كذا هذا, وقوله المقتول:
لا ينتفع بالقصاص, قلنا: ممنوع, بل ينتفع به
أكثر مما ينتفع بالمال؛ لأن فيه إحياءه بإكفاء
ورثته أحياء, وهذا لا يحصل بالمال على ما عرف,
والله تعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان من يستحق القصاص فنقول ولا قوة إلا بالله: المقتول لا
يخلو إما أن يكون حرا, وإما أن يكون عبدا, فإن
كان حرا لا يخلو إما أن يكون له وارث, وإما أن
لم يكن, فإن كان له وارث فالمستحق للقصاص هو
الوارث كالمستحق للمال؛ لأنه حق ثابت, والوارث
أقرب الناس إلى الميت فيكون له, ثم إن كان
الوارث واحدا استحقه, وإن كان جماعة استحقوه
على سبيل الشركة كالمال الموروث عنه وجه
قولهما في تمهيد هذا الأصل أن القصاص موجب
الجناية, وأنها وردت على المقتول فكان موجبها
حقا له إلا أنه بالموت عجز عن الاستيفاء بنفسه
فتقوم الورثة مقامه بطريق الإرث عنه, ويكون
مشتركا بينهم, ولهذا تجري فيه سهام الورثة من
النصف, والثلث, والسدس, وغير ذلك, كما تجري في
المال وهذا آية الشركة, ولأبي حنيفة رضي الله
عنه أن المقصود من القصاص هو التشفي, وأنه لا
يحصل للميت, ويحصل للورثة فكان حقا لهم
ابتداء, والدليل على أنه يثبت لكل واحد منهم
على الكمال كأن ليس معه غيره لا على سبيل
الشركة أنه حق لا يتجزأ, والشركة فيما لا
يتجزأ محال, إذ الشركة المعقولة هي أن يكون
البعض لهذا, والبعض لذلك, كشريك الأرض والدار,
وذلك فيما لا يتبعض محال. والأصل أن ما لا
يتجزأ من الحقوق إذا ثبت لجماعة, وقد وجد سبب
ثبوته في حق كل واحد منهم يثبت لكل واحد منهم
على سبيل الكمال كأن ليس معه غيره كولاية
الإنكاح, وولاية الأمان, وعلى هذا يخرج ما إذا
قتل إنسان عمدا, وله وليان أحدهما غائب فأقام
الحاضر البينة على القتل, ثم حضر الغائب أنه
يعيد البينة عنده, وعندهما لا يعيد, ولا خلاف
في أن القتل إذا كان خطأ لا يعيد, وكذلك الدين
بأن كان لأبيهما دين على إنسان, ووجه البناء
على هذا الأصل أن عند أبي حنيفة لما كان
القصاص حقا ثابتا للورثة ابتداء كان كل واحد
منهما أجنبيا عن صاحبه, فيقع إثبات البينة له
لا للميت, فلا يكون خصما عن الميت في الإثبات
فتقع الحاجة إلى إعادة البينة, ولما كان حقا
موروثا على فرائض الله تبارك وتعالى عندهما,
والورثة خلفاؤه في استيفاء الحق يقع الإثبات
للميت, وكل واحد من آحاد الورثة خصم عن الميت
في حقوقه كما في الدية والدين, فيصح منه إثبات
الكل للميت ثم يخلفونه كما في المال. ولو قتل
إنسان, وله وليان وأحدهما غائب, وأقام القاتل
البينة على الحاضر أن الغائب قد عفا فالشاهد
خصم؛ لأن تحقق العفو من الغائب يوجب بطلان حق
الحاضر عن القصاص, فكان القاتل مدعيا على
الحاضر بطلان حقه فكان خصما له, ويقضي عليه,
ومتى قضى عليه يصير الغائب مقضيا عليه تبعا له
والله تعالى أعلم, وإن لم يكن للقاتل بينة لم
يكن له أن يستحلف الحاضر؛ لأن الإنسان قد
ينتصب خصما عن غيره في إقامة البينة, أما لا
ينتصب خصما عن غيره في اليمين, وعلى هذا يخرج
القصاص إذا كان بين صغير وكبير أن للكبير
ولاية الاستيفاء عنده, وعندهما ليس له ذلك,
وينتظر بلوغ الصغير, ووجه البناء أن عند أبي
حنيفة رحمه الله لما كان القصاص حقا ثابتا
للورثة ابتداء لكل واحد منهم على سبيل
الاستقلال لاستقلال سبب ثبوته في حق كل واحد
منهم, وعدم تجزئه في نفسه ثبت لكل واحد منهم
على الكمال كأن ليس معه غيره, فلا معنى لتوقف
الاستيفاء على بلوغ الصغير. وعندهما لما كان
حقا مشتركا بين الكل فأحد الشريكين لا ينفرد
بالتصرف في محل مشترك بدون رضا شريكه إظهارا
لعصمة المحل, وتحرزا عن الضرر, والصحيح أصل
أبي حنيفة
ج / 7 ص -243-
رضي
الله عنه لما ذكرنا أن القصاص لا يحتمل
التجزئة, والشركة في غير المتجزئ محال, وإنما
تثبت الشركة إذا انقلب مالا؛ لأن المال محل
قابل للشركة على أن أبا حنيفة إن سلم أن
القصاص مشترك بين الصغير والكبير فلا بأس
بالتسليم؛ لأنه يمكن القتل بثبوت ولاية
الاستيفاء للكبير في نصيبه بطرق الأصالة, وفي
نصيب الصغير بطريق النيابة شرعا, كالقصاص إذا
كان بين إنسان وابنه الصغير, والجامع بينهما
حاجتهما إلى استيفاء القصاص لاستيفاء النفس,
وعجز الصغير عن الاستيفاء بنفسه, وقدرة الكبير
على ذلك, وكون تصرفه في النظر, والشفقة في حق
الصغير مثل تصرف الصغير بنفسه لو كان أهلا؛
ولهذا يلي الأب والجد استيفاء قصاص وجب كله
للصغير فهذا أولى, ولأبي حنيفة رحمه الله
إجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي أنه لما
جرح ابن ملجم لعنه الله سيدنا عليا كرم الله
تعالى وجهه فقال للحسن رضي الله عنه: إن شئت
فاقتله, وإن شئت فاعف عنه وأن تعفو خير لك,
فقتله سيدنا الحسن رضي الله عنه, وكان في ورثة
سيدنا علي رضي الله عنه صغار, والاستدلال من
وجهين: أحدهما بقول سيدنا علي رضي الله عنه
والثاني بفعل سيدنا الحسن رضي الله عنه "أما"
الأول فلأنه خير سيدنا الحسن رضي الله عنه حيث
قال: "إن شئت فاقتله" مطلقا من غير التقييد
ببلوغ الصغار. "وأما" الثاني: فلأن الحسن رضي
الله عنه قتل ابن ملجم لعنه الله ولم ينتظر
بلوغ الصغار, وكل ذلك بمحضر من الصحابة الكرام
رضي الله عنهم, ولم ينقل أنه أنكر عليهما أحد
فيكون إجماعا, وإن لم يكن له وارث, وكان له
مولى العتاقة, وهو المعتق فالمستحق للقصاص هو؛
لأن مولى العتاقة آخر العصبات ثم إن كان واحدا
استحق كله, وإن كانوا جماعة استحقوه, وإن كان
للمقتول وارث, ومولى العتاقة أيضا فلا قصاص؛
لأن الولي مشتبه لاشتباه سبب الولاية, فالسبب
في حق الوارث هو القرابة, وفي حق المولى
الولاء, وهما سببان مختلفان, واشتباه الولي
يمنع الوجوب للقصاص, وكذلك إن لم يكن له مولى
العتاقة, وله مولى الموالاة؛ لأنه آخر الورثة
فجاز أن يستحق القصاص كما يستحق المال, وإن لم
يكن له وارث, ولا له مولى العتاقة, ولا مولى
الموالاة كاللقيط وغيره فالمستحق هو السلطان
في قولهما, وقال أبو يوسف رحمه الله لا يستحقه
إذا كان المقتول في دار الإسلام, والحجج تأتي
في موضعها إن شاء الله تعالى, وإن كان المقتول
عبدا فالمستحق هو المولى لأن الحق قد ثبت,
وأقرب الناس إلى العبد مولاه ثم إن كان
المولى, واحدا استحق كله, وإن كان جماعة
استحقوه لوجود سبب الاستحقاق في حق الكل, وهو
الملك, والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما بيان من يلي استيفاء القصاص, وشرط جواز استيفائه فولاية
استيفاء القصاص تثبت بأسباب: منها: الوراثة,
وجملة الكلام فيه أن الوارث لا يخلو إما أن
كان واحدا "وإما" إن كانوا جماعة, فإن كان
واحدا لا يخلو إما أن كان كبيرا, وإما أن كان
صغيرا, فإن كان كبيرا فله أن يستوفي القصاص
لقوله تبارك وتعالى:
{وَمَنْ
قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا
لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً}, ولوجود سبب الولاية في حقه على الكمال, وهو الوراثة من غير
مزاحمة, وإن كان صغيرا اختلف المشايخ فيه, قال
بعضهم: ينتظر بلوغه, وقال بعضهم: يستوفيه
القاضي, وإن كانوا جماعة فإن كان الكل كبارا
فلكل واحد منهم ولاية استيفاء القصاص حتى لو
قتله أحدهم صار القصاص مستوفى؛ لأن القصاص إن
كان حق الميت فكل واحد من آحاد الورثة خصما في
استيفاء حق الميت كما في المال وإذا كان حق
الورثة ابتداء كما قال أبو حنيفة رحمه الله
فقد وجد سبب ثبوت الحق في حق كل واحد منهم,
إلا أن حضور الكل شرط جواز الاستيفاء, وليس
للبعض ولاية الاستيفاء مع غيبة البعض؛ لأن فيه
احتمال استيفاء ما ليس بحق له لاحتمال العفو
من الغائب, وإلى هذا أشار محمد رحمه الله
فقال: لا أدري لعل الغائب عفا, وكذا إذا كان
الكل حضورا لا يجوز لهم, ولا لأحدهم أن يوكل
في استيفاء القصاص على معنى أنه لا يجوز
للوكيل استيفاء القصاص مع غيبة الموكل لاحتمال
أن الغائب قد عفا, ولأن في اشتراط حضرة الموكل
رجاء العفو منه عند معاينة حلول العقوبة
بالقاتل, وقد قال الله تعالى
{وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ
بَيْنَكُمْ}
"فأما" الاستيفاء بالوكيل فجائز إذا كان
الموكل حاضرا على ما نذكر, وإن كان فيهم صغير
وكبير, فإن كان الكبير هو الأب بأن كان القصاص
مشتركا بين الأب وابنه الصغير فللأب أن يستوفي
بالإجماع؛ لأنه لو كان
ج / 7 ص -244-
لم
يقاصص كان للأب أن يستوفيه فههنا أولى, وإن
كان الكبير غير الأب بأن كان أخا فللكبير أن
يستوفي قبل بلوغ الصغير عند أبي حنيفة, وعند
أبي يوسف والشافعي رحمهما الله تعالى ليس له
ذلك قبل بلوغ الصغير, والكلام فيه يرجع إلى
أصل ذكرناه بدلائله فيما تقدم, ومنها: الأبوة
فللأب, والجد أن يستوفي قصاصا وجب للصغير في
النفس, وفيما دون النفس؛ لأن هذه ولاية نظر
ومصلحة كولاية الإنكاح, فتثبت لمن كان مختصا
بكمال النظر والمصلحة في حق الصغير. "وأما"
الوصي فلا يلي استيفاء القصاص في النفس بأن
قتل شخص عبد اليتيم؛ لأن تصرف الوصي لا يصدر
عن كمال النظر والمصلحة في حق الصغير لقصور في
الشفقة الباعثة عليه بخلاف الأب, والجد, وله
أن يستوفي القصاص فيما دون النفس؛ لأن ما دون
النفس يسلك به مسلك الأموال على ما نذكر,
وللوصي ولاية استيفاء المال. "ومنها" الملك
المطلق وقت القتل, فللمولى أن يستوفي القصاص
إذا قتل مملوكه إذا لم يكن في استيفاء القصاص
إبطال حق الغير من غير رضاه؛ لأن الحق قد ثبت
له, وهو أقرب الناس إليه, فله أن يستوفيه,
وكذا إذا قتل مدبره, ومدبرته, وأم ولده,
وولدها؛ لأن التدبير, والاستيلاد يوجب زوال
الملك, وكذا إذا قتل المكاتب, ولم يترك وفاء؛
لأنه مات رقيقا, فكان ملك المولى قائما وقت
القتل, وذكر في المنتقى عند أبي حنيفة رضي
الله عنه في معتق البعض إذا قتل عاجزا أنه لا
قصاص, ففرق بينه, وبين المكاتب "ووجه" الفرق
أن موت المكاتب عاجزا يوجب انفساخ الكتابة,
وجعلها كأن لم تكن فالقتل صادفه وهو قن, وموت
معتق البعض لا يوجب انفساخ العتق إذ الإعتاق
بعد وجوده لا يحتمل الفسخ فالقتل صادفه, ولا
ملك للمولى في كله, ولو قتل المكاتب, وترك
وفاء, وورثة أحرارا سوى المولى لا قصاص
بالإجماع؛ لأنه لا يستوفيه المولى لوقوع الشك
في قيام المولى وقت القتل, ولا الوارث لاحتمال
أنه مات عبدا لاختلاف الصحابة رضي الله عنهم
أنه يموت حرا أو عبدا, فامتنع الوجوب, وإن لم
يكن له وارث حر غير المولى فله أن يستوفي
القصاص عندهما خلافا لمحمد, وقد ذكرنا المسألة
ولو قتل العبد في يد البائع قبل القبض, فإن
اختار المشتري إجازة البيع فله ولاية
الاستيفاء بالإجماع؛ لأن الملك كان له وقت
القتل, وقد تقرر بالإجازة, فكان له أن يستوفي,
وإن اختار فسخ البيع فللبائع أن يستوفي القصاص
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وقال أبو يوسف
للبائع القيمة, ولا قصاص له. "وجه" قوله أن
الملك لم يكن ثابتا له وقت القتل, وإنما حدث
بعد ذلك بالفسخ, والسبب حين وجوده لم ينعقد
موجبا الحكم له فلا يثبت له بمعنى وجد بعد
ذلك, ولأبي حنيفة رحمه الله أن رد البيع فسخ
له من الأصل, وجعل إياه كأن لم يكن فإذا انفسخ
من الأصل تبين أن الجناية, وردت على ملك
البائع فيوجب القصاص له فكان له أن يستوفي,
وليس للمشتري ولاية الاستيفاء؛ لهذا المعنى,
إن بالفسخ يظهر أن العبد وقت القتل لم يكن على
ملك البائع, ولو قتل العبد الذي هو بدل الصداق
في يد الزوج, أو بدل الخلع في يد المرأة, أو
بدل الصلح عن دم العمد في يدي الذي صالح عليه
فذلك بمنزلة البيع؛ لأن المستحق للصداق وبدل
الخلع والصلح إن اختار إتباع القاتل فقد تقرر
ملكه, فيجب القصاص له, وإن طالب بالقيمة
فالملك في العبد قد انفسخ, فيجب القصاص للآخر
على ما ذكرنا في البيع ولو قتل في يد المشتري,
وللمشتري خيار الشرط أو خيار الرؤية فالقصاص
للمشتري قبض البائع الثمن أو لم يقبض؛ لأن
الخيار قد سقط بموت العبد, وانبرم البيع,
وتقرر الملك فيه للمشتري فوجب القصاص له فكان
له أن يستوفي القصاص, كما إذا قتل في يده, ولا
خيار في البيع أصلا, ولو كان الخيار للبائع
فإن شاء أتبع القاتل فقتله قصاصا, وإن شاء ضمن
المشتري القيمة "وأما" اختيار إتباع القاتل
فلأن العبد وقت القتل كان ملكا له. "وأما"
اختيار تضمن المشتري القيمة فلأنه كان مضمونا
في يده القيمة, ألا ترى لو هلك بنفسه في يده
كان عليه قيمته؟ ولا قصاص للمشتري وإن هلك
العبد بالضمان؛ لأن الملك ثبت له بطريق
الاستناد, والمستند يظهر من وجه, ويقتصر من
وجه فشبه الظهور يقتضي وجوب القصاص له, وشبه
الاستناد يقتضي أن لا يجب, فتمكنت الشبهة في
الوجوب له فلا يجب, وكذا العبد المغصوب إذا
قتل في يدي الغاصب واختار المالك تضمينه لم
يكن للغاصب القصاص؛ لما قلنا, ولو قتل عبد
موصى برقبته لرجل, وبخدمته لآخر لم ينفرد
أحدهما باستيفاء القصاص؛ لأن الموصى له
بالخدمة
ج / 7 ص -245-
لا ملك
له في الرقبة فلا يملك الاستيفاء بنفسه,
والموصى له بالرقبة وإن ملك الرقبة لكن في
استيفاء القصاص إبطال حق الموصى له بالخدمة لا
إلى بدل هو مال فلا يملك إبطال حقه عليه من
غير رضاه, وإذا اجتمعا فللموصى له بالرقبة أن
يستوفي؛ لأن المطلق للاستيفاء موجود, وهو قيام
ملك الرقبة, والامتناع كان لحق الموصى له
بالخدمة فإذا رضي بسقوط حقه فقد زال المانع.
ولو قتل العبد المرهون في يد المرتهن لم يكن
لواحد منهما أن ينفرد باستيفاء القصاص "أما"
المرتهن فظاهر؛ لأن ملك الرقبة لم يكن ثابتا
له وقت القتل فلم يوجد سبب ثبوت ولاية
الاستيفاء في حقه "وأما" الراهن فلأن استيفاءه
يتضمن إبطال حق المرتهن في الدين من غير رضاه؛
لأن الرهن يصير هالكا من غير بدل؛ لأن العبد
إنما كان رهنا من حيث إنه مال, والقصاص لا
يصلح بدلا عن المالية؛ لأنه ليس بمال فيصير
الرهن هالكا من غير بدل فيسقط دينه فكان في
استيفائه القصاص إبطال حق المرتهن من غير
رضاه, وهذا لا يجوز, ولو اجتمعا ذكر الكرخي
رحمه الله أن للراهن أن يستوفي القصاص عند أبي
حنيفة رحمه الله؛ لأن الامتناع كان لحق
المرتهن, وقد رضي بسقوطه, وعند محمد ليس له أن
يستوفي, وإن اجتمعا على الاستيفاء, وذكر
القاضي في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله أنه
لا قصاص على قاتله, ولم يذكر الخلاف, وقد
ذكرنا وجه كل من ذلك في كتاب الرهن. "ومنها"
الولاء إذا لم يكن لمولى الأسفل وارث؛ لأن
الولاء سبب الولاية في الجملة. ألا ترى أن
مولى العتاقة يزوج بالإجماع؛ لأنه آخر
العصبات, ومولى الموالاة يزوج على أصل أبي
حنيفة رضي الله عنه؛ لأنه آخر الورثة, فإن كان
له وارث فلا قصاص لاشتباه الولي فلا يتصور
الاستيفاء. "ومنها" السلطنة عند عدم الورثة,
والملك, والولاء كاللقيط, ونحوه إذا قتل, وهذا
قولهما, وقال أبو يوسف رحمه الله ليس للسلطان
أن يستوفي إذا كان المقتول من أهل دار
الإسلام, وله أن يأخذ الدية, وإن كان من أهل
دار الحرب فله أن يستوفي القصاص, وله أن يأخذ
الدية "وجه" قوله أن المقتول في دار الإسلام
لا يخلو عن ولي له عادة إلا أنه ربما لا يعرف,
وقيام ولاية الولي تمنع ولاية السلطان, وبهذا
لا يملك العفو, بخلاف الحربي إذا دخل دار
الإسلام فأسلم أن الظاهر أن لا ولي له في دار
الإسلام, ولهما أن الكلام في قتيل لم يعرف له
ولي عند الناس فكان وليه السلطان لقوله عليه
الصلاة والسلام
"السلطان ولي من لا ولي له". وقد روي أنه لما قتل سيدنا عمر رضي الله عنه خرج الهرمزان,
والخنجر في يده فظن عبيد الله أن هذا الذي قتل
سيدنا عمر رضي الله عنه فقتله فرفع ذلك إلى
سيدنا عثمان رضي الله عنه فقال سيدنا علي رضي
الله عنه لسيدنا عثمان اقتل عبيد الله فامتنع
سيدنا عثمان رضي الله عنه وقال: كيف أقتل رجلا
قتل أبوه أمس؟ لا أفعل, ولكن هذا رجل من أهل
الأرض, وأنا وليه أعفو عنه, وأؤدي ديته وأراد
بقوله أعفو عنه, وأؤدي ديته الصلح على الدية
وللإمام أن يصالح على الدية إلا أنه لا يملك
العفو؛ لأن القصاص حق المسلمين بدليل أن
ميراثه لهم, وإنما الإمام نائب عنهم في
الإقامة, وفي العفو إسقاط حقهم أصلا ورأسا,
وهذا لا يجوز؛ ولهذا لا يملكه الأب, والجد,
وإن كانا يملكان استيفاء القصاص, وله أن يصالح
على الدية كما فعل سيدنا عثمان رضي الله عنه
والله تعالى الموفق بالصواب.
"فصل": وأما بيان ما يستوفى به القصاص, وكيفية الاستيفاء فالقصاص لا
يستوفى إلا بالسيف عندنا, وقال الشافعي رحمه
الله: يفعل به مثل ما فعل, فإن مات, وإلا تحز
رقبته حتى لو قطع يد رجل عمدا فمات من ذلك فإن
الولي يقتله, وليس له أن يقطع يده عندنا,
وعنده تقطع يده, فإن مات في المدة التي مات
الأول فيها, وإلا تحز رقبته. "وجه" قوله أن
مبنى القصاص على المماثلة في الفعل؛ لأنه جزاء
الفعل فيشترط أن يكون مثل الفعل الأول, وذلك
فيما قلنا, وهو أن يفعل به مثل ما فعل هو,
والموجود منه القطع فيجب أن يجازى بالقطع,
والظاهر في القطع عدم السراية, فإن اتفقت
السراية, وإلا تحز رقبته, ويكون الحز تتميما
للفعل الأول لا حزا مبتدأ. "ولنا" قوله عليه
الصلاة والسلام
"لا قود إلا بالسيف" والقود هو القصاص, والقصاص هو الاستيفاء, فكان هذا نفي استيفاء
القصاص بالسيف, ولأن القطع إذا اتصلت به
السراية تبين أنه وقع قتلا من حين وجوده فلا
يجازى إلا بالقتل فلو قطع ثم احتيج إلى الحز
كان ذلك جمعا بين القتل والحز فلم
ج / 7 ص -246-
يكن
مجازاة بالمثل, وقوله: "الحز يقع تتميما
للقطع" فاسد؛ لأن المتمم للشيء من توابعه,
والحز قتل, وهو أقوى من القطع, فكيف يكون من
تمامه؟ وإن أراد الولي أن يقتل بغير السيف لا
يمكن لما قلنا. ولو فعل يعزر لكن لا ضمان
عليه, ويصير مستوفيا بأي طريق قتله سواء قتله
بالعصا أو بالحجر أو ألقاه من السطح أو ألقاه
في البئر أو ساق عليه دابة حتى مات, ونحو ذلك؛
لأن القتل حقه, فإذا قتله فقد استوفى حقه بأي
طريق كان, إلا أنه يأثم بالاستيفاء لا بطريق
مشروع لمجاوزته حد الشرع, وله أن يقتل بنفسه
وبنائبه بأن يأمر غيره بالقتل؛ لأن كل أحد لا
يقدر على الاستيفاء بنفسه إما لضعف بدنه أو
لضعف قلبه أو لقلة هدايته إليه, فيحتاج إلى
الإنابة, إلا أنه لا بد من حضوره عند
الاستيفاء لما ذكرنا فيما تقدم ثم إذا قتله
المأمور, والآمر حاضر صار مستوفيا, ولا ضمان
عليه, فأما إذا قتله والآمر غير حاضر, وأنكر
ولي هذا القتيل الأمر فإنه يجب القصاص على
القاتل, ولا يعتبر تصديق الولي؛ لأن القتل
عمدا سبب لوجوب القصاص في الأصل فلو خرج من أن
يكون سببا إنما يخرج بالأمر, وقد كذبه ولي هذا
القتيل في الأمر, وتصديق ولي القصاص غير
معتبر؛ لأنه صدقه بعد ما بطل حقه عن القصاص
لفوات محله فصار أجنبيا عنه, فلا يعتبر تصديقه
فلم يثبت الأمر فبقي القتل العمد موجبا
القصاص, ولو حفر بئرا في دار إنسان فوقع فيها
إنسان, ومات فادعى, ولي القتيل الدية فقال
الحافر: حفرته بإذن صاحب الدار, وصدقه صاحب
الدار في ذلك فلا ضمان على الحافر, ويعتبر
تصديقه؛ لأنه صدقه في فعل يملك إنشاء الأمر به
للحال, وهو الحفر في ملكه, فلم يكن هذا تصديقا
بعد فوات المحل فاعتبر بخلاف الأول, والله
تعالى أعلم بالصواب.
"فصل": وأما بيان ما يسقط القصاص بعد وجوبه فالمسقط له أنواع: منها فوات
محل القصاص بأن مات من عليه القصاص بآفة
سماوية؛ لأنه لا يتصور بقاء الشيء في غير
محله, وإذا سقط القصاص بالموت لا تجب الدية
عندنا؛ لأن القصاص هو الواجب عينا عندنا, وهو
أحد قولي الشافعي رحمه الله, وعلى قوله الآخر
تجب الدية, وقد بينا فساده فيما تقدم, وكذا
إذا قتل من عليه القصاص بغير حق أو بحق بالردة
والقصاص بأن قتل إنسانا فقتل به قصاصا يسقط
القصاص, ولا يجب لما قلنا, وكذلك القصاص
الواجب فيما دون النفس إذا فات ذلك العضو بآفة
سماوية أو قطع بغير حق يسقط القصاص من غير مال
عندنا لما قلنا, وإن قطع بحق بأن قطع يد غيره
فقطع به أو سرق مال إنسان فقطع يسقط القصاص
أيضا لفوات محله, لكن يجب أرش اليد فيقع الفرق
في موضعين أحدهما بين القتل والقطع بحق.
والثاني بين القطع بغير حق, وبين القطع بحق,
والفرق أنه إذا قطع طرفه بحق فقد قضى به حقا
واجبا عليه فجعل كالقائم, وجعل صاحبه ممسكا له
تقديرا كأنه أمسكه حقيقة, وتعذر استيفاء
القصاص لعذر الخطأ, ونحو ذلك, وهناك يجب
الأرش, كذا هذا, وهذا المعنى لم يوجد فيما إذا
قطع بغير حق؛ لأنه لم يقض حقا واجبا عليه, وفي
القتل إن قضى حقا واجبا عليه, لكن لا يملك أن
يجعل ممسكا للنفس بعد موته تقديرا؛ لأنه لا
يتصور حقيقة بخلاف الطرف, والله تعالى أعلم
ومنها العفو, والكلام فيه في ثلاثة مواضع:
أحدها: في بيان ركنه, والثاني: في بيان شرائط
الركن, والثالث: في بيان حكمه أما ركنه فهو أن
يقول العافي عفوت أو أسقطت أو أبرأت أو وهبت,
وما يجري هذا المجرى. وأما الشرائط فمنها أن
يكون العفو من صاحب الحق؛ لأنه إسقاط الحق,
وإسقاط الحق ولا حق محال فلا يصح العفو من
الأجنبي لعدم الحق, ولا من الأب, والجد في
قصاص وجب للصغير؛ لأن الحق للصغير لا لهما,
وإنما لهما ولاية استيفاء حق وجب للصغير, ولأن
ولايتهما مقيدة بالنظر للصغير, والعفو ضرر
محض؛ لأنه إسقاط الحق أصلا, ورأسا فلا
يملكانه, ولهذا لا يملكه السلطان فيما له
ولاية الاستيفاء على ما بينا, والله تعالى
أعلم ومنها أن يكون العافي عاقلا. "ومنها" أن
يكون بالغا, فلا يصح العفو من الصبي,
والمجنون, وإن كان الحق ثابتا لهما؛ لأنه من
التصرفات المضرة المحضة فلا يملكانه كالطلاق,
والعتاق, ونحو ذلك "وأما" حكم العفو فالعفو في
الأصل لا يخلو إما أن يكون من الولي, وإما أن
يكون من المجروح, فإن كان من الولي لا يخلو من
أن يكون منه بعد الموت أو قبل الموت بعد
الجرح, فإن كان بعد الموت فإما أن يكون الولي
واحدا, وإما أن يكون أكثر, فإن كان واحدا بأن
كان القاتل
ج / 7 ص -247-
والمقتول واحدا فعفا عن القاتل سقط القصاص؛
لأن استيفاءه لتحقق معنى الحياة, وهذا المعنى
يحصل بدون الاستيفاء بالعفو؛ لأنه إذا عفا
فالظاهر أنه لا يطلب الثأر بعد العفو, فلا
يقصد قتل القاتل فلا يقصد القاتل قتله فيحصل
معنى الحياة بدون الاستيفاء, فيسقط القصاص
لحصول ما شرع له استيفاؤه بدونه, وهكذا قال
الحسن رحمه الله في تأويل قوله تعالى
{وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً} أي من أحياها بالعفو, وقيل في قوله تبارك وتعالى
{ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أن ذلك العفو والصلح على ما قيل أن حكم التوراة القتل لا غير, وحكم
الإنجيل العفو بغير بدل لا غير, فخفف سبحانه
وتعالى على هذه الأمة فشرع العفو بلا بدل
أصلا, والصلح ببدل سواء عفا عن الكل أو عن
البعض؛ لأن القصاص لا يتجزأ وذكر البعض فيما
لا يتبعض ذكر الكل كالطلاق, وتسليم الشفعة,
وغيرهما, وإذا سقط القصاص بالعفو لا ينقلب
مالا عندنا؛ لأن حق الولي في القصاص عينا, وهو
أحد قولي الشافعي رحمه الله, وقد أسقطه لا إلى
بدل, ومن له الحق إذا أسقط حقه مطلقا, وهو من
أهل الإسقاط, والمحل قابل للسقوط يسقط مطلقا
كالإبراء عن الدين, ونحو ذلك. وعلى قوله الآخر
الواجب أحدهما, فإذا عفا عن القصاص انصرف
الواجب تصحيحا لتصرفه كمن له على آخر دراهم أو
دنانير, ولا ينوي أحدهما بعينه, فأبرأه
المديون عن أحدهما, ليس له أن يطالبه بالآخر
لما قلنا, كذا هذا, ولو عفا عنه ثم قتله بعد
العفو يجب عليه القصاص عند عامة العلماء رضي
الله عنهم. وقال بعض الناس: لا يجب, واحتجوا
بقوله تبارك وتعالى
{فَمَنِ
اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ
أَلِيمٌ}
جعل جزاء المعتدي, وهو القاتل بعد العفو
العذاب الأليم, وهو عذاب الآخرة نستجير بالله
سبحانه وتعالى من هوله فلو وجب القصاص في
الدنيا لصار المذكور بعض الجزاء, ولأن القصاص
في الدنيا يرفع عذاب الآخرة لقوله عليه الصلاة
والسلام
"السيف محاء للذنوب", وفيه نسخ الآية الشريفة. "ولنا" عمومات القصاص من غير فصل بين شخص
وشخص, وحال وحال, إلا شخصا أو حالا قيد بدليل,
وكذا الحكمة التي لها شرع القصاص, وهو الحياة
على ما بينا يقتضي الوجوب. وأما الآية فقد قيل
في بعض وجوه التأويل: إن العذاب الأليم ههنا
هو القصاص فإن القتل غاية العذاب الدنيوي في
الإيلام فعلى هذا التأويل كانت الآية حجة
عليهم, وتحتمل هذا وتحتمل ما قالوا فلا تكون
حجة مع الاحتمال, وإن كان القصاص أكثر بأن قتل
رجلان واحدا, فإن عفا عنهما سقط القصاص أصلا؛
لما ذكرنا, وإن عفا عن أحدهما سقط القصاص عنه,
وله أن يقتل الآخر لأنه استحق على كل واحد
منهما قصاصا كاملا, والعفو عن أحدهما لا يوجب
العفو عن الآخر, وذكر في المنتقى عن أبي يوسف
رحمه الله أنه يسقط القصاص عنهما؛ لأن طريق
إيجاب القصاص عليهما أن يجعل كل واحد منهما
قاتلا على الانفراد كأن ليس معه غيره, إذ
القتل تفويت الحياة, ولا يتصور تفويت حياة
واحدة من كل واحد منهما على الكمال فيجعل كل
واحد منهما قاتلا على الانفراد, ويجعل قتل
صاحبه عدما في حقه, فإذا عفا عن أحدهما,
والعفو عن القاتل جعل فعل الآخر عدما تقديرا
فيورث شبهة, والقصاص لا يستوفى مع الشبهة.
وهذا ليس بسديد؛ لأن طريق إيجاب القصاص عليهما
ليس ما ذكر, وليس القتل اسما لتفويت الحياة بل
هو اسم لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة, وهذا
حصل لكل واحد منهما على الكمال, فالعفو عن
أحدهما لا يؤثر في الآخر, هذا إذا كان الولي
واحدا, فأما إذا كان اثنين أو أكثر فعفا
أحدهما سقط القصاص عن القاتل؛ لأنه سقط نصيب
العافي بالعفو فيسقط نصيب الآخر ضرورة أنه لا
يتجزأ إذ القصاص قصاص واحد فلا يتصور استيفاء
بعضه دون بعض, وينقلب نصيب الآخر مالا بإجماع
الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم فإنه روي
عن عمر, وعبد الله بن مسعود, وابن عباس رضي
الله تعالى عنهم, ولم ينقل أنه أنكر أحد عليهم
فيكون إجماعا, وقيل: إن قوله تبارك وتعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} نزلت في دم بين شركاء يعفو أحدهم عن القاتل فللآخرين أن يتبعوه
بالمعروف في نصيبهم؛ لأنه قال سبحانه, وتعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ}, وهذا العفو عن بعض الحق, ويكون نصيب الآخر, وهو
ج / 7 ص -248-
نصف
الدية في مال القاتل؛ لأن القتل عمد إلا أنه
تعذر استيفاء القصاص لما ذكرنا, والعاقلة لا
تعقل العمد, ويؤخذ منه في ثلاث سنين عند
أصحابنا الثلاثة, وعند زفر في سنتين. "وجه"
قوله أن الواجب نصف الدية فيؤخذ في سنتين كما
لو قطع يد إنسان خطأ, ووجب عليه نصف الدية,
أنه يؤخذ في سنتين, كذا ههنا. "ولنا" أن
الواجب جزء مما يؤخذ في ثلاث سنين, وحكم الجزء
حكم الكل بخلاف القطع فإن الواجب هناك كل لا
جزء؛ لأن كل دية يد واحدة هذا القدر, إلا أنه
قدر كل ديتها بنصف دية النفس, وهذا لا ينفي أن
يكون كل دية الطرف. ولو عفا أحدهما فقتله
الآخر ينظر إن قتله ولم يعلم بالعفو أو علم به
لكنه لم يعلم بالحرمة لا قصاص عليه عند
أصحابنا الثلاثة رحمهم الله, وعند زفر رحمه
الله عليه القصاص. "وجه" قوله أنه قتل نفسا
بغير حق؛ لأن عصمته عادت بالعفو, ألا ترى أنه
حرم قتله فكانت مضمونة بالقصاص كما لو قتله
قبل وجود القتل منه؟ فلو سقط إنما سقط
بالشبهة, ومطلق الظن لا يورث شبهة كما لو قتل
إنسانا. وقال: ظننت أنه قاتل أبي. "ولنا" أن
في عصمته شبهة العدم في حق القاتل؛ لأنه قتله
على ظن أن قتله مباح له, وهو ظن مبني على نوع
دليل, وهو ما ذكرنا أن القصاص وجب حقا
للمقتول, وكل واحد من الأولياء بسبيل من
استيفاء حق وجب للمقتول, فالعفو من أحدهما
ينبغي أن لا يؤثر في حق الآخر, ولأن سبب ولاية
الاستيفاء وجد في حق كل واحد منهما على
الكمال, وهو القرابة فينبغي أن لا يؤثر عفو
أحدهما في حق صاحبه, إلا أنه امتنع هذا الدليل
عن العمل بإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم
على ما بينا, فقيامه يورث شبهة عدم العصمة,
والشبهة في هذا الباب تعمل عمل الحقيقة فتمنع
وجوب القصاص, ويجب عليه نصف الدية؛ لأن القصاص
إذا تعذر إيجابه للشبهة وجب عليه كمال الدية,
كان على القاتل الدية, فصار النصف قصاصا
بالنصف فيوجب عليه النصف الآخر, ويكون في ماله
لا على العاقلة؛ لأنه وجب بالقتل, وهو عمد,
والعاقلة لا تعقل العمد. وإن علم بالعفو
والحرمة يجب عليه القصاص؛ لأن المانع من
الوجوب الشبهة, وإنها نشأت عن الظن, ولم يوجد,
فزال المانع, وله على المقتول نصف الدية؛ لأنه
قد كان انقلب نصيبه مالا بعفو صاحبه فبقي ذلك
على المقتول, هذا إذا كان القصاص الواحد
مشتركا بينهما فعفا أحدهما عن نصيبه, فأما إذا
وجب لكل واحد منهما قصاص كامل قبل القاتل بأن
قتل واحد رجلين فعفا أحدهما عن القاتل لا يسقط
قصاص الآخر؛ لأن كل واحد منهما استحق عليه
قصاصا كاملا, ولا استحالة له في ذلك؛ لأن
القتل ليس تفويت الحياة ليقال: إن الحياة
الواحدة لا يتصور تفويتها من اثنين بل هو اسم
لفعل مؤثر في فوات الحياة عادة, وهذا يتصور من
كل واحد منهما في محل واحد على الكمال, فعفو
أحدهما عن حقه, وهو القصاص, لا يؤثر في حق
صاحبه بخلاف القصاص الواحد المشترك, والله
سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا عفا الولي عن
القاتل بعد موت وليه. "فأما" إذا عفا عنه بعد
الجرح قبل الموت فالقياس أن لا يصح عفوه, وفي
الاستحسان يصح. "وجه" القياس أن العفو عن
القتل يستدعي وجود القتل, والفعل لا يصير قتلا
إلا بفوات الحياة عن المحل, ولم يوجد, فالعفو
لم يصادف محله فلم يصح, وللاستحسان وجهان:
أحدهما: أن الجرح متى اتصلت به السراية تبين
أنه وقع قتلا من حين وجوده, فكان عفوا عن حق
ثابت, فيصح, ولهذا لو كان الجرح خطأ فكفر بعد
الجرح قبل الموت ثم مات جاز التكفير, والثاني:
أن القتل إن لم يوجد للحال فقد وجد سبب وجوده,
وهو الجرح المفضي إلى فوات الحياة, والسبب
المفضي إلى الشيء يقام مقام ذلك الشيء في أصول
الشرع كالنوم مع الحدث, والنكاح مع الوطء,
وغير ذلك, ولأنه إذا وجد سبب, وجود القتل كان
العفو تعجيل الحكم بعد وجود سببه, وإنه جائز,
كالتكفير بعد الجرح قبل الموت في قتل الخطإ,
والله سبحانه وتعالى أعلم وكذلك العفو من
المولى واحدا كان أو أكثر, والعفو من الوارث
سواء في جميع ما وصفنا إلا أن في القصاص بين
الموليين إذا عفا أحدهما فللآخر حصته من قيمة
العبد, وههنا من الدية؛ لأن القيمة في دم
العمد كالدية في دم الحر. "فأما" فيما وراء
ذاك فلا يختلفان, هذا كله إذا كان العفو من
المولى أو من الولي, فأما إذا كان من المجروح
بأن كان المجروح عفا لا يصح عفوه؛ لأن القصاص
يجب حقا للمولى لا له, وإن كان حرا, فإن عفا
عن القتل ثم مات
ج / 7 ص -249-
صح
استحسانا, والقياس أن لا يصح. "وجه" القياس,
والاستحسان على نحو ما ذكرنا. وإن عفا عن
القطع أو الجراحة أو الشجة أو الجناية ثم مات
أولا فجملة الكلام فيه أن الجرح لا يخلو إما
أن يكون عمدا أو خطأ, فإن كان عمدا فالمجروح
لا يخلو إما أن يقول: عفوت عن القطع أو
الجراحة أو الشجة أو الضربة, وهذا كله قسم
واحد. "وإما" أن يقول: عفوت عن الجناية,
والقسم الأول لا يخلو "إما" أن ذكر معه ما
يحدث منها. "وإما" إن لم يذكر, وحال المجروح
لا يخلو "إما" أن برئ وصح. "وإما" إن مات من
ذلك, فإن برئ من ذلك صح العفو في الفصول كلها؛
لأن العفو وقع عن ثابت, وهو الجراحة أو
موجبها, وهو الأرش فيصح, وإن سرى إلى النفس
ومات, فإن كان العفو بلفظ الجناية أو بلفظ
الجراحة, وما يحدث منها صح بالإجماع, ولا شيء
على القاتل؛ لأن لفظ الجناية يتناول القتل,
وكذا لفظ الجراحة, وما يحدث منها, فكان ذلك
عفوا عن القتل فيصح. وإن كان بلفظ الجراحة,
ولم يذكر ما يحدث منها لم يصح العفو في قول
أبي حنيفة رضي الله عنه والقياس أن يجب
القصاص, وفي الاستحسان تجب الدية في مال
القاتل, وعندهما يصح العفو, ولا شيء على
القاتل. "وجه" قولهما أن السراية أثر الجراحة,
والعفو عن الشيء يكون عفوا عن أثره كما إذا
قال عفوت عن الجراحة, وما يحدث منها, ولأبي
حنيفة رضي الله عنه وجهان: أحدهما: أنه عفا عن
غير حقه, فإن حقه في موجب الجناية لا في
عينها؛ لأن عينها عرض لا يتصور بقاؤها فلا
يتصور العفو عنها, ولأن عينها جناية وجدت من
الخارج, والجناية لا تكون حق المجني عليه فكان
هذا عفوا عن موجب الجراحة. وبالسراية يتبين
أنه لا موجب بهذه الجراحة؛ لأن عند السراية
يجب موجب القتل بالإجماع, وهو القصاص إن كان
عمدا, والدية إن كان خطأ, ولا يجب الأرش وقطع
اليد مع موجب القتل؛ لأن الجمع بينهما غير
مشروع, والثاني: إن كان العفو عن القطع والجرح
صحيحا لكن القطع غير, والقتل غير فالقطع إبانة
الطرف, والقتل فعل مؤثر في فوات الحياة عادة,
وموجب أحدهما القطع والأرش, وموجب الآخر القتل
والدية, والعفو عن أحد الغيرين لا يكون عفوا
عن الآخر في الأصل فكان القياس أن يجب القصاص
لوجود القتل العمد, وعدم ما يسقطه, إلا أنه
سقط للشبهة فتجب الدية, وتكون في ماله؛ لأنها
وجبت بالقتل العمد, والعاقلة لا تعقل العمد,
هذا إذا كان القتل عمدا, فأما إذا كان خطأ فإن
برئ من ذلك صح العفو بالإجماع, ولا شيء على
القاطع سواء كان بلفظ الجناية أو الجراحة,
وذكر وما يحدث منها أو لم يذكر لما قلنا, وإن
سرى إلى النفس فإن كان بلفظ الجناية أو
الجراحة, وما يحدث منها صح أيضا لما ذكرنا, ثم
إن كان العفو في حال صحة المجروح بأن كان يذهب
ويجيء ولم يصر صاحب فراش يعتبر من جميع ماله,
وإن كان في حال المرض بأن صار صاحب فراش يعتبر
عفوه من ثلث ماله؛ لأن العفو تبرع منه, وتبرع
المريض مرض الموت يعتبر من ثلث ماله, فإن كان
قدر الدية يخرج من الثلث سقط ذلك القدر عن
العاقلة, وإن كان لا يخرج كله من الثلث فثلثه
يسقط عن العاقلة, وثلثاه يؤخذ منهم, وإن كان
بلفظ الجراحة ولم يذكر وما يحدث منها لم يصح
العفو, والدية على العاقلة عند أبي حنيفة,
وعندهما يصح العفو, وهذا وقوله عفوت عن
الجراحة وعن الجناية وما يحدث منها سواء, وقد
بينا حكمه, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو كان
مكان العفو صلح بأن صالح من القطع أو الجراحة
على مال فهو على التفصيل الذي ذكرنا أنه إن
برئ المجروح فالصلح صحيح بأي لفظ كان, وسواء
كان القطع عمدا أو خطأ؛ لأن الصلح وقع عن حق
ثابت فيصح, وإن سرى إلى النفس, فإن كان الصلح
بلفظ الجناية أو بلفظ الجراحة وما يحدث منها
فالصلح صحيح أيضا؛ لأنه صلح عن حق ثابت, وهو
القصاص, وإن كان بلفظ الجراحة, ولم يذكر وما
يحدث منها فعند أبي حنيفة رحمه الله لا يصح
الصلح, ويؤخذ جميع الدية من ماله في العمد,
وإن كان خطأ يرد بدل الصلح, ويجب جميع الدية
على العاقلة, والله سبحانه وتعالى أعلم ولو
كان مكان الصلح نكاح بأن قطعت امرأة يد رجل أو
جرحته فتزوجها على ذلك فهو على ما ذكرنا من
التفاصيل أنه إن برئ من ذلك جاز النكاح, وصار
أرش ذلك مهرا لها؛ لأنه تبين أن موجب ذلك
الأرش, سواء كان القطع عمدا أو خطأ؛ لأن
القصاص بين الذكور والإناث لا يجري فيما دون
النفس, فكان الواجب هو المال, فإذا تزوجها
عليه فقد سمى المال فكان مهرا لها, وإن سرى
إلى النفس فإن كان النكاح بلفظ الجناية أو
بلفظ الجراحة وما يحدث منها
ج / 7 ص -250-
وكان
القطع خطأ جاز النكاح, وصار دم الزوج مهرا
لها؛ لأنه لما اتصلت به السراية تبين أنه وقع
قتلا موجبا للدية على العاقلة, فكان التزوج
على موجب الجناية, وهو الدية, وسقطت عن
العاقلة لصيرورتها مهرا لها, وهذا إذا كان وقت
النكاح صحيحا, فإن كان مريضا فبقدر مهر المثل
يسقط عن العاقلة؛ لأنه ليس بمتبرع في هذا
القدر. "وأما" الزيادة على ذلك فينظر إن كانت
تخرج من ثلث ماله يسقط أيضا, وإن كانت لا تخرج
من ثلث ماله فبقدر الثلث يسقط أيضا, والزيادة
تكون للزوج ترجع إلى ورثته, وإنما اعتبر خروج
الزيادة من ثلث ماله؛ لأنه متبرع بالزيادة,
وهو مريض مرض الموت, هذا في الخطأ. "وأما" في
العمد جاز النكاح, وصار عفوا. "وأما" جواز
النكاح فلا شك فيه؛ لأن جوازه لا يقف على
تسمية ما هو مال. "وأما" صيرورة النكاح على
القصاص عفوا له؛ لأنه لما تزوجها على القصاص
فقد أزال حقه عنه, وأسقطه وهذا معنى العفو,
ولها مهر المثل من تركة الزوج؛ لأن النكاح لا
يجوز إلا بالمهر, والقصاص لا يصلح مهرا؛ لأنه
ليس بمال, فيجب لها العوض الأصلي وهو مهر
المثل, فإن كان بلفظ الجراحة, ولم يذكر وما
يحدث منها فكذلك الجواب عندهما في العمد
والخطأ, وعند أبي حنيفة رحمه الله بطل العفو
إذا كان عمدا, ولها مهر المثل من مال الزوج,
وتجب الدية من مالها, فيتناقصان بقدر مهر
المثل, وتضمن المرأة الزيادة, وإن كانت خطأ
فتجب الدية على عاقلتها, ولها مهر المثل من
مال الزوج, ولا ترث المرأة من مال الزوج شيئا؛
لأنها قاتلة, ولا ميراث للقاتل, والله تعالى
أعلم. ولو كان مكان النكاح خلع بأن قطع يد
امرأته أو جرحها جراحة فخلعها على ذلك فهو على
ما ذكرنا أنها إن برئت جاز الخلع, وكان بائنا؛
لأنه تبين أنه خلعها على أرش اليد, فصح الخلع,
وصار أرش اليد بدل الخلع, والخلع على مال طلاق
بائن, ويستوي فيه العمد, والخطأ لما مر, وإن
سرى إلى النفس, وكان خطأ, فإن ذكر بلفظ
الجناية أو بلفظ الجراحة, وما يحدث منها جاز
الخلع, ويكون بائنا؛ لأنه تبين أن الفعل وقع
قتلا, فتبين أنه وقع موجبا للدية, فكان الخلع
واقعا على ماله, وهو الدية, فيصح, ويكون
بائنا, ثم إن كانت المرأة صحيحة وقت الخلع جاز
ذلك من جميع المال, وإن كانت مريضة صارت الدية
بدل الخلع, ويعتبر خروج جميع الدية من الثلث
بخلاف النكاح حيث يعتبر هناك خروج الزيادة على
قدر مهر المثل من الثلث؛ لأن تلك الحال حال
دخول البضع في ملك الزوج, وهذه حالة الخروج,
والبضع يعد مالا حال الدخول في ملك الزوج, ولا
يعد مالا حال الخروج عن ملكه, وإن كان يخرج من
الثلث سقط عن العاقلة, وإن لم يكن لها مال
يسقط, والثلثان على العاقلة, ويكون بمنزلة
الوصية هذا في الخطأ, فأما في العمد جاز
العفو, ولا يكون مالا, وخلعها بغير مال يكون
رجعيا, وإن كان الخلع بلفظ الجراحة, ولم يذكر
وما يحدث منها فعندهما: كذلك الجواب, وعند أبي
حنيفة رحمه الله لم يصح العفو, وتجب جميع
الدية في ماله في العمد, وفي الخطأ على
العاقلة, ويكون الخلع بغير مال فيكون الطلاق
رجعيا, والله تعالى أعلم. ومنها الصلح على
مال؛ لأن القصاص حق للمولى, ولصاحب الحق أن
يتصرف في حقه استيفاء وإسقاطا إذا كان من أهل
الإسقاط, والمحل قابل للسقوط, ولهذا يملك
العفو فيملك الصلح, ولأن المقصود من استيفاء
القصاص, وهو الحياة, يحصل به؛ لأن الظاهر أن
عند أخذ المال عن صلح, وتراض تسكن الفتنة فلا
يقصد الولي قتل القاتل, فلا يقصد القاتل قتله
فيحصل المقصود من استيفاء القصاص بدونه, وقيل
إن قوله تبارك وتعالى
{فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية نزلت في الصلح عن دم العمد فيدل على جواز الصلح وسواء كان
بدل الصلح قليلا أو كثيرا, من جنس الدية أو من
خلاف جنسها, حالا أو مؤجلا, بأجل معلوم أو
مجهول جهالة متفاوتة كالحصاد, والدياس, ونحو
ذلك, بخلاف الصلح من الدية على أكثر مما تجب
فيه الدية أنه لا يجوز؛ لأن المانع من الجواز
هناك تمكن الربا. ولم يوجد ههنا؛ لأن الربا
يختص بمبادلة المال بالمال, والقصاص ليس بمال,
وقد ذكرنا شرائط جواز الصلح, ومن يملك الصلح
ومن لا يملكه في كتاب الصلح, ولو صالح الولي
القاتل على مال ثم قتله يقتص منه عند عامة
العلماء رضي الله عنهم. وقال بعض الناس لا
قصاص عليه, وقد مرت المسألة في العفو, ولو كان
الولي اثنين, والقصاص واحد فصالح أحدهما سقط
القصاص عن القاتل, وينقلب نصيب الآخر مالا لما
ذكرنا في العفو, ولو قتله الآخر بعد عفو صاحبه
فهو على التفصيل والخلاف
ج / 7 ص -251-
والوفاق الذي ذكرناه في العفو ولو كان القصاص
أكثر فصالح ولي أحد القتيلين فللآخر أن
يستوفي, وكذا لو صالح الولي مع أحد القاتلين
كان له أن يقتص للآخر لما ذكرنا في العفو,
وكذلك حكم المولى في الصلح عن دم العمد في
جميع ما وصفنا ومنها إرث القصاص بأن وجب
القصاص لإنسان فمات من له القصاص, فورث القاتل
القصاص سقط القصاص لاستحالة وجوب القصاص له
وعليه, فيسقط ضرورة, ولو قتل رجلان رجلين كل
واحد منهما ابن الآخر عمدا, وكل منهما وارث
الآخر قال أبو يوسف رحمه الله: لا قصاص
عليهما, وقال الحسن بن زياد رحمه الله: يوكل
كل واحد منهما وكيلا يستوفي القصاص فيقتلهما
الوكيلان معا, وقال زفر رحمه الله: يقال
للقاضي: ابتدئ بأيهما شئت, وسلمه إلى الآخر
حتى يقتله, ويسقط القصاص عن الآخر. "وجه" قول
زفر رحمه الله أن القصاص وجب على كل واحد
منهما لوجود السبب من كل واحد منهما, وهو
القتل العمد, إلا أنه لا يتمكن استيفاؤهما؛
لأنه إذا استوفي أحدهما يسقط الآخر لصيرورة
القصاص ميراثا للقاتل الآخر, فكان الخيار فيه
إلى القاضي يبتدئ بأيهما شاء ويسلمه إلى الآخر
حتى يقتله, ويسقط القصاص عن الآخر. "وجه" قول
الحسن رحمه الله أن استيفاء القصاص منهما ممكن
بالوكالة بأن يقتل كل واحد من الوكيلين كل
واحد من القاتلين في زمان واحد, فلا يتوارثان,
كما في الغرقى, والحرقى. "وجه" قول أبي يوسف
رحمه الله أن وجوب القصاص وجوب الاستيفاء لا
يعقل له معنى سواه, ولا سبيل إلى استيفاء
القصاص؛ لأنه إذا استوفي أحدهما سقط الآخر,
وليس أحدهما بالاستيفاء أولى من الآخر, فتعذر
القول بالوجوب أصلا؛ ولأن في استيفاء أحد
القصاصين بقاء حق أحدهما, وإسقاط حق الآخر,
وهذا لا يجوز, والقول باستيفائهما بطريق
التوكيل غير سديد؛ لأن الفعلين قلما يتفقان في
زمان واحد بل يسبق أحدهما الآخر عادة, وكذا
أثرهما الثابت عادة, وهو فوات الحياة, وفي ذلك
إسقاط القصاص عن الآخر, وقالوا في رجل قطع يد
رجل ثم قتل المقطوع يده ابن القاطع عمدا, ثم
مات المقطوع يده من القطع إن على القاطع
القصاص, وهو القتل لولي المقطوع يده؛ لأنه مات
بسبب سابق على وجود القتل منه, وهو القطع
السابق؛ لأن ذلك القطع صار بالسراية قتلا,
فوجب القصاص على القاطع, ولا يسقط بقتل
المقطوع يده ابن القاطع, والله سبحانه وتعالى
أعلم. "ومنها" حرمان الميراث لحصول القتل
مباشرة بغير حق, ولهذا يثبت بالقتل الخطأ
فبالعمد أولى. وأما الكفارة فلا تجب عندنا,
وعند الشافعي رحمه الله تجب "وجه" قوله أن
الكفارة لرفع الذنب, ومحو الإثم؛ ولهذا وجبت
في القتل الخطأ, والذنب في القتل العمد أعظم
فكانت الحاجة إلى الدفع أشد. "ولنا" أن
التحرير أو الصوم في الخطأ إنما وجب شكرا
للنعمة حيث سلم له أعز الأشياء إليه في
الدنيا, وهو الحياة, مع جواز المؤاخذة
بالقصاص, وكذا ارتفع في المؤاخذة في الآخرة مع
جواز المؤاخذة, وهذا لم يوجد في العمد, فيقدر
الإيجاب شكرا أوجب لحق التوبة عن القتل بطريق
الخطأ, وألحق بالتوبة الحقيقية لخفة الذنب
بسبب الخطأ, والذنب ههنا أعظم فلا يصلح لتحرير
توبة, والله تعالى أعلم. وأما شبه العمد
فيتعلق به أحكام منها وجوب الدية المغلظة على
العاقلة, أما وجوب الدية فلأن القصاص امتنع
وجوبه مع وجود القتل العمد للشبهة فتجب الدية.
وأما صفة التغليظ فلإجماع الصحابة رضي الله
عنهم؛ لأنهم اختلفوا في كيفية التغليظ على ما
نذكر إن شاء الله تعالى, واختلافهم في الكيفية
دليل ثبوت الأصل. وأما الوجوب على العاقلة
فلأن العاقلة إنما تعقل الخطأ تخفيفا على
القاتل نظرا له لوقوعه فيه لا عن قصد, وفي هذا
القتل شبهة عدم القصد لحصوله بآلة لا يقصد بها
القتل عادة, فكان مستحقا لهذا النوع من
التخفيف, ومنها حرمان الميراث, ومنها عدم جواز
الوصية؛ لأنه قتل مباشرة بغير حق, وهل تجب
الكفارة في هذا القتل؟ ذكر الكرخي رحمه الله
أنها تجب, وألحقه بالقتل الخطأ المحض في وجوب
الكفارة, وقال بعض مشايخنا: لا تجب, وألحقه
بالعمد المحض في عدم وجوب الكفارة. "وجه" ما
ذكره الكرخي رحمه الله أن الكفارة إنما وجبت
في الخطأ إما لحق الشكر أو لحق التوبة على ما
بينا, والداعي إلى الشكر, والتوبة ههنا موجود,
وهو سلامة البدن, وكون الفعل جناية فيها نوع
خفة لشبهة عدم القصد, فأمكن أن يجعل
ج / 7 ص -252-
التحرير فيه توبة. "وجه" القول الآخر أن هذه
جناية مغلظة, ألا ترى أن المؤاخذة فيها ثابتة,
بخلاف الخطأ فلا يصلح التحرير توبة بها كما في
العمد؟ والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما القتل
الخطأ فيختلف حكمه باختلاف حال القاتل
والمقتول فنفصل الكلام فيه فنقول: القاتل
والمقتول إما أن يكونا جميعا حرين, وإما أن
كان القاتل حرا, والمقتول عبدا, وإما أن كان
القاتل عبدا, والمقتول حرا, وإما أن كانا
جميعا عبدين, فإن كانا حرين فيتعلق به أحكام
منها وجوب الكفارة عند وجود شرائط الوجوب, وهي
نوعان: بعضها يرجع إلى القاتل, وبعضها إلى
المقتول, أما الذي يرجع إلى القاتل فالإسلام,
والعقل, والبلوغ فلا تجب الكفارة على الكافر,
والمجنون, والصبي؛ لأن الكفار غير مخاطبين
بشرائع هي عبادات, والكفارة عبادة, والصبي,
والمجنون لا يخاطبان بالشرائع أصلا. وأما الذي
يرجع إلى المقتول فهو أن يكون المقتول معصوما
فلا تجب بقتل الحربي, والباغي لعدم العصمة.
وأما كونه مسلما فليس بشرط فيجب, سواء كان
مسلما أو ذميا أو مستأمنا وسواء كان مسلما
أسلم في دار الإسلام أو في دار الحرب, ولم
يهاجر إلينا؛ لقوله سبحانه, وتعالى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} إلى قوله تعالى
{فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ
فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ
مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ
فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ
وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}. ولأن القاتل قد سلم له الحياة في الدنيا, وهي من أعظم النعم,
ورفعت عنه المؤاخذة في الآخرة مع جواز
المؤاخذة في الحكمة لما في وسع الخاطئ في
الجملة حفظ نفسه عن الوقوع في الخطأ, وهذا
أيضا نعمة فكان وجوب الشكر لهذه النعمة موافقا
للعقل, فبين الله تعالى مقداره وجنسه بهذه
الآية ليقدر العبد على أداء ما وجب عليه من
أصل الشكر بتعظيمه العقل؛ ولأن فعل الخطأ
جناية, ولله تعالى المؤاخذة عليه بطريق العدل؛
لأنه مقدور الامتناع بالتكلف والجهد. وإذا كان
جناية فلا بد لها من التكفير والتوبة, فجعل
التحرير من العبد بحق التوبة عن القتل الخطأ
بمنزلة التوبة الحقيقية في غيره من الجنايات,
إلا أنه جعل التحرير أو الصوم توبة له دون
التوبة الحقيقية لخفة الجناية بسبب الخطأ, إذ
الخطأ معفو في الجملة, وجائز العفو عن هذا
النوع فخفت توبته لخفة في الجناية, فكان
التحرير في هذه الجناية بمنزلة التوبة في سائر
الجنايات ومنها حرمان الميراث؛ لأنه وجد القتل
مباشرة بغير حق, أما المباشرة فلا شك فيها.
وأما الخطر والحرمة فلأن فعل الخطأ جناية جائز
المؤاخذة عليها عقلا لما بينا, والدليل عليه
قوله عز اسمه
{رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} ولو لم يكن جائز المؤاخذة لكان معنى الدعاء اللهم لا تجر علينا,
وهذا محال, وإنما رفع حكمها شرعا ببركة دعاء
النبي عليه الصلاة والسلام وقوله عليه الصلاة
والسلام
"رفع عن أمتي
الخطأ, والنسيان, وما استكرهوا عليه"
مع بقاء وصف الفعل على حاله, وهو كونه جناية.
ومنها وجوب الدية, والكلام في الدية في مواضع
في بيان شرائط وجوب الدية, وفي بيان ما تجب
منه الدية من الأجناس, وفي بيان مقدار الواجب
من كل جنس, وفي بيان صفته, وفي بيان من تجب
عليه الدية, وفي بيان كيفية الوجوب. أما
الشرائط فبعضها شرط أصل الوجوب, وبعضها شرط
كمال الواجب, أما شرط أصل الوجوب فنوعان:
أحدهما: العصمة, وهو أن يكون المقتول معصوما
فلا دية في قتل الحربي والباغي لفقد العصمة,
فأما الإسلام فليس من شرائط وجوب الدية لا من
جانب القاتل ولا من جانب المقتول, فتجب الدية
سواء كان القاتل أو المقتول مسلما أو ذميا أو
حربيا مستأمنا. وكذلك العقل, والبلوغ حتى تجب
الدية في مال الصبي, والمجنون, والأصل فيه
قوله سبحانه وتعالى:
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا
أَنْ يَصَّدَّقُوا}. ولا خلاف في أنه إذا قتل ذميا أو حربيا مستأمنا تجب الدية لقوله
تبارك وتعالى
{وَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ}, والثاني: التقوم, وهو أن يكون المقتول متقوما, وعلى هذا يبنى أن
الحربي إذا أسلم في دار الحرب فلم يهاجر إلينا
فقتله مسلم أو ذمي خطأ أنه لا تجب الدية عند
أصحابنا, خلافا للشافعي بناء على أن التقوم
بدار الإسلام عندنا, وعنده بالإسلام, وقد
ذكرنا تقرير هذا الأصل في كتاب السير. ثم
نتكلم في المسألة: ابتداء احتج الشافعي رحمه
الله بقوله تبارك وتعالى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} وهذا مؤمن قتل خطأ فتجب الدية. "ولنا" قوله جلت عظمته وكبرياؤه
{فَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ
مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ}
ج / 7 ص -253-
والاستدلال به من وجهين: أحدهما: أنه جعل
التحرير جزاء القتل, والجزاء يقتضي الكفاية
فلو وجبت الدية معه لا تقع الكفاية بالتحرير,
وهذا خلاف النص, والثاني: أنه سبحانه, وتعالى
جعل التحرير كل الواجب بقتله؛ لأنه كل
المذكور, فلو أوجبنا معه الدية لصار بعض
الواجب, وهذا تغيير حكم النص. وأما صدر الآية
الكريمة فلا يتناول هذا المؤمن لوجهين:
أحدهما: أنه سبحانه وتعالى ذكر المؤمن مطلقا
فيتناول المؤمن من كل وجه, وهو المستأمن دينا,
ودارا, وهذا مستأمن دينا لا دارا؛ لأنه مكثر
سواد الكفرة, ومن كثر سواد قوم فهو منهم على
لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم. والثاني:
أنه أفرد هذا المؤمن بالذكر والحكم, ولو
تناوله صدر الآية الشريفة لعرف حكمه به, فكان
الثاني تكرارا, ولو حمل على المؤمن المطلق لم
يكن تكرارا فكان الحمل عليه أولى, أو يحتمل ما
ذكرنا, فيحمل عليه توفيقا بين الدليلين عملا
بهما جميعا, ثم عصمة المقتول تعتبر وقت القتل
أم وقت الموت أم في الوقتين جميعا؟ على أصل
أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه تعتبر وقت القتل
لا غير, وعلى أصلهما تعتبر وقت القتل والموت
جميعا, وعلى قول زفر رحمه الله تعتبر وقت
الموت لا غير, وعلى هذا تخرج مسائل الرمي إذا
رمى مسلما فارتد المرمي إليه ثم وقع به السهم,
وهو مرتد فمات, فعلى الرامي الدية في قول أبي
حنيفة رحمه الله إن كان خطأ تتحمله العاقلة,
وإن كان عمدا يكون في ماله, وعندهما لا شيء
عليه. وكذا عند زفر, وإن رمى مرتدا أو حربيا
فأسلم ثم وقع السهم به, ومات لا شيء عليه عند
أصحابنا الثلاثة, وعند زفر عليه الدية. "وجه"
قوله أن الضمان إنما يجب بالقتل, والفعل إنما
يصير قتلا بفوات الحياة, ولا عصمة للمقتول وقت
فوات الحياة, فكان دمه هدرا, كما لو جرحه ثم
ارتد فمات, وهو مرتد, لهما أن للقتل تعلقا
بالقاتل والمقتول؛ لأنه فعل القاتل, وأثره
يظهر في المقتول بفوات الحياة, فلا بد من
اعتبار العصمة في الوقتين جميعا, ولأبي حنيفة
رضي الله عنه أن الضمان إنما يجب على الإنسان
بفعله, ولا فعل منه سوى الرمي السابق فكان
الرمي السابق عند وجود زهوق الروح قتلا من حين
وجوده, والمحل كان معصوما في ذلك الوقت, فكان
ينبغي أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فتجب
الدية. ولهذا لو كان مرتدا أو حربيا وقت الرمي
ثم أسلم فأصابه السهم وهو مسلم أنه لا شيء
عليه عندهما, وهذه المسألة حجة قوية لأبي
حنيفة رضي الله عنه عليهما في اعتبار وقت
الرمي لا غير, والدليل عليه أن في باب الصيد
يعتبر وقت الرمي في قولهم جميعا, حتى لو كان
الرامي مسلما وقت الرمي ثم ارتد فأصاب السهم
الصيد, وهو مرتد, يؤكل, وإن كان الباب باب
الاحتياط, وبمثله لو كان مجوسيا وقت الرمي ثم
أسلم ثم وقع السهم بالصيد وهو مسلم لا يؤكل,
وكذلك حلال رمى صيدا ثم أحرم ثم أصابه, لا شيء
عليه. وإن رمى وهو محرم ثم حل فأصابه فعليه
الجزاء فهذه المسائل حجج أبي حنيفة رضي الله
عنه في اعتبار وقت الفعل, والأصل أن ما يرجع
إلى الأهلية تعتبر فيه أهلية الفاعل وقت الفعل
بلا خلاف, وما كان راجعا إلى المحل فهو على
الاختلاف الذي ذكرنا, بخلاف ما إذا جرح مسلما
ثم ارتد المجروح فمات وهو مرتد أنه يهدر دمه؛
لأن الجرح السابق انقلب قتلا بالسراية, وقد
تبدل المحل حكما بالردة, فيوجب انقطاع السراية
عن ابتداء الفعل كتبدل المحل حقيقة, ولم يوجد
هذا المعنى في مسألتنا. ولو رمى عبدا فأعتقه
مولاه ثم وقع به السهم فمات فلا دية عليه,
وعليه قيمته لمولاه في قول أبي حنيفة عليه
الرحمة. وقال محمد على الرامي لمولى العبد فضل
ما بين قيمته مرميا إلى غير مرمي, لا شيء عليه
غير ذلك, وذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي
رحمه الله قول أبي يوسف مع قول محمد أنه لما
رمى إليه فقد صار ناقصا بالرمي في ملك مولاه
قبل وقوع السهم به؛ لأنه أشرف على الهلاك
بتوجه السهم إليه, فوجب عليه ضمان النقصان,
فصار كما لو جرحه ثم أعتقه مولاه, ولو كان
كذلك لانقطعت السراية, ولا يضمن الدية, ولا
القيمة, وإنما يضمن النقصان كذا هذا, وأبو
حنيفة رضي الله عنه مر على أصله, وهو اعتبار
وقت الفعل؛ لأنه صار قاتلا بالرمي السابق, وهو
كان ملك المولى حينئذ. "وأما" بيان ما تجب فيه
الدية فقد اختلف أصحابنا فيه, قال أبو حنيفة
رحمه الله: الذي تجب منه الدية وتقضى منه
ثلاثة أجناس: الإبل والذهب والفضة, وعندهما
ستة أجناس: الإبل والذهب والفضة والبقر والغنم
والحلل, واحتجا بقضية سيدنا عمر رضي الله
تعالى عنه فإنه روي أنه قضى بالدية من هذه
الأجناس
ج / 7 ص -254-
بمحضر
من الصحابة رضي الله تعالى عنهم, ولأبي حنيفة
رضي الله تعالى عنه قوله عليه الصلاة والسلام
"في النفس المؤمنة مائة من الإبل" جعل عليه الصلاة والسلام الواجب من الإبل على الإشارة إليها,
فظاهره يقتضي الوجوب منها على التعيين, إلا أن
الواجب من الصنفين الأخيرين ثبت بدليل آخر,
فمن ادعى الوجوب من الأصناف الأخر فعليه
الدليل. وأما قضية سيدنا عمر رضي الله تعالى
عنه فقد قيل: إنه إنما قضى بذلك حين كانت
الديات على العواقل, فلما نقلها إلى الديوان
قضى بها من الأجناس الثلاثة. وذكر في كتاب
المعاقل ما يدل على أنه لا خلاف بينهم, فإنه
قال: لو صالح الولي على أكثر من مائتي بقرة
ومائتي حلة لم يجز بالإجماع, ولو لم يكن ذلك
من جنس الدية لجاز, والله أعلم بالصواب. وأما
بيان مقدار الواجب من كل جنس, وبيان صفته فقدر
الواجب من كل جنس يختلف بذكورة المقتول
وأنوثته, فإن كان ذكرا فلا خلاف, في أن الواجب
بقتله من الإبل مائة لقوله عليه الصلاة
والسلام
"في النفس
المؤمنة مائة من الإبل" ولا خلاف
أيضا في أن الواجب من الذهب ألف دينار لما روي
أنه عليه الصلاة والسلام جعل
"دية كل ذي عهد في عهده ألف دينار", والتقدير في حق الذمي يكون تقديرا في حق المسلم من طريق الأولى.
وأما الواجب من الفضة فقد اختلف فيه, قال
أصحابنا رحمهم الله تعالى: عشرة آلاف درهم
وزنا وزن سبعة. وقال مالك, والشافعي رحمهما
الله: اثنا عشر ألفا, والصحيح قولنا لما روي
عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قال الدية عشرة
آلاف درهم بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم,
ولم ينقل أنه أنكر عليه أحد, فيكون إجماعا مع
ما أن المقادير لا تعرف إلا سماعا فالظاهر أنه
سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقدر
الواجب من البقر عندهما مائتا بقرة, ومن الحلل
مائتا حلة, ومن الغنم ألفا شاة, ثم دية الخطأ
من الإبل أخماس بلا خلاف, عشرون بنت مخاض,
وعشرون ابن مخاض, وعشرون بنت لبون, وعشرون
حقة, وعشرون جذعة, وهذا قول عبد الله بن مسعود
رضي الله عنه وقد رفعه إلى النبي عليه الصلاة
والسلام أنه قال
"دية الخطأ أخماس عشرون بنات مخاض, وعشرون بنو
مخاض, وعشرون بنو لبون, وعشرون حقة, وعشرون
جذعة",
وعندهما قدر كل بقرة خمسون درهما, وقدر كل حلة
خمسون درهما, والحلة اسم لثوبين إزار ورداء,
وقيمة كل شاة خمسة دراهم. ودية شبه العمد
أرباع, عندهما خمس وعشرون بنت مخاض, وخمس
وعشرون بنت لبون, وخمس وعشرون حقة, وخمس
وعشرون جذعة, وهو مذهب عبد الله بن مسعود رضي
الله عنه وعند محمد أثلاث, ثلاثون حقة,
وثلاثون جذعة. وأربعون ما بين ثنية إلى بازل
عامها كله خلفة, وهو مذهب سيدنا عمر, وزيد بن
ثابت رضي الله تعالى عنهما, وعن سيدنا علي رضي
الله عنه أنه قال: في شبه العمد أثلاث ثلاثة
وثلاثون حقة, وثلاثة وثلاثون جذعة, وأربعة
وثلاثون خلفة, والصحابة رضي الله عنهم متى
اختلفت في مسألة على قولين أو ثلاثة يجب ترجيح
قول البعض على البعض, والترجيح ههنا لقول ابن
مسعود رضي الله عنه لوجهين: أحدهما: أنه موافق
للحديث المشهور الذي تلقته العلماء رضي الله
عنهم بالقبول, وهو قوله عليه الصلاة والسلام
"في النفس المؤمنة مائة من الإبل", وفي إيجاب الحوامل إيجاب الزيادة على المائة؛ لأن الحمل أصل من
وجه, والثاني: أن ما قاله أقرب إلى القياس؛
لأن الحمل معنى موهوم لا يوقف عليه حقيقة فإن
انتفاخ البطن قد يكون للحمل, وقد يكون للداء,
ونحو ذلك. وإن كان أنثى فدية المرأة على النصف
من دية الرجل لإجماع الصحابة رضي الله عنهم
فإنه روي عن سيدنا عمر, وسيدنا علي, وابن
مسعود, وزيد بن ثابت رضوان الله تعالى عليهم
أنهم قالوا في دية المرأة: إنها على النصف من
دية الرجل, ولم ينقل أنه أنكر عليهم أحد فيكون
إجماعا, ولأن المرأة في ميراثها, وشهادتها على
النصف من الرجل فكذلك في ديتها وهل يختلف قدر
الدية بالإسلام, والكفر؟ قال أصحابنا رحمهم
الله: لا يختلف ودية الذمي والحربي والمستأمن
كدية المسلم, وهو قول إبراهيم النخعي والشعبي
رحمهما الله, والزهري رحمه الله. وقال الشافعي
رحمه الله: تختلف دية اليهودي والنصراني أربعة
آلاف, ودية المجوسي ثمانمائة, واحتج بحديث
رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "أنه
جعل دية هؤلاء على هذه المراتب" ولأن الأنوثة
لما أثرت في نقصان البدل فالكفر أولى؛ لأن
نقيصة الكفر فوق كل نقيصة. "ولنا" قوله تبارك
وتعالى
{وَإِنْ
كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ
مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ} أطلق سبحانه وتعالى
ج / 7 ص -255-
القول
بالدية في جميع أنواع القتل من غير فصل فدل أن
الواجب في الكل على قدر واحد "وروينا" أنه
عليه الصلاة والسلام جعل "دية كل ذي عهد في
عهده ألف دينار" "وروي" أن "عمرو بن أمية
الضمري قتل مستأمنين فقضى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيهما بدية حرين مسلمين", وعن
الزهري رحمه الله أنه قال: قضى سيدنا أبو بكر
وسيدنا عمر رضي الله تعالى عنهما في دية الذمي
بمثل دية المسلم, ومثله لا يكذب. وكذا روي عن
ابن مسعود رضي الله عنه قال دية أهل الكتاب
مثل دية المسلمين, ولأن وجوب كمال الدية يعتمد
كمال حال القتيل فيما يرجع إلى أحكام الدنيا,
وهي الذكورة, والحرية, والعصمة, وقد وجد,
ونقصان الكفر يؤثر في أحكام الدنيا. "وأما"
بيان من تجب عليه الدية فالدية تجب على
القاتل؛ لأن سبب الوجوب هو القتل, وإنه وجد من
القاتل, ثم "الدية" الواجبة على القاتل نوعان:
نوع يجب عليه في ماله, ونوع يجب عليه كله,
وتتحمل عنه العاقلة, بعضه بطريق التعاون إذا
كان له عاقلة, وكل دية وجبت بنفس القتل الخطأ
أو شبه العمد تتحمله العاقلة, وما لا فلا, فلا
تعقل الصلح؛ لأن بدل الصلح ما وجب بالقتل بل
بعقد الصلح, ولا الإقرار؛ لأنها وجبت بالإقرار
بالقتل لا بالقتل, وإقراره حجة في حقه لا في
حق غيره, فلا يصدق في حق العاقلة, حتى لو
صدقوا عقلوا, ولا العبد بأن قتل إنسانا خطأ؛
لأن الواجب بنفس القتل الدفع لا الفداء.
والفداء يجب باختيار المولى لا بنفس القتل,
ولا العمد بأن قتل الأب ابنه عمدا؛ لأنها وإن
وجبت بالقتل فلم تجب بالقتل الخطأ أو شبه
العمد, وهذا لأن التحمل من العاقلة في الخطأ
وشبه العمد على طريق التخفيف على الخاطئ,
والعامد لا يستحق التخفيف, وقد روي عنه عليه
الصلاة والسلام أنه قال:
"لا تعقل
العاقلة عمدا ولا عبدا ولا صلحا ولا اعترافا
ولا ما دون أرش الموضحة" وقيل في معنى قوله عليه الصلاة والسلام "ولا عبدا" أن المراد منه
العبد المقتول, وهو الذي قتله مولاه, وهو
مأذون مديون, أو المكاتب لا العبد القاتل؛
لأنه لو كان كذلك لكان من حق الكلام أن يقول:
لا تعقل العاقلة عن عبد؛ لأن العرب تقول: عقلت
عن فلان إذا كان فلان قاتلا, وعقلت فلانا إذا
كان فلان مقتولا. كذا فرق الأصمعي ثم الوجوب
على القاتل فيما تتحمله العاقلة قول عامة
المشايخ. وقال بعضهم: كل الدية في هذا النوع
تجب على الكل ابتداء, القاتل والعاقلة جميعا
والصحيح هو الأول لقوله سبحانه وتعالى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}, ومعناه فليتحرر, وليود, وهذا خطاب للقاتل لا للعاقلة دل أن الوجوب
على القاتل, ولما ذكرنا أن سبب الوجوب هو
القتل. وأنه وجد من القاتل لا من العاقلة فكان
الوجوب عليه لا على العاقلة, وإنما العاقلة
تتحمل دية واجبة عليه, ثم دخول القاتل مع
العاقلة في التحمل مذهبنا. وقال الشافعي رحمه
الله: القاتل لا يدخل معهم بل تتحمل العاقلة
الكل دون القاتل. وقال أبو بكر الأصم يتحمل
القاتل دون العاقلة؛ لأنه لا يجوز أن يؤاخذ
أحد بذنب غيره قال الله سبحانه, وتعالى
{وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا} وقال جلت عظمته
{وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} ولهذا لم تتحمل العاقلة ضمان الأموال, ولا ما دون نصف عشر الدية,
كذا هذا. "ولنا" أنه عليه الصلاة والسلام "قضى
بالغرة على عاقلة الضاربة", وكذا قضى سيدنا
عمر رضي الله عنه بالدية على العاقلة بمحضر من
الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير. وأما
الآية الشريفة فنقول بموجبها لكن لم قلتم أن
الحمل على العاقلة أخذ بغير ذنب ؟, فإن حفظ
القاتل واجب على عاقلته, فإذا لم يحفظوا فقد
فرطوا, والتفريط منهم ذنب, ولأن القاتل إنما
يقتل بظهر عشيرته فكانوا كالمشاركين له في
القتل, ولأن الدية مال كثير فإلزام الكل
القاتل إجحاف به فيشاركه العاقلة في التحمل
تخفيفا, وهو مستحق التخفيف؛ لأنه خاطئ, وبهذا
فارق ضمان المال؛ لأن ضمان المال لا يكثر عادة
فلا تقع الحاجة إلى التخفيف, وما دون نصف عشر
الدية حكمه حكم ضمان الأموال. "وأما" الكلام
مع الشافعي رحمه الله فوجه قوله أنه عليه
السلام "قضى بالدية على العاقلة" فلا يدخل فيه
القاتل, وإنا نقول نعم, لكن معلولا بالنصرة
والحفظ, وذلك على القاتل أوجب فكان أولى
بالتحمل. ثم الكلام في العاقلة في موضعين:
أحدهما: في تفسير العاقلة من هم, والثاني: في
بيان القدر الذي تتحمله العاقلة من الدية.
"أما" الأول: فالقاتل لا يخلو إما أن كان حر
الأصل, وإما إن كان معتقا, وإما أن كان مولى
الموالاة, فإن كان حر الأصل فعاقلته أهل
ديوانه إن كان
ج / 7 ص -256-
من أهل
الديوان, وهم المقاتلة من الرجال الأحرار
البالغين العاقلين تؤخذ من عطاياهم, وهذا
عندنا. وعند الشافعي رحمه الله عاقلته قبيلته
من النسب, والصحيح قولنا لإجماع الصحابة رضي
الله عنهم على ذلك فإنه روي عن إبراهيم النخعي
رحمه الله أنه قال: كانت الديات على القبائل
فلما وضع سيدنا عمر رضي الله عنه الدواوين
جعلها على أهل الدواوين, فإن قيل: "قضى عليه
الصلاة والسلام بالدية على العاقلة من النسب
إذ لم يكن هناك ديوان" فكيف يقبل قول سيدنا
عمر رضي الله عنه على مخالفته فعل رسول الله
صلى الله عليه وسلم؟ فالجواب لو كان سيدنا عمر
رضي الله عنه فعل ذلك وحده لكان يجب حمل فعله
على وجه لا يخالف فعل رسول الله صلى الله عليه
وسلم كيف وكان فعله بمحضر من الصحابة رضي الله
عنهم, ولا يظن من عموم الصحابة رضي الله عنهم
مخالفة فعله؟ عليه الصلاة والسلام فدل أنهم
فهموا أنه كان معلولا بالنصرة, وإذا صارت
النصرة في زمانهم الديوان نقلوا العقل إلى
الديوان فلا تتحقق المخالفة, وهذا لأن التحمل
من العاقلة للتناصر, وقبل وضع الديوان كان
التناصر بالقبيلة, وبعد الوضع صار التناصر
بالديوان, فصار عاقلة الرجل أهل ديوانه. ولا
تؤخذ من النساء, والصبيان, والمجانين,
والرقيق؛ لأنهم ليسوا من أهل النصرة, ولأن هذا
الضمان صلة, وتبرع بالإعانة, والصبيان,
والمجانين, والمماليك ليسوا من أهل التبرع,
وإن لم يكن له ديوان فعاقلته قبيلته من النسب؛
لأن استنصاره بهم. وإن كان القاتل معتقا أو
مولى الموالاة فعاقلته مولاه, وقبيلة مولاه
لقوله عليه الصلاة والسلام
"مولى القوم منهم" ثم عاقلة المولى الأعلى قبيلته إذا لم يكن من أهل الديوان, فكذا
عاقلة مولاه, ولأن استنصاره بمولاه وقبيلته
فكانوا عاقلته, هذا إذا كان للقاتل عاقلة,
فأما إذا لم يكن له عاقلة كاللقيط, والحربي أو
الذمي الذي أسلم فعاقلته بيت المال في ظاهر
الرواية, وروى محمد عن أبي حنيفة رضي الله عنه
أنه تجب الدية عليه من ماله لا على بيت المال.
وجه هذه الرواية أن الأصل هو الوجوب في مال
القاتل؛ لأن الجناية وجدت منه, وإنما الأخذ من
العاقلة بطريق التحمل, فإذا لم يكن له عاقلة
يرد الأمر فيه إلى حكم الأصل وجه ظاهر الرواية
أن الوجوب على العاقلة لمكان التناصر, فإذا لم
يكن له عاقلة كان استنصاره بعامة المسلمين,
وبيت المال مالهم, فكان ذلك عاقلته "وأما"
بيان مقدار ما تتحمله العاقلة من الدية فلا
يؤخذ من كل واحد منهم إلا ثلاثة دراهم أو
أربعة دراهم, ولا يزاد على ذلك؛ لأن الأخذ
منهم على وجه الصلة والتبرع تخفيفا على
القاتل, فلا يجوز التغليظ عليهم بالزيادة,
ويجوز أن ينقص عن هذا القدر إذا كان في
العاقلة كثرة, فإن قلت العاقلة حتى أصاب الرجل
أكثر من ذلك يضم إليهم أقرب القبائل إليهم من
النسب سواء كانوا من أهل الديوان أو لا, ولا
يعسر عليهم, ويدخل القاتل مع العاقلة ويكون
فيما يؤدي كأحدهم؛ لأن العاقلة تتحمل جناية
وجدت منه, وضمانا وجب عليه, فكان هو أولى
بالتحمل.
"وأما" بيان كيفية وجوب الدية فنقول: لا خلاف
في أن دية الخطأ تجب مؤجلة على العاقلة في
ثلاث سنين لإجماع الصحابة رضي الله عنهم على
ذلك, فإنه روي أن سيدنا عمر رضي الله عنه قضى
بذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, ولم
ينقل أنه خالفه أحد فيكون إجماعا. وتؤخذ من
ثلاث عطايا إن كان القاتل من أهل الديوان؛ لأن
لهم في كل سنة عطية, فإن تعجل العطايا الثلاث
في سنة واحدة يؤخذ الكل في سنة واحدة, وإن
تأخرت يتأخر حق الأخذ, وإن لم يكن من أهل
الديوان تؤخذ منه ومن قبيلته من النسب في ثلاث
سنين, ولا خلاف في أن الدية بالإقرار بالقتل
الخطأ تجب في ماله في ثلاث سنين؛ لأن الإقرار
بالقتل إخبار عن وجود القتل, وإنه يوجب حقا
مؤجلا تتحمله العاقلة, إلا أنه لا يصدق على
العاقلة فيجب مؤجلا في ماله, واختلف في شبه
العمد, والعمد الذي دخلته شبهة, وهو الأب إذا
قتل ابنه عمدا, قال أصحابنا رحمهم الله: إنها
تجب مؤجلة في ثلاث سنين إلا أن دية شبه العمد
تتحمله العاقلة, ودية العمد في مال الأب. وقال
الشافعي رحمه الله: دية الدم كدية العمد تجب
حالا وجه قوله أن سبب الوجوب وجد حالا فتجب
الدية حالا, إذ الحكم يثبت على وفق السبب هو
الأصل, إلا أن التأجيل في الخطأ ثبت معدولا به
عن الأصل لإجماع الصحابة رضي الله عنهم أو
يثبت معلولا بالتخفيف على القاتل حتى تحمل عنه
العاقلة. والعامد يستحق التغليظ؛ ولهذا وجب في
ماله لا على العاقلة. "ولنا" أن وجوب الدية لم
يعرف إلا بنص الكتاب العزيز, وهو قوله
ج / 7 ص -257-
تبارك
وتعالى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ
وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ}
والنص وإن ورد بلفظ الخطأ لكن غيره ملحق به,
إلا أنه مجمل في بيان القدر, والوصف فبين عليه
الصلاة والسلام قدر الدية بقوله عليه الصلاة
والسلام
"في النفس المؤمنة مائة من الإبل" وبيان الوصف وهو الأجل ثبت بإجماع الصحابة رضي الله عنهم بقضية
سيدنا عمر رضي الله عنه بمحضر منهم فصار الأجل
وصفا لكل دية وجبت بالنص, وقوله: دية الخطأ
وجبت بطريق التخفيف والعامد يستحق التغليظ,
قلنا: وقد غلظنا عليه من وجهين: أحدهما:
بإيجاب دية مغلظة, والثاني: بالإيجاب في ماله,
والجاني لا يستحق التغليظ من جميع الوجوه,
وكذلك كل جزء من الدية تتحمله العاقلة أو تجب
في مال القاتل فذلك الجزء تجب في ثلاث سنين,
كالعشرة إذا قتلوا رجلا خطأ أو شبه عمد حتى
وجبت عليهم دية واحدة, فعاقلة كل واحد منهم
تتحمل عشرها في ثلاث سنين. وكذلك العشرة إذا
قتلوا رجلا وأحدهم أبوه حتى وجبت عليهم دية
واحدة في مالهم يجب على كل واحد منهم عشرها في
ثلاث سنين؛ لأن الواجب على كل واحد منهم جزء
من دية مؤجلة في ثلاث سنين, فكان تأجيل الدية
تأجيلا لكل جزء من أجزائها إذ الجزء لا يخالف
الكل في وصفه, ولا خلاف في أن بدل الصلح عن دم
العمد يجب في ماله حالا؛ لأنه لم يجب بالقتل,
وإنما وجب بالعقد فلا يتأجل إلا بالشرط كثمن
المبيع ونحو ذلك. وكذلك العبد إذا قتل إنسانا
خطأ واختار المولى الفداء يجب الفداء حالا؛
لأن الفداء لم يجب بالقتل بدلا من القتيل,
وإنما وجب بدلا عن دفع العبد, والعبد لو دفع
يدفع حالا, فكذلك بدله, والله سبحانه وتعالى
أعلم هذا إذا كان القاتل حرا, والمقتول حرا.
فأما إذا كان القاتل حرا والمقتول عبدا فالعبد
المقتول لا يخلو إما أن كان عبد أجنبي "وإما"
أن كان عبدا لقاتل, فإن كان عبد أجنبي فيتعلق
بهذا القتل حكمان: أحدهما: وجوب القيمة,
والكلام في القيمة في مواضع: في بيان مقدار
الواجب منها, وفي بيان من تجب عليه, وفي بيان
من يتحمله, وفي بيان كيفية الوجوب. أما الأول:
فالعبد لا يخلو إما إن كان قليل القيمة.
"وإما" إن كان كثير القيمة, فإن كان قليل
القيمة بأن كان قيمته أقل من عشرة آلاف درهم
يجب قيمته بالغة ما بلغت بالإجماع, وإن كانت
قيمته عشرة آلاف أو أكثر اختلف فيه, قال أبو
حنيفة ومحمد رحمهما الله: يجب عشرة آلاف إلا
عشرة. وروي عن أبي يوسف في غير رواية الأصول
أنه يجب قيمته بالغة ما بلغت, وهو قول الشافعي
رحمه الله. والمسألة مختلفة بين الصحابة رضي
الله عنهم روي عن عبد الله بن مسعود رضي الله
عنه مثل مذهبنا. وروي عن سيدنا عثمان وسيدنا
علي رضي الله تعالى عنهما مثل مذهبه, والحاصل
أن العبد آدمي ومال؛ لوجود معنى الآدمية
والمالية فيه, وكل واحد منهما معتبر مضمون
بالمثل والقيمة حالة الانفراد, وبالقتل فوت
المعنيين جميعا, ولا وجه إلى إيجاب الضمان
بمقابلة كل واحدة منهما على الانفراد فلا بد
من إيجابه بمقابلة أحدهما وإهدار الآخر, فيقع
الكلام في الترجيح, فادعى الشافعي رحمه الله
الترجيح من وجهين: أحدهما: أن الواجب مال,
ومقابلة المال بالمال أولى من مقابلة المال
بالآدمي؛ لأن الأصل في ضمان العدوان الوارد
على حق العبد أن يكون مقيدا بالمثل, ولا
مماثلة بين المال والآدمي, فكان إيجابه
بمقابلة المال موافقا للأصل, فكان أولى.
والثاني: أن الضمان وجب حقا للعبد, وحقوق
العباد تجب بطريق الجبر. وفي إيجاب الضمان
بمقابلة المالية جبر حق المفوت عليه من كل
وجه. "ولنا" النص ودلالة الإجماع والمعقول,
أما النص فقوله تبارك وتعالى
{وَمَنْ
قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى
أَهْلِهِ} وهذا مؤمن قتل خطأ فتجب الدية, والدية ضمان الدم, وضمان الدم لا
يزاد على عشرة آلاف بالإجماع. "وأما" دلالة
الإجماع فهو أنا أجمعنا على أنه لو أقر على
نفسه بالقصاص يصح وإن كذبه المولى, لولا أن
الترجيح لمعنى الآدمية لما صح؛ لأنه يكون
إقراره إهدارا لمال المولى قصدا من غير رضاه,
وإنه لا يملك ذلك. "وأما" المعقول فمن وجهين:
أحدهما: أن الآدمية فيه أصل, والمالية عارض,
وتبع, والعارض لا يعارض والتبع لا يعارض
الأصل, والتبع لا يعارض الأصل المتبوع, ودليل
أصالة الآدمية من وجوه: أحدها: أنه كان خلق
خلقا آدميا ثم ثبت فيه وصف المالية بعارض
الرق, والثاني: أن قيام المالية فيه بالآدمية
وجودا وبقاء لا على القلب, والثالث: أن المال
خلق وقاية للنفس, والنفس ما خلقت وقاية للمال,
فكانت الآدمية فيه أصلا وجودا
ج / 7 ص -258-
وبقاء
وعرضا, والثاني: أن حرمة الآدمي فوق حرمة
المال؛ لأن حرمة المال لغيره, وحرمة الآدمي
لعينه, فكان اعتبار النفسية, وإهدار المالية
أولى من القلب, إلا أنه نقصت ديته عن دية الحر
لكون الكفر منقصا في الجملة, وإظهارا لشرف
الحرية, وتقدير النقصان بالعشرة ثبت توفيقا
قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينقص من دية الحر
عشرة دراهم فالظاهر أنه قال ذلك سماعا منه
عليه الصلاة والسلام؛ لأنه من باب المقادير,
أو لأن هذا أدنى مال له في خطر الشرع كما في
نصاب السرقة والمهر في النكاح قوله: "المال
ليس بمثل للآدمي" قلنا: نعم, لكن لشرف الآدمي
وجه المال لم يجعل مثلا له عند إمكان إيجاب ما
هو مثل له من كل وجه, وهو النفس, فأما عند
تعذر اعتباره من كل وجه فاعتبار المثل من وجه
أولى من الإهدار, وقوله: "الجبر في المال
أبلغ" قلنا: بلى, لكن فيه إهدار الآدمي,
ومقابلة الجابر بالآدمي الفائت أولى من
المقابلة بالمال الهالك, وإن كان الجبر ثمة
أكثر لكن فيه اعتبار جانب المولى فيكون لغيره,
وفيما قلنا الجبر أقل لكن فيه اعتبار جانب نفس
الآدمي, وهو العبد, وحرمة الآدمي لعينه, فكان
ما قلناه أولى. ولو كان المقتول أمة فإن كانت
قليلة القيمة بأن كانت قيمتها أقل من خمسة
آلاف فهي مضمونة بقدر قيمتها بالغة ما بلغت,
وإن كانت كثيرة القيمة بأن كانت قيمتها خمسة
آلاف أو أكثر يجب خمسة آلاف إلا عشرة عند أبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله, وعلى رواية أبي يوسف
رحمه الله له, فهو قول الشافعي رحمه الله:
تبلغ بالغة ما بلغت. والكلام في الأمة كالكلام
في العبد, وإنما ينقص منها عشرة كما نقصت من
دية العبد, وإن اختلفا في قدر البدل؛ لأن هذه
دية البدل؛ لأن هذه دية كاملة في الأمة فينقص
في العبد, بخلاف ما إذا قطع يد عبد تزيد نصف
قيمته على خمسة آلاف أنه تجب خمسة آلاف إلا
خمسة؛ لأن الواجب هناك ليس بدية كاملة, بل هو
بعض الدية؛ لأن اليد منه نصف, فيجب نصف ما يجب
في الكل, والواجب في الأنثى ليس بعض دية الذكر
بل هو دية كاملة في نفسها, لكنها دية الأنثى.
"وأما" بيان من يجب عليه ومن يتحملها فإنها
تجب على القاتل لوجود سبب الوجوب منه, وهو
القتل, وتتحملها العاقلة في قولهما, وعلى
رواية أبي يوسف, وهو قول الشافعي رحمه الله
تجب في مال القاتل, وهذا بناء على الأصل الذي
ذكرنا: أن عندهما ضمان العبد بمقابلة النفس,
وضمان النفس تتحمله العاقلة. وكدية الحر, وعند
الشافعي بمقابلة المالية, وضمان المال لا
تتحمله العاقلة بل يكون في مال المتلف كضمان
سائر الأموال. وروي عن أبي يوسف في كثير
القيمة أن يقدر عشرة آلاف تعقله العاقلة؛ لأن
ذلك القدر يجب بمقابلة النفسية, وما زاد عليها
لا تعقله؛ لأنه يجب بمقابلة المالية. "وأما"
كيفية وجوب القيمة على العاقلة عندنا, وقدر ما
يتحمل كل واحد منهم فما ذكرنا في دية الحر من
غير تفاوت, والله تعالى أعلم.
والثاني: وجوب الكفارة لعموم قوله تبارك
وتعالى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} من غير فصل بين الحر والعبد, والله تعالى الموفق. ولو كان المقتول
مدبر إنسان أو أم ولده أو مكاتبه فحكمه حكم
القن في جميع ما وصفنا, وإن كان عبد القاتل
فجناية المولى عليه هدر. وكذا لو كان مدبره أو
أم ولده لأن القيمة لو وجبت لوجبت له عليه.
وهذا ممتنع, وإن كان مكاتبه فجناية المولى
عليه لازمة, وعلى المولى قيمته في ثلاث سنين؛
لأن المكاتب فيما يرجع إلى كسبه وأرش جنايته
حر فكان كسبه, وأرشه له فالجناية عليه من
المولى والأجنبي سواء, ولا تعقلها العاقلة بل
تكون على ماله لقوله عليه الصلاة والسلام
"لا تعقل العاقلة عمدا ولا عبدا",
والمكاتب عندنا عبد ما بقي عليه درهم؛ ولأن
المكاتب على ملك مولاه, وإنما ضمن جنايته بعد
الكتابة. والعقد ثابت بينهما غير ثابت في حق
العاقلة, ولهذا لا تعقل العاقلة الاعتراف؛ لأن
إقرار المقر حجة في حقه لا في حق غيره. وكذلك
جناية المولى على رقيق المكاتب, وعلى ماله
لازمة لما ذكرنا أنه أحق بكسبه من المولى,
والمولى كالأجنبي فيه. وكذا إذا كان مأذونا
مديونا فعلى المولى قيمته لتعلق حق الغرماء
برقبته, وبالقتل أبطل محل حقهم فتجب عليه
قيمته, وتكون في ماله بالنص, وتكون حالة؛ لأنه
ضمان إتلاف المال. هذا إذا كان القاتل حرا
والمقتول عبدا, فأما إذا كان القاتل عبدا
والمقتول حرا فالحر المقتول لا يخلو من أن
يكون أجنبيا أو يكون ولي العبد, فإن كان
أجنبيا فالعبد القاتل لا يخلو من أن يكون قنا
أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا, فإن كان قلنا:
يدفع إذا ظهرت جنايته إلا أن
ج / 7 ص -259-
يختار
المولى الفداء فلا بد من بيان ما تظهر به هذه
الجناية, وبيان حكم هذه الجناية, وبيان صفة
الحكم, وبيان ما يصير به المولى مختارا
للفداء, وشرط صحة الاختيار, وبيان صفة الفداء
الواجب عند الاختيار. أما الأول: فهذه الجناية
تظهر بالبينة وإقرار المولى وعلم القاضي, ولا
تظهر بإقرار العبد محجورا كان أو مأذونا؛ لأن
العبد يملك بالإذن بالتجارة ما كان من مال
التجارة, والإقرار بالجناية ليس من التجارة,
وإذا لم يصح إقراره لا يؤخذ به لا في الحال
ولا بعد العتاق؛ لأن موجب إقراره لا يلزمه,
وإنما يلزم مولاه, فكان هذا إقرارا على المولى
حتى لو صدقه المولى صح إقراره, وكذلك لو أقر
بعد العتاق أنه كان جنى في حال الرق لا شيء
عليه لما ذكرنا أن هذا إقرار له على المولى,
ألا يرى لو صدقه المولى وأقر أنه أعتقه, وهو
يعلم بالجناية فعلى المولى قيمته؟ والله
سبحانه وتعالى أعلم. وأما حكم هذه الجناية
فوجب دفع العبد إلى ولي الجناية إلا أن يختار
المولى الفداء عندنا, وقال الشافعي رحمه الله
حكمها تعلق الأرش برقبة العبد يباع فيه
ويستوفى الأرش من ثمنه, فإن فضل منه شيء
فالفضل للمولى, وإن لم يف ثمنه بالأرش يتبع
بما بقي بعد العتاق, وللمولى أن يستخلصه,
ويؤدي الأرش من مال آخر. "وجه" قوله أن الأصل
في ضمان الجناية أنه يجب على الجاني, والواجب
على الإنسان إما أن يكون في ماله أو تتحمل
العاقلة عنه, والعبد لا مال له, ولا عاقلة
فتعذر الإيجاب عليه, فتجب في رقبته, يباع فيه
كدين الاستهلاك في الأموال. "ولنا" إجماع
الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي عن سيدنا علي
وعن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما مثل
مذهبنا بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم, ولم
ينقل الإنكار عليهما من أحد منهم فيكون إجماعا
منهم, والقياس يترك بمعارضة الإجماع, ودين
الاستهلاك في باب الأموال يجب على العبد على
ما عرف. وأما صفة هذا الحكم فصيرورة العبد
واجب الدفع على سبيل التعيين, كثرت قيمة العبد
أو قلت, وعند اختيار المولى الفداء ينتقل الحق
من الدفع إلى الفداء سواء كان المجني عليه
واحدا أو أكثر, غير أنه إن كان واحدا دفع
إليه, ويصير كله مملوكا له, وإن كانوا جماعة
يدفع إليهم, وكان مقسوما بينهم على قدر أروش
جنايتهم, وسواء كان على العبد دين وقت الجناية
أو لم يكن, وبيان هذه الجملة في مسائل. إذا
مات العبد الجاني قبل اختيار الفداء بطل حق
المجني عليه أصلا؛ لأن الواجب دفع العبد على
طريق التعيين, وذلك لا يتصور بعد هلاك العبد
فيسقط الحق أصلا ورأسا, وهذا يدل على أن قول
من يقول: "حكم هذه الجناية تخير المولى بين
الدفع, والفداء" ليس بسديد؛ لأنه لو كان كذلك
لتعين الفداء عند هلاك العبد, ولم يبطل حق
المجني عليه أصلا على ما هو الأصل في المخير
بين شيئين إذا هلك أحدهما أنه يتعين عليه
الآخر, ولو مات بعد اختيار الفداء لا يبرأ
بموت العبد؛ لأنه لما اختار الفداء فقد انتقل
الحق من رقبته إلى ذمة المولى فلا تحتمل
السقوط بهلاك العبد بعد ذلك. ولو كانت قيمة
العبد أقل من الدية فليس على المولى إلا
الدفع؛ لأن وجوب الدفع حكمه لهذه الجناية ثبت
بإجماع الصحابة رضي الله عنهم, ولم يفصلوا بين
قليل القيمة وكثيرها فلو جنى العبد على جماعة,
فإن شاء المولى دفعه إليهم؛ لأن تعلق حق
المجني عليه للأول لا يمنع حق الثاني والثالث؛
لأن ملك المولى لما لم يمنع التعلق فالحق
أولى؛ لأنه دونه, وإذا دفعه إليهم كان مقسوما
بينهم بالحصص قدر أروش جنايتهم, فإن حصة كل
واحد منهم من العبد عوض عن الفائت فيتقدر بقدر
الفائت, وإن شاء أمسك العبد, وغرم الجنايات
بكمال أروشها, ولو أراد المولى أن يدفع من
العبد إلى بعضهم مقدار ما يتعلق به حقه ويفدي
بعض الجنايات له ذلك, بخلاف ما إذا كان القتيل
واحدا وله وليان فأراد المولى دفع العبد إلى
أحدهما, والفداء إلى الآخر أنه ليس له ذلك؛
لأن الجناية هناك واحدة, ولها حكم واحد, وهو
وجوب الدفع على التعيين, وعند اختيار الفداء
وجوب الفداء على التعيين, ولا يجوز أن يجمع في
جناية واحدة بين حكمين مختلفين بخلاف ما إذا
جنى على جماعة؛ لأن الجناية هناك متعددة, وله
خيار الدفع والفداء في كل واحد منهما, والدفع
في البعض والفداء في البعض لا يكون جمعا بين
حكمين مختلفين في جناية واحدة فهو الفرق, ولو
قتل إنسانا, وفقأ عين آخر, فإن اختار الدفع
دفعه إليهما أثلاثا لتعلق حقهما بالعبد
أثلاثا, وإن اختار الفداء فدى عن كل جناية
بأرشها, وكذلك إذا شج إنسانا شجاجا مختلفة أنه
إن دفع العبد إليهم كان مقسوما بينهم على قدر
جناياتهم, وإن اختار الفداء فدى عن الكل
ج / 7 ص -260-
بأروشها. ولو قتل العبد رجلا, وعلى العبد دين
يخير المولى بين الدفع, والفداء, ولا يبطل
الدين بحدوث الجناية؛ لأن موجب الجناية وجوب
الدفع, وتعلق الدين برقبة العبد لا يمنع من
الدفع إلا أنه يدفعه مشغولا بالدين, فإن فدى
بالدية يباع العبد في الدين؛ لأنه لما فدى فقد
طهرت رقبة العبد عن الجناية فيباع, إلا أن
يستخلصه المولى لنفسه, ويقضي دين الغرماء, وإن
اختار الدفع إلى أولياء الجناية فدفعه إليهم
يباع لأجل الغرماء في دينهم, وإنما بدئ بالدفع
لا بالدين؛ لأن فيه رعاية الحقين: حق أولياء
الجناية بالدفع إليهم, وحق أصحاب الدين بالبيع
لهم. ولو بدئ بالدين فبيع به لبطل حق أولياء
الجناية في الدفع؛ لأنه بالبيع يصير ملكا
للمشتري, لذلك بدئ بالدفع, وفائدة الدفع إلى
أولياء الجناية ثم البيع هي أن يثبت لهم حق
استخلاص العبد بالفداء؛ لأن للناس أغراضا في
الأعيان, ثم إذا بيع فإن فضل شيء من ثمن العبد
كان الفضل لأولياء الجناية؛ لأن العبد بيع على
ملكهم لصيرورته ملكا لهم بالدفع إليهم, وإن لم
يف ثمنه بالدين يتأخر ما بقي إلى ما بعد
العتاق, كما لو بيع على ملك المولى الأول, ولا
يضمن المولى لأصحاب الدين بدفع العبد إلى
أولياء الجناية شيئا استحسانا. والقياس أن
يضمن. "وجه" القياس أن الدفع إليهم تمليك منهم
بعد تعلق الدين برقبته فصار كأنه باعه منهم,
ولو باعه منهم لضمن, كذا هذا. "وجه" الاستحسان
أن الدفع واجب عليه لما فيه من رعاية الحقين
لما بينا, ومن فعل ما وجب عليه لا يضمن, ولو
حضر الغرماء أولا فباع المولى العبد, فإن فعل
ذلك بغير أمر القاضي ينظر إن كان عالما
بالجناية صار مختارا للفداء, ولزمه الأرش, وإن
كان غير عالم بالجناية فعليه الأقل من قيمة
العبد ومن الأرش, وهو الدية, وإن كان رفع إلى
القاضي, فإن كان القاضي عالما بالجناية فإنه
لا يبيع العبد بالدين؛ لأن فيه إبطال حق
أولياء الجناية فلا يملك ذلك, وإن لم يكن
عالما بالجناية فباعه بالدين ببينة قامت عنده
أو بعلمه ثم حضر أولياء الجناية ولا فضل في
الثمن بطلت الجناية, وسقط حق أولياء الجناية؛
لأنه خرج عن ملك المولى بغير رضاه, فصار كأنه
مات, وهذا لأنه لا سبيل إلى تضمين القاضي؛
لأنه فيما يصنعه أمين فلا تلحقه العهدة, ولا
سبيل إلى فسخ البيع؛ لأنه لو فسخ البيع ودفع
بالجناية لوقعت الحاجة إلى البيع ثانيا, فتعذر
القول بالفسخ, فصار كأنه مات, ولو مات لبطل حق
أولياء الجناية أصلا, كذا هذا, والله سبحانه
وتعالى أعلم, ولو قتل العبد الجاني قبل الدفع,
فإن كان القاتل حرا يأخذ المولى قيمته,
ويدفعها إلى ولي الجناية إن كان واحدا, وإن
كانوا جماعة يدفعها إليهم على قدر حقوقهم؛ لأن
القيمة بدل العبد فتقوم مقامه إلا أنه لا خيار
للمولى بين القيمة والفداء حتى لو تصرف في تلك
القيمة لا يصير مختارا للفداء, ولو تصرف في
العبد يصير مختارا للفداء على ما نذكر, وإنما
كان كذلك؛ لأن القيمة دراهم أو دنانير, فإن
كانت مثل الأرش فلا فائدة في التخيير. وكذلك
إن كانت أقل من الأرش أو أكثر منه؛ لأنه يختار
الأقل لا محالة بخلاف العبد فإنه وإن كان قليل
القيمة فللناس رغائب في الأعيان, وكذلك قتله
عبد أجنبي فخير مولاه بين الدفع والفداء, وفدى
بقيمة العبد المقتول أن المولى يأخذ القيمة
ويدفعها إلى ولي الجناية لما قلنا, ولو دفع
القاتل إلى مولى العبد المقتول يخير مولى
العبد المقتول بين الدفع والفداء, حتى لو تصرف
في العبد المدفوع بالبيع ونحوه يصير مختارا
للفداء؛ لأن العبد القاتل قام مقام المقتول
لحما ودما, فكان الأول قائما, وإن قتله عبد
آخر لمولاه يخير المولى في شيئين في العبد
القاتل: بين الدفع والفداء؛ لأن تعلق حق ولي
الجناية بالعبد جعل المولى كالأجنبي, فصار كأن
عبد أجنبي قتل العبد الجاني, وهناك يخير بين
الدفع والفداء بقيمة المقتول, كذا ههنا. وكذلك
لو قتل عبد رجلا خطأ, وقتلت أمة لمولاه هذا
العبد يخير المولى بين دفعها وفدائها بقيمة
العبد لما قلنا, ولو كان العبد قتل رجلا خطأ,
وقتلت أمة لمولاه رجلا آخر خطأ ثم إن العبد
قتل الأمة خير المولى بين الدفع والفداء, فإن
اختار الفداء فدى بالدية وقيمة الأمة, وإن
اختار الدفع ضرب فيه أولياء قتيل العبد
بالدية, وأولياء قتيل الأمة بقيمة الأمة؛ لأن
الجناية عليها كالجناية على أمة أجنبي قتلت
رجلا خطأ, ولو كانت قيمة الأمة ألفا كان العبد
مقسوما بينهم على أحد عشر سهما: سهم لأولياء
قتيل الأمة, وعشرة أسهم لأولياء قتيل العبد,
فإن قطع عبد لأجنبي يد العبد الجاني أو فقأ
عينه أو جرحه جراحة فخير مولى العبد القاطع أو
الفاقئ أو الجارح بين الدفع والفداء, فإن دفع
عبده أو فداه بالأرش فمولى العبد المقطوع يخير
بين الدفع, والفداء, فإن
ج / 7 ص -261-
شاء
دفع عبده المقطوع مع العبد القاطع أو مع أرش
يد عبده المقطوع, وإن شاء فدى عن الجناية
بالأرش؛ لأن العبد المقطوع كان واجب الدفع
بجميع أجزائه, وأرش يده بدل جزئه, وكذا العبد
المدفوع قائم مقام يده, فكان واجب الدفع, إلا
أن يختار الفداء فينقل الحق من العبد إلى
الأرش, ولو كسب العبد الجاني كسبا أو كان
الجاني أمة فولدت بعد الجناية فاختار المولى
الدفع لم يدفع الكسب ولا الولد, بخلاف الأرش
أنه يدفع, والفرق أن الأرش بدل جزء كان واجب
الدفع, وحكم البدل حكم المبدل بخلاف الكسب
والولد, ولو قطعت يد العبد فأخذ المولى الأرش
ثم اختلف المولى وولي الجناية فادعى المولى أن
القطع كان قبل جنايته. وأن الأرش سالم له,
وادعى ولي الجناية أنه كان بعدها, وأنه مستحق
الدفع مع العبد, فالقول قول المولى؛ لأن الأرش
ملك المولى كالعبد؛ لأنه بدل ملكه, فولي
الجناية يدعي عليه وجوب تمليك مال هو ملكه
منه, وهو ينكر, فكان القول قوله مع يمينه, ولو
قطعت يد عبد أو فقئت عينه, وأخذ المولى الأرش
ثم جنى جناية, فإن شاء المولى اختار الفداء,
وإن شاء دفع العبد كذلك ناقصا, وسلم له ما كان
أخذ من الأرش؛ لأن وجوب الدفع بسبب الجناية,
وهو كان عند الجناية ناقصا بخلاف ما إذا قطعت
يده بعد الجناية أنه يدفع مع أرش اليد؛ لأن
العبد وقت الجناية عليه كان واجب الدفع بجميع
أجزائه, والأرش بدل الجزء فيجب دفعه مع العبد.
ولو قتل قتيلا خطأ ثم قطعت يده ثم قتل قتيلا
آخر خطأ فأرش يده يسلم لولي الجناية الأولى؛
لأن حقه كان متعلقا بجميع أجزائه وقت الجناية,
والأرش بدل الجزء, فيقوم مقامه فيسلم له, فأما
حق الثاني فلم يتعلق بالجزء لانعدامه وقت
الجناية, ثم يدفع العبد فيكون بين ولي
الجنايتين على تسعة, وثمانين جزءا؛ لأن موضوع
المسألة فيما إذا كانت قيمة العبد ألف درهم
فنقول: حق ولي كل جناية في عشرة آلاف, وقد
استوفى ولي الجناية الأولى من حقه خمسمائة
فيجعل كل خمسمائة سهما فيكون كل العبد أربعين
سهما, حق كل واحد منهما في عشرين, وقد أخذ ولي
الجناية الأولى من حقه خمسمائة, أو بقي حقه في
تسعة عشر سهما ولم يأخذ ولي الجناية الثانية
شيئا, فبقي حقه في عشرين جزءا من العبد. وإن
اختار الفداء فدى عن كل واحد من الجنايتين
بعشرة آلاف؛ لأن ذلك أرشها. ولو شج إنسانا
موضحة, وقيمته ألف درهم ثم قتل آخر, وقيمته
ألفان, فإن اختار الفداء فدى عن كل واحدة من
الجنايتين بأرشها, وإن اختار الدفع دفعه
مقسوما بينهما على أحد وعشرين سهما: سهم لصاحب
الموضحة, وعشرون لولي القتيل؛ لما ذكرنا أن
قسمة العبد بينهما على قدر تعلق حق كل واحد
منهما به, وصاحب الموضحة حقه في خمسمائة. وحق
ولي القتيل في عشرة آلاف فيجعل كل خمسمائة
سهما, فتكون القسمة على أحد وعشرين, وما حدث
من زيادة القيمة للعبد, والزيادة على الشركة
أيضا؛ لأنها صفة الأصل, وإذا ثبتت الشركة في
الأصل ثبتت في الصفة, وكذلك لو قتل إنسانا
خطأ, وقيمته وقت القتل ألفان ثم عمي بعد القتل
قبل الشجة ثم شج إنسانا موضحة كانت القسمة
بينهما على أحد وعشرين. وما حدث فيه من
النقصان فهو على الشركة أيضا لما قلنا, والله
سبحانه وتعالى أعلم. ولو جنى جناية ففداه
المولى ثم جنى جناية أخرى خير المولى بين
الدفع, والفداء؛ لأنه لما فدى فقد طهر العبد
عن الجناية, وصار كأنه لم يجن, فإذا جنى بعد
ذلك فهذه جناية مبتدأة, فيبتدأ بحكمها, وهو
الدفع أو الفداء, بخلاف ما إذا جنى ثم جنى
جناية أخرى قبل اختيار الفداء أنه يدفع إليهما
جميعا أو يفدي؛ لأنه لما لم يفد للأولى حتى
جنى ثانيا فحق كل واحد منهما تعلق بالعبد,
فيدفع إليهما أو يفدي, ولو قتل العبد رجلا وله
وليان فدفعه المولى إلى أحدهما فقتل عبده رجلا
آخر ثم حضروا, يقال للمدفوع إليه ادفع نصف
العبد إلى ولي القتيل الثاني أو نصف الدية.
وأما النصف الآخر فيؤمر بالرد على المولى بين
الدفع إلى ولي الجناية الثانية, وولي الجناية
الأولى الذي لم يدفع إليه. "أما" وجوب دفع نصف
العبد على المدفوع إليه إلى ولي القتيل الثاني
أو الفداء فلأنه ملك نصف العبد بالدفع, فيخير
في جنايته بين الدفع والفداء. "وأما" وجوب رد
نصف العبد إلى المولى فلأنه أخذه بغير حق
فعليه رده لقوله عليه الصلاة والسلام
"على اليد ما أخذت حتى ترده"
ولا يخير المولى في النصف بين الدفع إلى ولي
الجنايتين وبين الفداء؛ لأن وقت الجناية
الأولى كان كل العبد على ملكه, ووقت وجود
الثانية كان نصفه على ملكه فيوجب الدفع أو
الفداء
ج / 7 ص -262-
فإن
اختار الفداء فدى لكل واحد منهما بنصف الدية,
وإن دفع دفع نصف العبد إليهما نصفين؛ لأن
الدفع على قدر تعلق الحق, وحق كل واحد منهما
تعلق بنصف, فيكون نصف العبد بينهما نصفين, وقد
كان, وصل النصف إلى ولي الجناية الثانية من
جهة المدفوع إليه, ووصل إليه بالدفع من المولى
الربع فسلم له ثلاثة أرباع العبد, وسلم لولي
الجناية الأولى الذي لم يدفع إليه العبد
الربع, فصار العبد بينهما أرباعا: ثلاثة
أرباعه لولي الجناية الثانية, وربعه لولي
الجناية الأولى, وبقي إلى تمام حقه الربع, ثم
لا يخلو إما أن كان المولى دفع كل العبد بقضاء
القاضي أو بغير قضاء القاضي, فإن كان الدفع
بقضاء لا يضمن المولى؛ لأن الدفع إذا كان
بقضاء كان هو مضطرا في الدفع فلا يضمن, ولا
سبيل إلى تضمين القاضي؛ لأن القاضي فيما يصنع
أمين فلا تلحقه العهدة, ويضمن القابض؛ لأنه
قبض نصيب صاحبه بغير حق, والقبض بغير حق سبب
لوجوب الضمان كقبض الغصب, ولا يخرج عن الضمان
بالرد إلى المولى؛ لأنه لم يرده على الوجه
الذي قبض العبد فارغا, ورده مشغولا, وإن كان
الدفع بغير قضاء القاضي فولي الجناية الذي لم
يدفع إليه العبد بالخيار: إن شاء ضمن الولي
ربع قيمة العبد, وإن شاء ضمن القابض؛ ليسلم له
نصف العبد, ربعه لحم ودم, وربعه دراهم
ودنانير؛ لأنه وجد سبب وجوب الضمان في حق كل
واحد منهما: الدفع من المولى, والقبض من
القابض, فإن اختار تضمين المولى فالمولى يرجع
على القابض, وإن اختار تضمين القابض لا يرجع
على المولى؛ لأن حاصل الضمان عليه.
ولو قتل العبد قتيلين خطأ فدفعه المولى إلى
أحد وليي القتيلين فقتل عنده قتيلا آخر
واجتمعوا. فإن القابض يدفع نصف العبد بالجناية
أو يفدي نصف الجناية لما ذكرنا في الفصل
الأول, ثم يقال للمولى: ادفع النصف الباقي إلى
ولي الجناية الثالثة, أو افد بنصف الدية خمسة
آلاف؛ لأنه قد وصل إليه نصف العبد, وبقي حقه
في النصف, ويفدي لولي الجناية الثانية بكمال
الدية عشرة آلاف؛ لأنه لم يصل إليه شيء من
حقه, وله أن يدفع نصف العبد إليهما. فإن دفع
إليهما كان مقسوما بينهما على قدر حقيهما,
فيضرب ولي الجناية الثانية فيه بعشرة آلاف,
وولي الجناية الثالثة بخمسة آلاف, فيصير نصف
العبد بينهما أثلاثا: ثلثاه لولي الجناية
الثانية, وثلثه لولي الجناية الثالثة, وبقي من
حق الثاني السدس؛ لأن حقه في نصف العبد, وقد
حصل له ثلثا النصف, وهو ثلث كل العبد, فبقي
إلى تمام حقه السدس, فإن كان الدفع بقضاء
القاضي ضمن القابض المولى, وإن كان بغير قضاء.
فإن شاء ضمن المولى, وإن شاء ضمن القابض كما
في المسألة المتقدمة. ولو قتل العبد إنسانا,
وفقأ عين آخر فدفع المولى العبد إلى المفقوءة
عينه فقتل في يده قتيلا يقال للمفقوءة عينه
ادفع ثلث العبد إلى ولي القتيل الثاني أو افده
بالثلث, ورد الثلثين على المولى؛ لأنه أخذ
الثلث بحق ملكه, وأخذ الثلثين بغير حق, فيؤمر
بالرد إلى المولى, ثم يخير المولى بين الدفع
والفداء, فإن اختار الفداء فدى للأول بتمام
الدية عشرة آلاف, وللثاني بثلثي الدية, وذلك
ستمائة وستة وستون وثلثان, وإن اختار الدفع
دفع إليهما مقسوما بينهما على قدر حقهما
فيتضاربان, يضرب الأول بتمام الدية عشرة آلاف,
والثاني بثلثي الدية ستة آلاف وستة وستين
وثلثين, فاجعل كل ألف سهما وستمائة, فيصير
ثلثا الدية بينهما على ستة عشر سهما وثلثين,
فيكون كل العبد على خمسة وعشرين سهما, وقد أخذ
ولي القتيل الثاني منه ثلثه, وهو ثمانية وثلث,
وبقي ثلثاه فيكون بينهما لولي القتيل الأول
عشرة, ولولي القتيل الثاني ستة, وثلثان, ثم
ولي القتيل الأول يرجع على القابض وهو
المفقوءة عينه بستة أجزاء من ستة عشر جزءا,
وثلثي جزء من ثلثي قيمته؛ لأن هذا القدر كان
حقه, وقد فات عليه بسبب كان في يد القابض,
فيجعل كأنه هلك عنده فيضمنه لولي القتيل
الأول, فإن كان الدفع بغير قضاء القاضي له أن
يأخذ أيهما شاء, كما في الفصل الأول, وطريقة
أخرى في الحساب أنه إذا دفع ثلثي العبد
إليهما, وضرب أحدهما بالدية, والآخر بثلثي
الدية يجعل كل ثلث سهما فيصير كل الدية ثلاثة
أسهم, وثلثا الدية سهمين, فيصير ثلثا العبد
على خمسة أسهم للأول ثلاثة وللآخر سهمان,
ويصير الثلث الآخر سهمين ونصف, فيصير جميع
العبد على سبعة ونصف, فوقع فيه كسر فيضعف
فيصير خمسة عشر, فالثلث منه خمسة, وقد دفع إلى
الآخر, وثلثا العبد عشرة فيقسم بينهما فيضرب
الأول بثلاثة أخماسه, وهو ستة أسهم, والآخر
بأربعة أسهم, ثم
ج / 7 ص -263-
يرجع
الأول على القابض بخمس ثلثي قيمة العبد, والله
سبحانه وتعالى أعلم. ولو قتلت أمة رجلا ثم
ولدت بنتا فقتلت البنت رجلا ثم إن البنت قتلت
أمها فالمولى يخير بين دفع البنت إلى وليي
الجنايتين, وبين الفداء, فإن اختار الفداء
فدى, لأولياء قتيل البنت بالدية, ولأولياء
قتيل الأم بقيمة الأم لما ذكرنا فيما تقدم
تعلق حق المجني عليه وهو حق الدفع ألحق المولى
بالأجنبي, فتصير كأنها جنت على جارية أخرى
لأجنبي, وإن اختار الدفع ضرب أولياء قتيل
البنت بالدية, وأولياء قتيل الأم بقيمة العبد
فيقسم العبد بينهم على ذلك, حتى لو كانت قيمة
الأم ألف درهم كانت القسمة على إحدى عشر سهما,
كل ألف درهم سهم, سهم من ذلك لأولياء قتيل
الأم, وعشرة أسهم لأولياء قتيل البنت, ولو
كانت البنت فقأت عين الأم ولم تقتلها فالمولى
يخير بين الدفع والفداء لا يخلو "إما" أن
يختار دفعهما جميعا. "وإما" أن يختار فداءهما
جميعا. "وإما" أن يختار فداء البنت ودفع الأم.
"وإما" أن يختار فداء الأم ودفع البنت, فإن
اختار دفعهما جميعا يدفع الأم إلى أولياء قتيل
الأم, وهذا ظاهر, ويدفع البنت إلى أولياء قتيل
البنت وإلى أولياء قتيل الأم. وكانت مقسومة
بينهم على قدر حقوقهم فيتضاربون فيها, يضرب
أولياء قتيل البنت فيها بالدية؛ لأن حقهم تعلق
بكل البنت, وأولياء قتيل الأم بنصف قيمة الأم؛
لأنها فقأت إحدى عينيها, والعين من الآدمي
نصفه, فإن اختار فداءهما جميعا فدى الكل فريق
من أولياء الجنايتين بتمام الدية؛ لأن ذلك أرش
كل واحد من الجنايتين, وسقطت جناية البنت على
الأم؛ لأنهما جميعا ملك المولى, وقد طهرتا عن
الجناية بالفداء, وخلص ملك المولى فيهما,
فبقيت جناية البنت عليهما جناية ملك المولى
على ملكه, فتكون هدرا, وإن اختار دفع الأم
وفداء البنت دفع الأم إلى أولياء قتيل الأم,
ثم يفدي البنت, يفدي لأولياء قتيل البنت
بالدية, ولأولياء قتيل الأم بنصف قيمة الأم
لما بينا وإن اختار دفع البنت وفداء الأم يدفع
البنت إلى أولياء قتيل البنت, ويفدي لأولياء
قتيل الأم بكمال الدية, وبطلت جناية البنت على
الأم؛ لأن الأم طهرت بالفداء, وخلص ملك المولى
فيها فصار جناية البنت على أمها جناية ملك
المولى على ملكه, فتكون هدرا, ولو أن الأم بعد
ذلك فقأت عين البنت قبل أن تدفع واحدة منهما
فإن المولى يخير فيهما جميعا فيبدأ بالبنت؛
لأنها هي التي بدأت بالجناية, فيدفع إلى
أولياء الجنايتين, فيتضاربون فيها, فيضرب فيها
أولياء قتيل البنت بالدية, وأولياء قتيل الأم
بنصف قيمة الأم لما بينا في المسألة الأولى.
ثم يدفع الأم إليهم فيتضاربون فيها, فيضرب
فيها أولياء قتيل الأم بالدية إلا ما وصل
إليهم من أرش البنت, ويضرب فيها أولياء قتيل
البنت بنصف قيمة البنت؛ لأن كل واحدة منهما
جنت جنايتين فتدفع كل واحدة بجنايتها طعن في
هذا الجواب, وقيل ينبغي إذا دفع البنت في
الابتداء أن يضرب فيها أولياء قتيل الأم بنصف
قيمة الأم, وأولياء قتيل البنت بالدية إلا ما
يصل إليهم في المستأنف؛ لأنه يصل إليهم بعض
الأم, فينبغي أن لا يضربوا بتمام الدية,
والصحيح ما ذكر في الكتاب؛ لأن البنت حين دفعت
كان حق أولياء قتيل البنت في تمام الدية, ولم
يكن وصل إليهم شيء فوجب أن يضربوا بجميع ذلك,
والزيادة التي تظهر لهم في المستأنف لا عبرة
بها؛ لأن القسمة قد صحت وقت الدفع فلا تتغير
بعد ذلك, كما قالوا في رجل مات وعليه لرجل ألف
ولآخر ألفان, وترك ألفا فاقتسماها أثلاثا ثم
إن صاحب الألفين أبرأ الميت عن ألف: إن القسمة
الأولى لا تنتقض, كذا هذا, ولو جنت الأمة
جناية ثم, ولدت ولدا فقطع ولدها يدها يدفع
الولد مع الأم لما ذكرنا أن الولد في حكم
الجناية على الأم بمنزلة الأجنبي فصار كأن عبد
أجنبي قطع يدها, ودفع بالجناية, وهناك يدفع
العبد مع الجارية لكونه قائما مقام يد
الجارية, كذا هذا, والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وأما" بيان ما يصير به المولى مختارا للفداء,
وبيان صحة الاختيار, فنقول: ما يصير به المولى
مختارا للفداء نوعان: نص ودلالة. "أما" النص
فهو الصريح بلفظ الاختيار, وما يجري مجراه,
نحو أن يقول: اخترت الفداء, أو آثرته, أو رضيت
به, ونحو ذلك سواء كان المولى موسرا أو معسرا
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه فيسار المولى
ليس بشرط لصحة الاختيار عنده, حتى لو اختار
الفداء ثم تبين أنه فقير معسر صح اختياره,
وصارت الدية دينا عليه "وعندهما" يسار المولى
شرط صحة اختياره الفداء, ولا يصح اختياره إذا
كان معسرا إلا برضا الأولياء, ويقال له إما أن
تدفع أو تفدي حالا, كذا ذكر الاختلاف
ج / 7 ص -264-
في
ظاهر الرواية. وذكر الطحاوي قول محمد مع قول
أبي حنيفة في جواز الاختيار. وقال: إلا أن عند
محمد الدية تكون في عين العبد لولي الجناية
يبيعه فيها المولى لولي الجناية. وهكذا روي عن
أبي يوسف. "وجه" قولهما أن الحكم الأصلي لهذه
الجناية هو لزوم الدفع, وعند الاختيار ينتقل
إلى الذمة فيتقيد الاختيار بشرط السلامة, ولا
سلامة مع الإعسار فلا ينتقل إليها فيبقى العبد
واجب الدفع, ولأبي حنيفة رحمه الله أن العزيمة
ما قالا, وهو وجوب الدفع لكن الشرع رخص له
الفداء عند الاختيار, والإعسار لا يمنع صحة
الاختيار؛ لأنه لا يقدح في الأهلية والولاية,
وقد وجد الاختيار مطلقا عن شرط السلامة فلا
يجوز تقييد المطلق إلا بدليل. "وأما" الدلالة
فهي أن يتصرف المولى في العبد تصرفا يفوت
الدفع أو يدل على إمساك العبد مع العلم
بالجناية, فكل تصرف يفوت الدفع أو يدل على
إمساك العبد مع العلم بالجناية يكون اختيارا
للفداء؛ لأن حق المجني عليه متعلق بالعبد, وهو
حق الدفع, وفي تفويت الدفع تفويت حقه, والظاهر
أن المولى لا يرضى بتفويت حقه مع العلم بذلك
إلا بما يقوم مقامه, وهو الفداء فكان إقدامه
عليه اختيارا للفداء, وعلى هذا الأصل يخرج
المسائل: إذا باع العبد بيعا باتا, وهو عالم
بالجناية صار مختارا؛ لأنه تصرف مزيل للملك
فيفوت الدفع, وكذا إذا باع بشرط خيار المشتري,
أما على أصلهما فلا يشكل؛ لأن المبيع دخل في
ملك المشتري. "وأما" على أصل أبي حنيفة فلأن
خيار المشتري إن كان يمنع دخول المبيع في ملكه
فلا يمنع زواله عن ملك البائع, وهذا يكفي
دلالة الاختيار؛ لأنه يفوت الدفع, ولو باع على
أنه بالخيار فإن مضت مدة الخيار قبل مضي المدة
كان مختارا؛ لأن البيع انبرم قبل الدفع, ولو
نقض البيع لم يكن مختارا؛ لأن الملك لم يزل
فلم يفت الدفع, ولو عرض العبد على البيع لم
يكن ذلك اختيارا عند أصحابنا الثلاثة رحمهم
الله. وقال زفر رحمه الله يكون اختيارا "وجه"
قوله أن العرض على البيع دليل استيفاء الملك.
ألا ترى أن المشتري بشرط الخيار إذا عرض
المشترى على البيع بطل اختياره فكان دليل
إمساك العبد لنفسه وذلك دليل اختيار الفداء
لما بينا. "ولنا" أن العرض على البيع لا يوجب
زوال الملك فلا يفوت الدفع, وليس دليل إمساك
العبد أيضا بل هو دليل الإخراج من الملك فلا
يصلح دليل اختيار الفداء, ولو باعه بيعا فاسدا
لم يكن مختارا حتى يسلمه إلى المشتري؛ لأن
الملك لا يزول قبل التسليم فلا يفوت الدفع,
ولو وهبه من إنسان, وسلمه إليه صار مختارا؛
لأن الهبة والتسليم يزيلان الملك فيفوت الدفع,
ولو كانت الجناية فيما دون النفس فوهبه المولى
من المجني عليه لا يصير مختارا, ولا شيء على
المولى, ولو باعه من المجني عليه كان مختارا؛
لأن التسليم بالهبة في معنى الدفع؛ لأن كل
واحد منهما تمليك بغير عوض, فوقعت الهبة موقع
الدفع, بخلاف البيع؛ لأنه تمليك بعوض, والدفع
تمليك بغير عوض فلا يقوم مقامه, فكان الإقدام
على البيع منه اختيارا للفداء, وكذلك لو تصدق
به على إنسان أو على المجني عليه فهو والهبة
سواء؛ لأن كل واحد منهما تمليك بغير عوض, ولو
أعتقه أو دبره أو كانت أمة فاستولدها, وهو
عالم بالجناية صار مختارا؛ لأن هذه التصرفات
تفوت الدفع إذ الدفع تمليك, وإنها تمنع من
التمليك, فكانت اختيارا للفداء, ولو كانت
جناية العبد فيما دون النفس فأمر المولى
المجني عليه بإعتاقه وهو عالم بالجناية صار
المولى مختارا للفداء؛ لأن إعتاقه بأمره مضاف
إليه فكان دليل اختيار الفداء, كما لو أعتق
بنفسه, ولو قال لعبده: إن قتلت فلانا فأنت حر
فقتله صار مختارا للفداء عند أصحابنا الثلاثة
رحمهم الله, وعند زفر رحمه الله لا يكون
مختارا. "وجه" قوله أنه إنما صار معتقا بالقول
السابق, وهو قوله أنت حر, ولا جناية عند ذلك,
وبعد وجود الجناية لا إعتاق فكيف يصير مختارا.
"ولنا" أن المعلق بالشرط يصير منجزا عند وجود
الشرط بتنجيز مبتدأ كأنه قال له بعد وجود
الجناية: أنت حر, ونظيره إذا قال لامرأته وهو
صحيح: إذا مرضت فأنت طالق ثلاثا, فمرض حتى وقع
الطلاق عليها يصير فارا عن الميراث حتى ترثه
المرأة وإن كان التعليق في حالة الصحة لما
قلنا, كذا هذا ولو أخبر المولى إنسان أن عبده
قد جنى فأعتقه, فإن صدقه ثم أعتقه صار مختارا
للفداء بلا خلاف, وإن كذبه فأعتقه لا يصير
مختارا عند أبي حنيفة رحمه الله ما لم يكن
المخبر رجلان أو رجل
ج / 7 ص -265-
واحد
عدل, وعندهما يصير مختارا للفداء, ولا يشترط
العدد في المخبر, ولا عدالته, وقد ذكرنا
المسألة في كتاب الوكالة. ولو كاتبه وهو عالم
بالجناية صار مختارا اختيارا على التوقف لفوات
الدفع في الحال على التوقف, فإن أدى بدل
الكتابة فعتق تقرر الاختيار, وإن عجز ورد في
الرق ينظر في ذلك إن خوصم قبل أن يعجز فقضى
بالدية ثم عجز لا يرتفع القضاء؛ لأن الدية
كانت وجبت بالكتابة من حيث الظاهر, وتقرر
الوجوب باتصال القضاء به, وإن لم يخاصم حتى
عجز كان للمولى أن يدفعه؛ لأن الدفع كأن لم
يثبت على القطع والبتات لاحتمال أن يعجز, فإن
عجز جعل كأن الكتابة لم تكن فكان له أن يدفعه.
وروي عن أبي يوسف أنه يصير مختارا بنفس
الكتابة لتعذر الدفع بنفسها لزوال يده عنه, ثم
عادت إليه بسبب جديد وهو العجز, ولو كاتبه
كتابة فاسدة كان ذلك اختيارا منه, بخلاف البيع
الفاسد أنه لا يكون اختيارا بدون التسليم؛ لأن
الكتابة الفاسدة, وهي تعلق العتق بالأداء تثبت
بنفس العقد, والبيع الفاسد لا يفيد الحكم
بنفسه بل بواسطة التسليم. "وأما" الإجارة,
والرهن, والتزويج بأن زوج العبد الجاني امرأة
أو زوج الأمة الجانية إنسانا فهل يكون
اختيارا؟ ذكر في ظاهر الرواية أنه لا يكون
اختيارا؛ لأن الدفع لم يفت؛ لأن الملك قائم
فكان الدفع ممكنا في الجملة, وذكر الطحاوي
رحمه الله أنه يكون اختيارا؛ لأن الدفع للحال
متعذر فأشبه البيع, والتزويج تعييب فأشبه
التعييب حقيقة. ولو أقر به لغيره لا يكون
مختارا, كذا ذكر في الأصل؛ لأن الإقرار به
لغيره لا يفوت الدفع؛ لأن المقر مخاطب بالدفع
أو الفداء, وذكر الكرخي رحمه الله في مختصره
أنه يكون مختارا؛ لأن إقراره به لغيره في معنى
التمليك منه إذ العبد ملكه من حيث الظاهر
لوجود دليل الملك وهو اليد, فإذا أقر به لغيره
فكأنه ملكه منه, ولو قتله المولى صار مختارا؛
لأنه فوت الدفع بالقتل, ولو قتله أجنبي فإن
كان عمدا بطلت الجناية, وللمولى أن يقتله
قصاصا؛ لأنه فات محل الدفع لا إلى خلف هو مال
فتبطل الجناية, وإن كان خطأ يأخذ المولى
القيمة, ويدفعها إلى ولي الجناية, ولا يخير
المولى في القيمة على ما بينا فيما تقدم, ولو
لم يقتله المولى ولكن عيبه بأن قطع يده أو فقأ
عينه أو جرحه جراحة أو ضربه ضربا أثر فيه
ونقصه, وهو عالم بالجناية صار مختارا للفداء؛
لأنه بالنقصان حبس عن المجني عليه جزءا من
العبد, وحبس الكل دليل اختيار الفداء؛ لأنه
دليل إمساك العبد لنفسه, فكذا حبس الجزء, ولأن
حكم الجزء حكم الكل, والله سبحانه أعلم. ولو
ضرب المولى عينه فابيضت, وهو عالم بالجناية
حتى جعل مختارا ثم ذهب البياض, فإن ذهب قبل أن
يخاصم فيه بطل الاختيار, ويؤمر بالدفع أو
الفداء؛ لأنه إنما جعل مختارا لأجل النقصان,
وقد زال فجعل كأن ذلك لم يكن, وإن خوصم في حال
البياض فضمنه القاضي القيمة ثم زال البياض
فقضاء القاضي نافذ لا يرد, ولا يبطل اختياره؛
لأن اختياره وقع صحيحا, ووجب الدين, وقد استقر
باتصال القضاء به, وإن استخدمه, وهو عالم
بالجناية لا يصير مختارا للفداء؛ لأنه لا يفوت
الدفع بالاستخدام؛ لقيام الملك, وكذا
الاستخدام لا يختص بالملك, ولهذا لا يبطل به
خيار الشرط فلا يكون دليلا على إمساك العبد
لنفسه, فإن عطب في الخدمة فلا ضمان عليه, وبطل
حق ولي الجناية؛ لأن الاستخدام ليس باختيار
لما بينا, ولم يوجد منه تصرف آخر يدل على
الاختيار فصار كأنه عطب قبل الاستخدام. ولو
كان الجاني أمة فوطئها المولى, فإن كانت بكرا
فقد صار مختارا؛ لأنه فوت جزءا منها حقيقة
بإزالة البكارة, وهي إزالة العذرة, وإن كانت
ثيبا, فإن علقت منه صار مختارا, وإن لم تعلق
لا يصير مختارا, وهذا جواب ظاهر الرواية. وروي
عن أبي يوسف أنه يصير مختارا سواء علقت منه أو
لم تعلق. "وجه" هذه الرواية أن حل الوطء لا بد
له من الملك إما ملك النكاح أو ملك اليمين,
ولم يوجد ههنا ملك النكاح, فتعين ملك اليمين
لثبوت الحل, فكان إقدامه على الوطء دليلا على
إمساكها لنفسه فكان دليل الاختيار. "وجه" ظاهر
الرواية أن الوطء ليس إلا استيفاء منفعة
البضع, وأنه لا يوجب نقصان العين حقيقة؛ لأن
منفعة البضع لا جزءا من العين حقيقة إلا أنها
ألحقت بالأجزاء, وقدر النقصان عند الاستيفاء
في غير الملك إظهارا لخطر البضع, والاستيفاء
ههنا حصل في الملك فلا حاجة إلى الإلحاق,
فانعدم النقصان حقيقة وتقديرا, ولو أذن له في
التجارة فركبه دين لم يصر المولى مختارا,
وعليه قيمته. "أما" عدم صيرورته مختارا فلأن
الإذن لا يوجب تعذر الدفع لا قبل لحوق الدين,
ولا بعده وأما لزوم
ج / 7 ص -266-
القيمة
فلأن تعلق الدين برقبة العبد يوجب نقصانا فيه
بسبب كان من جهة المولى, وهو الإذن بالتجارة
فتلزمه قيمته, حين لو رضي ولي الجناية بقبوله
مع النقصان لا شيء على المولى, ثم جميع ما
يصير به مختارا للفداء مما ذكرنا إذا فعله وهو
عالم بالجناية, فإن كان لم يعلم لم يكن مختارا
سواء كانت الجناية على النفس أو على ما دون
النفس؛ لأن الاختيار ههنا اختيار الإيثار,
وإنه لا يتحقق بدون العلم بما يختاره, وهو
الفداء عن الجناية, واختيار الفداء عن الجناية
اختيار الإيثار, واختيار الإيثار بدون العلم
بالجناية محال, ثم الجناية إن كانت على النفس
فعليه الأقل من قيمة العبد ومن الدية, وإن
كانت على ما دون النفس فعليه الأقل من قيمته
ومن الأرش؛ لأنه فوت الدفع المستحق من غير
اختيار الفداء فيضمن القيمة ولو باعه بيعا
باتا, وهو لا يعلم بالجناية فلم يخاصم فيها
حتى رد العبد إليه بعيب بقضاء القاضي أو بخيار
رؤية أو شرط يقال له ادفع أو افد؛ لأنه إذا لم
يعلم بالجناية لم يصر مختارا لما بينا, ولو
كان بعد العلم فعليه الفداء؛ لأنه إذا باعه
بعد العلم بالجناية فقد صار مختارا للفداء
لتعذر الدفع لزوال ملكه بالبيع فلا يعود
بالرد, وهذا مشكل؛ لأن الرد بهذه الأشياء فسخ
للعقد من الأصل, وسيتضح المعنى فيه إن شاء
الله تعالى. ولو قطع العبد يد إنسان أو جرحه
جراحة فخير فيه فاختار الدفع ثم مات من ذلك
فالدفع على حاله لا يبطل؛ لأن وجوب الدفع لا
يختلف بالقتل والقطع؛ لأنه يدفع في الحالين
جميعا, وإن اختار الفداء ثم مات يبطل الاختيار
ثم يخير ثانيا عند محمد استحسانا, وهو قول أبي
يوسف الأول, والقياس أن لا يبطل, وعليه الدية,
وهو قول أبي يوسف الأخير. ولم يذكر في ظاهر
الرواية قول أبي حنيفة رحمه الله, وذكر
الطحاوي قوله مثل قول محمد, ولو كان اختار
الفداء بالإعتاق بأن عتق العبد للحال حتى صار
مختارا للفداء ثم مات المجني عليه لا يبطل
الاختيار, ويلزمه جميع الدية قياسا,
واستحسانا. "وجه" القياس أن المولى لما اختار
الفداء عن أصل الجناية فقد صح اختياره, ولزمه
موجبها, وبالسراية لم يتغير أصل الجناية,
وإنما تغير وصفها, والوصف تبع للأصل فكان
اختيار الفداء عن المتبوع اختيارا عن التابع.
"وجه" الاستحسان أن اختيار الفداء عن القطع
لما سرى إلى النفس, ومات فقد صار قتلا, وهما
متغايران, فاختيار الفداء عن أحدهما لا يكون
اختيارا عن الآخر فيخير اختيارا مستقبلا بخلاف
ما إذا كان الاختيار بالإعتاق؛ لأن إقدامه على
الإعتاق مع علمه أنه ربما يسري إلى النفس
فيلزمه كل الدية, ولا يمكنه الدفع بعد الإعتاق
دلالة اختيار الكل والرضا به, وهذا المعنى لم
يوجد ههنا؛ لأنه لم يرض بالزيادة على ما كان
ثابتا وقت الاختيار, والعبد للحال محل للدفع,
والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" صفة الفداء
الواجب عند الاختيار فهو أنها تجب في ماله
حالا لا مؤجلا؛ لأن الحكم الأصلي لهذه الجناية
هو وجوب الدفع, والفداء كالخلف عنه فيكون على
نعت الأصل, ثم الدفع يجب حالا في ماله لا
مؤجلا فكذلك الفداء, والله سبحانه وتعالى
الموفق هذا إذا كان العبد القاتل قنا. فإن كان
مدبرا فجنايته على مولاه إذا ظهرت فيقع الكلام
في مواضع في بيان ما تظهر به جنايته, وفي بيان
أصل الواجب, ومن عليه, وفي بيان مقدار الواجب,
وفي بيان صفته أما الأول: فجنايته تظهر بما
تظهر به جناية القن, وقد ذكرناه, ولا تظهر
بإقراره حتى لا يلزم المولى شيء, ولا يتبع
المدبر بعد العتاق كجناية القن؛ لأن هذا إقرار
على المولى فلا يصح. "وأما" بيان أصل الواجب
بهذه الجناية فأصل الواجب بها قيمة المدبر على
المولى لإجماع الصحابة رضي الله عنهم فإنه روي
عن سيدنا عمر, وأبي عبيدة بن الجراح رضي الله
عنهما أنهما قضيا بجناية المدبر على مولاه
بمحضر من الصحابة, ولم ينقل أنه أنكر عليهما
أحد منهم, فيكون إجماعا من الصحابة. والقياس
يترك بمقابلة الإجماع, ولأن الأصل في جناية
العبد هو وجوب الدفع على المولى, وبالتدبير
منع من الدفع من غير اختيار الفداء, والمنع من
الدفع من غير اختيار الفداء يوجب القيمة على
المولى كما لو دبر القن, وهو لا يعلم الجناية.
"وأما" مقدار الواجب فمقدار الواجب بهذه
الجناية الأقل من قيمته ومن الدية؛ لأن الدية
إن كانت هي الأقل فلا حق لولي الجناية في
الزيادة, وإن كانت القيمة أقل فلم يمنع المولى
بالتدبير إلا الرقبة, فإن كانت قيمته أقل من
الدية فعليه قدر قيمته لما كان قنا, ولا يخير
بين قيمته وبين الدية؛ لأنه يخير بين الأقل
والأكثر, وأنه خارج عن قضية الحكمة, وإن كانت
قيمته أكثر من الدية أو مثل
ج / 7 ص -267-
الدية
فعليه قدر الدية, وينقص منها عشرة دراهم؛ لأن
قيمة العبد في الجناية لا تزاد على دية الحر
بل ينقص منها عشرة, وسواء قلت جنايته أو كثرت
لا يلزم المولى من جناياته أكثر من قيمة
واحدة؛ لأن سبب الوجوب هو المنع عند الجناية.
والمنع منع واحد فكان الواجب قيمة واحدة, ولأن
القيمة في جناية المدبر بمنزلة العين في جناية
القن قلت جنايته أو كثرت, ولا يجب شيء آخر مع
الدفع, كذلك ههنا, وتقسم قيمته بين أولياء
الجنايات على قدر جناياتهم, يستوي فيها الأول
والثاني؛ لأن القسمة في دفع العين هكذا, فكذلك
قيمة المدبر, وسواء قبض ما على المولى أو لم
يقبض يشتركون فيه فيتضاربون بقدر حقوقهم,
وتعتبر قيمة المدبر لكل واحد منهم يوم الجناية
عليه لا يوم التدبير, وإن كان سبب وجوب الضمان
هو المنع, وهو التدبير السابق لكن إنما يصير
ذلك سببا عند وجود شرطه, وهو الجناية فكأنه
أنشأ التدبير عندهما, وبيان هذه الجملة في
مسائل: إذا مات المدبر بعد الجناية لم تبطل
على المولى القيمة؛ لأن حكم جنايته يلزم مولاه
فيستوي فيه بقاء المدبر, وهلاكه بخلاف القن
إذا جنى ثم هلك أنه يبطل حكم الجناية أصلا؛
لأن حكم جنايته وجوب الدفع, وبالموت خرج عن
احتمال الدفع, ولو انتقصت قيمته بعد الجناية
بأن جنى وقيمته ألف ثم عمي لم يحط عن المولى
شيء, وعليه قيمته تامة؛ لأن نقصانه هلاك جزء
منه ثم هلاك كله لا يسقط عنه شيئا فكذا هلاك
البعض, ولو قتل إنسانا ثم قتل آخر لا يلزم
المولى إلا قيمة واحدة لما قلنا. وكذلك لو جنى
جنايات ثم أعتقه المولى لم يلزمه إلا قيمة
واحدة؛ لأن سبب وجوب الضمان هو المنع, وأنه
متحد, فكان وجود الإعتاق, وعدمه بمنزلة واحدة,
ولو قتل إنسانا خطأ ثم قتل آخر خطأ ثم دفع
المولى القيمة إلى ولي القتيل الأول فالدفع لا
يخلو إما أن كان بقضاء القاضي, أو بغير قضاء
القاضي, فإن كان بقضاء القاضي فلا سبيل لولي
القتيل الثاني على المولى؛ لأنه كان مجبورا
على الدفع, والمجبور معذور, وله أن يتبع ولي
القتيل الأول بنصف القيمة؛ لأنه قبض نصف
القيمة بغير حق, وإن كانت الجنايتان مختلفتين
بإن كانت إحداهما نفسا, والأخرى ما دون النفس
فالثاني يتبع الأول بقدر حصته من القيمة, وإن
كان الدفع بغير قضاء القاضي فولي القتيل
الثاني بالخيار: إن شاء ضمن المولى نصف
القيمة, وإن شاء ضمن ولي القتيل الأول لوجود
سبب وجوب الضمان من كل واحد منهما؛ لأن المولى
متعد في دفع العبد, والقابض متعد في قبضه, فإن
ضمن المولى فإنه يرجع على القابض, وإن ضمن
القابض لا يرجع على المولى. ولو قتل إنسانا
خطأ فدفع القيمة إلى ولي القتيل ثم قتل آخر
خطأ فهذا والأول سواء في قول أبي حنيفة عليه
الرحمة, والأمر فيه على التفصيل الذي ذكرنا,
وعندهما لولي القتيل الثاني أن يضمن المولى,
وله أن يضمن ولي القتيل الأول سواء كان الدفع
بقضاء أو بغير قضاء فهما فرقا بين الفصلين,
وأبو حنيفة عليه الرحمة جمع بينهما. "وجه"
الفرق لهما أن المولى ههنا ليس بمتعد في حق
ولي القتيل الثاني؛ لأن الجناية الثانية كانت
منعدمة وقت الدفع فلا سبيل إلى تضمينه, وفي
الفصل الأول كانت الجنايتان موجودتين وقت
الدفع, فكان الدفع منه إلى الأول تعديا فيضمن.
"وجه" قول أبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن
سبب وجوب الضمان على المولى هو المنع, والمنع
منع واحد في حق الأول والثاني جميعا, فصار كأن
الجنايات كلها موجودة وقت الدفع فيصير المولى
متعديا في الدفع فكان له تضمينه بخلاف ما إذا
كان الدفع بقضاء؛ لأن قضاء القاضي صيره مجبورا
في الدفع, هذا إذا كانت قيمته وقت الجنايتين
على السواء, فأما إذا كانت مختلفة بأن قتل
رجلا وقيمته ألف ثم ازدادت قيمته فصارت ألفين
ثم قتل آخر يضمن المولى لولي القتيل الثاني
ألفا آخر, ولا حق لولي القتيل الأول في
الزيادة؛ لأنها لم تكن موجودة وقت الجناية على
الأول فيسلم الزيادة إلى الثاني, ويقسم تلك
القيمة وهي الألف بين أولياء الأول, والثاني
يتضاربون فيها فيضرب الأول فيها بعشرة آلاف,
والثاني بتسعة آلاف؛ لأنه قد وصل إليه ألف من
عشرة آلاف فكانت قسمة تلك الألف على تسعة عشر
سهما: عشرة أسهم للأول, وتسعة أسهم للثاني,
ولو كانت قيمته وقت قتل الأول ألفين, ووقت قتل
الثاني ألفا لا يضمن المولى شيئا, والألف تكون
لولي القتيل الأول سالما, والألف للآخر تقسم
بينهما على تسعة عشر سهما: عشرة أسهم لولي
القتيل الثاني, وتسعة أسهم لولي القتيل الأول,
ولو قتل إنسانا
ج / 7 ص -268-
وقيمته
ألف ثم ازدادت قيمته, وصارت ألفا وخمسمائة ثم
قتل آخر فزيادة الخمسمائة سالمة لولي القتيل
الثاني لا حق فيها لولي القتيل الأول؛ لأنها
لم تكن موجودة وقت الجناية الأولى, والألف
تكون بين ولي القتيلين يتضاربون فيها, فيضرب
ولي القتيل الأول بتمام الدية عشرة آلاف,
والثاني بتسعة آلاف وخمسمائة؛ لأنه وصل إليه
خمسمائة من عشرة آلاف فكانت قسمة الألف بينهما
على تسعة وثلاثين سهما؛ لأنا نجعل كل خمسمائة
سهما, تسعة عشر لولي القتيل الثاني, وعشرون
لولي القتيل الأول, والله سبحانه, وتعالى
أعلم. "وأما" صفة الواجب بهذه الجناية فهي
أنها تجب في مال المولى حالا؛ لأنه ضمان المنع
من الدفع من غير اختيار الفداء, وأنه يوجب
القيمة في مال المولى حالا كما لو دبر العبد
الجاني وهو لا يعلم بالجناية, وهذا لأن ضمان
المنع كالخلف عن ضمان الدفع, والدفع يجب من
ماله حالا, كذلك ههنا, والله تعالى الموفق
للصواب, وإن كان القاتل أم ولد فأم الولد في
جميع ما وصفنا والمدبر سواء؛ لأن الواجب في
جنايتهما ضمان المنع أيضا, إلا أن جهة المنع
تختلف, فالمنع في أم الولد بالاستيلاد, وفي
المدبر بالتدبير؛ لذلك استويا في حكم الجناية,
والله تعالى أعلم. وإن كان القاتل مكاتبا فقتل
أجنبيا خطأ فجنايته على نفسه إذا ظهرت لا على
مولاه, فيقع الكلام فيما تظهر به جنايته, وفي
بيان أصل الواجب, ومن عليه, وفي بيان كيفية
الوجوب, وفي بيان مقدار الواجب, وفي بيان
صفته. "أما" الأول: فجنايته تظهر بما تظهر به
جناية القن, والمدبر, وأم الولد, وتظهر أيضا
بإقراره بالجناية بخلاف جنايتهم؛ لأن ذلك
إقرار على المولى فلم يصح أصلا, وإقرار
المكاتب على نفسه؛ لأنه أحق بكسبه من المولى
فيجوز إقراره. وكذا يجوز صلحه من الجناية على
مال؛ لأنه صالح عن حق ثابت له ظاهرا, ولو أقر
وصالح ثم عجز فحكمه نذكره بعد هذا إن شاء الله
تعالى. وأما أصل الواجب بجنايته, ومن عليه
الواجب فالواجب هو قيمة نفسه عليه لا على
مولاه؛ لأن كسب المكاتب لنفسه لا لمولاه, فكان
موجب جنايته عليه لا على مولاه ليكون الخراج
بالضمان, بخلاف القن, والمدبر, وأم الولد؛ لأن
امتناع الدفع حصل بشيء من قبله, وهو قبول
الكتابة, فكانت قيمته عليه بخلاف القن,
والمدبر, وأم الولد. "وأما" كيفية الوجوب فقد
اختلف أصحابنا فيه قال علماؤنا الثلاثة: إن
قيمته تصير دينا في ذمته على طريق القطع,
والبتات, وفائدة هذا الاختلاف تظهر فيما إذا
جنى ثم عجز عقيب الجناية بلا فصل أنه يخاطب
المولى بالدفع أو الفداء عندنا, وعنده يباع
ويدفع ثمنه إلى أولياء القتيل. وكذلك إذا جنى
ثم جنى جناية أخرى عقيب الأولى بلا فصل لا يجب
عليه إلا قيمة واحدة عندنا, وعنده يجب عليه
قيمة أخرى عقيب الأولى, ولا خلاف في أنه إذا
جنى جناية, وقضى القاضي عليه بالقيمة ثم جنى
جناية أخرى أنه تجب عليه قيمة أخرى, ووجه
الفرق لأصحابنا الثلاثة رحمهم الله أن القاضي
لما قضى بالقيمة في الجناية الأولى فقد صارت
القيمة دينا في ذمته حتما من غير تردد,
والجناية الثانية صادفت رقبة فارغة فتقضى
بقيمة أخرى. وأما قبل القضاء فالرقبة مشغولة
بالأولى, والمشغول لا يشغل. "وجه" قول زفر
رحمه الله أن الموجب للقيمة على المكاتب هو
امتناع الدفع لحق ثبت للمكاتب بعقد الكتابة؛
لأن امتناع الدفع إذا كان لحقه كانت القيمة
عليه, إذ لا خراج مع الضمان, وهذا المعنى لا
يوجب التوقف على قضاء القاضي. "ولنا" أن الحكم
الأصلي في جناية العبد هو وجوب الدفع,
وامتناعه ههنا لعارض لم يقع اليأس عن زواله
وهو الكتابة, لاحتمال العجز؛ لأنه ربما يعجز
فيرد في الرق, فيتبين أن الجناية صدرت من القن
فلا يمكن قطع القول بصيرورة قيمته دينا في
ذمته إلا من حيث الظاهر, والأمر في الحقيقة
على التوقف, وإنما يرتفع التوقف بإحدى معان:
إما بأداء القيمة إلى ولي القتيل؛ لأن الأداء
كان واجبا عليه, فإذا أدى فقد وصل الحق إلى
المستحق فلا يسترد منه أو بالعتق "إما" بأداء
بدل الكتابة "وإما" بالإعتاق المبتدأ وبالموت
عن وفاء أو ولد؛ لأنه يعتق في آخر جزء من
أجزاء حياته, وإذا عتق يتقرر حقه في كسبه,
ويقع اليأس عن الدفع فتتقرر القيمة, وإذا ترك
ولدا ولم يترك وفاء فعقد الكتابة يبقى ببقاء
الولد, فيسعى على نجوم أبيه, فيؤدي فيعتق
ويعتق أبوه, ويستند عتقه إلى آخر جزء من أجزاء
حياته أو بقضاء القاضي بالقيمة؛ لأنها كانت
واجبة, وتقرر الوجوب باتصال القضاء به أو
بالصلح على القيمة؛ لأن الصلح بمنزلة القضاء,
هذا إذا ظهرت جناية بالمعاينة أو بالبينة.
"فأما" إذا ظهرت بإقراره فإن كان قد أدى
القيمة ثم عجز لم يبطل إقراره
ج / 7 ص -269-
ولا
يسترد القيمة؛ لأنه وصل الحق إلى المستحق فلا
يسترد. وكذا إذا لم يؤد, ولكنه عتق بأداء بدل
الكتابة أو بإعتاق مبتدأ أو بموت المكاتب عن
وفاء أو, ولد لما قلنا, ولو لم يعتق, ولكنه
عجز, فإن كان عجزه قبل قضاء القاضي عليه
بالقيمة فإقراره باطل في حق المولى بلا خلاف
حتى لا يؤخذ به للحال, ولكن يتبع به بعد
العتاق, لأنه لما عجز قبل القضاء فقد انفسخ
العقد من الأصل, وعاد قنا كما كان فتبين أنه
أقر على مولاه, وإقرار العبد على المولى باطل
إلا أنه يتبع بعد العتاق؛ لأن إقراره في حق
نفسه صحيح, وإن كان بعد ما قضى به القاضي عليه
بالقيمة بطل إقراره في حق المولى, ولا يؤخذ به
للحال عند أبي حنيفة عليه الرحمة ويتبع بعد
العتاق, وعندهما لا يبطل إقراره في حق المولى,
ويؤخذ به للحال, ويباع. وجه قولهما: إن القيمة
قد وجبت عليه بإقراره من حيث الظاهر لصحة
إقراره ظاهرا أو بقضاء القاضي تقرر الوجوب فلا
يحتمل البطلان بالعجز, كما لو أقر بدين لإنسان
ثم عجز, ولأبي حنيفة رحمه الله أن صحة إقراره
من حيث الظاهر لم تكن لمكان الكتابة, لأن
الداخل تحت الكتابة ما كان من التجارة,
والإقرار بالجناية ليس من التجارة, وإنما كانت
لكونه أحق بكسبه من المولى, فإذا عجز فقد صار
المولى أحق بإكسابه فبطل إقراره, ولو كان مكان
الإقرار صلح بأن جنى المكاتب جناية خطأ فصالح
منها على مال جاز صلحه على ما ذكرنا ثم إن كان
قد أدى بدل الصلح إلى ولي الجناية أو كان لم
يؤد لكنه عتق بأي طريق كان فقد تقرر الصلح,
ولا يبطل, وإن كان لم يؤد بدل الصلح, ولا عتق
حتى عجز بطل المال عنه في قول أبي حنيفة رضي
الله عنه, ويخاطب المولى بالدفع أو الفداء,
وعندهما لا يبطل, ويصير دينا عليه, وعلى هذا
الخلاف إذا قتل المكاتب إنسانا عمدا ثم صالح
من دم العمد على مال ثم عجز قبل أداء بدل
الصلح إنه يبطل الصلح, ولا يؤخذ للحال عند أبي
حنيفة, وعندهما لا يبطل, ويؤخذ للحال, ولو كان
ولي القتيل اثنين فصالح المكاتب أحدهما دون
الآخر سقط القصاص عنه, وعليه أن يؤدي إلى من
صالحه ما صالح عليه, وينقلب نصيب الآخر مالا
فيغرم المكاتب له الأقل من نصف قيمته, ومن نصف
الدية؛ لأن الواجب عليه في كل الجناية الأقل
من قيمته, ومن الدية, فالواجب في نصفها الأقل
من نصف قيمته, ومن نصف الدية اعتبارا للنصف
بالكل فإن عجز قبل الأداء فنصيب المصالح لا
يؤخذ للحال, وإنما يؤخذ بعد العتاق. وأما نصيب
الآخر فيقال للمولى: ادفع نصف العبد أو افد
بنصف الدية على قول أبي حنيفة رضي الله عنه؛
لأن الصلح قد بطل عنده, وعلى قولهما يدفع نصف
العبد أو يفدي بنصف الدية, والنصف الآخر يباع
في حصة المصالح أو يقضي عنه المولى. "وأما"
القن إذا قتل رجلا عمدا, وله وليان فصالح
العبد أحدهما ينقلب نصيب الآخر مالا, ونصيب
المصالح يؤخذ بعد العتاق بلا خلاف. وأما غير
المصالح فيخاطب المولى بدفع نصف العبد إليه,
أو الفداء بنصف الدية, ولو مات المكاتب قبل أن
يؤخذ شيء من ذلك, ولم يترك شيئا أصلا أو لم
يترك, وفاء بالكتابة بطلت الجناية؛ لأنه إذا
مات عاجزا فقد مات قنا, والقن إذا جنى جناية
ثم مات تبطل الجناية أصلا ورأسا, وما تركه
يكون للولي, إذا مات عبدا كان المتروك مال
المولى فيكون له ولو مات المكاتب, وترك مالا,
وعليه دين, وكتابة يبدأ بدين الأجنبي؛ لأن دين
المولى دين ضعيف؛ إذ لا يجب للمولى على عبده
دين فكانت البداية بالأقوى أولى. وحكي عن
قتادة رضي الله عنه عنه قال: قلت لابن المسيب:
إن شريحا يقول: الأجنبي, والمولى يتحاصان فقال
سعيد بن المسيب أخطأ شريح, وإن كان قاضيا قضاء
زيد بن ثابت أولى, وكان زيد يقول يبدأ بدين
الأجنبي فالظاهر أنه كان لا يخفى قضاؤه على
الصحابة, ولم يعرف له مخالف فيكون إجماعا, ولو
مات المكاتب, وترك وفاء بالكتابة, وجناية
فالجناية أولى؛ لأنها أقوى, ولو مات, وترك
مالا, وعليه دين, وكتابة, وجناية, فإن كان قضى
عليه بالجناية فصاحب الجناية, وصاحب الدين
سواء؛ لأن الجناية إذا قضي بها صارت دينا فهما
دينان فلا يكون أحدهما بالبداية به أولى من
صاحبه, وإن كان لم يقض عليه بالجناية يبدأ
بالدين؛ لأنه متعلق بذمته, ودين الجناية لم
يتعلق بذمته بعد, فكان الأول آكد وأقوى, فيبدأ
به, ويقضى الدين منه ثم ينظر إلى ما بقي فإن
كان به وفاء بالكتابة فصاحب الجناية أولى
فيبدأ به, وإن لم يكن به وفاء بالكتابة فما
بقي يكون للمولى؛ لأنه يموت قنا على ما بينا,
وهذا بخلاف ما قبل الموت إن المكاتب يبدأ بأي
الديون شاء, إن شاء بدين الأجنبي, وإن
ج / 7 ص -270-
شاء
بأرش الجناية, وإن شاء بمال الكتابة؛ لأنه
يؤدي من كسبه, والتدبير في إكسابه إليه فكان
له أن يبدأ بأي ديونه شاء, وعلى هذا قالوا في
المكاتب إذا مات فترك ولدا: إن ولده يبدأ من
كسبه بأي الديون شاء؛ لأنه قام مقام المكاتب,
فتدبير كسبه إليه بخلاف ما إذا مات, ولم يترك
ولدا؛ لأن الأمر في موته إلى القاضي فيبدأ
بالأولى فالأولى, والله سبحانه وتعالى أعلم.
ولو اختلف المولى وولي الجناية في قيمته وقت
الجناية فالقول قول المكاتب في قول أبي يوسف
الآخر, وهو قول محمد, وفي قول أبي يوسف الأول
ينظر إلى قيمته للحال؛ لأن الحال يصلح حكما في
الماضي فيحكم. "وجه" قوله الأخير: أن ولي
الجناية يدعي زيادة الضمان, وهو ينكر فكان
القول قوله, والله تعالى الموفق "وأما" قدر
الواجب بجنايته فهو الأقل من قيمته, ومن
الدين؛ لأن الأرش إن كان أقل فلا حق لولي
الجناية في الزيادة, وإن كانت القيمة أقل فلم
يوجد من الكاتب منع الزيادة فلا تلزمه
الزيادة, وإن كانت قيمته أقل من الدية, وجبت
قيمته ولا يخير, وإن كانت أكثر من الدية أو
قدر الدية ينقص من الدية عشرة دراهم؛ لأن
العبد لا يتقوم في الجناية بأكثر من هذا القدر
سواء كانت الجناية منه أو عليه, وتعتبر قيمته
يوم الجناية؛ لأن القيمة كالبدل عن الدفع,
والدفع يجب عند الجناية. وكذا المنع بالكتابة
السابقة لحق المكاتب إنما يصير سببا عند وجود
الجناية فيعتبر الحكم, وهو وجوب القيمة عند
وجود الجناية, والله تعالى أعلم. "وأما" صفة
الواجب فهي أن يجب عليه حالا لا على العاقلة
مؤجلا؛ لأن الحكم الأصلي في جناية العبد هو
الدفع, وهذا كالخلف عنه, والدفع يجب عليه حالا
لا مؤجلا فكذا الخلف, والله تعالى أعلم. هذا
إذا كان المقتول أجنبيا "فأما" إذا كان مولى
القاتل فالقاتل لا يخلو: "إما" إن كان قنا
"وإما" إن كان مدبرا "وإما" إن كان أم ولد
"وإما" إن كان مكاتبا فإن كان قنا فقتل مولاه
خطأ فجنايته هدر؛ لأن المولى لا يجب له على
عبده دين, وإن قتله عمدا فعليه القصاص لما مر,
ولو قتله عمدا, وله وليان فعفا أحدهما حتى سقط
القصاص بطلت الجناية, ولا يجب للذي لم يعف شيء
في قولهما. وقال أبو يوسف رحمه الله: يقال
للذي عفا: إما أن تدفع نصف نصيبك, وهو ربع
العبد إلى الذي لم يعف أو تفديه بربع الدية
"وجه" قوله أن القصاص كان مشتركا بينهما لكل
واحد منهما النصف, فإذا عفا أحدهما فقد سقط
نصف القصاص, وانقلب نصيب صاحبه, وهو النصف
مالا شائعا في النصفين نصفه, وهو الربع في
نصيبه ونصفه في نصيب الشريك فما كان في نصيبه
يسقط, وما كان في نصيب الشريك يثبت "وجه"
قولهما أن الدية إما أن تجب حقا للمولى,
والوارث يقوم مقامه في استيفاء حق وجب له,
وإما أن تجب حقا للورثة بانتقال الملك إليهم
بطريق الوراثة. وكيف ما كان فالمولى لا يجب له
على عبده دين, وإن كان مدبرا فقتل مولاه خطأ
فجنايته هدر, وعليه السعاية في قيمته؛ لأنه لو
وجبت الدية لوجبت على المولى؛ لأنه لو جنى على
أجنبي لوجبت الدية عليه فههنا أولى, ولا سبيل
إلى الإيجاب له, وعليه إلا أنه يسعى في قيمة
نفسه؛ لأن العتق يثبت بطريق الوصية. ألا ترى
أنه يعتبر من الثلث ؟, والوصية لا تسلم للقاتل
إلا أن العتق بعد وقوعه لا يحتمل الفسخ فوجب
عليه قيمة نفسه, ولو قتله عمدا فعليه القصاص,
ويسعى في قيمته لما قلنا, وورثته بالخيار إن
شاءوا عجلوا استيفاء القصاص, وبطلت السعاية,
وإن شاءوا استوفوا السعاية ثم قتلوه قصاصا؛
لأنهما حقان ثبتا لهم, واختيار السعاية لا
يكون مسقطا للقصاص؛ لأن السعاية ليست بعوض عن
المقتول بل هي بدل عن الرق, ولو كان للمولى
وليان عفا أحدهما ينقلب نصيب الآخر مالا بخلاف
القن؛ لأن هناك لا يمكن إيجاب الضمان؛ لأنه لو
وجب لوجب للمولى على عبده, وليس يجب للمولى
على عبده دين, وههنا يمكن؛ لأن المدبر يعتق
بموت سيده فيسعى, وهو حر فلم يكن في إيجاب
الدية عليه إيجاب الدين للمولى على عبده فهو
الفرق وإن كان أم ولد فقتلت مولاها خطأ أو
عمدا فحكمها حكم المدبر, وإنما يختلفان في
السعاية فأم الولد لا سعاية عليها, والمدبر
يسعى في قيمته؛ لأن العتق هناك يثبت بطريق
الوصية, وعتق أم الولد ليس بوصية حتى لا يعتبر
من الثلث, ولو قتلت أم الولد مولاها عمدا, وله
ابنان من غيرها فعفا أحدهما سعت في نصف قيمتها
للذي لم يعف؛ لأن القصاص قد سقط بعفو أحدهما,
وانقلب نصيب الآخر مالا, وإنما وجب عليها
السعاية في نصف قيمتها لا في نصف الدية, وإن
كانت هي حرة وقت وجوب السعاية لأنها عتقت بموت
سيدها
ج / 7 ص -271-
وتسعى,
وهي حرة؛ لأنها كانت مملوكة وقت الجناية فيجب
اعتبار الحالين حال وجود الجناية, وحال وجوب
السعاية, ولو كانت مملوكة في الحالين بأن قتلت
أجنبيا خطأ لوجبت القيمة. وكانت على المولى لا
عليها, فإن كانت مملوكة حال الجناية حرة حال
السعاية اعتبرنا بالحالين فأوجبنا نصف القيمة
اعتبارا إلى وجود الجناية. وأوجدنا ذلك عليها
لا على المولى اعتبارا بحال وجوب السعاية
اعتبارا للحالين بقدر الإمكان, ولو كان أحد
الابنين منها لا يجب القصاص عليها, وسعت في
جميع قيمتها أما عدم وجوب القصاص فلأنه لو وجب
لوجب مشتركا بينهما, ولا يمكن الإيجاب في نصيب
ولدها؛ إذ لا يجب للولد على أمه قصاص لتعذر
الاستيفاء احتراما للأم "وأما" لزوم السعاية
فلأن القصاص سقط للتعذر, ولا تعذر في القيمة
فتسعى في جميع قيمتها, وتكون بينهما, وإن كان
مكاتبا فقتل مولاه خطأ فعليه الأقل من قيمته
أو الدية؛ لأن جناية المكاتب على مولاه لازمة
كجناية مولاه عليه؛ لأنه فيما يرجع إلى
إكسابه, وأرش جناياته كالأجنبي؛ لأنه أحق
بإكسابه من المولى, وتجب القيمة حالة؛ لأنها
تجب بالمنع من الدفع فتكون حالة كما تجب على
المولى بجناية مدبره, وإن كان عمدا فعليه
القصاص, والله سبحانه وتعالى أعلم. "هذا" إذا
كان القاتل والمقتول حرين أو كان القاتل حرا
والمقتول عبدا أو كان القاتل عبدا والمقتول
حرا. فأما إذا كانا عبدين بأن قتل عبد عبدا
خطأ فالمقتول لا يخلو: إما أن كان عبدا
لأجنبي, وإما إن كان عبدا لمولى القاتل, فإن
كان عبدا لأجنبي بأن كان القاتل قنا يخاطب
المولى بالدفع أو الفداء سواء كان المقتول قنا
أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا, وهذا وما إذا
كان المقتول حرا أجنبيا سواء إلا أن هناك
يخاطب المولى بالدفع أو بالفداء بالدية, وههنا
يخاطب بالدفع أو الفداء بالقيمة, وإن كان
القاتل مدبرا أو أم ولد فعلى المولى قيمة
الولد والمدبر وأم الولد سواء كان المقتول قنا
أو مدبرا أو مكاتبا كما إذا كان المقتول حرا
أجنبيا وإن كان القاتل مكاتبا فعليه قيمة نفسه
سواء كان المقتول قنا أو مدبرا أو أم ولد أو
مكاتبا كما إذا كان المقتول حرا أجنبيا, هذا
إذا كان المقتول عبدا لأجنبي فإن كان عبدا
لولي القاتل فجناية القاتل عليه هدر, وإن كان
القاتل قنا أو مدبرا أو أم ولد, سواء كان
المقتول قنا أو مدبرا أو أم ولد أو مكاتبا,
وإن كان القاتل مكاتبا فجنايته عليه لازمة
كائنا من كان المقتول لما ذكرنا فيما تقدم,
والله تعالى أعلم بالصواب هذا إذا قتل عبد
عبدا خطأ فإن قتل عمدا فعليه القصاص كائنا من
كان المقتول, والله جل شأنه الموفق. "وأما"
القتل الذي هو في معنى القتل الخطأ فنوعان:
نوع في معناه من كل وجه, وهو أن يكون على طريق
المباشرة, ونوع هو في معناه من وجه, وهو أن
يكون من طريق التسبيب, أما الأول: فنحو النائم
ينقلب على إنسان فيقتله فهذا القتل في معنى
القتل الخطأ من كل وجه لوجوده لا عن قصد؛ لأنه
مات بثقله فترتب عليه أحكامه من وجوب الكفارة
والدية وحرمان الميراث والوصية؛ لأنه إذا كان
في معناه من كل وجه كان ورود الشرع بهذه
الأحكام هناك ورودا ههنا دلالة. وكذلك لو سقط
إنسان من سطح على قاعد فقتله "أما" وجوب الدية
فلوجود معنى الخطأ, وهو عدم القصد "وأما" وجوب
الكفارة وحرمان الميراث والوصية فلوجود القتل
مباشرة؛ لأنه مات بثقله, سواء كان القاعد في
طريق العامة أو في ملك نفسه, ولو مات الساقط
دون القاعد ينظر إن كان في ملك نفسه أو في
موضع لا يكون قعوده فيه جناية لا شيء على
القاعد؛ لأنه ليس بمتعد في القعود فما تولد
منه لا يكون مضمونا عليه, ويهدر دم الساقط,
وإن كان في موضع يكون قعوده فيه جناية فدية
الساقط على القاعد تتحملها العاقلة؛ لأنه متعد
في القعود فالمتولد منه يكون مضمونا عليه كما
في حفر البئر, ولا كفارة عليه لحصول القتل
بطريق التسبيب كما في البئر. وكذلك إذا كان
يمشي في الطريق حاملا سيفا أو حجرا أو لبنة أو
خشبة فسقط من يده فقتله لوجود معنى الخطأ فيه
وحصوله على سبيل المباشرة لوصول الآلة لبشرة
المقتول "ولو" كان لابسا سيفا فسقط على غيره
فقتله أو سقط عنه ثوبه أو رداؤه أو طيلسانه أو
عمامته, وهو لابسه على إنسان فتعقل به فتلف
فلا ضمان عليه أصلا؛ لأن في اللبس ضرورة؛ إذ
الناس يحتاجون إلى لبس هذه, والتحرز عن السقوط
ليس في وسعهم, فكانت البلية فيه عامة فتعذر
التضمين, ولا ضرورة في الحمل, والاحتراز عن
سقوط المحمول ممكن أيضا, وإن كان الذي لبسه
مما لا يلبس عادة فهو ضامن. وكذلك الراكب إذا
كان يسير في الطريق
ج / 7 ص -272-
العامة
فوطئت دابته رجلا بيديها أو برجلها لوجود معنى
الخطأ في هذا القتل وحصوله على سبيل المباشرة؛
لأن ثقل الراكب على الدابة, والدابة آلة له
فكان القتل الحاصل بثقلها مضافا إلى الراكب
فكان قتلا مباشرة, ولو كدمت أو صدمت أو خبطت
فهو ضامن إلا أنه لا كفارة عليه, ولا يحرم
الميراث, والوصية لحصول القتل على سبيل التسبب
دون المباشرة, ولا كفارة على السائق, والقائد,
ولا يحرمان الميراث والوصية؛ لأن فعل السوق
والقود يقرب الدابة من القتل فكان قتلا تسبيبا
لا مباشرة, والقتل تسببا لا مباشرة لا يتعلق
بهذه الأحكام بخلاف الراكب؛ لأنه قاتل مباشرة
على ما بينا, والرديف والراكب سواء, وعليهما
الكفارة, ويحرمان الميراث والوصية؛ لأن ثقلهما
على الدابة, والدابة آلة لهما فكانا قاتلين
على طريق المباشرة, ولو نفحت الدابة برجلها أو
بذنبها, وهو يسير فلا ضمان في ذلك على راكب
ولا سائق ولا قائد, والأصل أن السير والسوق
والقود في طريق العامة مأذون فيه بشرط سلامة
العاقبة فما لم تسلم عاقبته لم يكن مأذونا فيه
فالمتولد منه يكون مضمونا إلا إذا كان مما لا
يمكن الاحتراز عنه بسد باب الاستطراق على
العامة, ولا سبيل إليه, والوطء والكدم والصدم
والخبط في السير والسوق والقود مما يمكن
الاحتراز عنه بحفظ الدابة وذود الناس, والنفح
مما لا يمكن التحرز عنه وكذا البول والروث
واللعاب, فسقط اعتباره والتحق بالعدم, وقد روي
أن النبي عليه الصلاة والسلام قال:
"الرجل جبار أي
نفحها" ولهذا أسقط اعتبار ما ثار من الغبار من مشي الماشي حتى لو أفسد
متاعا لم يضمن. وكذا ما أثارت الدابة بسنابكها
من الغبار أو الحصى الصغار, ولا ضمان فيه لما
قلنا كذا هذا. وأما الحصى الكبار فيجب الضمان
فيها؛ لأنه يمكن التحرز عن إثارتها؛ إذ لا
يكون ذلك إلا بتعنيف في السوق, ولو كبح الدابة
باللجام فنفحت برجلها أو بذنبها فهو هدر لعموم
البلوى به, ولو أوقف الدابة في الطريق فقتلت
إنسانا, فإن كان ذلك في غير ملكه كطريق العامة
فهو ضامن لذلك كله سواء وطئت بيديها أو برجلها
أو كدمت أو صدمت أو خبطت بيديها أو نفحت
برجلها أو بذنبها أو عطب شيء بروثها أو بولها
أو لعابها, كل ذلك مضمون عليه, وسواء كان
راكبا أو لا؛ لأن روث الدابة في طريق العامة
ليس بمأذون فيه شرعا إنما المأذون فيه هو
المرور لا غير؛ إذ الناس يتضررون بالوقوف ولا
ضرورة فيه فكان الوقوف فيه تعديا من غير ضرورة
فما تولد منه يكون مضمونا عليه سواء كان مما
يمكن التحرز عنه أو لا يمكن غير أنه إن كان
راكبا فعليه الكفارة في الوطء باليد والرجل؛
لكونه قاتلا من طريق المباشرة, وإن لم يكن
راكبا لا كفارة عليه لوجود القتل منه تسبيبا
لا مباشرة. وكذلك لو أوقف دابة على باب المسجد
فهو مثل وقفه في الطريق؛ لأنه متعد في الوقف
إلا أن يكون الإمام جعل للمسلمين عند باب
المسجد موقفا يقفون فيه دوابهم فلا ضمان عليه
فيما أصابت في وقوفها؛ لأن للإمام أن يفعل ذلك
إذا لم يتضرر الناس به فلم يكن متعديا في
الوقوف فأشبه الوقوف في ملك نفسه إلا إذا كان
راكبا فوطئت دابته إنسانا فقتلته؛ لأن ذلك قتل
بطريق المباشرة فيستوي في المواضع كلها. ألا
ترى أنه لو كان في ملكه يضمن. وكذلك لو أوقف
دابته في موضع أذن الإمام بالوقوف فيه كما في
سوق الخيل والبغال لما قلنا, وكذلك إذا أوقف
دابته في الفلاة؛ لأن الوقوف في الفلاة مباح
لعدم الإضرار بالناس فلم يكن متعديا فيه.
وكذلك في الطريق إن كان وقف في المحجة فالوقوف
فيها كالوقوف في سائر الطرق العامة, ولو كان
سائرا في هذه المواضع التي أذن الإمام فيها
بالوقوف للناس أو سائقا أو قائدا فهو ضامن؛
لأن أثر الإذن في سقوط ضمان الوقف لا في غيره؛
لأن إباحة الوقف فيها استفيد بالإذن؛ لأنه لم
يكن ثابتا قبله, فأما إباحة السير والسوق
والقود فلم يثبت بالإذن من الإمام؛ لأنه كان
ثابتا قبله فبقي الأمر فيها على ما كان قبل
الإذن, وإن كان الوقف أو السير أو السوق أو
القود في ملكه فلا ضمان عليه في شيء مما ذكر
إلا فيما وطئت دابته بيديها أو برجلها, وهو
راكب؛ لأن هذه الأفعال تقع تعديا في الملك,
والتسبيب إذا لم يكن تعديا لا يكون سببا لوجوب
الضمان. فأما الوطء باليد والرجل في حال السير
أو الوقوف فهو قتل مباشرة لا تسبيبا حتى تجب
الكفارة لوجود الضمان على كل سواء كان في ملكه
أو في غير ملكه, وسواء كان الذي لحقته الجناية
مأذونا في الدخول أو غير مأذون؛ لأن التلف حصل
بفعله مباشرة, ومن دخل ملك غيره بغير إذنه لا
يباح إتلافه, ولو ربط الدابة في غير ملكه فما
دامت تجول في رباطها إذا أصابت شيئا بيدها
ج / 7 ص -273-
أو
برجلها أو راثت أو بالت فعطب به شيء فذلك كله
مضمون عليه؛ لأنه متعد في الوقوف في غير ملكه,
ولو انفتح الرباط وذهبت من ذلك الموضع فما عطب
به شيء فهو هدر؛ لأن معنى التعدي قد زال
بزوالها من موضع الوقوف, وإن أوقفها غير
مربوطة فزالت عن موضعها بعد ما أوقفها ثم جنت
على إنسان أو عطب بها شيء فهو هدر؛ لأنها لما
زالت عن موضع الوقف فقد زال التعدي فكأنها
دخلت في هذه المواضع بنفسها وجنت, ولو نفرت
الدابة من الرجل أو انفلتت منه فما أصابت في
فورها ذلك فلا ضمان عليه لقوله عليه الصلاة
والسلام
"العجماء جبار"
أي البهيمة جرحها جبار ولأنه لا صنع له في
نفارها وانفلاتها, ولا يمكنه الاحتراز عن
فعلها, فالمتولد منه لا يكون مضمونا, ولو أرسل
دابته فما أصابت من فورها ضمن؛ لأن سيرها في
فورها مضاف إلى إرسالها, فكان متعديا في
الإرسال, فصار كالدافع لها أو كالسائق, فإن
عطفت يمينا وشمالا ثم أصابت, فإن لم يكن لها
طريق إلا ذلك فذلك مضمون على المرسل؛ لأنها
باقية على حكم الإرسال, وإن كان لها طريق آخر
لا يضمن؛ لأنها عطفت باختيارها فينقطع حكم
الإرسال, وصارت كالمنفلتة, ولو أرسل طيرا
فأصاب شيئا في فوره ذلك لا يضمن ذلك بالإجماع
ذكره في الزيادات فيمن أرسل بازيا في الحرم
فأتلف طيبة الحرم إنه لا يضمن؛ لأنه يفعل
باختياره وفعله جبار, ولو أغرى به كلبا حتى
عقر رجلا فلا ضمان عليه في قول أبي حنيفة رضي
الله عنه كما لو أرسل طيرا, وعند أبي يوسف
رحمه الله يضمن كما لو أرسل البهيمة وقال محمد
رحمه الله: إن كان سائقا له أو قائدا يضمن,
وإن لم يكن سائقا له ولا قائدا لا يضمن, وبه
أخذ الطحاوي رحمه الله. "وجه" قول محمد أن
العقر فعل الكلب باختياره فالأصل هو الاقتصار
عليه, وفعله جبار إلا أنه بالسوق أو القود
يصير مغريا إياه إلى الإتلاف فيصير سببا للتلف
فأشبه سوق الدابة وقودها. "وجه" قول أبي يوسف
إن إغراء الكلب بمنزلة إرسال البهيمة, فالمصاب
على فور الإرسال مضمون على المرسل, فكذا هذا,
ولأبي حنيفة رضي الله عنه: أن الكلب يعقر
باختياره, والإغراء للتحريض, وفعله جبار, ولو
دخل رجل دار غيره فعقره كلبه لا يضمن, سواء
دخل داره بإذنه أو بغير إذنه؛ لأن فعل الكلب
جبار, ولم يوجد من صاحبه التسبيب إلى العقر؛
إذ لم يوجد منه إلا الإمساك في البيت وأنه
مباح قال الله تبارك وتعالى, وهو أصدق
القائلين:
{مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا
مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}, ولو ألقى حية أو عقربا في الطريق فلدغت إنسانا فضمانه على الملقي؛
لأنه متعد في الإلقاء إلا إذا عدلت عن ذلك
الموضع إلى موضع آخر فلا يضمن لارتفاع التعدي
بالعدول إذا اصطدم فارسان فماتا فدية كل واحد
منهما على عاقلة الآخر في قول أصحابنا الثلاثة
رحمهم الله وعند زفر رحمه الله على عاقلة كل
واحد منهما نصف دية الآخر, وهو قول الشافعي
رحمه الله "وجه" قول زفر: أن كل واحد منهما
مات بفعلين: فعل نفسه, وفعل صاحبه, وهو صدمة
صاحبه, وصدمة نفسه فيهدر ما حصل بفعل نفسه,
ويعتبر ما حصل بفعل صاحبه, فيلزم أن يكون
عاقلة كل واحد منهما نصف دية الآخر, كما لو
جرح نفسه, وجرحه أجنبي فمات أن على الأجنبي
نصف الدية لما قلنا كذا هذا. "ولنا" ما روي عن
سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال مثل مذهبنا؛
ولأن كل واحد منهما مات من صدم صاحبه إياه
فيضمن صاحبه كمن بنى حائطا في الطريق, فصدم
رجلا فمات إن الدية على صاحب الحائط كذا هذا,
وبه تبين أن صدمة نفسه مع صدم صاحبه إياه فيه
غير معتبر؛ إذ لو اعتبر لما لزم باني الحائط
على الطريق جميع الدية؛ لأن الرجل قد مشى إليه
وصدمه. وكذلك حافر البئر يلزمه جميع الدية,
وإن كان الماشي قد مشى إليها رجلان مدا حبلا
حتى انقطع فسقط كل واحد منهما, فإن سقطا على
ظهرهما فماتا فلا ضمان أصلا؛ لأن كل واحد
منهما لم يمت من فعل صاحبه؛ إذ لو مات من فعل
صاحبه لخر على وجهه, فلما سقط على قفاه علم
أنه سقط بفعل نفسه, وهو مده, فقد مات كل واحد
منهما من فعل نفسه فلا ضمان على أحد, وإن سقطا
على وجهيهما فماتا فدية كل واحد منهما على
عاقلة الآخر؛ لأنه لما خر على وجهه علم أنه
مات من جذبه, وإن سقط أحدهما على ظهره, والآخر
على وجهه فماتا جميعا فدية الذي سقط على وجهه
على عاقلة الآخر؛ لأنه مات بفعله, وهو جذبه,
ودية الذي سقط على ظهره هدر؛ لأنه مات من فعل
نفسه, ولو قطع قاطع الحبل فسقطا جميعا فماتا
فالضمان على القاطع
ج / 7 ص -274-
لأنه
تسبب في إتلافهما والإتلاف تسبيبا يوجب الضمان
كحفر البئر, ونحو ذلك: صبي في يد أبيه جذبه
رجل من يده, والأب يمسكه حتى مات فديته على
الذي جذبه ويرثه أبوه؛ لأن الأب محق في
الإمساك والجاذب متعد في الجذب, فالضمان عليه,
ولو تجاذب رجلا صبيا, وأحدهما يدعي أنه ابنه,
والآخر يدعي أنه عبده, فمات من جذبهما فعلى
الذي يدعي أنه عبده ديته؛ لأنه متعد في الجذب؛
لأن المتنازعين في الصبي, إذا زعم أحدهما أنه
أبوه فهو أولى به من الذي يدعي أنه عبده فكان
إمساكه بحق, وجذب الآخر بغير حق؛ فيضمن. رجل
في يده ثوب تشبث به رجل فجذبه صاحب الثوب من
يده فخرق الثوب ضمن الممسك نصف الخرق؛ لأن حق
صاحب الثوب في دفع الممسك, وعليه دفعه بغير
جذب فإذا جذب فقد حصل التلف من فعلهما فانقسم
الضمان بينهما رجل عض ذراع رجل فجذب المعضوض
ذراعه من فيه؛ فسقطت أسنان العاض, وذهب لحم
ذراع هذا تهدر دية الأسنان, ويضمن العاض أرش
الذراع؛ لأن العاض متعد في العض, والجاذب غير
متعد في الجذب؛ لأن العض ضرر, وله أن يدفع
الضرر عن نفسه رجل جلس إلى جنب رجل فجلس على
ثوبه, وهو لا يعلم, فقام صاحب الثوب فانشق
ثوبه من جلوس هذا عليه يضمن الجالس نصف ذلك؛
لأن التلف حصل من الجلوس والجذب, والجالس متعد
في الجلوس؛ إذ لم يكن له أن يجلس عليه, فكان
التلف حاصلا من فعليهما فينقسم الضمان عليهما.
رجل أخذ بيد إنسان, فصافحه, فجذب يده من يده,
فانقلب, فمات فلا شيء عليه؛ لأن الآخذ غير
معتد في الأخذ للمصافحة بل هو مقيم سنة, وإنما
الجاذب هو الذي تعدى على نفسه حيث جذب يده لا
لدفع ضرر لحقه من الآخذ, وإن كان أخذ يده
ليعصرها, فآذاه, فجر يده ضمن الآخذ ديته؛ لأنه
هو المتعدي, وإنما صاحب اليد دفع الضرر عن
نفسه بالجر, وله ذلك, فكان الضمان على
المتعدي, فإن انكسرت يد الممسك, وهو الآخذ
بالجذب لم يضمن الجاذب؛ لأن التعدي من الممسك,
فكان جانيا على نفسه فلا ضمان على غيره, والله
سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" الثاني فنحو جناية
الحافر ومن في معناه ممن يحدث شيئا في الطريق
أو المسجد, وجناية السائق والقائد, وجناية
الناخس, وجناية الحائط "أما" جناية الحافر,
فالحفر لا يخلو "إما" إن كان في غير الملك
أصلا "وأما" إن كان في الملك, فإن كان في غير
الملك ينظر إن كان في غير الطريق بأن كان في
المفازة لا ضمان على الحافر؛ لأن الحفر ليس
بقتل حقيقة بل هو تسبيب إلى القتل إلا أن
التسبيب قد يلحق بالقتل إذا كان المسبب متعديا
في التسبيب, والمتسبب ههنا ليس بمتعد؛ لأن
الحفر في المفازة مباح مطلق فلا يلحق به,
فانعدم القتل حقيقة وتقديرا فلا يجب الضمان,
وإن كان في طريق المسلمين فوقع فيها إنسان
فمات فلا يخلو: أما إن مات بسبب الوقوع. وإما
إن مات غما أو جوعا, فإن مات بسبب الوقوع
فالحافر لا يخلو: إما إن كان حرا, وإما إن كان
عبدا, فإن كان حرا يضمن الدية؛ لأن حفر البئر
على قارعة الطريق سبب لوقوع المار فيها إذا لم
يعلم, وهو متعد في هذا التسبيب, فيضمن الدية,
وتتحمل عنه العاقلة؛ لأن التحمل في القتل
الخطأ المطلق للتخفيف على القاتل نظرا له,
والقتل بهذه الطريق دون القتل الخطأ, فكانت
الحاجة إلى التخفيف أبلغ, ولا كفارة عليه؛ لأن
وجوبها متعلق بالقتل مباشرة. والحفر ليس بقتل
أصلا حقيقة إلا أنه ألحق بالقتل في حق وجوب
الدية فبقي في حق وجوب الكفارة على الأصل,
ولأن الكفارة في الخطأ المطلق إنما وجبت شكرا
لنعمة الحياة بالسلامة عند وجود سبب فوت
السلامة, وذلك بالقتل, فإذا لم يوجد لم يجب
الشكر. وكذا لا يحرم الميراث, إن كان وارثا
للمجني عليه, ولا الوصية إن كان أجنبيا؛ لأن
حرمان الميراث والوصية حكم متعلق بالقتل قال
النبي عليه الصلاة والسلام
"لا ميراث
لقاتل" وقال عليه الصلاة والسلام
"لا وصية لقاتل"
ولم يوجد القتل حقيقة, وإن مات غما أو جوعا
فقد اختلف أصحابنا فيه قال أبو حنيفة: رضي
الله عنه لا يضمن. وقال محمد: يضمن, وقال أبو
يوسف رحمه الله إن مات غما يضمن وإن مات جوعا
لا يضمن "وجه" قول محمد رحمه الله إن الضمان
عند الموت بسبب السقوط إنما وجب لكون الحفر
تسبيبا إلى الهلاك, ومعنى التسبيب موجود ههنا؛
لأن الوقوع سبب الغم والجوع؛ لأن البئر يأخذ
نفسه, وإذا طال مكثه يلحقه الجوع, والوقوع
بسبب الحفر, فكان مضافا إليه, كما إذا حبسه في
موضع حتى مات "وجه" قول أبي يوسف أن الغم من
آثار
ج / 7 ص -275-
الوقوع, فكان مضافا إلى الحفر, فأما الجوع
فليس من آثاره, فلا يضاف إلى الحفر ولأبي
حنيفة رحمه الله أنه لا صنع للحافر في الغم,
ولا في الجوع حقيقة؛ لأنهما يحدثان بخلق الله
تعالى لا صنع للعبد فيهما أصلا لا مباشرة, ولا
تسبيبا أما المباشرة فلا شك في انتقائها. وأما
التسبيب فلأن الحفر ليس بسبب للجوع لا شك فيه؛
لأنه لا ينشأ منه بل من سبب آخر, والغم ليس من
لوازم البئر فإنها قد تغم, وقد لا تغم, فلا
يضاف ذلك إلى الحفر, وإن أصابته جناية فيما
دون النفس فضمانها على الحافر؛ لأنها حصلت
بسبب الوقوع, والوقوع بسبب الحفر, ثم إن بلغ
القدر الذي تتحمله العاقلة حمله عليهم, وإلا
فيكون في ماله, وكذا إذا كان الواقع غير بني
آدم؛ لأن ضمان المال لا تتحمله العاقلة كما لا
تتحمل سائر الديون ثم إن جنايات الحفر, وإن
كثرت من الحر يجب عليه لكل جناية أرشها ولا
يسقط شيء من ذلك بشيء منه ولا يشرك المجني
عليهم فيما يجب لكل واحد منهم؛ لأنه بالحفر
جنى على كل واحد منهم بحياله, فيؤخذ بكل واحدة
من الجنايات بحيالها, هذا هو الأصل, وإن كان
الحافر عبدا, فإن كان قنا فجنايته بالحفر
بمنزلة جنايته بيده, وقد ذكرنا حكم ذلك فيما
تقدم, وهو أن يخاطب المولى بالدفع أو الفداء,
قلت جنايته أو كثرت غير أنه إن كان المجني
عليه واحدا يدفع إليه أو يفدي, وإن كانوا
جماعة يدفع إليهم أو يفدي بجميع الأروش؛ لأن
جنايات القن في رقبته يقال للمولى: ادفع أو
أفد, والرقبة تتضايق عن الحقوق فيتضاربون في
الرقبة, والواجب بجناية الحر يتعلق بذمة
العاقلة, والذمة لا تتضايق عن الحقوق, فإن وقع
فيها واحد فمات فدفعه المولى إلى ولي جنايته
ثم وقع آخر يشارك الأول في الرقبة المدفوعة.
وكذلك الثالث والرابع فكلما يحدث من جناية بعد
الدفع فإنهم يشاركون المدفوع إليه الأول في
رقبة العبد, وكل واحد منهم يضرب بقدر جنايته؛
لأن المولى بالدفع إلى الأول خرج عن عهدة
الجناية؛ لأنه فعل ما وجب عليه فخرج عن عهدة
الواجب ثم الجناية في حق الثاني والثالث حصلت
بسبب الحفر أيضا, والحكم فيها وجوب الدفع,
فكان الدفع إلى الأول دفعا إلى الثاني والثالث
لاستواء الكل في سبب الوجوب كأنه دفعه إلى
الأول دفعة واحدة, ولو حفرها ثم أعتقه المولى
بعد الحفر قبل الوقوع ثم لحقت الجنايات, فذلك
على المولى في قيمته يوم عتق يشترك فيها أصحاب
الجنايات التي كانت قبل العتق وبعده يضرب في
ذلك كل واحد بقدر أرش الجناية؛ لأن جناية
القن, وإن كثرت فالواجب فيها الدفع والولي
بالإعتاق فوت الدفع من غير اختيار الفداء
فتعتبر قيمته وقت الإعتاق؛ لأن فوات الدفع حصل
بالإعتاق فتعتبر قيمته يوم الإعتاق بخلاف
المدبر أنه لا تعتبر قيمته يوم التدبير بل يوم
الجناية, وإن كان فوات الدفع بالتدبير, لكن
التدبير إنما يصير سببا عند وجود شرطه, وهو
الجناية فتعتبر قيمته حينئذ على ما بينا فيما
تقدم, وإن كان الحافر مدبرا أو أم ولد فعلى
المولى قيمة واحدة قلت الجناية أو كثرت وتعتبر
قيمته يوم الجناية, وهو يوم الحفر ولا تعتبر
زيادة القيمة ونقصانها؛ لأنه صار جانيا بسبب
الحفر عند الوقوع فتعتبر قيمته وقت الجناية
كما إذا جنى بيده, وإن كان مكاتبا فجنايته على
نفسه لا على مولاه, كما إذا جنى بيده, وتعتبر
قيمته يوم الحفر؛ لما بينا, ولو حفر بئرا في
الطريق, فجاء إنسان, ودفع إنسانا, وألقاه فيها
فالضمان على الدافع لا على الحافر؛ لأن الدافع
قاتل مباشرة ولو وضع رجل حجرا في قعر البئر
فسقط إنسان فيها لا ضمان على الحافر مع الواضع
ههنا كالدافع مع الحافر, ولو جاء رجل فحفر من
أسفلها ثم وقع فيها إنسان فالضمان على الأول
كذا ذكر الكرخي وذكر محمد رحمه الله في الكتاب
ينبغي في القياس أن يضمن الأول ثم قال: وبه
نأخذ ولم يذكر الاستحسان, وذكر القاضي في شرحه
مختصر الطحاوي رحمه الله في الاستحسان: الضمان
عليهما لاشتراكهما في الجناية, وهي الحفر
فيشتركان في الضمان. "وجه" القياس: أن سبب
الوقوع حصل من الأول, وهو الحفر بإزالة
المسكة, والحفر من الثاني بمنزلة نصب السكين
أو وضع الحجر في قعر البئر, فكان الأول
كالدافع, فكان الضمان عليه, ولو حفر رجل بئرا
فجاء إنسان ووسع رأسها فوقع فيها إنسان
فالضمان عليهما نصفان هكذا أطلق في الكتاب,
ولم يفصل, وقيل: جواب الكتاب محمول على ما إذا
وسع قليلا بحيث يقع رجل في حفرهما "فأما" إذا
وسع كثيرا بحيث يقع قدمه في حفر الثاني
فالضمان على الثاني لا على الأول؛ لأن التوسع
إذا كان قليلا بحيث يقع قدمه في حفرهما كان
الوقوع بسبب
ج / 7 ص -276-
وجد
منهما, وهو حفرهما فكان الضمان عليهما وإذا
كان كثيرا كان الوقوع بسبب وجد من الثاني فكان
الضمان عليه, ولو حفر بئرا ثم كبسها فجاء رجل,
وأخرج ما كبس, فوقع فيها إنسان فالكبس لا
يخلو: إما إن كان بالتراب والحجارة "وأما" إن
كان بالحنطة والشعير, فإن كان بالأول فالضمان
على الثاني, وإن كان بالثاني فالضمان على
الأول؛ لأن الكبس بالتراب والحجارة يعد طما
للبئر, وإلحاقا له بالعدم, فكان إخراج ذلك
منها بمنزلة إخراج بئر أخرى "فأما" الحنطة
والشعير ونحوهما فلا يعد ذلك طما بل يعد شغلا
لها. ألا يرى أنه بقي أثر الحفر بعد الكبس
بالحنطة والشعير, ولا يبقى أثره بعد الكبس
بالتراب والحجارة, ولو حفر بئرا وسد الحافر
رأسها ثم جاء إنسان فنقضه, فوقع فيها إنسان
فالضمان على الحافر؛ لأن أثر الحفر لم ينعدم
بالسد, لكن السد صار مانعا من الوقوع, والفاتح
بالفتح أزال المانع, وزوال المانع شرط للوقوع,
والحكم يضاف إلى السبب لا إلى الشرط, ولو وضع
رجل حجرا في الطريق فتعثر عليه رجل فوقع في
بئر حفرها آخر فالضمان على واضع الحجر؛ لأن
الوقوع بسبب التعثر, والتعثر بسبب وضع الحجر,
والوضع تعد منه فكان التلف مضافا إلى وضع
الحجر, فكان الضمان على واضعه, وإن كان لم
يضعه أحد, ولكنه حمل السيل فالضمان على
الحافر؛ لأنه لا يمكن أن يضاف إلى الحجر لعدم
التعدي منه, فيضاف إلى الحافر؛ لكونه متعديا
في الحفر, ولو اختلف الحافر وورثة الميت فقال
الحافر: هو ألقى نفسه فيها متعمدا. وقال
الورثة: بل وقع فيها فالقول قول الحافر في قول
أبي يوسف الآخر, وهو قول محمد وفي قول أبي
يوسف الأول: القول قول الورثة. "وجه" قوله
الأول: أن الظاهر شاهد للورثة؛ لأن العاقل لا
يلقي نفسه في البئر عمدا, والقول قول من يشهد
له الظاهر. "وجه" قوله الآخر: أن حاصل
الاختلاف يرجع إلى وجوب الضمان, فالورثة يدعون
على الحافر الضمان, وهو ينكر, والقول قول
المنكر مع يمينه, وما ذكر من الظاهر معارض
بظاهر آخر, وهو أن الظاهر أن المار على الطريق
الذي يمشي فيه يرى البئر فتعارض الظاهران فبقي
الضمان على أصل العدم. ولو حفر بئرا في الطريق
فوقع رجل فيها فتعلق بآخر, وتعلق الثاني
بثالث, فوقعوا, فماتوا فهذا في الأصل لا يخلو
من أحد وجهين: "أما" إن علم حال موتهم بأن
خرجوا أحياء فأخبروا عن حالهم. "وإما" إن لم
يعلم, فإن علم ذلك "فأما" موت الأول فلا يخلو
من سبعة أوجه "إما" إن علم أنه مات بوقوعه في
البئر خاصة. "وإما" إن علم أنه مات بوقوع
الثاني عليه خاصة. "وإما" إن علم إن مات بوقوع
الثالث عليه خاصة. "وإما" إن علم أنه مات
بوقوع الثاني والثالث عليه. "وإما" إن علم أنه
مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه.
"وإما" إن علم أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع
الثالث عليه, وإما إن علم أنه مات بوقوعه في
البئر ووقوع الثاني والثالث عليه, فإن علم أنه
مات بوقوعه في البئر خاصة فالضمان على الحافر؛
لأن الحافر هو القاتل تسبيبا, وهو متعد فيه,
فكان الضمان عليه, فإن علم أنه مات بوقوع
الثاني عليه خاصة فدمه هدر؛ لأنه هو الذي قتل
نفسه حيث جره على نفسه, وجناية الإنسان على
نفسه هدر, وإن علم أنه مات بوقوع الثالث عليه
خاصة فالضمان على الثاني؛ لأن الثاني هو الذي
جر الثالث على الأول حتى أوقعه عليه, وإن علم
أنه مات بوقوع الثاني والثالث عليه فنصفه هدر,
ونصفه على الثاني؛ لأن جره الثاني على نفسه
هدر؛ لأنه جناية على نفسه وجر الثاني والثالث
عليه معتبر فهدر النصف وبقي النصف. وإن علم
أنه مات بوقوعه في البئر ووقوع الثاني عليه
فالنصف على الحافر لوجود الجناية منه بالحفر
والنصف هدر لجره الثاني على نفسه, وإن علم أنه
مات بوقوعه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف
على الحافر, والنصف على الثاني؛ لأنه هو الذي
جر الثالث على الأول, وإن علم أنه مات بوقوعه
في البئر ووقوع الثاني والثالث عليه فالثلث
هدر, والثلث على الحافر, والثلث على الثاني؛
لأنه مات بثلاث جنايات: أحدهما هدر, وهي جره
الثاني على نفسه فبقيت جناية الحافر, وجناية
الثاني بجرة الثالث على الأول فتعتبر. "وأما"
موت الثاني فلا يخلو من ثلاثة أوجه: "إما" إن
علم أنه مات بوقوعه في البئر خاصة, وإما إن
علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة, وإما إن
علم أنه مات بوقوع في البئر, ووقوع الثالث
عليه, فإن علم أنه مات بسقوطه في البئر خاصة
فديته على الأول, وليس على الحافر شيء لأن
الأول هو الذي جره إلى البئر, فكان كالدافع,
وإن علم أنه مات بوقوع الثالث عليه خاصة فدمه
هدر؛ لأنه مات بفعل
ج / 7 ص -277-
نفسه
حيث جر الثالث على نفسه فهدر دمه, وإن علم أنه
مات بسقوطه في البئر ووقوع الثالث عليه فالنصف
هدر, والنصف على الأول؛ لأنه مات بشيئين:
أحدهما فعل نفسه, وهو جره الثالث على نفسه
وجنايته على نفسه هدر, والثاني فعل غيره, وهو
جر الأول وإيقاعه في البئر. وأما موت الثالث
فله وجه واحد لا غير, وهو سقوطه في البئر,
وديته على الثاني؛ لأنه هو الذي جره إلى البئر
وأوقعه فيه هذا كله إذا علم حال وقوعهم. وأما
إذا لم يعلم فلا يخلو: إما أن وجد بعضهم على
بعض, وإما إن وجدوا متفرقين, فإن كانوا
متفرقين فدية الأول على الحافر, ودية الثاني
على الأول, ودية الثالث على الثاني, وإن كان
بعضهم على بعض فالقياس هكذا أيضا, وهو أن يكون
دية الأول على الحافر, ودية الثاني على الأول,
ودية الثالث على الثاني, وهو قول محمد رحمه
الله وفي الاستحسان: دية الأول أثلاث: ثلث على
الحافر, وثلث على الثاني, وثلث هدر, ودية
الثاني نصفان: نصف هدر ونصف على الأول, ودية
الثالث كلها على الثاني, ولم يذكر محمد رحمه
الله في الاستحسان: أنه قول من وجه القياس أنه
وجد لموت كل واحد سبب ظاهر, وهو الحفر للأول,
والجر من الأول للثاني, والجر من الثاني
للثالث, وإضافة الأحكام إلى الأسباب الظاهرة
أصل في الشريعة. "وجه" الاستحسان أنه اجتمع في
الأول ثلاثة أسباب كل واحد منها صالح للموت:
وقوعه في البئر, ووقوع الثاني, ووقوع الثالث
عليه إلا أن وقوع الثاني عليه حصل بجره إياه
على نفسه فهدر الثلث وبقي الثلثان: ثلث على
الحافر بحفره: وثلث على الثاني بجره الثالث
على نفسه, ووجد في الثاني شيئان: الحفر, ووقوع
الثالث عليه إلا أن وقوعه عليه حصل بجره فهدر
نصف الدية, وبقي النصف على الحافر, ولم يوجد
في الثالث إلا سبب واحد, وهو جر الثاني إياه
إلى البئر, والأصل في الأسباب اعتبارها ما
أمكن, واعتبارها يقتضي أن يكون الحكم ما
ذكرنا, والله تعالى أعلم. ولو استأجر رجلا
ليحفر له بئرا في الطريق فحفر فوقع فيها
إنسان, فإن كانت البئر في فناء المستأجر
فالضمان عليه لا على الأجير؛ لأن له ولاية
الانتفاع بفنائه إذا لم يتضمن الضرر بالمارة
على أصلهما مطلقا, وعلى أصل أبي حنيفة رحمه
الله إذا لم يمنع منه مانع فانصرف مطلق الأمر
بالحفر إليه, فإذا حفر في فنائه انتقل فعل
المأمور إليه كأنه حفر بنفسه, فوقع فيها
إنسان, ولو كان كذلك وجب الضمان عليه كذا هذا,
وإن لم يكن ذلك في فنائه, فإن أعلم المستأجر
الأجير أن ذلك ليس من فنائه فالضمان على
الأجير لا على الآمر؛ لأن الأجير لم يحفر
بأمره فبقي فعله مقصورا عليه كأنه ابتدأ الحفر
من نفسه من غير أمر فوقع فيها إنسان, وإن لم
يعلمه فالضمان على الآمر؛ لأنه غره بالأمر
بحفر البئر في الطريق مطلقا إنما يأمر بما
يملكه مطلقا عادة, فيلزمه ضمان الغرور, وهو
ضمان الكفالة في الحقيقة كأنه ضمن له ما يلزمه
من الحفر بمنزلة ضمان الدرك. ولو أمر عبده أن
يحفر بئرا في الطريق فحفر فوقع فيها إنسان فإن
كان الحفر في فنائه فالضمان على عاقلة المولى؛
لأنه يملك الأمر بالحفر في هذا المكان فينتقل
فعله إلى المولى كأنه حفر بنفسه, وإن كان في
غير فنائه فالضمان في رقبة العبد يخاطب المولى
بالدفع أو الفداء؛ لأن الأمر بالحفر لا ينصرف
إلى غير فنائه فصار مبتدئا في الحفر بنفسه
سواء أعلم العبد أنه ليس من فنائه أو لم يعلمه
بخلاف الأجير؛ لأن وجوب الضمان على الآمر هناك
بمعنى الغرور على ما بينا, ولا يتحقق الغرور
فيما بين العبد وبين مولاه, فيستوي فيه العلم
والجهل, وإن كان الحفر في الملك فإن كان الحفر
في ملك غيره بأن حفر بئرا في دار إنسان بغير
إذنه فوقع فيها إنسان يضمن الحافر؛ لأنه متعد
في التسبيب, ولو قال صاحب الدار: أنا أمرته
بالحفر وأنكر أولياء الميت فالقياس أن لا يصدق
صاحب الدار, والقول قول الورثة, وفي
الاستحسان: يصدق والقول قول الحافر. "وجه"
القياس أن الحفر وقع موجبا للضمان ظاهرا؛ لأنه
صادف ملك الغير, وأنه محظور, فكان متعديا في
الحفر من حيث الظاهر, فصاحب الدار بالتصديق
يريد إبراء الجاني عن الضمان فلا يصدق. "وجه"
الاستحسان: أن قول صاحب الدار: أمرته بذلك
إقرار منه بما يملك إنشاءه للحال, وهو الأمر
بالحفر فيصدق, وإن كان في ملك نفسه لا ضمان
عليه؛ لأن الحفر مباح مطلق له, فلم يكن متعديا
في التسبيب, وإن كان في فنائه يضمن؛ لأن
الانتفاع به مباح بشرط السلامة كالسير في
الطريق. ولو استأجر أربعة يحفرون له بئرا,
فوقعت عليهم من حفرهم, فمات أحدهم فعلى كل
واحد من الثلاثة ربع الدية, وهدر
ج / 7 ص -278-
الربع؛
لأنه مات من أربع جنايات إلا أن جناية المرء
على نفسه هدر, فبطل الربع, وبقي جنايات أصحابه
عليه, فتعتبر, ويجب عليهم ثلاث أرباع الدية
على كل واحد منهم الربع. وقد روى الشعبي عن
سيدنا علي رضي الله عنه أنه قضى على القارصة
والقامصة والواقصة بالدية أثلاثا وهن ثلاث
جوار ركبت إحداهن الأخرى فقرصت الثالثة
المركوبة فقمصت فسقطت الراكبة فقضى للتي وقصت
بثلثي الدية على صاحبتها, وأسقط الثلث؛ لأن
الواقصة أعانت على نفسها وروي أن عشرة مدوا
نخلة فسقطت على أحدهم, فمات فقضى سيدنا علي
رضي الله عنه على كل واحد منهم بعشر الدية,
وأسقط العشر؛ لأن المقتول أعان على نفسه. ولو
استأجر أجراء حرا وعبدا محجورا ومكاتبا يحفرون
له بئرا, فوقعت البئر عليهم من حفرهم, فماتوا
فلا ضمان على المستأجر في الحر ولا في
المكاتب, ويضمن قيمة العبد المحجور لمولاه أما
الحر والمكاتب فلأنه لم يوجد فيهما من
المستأجر سبب وجوب الضمان؛ لأن استئجارهما وقع
صحيحا, فكان استعماله إياهما في الحفر بناء
على عقد صحيح, فلا يكون سببا لوجوب الضمان,
ووقوع البئر عليهما حصل من غير صنعه فلا يجب
الضمان عليه. وأما العبد فلأن استئجاره لم
يصح, فصار المستأجر باستعماله في الحفر غاصبا
إياه فدخل في ضمانه, فإذا هلك فقد تقرر
الضمان, فعليه قيمته لمولاه ثم إذا دفع قيمته
إلى المولى فالمولى يدفع القيمة إلى ورثة الحر
والمكاتب فيتضاربون فيها فيضرب ورثة الحر بثلث
دية الحر وورثة المكاتب بثلث قيمة المكاتب.
وإنما كان كذلك؛ لأن موت كل واحد منهم حصل
بثلاث جنايات: بجناية نفسه, وجناية صاحبيه,
فصار قدر الثلث من الحر والمكاتب تالفا بجناية
العبد, وجناية القن توجب الدفع, ولو كان قنا
لوجب دفعه إلى ورثة الحر والمكاتب يتضاربون في
رقبته على قدر حقوقهم, فإذا هلك وجب دفع
القيمة إليهم يتضاربون فيها أيضا فيضرب ورثة
الحر فيها بثلث دية الحر, وورثة المكاتب بثلث
قيمة المكاتب؛ لأن الحر مضمون بالدية,
والمكاتب مضمون بالقيمة ثم يرجع المولى على
المستأجر بقيمة العبد مرة أخرى, ويسلم له تلك
القيمة؛ لأنه, وإن رد المغصوب إلى المغصوب منه
برد قيمته إليه, لكنه رده مشغولا, وقد كان
غصبه فارغا, فلم يصح رده في حق الشغل, فيضمن
القيمة مرة أخرى, وللمستأجر أن يرجع على عاقلة
الحر بثلث قيمة العبد؛ لأن ملك العبد بالضمان
من وقت الغصب فتبين أن الجناية حصلت من الحر
على ثلث عبد المستأجر, فيضمن ثلث قيمته فتؤخذ
من عاقلته, ويأخذ ورثة المكاتب أيضا من عاقلة
الحر ثلث قيمة المكاتب لوجود الجناية من الحر
على ثلث قيمته فيضمن ثلث قيمته, فتؤخذ من
عاقلته ثم يؤخذ من تركة المكاتب مقدار قيمته
فتكون بين ورثة الحر وبين المستأجر؛ لوجود
الجناية منه على الحر وعلى العبد يضرب ورثة
الحر بثلث دية الحر, ويضرب المستأجر بثلث قيمة
العبد لأنه جنى على ثلث الحر وعلى ثلث العبد
فأتلف من كل واحد منهما ثلثه, والحر مضمون
بالدية, والعبد بالقيمة, وقد ملك المستأجر
العبد بالضمان, فكان ضمان الواردة على ملكه,
والله سبحانه وتعالى أعلم. وقالوا فيمن حفر
بئرا في سوق العامة لمصلحة المسلمين فوقع فيها
إنسان ومات: أنه إن كان الحفر بإذن السلطان لا
يضمن, وإن كان بغير إذنه يضمن, وكذلك اتخذ
قنطرة للعامة. وروي عن أبي يوسف أنه لا يضمن
"ووجهه" أن ما كان من مصالح المسلمين كان
الإذن به ثابتا دلالة, والثابت دلالة, كالثابت
نصا. "وجه" ظاهر الرواية أن ما يرجع إلى مصالح
عامة المسلمين كان حقا لهم, والتدبير في أمر
العامة إلى الإمام, فكان الحفر فيه بغير إذن
الإمام كالحفر في دار إنسان بغير إذن صاحب
الدار, هذا الذي ذكرنا حكم الحافر في الطريق,
وكذلك من كان في معنى الحافر ممن يحدث شيئا في
الطريق, كمن أخرج جناحا إلى طريق المسلمين, أو
نصب فيه ميزابا, فصدم إنسانا, فمات, أو بنى
دكانا, أو وضع حجرا أو خشبة أو متاعا, أو قعد
في الطريق ليستريح, فعثر بشيء من ذلك عاثر,
فوقع, فمات أو وقع على غيره, فقتله أو حدث به
أو بغيره من ذلك العثرة والسقوط جناية من قتل
أو غيره, أو صب ماء في الطريق فزلق به إنسان,
فهو في ذلك كله ضامن. وكذلك ما عطب بذلك من
الدواب؛ لأنه سبب التلف بإحداث هذه الأشياء,
وهو متعد في التسبيب, فما تولد منه, يكون
مضمونا عليه, كالمتولد من الرمي ثم ما كان من
الجناية في بني آدم تتحملها العاقلة إذا بلغت
ج / 7 ص -279-
القدر
الذي تتحمل العاقلة, وهو نصف عشر دية الرجل.
وما لم يبلغ ذلك القدر, أو كان منها في غير
بني آدم يكون في ماله؛ لأن تحميل العاقلة ثبت
بخلاف القياس لعدم الجناية منهم, وقد قال الله
تبارك وتعالى
{وَلا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى}
عرفناه بنص خاص في بني آدم بهذا القدر فبقي
الأمر فيما دونه, وفي غير بني آدم على الأصل
ولا كفارة عليه. ولا يحرم الميراث لو كان
وارثا للمجني عليه, ولا الوصية لو كان أجنبيا؛
لأنه لم يباشر القتل, وقد قالوا فيمن وضع
كناسة في الطريق فعطب بها إنسان: إنه يضمن؛
لأن التلف حصل بوضعه, وهو في الوضع معتد. وقال
محمد: إن وضع ذلك في طريق غير نافذة, وهو من
أهله لم يضمن لعدم التعدي منه؛ إذ الطريق
مشترك بين أهل السكة, فيكون لكل واحد من أهلها
الانتفاع به كالدار المشتركة, ولو سقط الميزاب
الذي نصبه صاحب الدار إلى طريق المسلمين على
إنسان فقتله إن أصابه الطرف الداخل في الحائط
لم يضمن؛ لأنه في ذلك القدر متصرف في ملك
نفسه, فلم يكن متعديا فيه, وإن أصابه الطرف
الخارج إلى الطريق يضمن؛ لأنه متعد في إخراجه
إلى الطريق, وإن أصابه الطرفان جميعا يضمن
النصف؛ لأنه متعد في النصف لا غير, وإن كان لا
يدري فالقياس: أن لا يضمن شيئا؛ لأنه إن كان
أصابه الطرف الداخل لا: يضمن. وإن كان أصابه
الطرف الخارج: يضمن: والضمان لم يكن واجبا
فوقع الشك في وجوبه فلا يجب بالشك, وفي
الاستحسان: يضمن النصف؛ لأنه إذا لم يعرف
الطرف الذي أصابه إنه الداخل أو الخارج يجعل
كأنه أصابه الطرفان جميعا كما في الغرقى
والحرقى إنه إذا لم يعرف التقدم والتأخر في
موتهم يجعل كأنهم ماتوا جملة واحدة في أوان
واحد حتى لا يرث البعض من البعض كذا هذا. ولو
أحدث شيئا مما ذكرنا في المسجد بأن حفر بئرا
في المسجد لأجل الماء أو بنى فيه بناء: دكانا
أو غيره, فعطب به إنسان, فإن كان الحافر
والباني من أهل المسجد فلا ضمان عليه, وإن كان
من غير أهله فإن فعل بإذن أهل المسجد فكذلك,
وإن فعل بغير إذنهم يضمن بالإجماع؛ لأن تدبير
مصالح المسجد إلى أهل المسجد, فما فعلوه لا
يكون مضمونا عليهم, كالأب أو الوصي إذا فعل
شيئا من ذلك في دار اليتيم, ومتولي الوقف إذا
فعل في الوقف. وأما غير أهل المسجد فليس له
ولاية التصرف في المسجد بغير إذن أهل المسجد,
فإذا فعل بغير إذنهم كان متعديا في فعله, فكان
مضمونا, ولو علق قنديلا أو بسط حصيرا أو ألقى
فيه الحصى, فإن كان من أهل المسجد فلا ضمان
عليه, وإن لم يكن من أهل ذلك المسجد, فإن فعله
بإذن أهل المسجد فكذلك, وإن فعل بغير إذنهم
يضمن في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي
قولهما لا يضمن. "وجه" قولهما أن المسجد لعامة
المسلمين فكان كل واحد من آحاد المسلمين بسبيل
من إقامة مصالحه؛ ولأن هذه المصالح من عمارة
المسجد, وقد قال الله تبارك وتعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} من غير تخصيص إلا أن لأهل المسجد ضرب اختصاص به فيظهر ذلك في
التصرف في نفسه بالحفر والبناء لا في القنديل
والحصير, كالمالك مع المستعير أن للمستعير
ولاية بسط الحصير, وتعليق القنديل في دار
الإعارة, وليس له ولاية الحفر والبناء كذا هذا
ولأبي حنيفة رحمه الله ما ذكرنا أن التدبير في
مصالح المسجد إلى أهل المسجد لا إلى غيرهم
بدليل أن لهم ولاية منع غيرهم عن التعليق
والبسط وعمارة المسجد, فكان الغير متعديا في
فعله فالمتولد منه يكون مضمونا عليه, كما لو
وضع شيئا في دار غيره بغير إذنه, فعطب به
إنسان. ولهذا ضمن بالحفر والبناء كذا هذا.
وكون المسجد لعامة المسلمين لا يمنع اختصاص
أهله بالتدبير والنظر في مصالحه كالكعبة,
فإنها لجميع المسلمين ثم اختص بنو شيبة
بمفاتحها حتى روي أنه عليه الصلاة والسلام لما
أخذ مفاتح الكعبة منهم, ودفعه إلى عمه العباس
رضي الله عنه عند طلبه ذلك أمره الله تبارك
وتعالى برده إلى بني شيبة بقوله تبارك وتعالى:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى
أَهْلِهَا}. ولو
جلس في المسجد فعطب به إنسان إن كان في الصلاة
لا يضمن الجالس سواء كان الجالس من أهل المسجد
أو لم يكن من أهله؛ لأن المسجد بني للصلاة,
فلو أخذ المصلي بالضمان لصار الناس ممنوعين عن
الصلاة في المساجد, وهذا لا يجوز, وإن جلس
لحديث أو نوم فعطب به إنسان يضمن في قول أبي
حنيفة رحمه الله تعالى وفي قولهما: لا يضمن.
وجه قولهما: أن الجلوس في المسجد لغير الصلاة
من الحديث والنوم مباح فلم
ج / 7 ص -280-
يكن
الهلاك حاصلا بسبب هو متعد فيه فلا يجب
الضمان, كما لو جلس في داره فعبر عليه إنسان
فعطب به أنه لا يضمن كذا هذا, ولأبي حنيفة رضي
الله عنه أن المسجد بني للصلاة لا للحديث
والنوم, فإذا شغله بذلك صار متعديا فيضمن, كما
لو جلس في الطريق للاستراحة فعطب به إنسان أنه
يضمن؛ لأن الطريق جعل للاجتياز لا للجلوس,
وإذا جلس فقد صار متعديا فيضمن كذا هذا,
وقولهما الحديث والنوم مباح في المسجد مسلم
لكن بشرط سلامة العاقبة ولم يوجد الشرط فكان
تعديا, ولو جلس لانتظار الصلاة أو لقراءة قرآن
أو لعبادة من العبادات غير الصلاة فلا شك أن
على أصلهما لا يضمن؛ لأنه لو جلس لغير قربة لا
يضمن فإذا جلس لقربة فهو أولى. وأما على أصل
أبي حنيفة رضي الله عنه فقد اختلف المشايخ
فيه, قال بعضهم: لا يضمن؛ لأن المنتظر للصلاة
في الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه
وسلم وقال بعضهم: يضمن؛ لأنه ليس في الصلاة
حقيقة, وإنما ألحق بالمصلي في حق الثواب لا
غير, والله تعالى أعلم. ومن هذا الجنس جناية
السائق والقائد بأن ساق دابة في طريق المسلمين
أو قادها فوطئت إنسانا بيديها أو برجلها أو
كدمت أو صدمت أو خبطت فهو ضامن لما ذكرنا من
الأصل أن السوق والقود في الطريق مباح بشرط
سلامة العاقبة, فإذا حصل التلف بسببه, ولم
يوجد الشرط فوقع تعديا فالمتولد منه فيما يمكن
التحرز عنه يكون مضمونا, وهذا مما يمكن
الاحتراز عنه بأن يذود الناس عن الطريق فيكون
مضمونا. وسواء كان السائق أو القائد راجلا أو
راكبا إلا أنه إذا كان راكبا فعليه الكفارة
إذا وطئت دابته إنسانا بيديها أو برجلها,
ويحرم الميراث والوصية, وإن كان راجلا لا
كفارة عليه, ولا يحرم الميراث والوصية؛ لأن
هذه الأحكام يتعلق ثبوتها بمباشرة القتل لا
بالتسبيب والمباشرة من الراكب لا من غيره, وإن
كان أحدهما سائقا والآخر قائدا فالضمان
عليهما؛ لأنهما اشتركا في التسبيب فيشتركان في
الضمان. وكذلك إذا كان أحدهما سائقا والآخر
راكبا, أو كان أحدهما قائدا والآخر راكبا,
فالضمان عليهما لوجود سبب وجوب الضمان من كل
واحد منهما إلا أن الكفارة تجب على الراكب
وحده فيما وطئت دابته إنسانا فقتلته لوجود
القتل منه وحده مباشرة. فإن قاد قطارا فما
أصاب الأول أو الآخر أو الأوسط إنسانا بيد أو
رجل أو صدم إنسانا فقتله فهو ضامن لذلك؛ لأنه
فعل فعلا هو سبب حصول التلف فيضمن, وهو مما
يمكن الاحتراز عنه, كما إذا وضع حجرا في
الطريق أو حفر فيه بئرا, فإن كان معه سائق في
آخر القطار فالضمان عليهما؛ لأن كل واحد منهما
سبب التلف, وإن كان السائق في وسط القطار فما
أصاب مما خلف هذا السائق وما بين يديه شيئا
فهو عليهما؛ لأن ما بين يديه هو له سائق,
والأول له قائد, وما خلفه هما له قائدان "أما"
قائد القطار فلا شك فيه؛ لأن بعضه مربوط ببعض.
"وأما" السائق الذي في وسط القطار فلأنه بسوقه
ما بين يديه قائد لما خلفه لأن ما خلفه ينقاد
بسوقه, فكان قائدا له, والقود والسوق كل واحد
منهما سبب لوجوب الضمان لما بينا, وإن كان
أحيانا في وسط القطار, وأحيانا يتأخر, وأحيانا
يتقدم, وهو يسوقها في ذلك فهو والأول سواء؛
لأنه سائق وقائد والسوق والقود كل واحد منهما
سبب لوجوب الضمان, وإن كانوا ثلاثة أحدهم في
مقدمة القطار, والآخر في مؤخرة القطار, وآخر
في وسطه, فإن كان الذي في الوسط والمؤخر لا
يسوقان, ولكن المقدم يقود فما أصاب الذي قدام
الوسط شيئا فذلك كله على القائد؛ لأن التلف
حصل بسبب القود, وما أصاب الذي خلفه فذلك على
القائد الأول وعلى الذي في الوسط؛ لأنهما
قائدان لما بينا وعلى المؤخر أيضا إن كان يسوق
هو, وإن كان لا يسوق لا شيء عليه؛ لأنه لم
يوجد منه صنع, وإن كانوا جميعا يسوقون فما تلف
بذلك فضمانه عليهم جميعا لوجود التسبيب منهم
جميعا, وذكر محمد رحمه الله في الكيسانيات لو
أن رجلا يقود قطارا, وآخر من خلف القطار يسوقه
يزجر الإبل فينزجرن بسوقه, وعلى الإبل قوم في
المحامل نيام, فوطئ بعير منها إنسانا فقتله
فالدية على عاقلة القائد والسائق والراكب على
البعير الذي وطئ, وعلى الراكبين على الذين
قدام البعير الذي وطئ على عواقلهم جميعا على
عدد الرءوس, والكفارة على راكب البعير الذي
وطئ خاصة, أما السائق والقائد فلأنهما مقربان
القطار إلى الجناية, فكانا مسببين للتلف.
"وأما" الراكب للبعير الذي وطئ فلا شك فيه؛
لأن التلف حصل بفعله
ج / 7 ص -281-
"وأما" الراكبون أمام البعير الذي وطئ فلأنهم
قادة لجميع ما خلفهم, فكانوا قائدين للبعير
الواطئ ضرورة, فكانوا مسببين للتلف أيضا
فاشتركوا في سبب وجوب الضمان فانقسم الضمان
عليهم. وإنما كانت الكفارة على راكب البعير
الذي وطئ خاصة؛ لأنه قاتل بالمباشرة لحصول
التلف بثقله وثقل الدابة إلا أن الدابة آلة
له, فكان الأثر الحاصل بفعله مضافا إليه, فكان
قاتلا بالمباشرة, ومن كان من الركبان خلف
البعير الذي وطئ لا يزجر الإبل, ولا يسوقها
راكبا على بعير منها أو غير راكب فلا ضمان على
أحد منهم؛ لأنه لم يوجد منهم سبب وجوب الضمان؛
إذ لم يسرقوا البعير الذي وطئ, ولم يقودوه
فصاروا كالمتاع على الإبل, ولو قاد قطارا,
وعلى بعير في وسط القطار راكب لا يسوق منه
شيئا فضمان ما كان بين يديه على القائد خاصة,
وضمان ما خلفه عليهما جميعا؛ لأن الراكب غير
سائق لما بين يديه؛ لأن ركوبه لهذا البعير لا
يكون سوقا لما بين يديه كما أن مشيه إلى جانب
البعير لا يكون سوقا إياه إذا لم يسقه, ولكنه
سائق لما ركبه؛ لأن البعير إنما يسير بركوب
الراكب وحثه, وإذا كان سائقا له كان قائدا لما
خلفه, فكان ضمانه عليهما. وإذا كان الرجل يقود
قطارا, فجاء رجل, وربط إليه بعيرا فوطئ البعير
إنسانا فالقائد لا يخلو: إما إن كان لا يعلم
بربطه, وإما إن علم ذلك, فإن لم يعلم فالدية
على القائد تتحمل عنه عاقلته ثم عاقلته يرجعون
على عاقلة الرابط "أما" وجوب الدية على القائد
فلأنه قاتل تسبيبا, وضمان القتل ضمان إتلاف
وإنه لا يختلف بالعلم والجهل "وأما" رجوع
عاقلة القائد على عاقلة الرابط فلأن الرابط
متعد في الربط, وهو السبب في لزوم الضمان
للقائد, فكان الرجوع عليه, وكذلك لو كانت
الإبل وقوفا لا تقاد, فجاء رجل وربط إليها
بعيرا, والقائد لا يعلم فقاد البعير معها فوطئ
البعير إنسانا فقتله فالدية على القائد يتحمل
عنه عاقلته إلا أن ههنا لا ترجع عاقلة القائد
على عاقلة الرابط؛ لأن الرابط, وإن تعدى في
الربط, وأنه سبب لوجوب الضمان لكن القائد لما
قاد البعير عن ذلك المكان فقد أزال تعديه
فيزول الضمان عنه, ويتعلق بالقائد كمن وضع
حجرا في الطريق, فجاء إنسان فدحرجه عن ذلك
المكان ثم عطب به إنسان فالضمان على الثاني لا
على الأول لما قلنا كذا هذا, بخلاف المسألة
الأولى؛ لأن هناك وجد الربط والإبل سائرة, فلم
يستقر مكان التعدي؛ ليزول بالانتقال عنه فبقي
التعدي ببقاء الربط, وإن كان القائد علم
بالربط في المسألتين جميعا فقاده على ذلك فوطئ
البعير إنسانا فقتله فالدية على القائد تتحمل
عنه عاقلته ولا ترجع عاقلته على عاقلة الرابط؛
لأنه لما قاد مع علمه بالربط فقد رضي بما لحقه
من العهدة في ذلك فصار علمه بالربط بمنزلة
أمره بالربط, ولو ربط بأمره كان الأمر على ما
وصفنا كذا هذا. ولو سقط سرج دابة فعطب به
إنسان فالدية على السائق أو القائد؛ لأن
السقوط لا يكون إلا بتقصير منه في شد الحزام,
فكان مسببا للقتل متعديا في التسبيب والله
سبحانه وتعالى أعلم. ومن هذا النوع جناية
الناخس والضارب وجملة الكلام فيه: أن الدابة
المنخوسة أو المضروبة "إما" أن يكون عليها
راكب "وإما" إن لا يكون عليها راكب, فإن كان
عليها راكب فالراكب لا يخلو: إما إن كان
سائرا, وإما إن كان واقفا, والسير والوقوف إما
أن يكون في موضع أذن له بذلك. "وإما" أن يكون
في موضع لم يؤذن له به, والناخس أو الضارب لا
يخلو: من أن يكون نخس أو ضرب بغير أمر الراكب,
أو بأمره, فإن فعل ذلك بغير أمر الراكب فنفحت
الدابة برجلها أو ذنبها أو نفرت فصدمت إنسانا
فقتلته, فإن فعلت شيئا من ذلك على فور النخسة
والضربة فالضمان على الناخس والضارب يتحمل
عنهما عاقلتهما لا على الراكب, سواء كان
الراكب واقفا أو سائرا, وسواء كان في سيره أو
وقوفه فيما أذن له بالسير فيه والوقوف, أو
فيما لم يؤذن بأن كان يسير في ملكه أو في طريق
المسلمين, أو في ملك الغير أو كان يقف في ملكه
أو في سوق الخيل ونحوه أو في طريق المسلمين,
وإنما كان كذلك؛ لأن الموت حصل بسبب النخس أو
الضرب, وهو متعد في السبب فيضمن ما تولد منه
كما لو دفع الدابة على غيره, والراكب الواقف
على طريق العامة, وإن كان متعديا أيضا لكنه
ليس بمتعد في التعدي, والناخس متعد في التعدي.
وكذا الضارب فأشبه الدافع مع الحافر وقد روي
عن سيدنا عمر رضي الله عنه أنه ضمن الناخس دون
الراكب, وكذا روي عن ابن مسعود رضي الله عنه
أنه فعل هكذا وكان ذلك منهما بمحضر من الصحابة
رضي الله عنهم ولم يعرف
ج / 7 ص -282-
الإنكار من أحد, فيكون إجماعا من الصحابة,
وإنما شرط الفور لوجوب الضمان على الناخس
والضارب؛ لأن الهلاك عند سكون الفور يكون
مضافا إلى الدابة لا إلى الناخس والضارب, ولو
نخسها أو ضربها, وهو سائر عليها فوطئت إنسانا
فقتلته لم يذكر هذا في ظاهر الرواية وروى ابن
سماعة عن أبي يوسف: أن الضمان عليهما؛ لأن
الموت حصل بثقل الراكب وفعل الناخس, وكل واحد
منهما سبب لوجوب الضمان فقد اشتركا في سبب
وجوب الضمان, وكذلك إذا كان واقفا عليها لما
قلنا, وتجب الكفارة على الراكب لوجود القتل
منه مباشرة كما قلنا في الراكب مع السائق أو
القائد, ولو نخسها أو ضربها فوثبت وألقت
الراكب فالناخس أو الضارب ضامن لحصول التلف
بسبب هو متعد فيه, وهو النخس والضرب, فيضمن ما
تولد منه, فإن لم تلقه, ولكنها جمحت به فما
أصابت في فورها ذلك فعلى الناخس أو الضارب لما
ذكرنا أن فعل كل واحد منهما وقع سببا للهلاك,
وهو متعد في التسبيب, فإن نفحت الدابة الناخس
أو الضارب فقتلته فدمه هدر؛ لأنه هلك من جناية
نفسه, وجناية الإنسان على نفسه هدر, هذا إذا
نخس أو ضرب بغير أمر الراكب. فأما إذا فعل ذلك
بأمر الراكب فإن كان الراكب سائرا فيما أذن له
بالسير فيه بأن كان يسير في ملك نفسه أو في
طريق المسلمين أو واقفا فيما أذن له بالوقوف
بأن وقف في ملك نفسه, أو في سوق الخيل, وغيره
من المواضع التي أذن بالوقوف فيها, فنفحت
الدابة برجلها إنسانا فقتلته فلا ضمان على
الناخس, ولا على الضارب, ولا على الراكب؛ لأنه
أمره بما يملكه بنفسه فصح أمره به؛ فصار كأنه
نخس أو ضرب بنفسه, فنفحت, وقد ذكرنا أن النفحة
في حال السير, والوقوف في موضع أذن بالسير أو
الوقوف فيه غير مضمون على أحد لا على الراكب,
ولا على السائق, ولا على القائد, وإن كان
الراكب سائرا فيما لم يؤذن له بالسير بأن كان
يسير في ملك الغير, أو كان واقفا فيما لم يؤذن
له بالوقوف فيه, كما إذا كان واقفا في ملك
غيره أو في طريق المسلمين, فنفحت فالدية
عليهما نصفان: نصف على الناخس أو الضارب, ونصف
على الراكب, ولا كفارة عليهما كذا ذكر في ظاهر
الرواية وروى ابن سماعة عن محمد رحمهما الله:
أن الضمان على الراكب. ووجهه: أن الناخس أو
الضارب نخس أو ضرب لها بإذن الراكب, وهو راكب,
وهو يملك ذلك بنفسه فانتقل فعله إليه, فكان
فعله بنفسه, فكان الضمان عليه. وجه ظاهر
الرواية أن الناخس أو الضارب مع الراكب اشتركا
في سبب وجوب الضمان أما الناخس أو الضارب فلا
يشكل؛ لوجود سبب القتل من كل واحد منهما على
سبيل التعدي. "وأما" الراكب فلأنه صار بالأمر
بالنخس أو الضرب ناخسا أو ضاربا, والنفحة
المتولدة من نخسه وضربه في هذه المواضع مضمونة
عليه إلا أنه لا كفارة عليهما لحصول القتل
بالتسبيب لا بالمباشرة, هذا إذا نفحت, فأما
إذا صدمت, فإن كان الراكب سائرا أو واقفا في
ملك نفسه فلا ضمان على الناخس والضارب, ولا
على الراكب؛ لأن فعل النخس والضرب مضاف إلى
الراكب لحصوله بأمره, والصدمة في الملك غير
مضمونة على الراكب سواء كان سائرا أو واقفا,
وإن كان سيره أو وقوفه في طريق المسلمين أو في
ملك الغير, فينبغي أن يكون على الاختلاف الذي
ذكرنا في النفحة إذا كان الراكب واقفا في موضع
لم يؤذن بالوقوف فيه؛ لأن الصدمة مضمونة على
الراكب, إذا كان في طريق المسلمين واقفا كان
أو سائرا. وكذا في ملك الغير, فيأتي فيه
الخلاف الذي ذكرنا في النفحة, والله سبحانه
وتعالى أعلم هذا إذا نفحت أو صدمت, فأما إذا
وطئت إنسانا فقتلته فالضمان عليهما سواء كان
الراكب سائرا أو واقفا في أي موضع كان فيما
أذن فيه أو لم يؤذن؛ لأنهما اشتركا في سبب
القتل لحصول الموت بثقل الراكب والدابة وفعل
الناخس, وتجب الكفارة على الراكب؛ لأنه قاتل
مباشرة فصار الراكب مع الناخس كالراكب مع
السائق والقائد أن الدية عليهما نصفان,
والكفارة على الراكب خاصة, كذا ههنا هذا الذي
ذكرنا إذا كان على الدابة المنخوسة أو
المضروبة راكب فأما إذا لم يكن عليها راكب,
فإن لم يكن لا سائق ولا قائد, فنخسها إنسان أو
ضربها فما أصابت شيئا على فور النخسة والضربة
فضمانه على الناخس والضارب في أي موضع كانت
الدابة؛ لأنه سبب الإتلاف بالنخس والضرب, وهو
متعد في التسبيب فما تولد منه يكون مضمونا
عليه, وإن كان عليها سائق أو قائد فنخس أو ضرب
ج / 7 ص -283-
بغير
أمره فنفحت أو نفرت فصدمت أو وطئت إنسانا
فقتلته فالضمان على الناخس أو الضارب لا على
السائق والقائد في أي موضع كان الناخس
والقائد؛ لأن الناخس مع السائق والقائد
كالدافع مع الحافر؛ لأنه بالنخس أو الضرب كأنه
دفع الدابة على غيره. وكذلك إذا كان لها سائق
وقائد, يقود أحدهما, ويسوق الآخر, فنخس أو ضرب
بغير إذن واحد منهما فالضمان على الناخس
والضارب لا عليهما في أي موضع كان الناخس
والقائد لما ذكرنا أن الناخس متعمد كالدافع
للدابة. وكذا الضارب ولا تعمد من السائق
والقائد, وإن كان كل واحد منهما أمره بذلك
فنفحت, فإن كان سوقه أو قوده فيما أذن له
بالسوق والقود فيه فلا ضمان على الناخس
والضارب, وإن فعل ذلك بأمر السائق أو القائد,
فإن كان يسوق أو يقود فيما أذن له بالسوق
والقود فيه بأن كان في ملكه أو في طريق
المسلمين لا ضمان على أحد؛ لأن فعله يضاف إليه
كالسائق أو القائد, وإن كان يسوق أو يقود فيما
أذن له بذلك بأن كان في ملك الغير فعلى قياس
ما ذكرنا في ظاهر الرواية: الضمان على الناخس
والضارب, وعلى السائق أو القائد ولا كفارة
عليهما, وعلى قياس ما ذكره ابن رستم عن أبي
يوسف: الضمان على السائق أو القائد خاصة, وإن
صدمت فقتلت إنسانا, فإن كان السائق يسوق في
ملك نفسه فلا ضمان على أحد؛ لأن فعل الناخس أو
الضارب بأمر السائق أو القائد مضاف إليه,
والصدمة في الملك غير مضمونة على السائق
والقائد والراكب, وإن كان يسوق أو يقود في
طريق المسلمين أو في ملك الغير فهو على
الاختلاف, وإن وطئت إنسانا فقتلته فهو على
الاختلاف أيضا سواء كان سوقه أو قوده فيما أذن
له بالسوق أو القود فيه أو لم يكن؛ لأن الوطأة
مضمونة على كل حال والله تعالى أعلم. وإن وطئت
تجب القيمة بلا خلاف, لكن في قياس ظاهر
الرواية على الناخس والضارب, وعلى السائق
والقائد نصفان, وعلى قياس رواية ابن سماعة عن
أبي يوسف: على السائق والقائد خاصة, والله
تعالى أعلم بالصواب.
ومن هذا القبيل جناية الحائط المائل إذا سقط
على رجل فقتله, أو على متاع, فأفسده, أو على
دار فهدمها أو على حيوان فعطب به, وجملة
الكلام فيه: أن الحائط لا يخلو: إما أن بني
مستويا مستقيما ثم مال "وإما" إن بني مائلا من
الأصل, فإن بني مستقيما ثم مال فميلانه لا
يخلو: إما أن يكون إلى الطريق. "وإما" أن يكون
إلى ملك إنسان, فإن كان إلى الطريق لا يخلو:
من أن يكون نافذا, وهو طريق العامة أو غير
نافذ, وهو السكة التي ليست بنافذة, فإن كان
نافذا فسقط فعطب به شيء مما ذكرنا يجب الضمان
على صاحب الحائط إذا وجد شرائط وجوبه, فيقع
الكلام في سبب وجوب الضمان, وفي بيان شرائط
الوجوب, وفي بيان ما هية الضمان الواجب
وكيفيته "أما" الأول: فسبب وجوب الضمان هو
التعدي بالتسبيب إلى الإتلاف بترك النقض
المستحق مع القدرة على النقض؛ لأنه إذا مال
إلى طريق العامة فقد حصل الهواء في يد صاحب
الحائط من غير فعله, وهو الطريق حق العامة
كنفس الطريق فقد حصل حق الغير في يده بغير
صنعه, فإذا طولب بالنقض فقد لزمه إزالة يده
عنه بهدم الحائط, فإذا لم يفعل مع الإمكان,
فقد صار متعديا باستبقاء يده عليه كثوب هبت به
الريح فألقته في دار إنسان فطولب به فامتنع من
الرد مع إمكان الرد حتى هلك يضمن لما قلنا,
كذا هذا, وقد روي عن جماعة من التابعين مثل
الشعبي وشريح وإبراهيم وغيرهم رحمهم الله أنهم
قالوا: إذا تقدم إليه في الحائط فلم يهدمه وجب
عليه الضمان والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب.
"فصل": وأما شرائط الوجوب فمنها المطالبة بالنقض حتى لو سقط قبل المطالبة
فعطب به شيء لا ضمان على صاحب الحائط؛ لأن
الضمان يجب بترك النقض المستحق؛ لأن به يصير
متعديا في التسبيب إلى الإتلاف, ولا يثبت
الاستحقاق بدون المطالبة, وصورة المطالبة: هي
أن يتقدم إليه واحد من عرض الناس فيقول له: إن
حائطك هذا مائل أو مخوف فارفعه, فإذا قال ذلك
لزمه رفعه؛ لأن هذا حق العامة, فإذا قام به
البعض صار خصما عن الباقين سواء كان الذي تقدم
إليه مسلما أو ذميا حرا أو عبدا بعد إن كان
أذن له مولاه بالخصومة فيه بالغا أو صبيا بعد
إن كان عاقلا, وقد أذن له وليه بالخصومة فيه؛
لأن الطريق حق جميع أهل الدار, فكان لكل واحد
من أهل الدار حق المطالبة بإزالة سبب الضرر
عنه إلا أنه لا بد من عقل الطالب وكونه مأذونا
بالتصرف؛ لأن كلام المجنون والمحجور عليه غير
معتبر في الشرع, فكان
ج / 7 ص -284-
ملحقا
بالعدم, وينبغي أن يشهد على الطلب وتفسير
الإشهاد ما ذكره محمد رحمه الله, وهو أن يقول
الرجل اشهدوا أني قد تقدمت إلى هذا الرجل في
هدم حائطه, هذا والإشهاد للتحرز عن الجحود
والإنكار لجواز أن ينكر صاحب الحائط المطالبة
بالنقض فتقع الحاجة إلى الإشهاد لإثبات الطلب
عند القاضي لا لصحة الطلب فإن الطلب يصح بدون
الإشهاد حتى لو اعترف صاحب الدار بالطلب يجب
عليه الضمان, وإن لم يشهد عليه. وكذا إذا أنكر
يجب عليه الضمان فيما بينه وبين الله سبحانه
وتعالى ونظيره ما قلنا في الشفعة: أن الشرط
فيها الطلب لا الإشهاد, وإنما الإشهاد للحاجة
إلى إثبات الطلب على تقدير الإنكار حتى لو أقر
المشتري بالطلب يثبت حق الشفعة, وإن لم يشهد
على الطلب وكذا لو جحد الطلب يثبت الحق له
فيما بينه وبين الله تبارك وتعالى وكذا
الإشهاد في باب اللقطة على أصل أبي حنيفة رحمه
الله من هذا القبيل وقد ذكرنا ذلك في كتاب
اللقطة, ولو طولب صاحب الحائط بالنقض فلم ينقض
حتى سقط على الطريق فعثر بنقضه إنسان فعطب به,
فإن كان قد طولب بدفع النقض يضمن؛ لأنه إذا
طولب بالرفع لزمه الرفع فإذا لم يرفع صار
متعديا فيضمن من تولد منه, وإن كان لم يطالب
برفعه لا ضمان عليه عند أبي يوسف وعند محمد:
يضمن. وجه قوله أنه لما طولب بالنقض فلم ينقض
حتى سقط صار متعديا بترك النقض فحصل التلف
بسبب هو متعد فيه فيضمن؛ ولهذا ضمن إذا وقع
على إنسان كذا إذا عطب بنقضه إنسان. وجه قول
أبي يوسف أن الحائط قد زال عن الموضع الذي
طولب فيه لانتقاله عن محل الجناية, وهو الهواء
إلى محل آخر بغير صنع صاحبه فلا بد من مطالبة
أخرى كمن وضع حجرا في الطريق فدحرجته الريح
إلى موضع آخر فعطب به إنسان أنه لا ضمان على
الواضع كذا ههنا بخلاف ما إذا سقط على إنسان؛
لأنه لما زال عن محل المطالبة, وهو الهواء
الذي هو محل الجناية فلا يحتاج إلى مطالبة
أخرى, وإن كان الطريق غير نافذ فالخصومة إلى
واحد من أهل تلك السكة؛ لأن الطريق حقهم, فكان
لكل واحد منهم ولاية التقدم إلى صاحب الحائط,
وإن كان ميلان الحائط إلى ملك رجل فالمطالبة
بالنقض والإشهاد إلى صاحب الملك؛ لأنه هواء
ملكه حقه, وقد شغل الحائط حق صاحب الملك فكانت
المطالبة بالتفريغ إليه, فإن كان في الدار
ساكن كالمستأجر والمستعير فالمطالبة والإشهاد
إلى الساكن, فيشترط طلب الساكن أو المالك؛ لأن
الساكن له حق المطالبة بإزالة ما يشغل الدار
فكان له ولاية المطالبة بإزالة ما يشغل الهواء
أيضا, ولو طولب صاحب الحائط بالنقض فاستأجل
الذي طالبه أو استأجل القاضي فأجله, فإن كان
ميلان الحائط إلى الطريق فالتأجيل باطل, وإن
كان ميلانه إلى دار رجل فأجله صاحب الدار أو
أبرأه منه أو فعل ذلك ساكن الدار فذلك جائز,
ولا ضمان عليه فيما تلف بالحائط, والله سبحانه
وتعالى أعلم. ووجه الفرق بينهما أن الحق في
الطريق لجماعة المسلمين فإذا طالب واحد منهم
بالنقض فقد تعلق الضمان بالحائط لحق الجماعة,
فكان التأجيل والإبراء إسقاطا لحق الجماعة فلا
يملك ذلك بخلاف ما إذا كان الميلان إلى دار
إنسان؛ لأن هناك الحق لصاحب الدار خاصة. وكذلك
الساكن فكان التأجيل والإبراء منه إسقاطا لحق
نفسه فيملكه. وكذلك لو وضع رجل في دار غيره
حجرا أو حفر فيها بئرا أو بنى فيها بناء
وأبرأه صاحب الدار منه كان بريئا, ولا يلزمه
ما عطب بشيء من ذلك سواء عطب به صاحب الدار أو
داخل دخل؛ لأن الحق له فيملك إسقاطه كأنه فعل
ذلك بإذنه. "ومنها" أن يكون المطالب بالنقض
ممن يلي النقض؛ لأن المطالبة بالنقض ممن لا
يلي النقض سفه, فكان وجودها والعدم بمنزلة
واحدة فلا تصح مطالبة المستودع والمستعير
والمستأجر والمرتهن؛ لأنه ليس لهم ولاية النقض
فتصح مطالبة الراهن؛ لأن له ولاية النقض لقيام
الملك فينقض ويقضي الدين, فيصير متعديا بترك
النقض, وتصح مطالبة الأب والوصي في هدم حائط
الصغير لثبوت ولاية النقض لهما, فإن لم ينقضا
حتى سقط يجب الضمان على الصبي؛ لأن التلف بترك
النقض المستحق على الولي والوصي مضاف إلى
الصبي لقيامهما مقام الصبي, والصبي مؤاخذ
بأفعاله, فيضمن وتتحمل عنه عاقلته فيما تتحمل
العاقلة, ويكون في ماله فيما لا تتحمله
العاقلة كالبالغ سواء, وعلى هذا يخرج ما إذا
كان الحائط المائل لجماعة فطولب بعضهم بالنقض
فلم ينقض حتى سقط فعطب به شيء أن القياس
ج / 7 ص -285-
أن لا
يضمن أحد منهم شيئا, وفي الاستحسان يضمن الذي
طولب. وجه القياس: أنه لم يوجد أحد منهم ترك
النقض المستحق "أما" الذين لم يطالبوا بالنقض
فظاهر "وإما" الذي طولب به فلأن أحد الشركاء
لا يلي النقض بدون الباقين: وجه الاستحسان أن
المطالب بالنقض ترك النقض مع القدرة عليه؛
لأنه يمكنه أن يخاصم الشركاء ويطالبهم بالنقض
إن كانوا حضورا, وإن كانوا غيبا يمكنه أن يرفع
الأمر إلى القاضي حتى يأمره القاضي بالنقض؛
لأن فيه حقا لجماعة المسلمين, والإمام يتولى
ذلك لهم فيأمر الحاضر بنقض نصيبه ونصيب
الغائبين, فإذا لم يفعل فقد صار متعديا بترك
النقض المستحق, فيضمن ما تولد منه لكن بقدر
حصته من الحائط في قول أبي حنيفة رحمه الله
وفي قولهما: عليه ضمان النصف. وجه قولهما أن
أنصباء الشركاء الآخرين لم يجب بها ضمان,
فكانت كنصيب واحد, كمن جرحه رجل, وعقره سبع,
ونهشته حية, فمات من ذلك كله أن على الجارح
النصف؛ لأن عقر السبع ونهش الحية لم يجب بهما
ضمان, فكانا كالشيء الواحد, كذا هذا, ولأبي
حنيفة رضي الله عنه أن التلف حصل بثقل الحائط,
وليس ذلك معنى مختلفا في نفسه فيضمن بمقدار
نصيبه والله تعالى أعلم. ومنها قيام ولاية
النقض وقت السقوط, ولا يكتفي بثبوتها وقت
المطالبة؛ لأنه إنما يصير متعديا بترك النقض
عند السقوط كأنه أسقطه, فإذا لم يبق له ولاية
النقض عند السقوط لم يصر متعديا بترك النقض
فلا يجب الضمان عليه, وعلى هذا يخرج ما إذا
طولب بالنقض فلم ينقض حتى باع الدار التي فيها
الحائط من إنسان وقبضه المشتري أو لم يقبضه ثم
سقط على شيء, فعطب به أنه لا ضمان على البائع؛
لانعدام ولاية النقض وقت السقوط بخروج الحائط
عن ملكه, ولا على المشتري أيضا لانعدام
المطالبة في حقه فرق بين هذا وبين ما إذا شرع
جناحا إلى الطريق ثم باع الدار مع الجناح ثم
وقع على إنسان إنه يضمن البائع, ووجه الفرق أن
وجوب الضمان هناك على البائع قبيل البيع لكونه
متعديا بإشراع الجناح, والإشراع على حاله لم
يتغير فلا يتغير ما تعلق به من الضمان, ووجوب
الضمان لكونه متعديا بترك النقض المستحق, وذلك
عند سقوط الحائط, وقد بطل الاستحقاق بالبيع,
فلم يوجد التعدي عند السقوط بترك النقض, فلا
يجب الضمان, وعلى هذا يخرج ما إذا طولب الأب
بنقض حائط الصغير, فلم ينقض حتى مات الأب أو
بلغ الصبي ثم سقط الحائط إنه لا ضمان فيه؛ لأن
قيام الولاية وقت السقوط شرط, وقد بطلت بالموت
والبلوغ والله تعالى أعلم. "ومنها": إمكان
النقض بعد المطالبة, وهو أن يكون سقوط الحائط
بعد المطالبة بالنقض في مدة يمكنه نقضه فيها؛
لأن الضمان يجب بترك النقض الواجب, ولا وجوب
بدون الإمكان حتى لو طولب بالنقض فلم يفرط في
نقضه, ولكنه ذهب يطلب من ينقضه, فسقط الحائط,
فتلف به شيء لا ضمان عليه؛ لأنه إذا لم يتمكن
من النقض لم يكن بترك النقض متعديا, فبقي حق
الغير حاصلا في يده بغير صنعه فلا يكون مضمونا
عليه والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
"فصل": وأما بيان ماهية الضمان الواجب بهذه الجناية وكيفيته فالواجب بهذه
الجناية ما هو الواجب بجنسها من جناية الحافر,
ومن في معناه, وجناية السائق والقائد والناخس,
وهو ما ذكرنا أن الجناية إن كانت على بني آدم
وكانت نفسا فالواجب بها الدية, وإن كانت ما
دون النفس فالواجب بها الأرش فإذا بلغ الواجب
بها نصف عشر دية الذكر, وهو عشر دية الأنثى
فما فوقه تتحمله العاقلة, ولا تتحمل ما دون
ذلك, ولا ما يجب بالجناية على غير بني آدم بل
يكون في ماله؛ لما بينا فيما تقدم إلا أن ظهور
الملك لصاحب الحائط في الدار عند الإنكار بحجة
مطلقة, وهي البينة شرط تحمل العاقلة, حتى لو
أنكرت العاقلة كون الدار ملكا لصاحب الحائط لا
عقل عليهم حتى يقيم صاحب الدار البينة على
الملك كذا ذكر محمد رحمه الله فقال: لا تضمن
العاقلة حتى يشهد الشهود على ثلاثة أشياء: على
التقديم إليه من سقوط الحائط, وعلى أن الدار
له يريد به عند الإنكار, أما الشهادة على
الملك فلأن الملك, وإن كان ثابتا له بظاهر
اليد لكن الظاهر لا يستحق به حق على غيره؛ إذ
هو حجة للدفع لا حجة الاستحقاق لحياة المفقود
وغير ذلك فلا بد من الإثبات بالبينة, وعند زفر
رحمه الله تتحمل العاقلة بظاهر اليد, وهو على
الاختلاف الذي ذكرنا في الشفعة, "وأما"
الشهادة على المطالبة
ج / 7 ص -286-
لأن
المطالبة شرط وجوب الضمان لما ذكرنا فيما تقدم
فلا بد من إثباتها بالبينة عند الإنكار.
"وأما" الشهادة على الموت من سقوط الحائط فلأن
به يظهر سبب وجوب الضمان, وهو التعدي؛ لأنه ما
لم يعلم أنه مات من السقوط لا يعلم كون صاحب
الحائط متعديا عليه والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": في القسامة هذا الذي ذكرنا حكم قتل نفس علم قاتلها, فأما حكم نفس
لم يعلم قاتلها فوجوب القسامة والدية عند عامة
العلماء رحمهم الله تعالى وعند مالك رحمه
الله: وجوب القسامة والقصاص, والكلام في
القسامة يقع في مواضع في تفسير القسامة, وبيان
محلها, وفي بيان شرائط وجوب القسامة والدية,
وفي بيان سبب وجوب القسامة والدية, وفي بيان
من يدخل في القسامة والدية, وفي بيان ما يكون
إبراء عن القسامة والدية أما تفسير القسامة,
وبيان محلها فالقسامة في اللغة: تستعمل بمعنى
الوسامة, وهو الحسن والجمال, يقال: فلان قسيم
أي حسن جميل, وفي صفات النبي عليه الصلاة
والسلام قسيم, وتستعمل بمعنى القسم, وهو
اليمين إلا أن في عرف الشرع تستعمل في اليمين
بالله تبارك وتعالى بسبب مخصوص وعدد مخصوص,
وعلى شخص مخصوص, وهو المدعى عليه على وجه
مخصوص, وهو أن يقول خمسون من أهل المحلة إذا
وجد قتيل فيها: بالله ما قتلناه ولا علمنا له
قاتلا, فإذا حلفوا يغرمون الدية وهذا عند
أصحابنا رحمهم الله وقال مالك رحمه الله: إن
كان هناك لوث يستحلف الأولياء خمسين يمينا
فإذا حلفوا يقتص من المدعى عليه, وتفسير اللوث
عنده أن يكون هناك علامة القتل في واحد بعينه
أو يكون هناك عداوة ظاهرة, وقال الشافعي رحمه
الله: إن كان هناك لوث أي عداوة ظاهرة. وكان
بين دخوله المحلة وبين وجوده قتيلا مدة يسيرة
يقال للولي: عين القاتل, فإن عين القاتل يقال
للولي احلف خمسين يمينا, فإن حلف فله قولان:
في قول يقتل القاتل الذي عينه, كما قال مالك
رحمه الله وفي قول يغرمه الدية, فإن عدم أحد
هذين الشرطين اللذين ذكرناهما يحلف أهل المحلة
فإذا حلفوا لا شيء عليهم كما في سائر الدعاوى
احتجا لوجوب القسامة على المدعي بحديث سهل بن
أبي حثمة أنه قال: "وجد عبد الله بن سهل قتيلا
في قليب خيبر فجاء أخوه عبد الرحمن بن سهل
وعماه حويصة ومحيصة إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فذهب عبد الرحمن يتكلم عند النبي
عليه الصلاة والسلام فقال عليه الصلاة
والسلام:
"الكبر الكبر"
فتكلم أحد عميه: إما حويصة وإما محيصة الكبير
منهما فقال: يا رسول الله, إنا وجدنا عبد الله
قتيلا في قليب من قليب خيبر وذكر عداوة اليهود
لهم فقال عليه الصلاة والسلام:
"يحلف لكم اليهود خمسين
يمينا أنهم لم يقتلوه"
فقالوا: كيف
نرضى بأيمانهم, وهم مشركون فقال عليه الصلاة
والسلام:
"فيقسم منكم خمسون أنهم قتلوه"
فقالوا: كيف نقسم على ما لم نره فوداه عليه
الصلاة والسلام من عنده" ووجه الاستدلال
بالحديث أنه عليه الصلاة والسلام عرض الأيمان
على أولياء القتيل فدل أن اليمين على المدعي.
"ولنا" ما روي عن زياد بن أبي مريم أنه قال:
"جاء رجل إلى النبي عليه الصلاة والسلام فقال:
يا رسول الله, إني وجدت أخي قتيلا في بني فلان
فقال عليه الصلاة والسلام:
"اجمع منهم خمسين فيحلفون بالله ما قتلوه ولا
علموا له قاتلا" فقال: يا رسول الله, ليس لي من أخي إلا هذا؟ فقال:
"بل لك مائة من الإبل" فدل الحديث على وجوب القسامة على المدعى عليهم وهم أهل المحلة لا
على المدعي, وعلى وجوب الدية عليهم مع القسامة
وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال:
"وجد قتيل بخيبر فقال عليه الصلاة والسلام:
"أخرجوا من هذا الدم" فقالت اليهود: قد كان وجد في بني إسرائيل على عهد سيدنا موسى عليه
الصلاة والسلام فقضى في ذلك, فإن كنت نبيا
فاقض, فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام
"تحلفون خمسين
يمينا ثم يغرمون الدية"
فقالوا: قضيت بالناموس" أي بالوحي وهذا نص في
الباب, وبه يبطل قول مالك رحمه الله بإيجاب
القصاص به؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام
غرمهم الدية لا القصاص, ولو كان الواجب هو
القصاص لغرمهم القصاص لا الدية وروي أن سيدنا
عمر رضي الله عنه حكم في قتيل وجد بين قريتين
فطرحه على أقربهما وألزم أهل القرية القسامة
والدية, وكذا روي عن سيدنا علي رضي الله عنه
ولم ينقل الإنكار عليهما من أحد من الصحابة
رضي الله عنهم فيكون إجماعا. "وأما" حديث سهل
ففيه ما يدل على عدم الثبوت؛ ولهذا ظهر النكير
فيه من السلف؛ فإن فيه أنه
ج / 7 ص -287-
عليه
الصلاة والسلام دعاهم إلى أيمان اليهود
فقالوا: كيف نرضى بأيمانهم, وهم مشركون؟ وهذا
يجري مجرى الرد لما دعاهم إليه مع ما أن رضا
المدعي لا مدخل له في يمين المدعى عليه, وفيه
أيضا أنه لما قال لهم: يحلف منكم خمسون أنهم
قتلوه قالوا: كيف نحلف على ما لم نشهد, وهذا
أيضا يجري مجرى الرد لقوله عليه الصلاة
والسلام ثم إنهم أنكروا ذلك لعدم علمهم
بالمحلوف عليه, ورسول الله صلى الله عليه وسلم
كان يعلم أنهم لا علم لهم بذلك, فكيف استخار
عرض اليمين عليهم, ولئن ثبت فهو مؤول,
وتأويله: أنهم لما قالوا: لا نرضى بأيمان
اليهود فقال لهم عليه الصلاة والسلام يحلف
منكم خمسون على الاستفهام أي: أيحلف؟ إذ
الاستفهام قد يكون بحذف حرف الاستفهام كما قال
الله تعالى جل شأنه
{تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا} أي أتريدون كما روي في بعض ألفاظ حديث سهل أتحلفون وتستحقون دم
صاحبكم؟ على سبيل الرد والإنكار عليهم, كما
قال الله تبارك وتعالى
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ} حملناه على هذا توفيقا بين الدلائل, والحديث المشهور دليل على ما
قلنا, وهو قوله عليه الصلاة والسلام
"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه" جعل جنس اليمين على المدعى عليه, فينبغي أن لا يكون شيء من الأيمان
على المدعي, فإن قيل روي عنه عليه الصلاة
والسلام أنه قال
"البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه إلا في القسامة" استثنى
القسامة فينبغي أن لا تكون اليمين على المدعى
عليه في القسامة؛ لأن حكم المستثنى يخالف حكم
المستثنى منه فالجواب: أن الاستثناء لو ثبت
فله تأويلان: أحدهما اليمين على المدعى عليه
بعينه إلا في القسامة, فإنه يحلف من لم يدع
عليه القتل بعينه, والثاني: اليمين كل الواجب
على المدعى عليه إلا في القسامة فإنه تجب معها
الدية, والله سبحانه وتعالى أعلم. وإنما جمعنا
في القسامة بين اليمين البتات والعلم إلى
آخره؛ لأن إحدى اليمينين كانت على فعلهم,
فكانت على البتات, والأخرى على فعل غيرهم,
فكانت على العلم والله تعالى عز وجل أعلم فإن
قيل: أي فائدة في الاستحلاف على العلم, وهم لو
علموا القاتل فأخبروا به لكان لا يقبل قولهم؛
لأنهم يسقطون به الضمان عن أنفسهم فكانوا
متهمين دافعين الغرم عن أنفسهم, وقد قال عليه
الصلاة والسلام
"لا شهادة للمتهم" وقال عليه الصلاة والسلام
"لا شهادة لجار المغنم ولا لدافع المغرم"؟ قيل: إنما استحلفوا على العلم إتباعا للسنة؛ لأن السنة هكذا وردت
لما روينا من الأخبار فاتبعنا السنة من غير أن
نعقل فيه المعنى, ثم فيه فائدة من وجهين:
أحدهما: أن من الجائز أن يكون القاتل عبدا
لواحد منهم فيقر عليه بالقتل فيقبل إقراره؛
لأن إقرار المولى على عبده بالقتل الخطأ صحيح,
فيقال له: ادفعه أو أفده ويسقط الحكم عن غيره,
فكان التحليف على العلم مفيدا, وجائز أن يقر
على عبد غيره, ويصدقه مولاه فيؤمر بالدفع أو
الفداء ويسقط الحكم عن غيره, فكان مفيدا فجاز
أن يكون التحليف على العلم؛ لهذا المعنى في
الأصل ثم بقي هذا الحكم, وإن لم يكن لواحد من
الحالين عبد كالرمل في الطواف؛ لأنه عليه
الصلاة والسلام "كان يرمل في الطواف" إظهارا
للجلادة والقوة مرآة للكفرة بقوله عليه الصلاة
والسلام
"رحم الله امرأ أظهر اليوم الجلادة من نفسه" ثم زال ذلك اليوم ثم بقي الرمل سنة في الطواف حتى روي أن سيدنا عمر
رضي الله عنه كان يرمل في الطواف, ويقول ما
أهز كتفي, ولا أحدا رأيته لكني رأيت رسول الله
صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك كذا هذا,
والثاني: أنه لا يمتنع أن يكون واحد منهم أمر
صبيا أو مجنونا أو عبدا محجورا عليه بالقتل,
ولو أقر به يلزمه في ماله يحلف بالله ما علمت
له قاتلا؛ لأنه لو قال: علمت له قاتلا, وهو
الصبي الذي أمره بقتله لكان حاصل الضمان عليه,
ويسقط الحكم عن غيره, فكان مفيدا والله تعالى
أعلم.
"فصل": وأما شرائط وجوب القسامة والدية فأنواع: منها أن يكون الموجود
قتيلا وهو أن يكون به أثر القتل من جراحة أو
أثر ضرب أو خنق, فإن لم يكن شيء من ذلك فلا
قسامة فيه, ولا دية؛ لأنه إذا لم يكن به أثر
القتل فالظاهر أنه مات حتف أنفه, فلا يجب فيه
شيء, فإذا احتمل أنه مات حتف أنفه واحتمل أنه
قتل احتمالا على السواء فلا يجب شيء بالشك
والاحتمال؛ ولهذا لو وجد في المعركة, ولم يكن
به أثر القتل لم يكن شهيدا حتى يغسل, وعلى هذا
قالوا: إذا وجد والدم يخرج من فمه أو من أنفه
أو من دبره أو ذكره لا شيء فيه؛ لأن الدم يخرج
من هذه المواضع عادة بدون الضرب بسبب القيء
والرعاف وعارض آخر فلا يعرف كونه قتيلا, وإن
كان يخرج من عينه أو أذنه ففيه القسامة
والدية؛ لأن الدم
ج / 7 ص -288-
لا
يخرج من هذه المواضع عادة فكان الخروج مضافا
إلى ضرب حادث, فكان قتيلا؛ ولهذا لو وجد هكذا
في المعركة كان شهيدا, وفي الأول لا يكون
شهيدا, ولو مر في محلة فأصابه سيف أو خنجر
فجرحه ولا يدري من أي موضع أصابه فحمل إلى
أهله فمات من تلك الجراحة, فإن كان لم يزل
صاحب فراش حتى مات فعلى عاقلة القبيلة القسامة
والدية, وإن لم يكن صاحب فراش فلا قسامة, ولا
دية وهذا قولهما. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا
قسامة فيه ولا ضمان في الوجهين جميعا, وهو قول
ابن أبي ليلى رحمه الله وجه قول أبي يوسف: أن
المجروح إذا لم يمت في المحلة كان الحاصل في
المحلة ما دون النفس ولا قسامة فيما دون النفس
كما لو وجد مقطوع اليد في المحلة؛ ولهذا لو لم
يكن صاحب الفراش فلا شيء فيه كذا هذا. "وجه"
قول أبي حنيفة رحمه الله أنه إذا لم يبرأ عن
الجراحة. وكان لم يزل صاحب فراش حتى مات علم
أنه مات من الجراحة فعلم أن الجراحة حصلت قتلا
من حين وجودها, فكان قتيلا في ذلك الوقت كأنه
مات في المحلة بخلاف ما إذا لم يكن صاحب فراش؛
لأنه إذا لم يصر صاحب فراش لم يعلم أن الموت
حصل من الجراحة فلم يوجد قتيلا في المحلة فلا
يثبت حكمه, وعلى هذا يخرج ما إذا وجد من
القتيل أكثر بدنه أن فيه القسامة والدية؛ لأنه
يسمى قتيلا؛ لأن للأكثر حكم الكل, ولو وجد عضو
من أعضائه كاليد والرجل أو وجد أقل من نصف
البدن فلا قسامة فيه ولا دية؛ لأن الأقل من
النصف لا يسمى قتيلا ولأنا لو أوجبنا في هذا
القدر القسامة لأوجبنا في الباقي قسامة أخرى
فيؤدي إلى اجتماع قسامتين في نفس واحدة وهذا
لا يجوز, وإن وجد النصف, فإن كان النصف الذي
فيه الرأس ففيه القسامة والدية, وإن كان النصف
الآخر فلا قسامة فيه ولا دية؛ لأن الرأس إذا
كان معه يسمى قتيلا وإذا لم يكن لا يسمى
قتيلا؛ لأن الرأس أصل ولأنا لو أوجبنا في
النصف الذي لا رأس فيه للزمنا الإيجاب في
النصف الذي معه الرأس فيؤدي إلى ما قلنا, وإن
وجد الرأس وحده فلا قسامة ولا دية؛ لأن الرأس
وحده لا يسمى قتيلا, وإن وجد النصف مشقوقا فلا
شيء فيه؛ لأن النصف المشقوق لا يسمى قتيلا,
ولأن في اعتباره إيجاب القسامتين على ما بينا,
ونظير هذا ما قلنا في صلاة الجنازة: إذا وجد
أكثر البدن أو أقله أو نصفه على التفصيل الذي
ذكرنا, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها": أن
لا يعلم قاتله, فإن علم فلا قسامة فيه, ولكن
يجب القصاص إن كان قتيلا يوجب القصاص, وتجب
الدية إن كان قتيلا يوجب الدية وقد ذكرنا جميع
ذلك فيما تقدم "ومنها": أن يكون القتيل من بني
آدم عليه الصلاة والسلام فلا قسامة في بهيمة
وجدت في محلة قوم ولا غرم فيها؛ لأن لزوم
القسامة في نفسها أمر ثبت بخلاف القياس؛ لأن
تكرار اليمين غير مشروع, واعتبار عدد الخمسين
غير معقول؛ ولهذا لم يعتبر في سائر الدعاوى,
وكذا وجوب الدية معها؛ لأن اليمين في الشرع
جعلت دافعة للاستحقاق بنفسها كما في سائر
الدعاوى إلا أنا عرفنا ذلك بالنصوص والإجماع
في بني آدم فبقي الأمر فيما وراءهم على الأصل؛
ولهذا لم تجب القسامة والغرامة في سائر
الأموال, كذا في البهائم, وتجب في العبد
القسامة والقيمة إذا وجد قتيلا في غير ملك
صاحبه؛ لأنه آدمي من كل وجه؛ ولهذا يجب فيه
القصاص في العمد, والكفارة في الخطأ, وتغرم
العاقلة قيمته في الخطأ, وهذا على أصلهما,
فأما على أصل أبي يوسف فلا قسامة فيه ولا دية؛
لأن العبد عنده مضمون بالخطأ من حيث إنه مال
لا من حيث إنه آدمي؛ ولهذا قال: تجب قيمته في
القتل الخطأ بالغة ما بلغت, ولا تتحملها
العاقلة, فكان بمنزلة البهيمة. وكذا الجواب في
المدبر وأم الولد والمكاتب والمأذون لما قلنا
وسواء كان القتيل مسلما أو ذميا عاقلا أو
مجنونا بالغا أو صبيا ذكرا أو أنثى؛ لأنه عليه
الصلاة والسلام أطلق القضية بالقسامة والدية
في مطلق قتيل أخبر به في بعض الأحاديث ولم
يستفسر, ولو كان الحكم يختلف لاستفسروا؛ لأن
دم هؤلاء مضمون بالقصاص والدية في العمد
والخطأ, فيكون مضمونا بالقسامة والدية, وسواء
وجد المسلم قتيلا في محلة المسلمين أو في محلة
أهل الذمة؛ لأن عبد الله بن سهل الأنصاري رضي
الله عنه وجد قتيلا في قليب من قليب خيبر
وأوجب رسول الله صلى الله عليه وسلم القسامة
على اليهود. وكذا الذمي؛ لأن لهم ما للمسلمين,
وعليهم ما عليهم إلا ما نص بدليل. "ومنها":
الدعوى من أولياء القتيل؛ لأن القسامة يمين,
واليمين لا تجب بدون الدعوى كما في سائر
الدعاوى, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ومنها:"
إنكار المدعى
ج / 7 ص -289-
عليه؛
لأن اليمين وظيفة المنكر قال عليه الصلاة
والسلام
"واليمين على من أنكر" جعل
جنس اليمين على المنكر فينفي وجوبها على غير
المنكر. "ومنها": المطالبة بالقسامة؛ لأن
اليمين حق المدعي, وحق الإنسان يوفى عند طلبه
كما في سائر الأيمان؛ ولهذا كان الاختيار في
حال القسامة إلى أولياء القتيل؛ لأن الأيمان
حقهم فلهم أن يختاروا من يتهمونه ويستحلفون
صالحي العشيرة الذين يعلمون أنهم لا يحلفون
كذبا, ولو طولب من عليه القسامة بها فنكل عن
اليمين حبس حتى يحلف أو يقر؛ لأن اليمين في
باب القسامة حق مقصود بنفسه لا أنه وسيلة إلى
المقصود, وهو الدية بدليل أنه يجمع بينه وبين
الدية؛ ولهذا قال الحارث بن الأزمع لسيدنا عمر
رضي الله عنه: أنبذل أيماننا وأموالنا؟ فقال:
نعم وروي أن الحارث قال: أما تجزي هذه عن هذه؟
فقال: لا. وروي أنه قال: فبم يبطل دم صاحبكم؟
فإذا كانت مقصودة بنفسها فمن امتنع عن أداء حق
مقصود بنفسه, وهو قادر على الأداء يجبر عليه
بالحبس, كمن امتنع عن قضاء دين عليه مع القدرة
على القضاء بخلاف اليمين في سائر الحقوق فإنها
ليست مقصودة بنفسها بل هي وسيلة إلى المقصود,
وهو المال المدعى. ألا ترى أنه لا يجمع
بينهما؟ بل إذا حلف المدعى عليه برئ, أو لا
ترى أنه إذا لم يحلف المدعى عليه ولم يقر وبذل
المال لا يلزمه شيء؟ وههنا لو لم يحلفوا, ولم
يقروا, وبذلوا الدية لا تسقط عنهم القسامة فدل
أنها مقصودة بنفسها فيجبرون عليها بالحبس,
"وروي عن أبي يوسف" أنهم لا يحبسون, والدية
على العاقلة ذكره القاضي في شرحه مختصر
الطحاوي رحمه الله وذكر فيه أيضا أن الإمام
إذا أيس عن الحلف وسأله الأولياء أن يغرمهم
الدية يقضى عليهم بالدية, والله تعالى أعلم.
"ومنها": أن يكون الموضع الذي وجد فيه القتيل
ملكا لأحد أو في يد أحد, فإن لم يكن ملكا لأحد
ولا في يد أحد أصلا فلا قسامة فيه ولا دية,
وإن كان في يد أحد, يد العموم, لا يد الخصوص,
وهو أن يكون التصرف فيه لعامة المسلمين لا
لواحد منهم, ولا لجماعة يحصون لا تجب القسامة,
وتجب الدية وإنما كان كذلك؛ لأن القسامة أو
الدية إنما تجب بترك الحفظ اللازم على ما
نذكر, فإذا لم يكن ملك أحد, ولا في يد أحد
أصلا لا يلزم أحدا حفظه فلا تجب القسامة
والدية, وإذا كان في يد العامة فحفظه على
العامة لكن لا سبيل إلى إيجاب القسامة على
الكل لتعذر الاستيفاء من الكل, وأمكن إيجاب
الدية على الكل؛ لإمكان الاستيفاء منهم بالأخذ
من بيت المال؛ لأن مال بيت المال مالهم, فكان
الأخذ من بيت المال استيفاء منهم, وعلى هذا
يخرج ما إذا وجد القتيل في فلاة من الأرض ليس
بملك لأحد أنه لا قسامة فيه ولا دية إذا كان
بحيث لا يسمع الصوت من الأمصار, ولا من قرية
من القرى, فإن كان بحيث يسمع الصوت تجب
القسامة على أقرب المواضع إليه, فإن كان أقرب
إلى القرى, فعلى أقرب القرى, وإن كان أقرب إلى
المصر فعلى أقرب محال المصر إليه؛ لأنه إذا
كان بحيث لا يسمع الصوت والغوث لا يلحق ذلك
الموضع, فلم يكن الموضع في يد أحد, فلم يوجد
القتيل في ملك أحد, ولا في يد أحد أصلا فلا
تجب فيه القسامة, ولا الدية, وإذا كانت بحيث
يسمع الصوت والغوث يلحق, فكان من توابع أقرب
المواضع إليه, وقد ورد باعتبار القرب حديث عنه
عليه الصلاة والسلام وقضى به أيضا سيدنا عمر
رضي الله عنه على ما نذكر, ولو وجد في نهر
عظيم كدجلة والفرات وسيحون ونحوها, فإن كان
النهر يجري به فلا قسامة ولا دية؛ لأن النهر
العظيم ليس ملكا لأحد ولا في يد أحد. وقال زفر
رحمه الله: تجب على أقرب القرى من ذلك الموضع
كما إذا وجد على الدابة, وهي تسير, وليست في
يد أحد, وهذا القياس ليس بسديد؛ لأن الموضع
الذي تسير فيه الدابة تابع لأقرب المواضع
إليه, فكان في يد أهله بخلاف النهر الكبير
فإنه لا يدخل تحت يد أحد لا بالأصالة ولا
بالتبعية, وإن كان النهر لا يجري به ولكنه كان
محتسبا في الشط أو مربوطا على الشط أو ملقى
على الشط, فإن كان الشط ملكا فحكمه حكم الأرض
المملوكة أو الدار المملوكة, إذا وجد فيها
قتيل, وسنذكره إن شاء الله تعالى, فإن لم يكن
ملكا لأحد فعلى أقرب المواضع إليه من الأمصار
والقرى من حيث يسمع الصوت: القسامة والدية؛
لأنهم يستقون منه الماء ويوردون دوابهم؛ فكان
لهم تصرف في الشط؛ فكان الشط في أيديهم. وكذلك
لو كان في الجزيرة فعلى أقرب المواضع إلى
الجزيرة من الأمصار والقرى من حيث يسمع الصوت:
القسامة والدية؛ لأن الجزيرة تكون في تصرفهم,
فكانت
ج / 7 ص -290-
في
أيديهم, وإن وجد في نهر صغير مما يقضى فيه
بالشفعة للشركاء في الشرب ففيه القسامة والدية
على أهل النهر؛ لأن النهر مملوك لهم وسواء كان
القتيل محتبسا أو مربوطا على الشط أو كان
النهر يجري به بخلاف النهر الكبير؛ لأنه إذا
كان ملكا لأربابه كان الموضع الذي يجري به
مملوكا لهم, وليس كذلك النهر الكبير, ولا
قسامة في قتيل يوجد في مسجد الجامع, ولا في
شوارع العامة, ولا في جسور العامة؛ لأنه لم
يوجد الملك, ولا يد الخصوص, وتجب الدية على
بيت المال؛ لأن تدبير هذه المواضع ومصلحتها
إلى العامة فكان حفظها عليهم فإذا قصروا ضمنوا
بيت المال مالهم فيؤخذ من بيت المال. وكذلك لا
قسامة في قتيل في سوق العامة, وهي الأسواق
التي ليست بمملوكة, وهي سوق السلطان؛ لأنها
إذا لم تكن مملوكة وليس لأحد عليها يد الخصوص
كانت كالشوارع العامة؛ لأن سوق السلطان لعامة
المسلمين فلا تجب القسامة, وتجب الدية؛ لأن
حفظها والتدبير فيها إلى جماعة المسلمين
فيضمنون بالتقصير؛ فبيت المال مال عامة
المسلمين, فيؤخذ منه. وكذا إذا وجد في مسجد
جماعتهم, ولا قسامة, والدية في بيت المال؛
لأنه لا ملك لأحد فيه, ولا يد الخصوص, ويد
العموم توجب الدية لا القسامة؛ لما بينا, فإن
كان السوق ملكا تجب القسامة والدية لكن على من
تجب فيه اختلاف نذكره في موضعه إن شاء الله
تعالى ولا قسامة في قتيل يوجد في السجن
لانعدام الملك ويد الخصوص؛ لأنه لا تصرف لأهل
السجن في السجن؛ لكونهم مقهورين فيه وتجب
الدية على بيت المال؛ لأن يد العموم ثابتة
عليه, ولأن منفعة السجن لعامة المسلمين؛ لأنه
بني لاستيفاء حقوقهم, ودفع الضرر عنهم, ويد
العموم توجب الدية لا القسامة, وهذا قولهما
وقال أبو يوسف رحمه الله: تجب القسامة والدية
على أهل السجن؛ لأن لهم ضرب تصرف في السجن
فكأن لهم يدا على السجن فعليهم حفظه. "ومنها"
أن لا يكون القتيل ملكا لصاحب الملك الذي وجد
فيه فلا قسامة, ولا دية في قن أو مدبر أو أم
ولد أو مكاتب أو مأذون وجد قتيلا في دار
مولاه؛ لأنه ملكه ووجوده في داره قتيلا,
كمباشرة القتل منه, وقتل المملوك لا يتعلق به
ضمان إلا أن في المكاتب تجب على المولى قيمته؛
لأنه فيما يرجع إلى كسبه وأرش جنايته حر؛ فكان
كسبه وأرشه له, والمولى فيه كالأجنبي, ولا
تعقله العاقلة؛ لأنه إذا صار مضمونا بعقد
الكتابة, والعقد ثبت في حق المولى والمكاتب لا
في حق العاقلة, وفي المأذون عليه قيمته
لغرمائه إن كان له دين؛ لتعلق حق الغرماء
بماليته, وقد استهلك حقهم بالقتل باستهلاك محل
الحق فيجب عليه قيمته لغرمائه, وتكون حالة في
ماله؛ لأن هذا ليس ضمان النفس؛ لأن نفسه ملك
المولى بل هذا ضمان المال لتعلق الغرماء
بماليته, فكان هذا ضمان الاستهلاك, فتكون في
ماله حالة لا مؤجلة كما لو استهلكه بالإعتاق,
وإن لم يكن عليه دين لا شيء فيه. وكذلك إن
قتله عمدا. وكذلك لو كان العبد جنى جناية ثم
وجد قتيلا في دار مولاه فعلى المولى قيمته
حالة وكذلك إن قتله خطأ وهو لا يعلم بجنايته
لما قلنا, ولو وجد العبد الرهن قتيلا في دار
الراهن أو المرتهن, فإن وجد قتيلا في دار
الراهن فلا قسامة, والقيمة على رب الدار دون
العاقلة؛ لأنه ملكه وقتل الإنسان ملك نفسه لا
يوجب الضمان عليه, وإنما وجب الضمان بعقد
الرهن, والعقد ثبت في حق الراهن والمرتهن لا
في حق العاقلة فلا يلزم حكمه العاقلة, وإن وجد
في دار المرتهن فالقسامة والقيمة على عاقلته؛
لأن هذا الضمان لا يجب بالعقد وإنما يجب
بالجناية؛ لأن وجوده في داره قتيلا كمباشرة
القتل منه, كعبد ليس برهن وجد في داره قتيلا,
وثمة القسامة والقيمة عليه, كذا ههنا"وأما"
بيان سبب وجوب القسامة والدية فنقول: سبب
وجوبهما هو التقصير في النصرة وحفظ الموضع
الذي وجد فيه القتيل ممن وجب عليه النصرة
والحفظ؛ لأنه إذا وجب عليه الحفظ فلم يحفظ مع
القدرة على الحفظ صار مقصرا بترك الحفظ الواجب
فيؤاخذ بالتقصير زجرا عن ذلك وحملا على تحصيل
الواجب, وكل من كان أخص بالنصرة والحفظ كان
أولى بتحمل القسامة والدية؛ لأنه أولى بالحفظ
فكان التقصير منه أبلغ, ولأنه إذا اختص
بالموضع ملكا أو يدا بالتصرف كانت منفعته له,
فكانت النصرة عليه؛ إذ الخراج بالضمان على
لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال تبارك
وتعالى
{لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} ولأن القتيل إذا وجد في موضع اختص به واحد أو جماعة إما بالملك أو
باليد, وهو التصرف فيه فيتهمون أنهم قتلوه,
فالشرع ألزمهم القسامة دفعا للتهمة
ج / 7 ص -291-
والدية
لوجود القتيل بين أظهرهم وإلى هذا المعنى أشار
سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه حينما قيل:
أنبذل أموالنا وأيماننا؟ فقال: أما أيمانكم
فلحقن دمائكم, وأما أموالكم فلوجود القتيل بين
أظهركم وإذا عرف هذا فنقول القتيل إذا وجد في
المحلة فالقسامة والدية على أهل المحلة
للأحاديث وإجماع الصحابة رضي الله عنهم على ما
ذكرنا, ولأن حفظ المحلة عليهم, ونفع ولاية
التصرف في المحلة عائد إليهم, وهم المتهمون في
قتله؛ فكانت القسامة والدية عليهم. وكذا إذا
وجد في مسجد المحلة أو في طريق المحلة؛ لما
قلنا فيحلف منهم خمسون, فإن لم يكمل العدد
خمسين رجلا تكرر الأيمان عليهم حتى تكمل خمسين
يمينا؛ لما روي عن سيدنا عمر رضي الله تعالى
عنه أنه حلف رجال القسامة فكانوا تسعة وأربعين
رجلا, فأخذ منهم واحدا, وكرر عليه اليمين حتى
كملت خمسين يمينا. وكان ذلك بمحضر الصحابة رضي
الله عنهم ولم ينقل أنه خالفه أحد؛ فيكون
إجماعا, ولأن هذه الأيمان حق ولي القتيل, فله
أن يستوفيها ممن يمكن استيفاؤها منه, فإن أمكن
الاستيفاء من عدد الرجال الخمسين استوفى, وإن
لم يمكن يستوفي عدد الأيمان التي هي حقه, وإن
كان العدد كاملا فأراد الولي أن يكرر اليمين
على بعضهم ليس له ذلك كذا ذكر محمد رحمه الله
لأن موضوع هذه الأيمان على عدد الخمسين في
الأصل لا على واحد, وإنما التكرار على واحد
لضرورة نقصان العدد, ولا ضرورة عند الكمال,
وإن كان في المحلة قبائل شتى, فإن كان فيها
أهل الخطة والمشترون فالقسامة والدية على أهل
الخطة ما بقي منهم واحد في قول أبي حنيفة
ومحمد عليهما الرحمة وقال أبو يوسف رحمه الله:
عليهم وعلى المشترين جميعا. "وجه" قوله: أن
الوجوب على أهل الخطة باعتبار الملك, والملك
ثابت للمشترين؛ ولهذا إذا لم يكن من أهل الخطة
أحد كانت القسامة على المشترين. "وجه" قولهما:
أن أهل الخطة أصول في الملك؛ لأن ابتداء الملك
ثبت لهم, وإنما انتقل عنهم إلى المشترين,
فكانوا أخص بنصرة المحلة وحفظها من المشترين,
فكانوا أولى بإيجاب القسامة والدية عليهم وكان
المشتري بينهم كالأجنبي فما بقي واحد منهم لا
ينتقل إلى المشتري, وقيل: إن أبا حنيفة بنى
الجواب على ما شاهد بالكوفة وكان تدبير أمر
المحلة فيها إلى أهل الخطة, وأبو يوسف رأى
التدبير إلى الأشرف ومن أهل المحلة كانوا من
أهل الخطة أو لا, فبنى الجواب على ذلك فعلى
هذا لم يكن بينهما خلاف في الحقيقة؛ لأن كل
واحد منهما عول على معنى الحفظ والنصرة, فإن
فقد أهل الخطة. وكان في المحلة ملاك وسكان
فالدية على الملاك لا على السكان عند أبي
حنيفة ومحمد وعند أبي يوسف: عليهم جميعا له ما
روي أن رسول الله عليه الصلاة والسلام "أوجب
القسامة على أهل خيبر وكانوا سكانا" ولأن
للساكن اختصاصا بالدار يدا كما أن للمالك
اختصاصا بها ملكا, ويد الخصوص تكفي لوجوب
القسامة. "وجه" قولهما: أن المالك أخص بحفظ
الموضع ونصرته من السكان؛ لأن اختصاصه اختصاص
ملك, وأنه أقوى من اختصاص اليد. ألا يرى أن
السكان يسكنون زمانا ثم ينتقلون. وأما إيجاب
القسامة على يهود خيبر فممنوع أنهم كانوا
سكانا, بل كانوا ملاكا فإنه روي أنه عليه
الصلاة والسلام أقرهم على أملاكهم ووضع الجزية
على رءوسهم, وما كان يؤخذ منهم كان يؤخذ على
وجه الجزية لا على سبيل الأجرة. ولو وجد قتيل
في سفينة, فإن لم يكن معهم ركاب فالقسامة
والدية على أرباب السفينة, وعلى من يمدها ممن
يملكها أو لا يملكها, وإن كان معهم فيها ركاب
فعليهم جميعا, وهذا في الظاهر يؤيد قول أبي
يوسف في إيجابه القسامة والدية على الملاك
والسكان جميعا, وأبو حنيفة ومحمد رحمهما الله
يفرقان بين السفينة والمحلة؛ لأن السفينة تنقل
وتحول من مكان إلى مكان فتعتبر فيها اليد دون
الملك كالدابة إذا وجد عليها قتيل, بخلاف
الدار فإنها لا تحتمل النقل والتحويل, فيعتبر
فيها الملك والتحويل ما أمكن لا اليد. وكذلك
العجلة حكمها حكم السفينة؛ لأنها تنقل وتحول,
ولو وجد القتيل معه رجل يحمله على ظهره فعليه
القسامة والدية؛ لأن القتيل في يده, ولو وجد
جريح معه به رمق يحمله حتى أتى به أهله فمكث
يوما أو يومين ثم مات لا يضمن عند أبي يوسف.
وقال أبو يوسف: وفي قياس قول أبي حنيفة رضي
الله عنه يضمن. "وجه" القياس: أن الحامل قد
ثبتت يده عليه مجروحا فإذا مات من الجرح فكأنه
مات في يده وهذا تفريع على من جرح في قبيلة
فتحامل إلى قبيلة أخرى
ج / 7 ص -292-
فمات
فيهم, وقد ذكرناه فيما تقدم. وكذلك إذا كان
على دابة, ولها سائق أو قائد أو عليها راكب
فعليه القسامة والدية؛ لأنه في يده, وإن اجتمع
السائق والقائد والراكب فعليهم جميعا؛ لأن
القتيل في أيديهم, فصار كأنه وجد في دارهم,
وإن وجد على دابة لا سائق لها ولا قائد ولا
راكب عليها, فإن كان ذلك الموضع ملكا لأحد
فالقسامة والدية على المالك, وإن كان لا مالك
له فعلى أقرب المواضع إليه من حيث يسمع الصوت
من الأمصار والقرى, وإن كان بحيث لا يسمع فهو
هدر لما قلنا فيما تقدم, فإن وجدت الدابة في
محلة فعلى أهل تلك المحلة. وكذلك إذا وجد في
فلاة من الأرض أنه ينظر إن كان ذلك المكان
الذي وجد فيه ملكا لإنسان فالقسامة والدية
عليه, وإن لم يكن له مالك فعلى أقرب المواضع
إليه من الأمصار والقرى, إذا كانت بحيث يبلغ
الصوت منها إليه, فإن كان بحيث لا يبلغ فهو
هدر لما قلنا, وذكر في الأصل في قتيل وجد بين
قريتين أنه يضاف إلى أقربهما لما روي عن أبي
سعيد الخدري رضي الله عنه أن "النبي عليه
الصلاة والسلام أمر بأن يوزع بين قريتين في
قتيل وجد بينهما" وكذا روي عن سيدنا عمر رضي
الله عنه في قتيل وجد بين وداعة وأرحب, وكتب
إليه عامله بذلك, فكتب إليه سيدنا عمر رضي
الله عنه أن قس بين القريتين فأيهما كان أقرب
فألزمهم فوجد القتيل إلى وداعة أقرب فألزموا
القسامة والدية, وذلك كله محمول على ما إذا
كان بحيث يبلغ الصوت إلى الموضع الذي وجد فيه
القتيل, كذا ذكر محمد في الأصل حكاه الكرخي
رحمه الله والفقه ما ذكرنا فيما تقدم. وكذا
إذا وجد بين سكتين فالقسامة والدية على
أقربهما, فإن وجد في المعسكر في فلاة من
الأرض, فإن كانت الأرض التي وجد فيها لها
أرباب فالقسامة والدية على أرباب الأرض؛ لأنهم
أخص بنصرة الموضع وحفظه, فكانوا أولى بإيجاب
القسامة والدية عليهم, وهذا على أصلهما؛ لأن
المعسكر كالسكان, والقسامة على الملاك لا على
السكان على أصلهما "فأما" على أصل أبي يوسف
رحمه الله فالقسامة والدية عليهم جميعا, وإن
يكن في ملك أحد بأن وجد في خباء أو فسطاط فعلى
من يسكن الخباء والفسطاط, وعلى عواقلهم
القسامة والدية؛ لأن صاحب الخيمة خص بموضع
الخيمة من أهل العسكر بمنزلة صاحب الدار مع
أهل المحلة ثم القسامة على صاحب الدار إذا وجد
فيها قتيل لا على أهل المحلة, كذا ههنا. وإن
وجد خارجا من الفسطاط والخباء فعلى أقرب
الأخبية والفساطيط منهم القسامة والدية, كذا
ذكر في ظاهر الرواية؛ لأن الأقرب أولى بإيجاب
القسامة والدية؛ لما ذكرنا وعن أبي حنيفة رضي
الله عنه: إذا وجد بين الخيام فالقسامة والدية
على جماعتهم, كالقتيل يوجد في المحلة جعل
الخيام المحمولة كالمحلة على هذه الرواية, هذا
إذا لم يكن العسكر لقوا عدوا, فإن كانوا قد
لقوا عدوا فقاتلوا فلا قسامة, ولا دية في قتيل
يوجد بين أظهرهم؛ لأنهم إذا لقوا عدوا وقاتلوا
فالظاهر أن العدو قتله لا المسلمون؛ إذ
المسلمون لا يقتل بعضهم بعضا, ولو وجد قتيل في
أرض رجل إلى جانب قرية ليس صاحب الأرض من أهل
القرية فالقسامة والدية على صاحب الأرض لا على
أهل القرية؛ لأن صاحب الأرض أخص بنصرة أرضه
وحفظها من أهل القرية, فكان أولى بإيجاب
القسامة والدية عليه, كصاحب الدار مع أهل
المحلة. لو وجد قتيل في دار إنسان, وصاحب
الدار من أهل القسامة فالقسامة والدية على
صاحب الدار, وعلى عاقلته كذا ذكر في الأصل ولم
يفصل بين ما إذا كانت العاقلة حضورا أو غيبا,
وذكر في اختلاف زفر ويعقوب رحمهما الله أن
القسامة على رب الدار وعلى عاقلته حضورا كانوا
أو غيبا. وقال أبو يوسف رحمه الله: لا قسامة
على العاقلة, هكذا ذكر فيه وقال الكرخي رحمه
الله: إن كانت العاقلة حضورا في المصر دخلوا
في القسامة, وإن كانت غائبة فالقسامة على صاحب
الدار تكرر عليه الأيمان, والدية عليه وعلى
عاقلته أما دخول العاقلة في القسامة, إذا
كانوا حضورا فهو قولهما, وظاهر قول أبي يوسف:
لا قسامة على العاقلة يقتضي أن لا يدخلوا في
القسامة. "وجه" قول زفر رحمه الله: أنه لما
لزمتهم الدية لزمتهم القسامة, كأهل المحلة,
ولأبي يوسف أن صاحب الدار أخص بالنصرة
وبالولاية والتهمة فلا يشاركه العاقلة كما لا
يشارك أهل المحلة غيرهم. "وجه" قولهما: أن
العاقلة إذا كانوا حضورا يلزمهم حفظ الدار
ونصرتها كما يلزم صاحب الدار. وكذا يتهمون
بالقتل كما يتهم صاحب الدار فقد شاركوا في سبب
وجوب القسامة
ج / 7 ص -293-
فيشاركونه في القسامة أيضا وبهذا يقع الفرق
بين حال الحضور والغيبة على ما ذكره الكرخي
رحمه الله لأن معنى التهمة ظاهر الانتفاء من
الغيب. وكذا معنى النصرة؛ لأنه لا يلحق ذلك
الموضع نصرة من جهتهم إلا أنه تجب عليهم
الدية؛ لأن وجوب الدية على العاقلة لا يتعلق
بالتهمة؛ فإنهم يتحملون عن القاتل المعين, إذا
كان صبيا أو مجنونا أو خاطئا وسواء كانت الدار
فيها ساكن أو كانت مفرغة مغلقة فوجد فيها قتيل
فعلى رب الدار وعلى عاقلته القسامة والدية
وأما على أصل أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما
فظاهر؛ لأنهما يعتبران الملك دون السكنى؛ فكان
وجود السكنى فيها والعدم بمنزلة واحدة. "وأما"
أبو يوسف رحمه الله فإنما يوجب على الساكن
لاختصاصه بالدار يدا ولم يوجد ههنا, وسواء كان
الملك الذي وجد فيه القتيل خاصا أو مشتركا
فالقسامة والدية على أرباب الملك؛ لما قلنا,
وسواء اتفق قدر أنصباء الشركاء أو اختلف
فالقسامة والدية بينهم بالسوية حتى لو كانت
الدار بين رجلين لأحدهما الثلثان وللآخر الثلث
فالقسامة عليهما وعلى عاقلتهما نصفان, ويعتبر
في ذلك عدد الرءوس لا قدر الأنصباء كما في
الشفعة؛ لأن حفظ الدار واجب على كل واحد
منهما, والحفظ لا يختلف؛ ولهذا تساويا في
استحقاق الشفعة؛ لأن الاستحقاق لدفع ضرر
الدخيل, وإنه لا يختلف باختلاف قدر الملك,
وذكر في الجامع الصغير فيمن باع دارا, وجد
فيها قتيل قبل أن يقبضها المشتري: أن القسامة
والدية على البائع, إذا لم يكن في البيع خيار,
فإن كان فيه خيار فعلى من الدار في يده في قول
أبي حنيفة, وعند أبي يوسف ومحمد: الدية على
مالك الدار إن لم يكن في البيع خيار, فإن كان
فيه خيار فعلى من تصير الدار له وعند زفر رحمه
الله: الدية على المشتري إلا أن يكون للبائع
خيار, فتكون الدية عليه. "وجه" قول زفر: أن
الملك للمشتري إذا لم يكن فيه خيار. وكذا إذا
كان الخيار للمشتري؛ لأن خيار المشتري لا يمنع
دخول المبيع في ملكه عنده, فإذا كان الخيار
للبائع فالملك له؛ لأن خياره يمنع زوال المبيع
عن ملكه بلا خلاف. "وجه" قولهما: أنه إذا لم
يكن فيه خيار فالملك للمشتري, وإنما للبائع
صورة يد من غير تصرف, وصورة اليد لا مدخل لها
في القسامة, كيد المودع, فكانت القسامة والدية
على المشتري, وإذا كان فيه خيار فعلى من تصير
الدار له؛ لأنها إذا صارت للبائع فقد انفسخ
البيع, وجعل كأنه لم يكن, وإن صارت للمشتري
فقد انبرم البيع وتبين أنه ملكها بالعقد من
حين وجوده. "وأما" تصحيح مذهب أبي حنيفة رضي
الله عنه فمشكل من حيث الظاهر؛ لأنه يعتبر
الملك فيما يحتمل النقل والتحويل لا اليد, وإن
كانت اليد يد تصرف كيد الساكن, والثابت للبائع
صورة يد من غير تصرف, فأولى أن لا يعتبره, لكن
لا إشكال في الحقيقة؛ لأن الوجوب بترك الحفظ,
والحفظ باليد حقيقة, إلا أنه يضاف الحفظ إلى
الملك؛ لأن استحقاق اليد به عادة, فيقام مقام
اليد, فكانت الإضافة إلى ما به حقيقة الحفظ
أولى إلا أن مطلق اليد لا يعتبر بل اليد
المستحقة بالملك, وهذه يد مستحقة بالملك بخلاف
يد الساكن. وإذا وجد رجل قتيلا في دار نفسه
فالقسامة والدية على عاقلته لورثته في قول أبي
حنيفة رضي الله عنه وفي قولهما رحمهما الله لا
شيء فيه, وهو قول زفر والحسن بن زياد رحمهم
الله وروي عن أبي حنيفة رحمه الله مثل قولهم
"وجه" قولهم: أن القتل صادفه, والدار ملكه,
وإنما صار ملك الورثة عند الموت, والموت ليس
بقتل؛ لأن القتل فعل القاتل, ولا صنع لأحد في
الموت, بل هو من صنع الله تبارك وتعالى فلم
يقتل في ملك الورثة فلا سبيل إلى إيجاب الضمان
على الورثة وعواقلهم, ولأن وجوده قتيلا في دار
نفسه بمنزلة مباشرة القتل بنفسه كأنه قتل نفسه
بنفسه فيكون هدرا, ولأبي حنيفة رضي الله عنه
أن المعتبر في القسامة وقت ظهور القتيل, لا
وقت وجود القتل بدليل أن من مات قبل ذلك لا
يدخل في الدية, والدار وقت ظهور القتيل
لورثته؛ فكانت القسامة والدية عليهم وعلى
عواقلهم تجب, كما لو وجد قتيلا في دار ابنه,
فإن قيل كيف تجب الدية عليهم وعلى عواقلهم,
وأن الدية تجب لهم؟ فكيف تجب لهم وعليهم؟ وكذا
عاقلتهم تتحمل عنهم لهم أيضا, وفيه إيجاب لهم
أيضا وعليهم, وهذا ممتنع فالجواب: ممنوع أن
الدية تجب لهم بل للقتيل؛ لأنها بدل نفسه
فتكون له, وبدليل أنه يجهز منها, وتقضى منها
ديونه, وتنفذ منها وصاياه ثم ما فضل عن حاجته
تستحقه ورثته لاستغناء الميت عنه, والورثة
أقرب الناس إليه وصار كما لو وجد الأب قتيلا
في دار ابنه أو في بئر حفرها ابنه أليس أنه
تجب القسامة والدية على الابن وعلى عاقلته ولا
ج / 7 ص -294-
يمتنع
ذلك؛ لما قلنا كذا هذا, وإن اعتبرنا وقت وجود
القتل فهو ممكن أيضا؛ لأنه تجب على عاقلته
لتقصيرهم في حفظ الدار فتجب عليهم الدية حقا
للمقتول ثم تنتقل منه إلى ورثته عند فراغه عن
حاجته, وذكر محمد إذا وجد ابن الرجل أو أخوه
قتيلا في داره أن على عاقلته دية ابنه ودية
أخيه, وإن كان هو وارثه؛ لما قلنا: إن وجود
القتيل في الدار كمباشرة صاحبها القتل فيلزم
عاقلته ذلك للمقتول ثم يستحقها صاحب الدار
بالإرث, ولو وجد مكاتب قتيلا في دار نفسه فدمه
هدر؛ لأن داره في وقت ظهور القتيل ليست لورثته
بل هي على حكم ملك نفسه إلى أن يؤدي بدل
الكتابة, فصار كأنه قتل نفسه فهدر دمه رجلان
كانا في بيت ليس معهما ثالث وجد أحدهما مذبوحا
قال أبو يوسف: يضمن الآخر الدية. وقال محمد:
لا ضمان عليه. "وجه" قوله: أنه يحتمل أنه قتله
صاحبه ويحتمل أنه قتل نفسه فلا يجب الضمان
بالشك, ولأبي يوسف أن الظاهر أنه قتله صاحبه؛
لأن الإنسان لا يقتل نفسه ظاهرا وغالبا,
واحتمال خلاف الظاهر ملحق بالعدم. ألا ترى أن
مثل هذا الاحتمال ثابت في قتيل المحلة ولم
يعتبر.
"فصل": وأما بيان من يدخل في القسامة والدية بعد وجوبهما, ومن لا يدخل في
ذلك فنقول وبالله التوفيق: الصبي والمجنون لا
يدخلان في القسامة في أي موضع وجد القتيل سواء
وجد في غير ملكهما أو في ملكهما؛ لأن القسامة
يمين, وهما ليسا من أهل اليمن؛ ولهذا لا
يستحلفان في سائر الدعاوى, ولأن القسامة تجب
على من هو من أهل النصرة, وهما ليسا من أهل
النصرة؛ فلا تجب القسامة عليهما, وتجب على
عاقلتهما إذا وجد القتيل في ملكهما لتقصيرهم
بترك النصرة اللازمة. وهل يدخلان في الدية مع
العاقلة؟ فإن وجد القتيل في غير ملكهما
كالمحلة وملك إنسان لا يدخلان فيها, وإن وجد
في ملكهما يدخلان؛ لأن وجود القتيل في ملكهما
كمباشرتهما القتل, وهما مؤاخذان بضمان
الأفعال, وعلى قياس ما ذكره الطحاوي رحمه الله
لا يدخلان في الدية مع العاقلة أصلا, لكنه ليس
بسديد؛ لأن هذا ضمان القتل, والقتل فعل والصبي
والمجنون مؤاخذان بأفعالهما ولا يدخل العبد
المحجور والمدبر وأم الولد في القسامة والدية؛
لأن هؤلاء لا يستنصر بهم عادة, وليسوا من أهل
ملك المال أيضا؛ فلا تلزمهم الدية. وأما
المأذون والمكاتب فلا يدخلان في قسامة وجبت في
قتيل وجد في غير دارهما, وإن وجد في دارهما
أما المأذون إن لم يكن عليه دين فلا قسامة
عليه, بل على مولاه وعاقلته استحسانا, والقياس
أن تجب عليه القسامة, وإذا حلف يخاطب المولى
بالدفع أو الفداء. "وجه" القياس: أن العبد من
أهل اليمين. ألا يرى أنه يستحلف في الدعاوى؟
ووجود القتيل في داره بمنزلة مباشرة القتل
خطأ, وإن قتله خطأ يخير المولى بين الدفع
والفداء, كذا هذا. وجه الاستحسان: أن فائدة
الاستحلاف جريان القسامة لسبب هو النكول؛ لأنه
لا يقضى بالنكول في هذا الباب بل يحبس حتى
يحلف أو يقر, ولو أقر بالقتل خطأ لا يصح
إقراره؛ لأنه إقرار على مولاه فلم يكن
الاستحلاف مفيدا فلا تجب عليه القسامة, وتجب
على المولى, وعلى عاقلته؛ لأن الملك له, وإن
كان عليه دين فينبغي في قياس قول أبي حنيفة:
إنه تجب القسامة على العبد؛ لأن المولى لا
يملك كسب عبده المأذون المديون عنده؛ فلا يملك
الدار, وفي الاستحسان: تجب على المولى؛ لأن
المولى إن كان لا يملكها فالغرماء لا يملكونها
أيضا, والعبد لا ملك له, والمولى أقرب الناس
إليه, فكانت القسامة عليه مع ما أن للمولى حقا
في الدار, وهو حق استخلاصها لنفسه بقضاء دين
الغرماء, فكان أولى بإيجاب القسامة "وأما"
المكاتب إذا وجد قتيلا في داره فعليه الأقل من
قيمته, ومن الدار؛ لأن وجود القتيل في داره
كمباشرته القتل فلا يكون على مولاه كما لا
يكون عليه في مباشرته. وهل تجب عليه القسامة؟
ذكر القاضي في شرحه مختصر الطحاوي أنه يكرر
عليه الأيمان, فإن حلف يجب عليه الأقل من
قيمته ومن الدية إلا قدر عشرة دراهم؛ لأن
عاقلة المكاتب نفسه, وتكون القيمة حالة؛ لأنها
تجب بالمنع من الدفع, فتكون حالة كما تجب على
المولى بجناية المدبر, ولو كان القتيل مولى
المكاتب كان عليه الأقل من قيمته ومن الدية؛
لأن وجود القتيل في داره كمباشرته القتل وتكون
القيمة حالة لا مؤجلة؛ لما قلنا, ولا تدخل
المرأة في القسامة والدية في قتيل يوجد في غير
ملكها؛ لأن وجوبهما بطريق النصرة وهي ليست من
أهلها, وإن وجد في دارها أو في قرية لها لا
يكون بها غيرها عليها القسامة فتستحلف
ج / 7 ص -295-
ويكرر
عليها الأيمان, وهذا قولهما. وقال أبو يوسف:
عليها لا على عاقلتها. وجه قوله: أن لزوم
القسامة للزوم النصرة, وهي ليست من أهل النصرة
فلا تدخل في القسامة؛ ولهذا لم تدخل مع أهل
المحلة. "وجه" قولهما: أن سبب الوجوب على
المالك هو الملك مع أهلية القسامة, وقد وجد في
حقها, أما الملك فثابت لها. وأما الأهلية فلأن
القسامة يمين, وأنها من أهل اليمين. ألا ترى
أنها تستحلف في سائر الحقوق؟ ومعنى النصرة
يراعى وجوده في الجملة لا في كل فرد كالمشقة
في السفر. وهل تدخل مع العاقلة في الدية؟ ذكر
الطحاوي ما يدل على أنها لا تدخل فإنه قال: لا
يدخل القاتل في التحمل إلا أن يكون ذكرا عاقلا
بالغا, فإذا لم تدخل عند وجود القتل منها عينا
فههنا أولى, وأصحابنا رضي الله عنهم قالوا: إن
المرأة تدخل مع العاقلة في الدية في هذه
المسألة, وأنكروا على الطحاوي قوله وقالوا: إن
القاتل يدخل في الدية بكل حال, ويدخل في
القسامة والدية الأعمى والمحدود في القذف
والكافر؛ لأنهم من أهل الاستحلاف والحفظ والله
سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما ما يكون إبراء عن القسامة والدية فنوعان: نص ودلالة, أما النص
فهو التصريح بلفظ الإبراء وما يجري مجراه
كقوله: أبرأت أو أسقطت أو عفوت ونحو ذلك؛ لأن
ركن الإبراء صدر ممن هو من أهل الإبراء في محل
قابل للبراءة فيصح. وأما الدلالة فهي: أن يدعي
ولي القتيل على رجل من غير أهل المحلة فيبرأ
أهل المحلة عن القسامة والدية؛ لأن ظهور
القتيل في المحلة يدل على كون هذا المدعى عليه
قاتلا, فإقدام الولي على الدعوى عليه يكون
نفيا للقتل عن أهل المحلة, فيتضمن براءتهم عن
القسامة والدية, فإن أقام البينة على المدعى
عليه, وإلا حلف, فإن حلف برئ, وإن نكل حبس حتى
يحلف أو يقر في قول أبي حنيفة رحمه الله
"وعندهما": يقضى بالدية, ولو شهد اثنان من أهل
المحلة للولي بهذه الدعوى لا تقبل شهادتهما في
قول أبي حنيفة رحمه الله وعندهما: تقبل. "وجه"
قولهما: أن المانع من القبول قبل الدعوى كانت
التهمة, وقد زالت بالبراءة فلا معنى لرد
الشهادة ولأبي حنيفة رحمه الله: أنه تمكنت
التهمة في شهادتهم من وجهين: أحدهما: أن من
الجائز أنه أبرأهم ليتوسل بالإبراء إلى تصحيح
شهادتهم, والثاني أنه أحسن إليهم بالإبراء حيث
أسقط القسامة والدية عنهم, فمن الجائز أنهم
أرادوا بالمكافأة على ذلك, والشهادة ترد
بالتهمة من وجه واحد فمن وجهين أولى, ولأن أهل
المحلة كانوا خصماء في هذه الدعوى فلا تقبل
شهادتهم, وإن خرجوا بالإبراء عن الخصومة؛ لأن
السبب الموجب لكونهم خصماء قائم, وهو وجود
القتيل فيهم كالوكيل بالخصومة إذا خاصم ثم عزل
فشهد لا تقبل شهادته, كذا هذا, ولو ادعى ولي
القتيل على رجل بعينه من أهل المحلة فالقسامة
والدية بحالها في ظاهر الرواية وروى عبد الله
بن المبارك عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن
القسامة تسقط. وكذا روى محمد. وقال أبو يوسف:
القياس أن تسقط القسامة إلا أنا تركناه للأثر.
"وجه" رواية ابن المبارك رحمه الله: أن تعيين
الولي واحدا منهم إبراء عن الباقين دلالة
فتسقط عنهم القسامة, كما لو أبرأهم نصا. "وجه"
ظاهر الرواية: أن القاتل أحد أهل المحلة
ظاهرا, والولي كذلك إلا أنه عين, وهو متهم في
التعيين فلا يعتبر تعيينه إلا بالبينة فلا
يعتبر حكم القسامة إلا بها, فإن أقام البينة
من غير أهل المحلة على دعواه يقضى بها, فيجب
القصاص في العمد, والدية في الخطأ, ولو شهد
شاهدان من المحلة عليه لا تقبل شهادتهما على
ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن
الخصومة بعد هذه الدعوى قائمة فكان الشاهد
خصما؛ لأنه يقطع الخصومة عن نفسه بشهادته ولا
شهادة للخصم, وإذا لم تقبل شهادة أهل المحلة
عليه, ولم يقم بينة أخرى, وبقيت القسامة على
أهل المحلة على حالها يحلف المدعى عليه
والشاهدان مع أهل المحلة حتى يكمل خمسون رجلا
من أهل المحلة ثم كيف يستحلف الشهود مع أهل
المحلة؟ عندهما يحلفون بالله سبحانه وتعالى ما
قتلناه, ولا علمنا له قاتلا غير فلان, وعند
أبي يوسف يحلفون بالله جل شأنه ما قتلناه ولا
يزادون على ذلك؛ لأن عندهم أن المشهود عليه
قاتل فلا سبيل إلى استحلافهم على العلم, وما
قاله أبو حنيفة ومحمد رحمهما الله أولى؛ لأن
فيما قالاه مراعاة موضوع القسامة, وهو الجمع
بين اليمين على البتات والعلم بالقدر الممكن
فيما وراء المستثنى, وفيما قاله أبو يوسف ترك
اليمين على العلم أصلا فكان ما قالاه
ج / 7 ص -296-
أولى,
ولو ادعى على أهل تلك المحلة على رجل منهم أو
من غيرهم تصح دعواهم, فإن أقاموا البينة على
ذلك الرجل يجب القصاص في العمد, والدية في
الخطأ إن وافقهم الأولياء في الدعوى على ذلك
الرجل, وإن لم يوافقهم في الدعوى عليه لا يجب
عليه شيء؛ لأن الأولياء قد أبرءوه حيث أنكروا
وجود القتل منه, ولا يجب على أهل المحلة أيضا
لأنهم أثبتوا القتل على غيرهم وإن لم يقم لهم
البينة وحلف ذلك الرجل تجب القسامة على أهل
المحلة ثم كيف يحلفون؟ فهو على الاختلاف الذي
ذكرنا والله سبحانه وتعالى الموفق.
"فصل": وأما الجناية على ما دون النفس مطلقا فالكلام في هذه الجناية يقع
في موضعين: أحدهما: في بيان أنواعها, والثاني
في بيان حكم كل نوع منها, أما الأول فالجناية
على ما دون النفس مطلقا أنواع أربعة: أحدها:
إبانة الأطراف, وما يجري مجرى الأطراف,
والثاني: إذهاب معاني الأطراف مع إبقاء
أعيانها, والثالث: الشجاج, والرابع: الجراح,
أما النوع الأول فقطع اليد والرجل والأصبع
والظفر والأنف واللسان والذكر والأنثيين
والأذن والشفة وفقء العينين وقطع الأشفار
والأجفان وقلع الأسنان وكسرها وحلق شعر الرأس
واللحية والحاجبين والشارب. وأما النوع الثاني
فتفويت السمع والبصر والشم والذوق والكلام
والجماع والإيلاد والبطش والمشي, وتغير لون
السن إلى السواد والحمرة والخضرة ونحوها مع
قيام المحال الذي تقوم بها هذه المعاني, ويلحق
بهذا الفصل إذهاب العقل. وأما النوع الثالث:
فالشجاج أحد عشر أولها: الخارصة, ثم الدامعة,
ثم الدامية, ثم الباضعة, ثم المتلاحمة, ثم
السمحاق, ثم الموضحة, ثم الهاشمة, ثم المنقلة,
ثم الآمة, ثم الدامغة. "فالخارصة": هي التي
تخرص الجلد أي تشقه, ولا يظهر منها الدم
والدامعة: هي التي يظهر منها الدم ولا يسيل
كالدمع في العين والدامية: هي التي يسيل منها
الدم والباضعة: هي التي تبضع اللحم أي تقطعه
والمتلاحمة: هي التي تذهب في اللحم أكثر مما
تذهب الباضعة فيه هكذا روى أبو يوسف وقال
محمد: المتلاحمة قبل الباضعة, وهي التي يتلاحم
منها الدم ويسود والسمحاق: اسم لتلك الجلدة
إلا أن الجراحة سميت بها والموضحة: التي تقطع
السمحاق, وتوضح العظم أي: تظهره والهاشمة: هي
التي تهشم العظم أي تكسره والمنقلة: هي التي
تنقل العظم بعد الكسر أي: تحوله من موضع إلى
موضع والآمة: هي التي تصل إلى أم الدماغ, وهي
جلدة تحت العظم فوق الدماغ والدامغة: هي التي
تخرق تلك الجلدة, وتصل إلى الدماغ فهذه إحدى
عشر شجة, ومحمد ذكر الشجاج تسعا, ولم يذكر
الخارصة ولا الدامغة؛ لأن الخارصة لا يبقى لها
أثر عادة, والشجة التي لا يبقى لها أثر لا حكم
لها في الشرع, والدامغة لا يعيش الإنسان معها
عادة بل تصير نفسا ظاهرا وغالبا فتخرج من أن
تكون شجة فلا معنى لبيان حكم الشجة فيها؛ لذلك
ترك محمد ذكرهما والله سبحانه وتعالى أعلم.
"وأما" النوع الرابع فالجراح نوعان: جائفة
وغير جائفة, فالجائفة: هي التي تصل إلى الجوف,
والمواضع التي تنفذ الجراحة منها إلى الجوف:
هي الصدر, والظهر, والبطن, والجنبان, وما بين
الأنثيين والدبر, ولا تكون في اليدين والرجلين
ولا في الرقبة والحلق جائفة؛ لأنه لا يصل إلى
الجوف. وروي عن أبي يوسف إن ما وصل من الرقبة
إلى الموضع الذي لو وصل إليه من الشراب قطرة
يكون جائفة؛ لأنه لا يقطر إلا إذا وصل إلى
الجوف, ولا تكون الشجة إلا في الرأس والوجه
وفي مواضع العظم مثل: الجبهة, والوجنتين,
والصدغين, والذقن دون الخدين, ولا تكون الآمة
إلا في الرأس والوجه, وفي الموضع الذي تتخلص
منه إلى الدماغ, ولا يثبت حكم هذه الجراحات
إلا في هذه المواضع عند عامة العلماء رضي الله
عنهم وقال بعض الناس: يثبت حكم هذه الجراحات
في كل البدن, وهذا غير سديد؛ لأن هذا القائل
إن رجع في ذلك إلى اللغة فهو غلط؛ لأن العرب
تفصل بين الشجة وبين مطلق الجراحة فتسمي ما
كان في الرأس والوجه في مواضع العظم منها شجة,
وما كان في سائر البدن جراحة, فتسمية الكل شجة
يكون غلطا في اللغة, وإن رجع فيه إلى المعنى
فهو خطأ؛ لأن حكم هذه الشجاج يثبت للشين الذي
يلحق المشجوج ببقاء أثرها بدليل أنها لو برئت
ولم يبق لها أثر لم يجب بها أرش والشين إنما
يلحق فيها فيما يظهر في البدن, وذلك هو الوجه
والرأس, وأما ما سواهما فلا يظهر بل لعلها
يغطى عادة فلا يلحق الشين فيه مثل ما يلحق في
الوجه والرأس
ج / 7 ص -297-
والله
سبحانه وتعالى الموفق.
"فصل": وأما أحكام هذه الأنواع فهذه الأنواع مختلفة الأحكام "منها": ما
يجب فيه القصاص, ومنها ما يجب فيه دية كاملة,
ومنها ما يجب فيه أرش مقدر "ومنها" ما يجب فيه
أرش غير مقدر "أما" الذي فيه القصاص فهو الذي
استجمع شرائط الوجوب فيقع الكلام في موضعين:
"أحدهما": في بيان شرائط وجوب القصاص
"والثاني": في بيان وقت الحكم بالقصاص "أما"
الأول: فنقول: شرائط وجوب القصاص أنواع:
"بعضها": يعم النفس وما دونها, وبعضها يخص ما
دون النفس. "أما" الشرائط العامة: فما ذكرنا
في بيان شرائط وجوب القصاص في النفس من كون
الجاني عاقلا بالغا متعمدا مختارا, وكون
المجني عليه معصوما مطلقا لا يكون جزء الجاني
ولا ملكه. وكون الجناية حاصلة على طريق
المباشرة لما ذكرنا من الدلائل "وأما" الشرائط
التي تخص الجناية فيما دون النفس فمنها
المماثلة بين المحلين في المنافع والفعلين
وبين الأرشين؛ لأن المماثلة فيما دون النفس
معتبرة بالقدر الممكن فانعدامها يمنع وجوب
القصاص, والدليل على أن المماثلة فيما دون
النفس معتبرة شرعا للنص والمعقول "أما" النص
فقوله تبارك وتعالى
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ}
إلى قوله تعالى جل شأنه
{بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ}, فإن
قيل: ليس في كتاب الله تبارك وتعالى بيان حكم
ما دون النفس, لا في هذه الآية الشريفة, وأنه
إخبار عن حكم التوراة, فيكون شريعة من قبلنا,
وشريعة من قبلنا لا تلزمنا "فالجواب": أن من
القراء المعروفين من ابتدأ الكلام من قوله عز
شأنه: {وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} بالرفع إلى قوله تبارك وتعالى:
{فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ} على ابتداء الإيجاب لا على الإخبار عما في التوراة, فكان هذا
شريعتنا, لا شريعة من قبلنا على أن هذا إن كان
إخبارا عن شريعة التوراة لكن لم يثبت نسخه
بكتابنا, ولا بسنة رسولنا صلى الله عليه وسلم
فيصير شريعة لنبينا صلى الله عليه وسلم مبتدأة
فيلزمنا العمل به على أنه شريعة رسولنا صلى
الله عليه وسلم لا على أنه شريعة من قبله من
الرسل على ما عرف في أصول الفقه إلا أنه لم
يذكر وجوب القصاص في اليد والرجل نصا لكن
الإيجاب في العين والأنف والأذن والسن إيجاب
في اليد والرجل دلالة؛ لأنه لا ينتفع بالمذكور
من السمع والبصر والشم والسن إلا صاحبه
"ويجوز" أن ينتفع باليد والرجل غير صاحبهما,
فكان الإيجاب في العضو المنتفع به في حقه على
الخصوص إيجابا فيما هو منتفع به في حقه, وفي
حق غيره من طريق الأولى, فكان ذكر هذه الأعضاء
ذكرا لليد والرجل بطريق الدلالة له, كما في
التأفف مع الضرب في الشتم على أن في كتابنا
حكم ما دون النفس قال الله
{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا
اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
وقال الله تعالى عز شأنه
{وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا
عُوقِبْتُمْ بِهِ} وأحق ما يعمل فيه بهاتين الآيتين ما دون النفس "وقال" تبارك وتعالى
{مَنْ
عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزَى إِلَّا
مِثْلَهَا}
ونحو ذلك من الآيات "وأما" المعقول فهو: أن ما
دون النفس له حكم الأموال؛ لأنه خلق وقاية
للنفس كالأموال. ألا ترى أنه يستوفى في الحل
والحرم كما يستوفى المال. وكذا الوصي يلي
استيفاء ما دون النفس للصغير, كما يلي استيفاء
ماله فتعتبر فيه المماثلة كما تعتبر في إتلاف
الأموال "ومنها": أن يكون المثل ممكن
الاستيفاء؛ لأن استيفاء المثل بدون إمكان
استيفائه ممتنع, فيمتنع وجوب الاستيفاء ضرورة,
وينبني على هذين الأصلين مسائل "فنقول" وبالله
تعالى التوفيق: لا يؤخذ شيء من الأصل إلا
بمثله فلا تؤخذ اليد إلا باليد؛ لأن غير اليد
ليس من جنسها فلم يكن مثلا لها؛ إذ التجانس
شرط للمماثلة. "وكذا" الرجل والأصبع والعين
والأنف ونحوها لما قلنا "وكذا" الإبهام لا
تؤخذ إلا بالإبهام, ولا السبابة إلا بالسبابة,
ولا الوسطى إلا بالوسطى, ولا البنصر إلا
بالبنصر, ولا الخنصر إلا بالخنصر؛ لأن منافع
الأصابع مختلفة؛ فكانت كالأجناس المختلفة.
وكذلك لا تؤخذ اليد اليمين إلا باليمين, ولا
اليسرى إلا باليسرى؛ لأن لليمين فضلا على
اليسار؛ ولذلك سميت يمينا. وكذلك الرجل. وكذلك
أصابع اليدين والرجلين لا تؤخذ اليمين منهما
إلا باليمين, ولا اليسرى إلا باليسرى. وكذلك
الأعين؛ لما قلنا وكذلك الأسنان لا تؤخذ
الثنية إلا بالثنية, ولا الناب إلا بالناب,
ولا الضرس إلا بالضرس لاختلاف منافعها فإن
بعضها قواطع وبعضها طواحن وبعضها ضواحك,
واختلاف المنفعة بين الشيئين يلحقهما بجنسين,
ولا مماثلة عند اختلاف الجنس. وكذا لا يؤخذ
الأعلى منها بالأسفل, ولا الأسفل
ج / 7 ص -298-
بالأعلى لتفاوت بين الأعلى والأسفل في
المنفعة, ولا يؤخذ الصحيح من الأطراف إلا
بالصحيح منها فلا تقطع اليد الصحيحة, ولا
كاملة الأصابع بناقصة الأصابع, أو مفصل من
الأصابع. وكذلك الرجل والأصبع وغيرها؛ لعدم
المماثلة بين الصحيحين والمعيب, وإن كان العيب
في طرف الجاني فالمجني عليه بالخيار إن شاء
اقتص, وإن شاء أخذ أرش الصحيح؛ لأن حقه في
المثل, وهو السليم, ولا يمكنه استيفاء حقه من
كل وجه مع فوات صفة السلامة, وأمكنه الاستيفاء
من وجه, ولا سبيل إلى إلزام الاستيفاء حتما
لما فيه من إلزام استيفاء حقه ناقصا, وهذا لا
يجوز فيخير إن شاء رضي بقدر حقه, واستوفاه
ناقصا, وإن شاء عدل إلى بدل حقه, وهو كمال
الأرش, كمن أتلف على إنسان شيئا له مثل,
والمتلف جيد, فانقطع عن أيدي الناس, ولم يبق
منه إلا الرديء, وإن صاحب الحق يكون بالخيار
إن شاء أخذ الموجود ناقصا, وإن شاء عدل إلى
قيمة الجيد لما قلنا كذا هذا "ولو أراد"
المجني عليه أن يأخذه ويضمنه النقصان هل له
ذلك؟ قال أصحابنا رحمهم الله تعالى: ليس له
ذلك. "وقال" الشافعي: له ذلك قوله: إن حقه في
المثل ولا يمكنه استيفاؤه من هذه اليد من كل
وجه فيستوفي حقه منها بقدر ما يمكن, ويضمنه
الباقي, كما لو أتلف على آخر شيئا من المثليات
فانقطع عن أيدي الناس إلا قدر بعض حقه إنه
يأخذ القدر الموجود من المتلف ويضمنه الباقي,
كذا هذا. "ولنا" أنه قادر على استيفاء أصل
حقه, وإنما الفائت هو الوصف, وهو صفة السلامة,
فإذا رضي باستيفاء أصل حقه ناقصا كان ذلك رضا
منه بسقوط حقه عن الصفة, كما لو أتلف شيئا من
ذوات الأمثال, وهو جيد, فانقطع عن أيدي الناس
نوع الجيد, ولا يوجد إلا الرديء منه إنه ليس
له إلا أن يأخذه, أو قيمة الجيد كذلك هذا
بخلاف ما ذكره من المسألة؛ لأن هناك حق المتلف
عليه متعلق بمثل المتلف بكل جزء من أجزائه
صورة ومعنى, فكان له أن يستوفي الموجود, ويأخذ
قيمة الباقي, وههنا حق المجني عليه لم يتعلق
إلا بالقطع من المفصل دون الأصابع بدليل أنه
لو أراد أن يقطع الأصابع, ويبرأ عن الكف ليس
له ذلك, فلم تكن الأصابع عين حقه, إن كان
البعض قطع الأصابع بأن كانت جارية مجرى الصفة
كالجودة في المكيل فلا يكون له أن يطالب بشيء
آخر كما في تلك المسألة. "ولو" ذهبت الجارحة
المعينة قبل أن يختار المجني عليه, أخذها أو
قطعها قاطع بطل حق المجني عليه في القصاص
لفوات محله "وهل يجب" الأرش على الجاني؟
فالكلام فيه كالكلام فيما إذا قطع يدا صحيحة,
وهو على التفصيل الذي ذكرنا فيما تقدم أنها إن
سقطت بآفة سماوية أو قطعت ظلما لا شيء عليه,
ولو قطعت بحق من قصاص أو سرقة فعليه أرش اليد
المقطوعة "وعند" الشافعي رحمه الله: عليه
الأرش في الوجهين, والكلام فيه راجع إلى أصل,
وقد تقدم ذكره, وهو أن موجب العمد القصاص عينا
عندنا في النفس, وما دونه "وعنده" أحدهما: غير
عين في قول, وفي قول القصاص عينا لكن مع حق
العدول إلى المال "وقد" ذكرنا هذا الأصل
بفروعه في بيان حكم الجناية على النفس إلا أنه
إذا كان القطع بحق يجب الأرش؛ لأنه قضى بالطرف
حقا مستحقا عليه فصار كأنه قائم وتعذر استيفاء
القصاص لعذر الخطأ وغيره على ما مر ذكره, وإذا
ثبت هذا في الصحيحة فنقول: حق المجني عليه كان
متعلقا باليد المعينة بعينها, وإنما ينتقل
عنها إلى الأرش عند اختياره, فإذا لم يختر حتى
هلكت بقي حقه متعلقا باليد, فإن قيل: أليس أنه
كان مخيرا بين القصاص والأرش فإذا فات أحدهما
تعين الآخر؟ قيل: لا بل حقه كان في اليد على
التعيين إلا أن له أن يعدل عنه إلى بدله عند
الاختيار, فإذا هلك قبل الاختيار بقي حقه في
اليد, فإذا هلكت فقد بطل محل الحق, فبطل الحق
أصلا ورأسا, والله تعالى عز وجل الموفق "ولو
كانت" يد القاطع صحيحة وقت القطع ثم شلت بعده
فلا حق للمقطوع في الأرش؛ لأن حقه ثبت في اليد
عينا بالقطع فلا ينتقل إلى الأرش بالنقصان,
كما إذا ذهب الكل بآفة سماوية أنه يسقط حقه
أصلا ولا ينتقل إلى الأرش لما قلنا كذا هذا,
ولا قصاص إلا فيما يقطع من المفاصل مفصل
الزند, أو مفصل المرفق, أو مفصل الكتف في
اليد, أو مفصل الكعب, أو مفصل الركبة, أو مفصل
الورك في الرجل, وما كان من غير المفاصل فلا
قصاص فيه كما إذا قطع من الساعد أو العضد أو
الساق أو الفخذ؛ لأنه يمكن استيفاء المثل من
المفاصل, ولا يمكن من غيرها. "وليس" في لحم
الساعد والعضد والساق والفخذ, ولا
ج / 7 ص -299-
في
الألية قصاص, ولا في لحم الخدين, ولحم الظهر,
والبطن, ولا في جلدة الرأس, وجلدة اليدين إذا
قطعت لتعذر استيفاء المثل, ولا في اللطمة,
والوكزة, والوجأة, والدقة لما قلنا, ولا يؤخذ
العدد بالعدد فيما دون النفس مما يجب على
أحدهما فيه القصاص لو انفرد كالاثنين إذا قطعا
يد رجل أو رجله أو إصبعه أو أذهبا سمعه أو
بصره أو قلعا سنا له أو نحو ذلك من الجوارح
التي على الواحد منهما فيها القصاص لو انفرد
به فلا قصاص عليهما, وعليهما الأرش نصفان.
وكذلك ما زاد على الثلاث من العدد فهو بمنزلة
الاثنين, ولا قصاص عليهم, وعليهم الأرش على
عددهم بالسواء, وهذا عندنا, وعند الشافعي يجب
القصاص عليهم وإن كثروا, كما في النفس, واحتج
بما روي أن رجلين شهدا بين يدي سيدنا علي رضي
الله تعالى عنه على رجل بالسرقة فأمر بقطع يده
ثم جاءا بآخر وقالا أوهمنا إنما السارق هذا يا
أمير المؤمنين فقال سيدنا علي رضي الله تعالى
عنه: لا أصدقكما على هذا, وأغرمكما دية الأول,
ولو علمت أنكما تعمدتما لقطعت أيديكما, فقد
اعتقد سيدنا علي رضي الله تعالى عنه قطع
اليدين بيد واحدة, وإنما قال ذلك بمحضر من
الصحابة رضي الله تعالى عنهم, ولم ينقل أنه
أنكر عليه أحد منهم فيكون إجماعا, ولأن اليد
تابعة للنفس ثم الأنفس تقتل بنفس واحدة فكذا
الأيدي تقطع بيد واحدة؛ لأن حكم التبع حكم
الأصل. "ولنا" أن المماثلة فيما دون النفس
معتبرة لما ذكرنا من الدلائل, ولا مماثلة بين
الأيدي, ويد واحدة لا في الذات, ولا في
المنفعة, ولا في الفعل "أما" في الذات فلا شك
فيه, لأنه لا مماثلة بين العدد بين الفرد من
حيث الذات يحققه أنه لا تقطع الصحيحة بالشلاء,
والفائت هو المماثلة من حيث الوصف فقط ففوات
المماثلة في الوصف لما منع جريان القصاص
ففواتها في الذات أولى "وأما" في المنفعة فلأن
من المنافع ما لا يتأتى إلا باليدين كالكتابة,
والخياطة, ونحو ذلك. وكذا منفعة اليدين أكثر
من منفعة يد واحدة عادة "وأما" في الفعل فلأن
الموجود من كل واحد منهما قطع بعض اليد كأنه
وضع أحدهما السكين من جانب, والآخر من جانب
آخر, والجزاء قطع كل واحد من كل واحد منهما,
وقطع كل اليد أكثر من قطع بعض اليد, وانعدام
المماثلة من وجه تكفي لجريان القصاص كيف وقد
انعدمت من وجوه؟ وأما قول سيدنا علي رضي الله
عنه فلا حجة له فيه, لأنه إنما قال ذلك على
سبيل السياسة بدليل أنه أضاف القطع إلى نفسه,
وذا لا يكون إلا بطريق السياسة, والله سبحانه
وتعالى أعلم. ولو قطع رجل يمينا رجلين تقطع
يمينه ثم إن حضرا جميعا فلهما أن يقطعا يمينه,
ويأخذا منه دية يد بينهما نصفين, وهذا قول
أصحابنا رحمهم الله. وقال الشافعي رحمه الله:
إذا كان على التعاقب يقطع للأول, ويغرم الدية
للثاني كما قال في القتل, وإن كان على
الاجتماع يقرع بينهما فيقطع لمن خرجت قرعته,
ويغرم للآخر الدية كما قال في النفس. "وجه"
قوله أنه إذا قطع على الترتيب صارت يده حقا
للأول فلا تصير حقا للثاني فتجب الدية للثاني,
وإذا قطع اليدين على الاجتماع فقد صارت يده
حقا لأحدهما غير عين, وتتعين بالقرعة. "ولنا"
أنهما استويا في سبب استحقاق القصاص فيستويان
في الاستحقاق, ودليل الوصف أن سبب الاستحقاق
قطع اليد, وقد وجد قطع اليد في حق كل واحد
منهما فيستحق كل واحد منهما قطع يده, ولا يحصل
من كل واحد منهما في يد واحدة إلا قطع بعضها
فلم يستوف كل واحد منهما بالقطع إلا بعض حقه
فيستوفى الباقي من الأرش, ولأن كل واحد منهما
لما استوفى بعض حقه بقطع اليد صار القاطع
قاضيا ببعض يده حقا مستحقا عليه فيجعل كأن يده
قائمة, وتعذر استيفاء القصاص لعذر فتجب الدية
"وقوله" صارت يده حقا لمن له القصاص ممنوع فإن
ملك القصاص ليس ملك المحل بل هو ملك الفعل,
وهو إطلاق الاستيفاء؛ لأن حرية من عليه تمنع
ثبوت الملك؛ لأنها تنبئ عن الخلوص. والملك في
المحل بثبوت فيه فينافيه الخلوص "والدليل"
عليه أنه لو قطعت يده بغير حق ثابت كانت الدية
له ولو صارت يده مملوكة لمن له القصاص لكانت
الدية له دل أن ملك القصاص ليس هو ملك المحل
بل ملك الفعل, وهو إطلاق الاستيفاء, ولا تنافي
فيه فإطلاق الاستيفاء للأول لا يمنع إطلاق
استيفاء الثاني. وهذا بخلاف النفس أن الواحد
يقتل بالجماعة اكتفاء؛ لأن هناك كل واحد منهم
استوفى حقه على الكمال؛ لأن حقه في القتل, وكل
واحد منهم استوفى القتل بكماله لما ذكرنا في
الجناية على النفس فيما تقدم, وإن حضر أحدهما
والآخر غائب فللحاضر
ج / 7 ص -300-
أن
يقتص, ولا ينتظر الغائب لما ذكرنا أن حق كل
واحد منهما ثابت في كل اليد, وإنما التمانع في
استيفاء الكل بحكم التزاحم بحكم المشاركة في
الاستيفاء, فإذا كان أحدهما غائبا فلا يزاحم
الحاضر فكان له أن يستوفي كأحد الشفيعين إذا
حضر يقضى له بالشفعة في كل المبيع "ولأن" حق
الحاضر إذا كان ثابتا في كل اليد, وأراد
الاستيفاء, والغائب قد يحضر وقد لا يحضر, وقد
يطالب بعض الحضور, وقد يعفو فلا يجوز تأخير حق
الحاضر في الاستيفاء والمنع منه للحال بعد
طلبه لأمر محتمل, ولهذا قضي بالشفعة لأحد
الشفيعين إذا حضر وطلب, ولا ينتظر حضور الغائب
كذا هذا. وللآخر دية يده على القاطع, لأنه
تعذر استيفاء حقه بعد ثبوته فيصار إلى البدل
ولأن القاطع قضى به حقا مستحقا عليه فيلزمه
الدية, وإن عفا أحدهما بطل حقه. وكان للآخر
القصاص إذا كان العفو قبل قضاء القاضي
بالإجماع؛ لأن حق كل واحد منهما ثابت في اليد
على الكمال فالعفو من أحدهما لا يؤثر في حق
الآخر كما في القصاص في النفس. وكذلك لو عدا
أحدهما على القاطع فقطع يده فقد استوفى حقه
فللآخر الدية لما ذكرنا "وأما" إذا قضى القاضي
بالقصاص بينهما ثم عفا أحدهما فللآخر أن
يستوفي القصاص في قولهما استحسانا "وقال" محمد
رحمه الله: إذا قضى القاضي بالقصاص في اليد
بينهما نصفين وبدية اليد بينهما نصفين ثم عفا
أحدهما بطل القصاص. "وجه" قوله إن حق كل واحد
منهما وإن كان ثابتا في كل اليد لكن القاضي
لما قضى بالقصاص بينهما فقد أثبت الشركة
بينهما فصار حق كل واحد منهما في البعض, فإذا
عفا أحدهما سقط البعض, ولا يتمكن الآخر من
استيفاء الكل. "وجه" قولهما أن قضاء القاضي
بالشركة لم يصادف محله؛ لأن الشرع ما ورد
بوجوب القطع في بعض اليد فيلحق بالعدم أو يجعل
مجازا عن الفتوى كأنه أفتى بما يجب لهما, وهو
أن يجتمعا على القطع, ويأخذ الدية بينهما فكان
عفو أحدهما بعد القضاء كعفوه قبله ولو قضى
القاضي بالدية بينهما فقبضاها ثم عفا أحدهما
لم يكن للآخر القصاص وينقلب نصيبه مالا؛
لأنهما لما قبضا الدية فقد ملكاها, وثبوت
الملك في الدية يقتضي أن لا يبقى الحق في كل
اليد فسقط حق كل واحد منهما عن نصف اليد, فإذا
عفا أحدهما لا يثبت للآخر ولاية استيفاء كل
اليد "وكذلك" لو أخذ بالدية رهنا؛ لأن قبض
الرهن قبض استيفاء؛ لأن الدين كأنه في الرهن
بدليل أنه إذا هلك يسقط الدين فصار قبضهما
الرهن كقبضهما الدين "ولو" أخذ بالدية كفيلا
ثم عفا أحدهما فللآخر القصاص, لأنه ليس في
الكفالة معنى الاستيفاء بل هو للتوثق لجانب
الوجوب فكان الحكم بعد الكفالة كالحكم قبلها.
"ولو قطع" من رجل يديه أو رجليه قطعت يداه
ورجلاه؛ لأن استيفاء المثل ممكن. ولو قطع من
رجل يمينه, ومن آخر يساره قطعت يمينه لصاحب
اليمين, ويساره لصاحب اليسار؛ لأن تحقيق
المماثلة فيه, وأنه ممكن "فإن قيل" القاطع ما
أبطل عليهما منفعة الجنسين فكيف تبطل عليه
منفعة الجنس؟ فالجواب أن كل واحد منهما ما
استحق عليه إلا قطع يد واحدة, وليس في قطع يد
واحدة تفويت منفعة الجنس فكان الجزاء مثل
الجناية إلا أن فوات منفعة الجنس عند اجتماع
الفعلين حصل ضرورة غير مضاف إليهما. ولو قطع
أصبع رجل كلها من المفصل ثم قطع يد آخر أو يدا
باليد ثم يقطع الأصبع, وذلك كله في يد واحدة
في اليمين أو في اليسار فلا يخلو "إما" أن
جاءا جميعا يطلبان القصاص, وإما إن جاءا
متفرقين فإن جاءا جميعا يبدأ بالقصاص في
الأصبع فتقطع الأصبع بالأصبع ثم يخير صاحب
اليد فإن شاء قطع ما بقي, وإن شاء أخذ دية يده
من مال القاطع؛ لأن حق كل واحد منهما في مثل
ما قطع منه فحق صاحب اليد في قطع اليد, وحق
صاحب الأصبع في قطع الأصبع فيجب إيفاء حق كل
واحد منهما بقدر الإمكان, وذلك في البداية
بالقصاص في الأصبع, لأنا لو بدأنا بالقصاص في
اليد لبطل حق صاحب الأصبع في القصاص أصلا
ورأسا, ولو بدأنا بالقصاص في الأصبع لم يبطل
حق الآخر في القصاص أصلا ورأسا, لأنه يتمكن من
استيفائه مع النقصان فكانت البداية بالأصبع
أولى, وإنما خير صاحب اليد بعد قطع الأصبع؛
لأن الكف صارت معيبة بقطع الأصبع فوجد حقه
ناقصا فيثبت له الخيار كالأشل إذا قطع يد
الصحيح. وإن جاءا متفرقين فإن جاء صاحب اليد
وصاحب الأصبع غائب تقطع اليد لصاحب اليد؛ لأن
حق صاحب اليد ثابت في اليد فلا يجوز منعه من
استيفاء حقه لحق غائب يحتمل أن يحضر ويطالب
ويحتمل
ج / 7 ص -301-
أن لا
يحضر, ولا يطالب فإن جاء صاحب الأصبع بعد ذلك
أخذ الأرش لتعذر استيفاء حقه عليه بعد ثبوته
فيأخذ بدله ولأن القاطع قضى بطرفه حقا مستحقا
عليه فصار كأنه قائم, وتعذر الاستيفاء لمانع
فيلزمه الأرش, وإن جاء صاحب الأصبع, وصاحب
اليد غائب تقطع الأصبع لصاحب الأصبع لما ذكرنا
في صاحب اليد ثم إذا جاء صاحب اليد بعد ذلك
أخذ الأرش لما قلنا. ولو قطع أصبع رجل من مفصل
ثم قطع أصبع رجل آخر من مفصلين ثم قطع أصبع
آخر كلها, وذلك كله في أصبع واحدة فهو على
التفصيل الذي ذكرنا أن الأمر لا يخلو "إما" إن
جاءوا جميعا يطلبون القصاص, وإما إن جاءوا
متفرقين: فإن جاءوا جميعا يبدأ بقطع المفصل
الأعلى لصاحب الأعلى ثم يخير صاحب المفصلين
فإن شاء استوفى الأوسط بحقه كله, ولا شيء له
من الأرش, وإن شاء أخذ ثلثي دية أصبعه من ماله
ثم يخير صاحب الأصبع فإن شاء أخذ ما بقي
بأصبعه, وإن شاء أخذ دية أصبعه من مال الذي
قطعها, وإنما كان كذلك لما بينا أن حق كل واحد
منهما في مثل ما قطع منه فيجب إيفاء حقوقهم
بقدر الإمكان, وذلك في البداية بما لا يسقط حق
بعضهم, وهو أن يبدأ بقطع المفصل الأعلى لصاحب
الأعلى؛ لأن البداية لا تبطل حق الباقين في
القصاص أصلا لإمكان استيفاء حقيهما مع
النقصان, وفي البداية بالقصاص في الأصبع إبطال
حق الباقين أصلا, ورب رجل يختار القصاص وإن
كان ناقصا تشفيا للصدر, وإذا قطع منه المفصل
الأعلى لصاحب الأعلى يخير الباقيان؛ لأن كل
واحد منهما وجد حقه ناقصا لحدوث العيب بالطرف.
وإن جاءوا متفرقين فإن جاء صاحب الأصبع أولا
تقطع له الأصبع لما ذكرنا في المسألة
المتقدمة, فإذا جاء الباقيان بعد ذلك يقضى
لهما بالأرش, لصاحب المفصل الأعلى ثلث دية
الأصبع, ولصاحب المفصلين ثلثا دية الأصبع لما
قلنا. وإن جاء صاحب المفصلين أولا يقطع له
المفصلان لما ذكرنا في المسألة المتقدمة,
ويقضى لصاحب المفصل الأعلى بالأرش لما مر,
وصاحب الأصبع بالخيار إن شاء أخذ ما بقي
واستوفى حقه ناقصا, وإن شاء أخذ دية الأصبع
لما مر. وإن جاء صاحب الأعلى أولا فهو كما إذا
جاءوا معا, وقد ذكرنا حكمه, والله سبحانه
وتعالى أعلم. ولو قطع كف رجل من مفصل ثم قطع
يد آخر من المرفق أو بدأ بالمرفق ثم بالكف,
وهما في يد واحدة في اليمين أو في اليسار ثم
اجتمعا فإن الكف يقطع لصاحب الكف ثم يخير صاحب
المرفق فإن شاء قطع ما بقي بحقه كله, وإن شاء
أخذ الأرش لما بينا. وإن جاء أحدهما, والآخر
غائب فإن جاء صاحب الكف قطع له الكف, ولا
ينتظر الغائب لما مر ثم إذا جاء صاحب المرفق
أخذ الأرش, وإن جاء صاحب المرفق أولا يقطع له
المرفق أولا ثم إذا جاء صاحب اليد بعد ذلك
يأخذ أرش اليد, والله سبحانه وتعالى أعلم. ولو
قطع المفصل الأعلى من سبابة رجل ثم عاد فقطع
المفصل الثاني منها فعليه القصاص من المفصل
الأول, ولا قصاص عليه في المفصل الثاني وعليه
قيمة الأرش. وكذلك لو قطع أصبع رجل من أصلها
ثم قطع الكف التي منها الأصبع كان عليه القصاص
في الأصبع, ولا قصاص عليه في الكف وعليه الأرش
في الكف ناقصة بأصبع. وكذلك لو قطع يد رجل,
وهي صحيحة ثم قطع ساعده من المرفق من اليد
التي قطع منها الكف عليه في اليد القصاص, ولا
قصاص عليه في الساعد بل فيه أرش حكومة كذا روي
عن أبي حنيفة رضي الله عنه ولم يفصل بين ما
إذا كانت الجناية الثانية بعد برء الأولى أو
قبلها. وقال أبو يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى
إذا كانت الثانية بعد برء الأولى فهما جنايتان
متفرقتان, وإن كانت قبل البرء فهي جناية
واحدة, ذكر قولهما في الزيادات "وجه" قولهما
أن الجنايتين إذا كانتا قبل البرء فهما في حكم
جناية واحدة بدليل أن من قطع يد رجل خطأ ثم
قتله وجبت عليه دية واحدة فصار كأنه قطع
المفصلين معا بضربة واحدة فيجب القصاص فيهما,
وإذا برئت الأولى فقد استقرت واستقر حكمها
فكانت الثانية جناية مفردة في مفصل مفرد فتفرد
بحكمها فيجب القصاص في الأولى والأرش في
الثانية, ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن وقت قطع
المفصل الأعلى كانت الأصبعان صحيحتين أعني
أصبع القاطع والمقطوع له المفصل أولا, فكانت
بين الأصبعين مماثلة فأمكن استيفاء القصاص على
وجه المماثلة, ولم يكن بينهما مماثلة وقت قطع
المفصل الثاني؛ لأن
ج / 7 ص -302-
أصبع
القاطع كامل وقت القطع فيكون استيفاء الكامل
بالناقص, وهذا لا يجوز فإن قيل: وقت قطع
المفصل الثاني كان القصاص مستحقا في المفصل
الأعلى من القاطع, والمستحق كالمستوفى فكان
استيفاء الناقص بالناقص, فالجواب عنه من
وجهين؛ أحدهما إن نفس الاستحقاق لا يوجب
النقصان بدليل أنه لو جاء الأجنبي وقطع ذلك
المفصل عمدا وجب القصاص عليه. ولو ثبت القصاص
بنفس الاستحقاق لما وجب فثبت أن النقصان لا
يثبت بمجرد الاستحقاق, وإنما يثبت بالاستيفاء,
ولم يوجد, فلو وجب النقصان لكان استيفاء
الكامل بالناقص, والثاني إن سلم أن النقصان
يثبت بنفس الاستحقاق والوجوب لكن حكما لا
حقيقة, والأول ناقص حقيقة فلم يكن بينهما
مماثلة. ولو قطع المفصل الأعلى منها فاقتص منه
ثم قطع المفصل الثاني, وبرئ اقتص منه؛ لأن
أصبع القاطع كانت ناقصة وقت قطع المفصل الثاني
فيكون استيفاء الناقص بالناقص فتحققت
المماثلة. ولو كان غيره قطع المفصل الأعلى
منها ثم قطع هو المفصل الثاني منها فلا قصاص
عليه لانعدام المساواة بين أصبع القاطع
والمقطوع, وعليه ثلث دية اليد. ولو قطع المفصل
الأعلى فبرئ ثم قطع المفصل الثاني فمات فالولي
بالخيار إن شاء قطع المفصل ثم قتل لأن فيه
استيفاء مثل حقه في القطع والقتل, وإن شاء ترك
المفصل وقتل؛ لأن في إتلاف النفس إتلاف الطرف
فكان المقصود حاصلا, بخلاف ما إذا كانت
الجنايتان من رجلين فمات من إحداهما دون
الأخرى أنه إن كان ذلك كله عمدا فعلى صاحب
النفس القصاص في النفس, وعلى صاحب الجناية
فيما دون النفس القصاص في ذلك إن كان يستطاع,
وإن كان لا يستطاع فالأرش, وإن كان ذلك خطأ
فعلى صاحب النفس دية النفس, وعلى صاحب الجراحة
فيما دون النفس أرش ذلك. وإن كان أحدهما عمدا,
والآخر خطأ فعلى العامد القصاص, وعلى الخاطئ
الأرش, ولا يدخل أحدهما في الآخر, سواء كان
بعد البرء أو قبل البرء ولأن الجنايتين إذا
كانتا من شخص واحد يمكن جعلهما كجناية واحدة
كأنهما حصلا بضربة واحدة, وإذا كانتا من شخصين
لا يمكن أن يجعلا كجناية واحدة؛ لأن جعل فعل
أحدهما فعل الآخر لا يتصور فلا بد أن نعتبر
فعل كل واحد منهما بانفراده, سواء برئت
الجناية الأولى أو لم تبرأ على ما نبين إن شاء
الله تعالى. ولو قطع من رجل نصف المفصل الأعلى
من السبابة ثم قطع نصف المفصل الباقي إن كان
قبل البرء يقتص منه فيقطع منه المفصل كله؛
لأنه إذا كان قبل البرء صار كأنه قطع المفصلين
جميعا بضربة واحدة, ولو كان كذلك يقتص منه
ويقطع منه المفصل كله, كذا هذا. وإن كان بعد
البرء لا يقتص منه, وتجب حكومة العدل في كل
نصف؛ لأنه لا يمكن استيفاء القصاص من نصف
المفصل, وليس له أرش مقدر فتجب حكومة العدل.
ولو قطع من رجل نصف المفصل الأعلى من السبابة
ثم عاد فقطع المفصل الثاني فإن كان قبل البرء
فلا قصاص عليه, وعليه القصاص في المفصل,
والحكومة في نصف المفصل لأنه يصير كأنه قطعهما
دفعة واحدة, ولو فعل ذلك لا قصاص عليه لتعذر
الاستيفاء بصفة المماثلة فكان عليه الأرش في
المفصل وحكومة العدل في نصف المفصل, كذا هذا.
وإن كان بعد البرء يجب القصاص في المفصل
وحكومة العدل في نصف المفصل لأنه إذا برئ
الأول فقد استقر حكمه, والاستيفاء بصفة
المماثلة ممكن فثبت ولاية الاستيفاء فلا يمكن
استيفاء القصاص في نصف المفصل, وليس له أرش
مقدر فتجب فيه حكومة العدل. ولو قطع من رجل
يمينه من المفصل فاقتص منه ثم إن أحدهما قطع
من الآخر الذراع من المرفق فلا قصاص فيه, وفيه
حكومة العدل عند أصحابنا الثلاثة رضي الله
عنهم. وقال زفر رحمه الله يجب القصاص كذا ذكر
القاضي الخلاف في شرحه مختصر الطحاوي رحمه
الله وذكر الكرخي عليه الرحمة الخلاف بين أبي
حنيفة وأبي يوسف رضي الله عنهما "وجه" قول أبي
يوسف وزفر أن استيفاء القصاص على سبيل
المماثلة ممكن؛ لأن المحلين استويا, والمرفق
مفصل فكان المثل مقدور الاستيفاء فلا معنى
للمصير إلى الحكومة كما لو قطع يد إنسان من
مفصل الزند, ولأبي حنيفة ومحمد أن القصاص فيما
دون النفس يعتمد المساواة في الأرش؛ لأن ما
دون النفس يسلك به مسلك الأموال لما بينا,
والمساواة في إتلاف الأموال معتبرة, ولهذا لا
يجري القصاص بين طرفي الذكر والأنثى, والحر
والعبد
ج / 7 ص -303-
لاختلاف الأرش, وههنا لا يعرف التساوي في
الأرش لأن أرش الذراع حكومة العدل, وذلك يكون
بالحزر والظن فلا يعرف التساوي بين أرشيهما؛
لأن قطع الكف يوجب وهن الساعد وضعفه, وليس له
أرش مقدر, وقيمة الوهن والضعف فيه لا تعرف إلا
بالحزر والظن فلا تعرف المماثلة بين أرشي
الساعدين فيمتنع وجوب القصاص. وعلى هذا الخلاف
إذا قطع يد رجل وفيها أصبع زائدة, وفي يد
القاطع أصبع زائدة مثل ذلك أنه لا قصاص عند
أبي حنيفة ومحمد, وفيهما حكومة العدل. وعند
أبي يوسف يجب القصاص لوجود المساواة بين
اليدين, ولهما أن الأصبع الزائدة في الكف نقص
فيها وعيب, وهو نقص يعرف بالحزر والظن فلا
تعرف المماثلة بين الكفين. ولو قطع أصبعا
زائدة وفي يده مثلها فلا قصاص عليه بالإجماع؛
لأن الأصبع الزائدة في معنى التزلزل, ولا قصاص
في المتزلزل؛ ولأنها نقص ولا تعرف قيمة
النقصان إلا بالحزر والظن؛ ولأنه ليس لهما أرش
مقدر فلا تعرف المماثلة. ولو قطع الكف التي
فيها أصبع زائدة فإن كانت تلك الأصبع توهن
الكف وتنقصها فلا قصاص فيها, وإن كانت لا
تنقصها ففيها القصاص. ولا قصاص بين الأشلين,
كذا روى الحسن عن أبي حنيفة سواء كانت يد
المقطوعة يده أقلهما شللا أو أكثر أو هما
سواء, وهو قول أبي يوسف. وقال زفر إن كانا
سواء ففيهما القصاص, وإن كانت يد المقطوعة يده
أقلهما شللا كان بالخيار إن شاء قطع يد
القاطع, وإن شاء ضمنه أرش يده شلاء. وإن كانت
يد المقطوعة يده أكثرهما شللا فلا قصاص وله
أرش يده, والصحيح قولنا لأن بعض الشلل في
يديهما يوجب اختلاف أرشيهما, وذلك يعرف بالحزر
والظن فلا تعرف المماثلة وكذلك مقطوع الإبهام
كلها إذا قطع يدا مثل يده لم يكن بينهما قصاص
في قول أبي حنيفة وأبي يوسف؛ لأن قطع الإبهام
يوهن الكف ويسقط تقدير الأرش فلا يعرف إلا
بالحزر والظن فلا تعرف المماثلة. ولو قطع يد
رجل ثم قتله فإن كان بعد البرء لا تدخل اليد
في النفس بلا خلاف, والولي بالخيار إن شاء قطع
يده ثم قتله, وإن شاء اكتفى بالقتل, وإن شاء
عفا عن النفس وقطع يده, وإن كان قبل البرء
فكذلك في قول أبي حنيفة, وفي قولهما تدخل اليد
في النفس وله أن يقتله وليس له أن يقطع يده
"وجه" قولهما أن الجناية على ما دون النفس إذا
لم يتصل بها البرء لا حكم لها مع الجناية على
النفس في الشريعة بل يدخل ما دون النفس في
النفس كما إذا قطع يده خطأ ثم قتله قبل البرء
حتى لا يجب عليه إلا دية النفس ولأبي حنيفة
رضي الله عنه أن حق المجني عليه في المثل وذلك
في القطع والقتل, والاستيفاء بصفة المماثلة
ممكن فإذا قطع المولى يده ثم قتله كان مستوفيا
للمثل فيكون الجزاء مثل الجناية جزاء وفاقا
بخلاف الخطأ؛ لأن المثل هناك غير مستحق بل
المستحق غير المثل؛ لأن المال ليس بمثل النفس.
وكان ينبغي أن لا يجب أصلا إلا أن وجوبه ثبت
معدولا به عن الأصل عند استقرار سبب الوجوب
فبقيت الزيادة حال عدم استقرار السبب لعدم
البرء مردودة إلى حكم الأصل, والله تعالى أعلم
هذا إذا كانا جميعا عمدا فأما إذا كانا جميعا
خطأ فإن كان بعد البرء لا يدخل ما دون النفس
في النفس, وتجب دية كاملة ونصف دية تتحمله
العاقلة, وتؤدى في ثلاث سنين: في السنة الأولى
ثلثا الدية ثلث من الدية الكاملة, وثلث من نصف
الدية. وفي السنة الثانية نصف الدية ثلث من
الدية الكاملة, وسدس من النصف. وفي السنة
الثالثة ثلث الدية؛ لأن الدية الكاملة تؤدى في
ثلاث سنين, ونصف الدية يؤدى في سنتين من
الثلاث, وهذا يوجب أن يكون قدر المؤدى منهما,
وإنما لم يدخل ما دون النفس في النفس؛ لأن
الأول لما برئ فقد استقر حكمه فكان الباقي
جناية مبتدأ فيبتدأ بحكمها, وإن كان قبل البرء
يدخل ما دون النفس في النفس, ويجب دية واحدة؛
لأن حكم الأول لم يستقر. وإن كان أحدهما عمدا
والآخر خطأ لا يدخل ما دون النفس في النفس بل
يعتبر كل واحدة منهما بحكمه, سواء كان بعد
البرء أو قبله لأن العمد مع الخطأ جنايتان
مختلفان فلا يحتملان التداخل فيعطى لكل واحد
منهما حكم نفسها فيجب في العمد القصاص, وفي
الخطأ الأرش هذا كله إذا كان الجاني واحدا
فقطع ثم قتل فأما إذا كانا اثنين فقطع أحدهما
يده ثم قتله الآخر فلا يدخل ما دون النفس في
النفس كيفما كان بعد البرء أو قبله؛ لأن الأصل
اعتبار كل جناية بحيالها لأن كل واحد منهما
جناية على حدة فكان الأصل عدم التداخل
ج / 7 ص -304-
وإفراد
كل جناية بحكمها إلا أن عند اتحاد الجاني,
وعدم البرء قد يجعلان كجناية واحدة كأنهما
حصلا بضربة واحدة تقديرا, ولا يمكن هذا
التقدير عند اختلاف الجاني لاستحالة أن يكون
فعل كل واحد منهما فعلا لصاحبه حقيقة فتعذر
التقدير فبقي فعل كل واحد منهما جناية مفردة
حقيقة وتقديرا فيفرد حكمها, فإن كانتا جميعا
عمدا يجب القصاص على كل واحد منهما من القطع
والقتل, وإن كانتا جميعا خطأ يجب الدية عليهما
يتحمل عنهما عاقلتهما في القطع والقتل, وإن
كان أحدهما عمدا, والآخر خطأ يجب القصاص في
العمد, والأرش في الخطأ. ولو قطع أصبع يد رجل
عمدا, وقطع آخر يده من الزند فمات فالقصاص على
الثاني في قول أصحابنا الثلاثة رحمهم الله.
وقال زفر رحمه الله: عليهما جميعا, وبه أخذ
الشافعي "وجه" قول زفر أن السراية باعتبار
الألم, والقطع الأول اتصل ألمه بالنفس, وتكامل
بالثاني فكانت السراية مضافة إلى الفعلين فيجب
القصاص عليهما. "ولنا" أن السراية باعتبار
الآلام المترادفة التي لا تتحملها النفس إلى
أن يموت, وقطع اليد يمنع وصول الألم من الأصبع
إلى النفس فكان قطعا للسراية فبقيت السراية
مضافة إلى قطع اليد, وصار كما لو قطع الأصبع
فبرئت ثم قطع آخر يده فمات, وهناك القصاص على
الثاني, كذا هذا بل أولى؛ لأن القطع في المنع
من الأثر, وهو وصول الألم إلى النفس فوق البرء
إذ البرء يحتمل الانتقاص, والقطع لا يحتمل ثم
زوال الأثر بالبرء يقطع السراية فزواله بالقطع
كان أولى وأحرى ولو جنى على ما دون النفس فسرى
فالسراية لا تخلو إما إن كانت إلى النفس, وإما
إن كانت إلى عضو آخر فإن كانت إلى النفس
فالجاني لا يخلو إما أن كان متعديا في الجناية
وإما إن لم يكن فإن كان متعديا في الجناية
والجناية بحديد أو بخشبة تعمل عمل السلاح فمات
من ذلك فعليه القصاص سواء كانت الجناية مما
توجب القصاص لو برئت أو لا توجب, كما إذا قطع
يد إنسان من الزند أو من الساعد أو شجه موضحة
أو آمة أو جائفة أو أبان طرفا من أطرافه أو
جرحه جراحة مطلقة فمات من ذلك فعليه القصاص
لأنه لما سرى بطل حكم ما دون النفس, وتبين أنه
وقع قتلا من حين وجوده, وللولي أن يقتله, وليس
له أن يفعل به مثل ما فعل حتى لو كان قطع يده
ليس له أن يقطع يده عندنا, وعند الشافعي رحمه
الله أنه يفعل به مثل ما فعل فإن مات من ذلك
وإلا قتله. وكذلك إذا قطع رجل يد رجل ورجليه
فمات من ذلك تحز رقبته عندنا, وعنده يفعل به
مثل ما فعل, وقد ذكرنا المسألة فيما تقدم. ولو
قطع يده فعفا المقطوع عن القطع ثم سرى إلى
النفس ومات فإن عفا عن الجناية أو عن القطع,
وما يحدث منه أو الجراحة, وما يحدث منها فهو
عن النفس بالإجماع, وإن عفا عن القطع أو
الجراحة ولم يقل وما يحدث منها لا يكون عفوا
عن النفس, وعلى القاطع دية النفس في ماله في
قول أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قولهما يكون
عفوا عن النفس ولا شيء عليه, والمسألة
بأخواتها قد مرت في مسائل العفو عن القصاص في
النفس. ولو كان له على رجل قصاص في النفس فقطع
يده ثم عفا عن النفس, وبرئت اليد ضمن دية اليد
في قول أبي حنيفة وقال أبو يوسف, ومحمد لا
ضمان عليه "وجه" قولهما إن نفس القاتل بالقتل
صارت حقا لولي القتيل, والنفس اسم لجملة
الأجزاء فإذا قطع يده فقد استوفى حق نفسه فلا
يضمن, ولهذا لو قطع يده ثم قتله لا يجب عليه
ضمان اليد ولو لم تكن اليد حقه لوجب الضمان
عليه دل أنه بالقطع استوفى حق نفسه فبعد ذلك
إن عفا عن النفس فالعفو ينصرف إلى القائم لا
إلى المستوفي كمن استوفى بعض ديته ثم أبرأ
الغريم إن الإبراء ينصرف إلى ما بقي لا إلى
المستوفي كذا هذا ولأبي حنيفة رضي الله عنه إن
حق من له القصاص في الفعل وهو القتل لا في
المحل وهو النفس, أو يقال حقه في النفس لكن في
القتل لا في حق القطع؛ لأن حقه في المثل
والموجود منه القتل لا القطع, ومثل القتل هو
القتل فكان أجنبيا عن اليد فإذا قطع اليد فقد
استوفى ما ليس بحق له وهو متقوم فيضمن. وكان
القياس أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فتجب
الدية إلا أنه إذا قطع اليد ثم قتله لا يجب
عليه ضمان اليد, وإن كان متعديا في القطع
مسيئا فيه لأنه لا قيمة لها مع إتلاف النفس
بالقصاص فلا يضمن كما لو قطع يد مرتد أنه لا
يضمن وإن كان متعديا في القطع لما قلنا, كذا
هذا ولأنه كان مخيرا بين القصاص وبين العفو
فإذا عفا استند العفو إلى الأصل كأنه عفا ثم
قطع فكان القطع استيفاء غير حقه فيضمن هذا إذا
كان متعديا في الجناية على
ج / 7 ص -305-
ما دون
النفس فأما إذا لم يكن متعديا فيها فلا يجب
القصاص للشبهة, وتجب الدية في بعضها, ولا تجب
في البعض. وبيان ذلك في مسائل: إذا قطع يد رجل
عمدا حتى وجب عليه القصاص فقطع الرجل يده فمات
من ذلك ضمن الدية في قول أبي حنيفة رحمه الله,
وفي قولهما لا شيء عليه. ولو قطع الإمام يد
السارق فمات منه لا ضمان على الإمام ولا على
بيت المال. وكذلك الفصاد والبزاغ والحجام إذا
سرت جراحاتهم لا ضمان عليهم بالإجماع "وجه"
قولهما إن الموت حصل بفعل مأذون فيه وهو القطع
فلا يكون مضمونا كالإمام إذا قطع السارق فمات
منه ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه استوفى غير
حقه؛ لأن حقه في القطع وهو أتى بالقتل؛ لأن
القتل اسم لفعل يؤثر في فوات الحياة عادة, وقد
وجد فيضمن, كما إذا قطع يد إنسان ظلما فسرى
إلى النفس. وكان القياس أن يجب القصاص إلا أنه
سقط للشبهة فتجب الدية, وهكذا نقول في الإمام
أن فعله وقع قتلا إلا أنه لا سبيل إلى إيجاب
الضمان للضرورة؛ لأن إقامة الحد مستحقة عليه,
والتحرز عن السراية ليس في وسعه فلو أوجبنا
الضمان لامتنع الأئمة عن الإقامة خوفا عن لزوم
الضمان, وفيه تعطيل الحدود, والقطع ليس بمستحق
على من له القصاص بل هو مخير فيه, والأولى هو
العفو ولا ضرورة إلى إسقاط الضمان بعد وجود
سببه. ولو ضرب امرأته للنشوز فماتت منه يضمن؛
لأن المأذون فيه هو التأديب لا القتل, ولما
اتصل به الموت تبين أنه وقع قتلا. ولو ضرب
الأب أو الوصي الصبي للتأديب فمات ضمن في قول
أبي حنيفة رضي الله عنه وفي قولهما لا يضمن.
وجه قولهما أن الأب والوصي مأذونان في تأديب
الصبي وتهذيبه, والمتولد من الفعل المأذون فيه
لا يكون مضمونا كما لو عزر الإمام إنسانا فمات
"وجه" قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن التأديب
اسم لفعل يبقى المؤدب حيا بعده فإذا سرى تبين
أنه قتل وليس بتأديب, وهما غير مأذونين في
القتل. ولو ضربه المعلم أو الأستاذ فمات؛ إن
كان الضرب بغير أمر الأب أو الوصي يضمن لأنه
متعد في الضرب, والمتولد منه يكون مضمونا
عليه, وإن كان بإذنه لا يضمن للضرورة لأن
المعلم إذا علم أنه يلزمه الضمان بالسراية
وليس في وسعه التحرز عنها يمتنع عن التعليم
فكان في التضمين سد باب التعليم وبالناس حاجة
إلى ذلك فسقط اعتبار السراية في حقه لهذه
الضرورة, وهذه الضرورة لم توجد في الأب؛ لأن
لزوم الضمان لا يمنعه عن التأديب لفرط شفقته
على ولده فلا يسقط اعتبار السراية من غير
ضرورة. ولو قطع يد مرتد فأسلم ثم مات فلا شيء
على القاطع, وهذا يؤيد مذهب أبي حنيفة رضي
الله عنه في اعتبار وقت الفعل, والأصل في هذا
أن الجناية إذا وردت على ما ليس بمضمون
فالسراية لا تكون مضمونة؛ لأن الضمان يجب
بالفعل السابق, والفعل صادف محلا غير مضمون.
وكذلك لو قطع يد حربي ثم أسلم ثم مات من القطع
أنه لا شيء على القاطع؛ لأن الجناية وردت على
محل غير مضمون فلا تكون مضمونة. وهكذا لو قطع
يد عبده ثم أعتقه ثم مات لم يضمن السراية؛ لأن
يد العبد غير مضمونة في حقه. ولو قطع يده, وهو
مسلم ثم ارتد, والعياذ بالله, ثم مات فعلى
القاطع دية اليد لا غير لأنه أبطل عصمة نفسه
بالردة فصارت الردة بمنزلة الإبراء عن
السراية, ولو رجع إلى الإسلام ثم مات فعلى
القاطع دية النفس في قولهما, وعند محمد عليه
دية اليد لا غير. وجه قوله على نحو ما ذكرنا
أنه لما ارتد فكأنه أبرأ القاطع عن السراية.
وجه قولهما أن الجناية يتعلق حكمها بالابتداء
أو بالانتهاء, وما بينهما لا يتعلق به حكم,
والمحل ههنا مضمون في الحالين فكانت الجناية
مضمونة فيهما فلا تعتبر الردة العارضة فيما
بينهما "وأما" قول محمد الردة بمنزلة البراءة
فنعم لكن بشرط الموت عليها؛ لأن حكم الردة
موقوف على الإسلام والموت, وقد كانت الجناية
مضمونة فوقف حكم السراية أيضا وكذلك لو لحق
بدار الحرب, ولم يقض القاضي بلحوقه ثم رجع
إلينا مسلما ثم مات من القطع فهو على هذا
الخلاف, وإن كان القاضي قضى بلحوقه ثم عاد
مسلما ثم مات من القطع فعلى القاطع دية يده لا
غير بالإجماع؛ لأن لحوقه بدار الحرب يقطع
حقوقه بدليل أنه يقسم ماله بين ورثته بعد
اللحوق, ولا يقسم قبله فصار كالإبراء عن
الجناية. ولو قطع يد عبد خطأ فأعتقه مولاه ثم
مات منها فلا شيء على القاطع غير أرش اليد
وعتقه كبرء اليد لأن السراية لو كانت مضمونة
على الجاني فإما أن تكون مضمونة عليه للمولى
"وإما" أن تكون مضمونة عليه للعبد, لا سبيل
إلى الأول؛ لأن المولى ليس بمالك له بعد
العتق, ولا
ج / 7 ص -306-
وجه
للثاني؛ لما ذكرنا أن السراية تكون تابعة
للجناية فالجناية لما لم تكن مضمونة للعبد لا
تكون سرايتها مضمونة له, ولهذا قلنا إذا باعه
المولى بعد القطع سقط حكم السراية وليس قطع
اليد في هذا مثل الرمي في قول أبي حنيفة رحمه
الله حيث أوجب عليه بالرمي القيمة وإن أعتقه
المولى ولم يوجب في القطع إلا أرش اليد لما
ذكرنا أن الرمي سبب الإصابة لا محالة فصار
جانيا به وقت الرمي "فأما" القطع فليس بموجب
للسراية لا محالة, والله تعالى أعلم. وإن كان
قطع يد العبد عمدا فأعتقه مولاه ثم مات العبد
ينظر إن كان المولى هو وارثه لا وارث له غيره
فله أن يقتل الجاني في قولهما خلافا لمحمد,
وقد مرت المسألة, وإن كان له وارث غيره يحجبه
عن ميراثه ويدخل معه في ميراثه فلا قصاص
لاشتباه الولي على ما مر, ولو لم يعتقه بعد
القطع ولكنه دبره أو كانت أمة فاستولدها فإنه
لا تنقطع السراية ويجب نصف القيمة, ويجب ما
نقص بعد الجناية قبل الموت هذا إذا كان خطأ,
وإن كان عمدا فللمولى أن يقتص بالإجماع ولو
كاتبه والمسألة بحالها فبالكتابة برئ عن
السراية فيجب نصف القيمة للمولى فإذا مات وكان
خطأ لا يجب عليه شيء آخر, وإن كان عمدا فإن
كان عاجزا فللمولى أن يقتص لأنه مات عبدا, وإن
مات عن وفاء فقد مات حرا فينظر إن كان له وارث
يحجب المولى أو يشاركه فلا قصاص عليه, ويجب
عليه أرش اليد لا غير, وإن لم يكن له وارث غير
المولى فللمولى أن يقتص عندهما, وعند محمد
رحمه الله ليس له أن يقتص, وعليه أرش اليد لا
غير, وإن كان القطع بعد الكتابة فمات وكان
القطع خطأ أو مات عاجزا فالقيمة للمولى, وإن
مات عن وفاء فالقيمة للورثة, وإن كان عمدا فإن
مات عاجزا فللمولى أن يقتص, وإن مات عن وفاء
مات حرا ثم ينظر إن كان مع المولى وارث يحجبه
أو يشاركه في الميراث فلا قصاص, وإن لم يكن له
وارث غير المولى فعلى الاختلاف الذي ذكرنا,
والله تعالى أعلم هذا إذا كانت السراية إلى
النفس فأما إذا كانت إلى العضو فالأصل أن
الجناية إذا حصلت في عضو فسرت إلى عضو آخر
والعضو الثاني لا قصاص فيه فلا قصاص في الأول
أيضا, وهذا الأصل يطرد على أصل أبي حنيفة عليه
الرحمة في مسائل. إذا قطع أصبعا من يد رجل
فشلت الكف فلا قصاص فيهما, وعليه دية اليد بلا
خلاف بين أصحابنا رحمهم الله لأن الموجود من
القاطع قطع مشل للكف, ولا يقدر المقطوع على
مثله فلم يكن المثل ممكن الاستيفاء فلا يجب
القصاص؛ ولأن الجناية واحدة فلا يجب بها
ضمانان مختلفان وهو القصاص والمال خصوصا عند
اتحاد المحل لأن الكف مع الأصبع بمنزلة عضو
واحد. وكذا إذا قطع مفصلا من أصبع فشل ما بقي
أو شلت الكف لما قلنا فإن قال المقطوع: أنا
أقطع المفصل, وأترك ما يبس ليس له ذلك؛ لأن
الجناية وقعت غير موجبة للقصاص من الأصل لعدم
إمكان الاستيفاء على وجه المماثلة على ما بينا
فكان الاقتصار على البعض استيفاء ما لا حق له
فيه فيمنع من ذلك كما لو شجه منقلة فقال
المشجوج أنا أشجه موضحة وأترك أرش ما زاد لم
يكن له ذلك. وكذلك إذا كسر بعض سن إنسان واسود
ما بقي فليس في شيء من ذلك قصاص؛ لأن قصاصه هو
كسر مسود للباقي, وذلك غير ممكن؛ ولأن الجناية
واحدة فلا توجب ضمانين مختلفين ولو قطع أصبعا
فشلت إلى جنبها أخرى فلا قصاص في شيء من ذلك
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعليه دية
الأصبعين. وقال أبو يوسف ومحمد وزفر والحسن في
الأول لا قصاص وفي الثاني الأرش, وجه قولهم أن
المحل متعدد والفعل يتعدد بتعدد المحل حكما,
وإن كان متحدا حقيقة لتعدد أثره, وههنا تعدد
الأثر فيجعل فعلين فيفرد كل واحد منهما بحكمه
فيجب القصاص في الأول والدية في الثاني كما لو
قطع أصبع إنسان فانسل السكين إلى أصبع أخرى
خطأ فقطعها حتى يجب القصاص في الأول والدية في
الثاني. وكما لو رمى سهما إلى إنسان فأصابه
ونفذ منه وأصاب آخر حتى يجب القصاص في الأول
والدية في الثاني لما قلنا. وكذلك هذا. وإذا
تعددت الجناية تفرد كل واحدة منهما بحكمها
فيجب القصاص في الأولى والأرش في الثانية. وجه
قول أبي حنيفة رضي الله عنه ما ذكرنا أن
المستحق فيما دون النفس هو المثل, والمثل وهو
القطع المشل ههنا غير مقدور الاستيفاء فلا
يثبت الاستحقاق؛ ولأن الجناية متحدة حقيقة,
وهي قطع الأصبع, وقد تعلق به ضمان المال فلا
يتعلق به ضمان القصاص بخلاف ما إذا قطع أصبعا
عمدا فنفذ السكين إلى أخرى خطأ لأن الموجود
ج / 7 ص -307-
هناك
فعلان حقيقة فجاز أن يفرد كل واحد منهما بحكم,
وفي مسألة الرمي جعل الفعل المتحد حقيقة
متعددا شرعا بخلاف الحقيقة, ومن ادعى خلاف
الحقيقة ههنا يحتاج إلى الدليل. ولو قطع أصبعا
فسقط إلى جنبها أخرى فلا قصاص في شيء من ذلك
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما في
ظاهر الرواية عنهما يجب في الأول القصاص, وفي
الثاني الأرش, وفي رواية ابن سماعة عن محمد
أنه يجب القصاص فيهما؛ لأن من أصله على هذه
الرواية أن الجراحة التي فيها القصاص إذا تولد
منها ما يمكن فيه القصاص يجب القصاص فيهما
جميعا, وههنا يمكن وفيما إذا قطع أصبعا فشلت
أخرى بجنبها لا يمكن فوجب القصاص في الأولى
والأرش في الثانية. وجه ظاهر قولهما على نحو
ما ذكرنا فيما تقدم أن المحل متعدد, وأنه يوجب
تعدد الفعل عند تعدد الأثر, وقد وجد ههنا
فيجعل كجنايتين مختلفتين فيتعلق بكل واحدة
منهما حكمها, ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه لا
سبيل إلى استيفاء القصاص على وجه المماثلة لأن
ذلك هو القطع المسقط للأصبع, وذلك غير ممكن؛
ولأن الجناية واحدة حقيقة فلا توجب إلا ضمانا
واحدا, وقد وجب المال فلا يجب القصاص. ولو قطع
أصبع رجل عمدا فسقطت الكف من المفصل فلا قصاص
في ذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله وفيه دية
اليد؛ لأن استيفاء المثل وهو القطع المسقط
للكف متعذر فيمتنع الوجوب؛ ولأن الكف مع
الأصبع كعضو واحد فكانت الجناية واحدة حقيقة
وحكما, وقد تعلق بهما ضمان المال فلا يتعلق
بهما القصاص وقال أبو يوسف يقتص منه فتقطع يده
من المفصل فرق أبو يوسف بين هذا, وبين ما إذا
قطع أصبعا فسقطت أخرى إلى جنبها أنه لا يجب
القصاص في الثانية؛ لأن الأصبع جزء من الكف,
والسراية تتحقق من الجزء إلى الجملة كما تتحقق
من اليد إلى النفس, والأصبعان عضوان مفردان
ليس أحدهما جزء الآخر فلا تتحقق السراية من
أحدهما إلى الآخر فوجب القصاص في الأولى دون
الثانية, وعلى ما روى محمد رحمه الله في
النوادر يجب القصاص ههنا أيضا كما قال أبو
يوسف رحمه الله الله لأنه جناية واحدة, وقد
سرت إلى ما يمكن القصاص فيه فيجعل كأنه قطع
الكف من الزند. ولو كسر بعض سن إنسان فسقطت لا
قصاص فيه في قول أبي حنيفة عليه الرحمة لأنه
لا يمكن الاقتصاص بكسر مسقط للسن. وقال أبو
يوسف يجب القصاص كما قال في الأصبع إذا قطعت
فسقطت منها الكف. وكذلك عند محمد يجب القصاص
على رواية النوادر لما ذكرنا من أصله. وكذلك
لو ضرب سن إنسان فتكسر بعضها وتحرك الباقي
واستوفى حولا أنها إن اسودت فلا قصاص فيها
لتعذر استيفاء المثل, وهو الكسر المسود, وإن
سقطت فكذلك في قول أبي حنيفة رحمه الله, وفيها
الأرش لعدم إمكان استيفاء المثل, وهو الكسر
المسقط, فيجب فيها الأرش. وقال أبو يوسف فيها
القصاص كما قال في الأصبع إذا قطعت الكف. ولو
شج إنسانا موضحة متعمدا فذهب منها بصره فلا
قصاص في قول أبي حنيفة, وفيها وفي البصر الأرش
وقالا في الموضحة القصاص وفي البصر الدية, هذه
رواية الجامع الصغير عن محمد. وروى ابن سماعة
في نوادره عنه أن فيهما جميعا القصاص. وجه هذه
الرواية أنه تولد من جناية العمد إلى عضو يمكن
فيه القصاص فيجب فيه القصاص كما إذا سرى إلى
النفس وجه ظاهر قولهما أن تلف البصر حصل من
طريق التسبيب لا من طريق السراية بدليل أن
الشجة تبقى بعد ذهاب البصر, وحدوث السراية
يوجب تغير الجناية كالقطع إذا سرى إلى النفس
أنه لا يبقى قطعا بل يصير قتلا, وهنا الشجة لم
تتغير بل بقيت شجة كما كانت فدل أن ذهاب البصر
ليس من طريق السراية بل من طريق التسبيب,
والجناية بطريق التسبيب لا توجب القصاص كما في
حفر البئر ونحو ذلك. ولو ذهبت عيناه ولسانه
وسمعه وجماعه فلا قصاص في شيء من ذلك على أصل
أبي حنيفة رضي الله عنه وعلى قولهما في
الموضحة القصاص ولا قصاص في العينين في ظاهر
قولهما بل فيهما الأرش, وعلى رواية النوادر عن
محمد فيهما القصاص دون اللسان والسمع والجماع
لأنه لا يمكن فيهما القصاص إذ لا قصاص في ذهاب
منفعة اللسان والسمع والجماع في الشرع, وفي
ذهاب البصر قصاص في الشريعة. ولو ضربه بعصا
فأوضحه ثم عاد فضربه أخرى إلى جنبها ثم تآكلتا
حتى صارت واحدة فهما موضحتان ولا قصاص فيهما,
أما على أصل أبي حنيفة رحمه
ج / 7 ص -308-
الله
فلعدم إمكان استيفاء المثل, وهما شجتان
موضحتان تأكل بينهما "وأما" على أصلهما فلأن
ما تأكل بين الموضحتين تلف بسبب الجراحة,
والإتلاف تسبيبا لا يوجب القصاص, والله سبحانه
وتعالى الموفق. ولا قصاص في العين إذا قورت أو
فسخت لأنا إذا فعلنا ما فعل, وهو التقوير
والفسخ لا يمكن استيفاء المثل إذ ليس له حد
معلوم, وإن أذهبنا ضوءه فلم نفعل مثل ما فعل
فتعذر الاستيفاء بصفة المماثلة فامتنع الوجوب
وصار كمن قطع يد إنسان من الساعد أنه لا يجب
القصاص لأنه لا سبيل إلى القطع من الساعد ولا
من الزند لما قلنا فامتنع الوجوب, كذا هذا.
وإن ضرب عليها فذهب ضوءها مع بقاء الحدقة على
حالها لم تنخسف ففيها القصاص لقوله تبارك
وتعالى
{وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} ولأن القصاص على سبيل المماثلة ممكن بأن يجعل على وجهه القطن
المبلول, وتحمى المرآة, وتقرب من عينه حتى
يذهب ضوءها, وقيل أول من اهتدى إلى ذلك سيدنا
علي رضي الله عنه وأشار إلى ما ذكرنا فإنه روي
أنه وقعت هذه الحادثة في زمن سيدنا عثمان رضي
الله عنه فجمع الصحابة الكرام رضي الله عنهم
وشاورهم في ذلك فلم يكن عندهم حكمها حتى جاء
سيدنا علي رضي الله عنه وأشار إلى ما ذكرنا
فلم ينكر عليه أحد فقضى به سيدنا عثمان بمحضر
من الصحابة الكرام رضي الله عنهم فيكون
إجماعا, وإن انخسفت فلا قصاص لأن الثاني قد لا
يقع خاسفا بها فلا يكون مثل الأول. وروي عن
أبي يوسف أنه لا قصاص في عين الأحول؛ لأن
الحول نقص في العين فيكون استيفاء الكامل
بالناقص فلا تتحقق المماثلة, ولهذا لا تقطع
اليد الصحيحة باليد الشلاء, كذا هذا ولا قصاص
في الأشفار والأجفان لأنه لا يمكن استيفاء
المثل فيها "وأما" الأذن فإن استوعبها ففيها
القصاص لقوله تبارك وتعالى:
{وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ} ولأن استيفاء المثل فيها ممكن فإن قطع بعضها فإن كان له حد يعرف
ففيه القصاص, وإلا فلا "وأما" الأنف فإن قطع
المارن ففيه القصاص بلا خلاف بين أصحابنا
رحمهم الله لقوله سبحانه وتعالى:
{وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ} ولأن استيفاء المثل فيه ممكن؛ لأن له حدا معلوما, وهو ما لان منه
فإن قطع بعض المارن فلا قصاص فيه لتعذر
استيفاء المثل, وإن قطع قصبة الأنف فلا قصاص
فيه لأنه عظم, ولا قصاص في العظم ولا في السن
لما نذكر إن شاء الله تعالى. وقال أبو يوسف إن
استوعب ففيه القصاص وقال محمد لا قصاص فيه وإن
استوعب. ولا خلاف بينهما في الحقيقة؛ لأن أبا
يوسف أراد استيعاب المارن, وفيه القصاص بلا
خلاف, ومحمد رحمه الله أراد به استيعاب
القصبة, ولا قصاص فيها بلا خلاف. "وأما" الشفة
فقد روي عن أبي حنيفة أنه قال إذا قطع شفة
الرجل السفلى أو العليا. وكان يستطاع أن يقتص
منه ففيه القصاص, وذكر الكرخي رحمه الله أنه
إن استقصاها بالقطع ففيها القصاص لإمكان
استيفاء المثل عند الاستقصاء, وإن قطع بعضها
فلا قصاص فيه لعدم الإمكان, ولا قصاص في عظم
إلا في السن لأنه لا يعلم موضعه, ولا يؤمن فيه
عن التعدي أيضا. وقد روي عنه عليه الصلاة
والسلام أنه
"لا قصاص في عظم",
وفي السن القصاص سواء كسر أو قلع لقول الله
تبارك وتعالى:
{وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ}
ولأنه يمكن استيفاء المثل فيه بأن يؤخذ في الكسر من سن الكاسر مثل
ما كسر بالمبرد, وفي القلع يؤخذ سنه بالمبرد
إلى أن ينتهي إلى اللحم ويسقط ما سوى ذلك,
وقيل في القلع أنه يقلع سنه؛ لأن تحقق
المماثلة فيه, والأول استيفاء على وجه النقصان
إلا أن في القلع احتمال الزيادة لأنه لا يؤمن
فيه أن يفعل المقلوع أكثر مما فعل القالع
"وأما" اللسان فإن قطع بعضه فلا قصاص فيه لعدم
إمكان استيفاء المثل, وإن استوعب فقد ذكر في
الأصل أن اللسان لا يقتص فيه وقال أبو يوسف
فيه القصاص وجه قوله أن القطع إذا كان مستوعبا
أمكن استيفاء المثل فيه بالاستيعاب فيكون
الجزاء مثل الجناية. وجه ما ذكر في الأصل أن
اللسان ينقبض وينبسط فلا يمكن استيفاء القصاص
فيه بصفة المماثلة, وإن قطع الحشفة ففيها
القصاص لإمكان استيفاء المثل؛ لأن لها حدا
معلوما, وإن قطع بعضها أو بعض الذكر فلا قصاص
فيه لأنه لا حد لذلك فلا يمكن القطع بصفة
المماثلة كما لو قطع بعض اللسان, ولو قطع
الذكر من أصله ذكر في الأصل أنه لا قصاص فيه.
وقال أبو يوسف فيه القصاص. وجه قوله أن عند
الاستيعاب أمكن الاستيفاء على وجه المماثلة
فيجب القصاص. وجه ما ذكر في الأصل أن الذكر
ينقبض مرة وينبسط أخرى فلا يمكن مراعاة
ج / 7 ص -310-
باستيفاء حقه ناقصا, واقتصر على ما بين قرني
الشاج طلبا للتشفي. وإن شاء عدل إلى الأرش,
وإن كانت الشجة لا تأخذ بين قرني المشجوج, وهي
تأخذ ما بين قرني الشاج لا يجوز أن يستوعب بين
قرني الشاج كله بالقصاص؛ لأن الشجة الأولى
وقعت غير مستوعبة فالاستيعاب في الجزء يكون
زيادة, وهذا لا يجوز وإن كان ذلك مقدار شجته
في المساحة كما لا يجوز استيفاء ما فضل عن
قرني الشاج في المسألة الأولى, وإن كان ذلك
مقدار الشجة الأولى في المساحة وله الخيار
لتعذر استيفاء مثل شجته في مقدارها في المساحة
في الطول فإن شاء اقتص ونقص عما بين قرني
الشاج, وإن شاء ترك وأخذ الأرش. وإن كانت
الشجة في طول رأس المشجوج, وهي تأخذ من جبهته
إلى قفاه ولا تبلغ من الشاج إلى قفاه يخير
المشجوج إن شاء اقتص مقدار شجته إلى مثل
موضعها من رأس الشاج لا يزيد عليه, وإن شاء
أخذ الأرش لما بينا فيما تقدم. وحكى الطحاوي
عن علي بن العباس الرازي أنه قال إذا استوعبت
الشجة ما بين قرني المشجوج, ولم تستوعب ما بين
قرني الشاج يقتص من الشاج ما بين قرنيه كله,
وإن زاد ذلك على طول الشجة الأولى لأنه لا
عبرة للصغر والكبر في القصاص بين العضوين كما
في اليدين والرجلين أنه يجري القصاص بينهما,
وإن كانت إحداهما أكبر من الأخرى فكذا في
الشجة, وهذا الاعتبار غير سديد؛ لأن وجوب
القطع هناك لفوات المنفعة وأنها لا تختلف
بالصغر والكبر. ألا يرى أن اليد الصغيرة قد
تكون أكثر منفعة من الكبيرة فإذا لم يختلف ما
وجب له لم يختلف الوجوب بخلاف الشجة لأن وجوب
القصاص فيها للشين الذي يلحق المشجوج وأنه
يختلف فيزداد بزيادة الشجة وينتقص بنقصانها
لذلك افترق الأمران, والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب. "وأما" الجراح فإن مات من شيء منها
المجروح وجب القصاص؛ لأن الجراحة صارت
بالسراية نفسا, وإن لم يمت فلا قصاص في شيء
منها, سواء كانت جائفة أو غيرها لأنه لا يمكن
استيفاء القصاص فيها على وجه المماثلة. ومنها
أن يكون الجاني, والمجني عليه حرين فإن كان
أحدهما حرا والآخر عبدا أو كانا عبدين فلا
قصاص فيه. ومنها أن يكونا ذكرين أو أنثيين
عندنا فإن كان أحدهما ذكرا والآخر أنثى فلا
قصاص فيه عند أصحابنا. وعند الشافعي رحمه الله
هذا ليس بشرط, ويجري القصاص بين الذكر والأنثى
فيما دون النفس كما يجرى في النفس, وهذان
الشرطان في الحقيقة عندنا متداخلان لأنهما
دخلا في شرط المماثلة؛ لأن المماثلة في الأروش
شرط وجوب القصاص فيما دون النفس بدليل أن
الصحيح لا يقطع بالأشل, ولا كامل الأصابع
بناقص الأصابع, ولما ذكرنا فيما تقدم أن ما
دون النفس يسلك به مسلك الأموال والمماثلة في
الأموال في باب الأموال معتبرة, ولم توجد
المماثلة بين الأحرار والعبيد في الأروش؛ لأن
أرش طرف العبد ليس بمقدر بل يجب باعتبار
قيمته, وأرش طرف الحر مقدر فلا يوجد التساوي
بين أرشيهما, ولئن اتفق استواؤهما في القدر
فلا يعتبر ذلك؛ لأن قيمة طرف العبد تعرف
بالحزر والظن بتقويم المقومين فلا تعرف
المساواة فلا يجب القصاص. وكذا لم يوجد بين
العبيد والعبيد لأنهم إن اختلفت قيمتهم فلم
يوجد التساوي في الأرش, وإن استوت قيمتهم فلا
يعرف ذلك إلا بالحزر والظن لأنه يعرف بتقويم
المقومين, وذلك يختلف فلا يعرف التساوي في
أروشهم فلا يجب القصاص أوتبقى فيه شبهة العدم,
والشبهة في باب القصاص ملحقة بالحقيقة. ولا
بين الذكور والإناث فيما دون النفس؛ لأن أرش
الأنثى نصف أرش الذكر. وعند الشافعي رحمه الله
المساواة في الأروش في الأحرار غير معتبرة
"وجه" قوله أن القصاص جرى بين نفسيهما فيجري
بين طرفيهما؛ لأن الطرف تابع للنفس "ولنا" أنه
لا مساواة بين أرشيهما فلا قصاص في طرفيهما
كالصحيح مع الأشل. ولا قصاص في الأظفار
لانعدام المساواة في أروشها لأن أرش الظفر
الحكومة, وأنها معتبرة بالحزر والظن, والله
تعالى الموفق.
وأما كون الجناية فيما دون النفس بالسلاح فليس
بشرط لوجوب القصاص فيه فسواء كانت بسلاح أو
غيره يجب فيه القصاص لأنه ليس فيما دون النفس
شبهة عمد, وإنما فيه عمد أو خطأ لما ذكرنا
فيما تقدم فاستوى فيهما السلاح وغيره هذا الذي
ذكرنا شرائط وجوب القصاص فيما دون النفس
"وأما" بيان وقت الحكم بالقصاص فيما دون النفس
فوقته ما بعد البرء فلا يحكم بالقصاص فيه ما
لم يبرأ, وهذا عندنا, وعند الشافعي رحمه
ج / 7 ص -311-
الله
وقته ما بعد الجناية ولا ينتظر "وجه" قوله أنه
وجب القصاص للحال فله أن يستوفي الواجب للحال.
"ولنا" ما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال
"لا يستقاد من الجراحة حتى يبرأ". وروي أن
"رجلا جرح حسان بن ثابت رحمه الله في فخذه
بعظم فجاء الأنصار إلى رسول الله صلى الله
عليه وسلم فطلبوا القصاص فقال عليه الصلاة
والسلام
"انتظروا ما يكون من صاحبكم
فأنا والله منتظره", وهو أنه
يحتمل السراية, والجراحة عند السراية تصير
قتلا فيتبين أنه استوفى غير حقه, وهذا فرع
مسألة ذكرناها, وهي أن المجروح إذا مات
بالجراحة يجب القصاص بالنفس عندنا لا في
الطرف, وعند الشافعي رحمه الله يفعل به مثل ما
فعل, والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب.
وأما الذي فيه دية كاملة فالكلام فيه في
موضعين: أحدهما في بيان سبب الوجوب والثاني في
بيان شرائطه. أما السبب فهو تفويت المنفعة
المقصودة من العضو على الكمال, وذلك في الأصل
بأحد أمرين: إبانة العضو وإذهاب معنى العضو مع
بقاء العضو صورة. أما الأول فالأعضاء التي
تتعلق بانتهاء كمال الدية أنواع ثلاثة: نوع لا
نظير له في البدن, ونوع في البدن منه اثنان,
ونوع في البدن منه أربعة "أما" الذي لا نظير
له في البدن فستة أعضاء أحدها الأنف سواء
استوعب جدعا أو قطع المارن منه وحده, وهو ما
لان من الأنف, والثاني اللسان سواء استوعب
قطعا أو قطع منه ما يذهب بالكلام كله, والثالث
الذكر سواء استوعب قطعا أو قطع الحشفة منه
وحدها, والأصل فيه ما روي عن سعيد بن المسيب
أن رسول صلى الله عليه وسلم قال "في النفس
الدية وفي اللسان الدية وفي الذكر الدية وفي
الأنف الدية وفي المارن الدية" وروي أنه عليه
الصلاة والسلام كتب في كتاب عمرو بن حزم
"في النفس الدية وفي الأنف الدية وفي اللسان الدية" ولأنه أبطل المنافع المقصودة من هذه الأعضاء, والجمال أيضا من
بعضها فالمقصود من الأنف الشم والجمال أيضا,
ومن اللسان الكلام, ومن الذكر الجماع, والحشفة
يتعلق بها منفعة الإنزال, وقد زال ذلك كله
بالقطع. وإن كان ذهب بعض الكلام بقطع بعض
اللسان دون بعض ففيه حكومة العدل لأنه لم يوجد
تفويت المنفعة على سبيل الكمال, وقيل تقسم
الدية على عدد حروف الهجاء فيجب من الدية بقدر
ما فات من الحروف. ونقلت هذه القضية عن سيدنا
علي رضي الله عنه لأن المقصود من اللسان هو
الكلام, وقد فات بعضه دون بعض فيجب من الدية
بقدر الفائت منها لكن إنما يدخل في القسمة
الحروف التي تفتقر إلى اللسان فأما ما لا
يفتقر إلى اللسان من الشفوية والحلقية كالباء
والفاء والهاء ونحوهما فلا تدخل في القسمة.
والرابع الصلب إذا احدودب بالضرب وانقطع
الماء, وهو المني, فيه دية كاملة لوجود تفويت
منفعة الجنس. والخامس مسلك البول. والسادس
مسلك الغائط من المرأة إذا أفضاها إنسان فصارت
لا تستمسك البول أو الغائط فعليه دية كاملة
فإن صارت لا تستمسكهما فعليه لكل واحد منهما
دية كاملة لأنه فوت منفعة مقصودة بالعضو على
الكمال فيجب عليه كمال الدية "وأما" الأعضاء
التي في البدن منها اثنان فالعينان, والأذنان,
والشفتان, والحاجبان إذا ذهب شعرهما ولم ينبت,
والثديان والحلمتان والأنثيان, والأصل فيه ما
روي عن ابن المسيب أنه عليه الصلاة والسلام
قال "وفي الأذنين الدية, وفي العينين الدية,
وفي الرجلين الدية" ولأن في القطع كل اثنين من
هذين العضوين تفويت منفعة الجنس منفعة مقصودة
أوتفويت الجمال على الكمال كمنفعة البصر في
العينين والبطش في اليدين والمشي في الرجلين
والجمال في الأذنين والحاجبين إذا لم ينبتا
والشفتين ومنفعة إمساك الريق في إحداهما وهي
السفلى. والثديان وكاء للبن, وفي الحلمتين
منفعة الرضاع, والأنثيان وكاء المني "وأما"
الأعضاء التي منها أربعة في البدن فنوعان:
أحدهما أشفار العينين, وهي منابت الأهداب إذا
لم تنبت لما في تفويتها من تفويت منفعة البصر
والجمال أيضا على الكمال, وفي كل شفر منها ربع
الدية. والثاني الأهداب, وهي شعر الأشفار إذا
لم تنبت لما قلنا "وأما" إذهاب معنى العضو مع
بقاء صورته فنحو العقل والبصر والشم والذوق
والجماع والإيلاد بأن ضرب على رأس إنسان فذهب
عقله أو سمعه أو كلامه أو شمه أو ذوقه أو
جماعه أو إيلاده بأن ضرب على ظهره فذهب ماء
صلبه, والأصل فيه ما روي عن سيدنا عمر رضي
الله عنه أنه قضى في رجل واحد
ج / 7 ص -312-
بأربع
ديات, ضرب على رأسه فذهب عقله وكلامه وبصره
وذكره لأنه فوت المنافع المقصودة عن هذه
الأعضاء على سبيل الكمال "أما" العقل فلأن
تفويته تفويت منافع الأعضاء كلها لأنه لا يمكن
الانتفاع بها فيما وضعت له بفوت العقل. ألا
ترى أن أفعال المجانين تخرج مخرج أفعال
البهائم فكان إذهابه إبطالا للنفس معنى "وأما"
السمع والبصر والكلام والشم والذوق والجماع
والإيلاد فكل واحد منهما منفعة مقصودة, وقد
فوتها كلها. ولو ضرب على رأس رجل فسقط شعره أو
على رأس امرأة فسقط شعرها أو حلق لحية رجل أو
نتفها أو حلق شعر امرأة ولم ينبت فإن كان حرا
ففيه الدية عند أصحابنا رضي الله عنهم, وعند
الشافعي فيه حكومة "وجه" قوله أنه لا يجب كمال
الدية إلا بإتلاف النفس؛ لأن الدية بدل النفس
إلا أن الشرع ورد بذلك عند تفويت منفعة الجنس
كما في قطع اليدين والرجلين ونحو ذلك؛ لأن
تفويت منفعة الجنس يجعل النفس تالفة من وجه,
ولم يوجد ذلك في حلق الشعر فبقي الحكم فيه
مردودا إلى الأصل, ولهذا لم يجب في حلق شعر
سائر البدن "ولنا" أن الشعر للنساء والرجال
جمال كامل. وكذا اللحية للرجال. والدليل عليه
ما روي من الحديث "أن الله تبارك وتعالى عز
وجل خلق في سماء الدنيا ملائكة من تسبيحهم
سبحان الذي زين الرجال باللحى والنساء
بالذوائب" وتفويت الجمال على الكمال في حق
الحر يوجب كمال الدية كالمارن والأذن الشاخصة,
والجامع بينهما إظهار شرف الآدمي وكرامته,
وشرفه في الجمال فوق شرفه في المنافع ثم تفويت
المنافع على الكمال لما أوجب كمال الدية
فتفويت الجمال على الكمال أولى بخلاف شعر سائر
البدن لأنه لا جمال فيه على الكمال لأنه لا
يظهر للناس فتفويته لا يوجب كمال الدية. وقد
روي عن سيدنا علي رضي الله عنه أنه قال في
الرأس إذا حلق فلم ينبت الدية كاملة. وكذا روي
عنه أنه قال في اللحية إذا حلقت فلم تنبت
الدية وروي أن رجلا أغلى ماء فصبه على رأس رجل
فانسلخ جلد رأسه فقضى سيدنا علي رضي الله عنه
بالدية. وعن الفقيه أبي جعفر الهندواني أنه
قال إنما يجب كمال الدية في اللحية إذا كانت
كاملة بحيث يتجمل بها فأما إذا كانت طاقات
متفرقة لا يتجمل بها فلا شيء فيها, وإن كانت
غير متوفرة بحيث يقع بها الجمال الكامل, وليست
مما يشين ففيها حكومة عدل. وأما شعر العبد
ولحيته فذكر في الأصل أن فيه حكومة. وروى
الحسن عن أبي حنيفة رضي الله عنه أن فيه
القيمة "وجه" هذه الرواية أن القيمة في العبيد
كالدية في الأحرار فلما وجبت في الحر الدية
تجب في العبد القيمة "وجه" رواية الأصل أن
الجمال في العبد ليس بمقصود بل المقصود منهم
الخدمة, وتفويت ما ليس بمقصود لا يتعلق به
كمال الدية. ولو حلق رأس إنسان أو لحيته ثم
نبت فلا شيء عليه؛ لأن النابت قام مقام الفائت
فكأنه لم يفت الجمال أصلا. وفي الصعر وهو
اعوجاج الرقبة كمال الدية لوجود تفويت منفعة
مقصودة وتفويت الجمال على الكمال, والله
سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" شرائط الوجوب
"فمنها" أن تكون الجناية خطأ فيما في عمده
القصاص وأما ما لا قصاص في عمده فيستوي فيه
العمد, والخطأ, وقد بينا ما في عمده القصاص
وما لا قصاص فيه فيما تقدم "ومنها" أن يكون
المجني عليه ذكرا فإن كان أنثى فعليه دية
أنثى, وهو نصف دية الذكر سواء كان الجاني ذكرا
أو أنثى لإجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم
على ذلك, وهو تنصيف دية الأنثى من دية الذكر
على ما ذكرنا في دية النفس "ومنها" أن يكون
الجاني والمجني عليه حرين فإن كان الجاني حرا
والمجني عليه عبدا فلا دية فيه, وفيه القيمة
في قول أبي حنيفة رضي الله عنه ثم إن كان قليل
القيمة وجبت جميع القيمة, وإن كان كثير القيمة
بأن بلغت الدية ينقص من قيمته عشرة كذا روى
أبو يوسف رحمه الله تعالى عن أبي حنيفة رضي
الله عنه أنه قال: كل شيء من الحر فيه الدية
فهو من العبد فيه القيمة, وكل شيء من الحر فيه
نصف الدية فهو من العبد فيه نصف القيمة. وكذلك
الجراحات. وعموم هذه الرواية يقتضي أن كل شيء
من الحر فيه قدر من الدية فمن العبد فيه ذلك
القدر من قيمته من غير فصل بين ما يقصد به
المنفعة كالعين واليد والرجل وبين ما يقصد به
الجمال والزينة مثل الحاجب والشعر والأذن,
وهكذا روى الحسن رحمه الله عنه أنه إن حلق أحد
حاجبيه فلم ينبت أو نتف أشفار عينيه الأسفل أو
الأعلى يعني أهدابه فلم تنبت أو قطع إحدى
شفتيه العليا أو السفلى أن عليه في كل واحد من
ذلك نصف القيمة. وقال أبو يوسف
ج / 7 ص -313-
رجع
أبو حنيفة في حاجب العبد وفي أذنيه وقال فيه
حكومة العدل. وكذا قال محمد استقبح أبو حنيفة
رحمه الله أن يضمن في أذن العبد نصف القيمة,
وهذا دليل الرجوع أيضا, والحاصل أن الواجب
فيما يقصد به المنفعة هو القيمة رواية واحدة
عنه, وفيما يقصد به الزينة والجمال عنه
روايتان. وقال محمد: الواجب في ذلك كله
النقصان يقوم العبد مجنيا عليه ويقوم وليس به
الجناية فيغرم الجاني ما بين القيمتين, وهو
قول أبي يوسف الآخر, وقوله الأول مع أبي حنيفة
"وجه" قول محمد أن ما دون النفس من العبد له
حكم المال لأنه خلق لمصلحة النفس كالمال
وبدليل أنه لا يجب فيه القصاص ولا تتحمله
العاقلة فكان ضمانه ضمان الأموال, وضمان
الأموال غير مقدر بل يجب بقدر نقصان المال كما
في سائر الأموال "وجه" رواية الجمع لأبي حنيفة
رضي الله عنه أن القيمة في العبد كالدية في
الحر فلما جاز تقدير ضمان جناية الحر بديته
جاز تقدير ضمان جناية العبد بقيمته ولأن
التقدير قد دخل على الجناية عليه في النفس حتى
لا يبلغ الدية إذا كان كثير القيمة فجاز أن
يدخل في ضمان الجناية فيما دون النفس كالحر
"ووجه" رواية الفرق له أن الجمال ليس بمقصود
في العبيد بل المقصود منهم الخدمة فأما
المنفعة فمقصودة من الأحرار والعبيد جميعا
ولأن ما دون النفس من العبيد له شبه النفس
وشبه المال أما شبه النفس فظاهر لأنه من أجزاء
النفس حقيقة "وأما" شبه المال فإنه لا يجب فيه
القصاص ولا تتحمله العاقلة فيجب العمل
بالشبهين فيعمل بشبه النفس فيما يقصد به
المنفعة بتقدير ضمانه بالقيمة كما لو جنى على
النفس ويعمل بشبه المال فيما يقصد به الجمال
فلم يقدر ضمانه بالقيمة كما إذا أتلف المال
عملا بالشبهين بقدر الإمكان, وقد خرج الجواب
عما ذكر محمد من عدم وجوب القصاص وتحمل
العاقلة؛ لأن ذلك عمل بشبه المال, وأنه لا
ينفي العمل بشبه النفس فيجب العمل بهما جميعا,
وذلك فيما قلنا. ثم الحر إذا فقأ عيني عبد
إنسان أو قطع يديه أو رجليه حتى وجب عليه كمال
القيمة فمولاه بالخيار إن شاء سلمه إلى الفاقئ
وأخذ قيمته, وإن شاء أمسكه ولا شيء له. وقال
أبو يوسف ومحمد رحمهما الله له أن يمسكه ويأخذ
ما نقصه. وقال الشافعي رحمه الله له أن يمسكه
ويأخذ جميع القيمة "وجه" قوله أن الواجب فيه
وهو القيمة ضمان العضوين الفائتين لا غير
فيبقى الباقي على ملكه كما لو فقأ إحدى عينيه
أو قطع إحدى يديه أنه يضمن نصف قيمته ويبقى
الباقي على ملك مالكه, كذا هذا. "وجه" قولهما
أن الضمان بمقابلة العينين كما قال الشافعي
عليه الرحمة لكن الرقبة هلكت من وجه لفوات
منفعة الجنس فيخير المولى إن شاء مال إلى جهة
الهلاك وضمنه القيمة وسلم العبد إلى الفاقئ
لوصول عوض الرقبة إليه, وإن شاء مال إلى جهة
القيام وأمسكه وضمن النقصان وهو بدل العينين,
كما يخير صاحب المال عند النقصان الفاحش في
المواضع كلها ولأبي حنيفة رضي الله عنه أنه
لما وصل إلى المولى بدل النفس فلو بقي العبد
على ملكه لاجتمع البدل والمبدل في ملك رجل
فيما يصح تمليكه بعقود المعاوضات, وهذا لا
يجوز كما لا يجوز اجتماع المبيع والثمن في ملك
رجل واحد, ولا يلزم ما إذا غصب مدبرا فأبق من
يده أن المولى يضمنه قيمته, والمدبر على ملكه
لأنه لا يحتمل التمليك بعقد المعاوضة, ولا
تلزم الهبة بشرط العوض إذا سلم الهبة, ولم
يقبض العوض أنه اجتمع على ملك الموهوب له
العوض والمعوض؛ لأن العوض قبل القبض لا يكون
عوضا فلم يجتمع العوض والمعوض, ولا يلزم البيع
الفاسد إذا قبض المشتري المبيع, ولم يسلم
الثمن لأن الثمن ليس ببدل في البيع الفاسد
إنما البدل القيمة, وقد ملكها البائع حين ملك
المشتري المبيع فلم يجتمع البدل والمبدل في
ملكه. ولا يلزم ما إذا اشترى عبدا بجارية على
أنه بالخيار فقبض العبد فأعتقهما جميعا أنه
ينفذ إعتاقه فيهما جميعا, وقد اجتمع العوض
والمعوض على ملكه لأنه لما أعتقهما فسد البيع
في الجارية وصار العوض عن العبد القيمة,
وملكها البائع في مقابلة ملك العبد فلم يجتمع
العوض والمعوض, ولا يلزم ما إذا استأجر شيئا
وعجل الأجرة أن المؤاجر يملكها, والمنافع على
ملكه فقد اجتمع البدل والمبدل في ملك واحد؛
لأن المنافع لا تملك عندنا إلا بعد وجودها,
وكلما وجد جزء منها حدث على ملك المستأجر فلم
يجتمع العوض والمعوض على ملك المؤاجر, ولا
يلزم ما إذا غصب عبدا فجنى عنده جناية ثم رده
على مولاه فجنى عنده
ج / 7 ص -314-
جناية
أخرى ودفعه بالجنايتين أنه يرجع على الغاصب
بنصف القيمة فيدفعها إلى ولي الجناية الأولى,
ومعلوم أن نصف القيمة عوض عن نصف الرقبة الذي
سلم له فقد اجتمع في ملكه, وهو نصف العبد
العوض والمعوض لأن الممتنع اجتماع العوض
والمعوض في ملك رجل بعقد المعاوضة, ولم يوجد
هناك؛ لأن ولي الجناية إنما يأخذ عوضا عن
جنايته لا عن المال, واجتماع العوض والمعوض في
ملك رجل واحد بغير عقد المعاوضة جائز كمن
استوهب المبيع من البائع والثمن من المشتري أو
ورثهما, والله سبحانه وتعالى أعلم. وإن كان
الجاني عبدا والمجني عليه حرا, أو كانا جميعا
عبدين فحكم هذه الجناية وجوب الدفع إلا أن
يختار المولى الفداء على ما ذكرنا في جنايات
العبيد, والله سبحانه وتعالى أعلم.
"فصل": وأما الذي يجب فيه أرش مقدر ففي كل اثنين من البدن فيهما كمال
الدية في أحدهما نصف الدية من إحدى العينين
واليدين والرجلين والأذنين والحاجبين إذا لم
تنبت والشفتين والأنثيين والثديين والحلمتين
لما روي أنه عليه الصلاة والسلام "كتب في كتاب
عمرو بن حزم وفي العينين الدية وفي إحداهما
نصف الدية وفي اليدين الدية وفي إحداهما نصف
الدية"؛ ولأن كل الدية عند قطع العضوين يقسم
عليهما فيكون في أحدهما النصف؛ لأن وجوب الكل
في العضوين لتفويت كل المنفعة المقصودة من
العضوين, والفائت بقطع أحدهما النصف فيجب فيه
نصف الدية, ويستوي فيه اليمين واليسار لأن
الحديث لا يوجب الفصل بينهما, وسواء ذهب
بالجناية على العين نور البصر دون الشحمة أو
ذهب البصر مع الشحمة لأن المقصود من العين
البصر, والشحمة فيه تابعة. وكذا العليا
والسفلى من الشفتين سواء عند عامة الصحابة
رضوان الله تعالى عنهم. وروي عن زيد بن ثابت
رضي الله عنه أنه فصل بينهما فأوجب في السفلى
الثلثين وفي العليا الثلث لزيادة جمال في
العليا ومنفعة في السفلى, وبقية الصحابة سووا
بينهما, وهو قول جماعة من التابعين مثل شريح,
وإبراهيم رضي الله عنهما وغيرهما, سواء قطع
الحلمة من ثدي المرأة أو قطع الثدي وفيه
الحلمة ففيه نصف الدية للحلمة, والثدي تبع؛
لأن المقصود من الثدي وهو منفعة الرضاع يفوت
بفوات الحلمة, وسواء كان ذلك بضربة أو ضربتين
إذا كان قبل البرء من الأولى لأن الجناية لا
تستقر قبل البرء فإذا أتبعها الثانية قبل
استقرارها صار كأنه أوقعهما معا. وفي أصابع
اليدين والرجلين في كل واحدة منها عشر الدية,
وهي في ذلك سواء لا فضل لبعض على بعض, والأصل
فيه ما روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال
"في كل أصبع عشر من الإبل" من غير فصل بين أصبع وأصبع وروي عن عبد الله بن عباس رضي الله
عنهما أنه قال هذه وهذه سواء, وأشار إلى
الخنصر والإبهام, وسواء قطع أصابع اليد وحدها
أو قطع الكف ومعها الأصابع. وكذلك القدم مع
الأصابع لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه
قال
"في
الأصابع في كل أصبع عشر من الإبل" من
غير فصل بين ما إذا قطع الأصابع وحدها أو قطع
الكف التي فيها الأصابع ولأن الأصابع أصل
والكف تابعة لها لأن المنفعة المقصودة من اليد
البطش, وأنها تحصل بالأصابع فكان إتلافها
إتلافا لليد, وسواء قطع الأصابع أو شل من
الجراحة أو يبس ففيه عقله تاما؛ لأن المقصود
منه يفوت, وما كان من الأصابع فيه ثلاث مفاصل
ففي كل مفصل ثلث دية الأصبع, وما كان فيه
مفصلان ففي كل واحد منهما نصف دية الإصبع؛ لأن
ما في الإصبع ينقسم على مفاصلها كما ينقسم ما
في اليد على عدد الأصابع, وفي إحدى أشفار
العينين ربع الدية, وفي الاثنين نصف الدية,
وفي الثلاث ثلاثة أرباع الدية إن لم ينبت؛ لأن
في الأشفار كلها كل الدية فتقسم الدية على
عددها كما تقسم الدية على اليدين, وإن نبت فلا
شيء فيه سواء قطع الشفر وحده أو قطع معه الجفن
لأن الجفن تبع للشفر كالكف والقدم للأصابع.
وكذا أهداب العينين إذا لم تنبت حكمها حكم
الأشفار. وفي كل سن خمس من الإبل يستوي فيه
المقدم والمؤخر والثنايا والأضراس والأنياب,
والأصل فيه ما روي عنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال
"في كل سن
خمس من الإبل" من غير فصل
بين سن وسن, ومن الناس من فضل أرش الطواحن على
أرش الضواحك, وهذا غير سديد لأن الحديث
ج / 7 ص -315-
لا
يوجب الفضل وهذا لا يجري على قياس الأصابع؛
لأن الشرع ورد في كل سن بخمس من الإبل؛ لأن
الأسنان اثنان وثلاثون فيزيد الواجب في جملتها
على قدر الدية. ولو ضرب رجلا ضربة فألقى
أسنانه كلها فعليه دية وثلاثة أخماس الدية؛
لأن جملة الأسنان اثنان وثلاثون سنا, عشرون
ضرسا وأربعة أنياب, وأربع ثنايا وأربع ضواحك
في كل سن نصف عشر الدية فيكون جملتها ستة عشر
ألف درهم, وهي دية وثلاثة أخماس دية تؤدى هذه
الجملة في ثلاث سنين, في السنة الأولى ثلثا
الدية ثلث من ذلك من الدية الكاملة, وهي عشرة
آلاف درهم, وثلث من ثلاثة أخماس الدية وهي ستة
آلاف درهم, وفي السنة الثانية الثلث من الدية
الكاملة والباقي من ثلاثة أخماس الدية, وفي
السنة الثالثة ثلث الدية, وهو ما بقي من الدية
الكاملة, وإنما كان كذلك لأن الدية الكاملة
تؤدى في ثلاث سنين في كل سنة ثلثها وثلاثة
أخماس الدية, وهي ستة آلاف درهم تؤدى في سنتين
من السنين الثلاث, وهذا يلزم أن يكون قدر
المؤدى من الدية الكاملة والناقصة في السنتين
الأوليين, وقدر المؤدى من الدية الكاملة في
السنة الثالثة ما وصفنا, والله سبحانه وتعالى
أعلم. ولو ضرب أسنان رجل وتحركت ينتظر بها
حولا لما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال
"يستأنى بالجراح حتى تبرأ" والتقدير بالسنة لأنها مدة يظهر فيها حقيقة حالها من السقوط
والتغير والثبوت, وسواء كان المضروب صغيرا أو
كبيرا, كذا روي في المجرد عن أبي حنيفة رضي
الله عنه أنه يؤجل سنة سواء كان صغيرا أو
كبيرا وقال أبو يوسف رحمه الله ينتظر في
الصغير ولا ينتظر في الرجل. وعن محمد رحمه
الله أنه ينتظر إذا تحركت وإذا سقطت لا ينتظر.
وجه قوله أن السن إذا تحركت قد تثبت وقد تسقط
فأما إذا سقطت فالظاهر أنها لا تثبت. وجه قول
أبي يوسف في الفرق بين الصغير, والكبير أن سن
الصغير يثبت ظاهرا وغالبا, وسن الكبير لا تثبت
ظاهرا. وجه قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن
احتمال النبات ثابت فيجب التوقف فيه فإن اشتدت
ولم تسقط فلا شيء فيها. وروي عن أبي يوسف رحمه
الله فيها حكومة عدل, وإن تغيرت فإن كان
التغير إلى السواد أو إلى الحمرة أو إلى
الخضرة ففيها الأرش تاما لأنه ذهبت منفعتها,
وذهاب منفعة العضو بمنزلة ذهاب العضو, وإن كان
التغير إلى الصفرة ففيها حكومة العدل. وروي عن
أبي حنيفة رضي الله عنه أنه إن كان حرا فلا
شيء فيه, وإن كان مملوكا ففيه الحكومة. وهذه
الرواية لا تكاد تصح عنه؛ لأن الحر أولى
بإيجاب الأرش من العبد. وقال زفر رحمه الله في
الصفرة الأرش تاما كما في السواد؛ لأن كل ذلك
يفوت الجمال. "ولنا" أن الصفرة لا توجب فوات
المنفعة, وإنما توجب نقصانها فتوجب حكومة
العدل. وروي عن أبي يوسف أنه إن كثرت الصفرة
حتى تكون عيبا كعيب الحمرة والخضرة ففيها
عقلها تاما, ويجب أن يكون هذا قولهم جميعا.
وإن سقطت فإن نبت مكانها أخرى ينظر إن نبتت
صحيحة فلا شيء فيها في قول أبي حنيفة رضي الله
عنه وقال أبو يوسف رحمه الله عليه الأرش
كاملا, كذا ذكر الكرخي رحمه الله, وذكر القاضي
في شرحه مختصر الطحاوي رحمه الله أن على قول
أبي يوسف فيها حكومة العدل. وجه قول أبي يوسف
أنه فوت السن, والنابت لا يكون عوضا عن
الفائت؛ لأن هذا العوض من الله تبارك وتعالى
فلا يسقط به الضمان الواجب كمن أتلف مال إنسان
ثم إن الله تبارك وتعالى رزق المتلف عليه مثل
المتلف ولأبي حنيفة رحمه الله أن السن يستأنى
بها فلولا أن الحكم يختلف بالنبات لم يكن
للاستيناء فيه معنى لأنه لما نبتت فقد عادت
المنفعة والجمال, وقامت الثانية مقام الأولى
كأن الأولى قائمة كسن الصبي هذا إذا نبتت
بنفسها فأما إذا ردها صاحبها إلى مكانها
فاشتدت ونبت عليها اللحم فعلى القالع الأرش
بكماله؛ لأن المعادة لا ينتفع بها لانقطاع
العروق بل يبطل بأدنى شيء فكانت إعادتها
والعدم بمنزلة واحدة, ولهذا جعلها محمد في حكم
الميتة حتى قال إن كانت أكثر من قدر الدرهم لم
تجز الصلاة معها, وأبو يوسف رحمه الله فرق بين
سن نفسه وسن غيره فأجاز الصلاة في سن نفسه دون
سن غيره, وعلى هذا إذا قطع أذنه فخاطها
فالتحمت إنه لا يسقط عنه الأرش لأنها لا تعود
إلى ما كانت عليه فلا يعود الجمال هذا إذا
نبتت مكانها أخرى صحيحة فأما إذا نبتت معوجة
ففيها حكومة العدل بالإجماع, وإن نبتت متغيرة
بأن نبتت سوداء أو حمراء أو خضراء أو صفراء
فحكمها حكم ما لو كانت قائمة فتغيرت بالضربة
لأن النابت قام مقام
ج / 7 ص -316-
الذاهب
فكأن الأولى قائمة وتغيرت, وقد بينا حكم ذلك.
"وأما" سن الصبي إذا ضرب عليها فسقطت فإن كان
قد ثغر فسنه وسن البالغ سواء, وقد ذكرناه, وإن
كان قبل أن يثغر فإن لم تنبت أو نبتت متغيرة
فكذلك, وإن نبتت صحيحة فلا شيء فيها في قول
أبي حنيفة رضي الله عنه كما في سن البالغ, وفي
قول أبي يوسف رحمه الله فيها حكومة الألم فرق
أبو يوسف على ما ذكره الكرخي رحمه الله بين سن
البالغ والصبي؛ لأن سن الصبي إذا لم يثغر لا
نبات له إلا على شرف السقوط, بخلاف سن البالغ,
وهذه فريعة مسألة الشجة إذا التحمت ونبت الشعر
عليها أنه لا شيء على الشاج في قول أبي حنيفة,
وعند أبي يوسف عليه الرحمة فيها حكومة الألم,
وعند محمد عليه الرحمة فيها أجرة الطبيب.
والمسألة تأتي في بيان حكم الشجاج إن شاء الله
تعالى ولو ضرب على سن إنسان فتحرك فأجله
القاضي سنة ثم جاء المضروب وقد سقطت سنه فقال
إنما سقطت من ضربتك وقال الضارب ما سقطت
بضربتي فالمضروب لا يخلو "إما" أن جاء في
السنة "وإما" أن جاء بعد مضي السنة فإن جاء في
السنة فالقياس أن يكون القول قول الضارب, وفي
الاستحسان القول قول المضروب. ولو شج رأس
إنسان موضحة فصارت منقلة فاختلفا في ذلك فقال
المشجوج صارت منقلة بضربتك وعليك أرش المنقلة
وقال الشاج لا بل صارت منقلة بضربة أخرى حدثت
فالقياس على السن أن يكون القول قول الشاج,
وفي الاستحسان القول قول المشجوج, وللقياس
وجهان: أحدهما أن المضروب والمشجوج يدعيان على
الضارب والشاج الضمان وهما ينكران, والقول قول
المنكر مع يمينه والثاني أنه وقع التعارض بين
قوليهما, والضمان لم يكن واجبا فلا تجب بالشك.
وإلى هذا أشار محمد في الأصل فقال استحسن في
السن لورود الأثر, والأثر عن إبراهيم النخعي
رحمه الله, وللاستحسان وجهان من الفرق: أحدهما
أن الظاهر شاهد للمضروب في مسألة السن؛ لأن
سبب السقوط حصل من الضارب وهو الضرب المحرك
لأن التحرك سبب السقوط فكان الظاهر شاهدا
للمضروب بخلاف الشجة؛ لأن الشجة الموضحة لا
تكون سببا لصيرورتها منقلة فلم يكن الظاهر
شاهدا له, والقول قول من يشهد له الظاهر.
والثاني أنه لما جرى التأجيل حولا في السن,
والتأجيل مدة الحول لانتظار ما يكون من الضربة
فإذا جاء في الحول, وقد سقطت سنه فقد جاء بما
وقع له الانتظار من الضربة في مدة الانتظار
فكان الظاهر شاهدا له "فأما" الشجة فلم يقدر
في انتظارها وقت فكان القول قول الشاج في قدر
الشجة, وإن جاء بعد مضي السنة فالقول قول
الضارب؛ لأن التأجيل مدة الحول لاستقرار حال
السن لظهور حالها في هذه المدة عادة فإذا لم
يجئ دل على سلامتها عن السقوط بالضربة فكان
السقوط محالا إلى سبب حادث فكان الظاهر شاهدا
للضارب أو لم يشهد لأحدهما فيبقى المضروب
مدعيا ضمانا على الضارب, وهو ينكر فالقول
قوله. أو يقع التعارض فيقع الشك في وجوب
الضمان, والضمان لا يجب بالشك. وكذا على الوجه
الثاني زمان ما بعد الحول لم يجعل لانتظار حال
السن فاحتمل السقوط من ضربة أخرى من غيره,
واحتمل من ضربته فلا يمكن القول بوجوب الضمان
مع وقوع الشك في وجوبه, والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب.
"وأما" الشجاج فالكلام في الشجة يقع في
موضعين: أحدهما في بيان حكمها بنفسها, والثاني
في بيان حكمها بغيرها. أما الأول فالموضحة إذا
برئت وبقي لها أثر ففيها خمس من الإبل, وفي
الهاشمة عشر, وفي المنقلة خمس عشرة, وفي الآمة
ثلث الدية هكذا روي عنه عليه الصلاة والسلام
أنه قال
"في الموضحة خمس من الإبل, وفي الهاشمة عشر, وفي المنقلة خمس عشرة, وفي
الآمة ثلث الدية",
وليس فيما قبل الموضحة من الشجاج أرش مقدر,
وإن لم يبق لها أثر بأن التحمت, ونبت عليها
الشعر فلا شيء فيها في قول أبي حنيفة رضي الله
عنه وقال أبو يوسف عليه حكومة الألم وقال محمد
عليه أجرة الطبيب "وجه" قوله أن أجرة الطبيب
إنما لزمته بسبب هذه الشجة فكأنه أتلف عليه
هذا القدر من المال ولأبي يوسف أن الشجة قد
تحققت, ولا سبيل إلى إهدارها, وقد تعذر إيجاب
أرش الشجة فيجب أرش الألم "وجه" قول أبي حنيفة
رحمه الله أن الأرش إنما يجب بالشين الذي يلحق
المشجوج بالأثر وقد زال ذلك فسقط الأرش
ج / 7 ص -317-
والقول
بلزوم حكومة الألم غير سديد لأن مجرد الألم لا
ضمان له في الشرع كمن ضرب رجلا ضربا وجيعا,
وكذا إيجاب أجرة الطبيب لأن المنافع على أصل
أصحابنا رضي الله عنهم لا تتقوم مالا بالعقد
أو شبهة العقد, ولم يوجد في حق الجاني العقد
ولا شبهته فلا يجب عليه أجرة الطبيب. "وأما"
حكمها بغيرها بأن شج رأس إنسان موضحة فسقط شعر
رأسه أو ذهب عقله أو بصره أو سمعه أو كلامه أو
شمه أو ذوقه أو جماعه أو إيلاده فلا شك في أنه
يجب عليه أرش هذه الأشياء, وهل يجب عليه أرش
الموضحة أم يدخل في أرشها؟ عندهما لا يدخل أرش
الموضحة إلا في الشعر والعقل ولا يدخل فيما
وراء ذلك. وقال أبو يوسف رحمه الله في الإملاء
يدخل في الكل إلا في البصر. وقال الحسن بن
زياد رحمه الله لا يدخل إلا في الشعر فقط.
وقال زفر رحمه الله لا يدخل في شيء من ذلك
أصلا "وجه" قوله أن الشجة وإذهاب الشعر والعقل
وغيرهما جنايتان مختلفتان فلا يدخل إحداهما في
الأخرى كسائر الجنايات من قطع اليدين والرجلين
ونحو ذلك "وجه" قول الحسن رحمه الله أنهما
جنايتان اختلف محلهما والمقصود منهما فلا يدخل
أرش إحداهما في الأخرى كأرش اليدين والرجلين,
ولأبي يوسف أن السمع والكلام والشم والذوق
ونحوها من البواطن فيدخل فيها أرش الموضحة
كالعقل "وأما" البصر فظاهر فلا يدخل فيه
الموضحة كاليد والرجل, وهذا الفرق يبطل بالشعر
لأنه ظاهر, ويدخل أرش الموضحة فيه, ولأبي
حنيفة ومحمد رحمهما الله تعالى الفرق بين
الشعر والعقل وبين غيرهما, ووجهه أن في الشعر
الجناية حلت في عضو واحد بفعل واحد بسبب واحد
"وأما" اتحاد العضو فلا شك فيه؛ لأن كل ذلك
حصل في الرأس "وأما" العقل فلأنه لم يوجد منه
إلا الشجة "وأما" اتحاد السبب فلأن دية الشعر
تجب بفوات الشعر, وأرش الموضحة يجب بفوات جزء
من الشعر فكان سبب وجوبها واحدا فيدخل الجزء
في الكل كما إذا قطع رجل أصبع رجل فشلت اليد
إن أرش الأصبع يدخل في دية اليد, كذا هذا. وفي
العقل الواجب دية النفس من حيث المعنى؛ لأن
جميع منافع النفس يتعلق به فكان تفويته تفويت
النفس معنى فكان الواجب دية النفس فيدخل فيه
أرش الموضحة كما إذا شج رأسه موضحة فسرى إلى
النفس فمات, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما"
السمع, والبصر والكلام ونحوها فقد اختلف السبب
والمحل؛ لأن سبب الوجوب في كل واحد منهما
تفويت المنفعة المقصودة منه فاختلف المحل
والسبب والمقصود فامتنع التداخل, وقد روي عن
سيدنا عمر رضي الله عنه أنه قضى في شجة واحدة
بأربع ديات فإن اختلفا في ذهاب البصر والسمع
والكلام والشم فطريق معرفتها اعتراف الجاني
وتصديق المجني عليه أو نكوله عن اليمين, وقد
يعرف البصر بنظر الأطباء بأن ينظر إليه طبيبان
عدلان لأنه ظاهر تمكن معرفته. وقد قيل يمتحن
بإلقاء حية بين يديه, وفي السمع يستغفل
المدعي, كما روي عن إسماعيل بن حماد بن أبي
حنيفة رضي الله تعالى عنهم أن رجلا ضرب امرأة
فادعت عنده ذهاب سمعها فتشاغل عنها بالنظر في
القضاء ثم التفت إليها وقال: يا هذه غطي عورتك
فجمعت ذيلها فعلم أنها كاذبة في دعواها. وفي
الكلام يستغفل أيضا, وفي الشم يختبر بالروائح
الكريهة, وسواء ذهب جميع هذه الأشياء بالشجة
أو ذهب بعضها دون البعض الاجتماع والافتراق في
هذا سواء؛ لأن التداخل فيما يجري فيه التداخل
ليس للكثرة بل لما ذكرنا من المعنى وأنه لا
يوجب الفصل بين الاجتماع والافتراق, ولا تدخل
ديات هذه الأشياء بعضها في بعض إلا عند
السراية إنه يسقط ذلك كله وعليه دية النفس لا
غير لما ذكرنا أن كل واحد من هذه الأشياء من
السمع والبصر والكلام ونحوها أصل بنفسه
لاختصاصه بمحل مخصوص ومنفعة مقصودة فلا يجعل
تبعا لصاحبه في الأرش, وإنما دخلت أروشها في
دية النفس عند السراية؛ لأن الأعضاء كلها
تابعة للنفس فتدخل أروشها في دية النفس ثم إن
كان الأول خطأ تتحمل العاقلة, وإن كان عمدا
فدية النفس في ماله, وكل ذلك في ثلاث سنين,
وسواء كانت الشجة موضحة أو هاشمة أو منقلة أو
آمة فالشجاج كلها في التداخل سواء؛ لأن المعنى
لا يوجب الفصل, وسواء قلت الشجاج أو كثرت بعد
أن لا يجاوز أرشها الدية حتى لو كانت آمتين أو
ثلاث أوام, وذهب منها الشعر أو العقل يدخل
أرشها في الشعر والعقل. وإن كانت أربع أوام
ج / 7 ص -318-
يدخل
قدر الدية لا غير, ويجب فيها دية وثلث دية لأن
الكثير لا يتبع القليل فيما دون النفس. وعلى
قول زفر رحمه الله عليه ديتان وثلث دية لأنه
لا يرى التداخل في الشجاج أصلا ورأسا. ولو سقط
بالموضحة بعض شعر رأسه ينظر إلى أرش الموضحة
وإلى حكومة العدل في الشعر فإن كانا سواء لا
يجب إلا أرش الموضحة, وإن كان أحدهما أكثر
يدخل الأقل في الأكثر أيهما كان لأنهما يجبان
لمعنى واحد فيتداخل الجزء في الجملة. ولو كانت
الشجة في حاجبه فسقط ولم ينبت يدخل أرش
الموضحة في أرش الحاجب, وهو نصف الدية كما
يدخل في أرش الشعر لما قلنا. وهذه المسائل من
الشجاج الخطأ "فأما" إذا كانت الشجة عمدا فذهب
منها العقل أو الشعر أو السمع أو غيره ففيه
خلاف ذكرناه فيما تقدم, والله سبحانه وتعالى
أعلم.
"فصل": ومما يلحق بمسائل التداخل ما إذا قطعت اليد وفيها أصبع واحدة أو
أصبعان أو ثلاث أو أكثر من ذلك أو أقل, وجملة
الكلام فيه أنه إذا قطع الكف وفيها ثلاث أصابع
فصاعدا تجب دية الأصابع, ولا شيء في الكف في
قولهم جميعا لأن الكف تبع لجميع الأصابع بدليل
أنه إذا قطع الكف يجب عليه أرش الأصابع لا
غير, ولا يجب لأجل الكف شيء فإذا بقي أكثر
الأصابع فللأكثر حكم الكل, وإن بقي من الكف
أقل من ثلاث أصابع يجب أرش ما بقي منها وإن
كان مفصلا واحدا, ولا يجب في الكف شيء في قول
أبي حنيفة, والأصل عند أبي حنيفة رحمه الله
أنه إذا بقي من الأصابع شيء له أرش معلوم ولو
مفصلا واحدا دخل أرش اليد فيه حتى لو لم يكن
في الكف إلا ثلث مفصل من أصبع فيها ثلاث مفاصل
فقطع إنسان الكف فعليه ثلث خمس دية اليد. ولو
كان فيها إصبع واحدة فعليه خمس دية اليد ولو
كان فيها أصبعان فعليه خمسا دية اليد. وفي قول
أبي يوسف ومحمد رحمهما الله تعالى في الرواية
المشهورة عنهما يدخل القليل في الكثير أيهما
كان فينظر إلى حكومة الكف وإلى أرش ما بقي من
الأصابع فيدخل أقلهما في أكثرهما أيهما كان؛
لأن القليل يتبع الكثير لا عكسا فيدخل القليل
في الكثير ولا يدخل الكثير في القليل "وجه"
قول أبي حنيفة رحمه الله أن ما بقي من الأصابع
أو من مفاصلها فهو أصل لأن له أرشا مقدرا,
والكف ليس لها أرش مقدر, وهي متصلة بالأصابع
فيتبعها في أرشها كما يتبع جميع الأصابع أو
أكثرها. ونظير هذا ما قالوا في القسامة أنه ما
بقي واحد من أهل المحلة فالقسامة عليهم لا على
المشترين, وكذلك الوصية لولد فلان أنه ما بقي
له ولد من صلبه وإن كان واحدا لا يدخل ولد
الولد في الوصية. وقال أبو يوسف إذا قطع كفا
لا أصابع فيها فعليه حكومة لا يبلغ بها أرش
أصبع؛ لأن الواحدة يتبعها الكف في قول أبي
حنيفة رحمه الله, والتبع لا يساوي المتبوع في
الأرش. ولو قطع اليد مع الذراع من المفصل خطأ
ففي الكف مع الأصابع الدية, وفي الذراع حكومة
العدل في قولهما. وقال أبو يوسف تجب دية اليد,
والذراع تبع. وهو قول ابن أبي ليلى رحمه الله
واحتجا بقوله عليه الصلاة والسلام
"وفي اليدين الدية, وفي إحداهما نصف الدية" واليد عبارة عن العضو المخصوص من رءوس الأصابع إلى المنكب ولأن ما
ليس له أرش مقدر إذا اتصل بما له أرش مقدر
يتبعه في الأرش كالكف مع الأصابع "وجه" قولهما
أن الدية إنما تجب في الأصابع, والكف تابعة
للأصابع بدليل أنه إذا أفرد الأصابع بالقطع
يجب نصف الدية ولو قطعها مع الكف لا يجب إلا
نصف الدية أيضا فلو جعل الذراع تبعا لكان لا
يخلو إما أن يجعل تبعا للأصابع "وإما" أن يجعل
تبعا للكف, لا سبيل إلى الأول؛ لأن بينهما عضو
فاصل وهو الكف فلا يكون تبعا لها, ولا وجه
للثاني لأن الكف تابعة في نفسها فلا تستتبع
غيرها. وعلى هذا الخلاف إذا قطع اليد من
المنكب, والرجل من الورك أو قطع اليد من
العضد, والرجل من الفخذ, والأصل عند أبي
حنيفة, ومحمد عليهما الرحمة أن أصابع اليد لا
يتبعها إلا الكف فلا يدخل في أرشها غير أرش
الكف. وكذلك أصابع الرجل لا يتبعها غير القدم
فلا يدخل في أرشها غير أرش القدم, والأصل عند
أبي يوسف, وابن أبي ليلى أن ما فوق الكف من
اليد تبع. وكذا ما فوق القدم من الرجل تبع
فيدخل أرش التبع في المتبوع كما يدخل أرش الكف
في الأصابع.
"وأما" الجراح ففي الجائفة ثلث الدية لما روي
عنه عليه الصلاة
ج / 7 ص -319-
والسلام أنه قال
"في الجائفة ثلث الدية" فإن نفذت إلى الجانب الآخر فهما جائفتان وفيهما ثلثا الدية. وقد
روي عن سيدنا أبي بكر الصديق أنه حكم في جائفة
نفذت إلى الجانب الآخر بثلثي الدية. وكان ذلك
بمحضر من الصحابة الكرام, ولم ينقل أنه خالفه
في ذلك أحد منهم فيكون إجماعا. وعلى هذا يخرج
ما إذا رمى امرأة بحجر فأصاب فرجها فأفضاها به
بأن جعل موضع البول والغائط واحدا, وهي تستمسك
البول أن عليه ثلث الدية لأن هذا في معنى
الجائفة, وجملة الكلام أن المفضاة لا يخلو
"إما" أن كانت أجنبية "وإما" أن كانت زوجته,
والإفضاء لا يخلو "إما" أن يكون بالآلة "وإما"
أن يكون بالحجر أو بالخشب أو الأصبع وما يجري
مجراه فإن كانت أجنبية والإفضاء بالآلة فإن
كانت مطاوعة ولم يوجد دعوى الشبهة لا من الرجل
ولا من المرأة فعليهما الحد لوجود الزنا
منهما, ولا مهر على الرجل لأن العقر مع الحد
لا يجتمعان, ولا أرش لها بالإفضاء سواء كانت
تستمسك البول أو لا تستمسك؛ لأن التلف تولد من
فعل مأذون فيه من قبلها فلا يجب به الضمان كما
لو أذنت بقطع يدها فقطعت لا ضمان على القاطع,
كذا هذا. وإن كان الرجل يدعي الشبهة سقط عنه
الحد وعنها أيضا, وعلى الزوج العقر لأن الوطء
لا يخلو من إيجاب حد أو غرامة, ولا أرش لها
بالإفضاء لما ذكرنا. وإن كانت مستكرهة فإن لم
يدع الرجل الشبهة فعليه الحد لوجود الزنا منه,
ولا حد عليها لعدم الزنا منها, ولا عقر على
الرجل لوجوب الحد عليه, والحد مع العقر لا
يجتمعان. وعلى الرجل الأرش بالإفضاء لعدم
الرضا منها بذلك ثم إن كانت تستمسك البول ففيه
ثلث الدية لأنه جائفة, وإن كانت لا تستمسك
البول ففيه كمال الدية لوجود إتلاف العضو
بتفويت منفعة الحبس, وإن كان الرجل يدعي
الشبهة سقط الحد عنه للشبهة وعنها أيضا لوجود
الإكراه ولها الأرش بالإفضاء لما ذكرنا ثم إن
كانت تستمسك البول فلها ثلث الدية لأنها جائفة
وكمال المهر, وإن كانت لا تستمسك فلها الدية
ولا مهر لها في قولهما. وعند محمد رحمه الله
لها المهر والدية. وجه قوله أن سبب وجوب المهر
والدية مختلف؛ لأن المهر يجب بإتلاف المنفعة
والدية تجب بإتلاف العضو فلا يدخل أحدهما في
الآخر, ولهذا لم يدخل المهر في ثلث الدية فيما
إذا كانت تستمسك البول حتى وجب عليه كمال
المهر مع ثلث الدية, كذا هذا. ولهما أن سبب
الوجوب متحد لأن الدية تجب بإتلاف هذا العضو.
والعقر يجب بإتلاف منافع البضع, ومنافع البضع
ملحقة بأجزاء البضع فكان سبب وجوبهما واحدا
فكان المهر عوضا عن جزء من البضع وضمان الجزء
والكل إذا وجد السبب واحد يدخل ضمان الجزء في
ضمان الكل كالأب إذا استولد جارية ابنه أنه لا
يلزمه العقر, ويدخل في قيمة الجارية لما قلنا,
كذا هذا. وأما وجوب كمال المهر مع ثلث الدية
حالة الاستمساك فعلى رواية الحسن عن أبي حنيفة
رضي الله عنهما لا يجمع بينهما بل الأقل يدخل
في الأكثر كما يدخل أرش الموضحة في دية الشعر
فكانت المسألة ممنوعة. ولئن سلمنا على ظاهر
الرواية فلا يلزم؛ لأن المنافي لضمان الجزء هو
ضمان كل العين وثلث الدية ضمان الجزء, وضمان
الجزء لا يمنع ضمان جزء واحد هذا إذا كان
الإفضاء بالآلة "فأما" إذا كان بغيرها من
الحجر ونحوه فالجواب في هذا الفصل في جميع
وجوهه كالجواب في الفصل الأول في الوفاق
والخلاف والجمع بين الضمانين وعدم الجمع إلا
أن الأرش في هذا الفصل يجب في ماله, وفي الفصل
الأول تتحمله العاقلة لأن الإفضاء بالآلة يكون
في معنى الخطأ وبغيرها يكون عمدا. وقال بعض
مشايخنا لا وجه لإيجاب المهر في هذا الفصل؛
لأن وجوبه متعلق بقضاء الشهوة ولم يوجد. وقال
بعضهم يجب ويلحق غير الآلة بالآلة تعظيما لأمر
الأبضاع كما ألحق الإيلاج بدون الإنزال
بالإيلاج مع الإنزال في وجوب الحد وغيره من
الأحكام مع قيام شبهة القصور في قضاء الشهوة
تفخيما لشأن الفروج, والله سبحانه وتعالى أعلم
هذا إذا كانت المرأة أجنبية "فأما" إذا كانت
زوجته فأفضاها فلا شيء عليه سواء كانت تستمسك
البول أو لا تستمسك في قولهما. وقال أبو يوسف
كانت لا تستمسك البول فعليه الدية في ماله,
وإن كانت تستمسك فعليه ثلث الدية في ماله
"وجه" قوله أنه مأذون في الوطء لا في الإفضاء
فكان متعديا في الإفضاء فكان مضمونا عليه
"ولهما" أن الوطء مأذون فيه شرعا فالمتولد منه
لا يكون
ج / 7 ص -320-
مضمونا
كالبكارة. ولو وطئ زوجته فماتت فلا شيء في
قولهما وقال أبو يوسف على عاقلته الدية "وجه"
قوله على نحو ما ذكرنا في الإفضاء أنه مأذون
في الوطء لا في القتل, وهذا قتل فكان مضمونا
عليه إلا أن ضمان هذا على العاقلة, وضمان
الإفضاء في ماله؛ لأن الإفضاء لا يكون إلا
بالمجاوزة عن المعتاد فكان عمدا فكان الواجب
به في ماله "فأما" القتل فغير مقصود بهذا
الفعل في معنى الخطأ فتتحمله العاقلة "وأما"
وجه قولهما فعلى نحو ما ذكرنا في الإفضاء. ولو
وطئها فكسر فخذها ضمن في قولهم جميعا؛ لأن
الكسر لا يتولد من الوطء المأذون فيه بل هو
فعل مبتدأ فكان فعلا متعديا محضا فكان مضمونا
عليه, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما" سائر
جراح البدن إذا برئت وبقي لها أثر ففيها حكومة
العدل, وإن لم يبق لها أثر فلا شيء فيها في
قول أبي حنيفة رضي الله عنه على ما بينا في
الشجة, وإن مات فالجراحة لا تخلو "إما" أن
كانت من واحد "وإما" أن كانت من عدد فإن كانت
من واحد ففيها القصاص إن كانت عمدا, والدية إن
كانت خطأ. وإن كانت من عدد فالجراحة المجتمعة
من أعداد "إما" أن كانت كلها مضمونة "وإما" إن
كان بعضها مضمونا والبعض غير مضمون فإن كان
الكل مضمونا بأن جرحه رجل جراحة وجرحه آخر
جراحة أخرى خطأ فمات من ذلك كله كانت الدية
عليهما نصفين, وسواء جرحه أحدهما جراحة واحدة,
والآخر جرحه جراحتين أو أكثر لا ينظر إلى عدد
الجراحات وإنما ينظر إلى الجارح؛ لأن الإنسان
قد يموت من جراحة واحدة ويسلم من عشرة, وقد
يموت من عشرة ويسلم من واحدة حتى لو جرحه
أحدهما جراحة واحدة والآخر عشر جراحات فمات من
ذلك كانت الدية بينهما نصفين لما قلنا. وكذلك
إذا جرحه رجل جراحة واحدة وجرحه آخر جراحتين,
وآخر ثلاثا فمات من ذلك كله كانت الدية بينهم
أثلاثا لما قلنا, وعلى هذا يخرج ما إذا جرحه
رجل جراحة واحدة وجرحه آخر عشر جراحات فعفا
المجروح للجارح عن جراحة واحدة من العشر وما
يحدث منها ثم مات من ذلك أن على صاحب الجراحة
الواحدة نصف الدية, وعلى صاحب العشرة الربع,
ويسقط الربع لأنه لما سقط اعتبار عدد الجراحات
كانت الجراحة الواحدة كالعشر في الضمان ثم لما
عفا عن واحدة من الجراحات العشر انقسمت العشر
فيتغير حكمها فصار لتسعة منها الربع وللواحدة
الربع فسقط بالعفو عن الواحدة من العشرة الربع
وبقي الربع تبعا للتسعة. وإن كان البعض
مضمونا, والبعض غير مضمون ينقسم الضمان فيسقط
بقدر ما ليس بمضمون ويبقى بقدر المضمون, وعلى
هذا يخرج ما إذا جرح رجلا جراحة وجرحه سبع
فمات من ذلك على الرجل نصف الدية, ونصفها هدر
لأنه مات بجراحتين إحداهما مضمونة والأخرى
ليست بمضمونة فانقسم الضمان فسقط بقدر غير
المضمون وبقي بقدر المضمون. وكذلك لو جرحه
الرجل جراحتين والسبع جراحة واحدة أو جرحه
السبع جراحتين والرجل جراحة واحدة فمات من ذلك
أنه يجب على الرجل نصف الدية ويهدر النصف لأنه
لا عبرة لكثرة الجراحة لما بينا. وكذلك لو
جرحه رجل جراحة وعقره سبع ونهشته حية, وخرج به
خراج, وأصابه حجر رمت به الريح فمات من ذلك
فعلى الرجل نصف الدية ويهدر النصف, والأصل أنه
يجعل الجراحات التي ليس لها حكم يلزم أحدا
كجراحة واحدة, ويصير كأنه مات من جراحتين
إحداهما مضمونة والأخرى غير مضمونة فيلزم
الرجل نصف الدية ويبطل نصفها, سواء كثر عدد
الهدر أو قل, هو كجراحة واحدة؛ لأن الهدر له
حكم واحد فصار كجراحات الرجل الواحد إنها في
الحكم كجراحة واحدة, كذا هذا وكذلك لو جرحه
رجل جراحة وجرحه آخر جراحة أخرى ثم انضم إلى
ذلك شيء مما ذكرنا أنه لا حكم له يلزم فاعله
فإن على كل رجل ثلث الدية, ويهدر الثلث لما
ذكرنا أن الهدر من الجراحات وإن كثر فهو
كجراحة واحدة, وكل واحدة من جراحتي الرجلين
مضمونة فقد مات من ثلاث جراحات جراحتان منها
مضمونتان وجراحة هدر فتقسم الدية أثلاثا فيسقط
قدر ما ليس بمضمون وهو الثلث ويبقى قدر
المضمون وهو الثلثان فإن كان لبعض الجناة
جنايات مختلفة الأحكام فإنه يقسم ما يخصه على
جناياته بعد ما قسم عدد الجناية على أحكام
الجنايات, وذلك نحو رجل أمر رجلا أن يقطع يده
لعلة بها
ج / 7 ص -321-
ثم إن
المأمور جرح الآمر جراحة أخرى بغير أمره ثم
جرحه رجلان آخران كل واحد منهما جراحة ثم عقره
سبع ثم نهشته حية, وخرج به خراج فمات من ذلك
كله تقسم الدية أرباعا؛ لأن الموت حصل من أربع
جنايات؛ لأن الهدر من الجنايات لها حكم جناية
واحدة, وجراحتا المأمور وإن اختلف حكمهما
فإنهما حصلا من رجل واحد فلا يثبت لهما في حق
شركائه إلا حكم جناية واحدة فثبت أن الموت حصل
من أربع جنايات فكانت قسمة الدية أرباعا, هدر
الربع منها وبقيت ثلاثة أرباع تقسم على
الجنايات الثلاثة فيكون على كل واحد منهم
الربع ثم ما أصاب المأمور بالقطع تقسم حصته,
وهي الربع على جراحتيه فإحداهما مضمونة, وهي
التي فعلها بغير أمر المجروح والأخرى غير
مضمونة, وهي التي فعلها بأمره, وهي القطع
فيسقط بقدر ما ليس بمضمون وهو نصف الربع وهو
الثمن, وبقي قدر ما هو مضمون وهو نصف الربع
الآخر وهو الثمن الآخر, والله سبحانه وتعالى
أعلم.
ولو أن رجلا أمر عشرة أن يضربوا عبده أمر كل
واحد منهم أن يضربه سوطا فضربه كل واحد منهم
ما أمره ثم ضربه رجل آخر لم يأمره سوطا فمات
من ذلك كله فعلى الذي لم يؤمر أرش السوط الذي
ضربه من قيمته مضروبا عشرة أسواط, وعليه أيضا
جزء من أحد عشر جزءا من قيمته مضروبا أحد عشر
سوطا, وإنما كان كذلك "أما" وجوب أرش السوط
الذي ضربه فلأنه نقصه بالضرب فيلزمه ضمان
النقصان "وأما" اعتبار قيمة العبد مضروبا عشرة
أسواط فلأنه ضربه بعدما انتقص من ضرب العشرة,
وذلك حصل من فعل غيره فلا يكون عليه, وإنما
عليه ضمان ما نقصه سوطه الحادي عشر من قيمته
لذلك اعتبرت قيمته, وهو مضروب عشرة فيقوم وهو
غير مضروب ويقوم وهو مضروب عشرة أسواط فيلزم
الذي لم يؤمر بالضرب ذلك القدر "وأما" وجوب
جزء من أحد عشر جزءا من قيمته فلأنه مات من
أحد عشر سوطا كل سوط حصل ممن يتعلق بفعله حكم
في الجملة, وهو الآدمي فانقسم الضمان على
عددهم ثم ما أصاب العشرة سقط عنهم لحصوله بإذن
المالك, وما أصاب الحادي عشر ضمنه الذي لم
يؤمر بالضرب لأنه ضرب بغير إذن المالك "وأما"
اعتبار تضمينه مضروبا بأحد عشر سوطا فلأن
البعض الحاصل بضرب العشرة حصل بفعل غيره فلا
يكون عليه ضمانه "وأما" السوط الحادي عشر
فلأنه قد ضمن نقصانه مرة فلا يضمنه ثانيا,
وإنما لم يدخل نقصان السوط فيما وجب عليه من
القيمة؛ لأن كل واحد منهما ضمان الجزء, وضمان
الجزء إذا تعلق بسبب واحد لا يدخل أحدهما في
الآخر بخلاف ما إذا ضربه واحد ومات من ذلك إنه
يضمن القيمة دون النقصان لأنه اجتمع هناك ضمان
جزء وضمان كل فيدخل ضمان الجزء في ضمان الكل
لاتحاد سبب الضمانين هذا إذا أمر المولى عشرة
أن يضربه كل واحد منهم سوطا فإن كان المولى هو
الذي ضربه عشرة أسواط بيده ثم ضربه أجنبي سوطا
ثم مات من ذلك كله فعلى الأجنبي ما نقصه السوط
الحادي عشر من قيمته مضروبا بعشرة أسواط,
وعليه أيضا نصف قيمته مضروبا أحد عشر سوطا أما
وجوب ضمان نقصان السوط, واعتبار قيمته مضروبا
بعشرة أسواط فلما ذكرنا "وأما" وجوب نصف قيمته
فلأنه مات من سوطين في الحاصل؛ لأن ضرب
الأسواط العشرة من المولى بمنزلة جناية واحدة
لأنها حصلت من رجل واحد, والجنايات من واحد
وإن كثرت فهي في حكم جناية واحدة فصار كأنه
مات من سوطين سوط المولى وسوط الأجنبي, وسوط
المولى ليس بمضمون, وسوط الأجنبي مضمون فسقط
نصف القيمة وثبت نصفها "وأما" اعتبار قيمته
مضروبا أحد عشر سوطا وعدم دخول ضمان النقصان
في ضمان القيمة فلما ذكرنا في المسألة
المتقدمة. رجل أمر غيره أن يجرحه جراحة واحدة
فجرحه عشر جراحات وجرحه آخر جراحة أخرى واحدة
بغير أمر ثم عفا المجروح لصاحب العشرة عن
واحدة من التسع التي كانت بغير أمره ثم مات
المجروح من ذلك كله فعلى صاحب الجراحة الواحدة
نصف الدية وعلى صاحب العشرة ثمن الدية؛ لأن
نصف الدية على صاحب الجراحة الواحدة والنصف
الآخر تعلق بصاحب العشرة واحدة منها بأمر
المجروح فصار عليه الربع ثم انقسم ذلك بالعفو
فسقط نصفه, وهو الثمن, وبقي عليه الثمن, والله
سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان المجني عليه
حرا
ج / 7 ص -322-
ذكرا
فأما إذا كان أنثى حرة فإنه يعتبر ما دون
النفس منها بديتها كديتها قل أو كثر عند عامة
العلماء وعامة الصحابة رضي الله عنهم وعن ابن
مسعود رضي الله عنه أنه قال: تعاقل المرأة
الرجل فيما كان أرشه نصف عشر الدية كالسن
والموضحة أي ما كان أرشه هذا القدر فالرجل
والمرأة فيه سواء لا فضل للرجل على المرأة.
وعن سعيد بن المسيب أنه قال: تعاقل المرأة
الرجل إلى ثلث ديتها أي أرش الرجل والمرأة إلى
ثلث ديتها سواء, وهو مذهب أهل المدينة. ويروون
أنه عليه الصلاة والسلام قال
"تعاقل المرأة الرجل إلى ثلث ديتها" وهذا نص لا يتحمل التأويل. واحتج ابن مسعود رضي الله عنه بحديث
الغرة أنه عليه الصلاة والسلام "قضى في الجنين
بالغرة" وهي نصف عشر الدية, ولم يفصل عليه
الصلاة والسلام بين الذكر والأنثى فيدل على
استواء أرش الذكر والأنثى في هذا القدر.
"ولنا" أنه بنصف بدل النفس بالإجماع, وهو
الدية, فكذا بدل ما دون النفس؛ لأن المنصف في
الحالين واحد, وهو الأنوثة, ولهذا ينصف ما زاد
على الثلث فكذا الثلث وما دونه ولأن القول بما
قاله أهل المدينة يؤدي إلى القول بقلة الأرش
عند كثرة الجناية وأنه غير معقول, وإلى هذا
أشار ربيعة بن عبد الرحمن المعروف بربيعة
الرأي رحمه الله فإنه روى أنه سأل سعيد بن
المسيب عن رجل قطع أصبع المرأة فقال: فيها عشر
من الإبل, قال: فإن قطع ثلاثة؟ قال: ففيها
ثلاثون من الإبل, قال: فإن قطع أربعة؟ فقال:
عشرون من الإبل, فقال ربيعة: لما كثرت جروحها,
وعظمت مصيبتها قل أرشها؟ فقال: أعراقي أنت؟
قال: لا, بل جاهل متعلم أو عالم متبين, فقال:
هكذا السنة يا ابن أخي. وعنى به سنة زيد بن
ثابت رضي الله عنه أشار ربيعة إلى ما ذكرنا من
المعنى, وقبله سعيد حيث لم يعترض عليه وأحال
الحكم إلى السنة, وبهذا تبين أن روايتهم عنه
عليه عليه الصلاة والسلام لم تصح إذ لو صحت
لما اشتبه الحديث على مثل سعيد, ولأحال الحكم
إلى قوله عليه الصلاة والسلام لا إلى سنة زيد
فدل أن الرواية لا تكاد تثبت عنه عليه الصلاة
والسلام. وأما حديث الغرة في الجنين فنقول
بموجبه أن الحكم في أرش الجنين لا يختلف
بالذكورة والأنوثة وإنما الكلام في أرش
المولود, والحديث ساكت عن بيانه, ثم نقول:
احتمل أنه عليه الصلاة والسلام لم يفصل في
الجنين بين الذكر والأنثى؛ لأن الحكم لا
يختلف, ويحتمل أنه لم يفصل لتعذر الفصل لعدم
استواء الخلقة فلا يكون حجة مع الاحتمال هذا
الذي ذكرنا إذا كان الجاني حرا والمجني عليه
حرا فأما إذا كان الجاني حرا والمجني عليه
عبدا فالأصل فيه عند أبي حنيفة رضي الله عنه
ما ذكرنا في الفصل المتقدم أن كل شيء من الحر
فيه قدر من الدية فمن العبد فيه ذلك القدر من
قيمته سواء كان فيما يقصد به المنفعة أو
الجمال والزينة في رواية عنه, وفي رواية فيما
يقصد به الجمال والزينة يجب النقصان, وعندهما
في جميع ذلك يجب النقصان فيقوم العبد مجنيا
عليه, ويقوم غير مجني عليه فيغرم الجاني فضل
ما بين القيمتين, وقد بينا وجه الروايتين عنه
ووجه قولهما في الفصل الأول.
وأما شرائط الوجوب فهو أن تكون الجناية خطأ
إذا كانت الجناية فيما في عمده القصاص فإن
كانت مما لا قصاص في عمده يستوي فيه الخطأ
والعمد, وقد مر بيان الجنايات التي في عمدها
القصاص, وما لا قصاص في عمدها.
"فصل": وأما بيان الجناية التي تتحملها العاقلة, والتي لا تتحملها فيما
دون النفس فنقول: لا خلاف أنه إذا بلغ أرش
الجناية فيما دون النفس من الأحرار نصف عشر
الدية فصاعدا, وذلك خمسمائة في الذكور ومائتان
وخمسون في الإناث تتحمله العاقلة, واختلف فيما
دون ذلك في الرجل والمرأة, قال أصحابنا رحمهم
الله تعالى: يكون في مال الجاني ولا تتحمله
العاقلة وقال الشافعي رحمهم الله تعالى:
العاقلة تتحمل القليل والكثير "وجه" قوله أن
التحمل من العاقلة لتفريط منهم في الحفظ
والنصرة, وهذا المعنى لا يوجب الفصل بين
القليل والكثير. "ولنا" أن القياس يأبى
التحمل؛ لأن الجناية حصلت من غيرهم, وإنما
عرفنا ذلك بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم
بأرش الجنين على العاقلة وهو الغرة, وهي نصف
عشر الدية فبقي الأمر فيما دون ذلك على أصل
القياس ولأن ما دون ذلك ليس له أرش مقدر بنفسه
فأشبه ضمان الأموال فلا تتحمله العاقلة كما لا
تتحمل ضمان المال, ولا يلزم على هذا أرش
الأنملة فإن لها أرشا
ج / 7 ص -323-
مقدرا,
هو ثلث دية الإصبع فينبغي أن تتحمله العاقلة
لأن الأنملة ليس لها أرش مقدر بنفسها بل
بالإصبع فكانت جزءا مما له أرش مقدر, وهو
الإصبع فلا تتحمله العاقلة ثم ما كان أرشه نصف
عشر الدية إلى ثلث الدية يؤخذ من العاقلة في
سنة واحدة استدلالا بكمال الدية فإن كل الدية
تؤخذ من العاقلة في ثلاث سنين لإجماع الصحابة
رضي الله عنهم على ذلك فإن سيدنا عمر رضي الله
عنه قضى بالدية على العاقلة في ثلاث سنين, ولم
ينكر عليه أحد من الصحابة فيكون إجماعا فكلما
كان من الأرش قدر ثلث الدية يؤخذ في سنة واحدة
لأن في الدية الكاملة هكذا فإذا ازداد الأرش
على ثلث الدية فقدر الثلث يؤخذ في سنة,
والزيادة في سنة أخرى؛ لأن الزيادة على الثلث
في كل الدية تؤخذ في السنة الثانية فكذلك إذا
انفردت فإن زاد على الثلثين فالثلثان في
سنتين, وما زاد على ذلك في السنة قياسا على كل
الدية, والله تعالى أعلم. "وأما" ما دون النفس
من العبيد فلا تتحمله العاقلة بالإجماع؛ لأن
ما دون النفس من العبيد له حكم الأموال لما
ذكرنا فيما تقدم, ولهذا لا يجب فيه القصاص,
وضمان المال لا تتحمله العاقلة, والله سبحانه
وتعالى أعلم.
"فصل": وأما الذي يجب فيه أرش غير مقدر وهو المسمى بالحكومة فالكلام فيه
في مواضع: في. بيان الجنايات التي تجب فيها
الحكومة, وفي تفسير الحكومة. أما الأول فالأصل
فيه أن ما لا قصاص فيه من الجنايات على ما دون
النفس وليس له أرش مقدر ففيه الحكومة؛ لأن
الأصل في الجناية الواردة على محل معصوم
اعتبارها بإيجاب الجابر أو الزاجر ما أمكن إذا
عرف هذا فنقول: في كسر العظام كلها حكومة عدل
إلا السن خاصة لأن استيفاء القصاص بصفة
المماثلة فيما سوى السن متعذر, ولم يرد الشرع
فيه بأرش مقدر فتجب الحكومة, وأمكن استيفاء
المثل في السن, والشرع ورد فيها بأرش مقدر
أيضا فلم تجب فيها الحكومة. وفي لسان الأخرس
والعين القائمة الذاهب نورها والسن السوداء
القائمة واليد الشلاء والرجل الشلاء وذكر
الخصي والعنين حكومة عدل لأنه لا قصاص في هذه
الأشياء, وليس فيها أرش مقدر أيضا؛ لأن
المقصود ههنا المنفعة, ولا منفعة فيها ولا
زينة أيضا لأن العين القائمة الذاهب نورها لا
جمال فيها عند من يعرفها على أن المقصود من
هذه الأشياء المنفعة, ومعنى الزينة فيها تابع
فلا يتقدر الأرش لأجله. وفي الإصبع والسن
الزائدة حكومة عدل لأنه لا قصاص فيها, وليس
لها أرش مقدر أيضا لانعدام المنفعة والزينة
لكنها جزء من النفس, وأجزاء النفس مضمونة مع
عدم المنفعة والزينة لما ذكرنا "وأما" الصغير
الذي لم يمش ولم يقعد ورجله ولسانه وأذنه
وأنفه وعينه وذكره: ففي أنفه وأذنه كمال
الدية, وكذلك في يديه ورجليه إذا كان يحركهما.
وكذا في ذكره إذا كان يتحرك, وفي لسانه حكومة
العدل لا الدية وإن استهل ما لم يتكلم؛ لأن
الاستهلال صياح وأما العينان فإن كان يستدل
بشيء على بصرهما ففيهما مثل عين الكبير, وإنما
كان كذلك "أما" الأنف والأذن فلأن المقصود
منهما الجمال لا المنفعة, وذلك يوجد في الصغير
بكماله كما يوجد في الكبير "وأما" الأعضاء
التي يقصد بها المنفعة فلا يجب فيها أرش كامل
حتى يعلم صحتها بما ذكرنا فإذا علم ذلك فقد
وجد تفويت منفعة الجنس في كل واحد من ذلك فيجب
فيه أرش كامل فإذا لم يعلم يقع الشك في وجود
سبب وجوب كمال الأرش فلا يجب بالشك, ولا يقال
إن الأصل هو الصحة والآفة عارض فكانت الصحة
ثابتة ظاهرا لأنا لا نسلم هذا الأصل في الصغير
بل الأصل فيه عدم الصحة والسلامة لأنه كان
نطفة وعلقة ومضغة فما لم يعلم صحة العضو فهو
على الأصل على أن هذا الأصل متعارض لأن براءة
ذمة الجاني أصل أيضا فتعارض الأصلان فسقط
الاحتجاج بالأصل على الصحة على أن الصحة إن
كانت ثابتة ظاهرا بحكم الأصل؛ لأن الظاهر حجة
الدفع لا حجة الاستحقاق كحياة المفقود أنها
تصلح لدفع الإرث لا لاستحقاقه, وفي الظفر إذا
نبت لا شيء فيه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه
لأنه عادت المنفعة والزينة. وإن مات ففيه
حكومة عدل لأنه لا قصاص فيه ولا له أرش مقدر,
وكذا إذا نبت على عيب ففيه حكومة عدل دون ذلك؛
لأن النابت عوض عن الذاهب فكأن الأول قائم
ودخله عيب, وكذلك قال أبو يوسف رحمه الله أنه
إذا نبت أسود إن فيه حكومة لما أصاب من الألم
بالجراحة الأولى بناء على أصله أن الألم
مضمون. وفي ثدي الرجل حكومة العدل لأنه لا
قصاص فيه
ج / 7 ص -324-
ولا
أرش مقدر لأنه لا منفعة فيه ولا جمال فتجب
الحكومة فيهما, وفي أحدهما نصف ذلك الحكم وفي
حلمة ثدييه حكم عدل دون ما في ثدييه لما قلنا,
وثدي المرأة تبع للحلمة حتى لو قطع الحلمة ثم
الثدي فإن كان قبل البرء لا يجب إلا نصف
الدية, وإن كان بعد البرء يجب نصف الدية في
الحلمة والحكومة في الثدي لأن منفعة الثدي
الرضاع وذلك يبطل بقطع الحلمة. وكذلك الأنف مع
المارن حتى لو قطع المارن دون الأنف تجب
الدية. ولو قطع مع المارن لا تجب إلا دية
واحدة. ولو قطع المارن ثم الأنف فإن كان قبل
البرء تجب دية واحدة, وإن كان بعد البرء ففي
المارن الدية, وفي الأنف الحكومة, وكذلك الجفن
مع الأشفار حتى لو قطع الشفر بدون الجفن يجب
الأرش المقدر. ولو قطع الجفن معه لا يجب ذلك
الأرش كالكف مع الأصابع ولو قطع الشفر ثم
الجفن فإن كان قبل البرء فكذلك, وإن كان بعد
البرء يجب في الشفر أرشه. وفي الجفن الحكومة
لأنه قطع الشفر وهو كامل المنفعة, وقطع الجفن
وهو ناقص المنفعة فلا يجب إلا الأرش الناقص,
وهو الحكومة ولو قطع أنفا مقطوع الأرنبة ففيه
حكومة العدل لأن المقصود من الأنف الجمال, وقد
نقص جماله بقطع الأرنبة فينتقص أرشه. وكذلك
إذا قطع كفا مقطوعة الأصابع لأن المقصود من
الكف البطش وأنه لا يحصل بدون الأصابع. وكذلك
إذا قطع ذكرا مقطوع الحشفة لأن منفعة الذكر
تزول بزوالها فلا يمكن إيجاب أرش مقدر, ولا
قصاص فيه فتجب الحكومة "ولو" قطع الذكر,
والأنثيين فإن قطعهما معا بأن قطعهما من جانب
عرضا يجب ديتان لأنه فوت منفعة الجماع بقطع
الذكر ومنفعة الإنزال بقطع الأنثيين فقد وجد
تفويت منفعة الجنس في قطع كل واحد منهما فيجب
في كل واحد منهما دية كاملة, وإن قطع إحداهما
بعد الآخر بأن قطعهما طولا فإن قطع الذكر أولا
تجب ديتان أيضا: دية بقطع الذكر لوجود تفويت
منفعة الجماع, ودية بقطع الأنثيين؛ لأن بقطع
الذكر لا تنقطع منفعة الأنثيين وهو الإنزال
لأن الإنزال يتحقق مع عدم الذكر, وإن بدأ بقطع
الأنثيين ثم الذكر ففي الأنثيين الدية, وفي
الذكر حكومة العدل لأن منفعة الأنثيين كانت
كاملة وقت قطعهما, ومنفعة الذكر تفوت بقطع
الأنثيين إذ لا يتحقق الإنزال بعد قطع
الأنثيين فنقص أرشه ولو حلق رأس رجل فنبت أبيض
فلا شيء فيه في قول أبي حنيفة رضي الله عنه
"وقال" أبو يوسف فيه حكومة عدل, وإن كان عبدا
ففيه ما نقص "وجه" قوله أن المقصود من الشعر
الزينة, والزينة معتبرة في الأحرار, ولا زينة
في الشعر الأبيض فلا يقوم النابت مقام الفائت
"وجه" قول أبي حنيفة أن الشيب في الأحرار ليس
بعيب بل هو جمال وكمال فلا يجب به أرش بخلاف
العبيد فإن الشيب فيهم عيب ألا يرى أنه ينقص
الثمن فكان مضمونا على الجاني؟. وفيما دون
الموضحة من الشجاج حكومة عدل. وكذا روي عن
سيدنا عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى أنه
قال: ما دون الموضحة خدوش فيها حكم عدل
"وكذلك" روي عن إبراهيم النخعي رحمه الله
تعالى ولأنه لا قصاص فيه, والشرع ما ورد فيه
بأرش مقدر فتجب فيه الحكومة, والخلاف الذي
ذكرنا في المتلاحمة بين أبي يوسف ومحمد رحمهما
الله لا يرجع إلى المعنى بل إلى الاسم لأن أبا
يوسف لا يمنع أن تكون الشجة التي قبل الباضعة
أقل منها أرشا. وكذلك محمد لا يمنع أن تكون
أرش الشجة التي ذهبت في اللحم أكثر مما ذهبت
الباضعة زائدا على أرش الباضعة فكان الاختلاف
بينهما في العبارة. وفيما سوى الجائفة من
الجراحات التي في البدن إذا اندملت ولم يبق
لها أثر لا شيء فيها عند أبي حنيفة, وعند أبي
يوسف رحمهما الله فيه أرش الألم, وعند محمد
رحمه الله أجرة الطبيب, وقد مرت المسألة وإن
بقي لها أثر ففيها حكومة عدل. وكذا في شعر
سائر البدن إذا لم ينبت حكومة عدل وإن نبت لا
شيء فيه, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وأما"
تفسير الحكومة فإن كان الجاني والمجني عليه
عبدا يقوم العبد مجنيا عليه وغير مجني عليه
فيجب نقصان ما بين القيمتين بلا خلاف, وإن كان
الجاني والمجني عليه حرا فقد ذكر الطحاوي رحمه
الله أنه يقوم المجني عليه لو كان عبدا ولا
جناية به, ويقوم وبه الجناية فينظر كم بين
القيمتين فعليه القدر من الدية "وقال" الكرخي
رحمه الله تقرب هذه الجناية إلى أقرب الجنايات
التي لها أرش مقدر فينظر ذوا عدل من أطباء
الجراحات كم مقدار هذه ههنا في قلة الجراحات
وكثرتها بالحزر والظن فيأخذ القاضي بقولهما
ويحكم من
ج / 7 ص -325-
الأرش
بمقداره من أرش الجراحة المقدرة "وجه" ما ذكره
الطحاوي رحمه الله أن القيمة في العبد كالدية
في الحر فيقدر العبد حرا فما أوجب نقصا في
العبد يعتبر به الحر. وكان الكرخي رحمه الله
ينكر هذا القول ويقول: هذا يؤدي إلى أمر فظيع,
وهو أن يجب في قليل الشجاج أكثر مما يجب في
كثيرها لجواز أن يكون نقصان شجة السمحاق في
العبد أكثر من نصف عشر قيمته فلو أوجبنا مثل
ذلك من دية الحر لأوجبنا في السمحاق أكثر مما
يجب في الموضحة, وهذا لا يصح, والله سبحانه
وتعالى أعلم.
"فصل": وأما الجناية على ما هو نفس من وجه دون وجه وهو
الجنين بأن ضرب على بطن حامل فألقت جنينا
فيتعلق بها أحكام وجملة الكلام فيه أن الجنين
لا يخلو إما أن يكون حرا بأن كانت أمه حرة أو
أمة علقت من مولاها أو من مغرور. وإما أن يكون
رقيقا, ولا يخلو إما أن ألقته ميتا وإما أن
ألقته حيا فإن كان حرا وألقته ميتا ففيه
الغرة. والكلام في. الغرة في مواضع: في بيان
وجوبها وفي تفسيرها وتقديرها وفي بيان من تجب
عليه وفي بيان من تجب له. أما الأول: فالغرة
واجبة استحسانا, والقياس أن لا شيء على الضارب
لأنه يحتمل أن يكون حيا وقت الضرب ويحتمل أنه
لم يكن بأن لم تخلق فيه الحياة بعد فلا يجب
الضمان بالشك, ولهذا لا يجب في جنين البهيمة
شيء إلا نقصان البهيمة, كذا هذا, إلا أنهم
تركوا القياس بالسنة, وهو ما روي عن مغيرة بن
شعبة رضي الله عنه أنه قال: "كنت بين جاريتين
فضربت إحداهما الأخرى بمسطح فألقت جنينا ميتا
وماتت فقضى رسول الله صلى الله عليه وسلم على
عاقلة الضاربة بالدية وبغرة الجنين" وروي أن
سيدنا عمر اختصم إليه في إملاص المرأة الجنين
فقال سيدنا عمر رضي الله عنه أنشدكم الله
تعالى هل سمعتم من رسول الله صلى الله عليه
وسلم في ذلك شيئا؟ فقام المغيرة رضي الله عنه
فقال: كنت بين جاريتين وذكر الخبر وقال فيه:
فقام عم الجنين فقال إنه أشعر, وقام والد
الضاربة فقال: كيف ندي من لا صاح ولا استهل
ولا شرب ولا أكل, ودم مثل ذلك يطل؟ فقال عليه
الصلاة والسلام:
"أسجع كسجع الكهان. وروي كسجع الأعراب, فيه غرة عبد أو أمة", فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: من شهد معك بهذا؟ فقام محمد بن سلمة
فشهد, فقال سيدنا عمر رضي الله عنه: كدنا أن
نقضي فيها برأينا وفيها سنة عن رسول الله صلى
الله عليه وسلم. وروى هذه القصة أيضا حمل بن
مالك بن النابغة ولأن الجنين إن كان حيا فقد
فوت الضارب حياته, وتفويت الحياة قتل, وإن لم
يكن حيا فقد منع من حدوث الحياة فيه فيضمن
كالمغرور لما منع من حدوث الرق في الولد وجب
الضمان عليه, وسواء استبان خلقه أو بعض خلقه
لأنه عليه الصلاة والسلام قضى بالغرة ولم
يستفسر فدل أن الحكم لا يختلف. وإن لم يستبن
شيء من خلقه فلا شيء فيه لأنه ليس بجنين إنما
هو مضغة, وسواء كان ذكرا أو أنثى لما قلنا.
ولأن عند عدم استواء الخلقة يتعذر الفصل بين
الذكر والأنثى فسقط اعتبار الذكورة والأنوثة
فيه. "وأما" تفسير الغرة فالغرة في اللغة عبد
أو أمة, كذا قال أبو عبيد من أهل اللغة وكذا
فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث
الذي روينا فقال عليه الصلاة والسلام
"فيه غرة
عبد أو أمة" فسر الغرة
بالعبد والأمة. وروي أنه عليه الصلاة والسلام
"قضى في الجنين بغرة عبد أو أمة أو خمسمائة".
وهذه الرواية خرجت تفسيرا للرواية الأولى
فصارت الغرة في عرف الشرع اسما لعبد أو أمة
يعدل خمسمائة أو بخمسمائة. وهذه الرواية خرجت
تفسيرا للرواية الأولى ثم تقدير الغرة
بالخمسمائة مذهب أصحابنا رحمهم الله تعالى.
وعند الشافعي رحمه الله مقدرة بستمائة. وهذا
فرع أصل ما ذكرناه فيما تقدم لأنهم اتفقوا على
أن الواجب نصف عشر الدية لكنهم اختلفوا في
الدية فالدية من الدراهم عندنا مقدرة بعشرة
آلاف فكان نصف عشرها خمسمائة وعنده مقدرة
باثني عشر ألفا فكان نصف عشرها ستمائة ثم
ابتدأ الدليل على صحة مذهبنا أن في بعض
الروايات أنه عليه الصلاة والسلام "قضى في
الجنين بغرة عبد أو أمة أو خمسمائة", وهذا نص
في الباب. "وأما" بيان من تجب عليه الغرة
فالغرة تجب على العاقلة لما روينا من الحديث
أنه عليه الصلاة والسلام "قضى على عاقلة
الضاربة بالدية وبغرة الجنين". وروي أن عاقلة
الضاربة قالوا: أندي من لا صاح ولا استهل ولا
شرب ولا أكل, ودم مثل هذا بطل؟ وهذا يدل على
أن القضاء بالدية كان عليهم
ج / 7 ص -326-
حيث
أضافوا الدية إلى أنفسهم على وجه الإنكار
ولأنها بدل نفس فكانت على العاقلة كالدية
"وأما" من تجب له فهي ميراث بين ورثة الجنين
على فرائض الله تبارك وتعالى عند عامة
العلماء. وقال مالك رحمه الله أنها لا تورث
وهي للأم خاصة "وجه" قوله أن الجنين في حكم
جزء من أجزاء الأم فكانت الجناية على الأم
فكان الأرش لها كسائر أجزائها. "ولنا" أن
الغرة بدل نفس الجنين, وبدل النفس يكون ميراثا
كالدية "والدليل" على أنها بدل نفس الجنين لا
بدل جزء من أجزاء الأم أن الواجب في جنين أم
الولد ما هو الواجب في جنين الحرة. ولا خلاف
في أن جنين أم الولد جزء ولو كان في حكم عضو
من أعضاء الأم لكان جزءا من الأم حرا, وبقية
أجزائها أمة, وهذا لا يجوز "والدليل" عليه أنه
عليه الصلاة والسلام "قضى بدية الأم على
العاقلة وبغرة الجنين", ولو كان في معنى أجزاء
الأم لما أفرد الجنين بحكم بل دخلت الغرة في
دية الأمة كما إذا قطعت يد الأم فماتت أنه
تدخل دية اليد في النفس. وكذا لما أنكرت عاقلة
الضاربة حمل الدية إياهم فقالت: أندي من لا
صاح ولا استهل ولا شرب ولا أكل ومثل دمه يطل؟
لم يقل لهم النبي عليه الصلاة والسلام إني
أوجبت ذلك بجناية الضاربة على المرأة لا
بجنايتها على الجنين ولو كان وجوب الأرش فيه
لكونه جزءا من أجزاء الأم لرفع إنكارهم بما
قلنا فدل أن الغرة وجبت بالجناية على الجنين
لا بالجناية على الأم فكانت معتبرة بنفسه لا
بالأم. ولا يرث الضارب من الغرة شيئا لأنه
قاتل بغير حق والقتل بغير حق من أسباب حرمان
الميراث, ولا كفارة على الضارب لأنه عليه
الصلاة والسلام لما قضى بالغرة على الضاربة لم
يذكر الكفارة مع أن الحال حال الحاجة إلى
البيان, ولو كانت واجبة لبينها ولأن وجوبها
متعلق بالقتل وأوصاف أخرى لم يعرف وجودها في
الجنين من الإيمان والكفر حقيقة أو حكما قال
الله تعالى
{وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ} وقال تبارك وتعالى
{وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ} أي كان المقتول, ولم يعرف قتله لأنه لم تعرف حياته وكذا إيمانه
وكفره حقيقة وحكما "أما" الحقيقة فلا شك في
انتفائها؛ لأن الإيمان والكفر لا يتحققان من
الجنين. وكذلك حكما لأن ذلك بواسطة الحياة ولم
تعرف حياته ولأن الكفارة من باب المقادير,
والمقادير لا تعرف بالرأي والاجتهاد بل
بالتوقيف, وهو الكتاب العزيز والسنة والإجماع,
ولم يوجد في الجنين الذي ألقي ميتا شيء من ذلك
فلا تجب فيه الكفارة ولأن وجوبها متعلق بالنفس
المطلقة, والجنين نفس من وجه دون وجه بدليل
أنه لا يجب فيه كمال الدية مع ما أن الضرب لو
وقع قتل نفس لكان قتلا تسبيبا لا مباشرة.
والقتل تسبيبا لا يوجب الكفارة كحفر البئر,
ونحو ذلك. وذكر محمد رحمه الله قال: ولا كفارة
على الضارب وإن سقط كامل الخلق ميتا إلا أن
يشاء ذلك فهو أفضل وليس ذلك عليه عندنا واجب
وليتقرب إلى الله تبارك وتعالى بما يشاء إن
استطاع ويستغفر الله سبحانه وتعالى مما صنع,
وهذا قول أبي يوسف رحمه الله وقولنا كذا ذكر
محمد رحمه الله لأنه ارتكب محظورا فندب إلى أن
يتقرب بالكفارة لمحوه هذا إذا ألقته ميتا,
فأما إذا ألقته حيا فمات ففيه الدية كاملة لا
يرث الضارب منها شيئا, وعليه الكفارة "أما"
حرمان الميراث فلما قلنا وأما وجوب الدية
والكفارة فلأنه لما خرج حيا فمات علم أنه كان
حيا وقت الضرب فحصل الضرب قتل النفس, وأنه في
معنى الخطأ فتجب فيه الدية والكفارة هذا إذا
ألقت جنينا واحدا. فأما إذا ألقت جنينين فإن
كانا ميتين ففي كل واحد منهما غرة, وإن كانا
حيين ثم ماتا ففي كل واحد منهما دية لوجود سبب
وجوب كل واحد منهما وهو الإتلاف إلا أنه
أتلفهما بضربة واحدة ومن أتلف شخصين بضربة
واحدة يجب عليه ضمان كل واحد منهما كما لو
أفرد كل واحد منهما بالضرب كما في الكبيرين
فإن ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا ثم مات فعليه
في الميت الغرة وفي الحي الدية لوجود سبب وجوب
الغرة في الجنين الميت والدية في الجنين الحي
فيستوي فيه الجمع في الإتلاف والإفراد فيه فإن
ماتت الأم من الضربة وخرج الجنين بعد ذلك حيا
ثم مات فعليه ديتان دية في الأم ودية في
الجنين لوجود سبب وجوبهما وهو قتل شخصين. فإن
خرج بعد موتها ميتا فعليه دية الأم, ولا شيء
عليه في الجنين. وقال الشافعي رحمه الله: يجب
عليه في الجنين الغرة "وجه" قوله إن أتلفهما
جميعا فيؤاخذ بضمان كل واحد منهما كما لو خرج
الجنين ميتا ثم ماتت الأم. "ولنا" أن القياس
يأبى كون الجنين مضمونا أصلا
ج / 7 ص -327-
لما
بينا من احتمال عدم الحياة, وازداد ههنا
احتمال آخر, وهو أنه يحتمل أنه مات بالضرب
ويحتمل أنه مات بموت الأم, وإنما عرفنا الضمان
فيه بالنص, والنص ورد بالضمان في حال مخصوصة,
وهي ما إذا خرج ميتا قبل موت الأم فسقط اعتبار
أحد الاحتمالين فيتعين الثاني في نفي وجوب
الضمان في غير هذه الحالة هذا إذا كان الجنين
حرا فأما إذا كان رقيقا فإن خرج ففيه نصف عشر
قيمته إن كان ذكرا, وعشر قيمته إن كان أنثى.
وروي عن أبي يوسف أن في جنين الأمة ما نقص
الأم وقال الشافعي رحمه الله: فيه عشر قيمة
الأم. أما الكلام مع أبي يوسف رحمه الله فبناء
على أصل ذكرناه فيما تقدم, وهو أن ضمان
الجناية الواردة على العبد ضمان النفس أم ضمان
المال؟ فعلى أصلهما ضمان النفس حتى قالا أنه
لا تزاد قيمته على دية الحر بل تنقص ههنا.
وكذا تتحمله العاقلة, وعلى أصل أبي يوسف رحمه
الله ضمانها ضمان المال حتى قال تبلغ قيمته
بالغة ما بلغت ولا تتحمله العاقلة فصار جنينها
كجنين البهيمة, وهناك لا يجب إلا نقصان الأم
كذا ههنا "وأما" الكلام مع الشافعي رحمه الله
فبناء على أن الجنين معتبر بنفسه أم بأمه؟ وقد
ذكرنا الدلائل على أنه معتبر بنفسه لا بأمه
فيما تقدم والدليل عليه أيضا أن ضمان جنين
الحرة موروث عنه على فرائض الله عز وجل. ولو
كان معتبرا بأمه لسلم لها كما يسلم لها أرش
عضوها, وإذا ثبت أن الجنين معتبر بنفسه وأن
الواجب فيه ضمان فهذا الاعتبار يوجب أن يكون
في جنين الأمة إذا كان رقيقا نصف عشر قيمته إن
كان ذكرا, وعشر قيمته إن كان أنثى؛ لأن الواجب
في الجنين الحر خمسمائة ذكرا كان أو أنثى, وهي
نصف عشر دية الذكر وعشر دية الأنثى, والقيمة
في الرقيق كالدية في الحر فيلزم أن يكون في
الجنين الرقيق نصف عشر قيمته إن كان ذكرا
اعتبارا بالحر وعشر قيمته إن كان أنثى اعتبارا
بالحرة. وإن خرج حيا ثم مات قيمته لما ذكرنا
في الجنين الحر فإن ألقت جنينين ميتين أو
جنينين حيين ثم ماتا ففي كل واحد منهما حالة
الاجتماع ما فيه حال الانفراد لما ذكرنا في
الجنين الحر فإن ألقت أحدهما ميتا والآخر حيا
ثم مات ففي كل واحد منهما ما هو ضمانه حالة
الانفراد لما مر فإن ماتت الأم من الضرب وخرج
الجنين بعد ذلك حيا ثم مات فعليه قيمتان قيمة
في الأم وقيمة في الجنين, وإن خرج الجنين ميتا
بعد موت الأم فعليه في الأم القيمة ولا شيء
عليه في الجنين لما ذكرنا, والأصل أن في كل
موضع يجب في الجنين الحر الغرة ففي الرقيق نصف
عشر قيمته إن كان ذكرا وعشر قيمته إن كان
أنثى, وكل موضع يجب في المضروبة إذا كانت حرة
الدية ففي الأمة القيمة, وفي كل موضع لا يجب
في الجنين هناك شيء لا يجب هنا شيء أيضا لما
ذكرنا في جانب الحر من غير تفاوت إلا أن
الواجب في جنين الأمة يكون في مال الضارب يؤخذ
منه حالا ولا تتحمله العاقلة, والواجب في جنين
الحرة يكون على العاقلة لأن تحمل العاقل ثبت
بخلاف القياس بالنص, والنص ورد بالتحمل في
الغرة في جنين الحرة فبقي الحكم في جنين الأمة
على أصل القياس, والله سبحانه وتعالى أعلم
بالصواب. |