بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

"كتاب الخنثى"
"الكلام" فيه يقع في مواضع: في تفسير الخنثى, وفي بيان ما يعرف به أنه ذكر, أو أنثى, وفي بيان حكم الخنثى المشكل. "أما الأول" فالخنثى من له آلة الرجال والنساء, والشخص الواحد لا يكون ذكرا وأنثى حقيقة, فإما أن يكون ذكرا, وإما أن يكون أنثى.
"فصل": وأما بيان ما يعرف به أنه ذكر, أو أنثى, فإنما يعرف ذلك بالعلامة, وعلامة الذكورة بعد البلوغ نبات اللحية, وإمكان الوصول إلى النساء وعلامة الأنوثة في الكبر نهود ثديين كثديي المرأة ونزول اللبن في ثدييه والحيض والحبل, وإمكان الوصول إليها من فرجها؛ لأن كل واحد مما ذكرنا يختص بالذكورة والأنوثة فكانت علامة صالحة للفصل بين الذكر والأنثى. وأما العلامة في حالة الصغر فالمبال, لقوله عليه الصلاة والسلام "الخنثى من حيث يبول", فإن كان يبول من مبال الذكور فهو ذكر, وإن كان يبول من مبال النساء فهو أنثى  وإن كان يبول منهما جميعا يحكم السبق؛ لأن سبق البول من أحدهما يدل على أنه هو المخرج الأصلي وأن الخروج من الآخر بطريق الانحراف عنه. وإن كان لا يسبق

 

ج / 7 ص -328-       أحدهما الآخر فتوقف أبو حنيفة رضي الله عنه. وقال: هو خنثى مشكل, وهذا من كمال فقه أبي حنيفة رضي الله عنه؛ لأن التوقف عند عدم الدليل واجب. وقال أبو يوسف ومحمد: تحكم الكثرة؛ لأنها في الدلالة على المخرج الأصلي كالسبق فيجوز تحكيمه. ووجه قول أبي حنيفة عليه الرحمة أن كثرة البول وقلته لسعة المحل وضيقه فلا يصلح للفصل بين الذكورة والأنوثة, بخلاف السبق, وحكي أنه لما بلغ أبا حنيفة قول أبي يوسف في تحكيم الكثرة لم يرض به, وقال: هل رأيت حاكما يزن البول, فإن استويا توقفا أيضا, وقالا هو خنثى مشكل, والله سبحانه وتعالى أعلم.

"فصل": وأما حكم الخنثى المشكل فله في الشرع أحكام: حكم الختان وحكم الغسل بعد الموت وحكم الميراث ونحو ذلك من الأحكام. أما حكم الختان فلا يجوز للرجل أن يختنه لاحتمال أنه أنثى ولا يحل له النظر إلى عورتها ولا يحل لامرأة أجنبية أن تختنه لاحتمال أنه رجل فلا يحل لها النظر إلى عورته فيجب الاحتياط في ذلك وذلك أن يشتري له من ماله جارية تختنه إن كان له مال؛ لأنه إن كان أنثى فالأنثى تختن بالأنثى عند الحاجة, وإن كان ذكرا فتختنه أمته لأنه يباح لها النظر إلى فرج مولاها, وإن لم يكن له مال يشتري له الإمام من مال بيت المال جارية ختانة فإذا ختنته باعها ورد ثمنها إلى بيت المال؛ لأن الختان من سنة الإسلام وهذا من مصالح المسلمين فيقام من بيت مالهم عند الحاجة والضرورة, ثم تباع ويرد ثمنها إلى بيت المال لاندفاع الحاجة والضرورة, وقيل: يزوجه الإمام امرأة ختانة؛ لأنه إن كان ذكرا فللمرأة أن تختن زوجها, وإن كان أنثى فالمرأة تختن المرأة عند الحاجة.
وأما حكم غسله بعد الموت فلا يحل للرجل أن يغسله لاحتمال أن يكون أنثى ولا يحل للمرأة أن تغسله لاحتمال أنه ذكر ولكنه ييمم, كان الميمم رجلا, أو امرأة, غير أنه إن كان ذا رحم محرم منه يممه من غير خرقة, وإن كان أجنبيا يممه بالخرقة ويكف بصره عن ذراعيه. وأما حكم الوقوف في الصفوف في الصلاة فإنه يقف بعد صف الرجال والصبيان قبل صف النساء احتياطا على ما ذكرنا في كتاب الصلاة. وأما حكم إمامته في الصلاة أيضا فقد مر فلا يؤم الرجال لاحتمال أنه أنثى ويؤم النساء.
وأما حكم وضع الجنائز على الترتيب فتقدم جنازته على جنازة النساء وتؤخر عن جنازة الرجال والصبيان على ما مر في كتاب الصلاة لجواز أنه ذكر فيسلك مسلك الاحتياط في ذلك كله.
وأما حكم الغنائم فلا يعطى سهما ولكن يرضخ له كأنه امرأة؛ لأن في استحقاق الزيادة شكا, فلا يثبت بالشك. وأما حكم الميراث فقد اختلف العلماء فيه قال أصحابنا رحمهم الله يعطى له أقل الأنصباء وهو نصيب الأنثى إلا أن يكون أسوأ أحواله أن يجعل ذكرا فحينئذ يجعل ذكرا حكما, وبيان هذا في مسائل: إذا مات رجل وترك ابنا معروفا وولدا خنثى فعند أصحابنا رحمهم الله تعالى يقسم المال بينهم أثلاثا للابن المعروف الثلثان وللخنثى الثلث ويجعل الخنثى هاهنا أنثى كأنه ترك ابنا وبنتا, ولو ترك ولدا خنثى وعصبة فالنصف للخنثى والباقي للعصبة ويجعل الخنثى أنثى كأنه ترك بنتا وعصبة, ولو ترك أختا لأب وأم وخنثى لأب, وعصبة فللأخت للأب والأم النصف, والخنثى لأب السدس تكملة الثلثين, والباقي للعصبة, ويجعل الخنثى أيضا هاهنا أنثى كأنه ترك أختا لأب وأم, وأختا لأب, وعصبة. فإن تركت زوجا وأختا لأب, وأم وخنثى لأب فللزوج النصف وللأخت للأب والأم النصف ولا شيء للخنثى ويجعل هاهنا ذكرا؛ لأن هذا أسوأ أحواله؛ لأنا لو جعلناه أنثى لأصاب السدس وتعول الفريضة, ولو جعلناه ذكرا لا يصيب شيئا كأنها تركت زوجا وأختا لأب وأم وأخا لأب وهذا الذي ذكرنا قول أصحابنا رحمهم الله تعالى. وقال الشعبي رحمه الله يعطى نصف ميراث الذكر ونصف ميراث الأنثى؛ لأنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى فيعطى له نصف ميراث الرجال ونصف ميراث النساء "والصحيح" قول أصحابنا رحمهم الله تعالى؛ لأن الأقل ثابت بيقين, وفي الأكثر شك؛ لأنه إن كان ذكرا فله الأكثر, وإن كان أنثى فلها الأقل فكان استحقاق الأقل ثابتا بيقين وفي استحقاق الأكثر شك فلا يثبت الاستحقاق مع الشك على الأصل المعهود في غير الثابت بيقين أنه لا يثبت بالشك, ولأن سبب استحقاق كل المال ثابت للابن المعروف وهو ذكر فيه وإنما ينتقص حقه بمزاحمة الآخر فإذا احتمل أنه ذكر واحتمل أنه أنثى وقع الشك في سقوط حقه عن الزيادة على الثلث فلا يسقط بالشك على الأصل المعهود في 

 

ج / 7 ص -329-       الثابت بيقين أنه لا يسقط بالشك. واختلف أبو يوسف ومحمد رحمهما الله في تفسير قول الشعبي رحمه الله وتخريجه فيما إذا ترك ابنا معروفا وولدا خنثى فقال أبو يوسف على قياس قوله: يقسم المال على سبعة: أربعة أسهم منها للابن المعروف, وثلاثة للخنثى. وقال محمد رحمه الله تعالى على قياس قوله: يقسم المال على اثني عشر سهما: سبعة منها للابن المعروف, وخمسة للخنثى, وجه تفسير محمد وتخريجه لقول الشعبي أن للخنثى في حال سهما وهو أن يكون ذكرا وللابن المعروف سهم, وله في حال ثلثا سهم وهو أن يكون أنثى وللابن المعروف سهم وثلث سهم فيعطى نصف ما يستحقه في حالين؛ لأنه لا يستحق على حالة واحدة من الذكورة والأنوثة لاستحالة أن يكون الشخص الواحد ذكرا وأنثى وليست إحدى الحالتين أولى من الأخرى فيعطى نصف ما يستحقه في الحالتين وهو خمسة أسداس سهم وانكسر الحساب بالأسداس فيصير كل سهم ستة فيصير جميع المال اثني عشر سهما للخنثى منها خمسة وللابن المعروف سبعة, أو يقال إذا جعلنا جميع المال اثني عشر سهما فالخنثى يستحق في حال ستة من اثني عشر وهي أن يكون ذكرا وفي حال أربعة من اثني عشر وهي أن يكون أنثى فالأربعة ثابتة بيقين, وسهمان يثبتان في حال ولا يثبتان في حال وليست إحدى الحالتين أولى من الأخرى فينصف. وذلك سهم فذلك خمسة أسهم للخنثى. وأما الابن المعروف فالستة من الاثني عشر ثابتة بيقين وسهمان يثبتان في حال ولا يثبتان في حال فينصف وذلك سهم فذلك سبعة أسهم للابن المعروف, والله سبحانه وتعالى أعلم. "وجه" قول أبي يوسف وتخريجه لقول الشعبي أنه يحتمل أن يكون ذكرا ويحتمل أن يكون أنثى, فإن كان ذكرا فله نصيب ابن وهو سهم, وللابن المعروف سهم, وإن كان أنثى فله نصيب بنت وهو نصف سهم وللابن المعروف سهم فله في حال سهم تام وفي حال نصف سهم, وإنما يستحق على حالة واحدة وليست إحداهما بأولى من الأخرى فيعطى نصف ما يستحقه في حالتين وذلك ثلاثة أرباع سهم, وللابن المعروف سهم تام فيكون الميراث بينهما على سبعة أسهم للابن المعروف أربعة وللخنثى ثلاثة, والله سبحانه وتعالى أعلم. "ووجدت" في شرح مسائل المجرد المنسوب إلى الإمام إسماعيل بن عبد الله البيهقي رضي الله عنه الذي اختصر المبسوط والجامعين والزيادات في مجلدة واحدة وشرحه بكتاب لقبه الشامل بابا في الخنثى فأحببت أن ألحقه بهذا الفصل وهو ليس من أصل الشيخ وهو باب الخنثى. "قال" ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "يورث الخنثى من حيث يبول" وهو مذهبنا, الخنثى المشكل معتبر بالنساء في حق بعض الأحكام إذا كان الاحتياط في الإلحاق بهن, وبالرجال إذا كان الاحتياط فيه, فحكمه في الصلاة حكم المرأة في القعود والستر, وفي الوقوف بجنب الرجال في إفساد صلاة الرجل, ويقوم خلف الرجال وقدام النساء ولا يلبس الحرير إلحاقا بالرجال, وفي القصاص فيما دون النفس مثل المرأة, ولو مات يمم بالصعيد ولا يغسله رجل ولا امرأة ويسجى قبره ويدخل قبره ذو رحم محرم منه. فإن قبله رجل بشهوة لم يتزوج بأمه, ولو زوجه أبوه امرأة يؤجل كالعنين سنة ولا حد على قاذفه اعتبارا بالمجبوب والرتقاء, وفي الكل يعتبر الاحتياط قال: "كل عبد لي حر" وقال: "كل أمة" لم يعتق الخنثى المشكل؛ لأن الملك ثابت فلا يزول بالشك, ولو قال القولين جميعا عتق لما عرف. "وقوله" أنا ذكر, أو أنثى لا يقبل؛ لأنه متهم ويشتري امرأة بأن يشتري له أمة من ماله للخدمة, فإن لم يكن له مال فمن بيت المال؛ لأنه من مصالح أهل الإسلام. "مات" وأقام رجل البينة إنها كانت امرأته وكانت تبول من مبال النساء, وامرأة أنه كان زوجها وكان يبول من مبال الرجال لم يقض لأحدهما إلا إن ذكرت إحدى البينتين وقتا أقدم فيقضى له وفي حبسه في الدعاوى, ولا يفرض له في الديوان؛ لأنه حق الرجل المقاتل, فإن شهد القتال يرضخ له؛ لأن الرضخ نوع إعانة. وإن أسر لم يقتل, ولا يدخل في قسامة ولا تؤخذ منه الجزية؛ لأن هذا من أحكام الرجال أوصى رجل لما في بطن فلانة بألف درهم إن كان غلاما, وبخمسمائة إن كانت جارية وكان مشكلا لم يزد على خمسمائة عند أبي حنيفة عليه الرحمة وعندهما رحمهما الله له نصف الألف والخمسمائة, قال: وخروج اللحية دليل أنه رجل, والثدي على مثال ثدي المرأة مع عدم اللحية والحيض دليل كونه امرأة. زوج خنثى

 

ج / 7 ص -330-       من خنثى مشكلان على أن أحدهما رجل والآخر امرأة صح الوقف في النكاح حتى تتبين, فإن ماتا قبل البيان لم يتوارثا لما مر شهد شهود على خنثى أنه غلام, وشهود أنه جارية, والمطلوب ميراث, قضيت بشهادة الغلام؛ لأنها أكثر إثباتا, فإن كان المدعى مهرا قضيت بكونها جارية, وإن كان المقيم لا يطلب شيئا لم تسمع البينة, والله سبحانه وتعالى أعلم.