تحفة الفقهاء

كتاب الطَّلَاق
يحْتَاج إِلَى بَيَان أَنْوَاع الطَّلَاق وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا فَنَقُول الطَّلَاق فِي الأَصْل نَوْعَانِ طَلَاق سنة وَطَلَاق بِدعَة
وَالسّنة نَوْعَانِ نوع يرجع إِلَى الْعدَد وَنَوع يرجع إِلَى الْوَقْت
وَكَذَلِكَ طَلَاق الْبِدْعَة نَوْعَانِ أَيْضا يرجع إِلَى الْعدَد وَالْوَقْت
ثمَّ السّنة فِي الْعدَد وَالْوَقْت نَوْعَانِ عندنَا حسن وَأحسن
فَالْأَحْسَن أَن يُطلق الرجل امْرَأَته وَاحِدَة رَجْعِيَّة فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ ثمَّ يَتْرُكهَا حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا أَو كَانَت حَامِلا قد استبان حملهَا
وَأما الْحسن فَأن يطلقهَا وَاحِدَة فِي طهر لم يواقعها فِيهِ ثمَّ يُطلق فِي الطُّهْر الآخر وَاحِدَة ثمَّ فِي الطُّهْر الثَّالِث وَاحِدَة فَتبين
وَأما طَلَاق الْبِدْعَة فِي الْوَقْت فَأن يطلقهَا فِي حَالَة الْحيض أَو فِي طهر جَامعهَا فِيهِ
وَأما طَلَاق الْبِدْعَة فِي الْعدَد فَأن يطلقهَا ثَلَاثًا بِكَلِمَة وَاحِدَة
ثمَّ السّنة الَّتِي ترجع إِلَى الْعدَد تستوي فِيهَا الْمَدْخُول بهَا وَغير الْمَدْخُول بهَا لِأَنَّهُ إِيقَاع الطَّلَاق من غير حَاجَة
فَأَما السّنة فِي الْوَقْت فيختلف فِيهَا الْمَدْخُول بهَا وَغير الْمَدْخُول بهَا

(2/171)


فَإِن الطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض يكره عَلَيْهَا إِذا كَانَ مَدْخُولا بهَا لَا غير لِأَن فِيهِ تَطْوِيل الْعدة فَأَما فِي غير المدخلة فَلَا يكره لِأَنَّهُ لَا يُؤَدِّي إِلَى تَطْوِيل الْعدة فَإِنَّهُ لَا عدَّة عَلَيْهَا
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا من السّنة والبدعة قَول أَصْحَابنَا وَقَالَ الشَّافِعِي لَا أعرف فِي عدد الطَّلَاق سنة وَلَا بِدعَة وَإِنَّمَا السّنة والبدعة فِي الْوَقْت على مَا ذكرنَا
وأصل ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عبد الله بن عمر أَنه طلق امْرَأَته فِي حَالَة الْحيض فَسَأَلَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن ذَلِك فَقَالَ أَخْطَأت السّنة مَا هَكَذَا أَمرك الله إِن من السّنة أَن يسْتَقْبل الطُّهْر فيطلقها لكل قرء تَطْلِيقَة
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حق ذَوَات الْأَقْرَاء
فَأَما فِي حق الآيسة وَالصَّغِيرَة فطلاق السّنة أَن يفصل بَين كل تَطْلِيقَة بِشَهْر بِالْإِجْمَاع
وَفِي حق الممتد طهرهَا لَا يُطلق للسّنة إِلَّا وَاحِدَة
وَأما فِي الْحَامِل فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف يُطلق ثَلَاثًا للسّنة ويفصل بَين كل تَطْلِيقَة بِشَهْر
وَقَالَ مُحَمَّد وَزفر لَا يُطلق للسّنة إِلَّا وَاحِدَة وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ فِي حق الآيسة وَالصَّغِيرَة إِذا دخل بهما لَا يكره الطَّلَاق وَإِن طلقهما فِي طهر جامعهما فِيهِ بل يُبَاح لَهُ الطَّلَاق فِي أَي وَقت شَاءَ لِأَن احْتِمَال الْحَبل مَعْدُوم وَفِي ذَات الْأَقْرَاء يكره لهَذَا
وَكَذَلِكَ فِي حق الْحَامِل لِأَن الْكَرَاهَة للندامة بِسَبَب الْحمل فَمَتَى طَلقهَا مَعَ قيام الْحمل علم أَنه لم ينْدَم
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حق الْحرَّة فَأَما فِي حق الْأمة الْمسلمَة والكتابية

(2/172)


فَلَا يخْتَلف الْجَواب فِي حق السّنة والبدعة إِلَّا أَن فِي حق الْأمة طَلَاق السّنة وَاحِدَة لِأَن طَلَاق الْأمة ثِنْتَانِ وعدتها حيضتان
وَلَو طلق امْرَأَته وَاحِدَة ثمَّ رَاجعهَا فِي ذَلِك الطُّهْر فَلهُ أَن يطلقهَا ثَانِيًا للسّنة عِنْد أبي حنيفَة وَزفر
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يُطلق
وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ
وَأَجْمعُوا أَنه لَو أَبَانهَا فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ ثمَّ تزَوجهَا لَهُ أَن يطلقهَا ثَانِيًا للسّنة
فَأَبُو حنيفَة ألحق الْمُرَاجَعَة بِالتَّزْوِيجِ وَالْمعْنَى الْجَامِع بَينهمَا أَن بالمراجعة بَطل حكم الطَّلَاق فَجعل كَأَن لم يكن
وعَلى هَذَا قَالُوا لَو رَاجعهَا بالقبلة واللمس لَهُ أَن يطلقهَا ثَانِيًا فِي ذَلِك الطُّهْر عِنْد أبي حنيفَة فَأَما إِذا رَاجعهَا بِالْوَطْءِ فَلَا يُطلق ثَانِيًا لِأَن الْوَطْء دَلِيل الْمُرَاجَعَة فَيصير كَمَا لَو رَاجع ثمَّ جَامعهَا لَيْسَ لَهُ أَن يطلقهَا
فَأَما إِذا جَامعهَا فحبلت جَازَ لَهُ أَن يُطلق أُخْرَى فِي ذَلِك الطُّهْر فِي قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا يطلقهَا وَالصَّحِيح قَوْلهم لِأَن الْكَرَاهَة لمَكَان احْتِمَال الْحَبل فَإِذا علم بالحبل وطلق فَالظَّاهِر أَنه لَا ينْدَم كَمَا إِذا ظهر الْحَبل فجامعها ثمَّ طَلقهَا لَا يكره لما قُلْنَا
وَإِذا طلق امْرَأَته فِي حَالَة الْحيض ثمَّ رَاجعهَا ثمَّ أَرَادَ طَلاقهَا للسّنة ذكر فِي الأَصْل أَنَّهَا إِذا طهرت ثمَّ حَاضَت ثمَّ طهرت طَلقهَا إِن شَاءَ

(2/173)


وَذكر الطَّحَاوِيّ أَنه يطلقهَا فِي الطُّهْر الَّذِي يَلِي الْحَيْضَة
وَذكر الْكَرْخِي وَقَالَ مَا ذكره الطَّحَاوِيّ قَول أبي حنيفَة وَمَا ذكر فِي الأَصْل قَوْلهمَا
وَمَا قَالَ أَبُو حنيفَة هُوَ الْقيَاس لِأَنَّهُ طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ وَمَا ذكر فِي الأَصْل لحَدِيث ابْن عمر أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ لعمر مر ابْنك فَلْيُرَاجِعهَا ثمَّ يَدعهَا حَتَّى تطهر ثمَّ تحيض فَتطهر ثمَّ يطلقهَا إِن شَاءَ طَاهِرا من غير جماع
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق للسّنة فَإِن كَانَت من ذَوَات الْأَقْرَاء
وَهِي طَاهِرَة من غير جماع يَقع الطَّلَاق للْحَال وَإِن كَانَت حَائِضًا أَو فِي طهر جَامعهَا فِيهِ لم يَقع السَّاعَة فَإِذا حَاضَت وطهرت وَقعت بهَا تَطْلِيقَة
وَإِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثِنْتَيْنِ للسّنة أَو ثَلَاثًا للسّنة وَقع عِنْد كل طهر لم يواقعها فِيهِ طَلْقَة
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا للسّنة وَنوى الْوُقُوع للْحَال يَقع عندنَا خلافًا ل زفر لِأَن السّنة نَوْعَانِ سنة إِيقَاع وَسنة وُقُوع فَإِن وُقُوع الثَّلَاث عَرفْنَاهُ جَائِزا مَشْرُوعا بِالسنةِ وَسنة الْإِيقَاع مَا ذكرنَا فَإِذا نوى صحت نِيَّته
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق للسّنة وَنوى الثَّلَاث صَحَّ لما ذكرنَا أَن سنة الْإِيقَاع نَوْعَانِ حسن وَأحسن فَإِذا لم يكن لَهُ نِيَّة يَقع على الْأَحْسَن وَهُوَ الطَّلَاق الْوَاحِد فِي طهر لم يُجَامِعهَا فِيهِ وَإِذا نوى الثَّلَاث فقد نوى إِيقَاعه فِي ثَلَاثَة أطهار فَيَقَع عِنْد كل طهر وَاحِدَة كَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا فِي ثَلَاثَة أطهار
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق للبدعة وَنوى الثَّلَاث صَحَّ لِأَن

(2/174)


إِيقَاعه الثَّلَاث جملَة فِي طهر وَاحِد بِدعَة وَالطَّلَاق فِي حَالَة الْحيض بِدعَة فَإِذا نوى الثَّلَاث فقد نوى مَا يحْتَملهُ كَلَامه فَصحت نِيَّته
فَأَما فِي حق الآيسة وَالصَّغِيرَة وَالْحَامِل فَإِنَّهُ إِذا قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا للسّنة يَقع للْحَال وَاحِدَة وَعند كل شهر أُخْرَى لقِيَامه مقَام الطُّهْر
وعَلى هَذَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق طَلَاق الْعدة أَو طَلَاق الْعدْل أَو طَلَاق الْإِسْلَام أَو طَلَاق الْحق أَو طَلَاق الْقُرْآن أَو أجمل الطَّلَاق أَو أعدل الطَّلَاق أَو أحسن الطَّلَاق فَالْجَوَاب فِيهِ مثل قَوْله أَنْت طَالِق للسّنة
ثمَّ يتنوع الطَّلَاق أَيْضا إِلَى نَوْعَيْنِ آخَرين رَجْعِيّ وبائن
أما الرَّجْعِيّ فَهُوَ صَرِيح الطَّلَاق إِذا كَانَ وَاحِدًا أَو اثْنَتَيْنِ
والصريح مَا اشتق من لفظ الطَّلَاق نَحْو قَوْلك أَنْت طَالِق وَأَنت مُطلقَة وطلقتك وَنَحْو ذَلِك وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أَنْت الطَّلَاق لِأَن الْمصدر قد يُرَاد بِهِ الْمَفْعُول كَأَنَّهُ قَالَ أَنْت مُطلقَة وَقد يُرَاد بِهِ الْفَاعِل فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق
وَكَذَلِكَ الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة الَّتِي تسمى كِنَايَة نَحْو قَوْلك اعْتدي واستبري رَحِمك وَأَنت وَاحِدَة فَإِنَّهُ يكون رَجْعِيًا لِأَن قَوْله اعْتدي إِن كَانَ بعد الدُّخُول يَقع الطَّلَاق بِهِ بطرِيق الِاقْتِضَاء لِأَن الْأَمر بالاعتداد يكون بعد الطَّلَاق فَيصير الطَّلَاق ثَابتا مُقْتَضى صِحَة الْأَمر كَأَنَّهُ قَالَ طَلقتك فاعتدي وَإِن كَانَ قبل الدُّخُول بهَا يَجْعَل مجَازًا عَن الطَّلَاق
وَكَذَا قَوْله استبري رَحِمك وَقَوله أَنْت وَاحِدَة أَي أَنْت طَالِق طَلْقَة وَاحِدَة

(2/175)


ثمَّ مَا كَانَ من الصَّرِيح لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى النِّيَّة
وَأما فِي هَذِه الْأَلْفَاظ الثَّلَاثَة فَيحْتَاج إِلَى النِّيَّة
فَإِن نوى بقوله أَنْت طَالِق ونظائره ثَلَاث تَطْلِيقَات أَو طَلْقَتَيْنِ لَا يَصح عندنَا وَعند زفر وَالشَّافِعِيّ يَصح
فَأَما إِذا ذكر بِلَفْظَة الْأَمر بِأَن قَالَ طَلِّقِي نَفسك أَو قَالَ لرجل طلق امْرَأَتي وَنوى الثَّلَاث صَحَّ
وَكَذَلِكَ إِذا قرن بِهِ الْمصدر بِأَن قَالَ أَنْت طَالِق طَلَاقا وَكَذَا إِذا ذكر الْمصدر وَحده بِأَن قَالَ أَنْت الطَّلَاق وَنوى الثَّلَاث صَحَّ بِالْإِجْمَاع
وَلَا خلاف فِي الْكِنَايَات المنبئة عَن الْبَيْنُونَة وَالْحُرْمَة نَحْو قَوْلك أَنْت بَائِن أَنْت عَليّ حرَام وَنوى الثَّلَاث فَإِنَّهُ يَقع الثَّلَاث وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق وَقَالَ أردْت طَلَاقا عَن وثاق يصدق فِيمَا بَينه وَبَين الله دون الْقَضَاء لِأَنَّهُ صرف الْكَلَام عَن ظَاهره شرعا
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق وَقَالَ أردْت الطَّلَاق عَن الْعَمَل لَا يصدق أصلا كَذَا قَالَ أَصْحَابنَا
وروى الْحسن على أبي حنيفَة أَنه قَالَ يصدق فِيمَا بَينه وَبَين الله فِي الْفَصْلَيْنِ
وَلَو قَالَ أَنْت مُطلقَة رَجْعِيَّة لَا يَقع بِدُونِ النِّيَّة
وَلَو قَالَ أَنْت أطلق من امْرَأَة فلَان وَهِي مُطلقَة فَإِنَّهُ يقف على النِّيَّة إِلَّا إِذا كَانَ فِي حَال سُؤال الطَّلَاق مِنْهَا فَإِنَّهُ يَقع من غير نِيَّة
وَلَو قَالَ يَا مُطلقَة أَو يَا طَالِق وَقَالَ أردْت بِهِ الشتم يصدق فِيمَا بَينه وَبَين الله دون الْقَضَاء إِن لم يكن لَهَا زوج قبله فَأَما إِذا كَانَ لَهَا

(2/176)


زوج قبله فَإِنَّهُ يصدق فِي الْقَضَاء
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق طَالِق أَو طَلقتك طَلقتك وعنى بِالثَّانِي الْإِخْبَار يصدق فِيمَا بَينه وَبَين الله دون الْقَضَاء
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق فَقَالَ رجل مَا قلت فَقَالَ قلت هِيَ طَالِق أَو قَالَ قد طَلقتهَا فَهِيَ وَاحِدَة فِي الْقَضَاء لِأَن الظَّاهِر يدل عَلَيْهِ
وَأما حكم الطَّلَاق الرَّجْعِيّ فَنَقُول إِنَّه يُوجب الْحُرْمَة وَزَوَال الْملك عِنْد انْقِضَاء الْعدة وَفِي الْحَال ينْعَقد سَببا لزوَال الْملك وَيتم عَلَيْهِ عِنْد انْقِضَاء الْعدة
وَكَذَا ينْعَقد سَببا لزوَال حل الْمَحَلِّيَّة عِنْد انضمام الطَّلقَة الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة إِلَيْهِ
فَأَما فِي الْحَال فَلَا يَزُول شَيْء من الْحل وَالْملك
وَهَذَا عندنَا
وعَلى قَول الشَّافِعِي حكمه للْحَال زَوَال حل الْوَطْء وَزَوَال الْملك من وَجه
وعَلى هَذَا يَنْبَنِي حل الْوَطْء عندنَا لقِيَام ملك النِّكَاح من كل وَجه وَإِنَّمَا يَزُول عِنْد انْقِضَاء الْعدة فَيكون الْحل قَائِما قبل انْقِضَاء الْعدة وَتَكون الرّجْعَة اسْتِدَامَة الْملك وَعِنْده الرّجْعَة إنْشَاء النِّكَاح من وَجه واستبقاء من وَجه فَيَقُول بِالْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا
وعَلى هَذَا يَنْبَنِي أَن الْإِشْهَاد لَيْسَ بِشَرْط فِي الرّجْعَة عندنَا وَعِنْده شَرط لما كَانَ إنْشَاء النِّكَاح من وَجه
وَأَجْمعُوا أَنه يملك الْمُرَاجَعَة من غير رضَا الْمَرْأَة وَمن غير مهر وَمن غير تَجْدِيد العقد وَهُوَ أَن يَقُول لامْرَأَته رَاجَعتك أَو عبارَة تقوم مقَامهَا فِي هَذَا الْمَعْنى وَالْأَفْضَل أَن يشْهد على رَجعتهَا وَأَن يعلمهَا بذلك

(2/177)


وعَلى هَذَا إِن الرّجْعَة لَا تثبت بِالْفِعْلِ عِنْده لِأَن إنْشَاء النِّكَاح من كل وَجه يكون بالْقَوْل وَالرَّجْعَة إنْشَاء من وَجه فَيجب أَن تكون بالْقَوْل أَيْضا لَكنا نقُول عندنَا تثبت الرّجْعَة والإعادة إِلَى الْحَالة الأولى بطرِيق الدّلَالَة لِأَن الطَّلَاق الرَّجْعِيّ مَتى زَالَ الْملك بِهِ عِنْد انْقِضَاء الْعدة يثبت من وَقت التَّكَلُّم من وَجه لِأَن الْإِبَانَة قَول الزَّوْج قَوْله هُوَ الطَّلَاق السَّابِق فَلَو لم تصح الرّجْعَة بِالْوَطْءِ لصار الْوَطْء وَاقعا فِي ملك الْغَيْر من وَجه فَكَانَ الْإِقْدَام على الْوَطْء دلَالَة الرّجْعَة وَالرَّدّ إِلَى الْحَالة الأولى احْتِرَازًا عَن الْحُرْمَة من وَجه
وَكَذَا إِذا لمسها بِشَهْوَة أَو نظر إِلَى فرجهَا بِشَهْوَة لِأَن ذَلِك حرَام أَيْضا فِي غير الْملك من وَجه
فَأَما النّظر إِلَى فرجهَا لَا عَن شَهْوَة وَالنَّظَر إِلَى سَائِر أعضائها عَن شَهْوَة فَلَا يُوجب الْمُرَاجَعَة لِأَن هَذَا مِمَّا يُبَاح فِي الْجُمْلَة
وَلَو جامعت الزَّوْج وَهُوَ نَائِم أَو مَجْنُون تثبت الرّجْعَة
وَلَو لمسته الْمَرْأَة بِشَهْوَة مختلسة أَو كَانَ نَائِما واعترف أَنه كَانَ بِشَهْوَة فَهُوَ رَجْعَة عِنْد أبي حنيفَة
وَهُوَ رِوَايَة عَن أبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد لَيْسَ برجعة
وَقد ذكرنَا الْمَسْأَلَة فِي كتاب الْبيُوع فِي الْجَارِيَة الْمُشْتَرَاة بِشَرْط الْخِيَار للْمُشْتَرِي إِذا لمست المُشْتَرِي بِشَهْوَة على الاختلاس فَلَا نعتد بِهِ
ثمَّ إِنَّمَا تصح الرّجْعَة إِذا رَاجعهَا فِي الْعدة
فَلَا تصح بعد انْقِضَاء الْعدة لِأَنَّهُ زَالَ الْملك فَلَا بُد من تَجْدِيد العقد
وَلَو أَنَّهَا إِذا طهرت من الْحَيْضَة الثَّالِثَة فَقَالَ رَاجَعتك لَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون أَيَّامهَا عشرَة أَو مَا دون الْعشْرَة فَإِن كَانَت أَيَّامهَا عشرَة فَإِنَّهُ لَا تصح الرّجْعَة وَتحل للأزواج

(2/178)


لِأَن عدتهَا تَنْقَضِي بِمُجَرَّد مُضِيّ الْعشْرَة
فَأَما إِذا كَانَت مَا دون الْعشْرَة فَإِن اغْتَسَلت لَا تصح الرّجْعَة وَتحل للأزواج وَإِن كَانَ قبل الِاغْتِسَال فَلَا تحل للأزواج وَتَصِح الرّجْعَة لِأَن مُدَّة الِاغْتِسَال من الْحيض بِإِجْمَاع الصَّحَابَة
وَلَو اغْتَسَلت بسؤر حمَار فَلَا تصح الرّجْعَة وَلَا تحل للأزواج لِأَن سُؤْر الْحمار مَشْكُوك فِيهِ فَكَانَ الِاحْتِيَاط فِي بَاب الْحُرْمَة أَن لَا تصح الرّجْعَة وَلَا تحل للأزواج
وَلَو اغْتَسَلت وَبَقِي فِي بدنهَا عُضْو كَانَت لَهُ الرّجْعَة وَإِن كَانَ أقل من عُضْو فَلَا رَجْعَة وَهَذَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس أَنه إِذا بَقِي أقل من عُضْو أَن تبقى الرّجْعَة لِأَن الْحَدث بَاقٍ حَتَّى لَا تحل لَهَا الصَّلَاة هَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف وَقَالَ مُحَمَّد الِاسْتِحْسَان فِي الْعُضْو أَنه لَا تَنْقَطِع الرّجْعَة وَالْقِيَاس أَنه تَنْقَطِع كَمَا فِي الْمَضْمَضَة وَالِاسْتِنْشَاق إِلَّا أَنهم استحسنوا وَقَالُوا لَا تَنْقَطِع الرّجْعَة لِأَن وجوب غسل الْعُضْو مجمع عَلَيْهِ فَلَا يكون الِاغْتِسَال مُعْتَبرا مَعَه كَمَا لَو زَاد على الْعُضْو
فَأَما إِذا بَقِي الْمَضْمَضَة أَو الِاسْتِنْشَاق فقد رُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قَالَ تَنْقَطِع الرّجْعَة وَلَا تحل للأزواج لِأَن الْمَضْمَضَة مُخْتَلف فِي وُجُوبهَا فَكَانَ الِاحْتِيَاط أَن تَنْقَطِع الرّجْعَة وَلَا تحل للأزواج
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم الِاغْتِسَال
وَلَو مضى وَقت صَلَاة كَامِل قبل أَن تَغْتَسِل فَإِنَّهُ تَنْقَطِع الرّجْعَة
لِأَن الصَّلَاة صَارَت دينا فَيكون لَهَا حكم الطاهرات مُطلقًا
فَأَما إِذا تيممت بِأَن كَانَت مسافرة فَإِن صلت تَنْقَطِع الرّجْعَة أَيْضا فَأَما بِنَفس التَّيَمُّم فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا تَنْقَطِع
وَعند مُحَمَّد وَزفر تَنْقَطِع وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(2/179)


وَلَو قَالَ الزَّوْج قد كنت رَاجَعتك أمس وكذبته الْمَرْأَة فَإِن كَانَت فِي الْعدة فَالْقَوْل قَوْله لِأَنَّهُ أخبر بِمَا يملك إنشاءه للْحَال
وَإِن قَالَ بعد انْقِضَاء الْعدة وكذبته الْمَرْأَة فَالْقَوْل قَوْلهَا لِأَنَّهُ أخبر بِمَا لَا يملك للْحَال إنشاءه وَلَا يَمِين عَلَيْهَا عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما وَهَذِه من جملَة الْمسَائِل السَّبْعَة الَّتِي لَا يسْتَحْلف فِيهَا عِنْده
فَإِن قَالَ قد رَاجَعتك فَقَالَت مجيبة قد انْقَضتْ عدتي فَالْقَوْل قَوْلهَا عِنْد أبي حنيفَة وَقَالا القَوْل قَول الزَّوْج وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَمن حكم الطَّلَاق الرَّجْعِيّ أَن تكون الْأَقْرَاء محسوبة من الْعدة لِأَن الطَّلَاق وَاقع فِي حق أحد الْحكمَيْنِ وَهُوَ انْعِقَاده سَببا لزوَال حل التَّزَوُّج
وَأما الطَّلَاق الْبَائِن فَنَذْكُر أقسامه وَأَحْكَامه فَنَقُول الطَّلَاق الْبَائِن أَقسَام ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يقْتَرن بِصَرِيح الطَّلَاق مَا يدل على الْبَيْنُونَة وَالثَّانِي أَن يكون اللَّفْظ منبئا عَن الْبَيْنُونَة وَالثَّالِث مَا يَقع بِهِ الْبَيْنُونَة من طَرِيق الحكم
أما الأول فَنَقُول إِذا اقْترن بِالصَّرِيحِ الْعدَد الثَّلَاث بِأَن قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا أَو اقْترن بِاللَّفْظِ المنبىء عَن الْبَيْنُونَة صفة للْمَرْأَة من غير حرف الْعَطف كَقَوْلِه أَنْت طَالِق بَائِن أَو طَالِق الْبَتَّةَ أَو أَنْت طَالِق حرَام
وَعَن أبي يُوسُف أَنه إِذا قَالَ أَنْت طَالِق للبدعة وَنوى وَاحِدَة

(2/180)


بَائِنَة تكون بَائِنَة وروى هِشَام عَن مُحَمَّد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة أَنه وَاحِدَة رَجْعِيَّة
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق أقبح الطَّلَاق رُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه رَجْعِيّ وَقَالَ مُحَمَّد أَنه بَائِن
وَالْقسم الثَّانِي أَن يُوقع بِأَلْفَاظ دَالَّة على الْبَيْنُونَة وَالْقطع وَالْحُرْمَة وَهِي تسمى كنايات الطَّلَاق
وَهِي فِي الْجُمْلَة أَقسَام ثَلَاثَة مِنْهَا مَا يصلح للشتم والتبعيد وَالطَّلَاق وَمِنْهَا مَا يصلح للطَّلَاق والتبعيد وَلَا يصلح للشتم وَمِنْهَا مَا لَا يصلح للطَّلَاق
وَالْأَحْوَال ثَلَاثَة حَال ذكر الطَّلَاق وَحَال الْغَضَب وَحَال ابْتِدَاء الزَّوْج بِالطَّلَاق لَيْسَ بِحَال سُؤال الطَّلَاق وَلَا حَال الْغَضَب
وَهَهُنَا حكمان أَحدهمَا أَن وُقُوع الطَّلَاق بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ يفْتَقر إِلَى نِيَّة الطَّلَاق أم لَا وَالثَّانِي إِذا قَالَ الْمُتَكَلّم مَا عنيت بِهَذَا اللَّفْظ الطَّلَاق هَل يصدق أم لَا فَنَقُول أما بَيَان الحكم الأول إِذا ذكر لفظا يصلح للطَّلَاق فِي غير حَال مذاكرة الطَّلَاق وَحَال الْغَضَب كَيْفَمَا كَانَ فَإِذا نوى بِهِ الطَّلَاق يَقع وَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة لَا يَقع لِأَنَّهُ كَمَا يصلح للفرقة لأمر آخر فَإِن قَوْله بَائِن يحْتَمل بينونة الطَّلَاق وَيحْتَمل الْبَيْنُونَة عَن الْخَيْر أَو عَن الشَّرّ
وَكَذَلِكَ قَوْله اذهبي واغربي والحقي بأهلك فَإِنَّهُ كَمَا

(2/181)


يصلح للطَّلَاق يصلح للإبعاد عَن نَفسه والتغريب من غير طَلَاق مُحْتَمل والمحتمل لَا يَقع بِدُونِ النِّيَّة
وَإِن كَانَ لفظا لَا يصلح للطَّلَاق فَإِنَّهُ لَا يَقع بِهِ الطَّلَاق وَإِن نوى لِأَن الطَّلَاق يَقع بِاللَّفْظِ لَا بِالنِّيَّةِ كَقَوْلِه اسْقِنِي واقعدي وأعرضت عَن طَلَاقك وصفحت عَن فراقك وَتركت طَلَاقك وخليت سَبِيل طَلَاقك وَنَحْو ذَلِك
وَأما فِي حَال ذكر الطَّلَاق وَحَال الْغَضَب فَفِي تِسْعَة أَلْفَاظ من الْكِنَايَات يَقع الطَّلَاق بِلَا نِيَّة وَهِي قَوْله أَنْت بَائِن وَأَنت عَليّ حرَام وخلية وبريئة وبتة وأمرك بِيَدِك واختاري واعتدي واستبري رَحِمك لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ كَمَا تصلح للطَّلَاق تصلح لغيره وَالْحَال يدل على الطَّلَاق ظَاهرا لِأَنَّهُ حَال سُؤال الطَّلَاق وَحَال الْغَضَب وَالْخُصُومَة فَكَانَ الظَّاهِر أَنه قصد الطَّلَاق بذلك فرجح جَانب الطَّلَاق على غَيره
وَأما فِي سَائِر الْأَلْفَاظ نَحْو قَوْلك لَا سَبِيل لي عَلَيْك وفارقتك وخليت سَبِيلك وَلَا ملك لي عَلَيْك والحقي بأهلك ووهبتك لأهْلك واغربي واخرجي واذهبي وقومي واستتري وتقنعي وتزوجي وَلَا نِكَاح عَلَيْك وَنَحْو ذَلِك فَلَا يَقع إِلَّا بِالنِّيَّةِ لِأَنَّهُ كَمَا تصلح للطَّلَاق تصلح للتبعيد عَن نَفسه وَالْإِنْسَان قد يبعد امْرَأَته من غير طَلَاق فَلَا بُد من النِّيَّة
وَأما الحكم الثَّانِي وَهُوَ أَنه إِذا قَالَ مَا عنيت بِهِ الطَّلَاق هَل يصدق فَنَقُول فِي كل لفظ يصلح للطَّلَاق يصدق فِيمَا بَينه وَبَين الله لكَونه مُحْتملا فَأَما فِي الْقَضَاء فَهَل يصدق فَهُوَ على أَقسَام ثَلَاثَة

(2/182)


قسم مِنْهُ لَا يدين فِي الْأَحْوَال كلهَا وَهُوَ أَرْبَعَة أَلْفَاظ قَوْله أَمرك بِيَدِك واختاري واعتدي واستبري رَحِمك لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ لَا تصلح للشتم وَلَا للتبعيد فَالظَّاهِر مِنْهَا الطَّلَاق وَالْحَال يدل عَلَيْهِ فَلَا يصدق فِي الْقَضَاء
وَقسم مِنْهُ يدين فِي حَال الْغَضَب وَلَا يدين فِي حَال ذكر الطَّلَاق وَذَلِكَ فِي كل لفظ يصلح للشتم وَهِي خَمْسَة أَلْفَاظ أَنْت خلية بَريَّة بتة باين أَنْت عَليّ حرَام لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ تصلح للشتم وَتصْلح للطَّلَاق وَحَال الْغَضَب يصلح للأمرين جَمِيعًا فَكَانَ الْحَال مُحْتملا وَاللَّفْظ مُحْتملا للطَّلَاق وَغَيره فَلَا يكون قَوْله خلاف الظَّاهِر فَيصدق وَأما فِي حَال ذكر الطَّلَاق فَذكر هَذِه الْأَلْفَاظ مَعَ الرضى لَا يصلح إِلَّا للطَّلَاق فَحمل عَلَيْهِ دون الشتم
وَقسم مِنْهُ يدين فِي حَال الْغَضَب وَحَال ذكر الطَّلَاق وَهِي الْأَلْفَاظ الَّتِي تصلح للتبعيد وَالطَّلَاق دون الشتم لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ تصلح للتبعيد وَتصْلح للطَّلَاق فَلَا يتَرَجَّح أحد الْأَمريْنِ بِالْحَال وَقد نوى مَا يحْتَملهُ كَلَامه وَالظَّاهِر لَا يُخَالِفهُ فَيصدق فِي الْقَضَاء
وَالْقسم الثَّالِث وَأما الْبَائِن الَّذِي يَقع حكما فكثير كاعتراض حُرْمَة الْمُصَاهَرَة وَالرّضَاع وَاللّعان وَالرِّدَّة وَنَحْوهَا لِأَن الْغَرَض هُوَ الْمُفَارقَة بَينهمَا فَلَا بُد من ثُبُوت الْبَيْنُونَة لَكِن بَعْضهَا يكون طَلَاقا بِالْإِجْمَاع بَين أَصْحَابنَا وَبَعضهَا يكون فسخا بِالْإِجْمَاع وَبَعضهَا مُخْتَلف فِيهِ
أما الأول فكالفرقة بالإيلاء فَإِذا مَضَت مُدَّة الْإِيلَاء بَانَتْ بتطليقة بَائِنَة عندنَا لِأَنَّهُ حصل بقول الزَّوْج وكتفريق القَاضِي بِسَبَب الْعنَّة

(2/183)


فَإِن القَاضِي نَائِب عَن الزَّوْج فِي التَّفْرِيق الْوَاجِب عَلَيْهِ
وَأما مَا يكون فسخا بِالْإِجْمَاع فكالفرقة الَّتِي تقع بِحرْمَة مُؤَبّدَة مثل حُرْمَة الْمُصَاهَرَة وَحُرْمَة الرَّضَاع لِأَنَّهَا خلاف حكم الطَّلَاق
وَكَذَلِكَ كل فرقة حصلت بِفعل الْمَرْأَة أَو حصلت لَا بِفعل الزَّوْجَيْنِ فَهِيَ فسخ لِأَن الْمَرْأَة لَا تملك الطَّلَاق وَالطَّلَاق لَا بُد لَهُ من قَول الزَّوْج وَذَلِكَ نَحْو اخْتِيَار الْأمة الْمُعتقَة نَفسهَا أَو اخْتِيَار الصَّغِيرَة إِذا أدْركْت وردة الْمَرْأَة وإباؤها الْإِسْلَام بعد إِسْلَام زَوجهَا والفرقة الْوَاقِعَة باخْتلَاف الدَّاريْنِ لِأَنَّهُ لَيْسَ فعل أحد وَكَذَا إِذا ملك أحد الزَّوْجَيْنِ صَاحبه لِأَنَّهُ تقع الْفرْقَة بِلَا فعل وَكَذَا إِذا أسلم الْحَرْبِيّ وَتَحْته أَكثر من أَربع نسْوَة فَاخْتَارَ أَرْبعا مِنْهُنَّ تقع الْفرْقَة على الْبَاقِيَات بِغَيْر طَلَاق لِأَن الْحُرْمَة تثبت شرعا وَاخْتِيَار الزَّوْج للْبَيَان لَا أَنه طَلَاق وَكَذَا اخْتِيَار الصَّغِير نَفسه بعد الْبلُوغ وَإِن كَانَ فعله لِأَنَّهُ رفع النِّكَاح من وَجه وَالْفَسْخ يثبت بطرِيق الضَّرُورَة
وَأما الْمُخْتَلف فِيهِ فنحو الْفرْقَة بِسَبَب اللّعان عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد تكون طَلَاقا وَعند أبي يُوسُف تكون فسخا لِأَنَّهُ يثبت بِهِ حُرْمَة مُؤَبّدَة عِنْده خلافًا لَهما
وَكَذَا ردة الزَّوْج عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف فرقة بَائِنَة بِغَيْر طَلَاق
وَقَالَ مُحَمَّد هِيَ طَلَاق بَائِن
وإباء الزَّوْج الْإِسْلَام إِذا أسلمت امْرَأَته الذِّمِّيَّة فَهُوَ طَلَاق بَائِن عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف فرقة بَائِنَة بِغَيْر طَلَاق
ف مُحَمَّد سوى بَينهمَا وجعلهما طَلَاقا بَائِنا
وَأَبُو يُوسُف جَعلهمَا فسخا
وَأَبُو حنيفَة فرق بَينهمَا فَقَالَ ردة الزَّوْج فسخ وإباؤه الْإِسْلَام طَلَاق

(2/184)


وَأما بَيَان أَحْكَام الطَّلَاق الْبَائِن فَنَقُول مِنْهَا إِن كَانَ وَاحِدًا يَزُول بِهِ ملك النِّكَاح وَتبقى الْمَرْأَة محلا للنِّكَاح بطلاقين حَتَّى لَا يحل لَهُ الِاسْتِمْتَاع بهَا وَلَا يَصح الظِّهَار وَالْإِيلَاء وَلَا يجْرِي التَّوَارُث وَلَا تحل إِلَّا بتجديد النِّكَاح وَلَو وَطئهَا لَا يجب الْحَد لاخْتِلَاف الصَّحَابَة فِي الْكِنَايَات إِنَّهَا بوائن أَو رواجع وأصحابنا أخذُوا بقول من قَالَ إِنَّهَا بوائن
وَالشَّافِعِيّ أَخذ بقول من قَالَ إِنَّهَا رواجع
وَإِن كَانَت الْبَيْنُونَة بِالثلَاثِ يَزُول الْملك وَحل الْمَحَلِّيَّة جَمِيعًا حَتَّى لَا يحل لَهُ وَطئهَا إِلَّا بعد إِصَابَة الزَّوْج الثَّانِي
وَإِن وجد عقد النِّكَاح أَو ملك الْيَمين فَإِن النِّكَاح لَا يَصح لعدم حل الْمَحَلِّيَّة وبسبب ملك الْيَمين يَصح وَلَا يُفِيد الْحل
وَمِنْهَا أَن المبانة والمختلعة يلْحقهَا صَرِيح الطَّلَاق مَا دَامَت فِي الْعدة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَأَجْمعُوا أَنه لَا تلحقها الْكِنَايَات المزيلة للنِّكَاح وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَمِنْهَا أَن الطَّلَاق الْبَائِن هَل يكره إِذا خلا عَن الْعدَد والعوض فِيهِ رِوَايَتَانِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة لَا يكره
وَفِي رِوَايَة الزِّيَادَات يكره
وَإِذا اقْترن بِهِ الْعدَد يكره بِالْإِجْمَاع
وَإِذا اقْترن بِهِ الْعِوَض وَهُوَ الْخلْع لَا يكره على مَا نذْكر
ثمَّ وُقُوع الطَّلَاق بِمَا ذكرنَا من الْأَلْفَاظ يَسْتَوِي فِيهِ الْجَواب بَين أَن وجد من الزَّوْج أَو من نَائِبه وَهُوَ الْوَكِيل وَالرَّسُول
وَكَذَلِكَ إِذا كتب وَهُوَ أَنْوَاع إِن لم يكن مستبين الْحُرُوف كَمَا إِذا كتب على المَاء والهواء فَهَذَا لَيْسَ بِشَيْء لِأَنَّهُ لَا يُسمى كِتَابَة

(2/185)


وَإِن كَانَ مستبين الْخط وَلَكِن لَا يكون على رسم الْكِتَابَة بِأَن كَانَت على لوح أَو حَائِط أَو أَرض فَهُوَ فِي حكم الْكِتَابَة وَلِأَن الْإِنْسَان قد يكْتب لتجربة الْخط ولتجربة الحبر والقلم فَإِن نوى الطَّلَاق يَقع وَإِلَّا فَلَا
فَأَما إِذا كَانَ على رسم الْكِتَابَة والرسالة بِأَن يكْتب أما بعد يَا فُلَانَة إِذا وصل إِلَيْك كتابي فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ يَقع الطَّلَاق بِهِ وَلَا يصدق إِذا قَالَ لم أرد بِهِ الطَّلَاق لِأَن الْكتاب من الْغَائِب بِمَنْزِلَة الْخطاب من الْحَاضِر
ثمَّ إِذا كتب مُطلقًا وَقَالَ أَنْت طَالِق على رسم الْكِتَابَة يَقع الطَّلَاق كَمَا كتب وَلَا يتَوَقَّف على الْوُصُول إِلَيْهَا
وَإِن علقه بِشَرْط الْوُصُول بِأَن قَالَ إِذا وصل إِلَيْك كتابي فَإِنَّهُ لَا يَقع الطَّلَاق مَا لم يصل الْكتاب إِلَيْهَا لِأَن الْمُعَلق بِالشّرطِ لَا ينزل قبل وجوده
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حكم الصَّحِيح فَأَما الْمَرِيض إِذا طلق وَهُوَ صَاحب الْفراش طَلَاقا رَجْعِيًا أَو بَائِنا أَو ثَلَاثًا ثمَّ مَاتَ من ذَلِك الْمَرَض وَهِي فِي الْعدة فَإِنَّهَا تَرث عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَالْقِيَاس مَعَه لَكنا استحسنا بِإِجْمَاع الصَّحَابَة
وَلَو زَالَ الْمَرَض ثمَّ نكس الْمَرِيض وَمَات وَهِي فِي الْعدة لم تَرثه لِأَنَّهُ تبين أَنه مَا طلق فِي مرض الْمَوْت

(2/186)


بَاب تَفْوِيض الطَّلَاق
هَهُنَا فُصُول أَرْبَعَة أَحدهَا أَن يَقُول لامْرَأَته أَمرك بِيَدِك وَالثَّانِي أَن يَقُول لَهَا اخْتَارِي وَالثَّالِث أَن يَقُول أَنْت طَالِق إِن شِئْت وَالرَّابِع أَن يَقُول طَلِّقِي نَفسك
أما الأول فَهُوَ نَوْعَانِ إِمَّا أَن يكون مُطلقًا أَو مؤقتا
أما إِذا قا أَمرك بِيَدِك مُطلقًا وَلم يوقته بِوَقْت وَيُرِيد بِهِ الطَّلَاق فَإِنَّهُ يصير أمرهَا بِيَدِهَا وَيصير الطَّلَاق مفوضا إِلَيْهَا وَتصير مالكة للتطليق مَا دَامَت فِي مجلسها ذَلِك وَإِن طَال
وَهَذَا إِذا كَانَت حَاضِرَة وَسمعت الْأَمر من الزَّوْج وَعلمت بِهِ
فَأَما إِذا كَانَت غَائِبَة أَو حَاضِرَة وَلم تسمع فلهَا الْخِيَار فِي مجْلِس بلغ إِلَيْهَا الْخَبَر فِيهِ وَعلمت بذلك لِأَن هَذَا تمْلِيك الطَّلَاق وَالتَّمْلِيك يقْتَصر جَوَابه على الْمجْلس وَيكون مؤقتا بِهِ كَمَا فِي قبُول البيع
وَإِذا صَار الْأَمر فِي يَدهَا فَإِن اخْتَارَتْ نَفسهَا فِي الْمجْلس تقع وَاحِدَة بَائِنَة إِذا أَرَادَ الزَّوْج بِهِ طَلَاقا وَاحِدًا أَو اثْنَيْنِ
فَإِن أَرَادَ الزَّوْج

(2/187)


ثَلَاثًا فَهِيَ ثَلَاث لِأَن هَذَا اللَّفْظ من الْكِنَايَات فَيحْتَمل الثَّلَاث فَلَا بُد من نِيَّة الطَّلَاق على التَّفْصِيل الَّذِي ذكرنَا
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَت طلقت نَفسِي أَو أبنت أَو أَنا مِنْك بَائِن أَو طَالِق أَو قَالَت أَنْت عَليّ حرَام أَو أَنْت مني بَائِن فَإِنَّهُ يكون جَوَابا لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ للطَّلَاق
فَأَما إِذا وجد مِنْهَا كَلَام أَو فعل يدل على الْإِعْرَاض عَن اخْتِيَار النَّفس فَإِنَّهُ يبطل خِيَارهَا وَيخرج الْأَمر من يَدهَا وَذَلِكَ نَحْو أَن تقوم من مجلسها ذَلِك إِذا سَمِعت بِالْخِيَارِ إِن كَانَت قَاعِدَة أَو كَانَت قَائِمَة فركبت وَإِن كَانَت سائرة فَإِن أجابت على الْفَوْر أَو وقفت للتأمل فِي ذَلِك وَإِلَّا فَيبْطل خِيَارهَا لِأَن ذَلِك دَلِيل الْإِعْرَاض
وَكَذَلِكَ إِذا اشتغلت بافتتاح الصَّلَاة أَو بِالْأَكْلِ وَالشرب حَتَّى يكون ذَلِك مجْلِس الْأكل وَالشرب
فَأَما إِذا أكلت شَيْئا يَسِيرا أَو شربت شربة فَلَا يعْتَبر
فَإِن قَالَت ادعوا لي أبواي حَتَّى أستشيرهما أَو ادعوا لي شُهُودًا أشهدهم عَلَيْهِ لم يبطل خِيَارهَا لِأَنَّهَا تحْتَاج إِلَى ذَلِك فَلَا يكون دَلِيل الْإِعْرَاض
ثمَّ إِذا اخْتَارَتْ نَفسهَا مرّة لَيْسَ لَهَا أَن تخْتَار ثَانِيًا وَيبْطل الْخِيَار لِأَنَّهُ فوض إِلَيْهَا الْخِيَار مرّة وَاحِدَة
وَكَذَلِكَ لَو قَالَ لَهَا أَمرك بِيَدِك إِن شِئْت
فَأَما إِذا قَالَ أَمرك بِيَدِك كلما شِئْت فَيكون الْأَمر فِي يَدهَا فِي ذَلِك الْمجْلس وَغَيره حَتَّى تبين بِثَلَاث لِأَن كلمة كلما تَقْتَضِي التّكْرَار لَكِنَّهَا لَا تطلق نَفسهَا فِي الْمجْلس إِلَّا مرّة وَاحِدَة كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا فِي كل مجْلِس أَمرك بِيَدِك فَمَا لم يَتَجَدَّد الْمجْلس لَا يَتَجَدَّد الْخِيَار

(2/188)


وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَهَا أَمرك بِيَدِك إِذا شِئْت أَو مَتى شِئْت أَو مَا شِئْت أَو مَتى مَا شِئْت فلهَا الْخِيَار فِي الْمجْلس وَغَيره كَأَنَّهُ قَالَ لَهَا اخْتَارِي فِي أَي وَقت شِئْت إِلَّا أَنه يكون لَهَا الْخِيَار مرّة لِأَن هَذِه الْأَلْفَاظ لَا توجب التّكْرَار
فَأَما إِذا كَانَ الْأَمر بِالْيَدِ موقتا بِأَن قَالَ أَمرك بِيَدِك يَوْمًا أَو شهرا أَو سنة أَو هَذَا الْيَوْم أَو هَذَا الشَّهْر أَو هَذِه السّنة فلهَا الْأَمر فِي جَمِيع ذَلِك الْوَقْت وإعراضها عَن الْجَواب فِي ذَلِك الْمجْلس وَغَيره واشتغالها بِغَيْر الْجَواب من الْأَعْمَال والأقوال لَا يبطل خِيَارهَا مَا بَقِي شَيْء من ذَلِك الْوَقْت لِأَنَّهُ فوض الطَّلَاق إِلَيْهَا فِي جَمِيع ذَلِك الْوَقْت غير أَنه إِذا كَانَ الْوَقْت مُنْكرا كَقَوْلِه يَوْمًا أَو شهرا فلهَا الْخِيَار من سَاعَته الَّتِي تكلم إِلَى أَن يتم الْوَقْت وَيكون الشَّهْر بِالْأَيَّامِ
فَأَما إِذا عين فَقَالَ هَذَا الْيَوْم أَو هَذَا الشَّهْر أَو هَذِه السّنة فلهَا الْخِيَار فِي بَقِيَّة الْيَوْم والشهر وَالسّنة
وَلَو لم تعلم بِالْوَقْتِ حَتَّى مضى يبطل خِيَارهَا وَلَا يتَوَقَّف ثُبُوت الْخِيَار على الْوَقْت الَّذِي علمت بِهِ لِأَنَّهُ أثبت الْخِيَار فِي زمَان مُقَدّر فينتهي بانتهاء الْوَقْت إِذْ لَو بَقِي لزاد على مِقْدَار الْوَقْت وَفِي الْأَمر بِالْيَدِ مُطلقًا يتَوَقَّف على مجْلِس الْعلم فَيشْتَرط علمهَا بذلك لِأَنَّهُ مَا قَيده بِالْوَقْتِ
وَلَو اخْتَارَتْ زَوجهَا فِي أول الشَّهْر أَو فِي أول السّنة ثمَّ أَرَادَت أَن تخْتَار نَفسهَا بعد ذَلِك فلهَا فِي ذَلِك قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد لِأَنَّهُ جعل إِلَيْهَا الْخِيَار فِي جَمِيع الْمدَّة واختيارها للزَّوْج فِي الْيَوْم إبِْطَال للخيار فِيهِ فَلَا يُوجب بطلَان الْخِيَار فِي يَوْم آخر فِي ذَلِك الْوَقْت كَمَا إِذا أَعرَضت عَن الْجَواب فِي يَوْم إِذا اشتغلت بِأُمُور كَثِيرَة فَيبْطل خِيَارهَا فِي ذَلِك الْيَوْم لَا فِي بَاقِي الْمدَّة كَذَا هَذَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يخرج الْأَمر من يَدهَا فِي الشَّهْر كُله لِأَن هَذَا

(2/189)


تمْلِيك وَاحِد فِي أشهر فَيبْطل برد وَاحِد كتمليك البيع
وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي قَوْله أَمرك بِيَدِك كلما شِئْت وَإِذا شِئْت وَمَتى شِئْت وَقَالُوا أَيْضا إِن الْخلاف على عكس هَذَا
وَأما الْفَصْل الثَّانِي إِذا قَالَ لَهَا اخْتَارِي فَنَقُول الْجَواب فِي هَذَا وَفِي قَوْله أَمرك بِيَدِك سَوَاء فِي جَمِيع الْأَحْكَام إِلَّا فِي موضِعين أَحدهمَا أَن الزَّوْج إِذا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاث لَا يَقع وَفِي قَوْله أَمرك بِيَدِك يَقع لِأَن ذَلِك من كنايات الطَّلَاق وَأما قَوْله اخْتَارِي فَلَيْسَ من أَلْفَاظ الطَّلَاق وَإِنَّمَا هُوَ تَفْوِيض الطَّلَاق بِلَفْظ لَا يَقْتَضِي التّكْرَار
وَالثَّانِي أَنه لَا بُد من ذكر النَّفس هَهُنَا فِي أحد الْكَلَامَيْنِ بِأَن يَقُول الزَّوْج اخْتَارِي نَفسك أَو قَالَت اخْتَرْت نَفسِي إِذا قَالَ الزَّوْج اخْتَارِي لَا غير
وَأما إِذا قَالَ اخْتَارِي فَقَالَت اخْتَرْت لَا يكون شَيْئا
وَكَذَلِكَ إِذا قرن بِالْخِيَارِ مَا يُوجب الِاخْتِصَاص بِاخْتِيَار الطَّلَاق فَهُوَ كَاف بِأَن قَالَ اخْتَارِي الطَّلَاق أَو اخْتَارِي اختيارة
ثمَّ الْمَرْأَة إِذا قَالَت اخْتَرْت نَفسِي أَو طلقت نَفسِي يكون جَوَابا
وَلَو قَالَت اخْتَرْت أُمِّي أَو أبي أَو أَهلِي أَو الْأزْوَاج فَالْقِيَاس أَن لَا يَقع بِهِ شَيْء وَفِي الِاسْتِحْسَان يَقع لِأَن الْمَرْأَة عِنْد الطَّلَاق تلْحق بهؤلاء فَصَارَ اخْتِيَارهَا لذَلِك دلَالَة اخْتِيَار الطَّلَاق كَأَنَّهَا قَالَت اخْتَرْت الطَّلَاق

(2/190)


الْفَصْل الثَّانِي إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن شِئْت فَالْجَوَاب فِيهِ مثل الْجَواب فِي أَمرك بِيَدِك فِي جَمِيع الْأَحْكَام إِن كَانَ مُطلقًا فعلى الْمجْلس وَإِن كَانَ مؤقتا فثابت فِي جَمِيع الْوَقْت كَمَا ذكرنَا فِي الْخِيَار
إِلَّا أَن هُنَا يَقع الطَّلَاق الرَّجْعِيّ وَثمّ يَقع بَائِنا إِلَّا إِذا قَالَ لَهَا أَمرك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَة أَو اخْتَارِي تَطْلِيقَة واختارت نَفسهَا يَقع رَجْعِيًا لِأَنَّهُ فوض إِلَيْهَا الرَّجْعِيّ
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن أردْت أَو رضيت أَو هويت أَو أَحْبَبْت فَإِذا قَالَت شِئْت أَو أردْت فِي الْمجْلس يَقع الطَّلَاق وَإِن كَانَ لَا يعرف مشيئتها حَقِيقَة لِأَن الحكم مُتَعَلق بالإخبار عَن الْمَشِيئَة والإرادة وَلِهَذَا إِذا قَالَ لَهَا إِن كنت تحبيني أَو تبغضيني فَأَنت طَالِق فَقَالَت أحبك وَفِي قَلبهَا بِخِلَافِهِ يَقع وَيعْتَبر الْخَبَر لَا حَقِيقَة الْمحبَّة
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ لَهَا إِن كنت تحبين أَن يعذبك الله بالنَّار أَو تكرهين دُخُول الْجنَّة فَأَنت طَالِق فَقَالَت إِنِّي أحب الْعَذَاب بالنَّار وأكره الْجنَّة وَقع الطَّلَاق لوُجُود الْخَبَر
وَلَو قَالَ إِن كنت تحبيني بقلبك فَأَنت طَالِق فَقَالَت أحبك وَفِي قَلبهَا بِخِلَافِهِ يَقع الطَّلَاق عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لما ذكرنَا وَعند مُحَمَّد لَا يَقع لِأَنَّهُ علقه بِحَقِيقَة فعل الْقلب وَلم يُوجد
وَأما الْفَصْل الرَّابِع إِذا قَالَ طَلِّقِي نَفسك فَالْجَوَاب فِيهِ مثل الأول لِأَن هَذَا تمْلِيك الطَّلَاق مِنْهَا بِخِلَاف مَا إِذا قَالَ لأجنبية طَلِّقِي امْرَأَتي حَيْثُ لَا يقْتَصر على الْمجْلس وَفِي قَوْله طَلِّقِي نَفسك يقْتَصر على الْمجْلس لِأَن ذَلِك تَوْكِيل وَفِي حق

(2/191)


الْمَرْأَة تمْلِيك إِلَّا أَن الْفرق أَن فِي قَوْله طَلِّقِي نَفسك إِذا أَرَادَ الزَّوْج الثَّلَاث يَقع ثَلَاث وَفِي قَوْله أَنْت طَالِق إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت إِذا أَرَادَ الثَّلَاث لَا يَقع
وَلَو قَالَ اخْتَارِي فَقَالَت طلقت يَقع
وَلَو قَالَ طَلِّقِي نَفسك فَقَالَت اخْتَرْت لَا يَقع لِأَن قَوْلهَا اخْتَرْت لَيْسَ من أَلْفَاظ الطَّلَاق أَلا ترى أَنَّهَا لَو قَالَت اخْتَرْت نَفسِي فَبلغ الزَّوْج وَأَجَازَ لَا يَقع بِهِ شَيْء
وَلَو قَالَت طلقت نَفسِي فَأجَاز الزَّوْج يَقع وَإِنَّمَا صَار جَوَابا لقَوْله اخْتَارِي وأمرك بِيَدِك بِالنَّصِّ وَالْإِجْمَاع بِخِلَاف الْقيَاس فاقتصر عَلَيْهِ
ثمَّ فِي هَذِه الْفُصُول إِذا أَرَادَ الزَّوْج أَن يعزلها وَيخرج الْأَمر من يَدهَا وَيرجع عَن ذَلِك لَا يَصح وَكَذَلِكَ لَو نهاها عَن ذَلِك لِأَن هَذَا تَفْوِيض الطَّلَاق وتمليك لَهُ وَالطَّلَاق لَا يحْتَمل الْفَسْخ فإيجابه كَذَلِك
وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ طَلِّقِي نَفسك أَو طَلِّقِي نَفسك إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت لَا يَقع شَيْء
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن شِئْت فَقَالَت شِئْت يَقع لِأَن ثمَّة أمرهَا بالتطليق وَلم يُوقع وَهنا علق الطَّلَاق بمشيئتها وَقد أَتَت بِالشّرطِ

(2/192)


بَاب الِاسْتِثْنَاء
وَغَيره فِي الْبَاب فُصُول مُخْتَلفَة الأول فصل الِاسْتِثْنَاء إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله فَإِن كَانَ مَوْصُولا لَا يَقع الطَّلَاق وَإِن كَانَ مَفْصُولًا يَقع سَوَاء قدم الِاسْتِثْنَاء على لفظ الطَّلَاق أَو أخر لِأَن قَوْله إِن شَاءَ الله تَعْلِيق الطَّلَاق بِمَشِيئَة الله وَإِنَّهَا لَا تعرف
ثمَّ الِاسْتِثْنَاء المفصول أَن يفصل الْمُتَكَلّم بَين الِاسْتِثْنَاء وَمَا قبله بسكوت أَو بِكَلَام آخر
فَإِذا انْقَطع الْكَلَام بالتنفس فَلَا عِبْرَة بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَلَو حرك لِسَانه بِالِاسْتِثْنَاءِ وأتى بِحُرُوفِهِ على الْوَجْه لكنه لم يسمع يكون اسْتثِْنَاء لِأَن هَذَا كَلَام وَلَيْسَ الشَّرْط هُوَ السماع أَلا ترى أَن الْأَصَم يَصح اسْتِثْنَاؤُهُ وَإِن لم يسمع هُوَ
وَلَو قدم الِاسْتِثْنَاء فَقَالَ إِن شَاءَ الله فَأَنت طَالِق يَصح اسْتِثْنَاؤُهُ بِالْإِجْمَاع
أما إِذا قَالَ إِن شَاءَ الله أَنْت طَالِق يَصح على قَول أبي حنيفَة

(2/193)


وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لَا يَصح هُوَ يَقُول هَذَا اسْتثِْنَاء مُنْقَطع وهما يَقُولَانِ إِن الْفَاء هَهُنَا مُضْمر بِدلَالَة الِاسْتِثْنَاء
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق إِن شَاءَ فلَان فَهُوَ مُعَلّق بمشيئته فَإِن شَاءَ فِي مجْلِس الْعلم يَقع
وَإِن علق بِمَشِيئَة من لَا تعلم مَشِيئَته من الْعباد مثل الْمَلَائِكَة وَالْجِنّ وَالشَّيَاطِين فَإِنَّهُ يَصح الِاسْتِثْنَاء حَتَّى لَا يَقع الطَّلَاق كَمَا إِذا قَالَ أَنْت طَالِق إِن شَاءَ الله لِأَنَّهُ لَا يعلم
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ يَصح الِاسْتِثْنَاء لِأَن هَذَا اسْتثِْنَاء الْبَعْض من الْجُمْلَة فَيكون تكلما بِالْبَاقِي
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق ثَلَاثًا إِلَّا ثَلَاثًا يَقع الثَّلَاث وَيبْطل الِاسْتِثْنَاء لِأَنَّهُ اسْتثْنى الْكل
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق عشرَة إِلَّا تسعا يَقع وَاحِدَة وَإِن قَالَ إِلَّا ثَمَانِيَة تقع ثِنْتَانِ
وَإِن قَالَ إِلَّا سبعا يَقع ثَلَاثًا وَكَذَا لَو نقص عَن السَّبع يكون ثَلَاثًا لِأَنَّهُ تكلم بِالْبَاقِي كَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق وَاحِدَة فَتَقَع وَاحِدَة أَو قَالَ أَنْت طَالِق سِتا فَيَقَع ثَلَاثًا
والفصل الآخر إِذا قَالَ أَنْت طَالِق نصف تَطْلِيقَة أَو ربع تَطْلِيقَة تقع وَاحِدَة لِأَن الطَّلَاق لَا يتَجَزَّأ فيتكامل
وَلَو قَالَ أَنْت طَالِق نصفا وَربع تَطْلِيقَة يَقع ثِنْتَانِ
وَلَو قَالَ نصف تَطْلِيقَة وربعها يَقع وَاحِدَة لِأَنَّهُ أضَاف إِلَى الأول
وَلَو قَالَ نصفك طَالِق أَو ربعك طَالِق يَصح لِأَن الْإِضَافَة

(2/194)


إِلَى الْجُزْء الشَّائِع كالإضافة إِلَى الْكل
وَالْحَاصِل أَنه إِذا أضَاف الطَّلَاق إِلَى جُزْء شَائِع أَو إِلَى جُزْء جَامع يَقع بِأَن كَانَ ذَلِك الْجُزْء يعبر بِهِ عَن جَمِيع الْبدن فِي الِاسْتِعْمَال نَحْو أَن يَقُول رَأسك طَالِق أَو فرجك أَو رقبتك أَو وَجهك
فَأَما إِذا أضَاف الطَّلَاق إِلَى جُزْء لَا يعبر بِهِ عَن جَمِيع الْبدن بِأَن قَالَ يدك أَو رجلك أَو ظهرك أَو بَطْنك طَالِق فَإِنَّهُ لَا يَقع عندنَا وَعند الشَّافِعِي يَقع وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
والفصل الآخر طَلَاق الْمُكْره صَحِيح عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وَكَذَلِكَ طَلَاق السَّكْرَان وَاقع سَوَاء سكر بِالْخمرِ أَو بالنبيذ
وعَلى أحد قولي الشَّافِعِي لَا يَقع وَهُوَ اخْتِيَار الطَّحَاوِيّ
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا شرب البنج أَو الدَّوَاء فَسَكِرَ وَزَالَ عقله فَطلق لَا يَقع
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ زَالَ الْعقل بِسَبَب هُوَ مَعْصِيّة لتلذذه بذلك فَيجْعَل قَائِما عُقُوبَة عَلَيْهِ بِخِلَاف شرب الدَّوَاء وَلِهَذَا قَالُوا إِن الْمُكْره على شرب الْخمر أَو الْمُضْطَر إِذا شرب فَسَكِرَ فَإِن طَلَاقه لَا يَقع لِأَن هَذَا لَيْسَ بِمَعْصِيَة وَبَعض الْمَشَايِخ قَالُوا يَقع لِأَنَّهُ حصل بِسَبَب لَهُ فِيهِ لَذَّة
وَعَن مُحَمَّد أَن من شرب النَّبِيذ فَلم يزل عقله فصدع وَزَالَ عقله بِسَبَب الصداع فَطلق امْرَأَته قَالَ لَا يَقع

(2/195)


وعَلى هَذَا طَلَاق الهازل وَطَلَاق الخاطىء وَاقع وَهُوَ أَن يُرِيد الرجل غير الطَّلَاق فَسبق على لِسَانه الطَّلَاق وَالْعتاق
وَذكر الْكَرْخِي أَن فِي الْعتاق عَن أبي حنيفَة رِوَايَتَيْنِ

فصل آخر لَا خلاف أَن تَنْجِيز الطَّلَاق
لَا يَصح إِلَّا فِي الْملك
فَأَما التَّعْلِيق فِي الْملك فَصَحِيح بِالْإِجْمَاع بِأَن قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق
وَأما التَّعْلِيق بِالْملكِ بِأَن قَالَ لأجنبية إِن تَزَوَّجتك فَأَنت طَالِق فَإِنَّهُ يَصح عندنَا وَعند الشَّافِعِي لَا يَصح وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ كل امْرَأَة أَتَزَوَّجهَا فَهِيَ طَالِق
وَقَالَ مَالك إِن عَم لَا يجوز وَإِن خص جَازَ
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن تَعْلِيق الطَّلَاق لَيْسَ بِطَلَاق للْحَال وَإِنَّمَا هُوَ إِيقَاع الطَّلَاق عِنْد وجود الشَّرْط وَملك النِّكَاح قَائِم فِي ذَلِك الْوَقْت فَيصح
ثمَّ إِذا علق الطَّلَاق فِي النِّكَاح ثمَّ وجد الشَّرْط فَإِن كَانَت مَنْكُوحَة يَقع الطَّلَاق وتنحل الْيَمين
وَإِن كَانَت مبانة وَهِي فِي الْعدة عِنْد الشَّرْط يَقع الطَّلَاق أَيْضا عندنَا لِأَن المبانة والمختلعة يلْحقهَا صَرِيح الطَّلَاق عندنَا
وَإِذا انْقَضتْ عدتهَا فَوجدَ الشَّرْط تنْحَل الْيَمين لَا إِلَى الْجَزَاء
وَلَو علق ثَلَاث تَطْلِيقَات فِي الْملك ثمَّ طَلقهَا ثَلَاثًا يبطل التَّعْلِيق عِنْد أَصْحَابنَا الثَّلَاثَة
وَعند زفر لَا يبطل حَتَّى لَو تزوجت بِزَوْج آخر وعادت إِلَيْهِ بعد إِصَابَة الزَّوْج الثَّانِي وطلاقه ثمَّ وجد الشَّرْط لَا يَقع شَيْء عندنَا خلافًا لَهُ

(2/196)


وَلَو طَلقهَا وَاحِدَة أَو اثْنَتَيْنِ فَتزوّجت بِزَوْج آخر فَوَطِئَهَا وعادت إِلَيْهِ فَوجدَ الشَّرْط فَإِنَّهُ يَقع ثَلَاث تَطْلِيقَات عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَعند مُحَمَّد يَقع بِقدر مَا بَقِي من الطَّلَاق الْمَمْلُوك بِالنِّكَاحِ الأول ولقب الْمَسْأَلَة أَن إِصَابَة الزَّوْج الثَّانِي هَل تهدم الطَّلقَة والطلقتين أم لَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

فصل آخر إِذا قَالَ لامْرَأَته أَنْت عَليّ حرَام
أَو قَالَ حرمتك على نَفسِي أَو أَنْت مُحرمَة عَليّ يرجع إِلَى نِيَّته فَإِن أَرَادَ بِهِ الطَّلَاق يَقع بَائِنا على مَا ذكرنَا
وَإِن نوى التَّحْرِيم وَلم ينْو الطَّلَاق أَو لم يكن لَهُ نِيَّة فَهُوَ يَمِين وَيصير موليا
وَإِن قَالَ أردْت بِهِ الْكَذِب فَلَيْسَ بِيَمِين فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَيصدق فِي ذَلِك لِأَن الْخَبَر مُحْتَمل وَلَكِن لَا يصدق فِي إبِْطَال الْيَمين فِي الْقَضَاء لِأَن هَذَا اللَّفْظ صَرِيح فِي الْيَمين شرعا
وَلَو نوى بالحرام الظِّهَار فَهُوَ ظِهَار عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَعند مُحَمَّد هُوَ إِيلَاء وَلَيْسَ بظهار
وَأما إِذا قَالَ ذَلِك فِي غير الْمَرْأَة من الطَّعَام وَالشرَاب وَكَلَام فلَان فَإِنَّهُ يكون يَمِينا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
ولقب الْمَسْأَلَة أَن تَحْرِيم الْحَلَال يَمِين أم لَا فَإِذا فعل شَيْئا مِمَّا حرمه قَلِيلا كَانَ أَو كثيرا يَحْنَث فِي يَمِينه
فَأَما إِذا قَالَ كل حل عَليّ حرَام أَو قَالَ حل الله عَليّ حرَام وَلَا نِيَّة لَهُ فَإِنَّهُ يَقع على الطَّعَام وَالشرَاب خَاصَّة لِأَن هَذَا لَا يُمكن الْعَمَل بِعُمُومِهِ لِأَنَّهُ لَا يُرَاد بِهِ فِي الْعرف التنفس وَفتح الْعَينَيْنِ والتحرك فَيَقَع

(2/197)


على الْحَلَال الْمُعْتَاد وَهُوَ الْأكل وَالشرب
فَإِن نوى مَعَ ذَلِك اللبَاس أَو امْرَأَته يَقع على الْأكل وَالشرب واللباس وَالْمَرْأَة فَأَي شَيْء فعل من ذَلِك وَحده يَحْنَث فِي يَمِينه وَيلْزمهُ الْكَفَّارَة لِأَن الطَّعَام وَالشرَاب دخلا بِحكم الْعَادة واللباس وَالْمَرْأَة بنيته وَاللَّفْظ صَالح لَهُ فَيصح
فَإِن نوى بقوله كل حل عَليّ شَيْئا بِعَيْنِه دون غَيره فَإِن نوى بِهِ الطَّعَام خَاصَّة أَو الشَّرَاب خَاصَّة أَو اللبَاس خَاصَّة أَو امْرَأَته خَاصَّة فَهُوَ على مَا نوى فِيمَا بَينه وَبَين الله تَعَالَى وَفِي الْقَضَاء لِأَن هَذَا يَقع على أخص الْخُصُوص لتعذر الْعَمَل بِعُمُومِهِ فَإِذا عين ذَلِك صَحَّ إِذْ التَّخْصِيص ترك الْعَمَل بِالْعُمُومِ وَهَذَا مَتْرُوك
ثمَّ فِي الْموضع الَّذِي يدْخل امْرَأَته وَالطَّعَام وَالشرَاب فِي قَوْله كل حل عَليّ حرَام وَنوى الطَّلَاق فِي امْرَأَته فَإِنَّهُ لَا يَحْنَث لِأَنَّهُ لَا يُمكن الْعَمَل بِعُمُومِهِ لِأَن هَذَا كَلَام وَاحِد لَا يتَنَاوَل الْيَمين وَالطَّلَاق جَمِيعًا
وَلَو قَالَ أَنْت عَليّ كالميتة وَالدَّم أَو كلحم الْخِنْزِير أَو كَالْخمرِ فَإِن أَرَادَ بِهِ الْكَذِب صدق لِأَنَّهُ لَيْسَ بِصَرِيح فِي الْيَمين بِخِلَاف قَوْله أَنْت عَليّ حرَام
وَإِن أَرَادَ بِهِ التَّحْرِيم فَهُوَ إِيلَاء
وَإِن نوى الطَّلَاق فَهُوَ كَقَوْلِه أَنْت عَليّ حرَام لِأَنَّهُ شبهها بالمحرم فَكَأَنَّهُ قَالَ أَنْت عَليّ حرَام وبمثله لَو قَالَ أَنْت عَليّ كَمَال فلَان وَنوى بِهِ الطَّلَاق لَا يَصح لِأَن عين المَال لَيْسَ بِحرَام

(2/198)


بَاب الْخلْع
الْخلْع طَلَاق عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي هُوَ فسخ فِي أحد الْقَوْلَيْنِ
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن من قَالَ لامْرَأَته خالعتك وَلم يذكر الْعِوَض وَنوى الطَّلَاق كَانَ طَلَاقا بَائِنا
وَلَو نوى الثَّلَاث صَحَّ لِأَنَّهُ من كنايات الطَّلَاق إِلَّا أَنه فِي عرف الشَّرْع عِنْد النَّاس صَار عبارَة عَن الطَّلَاق بعوض فَيصير حَقِيقَة عرفية حَتَّى ينْصَرف إِلَيْهِ مُطلق الْكَلَام حَتَّى إِن الرجل إِذا قَالَ لغيره اخلع امْرَأَتي فخلعها بِغَيْر عوض لَا يَصح وَيكون مَوْقُوفا على إجَازَة الزَّوْج فَإِن أجَاز يكون طَلَاقا بَائِنا
وَقَالُوا لَو قَالَ لامْرَأَته اخلعي نَفسك فَقَالَت خلعت نَفسِي بِأَلف دِرْهَم وقف على إجَازَة الزَّوْج
وَلِهَذَا قَالُوا إِن من قَالَ لامْرَأَته خالعتك على ألف دِرْهَم فَقبلت وَقَالَ الزَّوْج لم أنو بِهِ الطَّلَاق لم يصدق لِأَنَّهُ إِنَّمَا يكون كِنَايَة عِنْد خلوه عَن المَال فَلَا بُد من النِّيَّة فَأَما إِذا كَانَ على مَال فَلَا حَاجَة إِلَى النِّيَّة
ثمَّ الْخلْع على المَال يفْتَقر إِلَى الْإِيجَاب وَالْقَبُول حَتَّى تقع بِهِ الْفرْقَة وَيسْتَحق بِهِ الزَّوْج الْعِوَض عَلَيْهَا إِلَّا أَنه فِي جَانب الزَّوْج فِي معنى الْيَمين وَفِي جَانبهَا فِي معنى الْمُعَاوضَة حَتَّى إِن الزَّوْج إِذا قَالَ

(2/199)


خالعتك على ألف دِرْهَم لم يَصح رُجُوعه عَن ذَلِك وَلم يبطل بقيامه عَن الْمجْلس قبل قبُولهَا وَلم يقف على حضرتها الْمجْلس بل يجوز وَإِن كَانَت غَائِبَة فَإِذا بلغَهَا الْخَبَر فلهَا الْقبُول فِي مجلسها
وَيجوز أَن يعلق ذَلِك بِشَرْط أَو بِوَقْت فَيَقُول إِذا جَاءَ غَد فقد خالعتك على ألف دِرْهَم وَإِذا قدم زيد فقد خالعتك على ألف دِرْهَم وَالْقَبُول إِلَيْهَا بعد مَجِيء الْوَقْت وقدوم زيد فَإِن قبلت قبل ذَلِك لم يجز
فَأَما إِذا ابتدأت الْمَرْأَة فَقَالَت خالعت نَفسِي مِنْك بِأَلف دِرْهَم فَهُوَ بِمَنْزِلَة البيع فِي جَانبهَا حَتَّى يَصح مِنْهَا الرُّجُوع عَنهُ قبل قبُول الزَّوْج وَيبْطل بقيامها عَن الْمجْلس وبقيامه أَيْضا وَلَا يقف على غَائِب وَلَا يجوز تَعْلِيقه بِشَرْط وَلَا بِوَقْت كَالْبيع سَوَاء
وعَلى هَذَا الأَصْل قَالَ أَبُو حنيفَة إِذا خَالعهَا وشرطت لنَفسهَا الْخِيَار جَازَ خلافًا لَهما
وَإِذا ثَبت تَفْسِير الْخلْع شرعا فَنَقُول لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يخالعها على مثل الْعِوَض الَّذِي أخذت أَو أقل أَو أَكثر والنشوز وَالْكَرَاهَة من قبل الزَّوْج أَو من قبل الْمَرْأَة فَنَقُول إِن كَانَ النُّشُوز من جِهَة الزَّوْج فَلَا يحل لَهُ أَن يَأْخُذ شَيْئا مِنْهَا بل لَهُ أَن يطلقهَا بِلَا عوض لقَوْله تَعَالَى {وَإِن أردتم استبدال زوج مَكَان زوج وَآتَيْتُم إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئا}
وَإِن كَانَ النُّشُوز من جِهَتهَا يجوز لَهُ أَن يَأْخُذ مِنْهَا جَمِيع مَا اسْتحقَّت عَلَيْهِ بِالْعقدِ وَلَا تحل لَهُ الزِّيَادَة على ذَلِك فِي

(2/200)


ظَاهر الرِّوَايَة
وَفِي رِوَايَة يحل لَهُ أَخذ الزِّيَادَة وَهَذَا فِي حق الدّيانَة والتنزه فَأَما فِي الحكم فَإِذا تخالعا على الزِّيَادَة من الْمهْر فَإِنَّهُ يلْزم وتؤمر بِالْأَدَاءِ إِلَيْهِ
ثمَّ الْخلْع جَائِز بِكُل بدل يصلح مهْرا وَيلْزم الْمَرْأَة أَدَاؤُهُ إِلَى الزَّوْج
وَمَا ذكرنَا فِي الْمهْر أَن الزَّوْج فِيهِ بِالْخِيَارِ بَين أَن يُعْطي عينه أَو قِيمَته فَفِي الْخلْع الْمَرْأَة بِالْخِيَارِ كَمَا فِي العَبْد الْوسط وَنَحْوه
وكل مَا لَا يجوز أَن يكون مهْرا لِحُرْمَتِهِ كَالْخمرِ وَالْخِنْزِير وَالْميتَة وَالدَّم وَالْحر لَا يجوز أَن يكون بَدَلا فِي الْخلْع
لَكِن إِذا قبل الزَّوْج ذَلِك فِي الْخلْع تقع الْفرْقَة بَينهمَا وَلَا شَيْء على الْمَرْأَة من الْخلْع وَلَا يجب عَلَيْهَا أَن ترد من مهرهَا شَيْئا لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء لَا تصلح عوضا فِي حق الْمُسلمين وَالزَّوْج رَضِي بِمَا لَا قيمَة لَهُ والبضع فِي حَال الْخُرُوج عَن ملكه لَا قيمَة لَهُ حَتَّى تجب الْقيمَة فَلَا يرجع عَلَيْهَا بِشَيْء بِخِلَاف النِّكَاح فَإِن ثمَّة يجب مهر الْمثل لِأَن الْبضْع مُتَقَوّم فِي حَال الدُّخُول فِي ملك الزَّوْج
ثمَّ الطَّلَاق على المَال وَالْخلْع فِي الْأَحْكَام سَوَاء إِلَّا فِي فصل وَاحِد وَهُوَ أَن الْخلْع مَتى وَقع على عوض لَا قيمَة لَهُ لَا يجب الْعِوَض وَلَا قيمَة الْبضْع وَيكون الطَّلَاق بَائِنا لِأَن الْخلْع من كنايات الطَّلَاق وَأما الطَّلَاق بعوض لَا قيمَة لَهُ إِذا بَطل الْعِوَض فالطلاق يكون رَجْعِيًا لِأَن صَرِيح الطَّلَاق يكون رَجْعِيًا
وَإِنَّمَا ثبتَتْ الْبَيْنُونَة لأجل الْعِوَض فَإِذا بَطل الْعِوَض بَقِي مُجَرّد صَرِيح الطَّلَاق فَيكون رَجْعِيًا
وَلَو خلعها على حكمهَا أَو حكمه أَو حكم أَجْنَبِي فَنَقُول إِن الْخلْع على الحكم خلع بِتَسْمِيَة فَاسِدَة لما فِيهِ من الْجَهَالَة

(2/201)


الْفَاحِشَة والخطر فَيجب الرُّجُوع إِلَى مهرهَا الْمُسْتَحق بِالْعقدِ
ثمَّ إِن كَانَ الْخلْع على حكم الزَّوْج فَإِن حكم بِمِقْدَار الْمهْر أَو أقل أجبرت على التَّسْلِيم إِلَى الزَّوْج لِأَنَّهُ حكم بالمستحق أَو حط بعضه وَهُوَ يملك حط بعضه لكَونه حَقًا لَهُ وَإِن حكم بِأَكْثَرَ من الْمهْر لم يلْزمهَا الزِّيَادَة لِأَنَّهُ أوجب لنَفسِهِ أَكثر من الْمُسْتَحق بِالْعقدِ فَلَا يَصح إِلَّا بِرِضَاهَا
وَأما إِذا كَانَ الحكم إِلَيْهَا فَإِن حكمت بِمهْر الْمثل أَو أَكثر جَازَ وأجبر الزَّوْج على الْقبُول لِأَنَّهَا قَضَت بالمستحق أَو زَادَت عَلَيْهِ وَهِي تملك إِيفَاء الزِّيَادَة
وَإِن حكمت بِأَقَلّ من الْمهْر لم يجز إِلَّا بِرِضا الزَّوْج لِأَنَّهَا حطت بعض مَا عَلَيْهَا حَقًا لزوج وَهِي لَا تملك حط حق الْغَيْر
فَأَما إِذا كَانَ الحكم إِلَى أَجْنَبِي فَإِن حكم بِمهْر الْمثل جَازَ وَإِن حكم بِزِيَادَة أَو نُقْصَان لم تجز الزِّيَادَة إِلَّا بِرِضا الْمَرْأَة وَلَا يجوز النُّقْصَان إِلَّا بِرِضا الزَّوْج لِأَن الْأَجْنَبِيّ لَا يملك إِسْقَاط حق وَاحِد مِنْهُمَا

(2/202)


بَاب الْإِيلَاء
يحْتَاج فِي الْبَاب إِلَى تَفْسِير الْإِيلَاء لُغَة وَشرعا وَإِلَى بَيَان حكم الْبر فِي الْإِيلَاء وَإِلَى بَيَان الْفَيْء وَحكم الْحِنْث
أما الأول فالإيلاء فِي اللُّغَة الْيَمين وَفِي الشَّرْع عبارَة عَن الْيَمين على ترك الْوَطْء فِي الزَّوْجَة مُدَّة مَخْصُوصَة بِحَيْثُ لَا يُمكنهُ الْوَطْء إِلَّا بحنث يلْزمه بِسَبَب الْيَمين
وَقد كَانَ الْإِيلَاء طَلَاقا فِي الْجَاهِلِيَّة فَجعله الشَّرْع طَلَاقا مُعَلّقا بترك وَطْء الزَّوْجَة مُدَّة مَخْصُوصَة كَأَن الزَّوْج قَالَ لامْرَأَته الْحرَّة إِن لم أقْربك أَرْبَعَة أشهر فَأَنت طَالِق بَائِن ولامرأته الْأمة إِن لم أقْربك شَهْرَيْن فَأَنت طَالِق بَائِن
وركن الْإِيلَاء شرعا هُوَ اللَّفْظ الدَّال على ترك الْوَطْء فِي عرف الشَّرْع مؤكدا بِالْيَمِينِ وَهُوَ قَوْله وَالله لَا أقْربك أَو لَا أطأك أَو لَفْظَة المباضعة والمناكحة والإتيان والإصابة وَنَحْوهَا
فَإِن كَانَ اللَّفْظ مُسْتَعْملا فِي الْوَطْء فَلَا يحْتَاج إِلَى النِّيَّة
وَلَو أَتَى بِلَفْظ مُحْتَمل يحْتَاج فِيهِ إِلَى نِيَّة الزَّوْج ترك الْوَطْء بذلك

(2/203)


فَأَما الْمدَّة فَهِيَ أَرْبَعَة أشهر فِي حق الْحرَّة وشهران فِي حق الْأمة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي الْمدَّة فِي حَقّهمَا سَوَاء وَهِي زِيَادَة على أَرْبَعَة أشهر
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لقَوْله تَعَالَى {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر} فَلَا تجوز الزِّيَادَة على الْمدَّة المنصوصة
وَأما تَفْسِير الْيَمين فَهِيَ الْيَمين بِاللَّه وبصفاته على مَا نذْكر فِي كتاب الْإِيمَان أَو الْيَمين بِالشّرطِ وَالْجَزَاء وَذَلِكَ نَوْعَانِ مَا يكون بِهِ موليا وَمَا لَا يكون بِهِ موليا
أما الَّذِي يكون بِهِ موليا فَأن يَقُول إِن قربتك فَعَبْدي حر أَو امْرَأَتي طَالِق أَو هِيَ عَليّ كَظهر أُمِّي أَو عَليّ صَدَقَة أَو حج الْبَيْت أَو صِيَام سنة وَنَحْو ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يتَوَصَّل إِلَى الْوَطْء فِي هَذِه الْمدَّة إِلَّا بِشَيْء يلْزمه بِحكم الْيَمين كَمَا يلْزمه الْكَفَّارَة بِسَبَب الْيَمين بِاللَّه
وَلَو قَالَ إِن قربتك فعلي أَن أُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ أَو عَليّ أَن أغزو لم يكن موليا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَيكون موليا عِنْد مُحَمَّد وَزفر
وَلَو قَالَ الرجل لامْرَأَته أَنا مِنْك مولى فَإِن عَنى بِهِ الْخَبَر كذبا فَلَيْسَ بمولي فِيمَا بَينه وَبَين الله لِأَنَّهُ لفظ لَفْظَة الْخَبَر وَلَا يصدق فِي الْقَضَاء لِأَنَّهُ خلاف الظَّاهِر لِأَن هَذَا إِيجَاب فِي الشَّرْع وَإِن عَنى بِهِ الْإِيجَاب فَهُوَ مولي فِي الْقَضَاء وَفِيمَا بَينه وَبَين الله لِأَنَّهُ أوجب الْإِيلَاء بِهَذَا اللَّفْظ
وَلَو قَالَ لامْرَأَته أَنْت عَليّ مثل امْرَأَة فلَان وَقد كَانَ فلَان آلى من امْرَأَته فَإِن نوى بِهِ الْإِيلَاء كَانَ موليا لِأَنَّهُ شبهها بهَا فِي بَاب الْيَمين

(2/204)


والتشبيه يَقْتَضِي الْمُسَاوَاة فِيمَا شبه بِهِ وَإِن لم ينْو الْيَمين وَلَا التَّحْرِيم لَا يكون موليا لِأَنَّهُ قصد التَّشْبِيه من وَجه
وَأما بَيَان حكم الْبر فَهُوَ وُقُوع الطَّلَاق الْبَائِن بِسَبَب الْإِصْرَار على مُوجب هَذَا الْيَمين وَهُوَ الِامْتِنَاع عَن الْوَطْء أَرْبَعَة أشهر بِحَيْثُ لَا يتَوَصَّل إِلَيْهِ إِلَّا بحنث يلْزمه فَيكون مؤكدا لَهُ فِي الِامْتِنَاع خوفًا عَن لُزُوم الْحِنْث
وَفِي الْوَطْء حق الْمَرْأَة فَصَارَ الزَّوْج ظَالِما لمنع حَقّهَا الْمُسْتَحق فالشرع جعل الِامْتِنَاع عَن إِيفَاء حَقّهَا الْمُسْتَحق لَهَا فِي هَذِه الْمدَّة سَببا للبينونة تخليصا لَهَا من حبالته لتتوصل إِلَى حَقّهَا من جِهَة غَيره وَهَذَا معنى قَوْله تَعَالَى {وَإِن عزموا الطَّلَاق فَإِن الله سميع عليم} فَسَماهُ عَزِيمَة الطَّلَاق وَهُوَ فعل الزَّوْج فَيصير الزَّوْج بالإصرار على مُوجب هَذَا الْيَمين مُعَلّقا طَلَاقا بَائِنا بترك الْوَطْء أَرْبَعَة أشهر بعد الْيَمين أبدا كَأَنَّهُ قَالَ أَنْت طَالِق بَائِن عِنْد مُضِيّ كل أَرْبَعَة أشهر لَا أقْربك فِيهَا أَو إِن لم أقْربك كل أَرْبَعَة أشهر مَا بَقِي الْيَمين فَأَنت طَالِق بَائِن
إِذا ثَبت هَذَا فَإِذا مَضَت أَرْبَعَة أشهر من وَقت الْيَمين وَلم يقربهَا تقع تَطْلِيقَة بَائِنَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يُخَيّر الزَّوْج بَين أَن يَطَأهَا وَبَين أَن يطلقهَا فَإِن لم يفعل يفرق القَاضِي بَينهمَا
فَإِذا وَقعت تَطْلِيقَة بَائِنَة بِمُضِيِّ أَرْبَعَة أشهر ثمَّ مَضَت أَرْبَعَة أشهر أُخْرَى وَهِي فِي الْعدة لم يَقع الطَّلَاق لِأَنَّهَا بَائِنَة فَلَا تسْتَحقّ الْوَطْء على الزَّوْج فَلَا يكون الِامْتِنَاع عَن الْوَطْء فِي هَذِه الْحَالة ظلما وَبِهَذَا الْوَصْف صَار الْإِصْرَار على مُوجب الْبر وَهُوَ ترك الْوَطْء سَببا للفرقة

(2/205)


فَإِن تزَوجهَا عِنْد مُضِيّ الْأَرْبَعَة الْأَشْهر ثمَّ مَضَت أَرْبَعَة أشهر مُنْذُ تزوج وَلم يقربهَا بَانَتْ بِأُخْرَى
وَكَذَلِكَ إِذا تزَوجهَا ثَالِثَة لِأَن بِالتَّزْوِيجِ عَاد حَقّهَا فِي الْوَطْء وَالْيَمِين بَاقِيَة لِأَنَّهَا تنْحَل بِالْحِنْثِ وَهُوَ الْوَطْء
أما زَوَال الْملك فَلَا يبطل الْيَمين فَيكون ترك الْفَيْء ظلما فَيكون سَببا للفرقة فَإِن تزَوجهَا بعد وُقُوع ثَلَاث تَطْلِيقَات فمضت أَرْبَعَة أشهر لم يَطَأهَا لم يَقع عَلَيْهَا شَيْء عندنَا خلافًا لزفَر لِأَنَّهُ زَالَ حل الْمَحَلِّيَّة فَيبْطل الْيَمين
وَلَو آلى مِنْهَا ثمَّ أَبَانهَا فمضت أَرْبَعَة أشهر لم يَطَأهَا وَهِي فِي الْعدة وَقعت أُخْرَى بالإيلاء لِأَن ابْتِدَاء الْإِيلَاء قد انْعَقَد مُوجبا للطَّلَاق لوُجُوده فِي الْملك فَإِذا أَبَانهَا فالبينونة تلحقها بِعقد سَابق وَإِن كَانَ لَا يلْحقهَا ابْتِدَاء عندنَا خلافًا ل زفر فَإِن من قَالَ لامْرَأَته إِن دخلت الدَّار فَأَنت طَالِق بَائِن ثمَّ أَبَانهَا ثمَّ دخلت الدَّار وَهِي فِي الْعدة فَإِنَّهُ يَقع بَائِنا لما قُلْنَا
وَأما تَفْسِير الْفَيْء وَحكم الْحِنْث فَنَقُول الْفَيْء هُوَ الْوَطْء فِي مُدَّة الْإِيلَاء مَعَ الْقُدْرَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي الْوَطْء بعد الْمدَّة
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن الله تَعَالَى قَالَ {للَّذين يؤلون من نِسَائِهِم تربص أَرْبَعَة أشهر فَإِن فاؤوا} وَفِي قِرَاءَة عبد الله بن مَسْعُود فَإِن فاؤوا فِيهِنَّ وَإِنَّمَا سمى الْوَطْء فَيْئا لِأَن الْفَيْء فِي اللُّغَة هُوَ الرُّجُوع يُقَال فَاء الظل إِذا رَجَعَ والمولي قصد بالإيلاء منع حَقّهَا فِي الْوَطْء فَيكون الْوَطْء رُجُوعا عَمَّا قَصده فَسُمي فَيْئا

(2/206)


ثمَّ الْفَيْء على ضَرْبَيْنِ أَحدهمَا هُوَ الأَصْل وَهُوَ الْفَيْء بِالْوَطْءِ مَعَ الْقُدْرَة
وَالْآخر بدل عَن الأول وَهُوَ الْفَيْء بالْقَوْل عِنْد الْعَجز عَن الْوَطْء
فَفِي حق الْقَادِر لَا يكون فَيْئا إِلَّا بِالْوَطْءِ لِأَنَّهُ هُوَ الأَصْل وَفِي الْحَقِيقَة هُوَ الرُّجُوع لِأَن بِهِ ينْدَفع الظُّلم ويصل الْحق إِلَى الْمُسْتَحق فَمَا لم يوف حَقّهَا لَا يسْقط حكم الْإِيلَاء وَفِي حق الْعَاجِز صَار الْفَيْء بالْقَوْل قَائِما مقَام الْوَطْء وَهُوَ أَن يَقُول للْمَرْأَة إِنِّي فئت إِلَيْك أَو رَاجَعتك أَو أبطلت الْإِيلَاء وَيحسن إِلَيْهَا بالْقَوْل بَدَلا عَن الْإِحْسَان بِالْفِعْلِ فَيكون رُجُوعا عَمَّا عزم عَلَيْهِ بالْقَوْل ثمَّ الْعَجز نَوْعَانِ أَحدهمَا من طَرِيق الْمُشَاهدَة كالمرض الَّذِي لَا يُمكن مَعَه الْجِمَاع من الْجَانِبَيْنِ أَو تكون الْمَرْأَة صَغِيرَة أَو يكون بَينهمَا مَسَافَة لَا يقدر على قطعهَا فِي مُدَّة الْإِيلَاء أَو تكون الْمَرْأَة نَاشِزَة محتجبة عَنهُ فِي مَكَان لَا يعرفهُ أَو تكون محبوسة لَا يُمكنهُ أَن يدْخل عَلَيْهَا وَيمْنَع عَن ذَلِك وَنَحْو ذَلِك
وَأما الْعَجز من طَرِيق الحكم فَمثل أَن يكون محرما أَو صَائِما فِي رَمَضَان
لَكِن الْعَجز الْمُعْتَبر فِي حق نقل الْفَيْء من الْوَطْء إِلَى القَوْل هُوَ الْعَجز الْحسي دون الْحكمِي عندنَا
وَعند زفر هُوَ مُعْتَبر أَيْضا وقاس على الْخلْوَة أَن ثمَّ يعْتَبر الْمَانِع الْحسي والحكمي جَمِيعًا

(2/207)


وَلَكنَّا نقُول هُوَ قَادر على الْوَطْء حَقِيقَة فَيصير ظَالِما بِمَنْع الْحق وَحقّ الْعباد لَا يسْقط لأجل حق الله فِي الْجُمْلَة
فَإِذا أَتَى بالفيء من حَيْثُ القَوْل سقط حكم الْإِيلَاء إِلَى وَقت الْقُدْرَة
ثمَّ من شَرط صِحَة الْفَيْء بالْقَوْل عِنْد الْعَجز عَن الْوَطْء حسا ومشاهدة شَيْئَانِ أَحدهمَا أَن يكون الْعَجز مستداما من وَقت الْإِيلَاء إِلَى تَمام الْمدَّة وَهُوَ أَرْبَعَة أشهر حَتَّى إِنَّه إِذا قدر على الْوَطْء قبل تَمام الْمدَّة بِظِل الْفَيْء بالْقَوْل وانتقل إِلَى الْفَيْء بِالْجِمَاعِ حَتَّى لَو ترك الْوَطْء إِلَى تَمام الْمدَّة فَإِنَّهَا تبين وَأما إِذا تمت الْمدَّة ثمَّ قدر فَإِن الْفَيْء بالْقَوْل صَحِيح فِي حق الْمدَّة الْمَاضِيَة وَهَذَا لما ذكرنَا أَنه بدل وَالْقُدْرَة على الأَصْل قبل حُصُول الْمَقْصُود بِالْبَدَلِ تبطل حكمه وَبعد حُصُول الْمَقْصُود لَا يبطل كالمصلي بِالتَّيَمُّمِ إِذا رأى المَاء فِي وسط الصَّلَاة تبطل صلَاته وَلَو كَانَ رأى بعد الْفَرَاغ لَا تبطل الصَّلَاة المؤداة كَذَا هَذَا
وَالشّرط الثَّانِي أَن يُوجد الْفَيْء بالْقَوْل فِي حَال يحل لَهُ الْوَطْء بِأَن كَانَت زَوْجَة لَهُ
فَأَما إِذا أَبَانهَا ثمَّ فَاء إِلَيْهَا بِاللِّسَانِ فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَنَّهُ بدل فَيصح فِي حَال يَصح الأَصْل
وَلِهَذَا قَالُوا إِن من آلى وَهُوَ صَحِيح مِقْدَار مَا يُمكن الْجِمَاع فِيهِ ثمَّ مرض ففيئه بِالْجِمَاعِ لِأَنَّهُ هُوَ الَّذِي فرط فِي إِيفَاء حَقّهَا فَلَا يعْذر بِخِلَاف الْمَرِيض إِذا آلى من امْرَأَته
وَلَو آلى وَهُوَ مَرِيض فَلم يفىء بالْقَوْل حَتَّى مَضَت الْمدَّة فَبَانَت ثمَّ صَحَّ ثمَّ تزَوجهَا وَهُوَ مَرِيض ففاء إِلَيْهَا بِلِسَانِهِ فَإِنَّهُ

(2/208)


يَصح عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد لَا يَصح وَمَا قَالَه أَبُو يُوسُف أصح لِأَن الْإِيلَاء حصل وَهُوَ مَرِيض وَعَاد حكمه وَهُوَ مَرِيض وَفِي زمَان الصِّحَّة بَين المدتين هِيَ بَائِنَة لَا تسْتَحقّ الْوَطْء فَلَا يعود حكم الْإِيلَاء
وَأما حكم الْحِنْث فِي الْيَمين بِاللَّه تَعَالَى فَهُوَ الْكَفَّارَة
وَفِي الْيَمين بِالشّرطِ وَالْجَزَاء يلْزمه مَا هُوَ جَزَاؤُهُ من الطَّلَاق وَالْعتاق وَالظِّهَار وَنَحْوهَا
هَذَا الَّذِي ذكرنَا فِي حق الْمُسلم وَأما الذِّمِّيّ إِذا آلى من امْرَأَته فَإِن حلف بِطَلَاق أَو عتاق يكون موليا بالِاتِّفَاقِ
وَإِذا حلف بِمَا هُوَ قربَة كالصدقة وَالصِّيَام فَلَيْسَ بمول بالِاتِّفَاقِ
فَأَما إِذا حلف باسم من أَسمَاء الله أَو بصفاته فَهُوَ مول عِنْد أبي حنيفَة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يكون موليا
وَإِذا صَحَّ إِيلَاء الذِّمِّيّ فَهُوَ فِي أَحْكَامه كَالْمُسلمِ إِلَّا أَنه إِذا وطىء فِي الْيَمين بِاللَّه لَا يلْزمه الْكَفَّارَة لِأَنَّهَا عبَادَة وَهُوَ لَيْسَ من أَهلهَا
فَأَما إِذا آلى أَو ظَاهر ثمَّ رَجَعَ عَن الْإِسْلَام وَلحق بدار الْحَرْب ثمَّ رَجَعَ مُسلما وَتَزَوجهَا فَهُوَ مول وَمظَاهر عِنْد أبي حنيفَة فِي رِوَايَة مُحَمَّد وَقَالَ أَبُو يُوسُف يسْقط الظِّهَار وَالْإِيلَاء وَهَذَا يعرف فِي الخلافيات وَاخْتلفت رِوَايَة أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة

(2/209)


بَاب الظِّهَار
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان ركن الظِّهَار شرعا وَإِلَى بَيَان شَرَائِطه وَإِلَى بَيَان حكمه وَإِلَى تَفْسِير الْكَفَّارَة
أما ركن الظِّهَار شرعا فَنَقُول أَن يَقُول الرجل لزوجته أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي فَيَقَع بِهِ الظِّهَار نوى أَو لم ينْو لِأَنَّهُ صَرِيح فِي بَابه
وَكَذَا إِذا نوى بِهِ تَحْرِيم الطَّلَاق أَو تَحْرِيم الْيَمين لَا يَصح لما قُلْنَا إِنَّه صَرِيح فِي الظِّهَار فَإِذا نوى غَيره لَا يَصح
وَلَو قَالَ أردْت بِهِ الْخَبَر عَن الْمَاضِي كَاذِبًا لَا يصدق فِي الْقَضَاء وَيصدق فِيمَا بَينه وَبَين الله
وَكَذَا إِذا أضَاف الظِّهَار إِلَى جُزْء شَائِع أَو جَامع من امْرَأَته
وَلَو أضَاف إِلَى جُزْء معِين غير جَامع وَلَا شَائِع لَا يجوز كَالطَّلَاقِ

(2/211)


وَلَو شبه امْرَأَته بعضو من أمه غير الظّهْر فَإِن كَانَ لَا يجوز النّظر إِلَيْهِ فَهُوَ ظِهَار نَحْو الْبَطن والفخذ والفرج
وَلَو شبه امْرَأَته بذوات الْمَحَارِم غير الْأُم إِن كَانَت الْحُرْمَة على التَّأْبِيد بِنسَب أَو رضَاع أَو مصاهرة فَإِنَّهُ يكون ظِهَارًا
وَلَو شبه امْرَأَته بِامْرَأَة مُحرمَة عَلَيْهِ فِي الْحَال وَهِي مِمَّن تحل لَهُ فِي حَالَة أُخْرَى مثل أُخْت امْرَأَته وَمثل امْرَأَة لَهَا زوج أَو مَجُوسِيَّة أَو مرتدة لم يكن مُظَاهرا لِأَن النَّص ورد فِي الْأُم وَهِي مُحرمَة على التَّأْبِيد
وَأما شَرَائِط صِحَة الظِّهَار فَنَقُول مِنْهَا أَن يكون الْمظَاهر مُسلما عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَيْسَ بِشَرْط
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن حكمه هُوَ الْحُرْمَة المؤقتة بِالْكَفَّارَةِ وَهِي عبَادَة وَالْكَافِر لَيْسَ من أَهلهَا وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَمِنْهَا أَن تكون الْمَرْأَة محللة بِالنِّكَاحِ لَا بِملك الْيَمين حَتَّى لَو ظَاهر من أمته أَو مدبرته أَو أم وَلَده لَا يَصح لِأَنَّهُ حكم ثَبت بِخِلَاف الْقيَاس بِالنَّصِّ وَقد ورد فِي حق الزَّوْجَة بقوله تَعَالَى {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم} فَلَا يُقَاس عَلَيْهَا غَيرهَا
وَلَو ظَاهر من المختلعة والمبانة لَا يَصح وَإِن كَانَ يلْحقهَا صَرِيح الطَّلَاق لِأَنَّهَا لَيست بمحللة بِالنِّكَاحِ
وَإِن بَقِي النِّكَاح من وَجه
وَأما حكمه فَهُوَ تَحْرِيم الِاسْتِمْتَاع بهَا من الْوَطْء ودواعيه مؤقتا إِلَى وجود التَّكْفِير مَعَ بَقَاء ملك النِّكَاح لما رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ للمظاهر الَّذِي وَاقع امْرَأَته اسْتغْفر الله وَلَا تعد حَتَّى تكفر

(2/212)


وَيجب على الْمَرْأَة أَن تمنع الزَّوْج عَن الِاسْتِمْتَاع بهَا حَتَّى يكفر
وللمرأة أَن تطالب الزَّوْج بِالْوَطْءِ عِنْد الْحَاكِم وعَلى الْحَاكِم أَن يجْبرهُ حَتَّى يكفر ويطأ لِأَنَّهُ أضرّ بهَا فِي الِامْتِنَاع عَن الْوَطْء مَعَ قيام الْملك وَفِي وَسعه إِزَالَته بالتكفير
ثمَّ هَذِه الْحُرْمَة لَا تَزُول بِسَبَب من أَسبَاب الْإِبَاحَة مَا لم تُوجد الْكَفَّارَة لَا بِالنِّكَاحِ وَلَا بِملك الْيَمين وَلَا بِإِصَابَة الزَّوْج الثَّانِي حَتَّى أَن الْمظَاهر إِذا طَلقهَا طَلَاقا بَائِنا وَانْقَضَت عدتهَا ثمَّ تزَوجهَا لَا يحل لَهُ وَطْؤُهَا مَا لم يكفر
وَكَذَلِكَ لَو كَانَت الزَّوْجَة أمة الْغَيْر فَظَاهر مِنْهَا ثمَّ اشْتَرَاهَا حَتَّى بَطل النِّكَاح لم يحل لَهُ أَن يَطَأهَا بِملك الْيَمين حَتَّى يكفر
وَكَذَلِكَ لَو كَانَت حرَّة فارتدت عَن الْإِسْلَام وَلَحِقت بدار الْحَرْب فسبيت واشتراها
وَكَذَلِكَ لَو طَلقهَا ثَلَاثًا وَتَزَوَّجت بِزَوْج آخر ثمَّ عَادَتْ إِلَيْهِ بِالنِّكَاحِ لَا تحل لَهُ حَتَّى يكفر وَإِن صَحَّ النِّكَاح
وَلَو كفر بعد مَا أَبَانهَا أَو طَلقهَا ثَلَاثًا صَحَّ التَّكْفِير حَتَّى لَو تزَوجهَا حل لَهُ وَطْؤُهَا لِأَن صِحَة التَّكْفِير لَا تعتمد قيام الْملك
وَإِن كَانَ الظِّهَار مؤقتا إِلَى وَقت بِأَن قَالَ أَنْت عَليّ كَظهر أُمِّي يَوْمًا أَو شهر أَو سنة ثمَّ مضى الْوَقْت سقط الظِّهَار عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَن الشَّرْع جعل التَّكْفِير مزيلا للظهار المؤبد أَو الْمُطلق حَتَّى تَنْتَهِي الْحُرْمَة والمؤقت يَنْتَهِي بِمُضِيِّ الْوَقْت
وَلَو قَالَ أَنْت عَليّ كأمي فَأَنَّهُ يرجع إِلَى نِيَّته عِنْد أبي حنيفَة إِن أَرَادَ الْإِكْرَام لَا يكون ظِهَارًا وَإِن أَرَادَ الطَّلَاق أَو الظِّهَار فَهُوَ كَمَا نوى وَإِن أَرَادَ التَّحْرِيم فَهُوَ إِيلَاء
وَقَالَ مُحَمَّد هُوَ ظِهَار
وَقَالَ أَبُو

(2/213)


يُوسُف هُوَ إِيلَاء
وَلَو قَالَ أَنْت عَليّ حرَام كأمي حمل على نِيَّته فَإِن لم يكن لَهُ نِيَّة كَانَ ظِهَارًا لِأَن حرف التَّشْبِيه يخْتَص بالظهار
وَأما بَيَان الْكَفَّارَة فَنَقُول الْكَفَّارَة لَا تجب إِلَّا عِنْد وجود الظِّهَار وَالْعود قَالَ الله تَعَالَى {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم ثمَّ يعودون لما قَالُوا فَتَحْرِير رَقَبَة من قبل أَن يتماسا} وَفِيه كَلَام أَن سَبَب الْوُجُوب كِلَاهُمَا أَو أَحدهمَا أَو غَيرهمَا
وَالْعود عندنَا هُوَ الْعَزْم على وَطئهَا بعد الظِّهَار
وَقَالَ الشَّافِعِي الْعود أَن يسكت الْمظَاهر عَن طَلاقهَا عقيب الظِّهَار
وَقَالَ أَصْحَاب الظَّوَاهِر الْعود أَن يُكَرر لفظ الظِّهَار
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ بالظهار حرم وَطأهَا على نَفسه فَمَتَى عزم على وَطئهَا فقد قصد الرُّجُوع عَن الأول وَالْعود هُوَ الرُّجُوع فيسمى عودا
ثمَّ الْكَفَّارَة تجب على التَّرْتِيب الْإِعْتَاق عِنْد الْقُدْرَة ثمَّ صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين عِنْد الْعَجز عَن الْإِعْتَاق ثمَّ إطْعَام سِتِّينَ مِسْكينا عِنْد الْعَجز عَن الصَّوْم
عرف ذَلِك بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله {وَالَّذين يظاهرون من نِسَائِهِم}
وَإِنَّمَا يكفر قبل الْوَطْء لقَوْله تَعَالَى {من قبل أَن يتماسا}

(2/214)


فَإِن وطىء قبل أَن يكفر فقد بَاشر وطئا حَرَامًا فَعَلَيهِ أَن يسْتَغْفر الله تَعَالَى وَلَا يطَأ حَتَّى يكفر
وَلَو أعتق بعض رَقَبَة عَن كَفَّارَته ثمَّ وطىء ثمَّ أعتق مَا بَقِي مِنْهَا لم يجزه وَعَلِيهِ أَن يسْتَقْبل إِعْتَاق رَقَبَة عِنْد أبي حنيفَة لِأَن الْإِعْتَاق عِنْده مِمَّا يتَجَزَّأ فَيكون معتقا بعضه بعد الْوَطْء وَبَعضه قبل الْوَطْء وَالله تَعَالَى أَمر بِإِعْتَاق رَقَبَة كَامِلَة قبل الْمَسِيس
وعَلى قَوْلهمَا صَحَّ لِأَن عِنْدهمَا الْإِعْتَاق لَا يتَجَزَّأ فإعتاق الْبَعْض إِعْتَاق الْكل
وَلَو جَامع الْمظَاهر فِي خلال الصَّوْم جماعا يفْسد الصَّوْم فَإِنَّهُ يسْتَقْبل الصَّوْم بِالْإِجْمَاع لِأَن الْوَاجِب عَلَيْهِ صِيَام شَهْرَيْن مُتَتَابعين قبل الْمَسِيس مَعَ الْإِمْكَان وَلم يُوجد
وَلَو جَامع فِي الشَّهْرَيْنِ لَيْلًا أَو نَهَارا نَاسِيا لصومه اسْتقْبل عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف يمْضِي على صِيَامه وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو جَامع فِي خلال الْإِطْعَام لم يلْزمه الِاسْتِقْبَال بِالْإِجْمَاع لِأَن الله تَعَالَى لم يذكر فِي الْإِطْعَام ترك الْمَسِيس لَكِن يمْنَع عَن الْوَطْء قبل الْفَرَاغ من الْإِطْعَام لجَوَاز أَن يقدر على الصَّوْم أَو الْعتْق فَتبين أَن الْوَطْء كَانَ حَرَامًا
وَلَو كفر بِالْإِعْتَاقِ يعْتق رَقَبَة كَامِلَة للذات وَالرّق على مَا نبين فِي كتاب الْإِيمَان
وَلَو كفر بِالْإِطْعَامِ أطْعم سِتِّينَ مِسْكينا كل مِسْكين نصف صَاع من بر أَو دَقِيق أَو سويق أَو صَاعا من تمر أَو شعير كَمَا ذكرنَا فِي صَدَقَة الْفطر وَحكمه حكم ذَلِك

(2/215)


بَاب اللّعان
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة اللّعان وماهيته وَإِلَى بَيَان سَبَب وجوب اللّعان وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الْوُجُوب وَإِلَى بَيَان كَيْفيَّة اللّعان وَإِلَى بَيَان حكمه
أما الأول فَنَقُول اللّعان مَشْرُوع بَين الزَّوْجَيْنِ
وَهُوَ شَهَادَات مؤكدات بِالْإِيمَان عندنَا وَعند الشَّافِعِي أَيْمَان مؤكدات بِالشَّهَادَةِ
وَيكون قَائِما مقَام حد الْقَذْف فِي جَانب الرجل وَقَائِمًا مقَام حد الزِّنَا فِي جَانب الْمَرْأَة وَلِهَذَا قُلْنَا لَا يثبت بِالشَّهَادَةِ على الشَّهَادَة وَلَا بِشَهَادَة النِّسَاء مَعَ الرِّجَال وَلَا بِكِتَاب القَاضِي إِلَى القَاضِي
وَكَذَلِكَ إِذا وطِئت مُحصنَة بِالشُّبْهَةِ فقذفها زَوجهَا لم يجب اللّعان كَمَا لَو قَذفهَا أَجْنَبِي لَا يجب حد الْقَذْف فَسقط اللّعان بِالشُّبْهَةِ كالحد

(2/217)


وأصل ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يرْمونَ أَزوَاجهم}
وَأما بَيَان سَبَب الْوُجُوب فَنَقُول سَبَب وجوب اللّعان بَين الزَّوْجَيْنِ هُوَ الْقَذْف الصَّحِيح عِنْد وجود شَرَائِطه من الزَّوْج
ونعني بِالْقَذْفِ الصَّحِيح مَا يكون مُوجبا للحد فِي حق الْأَجْنَبِيّ بِأَن كَانَ عَاقِلا بَالغا وَالْمَرْأَة عَاقِلَة بَالِغَة لِأَن الْقَذْف من الصَّغِير وَالْمَجْنُون لَيْسَ بِمُوجب للحد لعدم الْجِنَايَة
وَكَذَلِكَ قذف الصَّغِيرَة والمجنونة بِالزِّنَا كذب لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الزِّنَا مِنْهَا فَلَا يكون قذفا صَحِيحا
وَكَذَلِكَ إِحْصَان الْمَقْذُوف شَرط
وَذَلِكَ نَوْعَانِ أَحدهمَا أَن يَقُول يَا زَانِيَة أَو زَنَيْت بفلان أَو ولدك من الزِّنَا فأنكرت الْمَرْأَة وخاصمته إِلَى الْحَاكِم فعجز الزَّوْج عَن إِقَامَة الْبَيِّنَة على الزِّنَا
وَالثَّانِي أَن يَنْفِي ولدا أقرّ أَن امْرَأَته وَلدته أَو شهِدت امْرَأَة على الْولادَة فَقَالَ هَذَا لَيْسَ بِابْني وَذَلِكَ قبل الْإِقْرَار بِالْوَلَدِ وَقبل مُضِيّ مُدَّة تهنئة الْوَلَد الَّتِي هِيَ قَائِمَة مقَام الْإِقْرَار على مَا يعرف فِي كتاب الدَّعْوَى
وَلَو قَالَ لامْرَأَته وَهِي حَامِل هَذَا الْحمل لَيْسَ مني فَهُوَ لَيْسَ بقاذف وَلَا لعان بَينهمَا عِنْد أبي حنيفَة وَزفر
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِن جَاءَت بِولد لأَقل من سِتَّة أشهر لَا عَنْهَا وَإِن جَاءَت بِهِ لأكْثر فَلَا لعان
وَاتفقَ أَصْحَابنَا أَنه لَا يَنْفِي نسب الْحمل قبل الْولادَة

(2/218)


وَأما شَرَائِط الْوُجُوب فَنَقُول هُوَ أَن يَكُونَا زَوْجَيْنِ حُرَّيْنِ مُسلمين عاقلين بالغين غير محدودين فِي الْقَذْف وَالْمَرْأَة عفيفة
أما اعْتِبَار الزَّوْجِيَّة فَلِأَن الله تَعَالَى خص اللّعان بالأزواج وَجعله حد للزَّوْج قَائِما مقَام حد الْقَذْف
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِن من تزوج امْرَأَة نِكَاحا فَاسِدا ثمَّ قَذفهَا لَا يجب اللّعان
وَلَو قَذفهَا الزَّوْج فَلم يلتعنا حَتَّى طَلقهَا ثَلَاثًا أَو بَائِنا فَلَا حد وَلَا لعان لِأَنَّهُ انْقَطَعت الزَّوْجِيَّة وَحصل الْفِرَاق وَحكم اللّعان التَّفْرِيق وَالتَّحْرِيم فَلَا يَصح اللّعان بِدُونِ حكمه
وَلَو كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا يُلَاعن لقِيَام الزَّوْجِيَّة
وَأما الْحُرِّيَّة فَلِأَن العَبْد وَالْأمة ليستا من أهل الشَّهَادَة وَاللّعان شَهَادَات فِيهَا معنى الْإِيمَان
وَكَذَلِكَ الْحُرِّيَّة فِي جَانبهَا من شَرَائِط الْإِحْصَان وإحصان الْمَقْذُوف شَرط
وَأما اعْتِبَار الْعقل وَالْبُلُوغ فَلَمَّا قُلْنَا إِنَّه لَا يَصح الْقَذْف بِدُونِ الْعقل وَالْبُلُوغ
وَأما اعْتِبَار نفي حد الْقَذْف فَلِأَن الْمَحْدُود فِي الْقَذْف لَا شَهَادَة لَهُ
وَأما اعْتِبَار الْإِسْلَام أما فِي جَانبهَا فَمن بَاب الْإِحْصَان فَإِن الْمَرْأَة الْكَافِرَة لَا يجب بقذفها الْحَد وَكَذَلِكَ اللّعان
وَأما الزَّوْج الْكَافِر إِذْ قذف الزَّوْجَة الْمسلمَة فَلَا لعان عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ من أهل الشَّهَادَة على الْمُسلمين
وَصُورَة الْمَسْأَلَة فِي الْكَافِر إِذا أسلمت امْرَأَته فَلم يعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام حَتَّى قَذفهَا فَيحد وَلَا يُلَاعن

(2/219)


فَمَا لم يُوجد هَذِه الشَّرَائِط لَا يجب اللّعان لَكِن بَعْضهَا شَرط وجوب اللّعان وَبَعضهَا شَرط تحقق الْقَذْف وَصِحَّته
ثمَّ مَتى سقط اللّعان وَبَطل هَل يسْقط الْحَد عَن الرجل قَالَ مَشَايِخنَا إِن بَطل بِمَعْنى من جِهَة الزَّوْج يجب الْحَد
وَلَا يجب اللّعان وَهَذَا صَحِيح إِذا كَانَ الْقَذْف صَحِيحا كقذف الْعَاقِل الْبَالِغ فأكذب نَفسه يجب الْحَد وَلَا يجب اللّعان
فَأَما إِذا لم يكن الْقَذْف صَحِيحا كقذف الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَإِنَّهُ لَا يجب الْحَد وَلَا اللّعان وَإِن سقط بِمَعْنى من جِهَة الزَّوْج
وَقَالُوا إِن بَطل تَعْنِي من جِهَة الْمَرْأَة لم يجب على الزَّوْج حد وَلَا لعان كَمَا إِذا صدقته وكما إِذا كَانَت حرَّة عفيفة مسلمة إِلَّا أَنَّهَا محدودة فِي الْقَذْف فَلَا حد وَلَا لعان لِأَن الْمَعْنى من جِهَتهَا وَهُوَ أَنَّهَا لَيست من أهل الشَّهَادَة مَعَ كَون الْقَذْف صَحِيحا
فَإِذا كَانَ الْمَعْنى من جِهَتهَا وَالْقَذْف لَيْسَ بِصَحِيح لَا يجب الْحَد وَاللّعان جَمِيعًا أَيْضا حَتَّى إِذا كَانَت الزَّوْجَة كَافِرَة أَو أمة أَو صَغِيرَة أَو مَجْهُولَة أَو زَانِيَة فَلَا حد وَلَا لعان لِأَن الْقَذْف لَيْسَ بِصَحِيح لِأَن الْمَرْأَة لَيست بمحصنة
وَإِذا كَانَ كل وَاحِد من الزَّوْجَيْنِ محدودا فِي الْقَذْف يجب الْحَد وَلَا يجب اللّعان لِأَن الْقَذْف صَحِيح وَالْمَانِع من جِهَة الزَّوْج وَلَا عِبْرَة بجانبها
وعَلى هَذَا تَدور الْمسَائِل
وَأما تَفْسِير اللّعان فَإِن كَانَ الْقَذْف بِصَرِيح الزِّنَا فأنكرت الْمَرْأَة وخاصمته إِلَى القَاضِي فَأمره بِإِقَامَة الْبَيِّنَة على صدق مقَالَته فعجز عَن إِقَامَة الْبَيِّنَة

(2/220)


فَإِنَّهُ يبتدىء من جِهَة الزَّوْج ويأمره بِاللّعانِ فَيقوم الزَّوْج وَيَقُول أشهد بِاللَّه إِنِّي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا فَيَقُول ذَلِك أَربع مَرَّات ثمَّ يَقُول فِي الْخَامِسَة إِن لعنة الله عَليّ إِن كنت من الْكَاذِبين فِيمَا رميتها بِهِ من الزِّنَا وَيقبل بِوَجْهِهِ على الْمَرْأَة فِي كل ذَلِك
ثمَّ يأمرها بِاللّعانِ فتقوم وتواجه زَوجهَا وَتقول أشهد بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا أَربع مَرَّات ثمَّ تَقول فِي الْخَامِسَة إِن غضب الله عَليّ إِن كَانَ من الصَّادِقين فِيمَا رماني بِهِ من الزِّنَا
فَإِذا قَالَت ذَلِك تمّ اللّعان بَينهمَا
وَإِن كَانَ الْقَذْف بِنَفْي الْوَلَد وكذبته الْمَرْأَة وخاصمته إِلَى الْحَاكِم فَإِنَّهُ يَأْمر الْحَاكِم الزَّوْج بِاللّعانِ وَهُوَ أَن يقوم الرجل فَيَقُول أشهد بِاللَّه إِنَّنِي لمن الصَّادِقين فِيمَا رميتها بِهِ من نفي وَلَدهَا هَذَا أَربع مَرَّات وَيَقُول فِي الْخَامِسَة إِن لعنة الله عَليّ إِن كنت من الْكَاذِبين فِيمَا رميتها بِهِ من نفي وَلَدهَا هَذَا ثمَّ يَأْمر الْمَرْأَة أَن تَقول أشهد بِاللَّه إِنَّه لمن الْكَاذِبين فِيمَا رماني بِهِ من نفي وَلَدي هَذَا أَربع مَرَّات ثمَّ تَقول فِي الْخَامِسَة إِن غضب الله عَليّ إِن كَانَ من الصَّادِقين فِيمَا رماني بِهِ من نفي وَلَدي هَذَا
وَالْقِيَام لَيْسَ بِشَرْط وَلَا يضرّهُ قَالَ ذَلِك قَائِما أَو قَاعِدا كَذَا رَوَاهُ الْحسن عَن أبي حنيفَة
فَإِذا قَالَا ذَلِك تمّ اللّعان بَينهمَا
وَإِذا تمّ اللّعان بَينهمَا لَا تقع الْفرْقَة مَا لم يفرق القَاضِي بَينهمَا
فَيَنْبَغِي أَن يفرق القَاضِي بَينهمَا فِي الْفَصْل الأول
وَفِي الْفَصْل الثَّانِي يفرق بَينهمَا وَيَقْضِي بِنَفْي الْوَلَد وَقطع النّسَب من الْأَب ويلحقه بِالْأُمِّ لِأَن التَّفْرِيق وَقطع النّسَب كِلَاهُمَا حكم اللّعان إِذا كَانَ اللّعان بِالْقَذْفِ بِنَفْي الْوَلَد فَلَا بُد من قَضَاء القَاضِي بِقطع النّسَب

(2/221)


وَأما حكم اللّعان فَهُوَ ثُبُوت حق التَّفْرِيق
فَإِذا تمّ اللّعان يفرق القَاضِي بَينهمَا وَلَا تقع الْفرْقَة بِنَفس اللّعان وَهَذَا مَذْهَب عُلَمَائِنَا
وَقَالَ زفر تقع الْفرْقَة بلعانهما
وَقَالَ الشَّافِعِي بِلعان الزَّوْج
ثمَّ اخْتلف أَصْحَابنَا فِيمَا بَينهم قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد هِيَ تَطْلِيقَة بَائِنَة فيزول ملك النِّكَاح وَتثبت حُرْمَة الِاجْتِمَاع والتزوج إِلَى وَقت الإكذاب وَإِقَامَة الْحَد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَزفر هِيَ فرقة بِغَيْر طَلَاق توجب تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام المتلاعنان لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا
فَأخذ أَبُو يُوسُف وَزفر بِظَاهِر الحَدِيث وَأَبُو حنيفَة وَمُحَمّد أخذا بِمَعْنَاهُ وَهُوَ أَن المتلاعنين لَا يَجْتَمِعَانِ أبدا مَا داما متلاعنين فَإِن حَقِيقَة المتفاعل هُوَ المتشاغل بِالْفِعْلِ حَقِيقَة أَو حكما فَإِذا زَالَ اللّعان حَقِيقَة وَحكما لَا يبْقى حكمه
ثمَّ إِذا وَقعت الْفرْقَة بتفريق القَاضِي وَثَبت حُرْمَة الِاجْتِمَاع فَإِذا أكذب الزَّوْج نَفسه وَضرب الْحَد يُبَاح لَهُ أَن يَتَزَوَّجهَا لِأَنَّهُ بَطل الْقَذْف وَخرج من أَن يكون من أهل اللّعان بصيرورته محدودا فِي الْقَذْف فَلَا يبْقى اللّعان
وَكَذَلِكَ إِذا صدقته الْمَرْأَة بعد الْفرْقَة لِأَنَّهَا صَارَت معترفة وَبَطل الْقَذْف فَبَطل حكم اللّعان
وَكَذَا إِذا حدت فِي قذف
فَإِن أَخطَأ القَاضِي فَبَدَأَ بِالْمَرْأَةِ ثمَّ بِالرجلِ فَإِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُ أَن يُعِيد

(2/222)


اللّعان على الْمَرْأَة لِأَنَّهَا شَهَادَة وَإِنَّمَا يبْدَأ بِشَهَادَة الْمُدَّعِي ثمَّ بِشَهَادَة الْمُدعى عَلَيْهِ بطرِيق الدّفع فَلهَذَا يبْدَأ بِالرجلِ فَإِن أَخطَأ يجب الِاسْتِدْرَاك بِالْإِعَادَةِ فَإِن لم يعد جَازَ لِأَنَّهُ قَضَاء فِي مَوضِع الِاجْتِهَاد فَإِن عِنْد بَعضهم اللّعان إِيمَان وَفِي التَّحَالُف يجوز تَقْدِيم يَمِين أَيهمَا كَانَ
وَلَو أَخطَأ القَاضِي وَفرق قبل تَمام اللّعان فَإِن كَانَ كل وَاحِد مِنْهُمَا قد التعن أَكثر اللّعان وَقعت الْفرْقَة
وَإِن لم يلتعنا أَكثر اللّعان أَو كَانَ أَحدهمَا لم يلتعن أَكثر اللّعان لم تقع الْفرْقَة لِأَنَّهُ قَضَاء بطرِيق الِاجْتِهَاد فِي مَوضِع يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد لِأَنَّهُ للْأَكْثَر حكم الْكل فِي كثير من الْأَحْكَام
وَفِي الْفَصْل الثَّانِي قَضَاء فِي مَوضِع لَا يسوغ فِيهِ الِاجْتِهَاد فَلَا ينفذ
وَإِذا امْتنع أحد الزَّوْجَيْنِ عَن الالتعان فَإِن القَاضِي يحْبسهُ حَتَّى يلتعن
وَعند الشَّافِعِي لَا يحبس وَلَكِن يحد حد الْقَذْف

(2/223)


بَاب فرقة الْعنين
لَا خلاف بَين الْعلمَاء أَن الْجب والعنة عيب يثبت بهما الْخِيَار للْمَرْأَة فِي التَّفْرِيق والبقاء على النِّكَاح
وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي عُيُوب أخر بِالزَّوْجِ تخل بِالْوَطْءِ مثل الْجُنُون والجذام والبرص
قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يثبت الْخِيَار وَقَالَ مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ يثبت
وَأجْمع أَصْحَابنَا أَن لَا يفْسخ النِّكَاح بعيوب فِي الْمَرْأَة
وَقَالَ الشَّافِعِي يفْسخ بعيوب خَمْسَة الْجُنُون والجذام والبرص والرتق والقرن وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا ادَّعَت الْمَرْأَة أَن زَوجهَا مجبوب أَو عنين وَرفعت الْأَمر إِلَى القَاضِي فَإِنَّهُ يسْأَل الزَّوْج عَن ذَلِك أَنه هَل وصل إِلَيْهَا أم لَا فَإِن

(2/225)


أنكر فَفِي الْمَجْبُوب يعرف بالمس من وَرَاء الْإِزَار
وَإِن أقرّ يثبت لَهَا الْخِيَار فِي الْمَجْبُوب لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي التَّأْجِيل
وَفِي الْعنين إِذا أقرّ وصدقها فِي ذَلِك يؤجله القَاضِي سنة
وَإِن أنكر أَنه عنين وَقَالَ وصلت إِلَيْهَا فَإِن القَاضِي يسْأَل الْمَرْأَة أَهِي بكر أَو ثيب
فَإِن قَالَت ثيب فَإِنَّهُ يَجْعَل القَوْل قَول الزَّوْج لِأَن الظَّاهِر شَاهد لَهُ لِأَن من خلا بِالثَّيِّبِ فَالظَّاهِر أَنه يَطَأهَا
وَإِن قَالَت إِنِّي بكر نظر إِلَيْهَا النِّسَاء وَالْمَرْأَة الْوَاحِدَة كَافِيَة وَالْأَكْثَر أوثق فَإِن قُلْنَ إِنَّهَا بكر فَالْقَوْل قَوْلهَا لِأَن قيام الْبكارَة يدل عَلَيْهِ وَقَول النِّسَاء فِيمَا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال مَقْبُول
وَإِذا ثَبت أَنه لم يصل إِلَيْهَا إِمَّا بِإِقْرَارِهِ أَو بِظُهُور الْبكارَة فَإِن القَاضِي يؤجله حولا وَإِنَّمَا يعْتَبر الْأَجَل سنة لِأَن الِامْتِنَاع من الْوَطْء قد يكون للعجز وَقد يكون لبغضه إِيَّاهَا فَإِذا أجل فَيقدم على الْوَطْء دفعا للعار عَن نَفسه إِن كَانَ قَادِرًا
وَأول الْأَجَل من حِين الْإِقْرَار وَظُهُور الْبكارَة وَلَا يحْتَسب على الزَّوْج مَا قبل التَّأْجِيل
والتأجيل إِنَّمَا يكون بِسنة شمسية لِأَن الْفُصُول تكمل فِيهَا فَيحْتَمل أَن يَزُول الدَّاء فِي الْمدَّة الَّتِي بَين الشمسية والقمرية
فَإِذا حَال الْحول فَرفعت الْأَمر إِلَى القَاضِي وَادعت أَنه لم يصل إِلَيْهَا فَإِنَّهُ يسْأَل الزَّوْج عَن ذَلِك فَإِن قَالَ قد وطئتها وَهِي ثيب فَالْقَوْل قَوْله
وَإِن كَانَت بكرا نظر إِلَيْهَا النِّسَاء فَإِن قُلْنَ إِنَّهَا بكر فَالْقَوْل قَوْلهَا وَإِن قُلْنَ إِنَّهَا ثيب فَالْقَوْل قَول الزَّوْج
وَإِذا ثَبت عدم الْوُصُول إِلَيْهَا إِمَّا باعترافه أَو بِظُهُور الْبكارَة فَإِن القَاضِي يخيرها لِأَن الْعَيْب قد اسْتَقر فَإِن اخْتَارَتْ الْمقَام بَطل حَقّهَا وَلم يكن لَهَا خُصُومَة أبدا فِي هَذَا النِّكَاح لِأَنَّهَا رضيت

(2/226)


بِالْعَيْبِ
وَإِن اخْتَارَتْ الْفرْقَة يفرق القَاضِي بَينهمَا وَتَكون تَطْلِيقَة بَائِنَة على مَا مر
وَلَو وصل إِلَيْهَا مرّة ثمَّ عجز وَعرف ذَلِك بإقرارها فَإِن القَاضِي لَا يخيرها لِأَنَّهُ وصل حَقّهَا إِلَيْهَا لِأَنَّهُ يجب كَمَال الْمهْر فَلَا يعْتَبر مَا زَاد عَلَيْهِ
وَإِذا خَيرهَا الْحَاكِم فَوجدَ مِنْهَا مَا يدل على الْإِعْرَاض يبطل خِيَارهَا كَمَا فِي خِيَار المخيرة
وَقَالَ أَصْحَابنَا إِن الْعنين إِذا أجل سنة فشهر رَمَضَان وَأَيَّام الْحيض محسوبة من الْأَجَل لِأَن التَّأْجِيل سنة عرفنَا ذَلِك بِإِجْمَاع الصَّحَابَة من غير اسْتثِْنَاء من هَذِه الْأَيَّام مَعَ علمهمْ بذلك
فَأَما إِذا مَرضا فِي الْمدَّة مَرضا لَا يُمكن الْجِمَاع مَعَه فَإِن كَانَ أقل من نصف شهر احتسب عَلَيْهِ وَإِن كَانَ أَكثر من نصف شهر لم يحْتَسب عَلَيْهِ وَكَذَلِكَ الْغَيْبَة
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه قدر ذَلِك بالشهر وَفِيه رِوَايَات وَهَذَا أوثق لِأَن الشَّهْر فِي حكم الْأَجَل
هَذَا إِذا لم تكن الْمَرْأَة رتقاء فَإِن كَانَت رتقاء وَكَانَ زَوجهَا عنينا فَلَا يؤجله القَاضِي لِأَنَّهُ لَا حق لَهَا فِي الْوَطْء وَإِنَّمَا حَقّهَا فِي الِاسْتِمْتَاع والمساس
وَلَو علمت الْمَرْأَة بالعنة عِنْد العقد ورضيت بِالْعقدِ فَإِنَّهُ لَا خِيَار لَهَا كمن اشْترى عبدا وَهُوَ عَالم بِعَيْبِهِ
فَإِن كَانَ زوج الْأمة عنينا فَالْخِيَار فِي ذَلِك إِلَى الْمولى عِنْد أبي يُوسُف
وَقَالَ زفر الْخِيَار للْأمة
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة مثل قَول أبي يُوسُف

(2/227)


بَاب الْحَضَانَة
الْولَايَة إِلَى الْعَصَبَات فِي الْجُمْلَة والحضانة إِلَى ذَوَات الرَّحِم الْمحرم لِأَن الْحَضَانَة تبتنى على الشَّفَقَة والرفق بالصغار وَذَلِكَ من جَانب النِّسَاء أوفر وَهن بالتربية أعلم
وَيكون الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب أولى
ثمَّ الْأَقْرَب هَهُنَا هِيَ الْأُم ثمَّ الْجدّة أم الْأُم ثمَّ الْجدّة أم الْأَب ثمَّ الْأَخَوَات فأولاهن الْأُخْت لأَب وَأم ثمَّ الْأُخْت لأم ثمَّ الْأُخْت لأَب ثمَّ بَنَات الْأُخْت على هَذَا التَّرْتِيب ثمَّ بَنَات الْأَخ وعَلى هَذَا التَّرْتِيب وَهَذَا على الرِّوَايَة الَّتِي تقدم الْأُخْت لأَب على الْخَالَة وَهِي رِوَايَة مُحَمَّد عَن أبي يُوسُف عَن أبي حنيفَة وَرِوَايَة الْحسن عَن أبي يُوسُف
وَفِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أَن الْخَالَة أولى من الْأُخْت لأَب وَهُوَ قَول مُحَمَّد وَزفر
ثمَّ بعد الْأَخَوَات وأولادهن من الْإِنَاث الخالات على التَّرْتِيب الْخَالَة لأَب وَأم ثمَّ الْخَالَة لأم ثمَّ الْخَالَة لأَب
ثمَّ العمات على التَّرْتِيب الْعمة لأَب وَأم ثمَّ الْعمة لأم ثمَّ الْعمة لأَب
فَأَما بَنَات الْعم وَالْخَال والعمة وَالْخَالَة فَلَا حق لَهُنَّ فِي الْحَضَانَة لِأَن لَهُنَّ رحما غير محرم
ثمَّ الْأُم والجدات أَحَق بالغلام إِلَى أَن يَأْكُل وَحده وَيشْرب وَحده

(2/229)


ويلبس وَحده
وَفِي رِوَايَة عَن مُحَمَّد وَيتَوَضَّأ وَحده أَو يستنجي وَحده
فَأَما الْجَارِيَة فَهِيَ أَحَق بهَا حَتَّى تحيض
وَالْقِيَاس أَن يكون لَهُنَّ حق الْحَضَانَة فِي الْغُلَام إِلَى وَقت الْبلُوغ لحَاجَة الصغار إِلَى التربية فِي الْجُمْلَة إِلَى وَقت الْبلُوغ إِلَّا أَنا استحسنا فِي الْغُلَام لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى التَّأْدِيب وَالْأَب أقدر
ثمَّ عندنَا لَيْسَ للصَّغِير الْعَاقِل اخْتِيَار أحد الْأَبَوَيْنِ فِي الْحَضَانَة
وَعَن الشَّافِعِي يُخَيّر الصَّبِي
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَنَّهُ لَا يعرف الأنظر مِنْهُمَا
وَأما من لَا أَوْلَاد لَهَا من النِّسَاء فَلَا حق لَهُنَّ فِي الْجَارِيَة والغلام بعد الِاسْتِغْنَاء بأنفسهما فِيمَا ذكرنَا
وينتقل الْحق إِلَى الْعَصَبَات من ذَوي الرَّحِم الْمحرم الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب على التَّرْتِيب إِلَّا بني الْأَعْمَام لِأَن الْحَاجة إِلَى الْحِفْظ وَخَوف الصَّغِير من الْعصبَة أَشد من خَوفه من غير الْأُمَّهَات من ذَوَات الرَّحِم الْمحرم
فَأَما بَنو الْأَعْمَام فَلَا حق لَهُم فِي الْحَضَانَة لِأَن لَهُم رحما غير محرم وَيحل لَهُم نِكَاحهَا فَلَا يُؤمن عَلَيْهَا
ثمَّ من كَانَ من عصباتها مِمَّن لَا يُؤمن عَلَيْهَا من ذَوي الرَّحِم الْمحرم لفسقه ومجانته لم يكن لَهُ فِيهَا حق لِأَن فِي كفَالَته لَهَا ضَرَرا عَلَيْهَا
فَإِن لم يكن لِلْجَارِيَةِ من عصباتها غير ابْن الْعم فالاختيار إِلَى القَاضِي إِن رَآهُ أصلح ضم إِلَيْهِ وَإِلَّا فَيَضَع عِنْد أَمِينه
وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا من ثُبُوت حق الْحَضَانَة لذوات الرَّحِم الْمحرم إِذا لم يكن لَهُنَّ أَزوَاج فَأَما من لَهَا زوج فَلَا حق لَهَا فِي الْحَضَانَة إِلَّا إِذا كَانَ زَوجهَا ذَا رحم محرم من الصَّغِير لِأَنَّهُ يلْحقهُ الجفا والمذلة من زوج الْأُم

(2/230)


إِذا كَانَ أَجْنَبِيّا
ويضعه القَاضِي حَيْثُ يَشَاء بِمَنْزِلَة من لَا قرَابَة لَهُ
وَأم الْوَلَد وَالزَّوْجَة فِي الْحَضَانَة على السوَاء إِذا أعتقت
فَأَما الرقيقة فَلَا حق لَهَا فِي حضَانَة الْوَلَد الْحر لِأَنَّهُ ضرب من الْولَايَة وَالرّق يُنَافِي الولايات
وَأهل الذِّمَّة فِي هَذَا بِمَنْزِلَة أهل الْإِسْلَام لِأَن هَذَا أَمر يبتنى على الشَّفَقَة
وَلَو كَانَت الْأُم كَافِرَة وَالْولد مُسلم ذكر فِي الأَصْل أَنَّهَا فِي الْحَضَانَة كالمسلمة
وَكَانَ أَبُو بكر الرَّازِيّ يَقُول إِنَّهَا أَحَق بالصغير وَالصَّغِيرَة حَتَّى يعقلا فَإِذا عقلا سقط حَقّهَا لِأَنَّهَا تعودهم أَخْلَاق الْكَفَرَة
وَلَا حق للمرتدة فِي الْوَلَد لِأَنَّهَا تحبس وَفِي الْحَبْس ضَرَر بِالصَّبِيِّ
وَإِذا ثَبت أَن حق الْحَضَانَة للْأُم فَإِذا أَرَادَت أَن تخرج بِالْوَلَدِ إِلَى بلد آخر هَل للْأَب حق الْمَنْع فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون الْأُم زَوجته أَو مُطلقَة بَائِنَة
فَإِن كَانَت زَوجته فَللزَّوْج حق الْمَنْع من الْخُرُوج بِنَفسِهَا وَبِوَلَدِهَا
فَأَما إِذا كَانَت مبتوتة فإمَّا أَن تخرج بِوَلَدِهَا إِلَى بَلَدهَا أَو إِلَى بلد آخر وَقد وَقع النِّكَاح فِي ذَلِك الْبَلَد أم لَا وَيكون بَعيدا أَو قَرِيبا يقدر الْأَب على مُشَاهدَة الْوَلَد وَالْعود إِلَى بَيته قبل اللَّيْل
أما إِذا أَرَادَت الْخُرُوج إِلَى بَلَدهَا وَكَانَ الْبَلَد بَعيدا فَإِن وَقع النِّكَاح فِيهِ لَيْسَ للْأَب حق الْمَنْع لِأَنَّهُ لما عقد النِّكَاح ثمَّ فَالظَّاهِر أَنه الْتزم الْمقَام فِيهِ
لِأَن الظَّاهِر أَن الزَّوْج يُقيم فِي الْبَلَد الَّذِي تزوج فِيهِ إِلَّا أَنه

(2/231)


يلْزمهَا اتِّبَاع الزَّوْج إِذا أعْطى جَمِيع الْمهْر حَيْثُ شَاءَ أَو رضيت بذلك فَإِذا زَالَت الزَّوْجِيَّة لم تجب الْمُتَابَعَة فَيَعُود الْأَمر الأول
فَإِن لم يَقع عقد النِّكَاح فِي بَلَدهَا فَلَيْسَ لَهَا أَن تنقل وَلَدهَا إِلَى ذَلِك الْبَلَد لِأَن فِيهِ التَّفْرِيق بَين الْأَب وَبَين وَلَده الصَّغِير وَفِيه ضَرَر بِالْأَبِ وَلم يلْتَزم الضَّرَر حَيْثُ لم يتَزَوَّج ثمَّ
وَإِذا أَرَادَت أَن تنقل الْوَلَد إِلَى الْبَلَد الَّذِي وَقع فِيهِ النِّكَاح وَلَيْسَ ذَلِك بَلَدهَا فَلَيْسَ لَهَا ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ بوطن لَهَا فَهِيَ دَار غربَة لَهَا كَمَا أَن الْبَلَد الَّذِي فِيهِ الزَّوْج دَار غربَة فتساويا وَلَيْسَ لَهَا أَن تلْحق الضَّرَر بِالْأَبِ
وَأما إِذا كَانَ الْبَلَد قَرِيبا بِحَيْثُ يقدر الْأَب أَن يَجِيء إِلَى الْوَلَد وَيَرَاهُ وَيعود إِلَى منزله قبل اللَّيْل فلهَا ذَلِك وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة أَطْرَاف الْمصر لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ كثير ضَرَر
وَأما أهل الْقرى إِن أَرَادَت المبتوتة أَن تنْتَقل بِالصَّبِيِّ إِلَى قريتها من قَرْيَة الْأَب إِن وَقع النِّكَاح فِيهَا فلهَا ذَلِك
وَإِن وَقع النِّكَاح فِي غَيرهَا فَلَيْسَ لَهَا أَن تنقل الصَّبِي إِلَى قريتها وَلَا إِلَى الْقرْيَة الَّتِي وَقع النِّكَاح فِيهَا إِذا كَانَت بعيدَة كَمَا فِي البلدين
وَإِن كَانَت قريبَة بِحَيْثُ يُمكن الْأَب رُؤْيَة الصَّبِي وَالْعود إِلَى منزله قبل اللَّيْل فلهَا ذَلِك لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ ضَرَر مُعْتَبر
وَإِن كَانَ الْأَب متوطنا فِي الْمصر فَأَرَادَتْ نقل وَلَدهَا إِلَى قريتها وَالنِّكَاح وَقع فِيهِ فلهَا ذَلِك لِأَن الْأَب الْتزم الْمقَام فِي مَكَان النِّكَاح إِذا كَانَ وَطن الزَّوْجَة
وَإِذا أَرَادَت النَّقْل إِلَى قَرْيَة قريبَة من الْمصر بِحَيْثُ يُمكن النّظر إِلَى وَلَده وَالْعود قبل اللَّيْل فَإِن وَقع النِّكَاح فِيهَا فلهَا ذَلِك لِأَنَّهُ رَضِي

(2/232)


بغربة الْوَلَد وَإِن لم يَقع النِّكَاح فِيهِ فَلَيْسَ لَهَا ذَلِك لِأَن أَخْلَاق أهل الْقرى لَا تَسَاوِي أَخْلَاق أهل الْمصر فَيلْحق الصَّبِي بذلك ضَرَر وَفِيه ضَرَر بالوالد فَلم يجز إِذا لم يلتزمه الْأَب
وَقد ذكر مُحَمَّد هَذِه الْمَسْأَلَة فِي الْجَامِع الصَّغِير مُبْهمَة فَقَالَ إِنَّمَا أنظر فِي هَذَا إِلَى الْموضع الَّذِي وَقع فِيهِ عقد النِّكَاح وَالصَّحِيح مَا ذكرنَا من التَّفْصِيل
ثمَّ الْأُم وَإِن كَانَت أَحَق بالحضانة فَإِنَّهُ لَا يجب عَلَيْهَا إِرْضَاع الصَّبِي لِأَن ذَلِك بِمَنْزِلَة النَّفَقَة وَنَفَقَة الْوَلَد يخْتَص بهَا الْوَالِد إِلَّا أَن لَا يُوجد من يرضعه فتجبر على إرضاعه
وَقَالَ مَالك إِن كَانَت شريفة لم تجبر وَإِن كَانَت دنية تجبر
فَإِن كَانَت لَا ترْضع إِلَّا بِأَجْر فَإِن كَانَ فِي حَال قيام النِّكَاح فَلَيْسَ لَهَا ذَلِك لِأَن الْأجر لحفظ الصَّبِي وغسله وَذَلِكَ من بَاب نظافة الْبَيْت وَهِي مَنْفَعَة تحصل لَهَا بذلك فَلَا تسْتَحقّ الْأجر
وَلَو اسْتَأْجر الْأَب ظِئْرًا وأرادت الْأُم أَن ترْضع فَهِيَ أولى لِأَنَّهَا أشْفق عَلَيْهِ
وَإِن كَانَت الْمَرْأَة مبانة وَهِي فِي الْعدة فَفِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ لَا يجوز لَهَا أَن تَأْخُذ الْأجر لِأَنَّهَا تسْتَحقّ النَّفَقَة كَالزَّوْجَةِ
وَفِي رِوَايَة يجوز لِأَنَّهَا صَارَت أَجْنَبِيَّة
فَأَما إِذا انْقَضتْ الْعدة فَيجوز أَن تَأْخُذ الْأجر لِأَنَّهَا بِمَنْزِلَة الْأَجْنَبِيَّة وَهِي أولى من الْأَجْنَبِيَّة
وَتجب الْأُجْرَة على الزَّوْج ت بِمثل مَا تَأْخُذ الْأَجْنَبِيَّة
وَإِن قَالَ الْأَب أَنا أجد من ترْضِعه بِغَيْر أجر أَو بِأَقَلّ من ذَلِك

(2/233)


الْأجر فَلَيْسَ لَهَا أَن تمنع الزَّوْج من ذَلِك لِأَن فِي ذَلِك ضَرَرا بِالْأَبِ وَلَكِن ترْضع الظِّئْر فِي بَيت الْأُم مَا لم تتَزَوَّج لِأَن حق الْحَضَانَة لَهَا

(2/234)


بَاب الرَّضَاع
قد ذكرنَا أَن الرَّضَاع سَبَب للتَّحْرِيم بطرِيق التَّأْبِيد فيحر بِهِ مَا يحرم بِالنّسَبِ والصهرية وَإِنَّمَا يُخَالف النّسَب فِي مَسْأَلَتَيْنِ
إِحْدَاهمَا أَنه لَا يجوز أَن يتَزَوَّج الرجل أُخْت ابْنه من النّسَب وَيجوز أَن يتَزَوَّج أُخْت ابْنه من الرَّضَاع لِأَن أُخْت ابْنه من النّسَب بنت امْرَأَته الْمَوْطُوءَة وَبنت موطوءته حرَام عَلَيْهِ وَهَذَا لَا يُوجد فِي الرَّضَاع
وَالثَّانيَِة أَنه لَا يجوز أَن يتَزَوَّج الرجل أم أُخْته من النّسَب وَيجوز أَن يتَزَوَّج أم أُخْته من الرَّضَاع لِأَن أم أُخْته من النّسَب مَوْطُوءَة أَبِيه وحليلة الْأَب حرَام على الابْن وَهَذَا لَا يُوجد فِي الرَّضَاع
وتعرف ذَلِك بِالتَّأَمُّلِ
وَجُمْلَة ذَلِك أَن الرَّضَاع يتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيم فِي جَانب الْمُرضعَة وَفِي جَانب الواطىء الَّذِي ينزل اللَّبن من وَطئه
وَالتَّحْرِيم فِي جَانب الْمُرضعَة مجمع عَلَيْهِ وَفِي جَانب الزَّوْج مُخْتَلف فِيهِ فعندنا يثبت وَعند الشَّافِعِي لَا يثبت
ولقب الْمَسْأَلَة أَن لبن الْفَحْل هَل يحرم أم لَا وَبَيَانه أَن الْمَرْأَة إِذا أرضعت طفْلا فَإِنَّهَا تحرم عَلَيْهِ وَصَارَت أما لَهُ وَصَاحب اللَّبن صَار أَبَا لَهُ فَإِن كَانَ الْمُرْضع أُنْثَى تحرم على صَاحب اللَّبن لكَونهَا بِنْتا لَهُ وَإِن كَانَ ذكرا تحرم الْمُرضعَة عَلَيْهِ لكَونه ابْنا لَهُ

(2/235)


وَأَوْلَاد الْمُرضعَة من صَاحب اللَّبن إخْوَة وأخوات الْمُرْضع لأَب
وَأم وَأَوْلَاد الْمُرضعَة من غير صَاحب اللَّبن إخْوَة وأخوات لَهُ لأم وَأَوْلَاده من غير الْمُرضعَة إخْوَة وأخوات لَهُ الْأَب
وَكَذَلِكَ الحكم فِي أَوْلَاد الْأَوْلَاد من الْجَانِبَيْنِ
وَأُمَّهَات الْمُرضعَة جداته من قبل الْأُم وَأُمَّهَات صَاحب اللَّبن جداته من قبل الْأَب
وإخوة الْمُرضعَة وَأَخَوَاتهَا أَخْوَاله وخالاته وإخوة صَاحب اللَّبن وأخواته أَعْمَامه وعماته وَبَنَات الأخوال والخالات والأعمام والعمات من الرَّضَاع حَلَال كَمَا فِي النّسَب
وَلَا يجوز للمرضع أَن يتَزَوَّج بِمن أَرْضَعَتْه الْمُرضعَة من الْإِنَاث
لِأَنَّهُنَّ أخواته لكونهن بَنَات لَهَا من جِهَة الرَّضَاع
وأصل ذَلِك أَن كل اثْنَيْنِ اجْتمعَا على ثدي وَاحِد فهما أَخَوان أَو أختَان أَو أَخ وَأُخْت
وعَلى هَذَا لَو كَانَ لرجل امْرَأَتَانِ فحبلتا مِنْهُ وأرضعت كل وَاحِدَة مِنْهُمَا صَغِيرا أَجْنَبِيّا فقد صَارا أَخَوَيْنِ لأَب فَإِن كَانَت إِحْدَاهمَا أُنْثَى لم يجز لَهَا أَن تتَزَوَّج بِالْآخرِ لِأَنَّهُ أَخُوهَا من أَبِيهَا وَإِن كَانَا اثْنَيْنِ لم يجز لرجل وَاحِد أَن يجمع بَينهمَا فِي النِّكَاح لِأَنَّهُمَا أختَان لأَب
وَقد ذكرنَا تَفْسِير حُرْمَة الرَّضَاع بِسَبَب الصهرية فِي كتاب النِّكَاح فَلَا نعيده
ثمَّ الرَّضَاع الْمحرم مَا كَانَ فِي حَال الصغر
فَأَما رضَاع الْكَبِير فَلَا يتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيم
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الرَّضَاع مَا أنبت اللَّحْم وأنشز الْعظم

(2/236)


وَاخْتلف أَصْحَابنَا فِي الْحَد الْفَاصِل قَالَ أَبُو حنيفَة يثبت حكم الرَّضَاع فِي الصَّغِير إِلَى ثَلَاثِينَ شهرا فَمَا ارتضع بعد ذَلِك لم يتَعَلَّق بِهِ التَّحْرِيم
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِلَى الْحَوْلَيْنِ وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَقَالَ زفر إِلَى ثَلَاث سِنِين وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو فطم الصَّبِي فِي مُدَّة الرَّضَاع ثمَّ أرضع بعد الفصال فِي الْمدَّة اخْتلفت الرِّوَايَات فِيهِ عَن أَصْحَابنَا روى مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة أَن مَا كَانَ من الرَّضَاع إِلَى ثَلَاثِينَ شهرا قبل الْفِطَام أَو بعده فَهُوَ رضَاع محرم
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ إِذا فطم فِي السنتين حَتَّى اسْتغنى بِالطَّعَامِ ثمَّ ارتضع بعد ذَلِك فِي السنتين أَو الثَّلَاثِينَ شهرا لم يكن ذَلِك رضَاعًا لِأَنَّهُ لَا رضَاع بعد فطام تَامّ
وَإِن هِيَ فَطَمته فَأكل أكلا ضَعِيفا لَا يَسْتَغْنِي بِهِ عَن الرَّضَاع ثمَّ عَاد فأرضع فِي الثَّلَاثِينَ فَهُوَ رضَاع يحرم كرضاع الصَّغِير الَّذِي لم يفطم
وروى مُحَمَّد وَأَصْحَاب الْإِمْلَاء عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا فطم قبل الْحَوْلَيْنِ ثمَّ ارتضع فِي بَقِيَّة الْحَوْلَيْنِ فَهُوَ رضَاع محرم وَهُوَ مَذْهَب مُحَمَّد وَكَانَ لَا يعْتد بالفطام قبل الْحَوْلَيْنِ
وروى الْحسن عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا أرضع بعد الْفِطَام فِي الْحَوْلَيْنِ لم يكن رضَاعًا
ثمَّ عندنَا قَلِيل الرَّضَاع وَكَثِيره سَوَاء فِي حَال الصغر فِي التَّحْرِيم
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يثبت التَّحْرِيم إِلَّا بِخمْس رَضعَات
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لقَوْله تَعَالَى {وأمهاتكم اللَّاتِي أرضعنكم}

(2/237)


الْآيَة من غير فصل
وَكَذَا عندنَا تثبت حُرْمَة الرَّضَاع بِلَبن الْميتَة
وَعند الشَّافِعِي لَا يَقع بِهِ التَّحْرِيم لكَونه نجسا
وَإِذا وصل اللَّبن إِلَى جَوف الصَّبِي لَا من الثدي بِأَن أوجر أَو أسعط تثبت الْحُرْمَة لِأَن الوجور يصل إِلَى الْجوف والسعوط يصل إِلَى الْجوف أَيْضا
وَلَو حقن الصَّبِي بِاللَّبنِ ذكر الْكَرْخِي وَقَالَ لم يحرم وَلم يحك خلافًا
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد أَنه يحرم كَمَا يَقع بِهِ الْإِفْطَار
أما إِذا أقطر فِي الْأذن لم يثبت التَّحْرِيم لِأَنَّهُ لم يعلم وُصُوله إِلَى الْجوف
وَكَذَا إِذا أقطر فِي إحليله لهَذَا الْمَعْنى
وَكَذَلِكَ لَو أقطر فِي جَائِفَة أَو آمة لما ذكرنَا
وَلَو اخْتَلَط اللَّبن بِغَيْرِهِ فَهَذَا على وُجُوه إِن اخْتَلَط بِالطَّعَامِ ومسته النَّار حَتَّى نضج وطبخ لم يتَعَلَّق بِهِ الْحُرْمَة فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَنَّهُ تغير بالطبخ مَعَ غَيره عَن طبعه وَصفته

(2/238)


وَإِن اخْتَلَط بِهِ الطَّعَام وَلم تمسه النَّار فَإِن كَانَ الطَّعَام هُوَ الْغَالِب لم يثبت بِهِ التَّحْرِيم لِأَنَّهُ زَالَ اللَّبن وَصَارَ اللَّبن كَالْعدمِ
وَإِن كَانَ اللَّبن غَالِبا للطعام وَهُوَ طَعَام ظَاهر يعْتد بِهِ قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَقع بِهِ التَّحْرِيم
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يحرم اعْتِبَارا للْغَالِب ف أَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّه يضعف معنى اللَّبن وَيَزُول قوته حَتَّى يصير اللَّبن رَقِيقا ضَعِيفا يعرف بِالْمُشَاهَدَةِ
وَإِن اخْتَلَط اللَّبن بالدواء أَو الدّهن أَو النَّبِيذ فَإِن كَانَ اللَّبن غَالِبا يحرم وَإِن كَانَ الدَّوَاء غَالِبا لَا يحرم وَيعْتَبر الْغَلَبَة بِالْإِجْمَاع لِأَن قُوَّة اللَّبن بَاقِيَة
وَإِن اخْتَلَط اللَّبن بِالْمَاءِ فَإِن كَانَ اللَّبن غَالِبا يَقع بِهِ التَّحْرِيم
وَإِن كَانَ المَاء غَالِبا لَا يَقع بِهِ التَّحْرِيم اعْتِبَارا للْغَالِب
وَقَالَ الشَّافِعِي إِذا أقطر من اللَّبن خمس رَضعَات فِي جب مَاء فَشرب مِنْهُ الصَّبِي تثبت الْحُرْمَة
وَإِن اخْتَلَط اللَّبن بِلَبن شَاة تعْتَبر الْغَلَبَة أَيْضا لِأَن لبن الشَّاة لَا يُؤثر فِي زَوَال قُوَّة لبن الْآدَمِيَّة
وَأما إِذا اخْتَلَط لبن امْرَأتَيْنِ فَروِيَ عَن أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف أَن الحكم للأغلب فَثَبت بِهِ التَّحْرِيم دون الآخر
وَقَالَ مُحَمَّد وَزفر يثبت التَّحْرِيم مِنْهُمَا احْتِيَاطًا فِي بَاب الْحُرْمَة
وهما يَقُولَانِ إِن المغلوب لَا عِبْرَة بِهِ فِي الشَّرْع
وَلَو طلق امْرَأَته طَلَاقا بَائِنا وَلها مِنْهُ لبن فَمَا دَامَت فِي الْعدة أَو بعد التَّزَوُّج بِغَيْرِهِ قبل ظُهُور الْحَبل لَو أرضعت صَبيا فَإِن التَّحْرِيم يثبت من الزَّوْج الأول لِأَن اللَّبن لَهُ
فَأَما إِذا حبلت من الزَّوْج الثَّانِي فأرضعت صَبيا قَالَ أَبُو حنيفَة التَّحْرِيم للْأولِ دون الثَّانِي حَتَّى

(2/239)


تضع فَإِذا وضعت يكون التَّحْرِيم للثَّانِي دون الأول
وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا نزل لَهَا اللَّبن من الثَّانِي فالتحريم للثَّانِي وَبَطل الأول
وروى الْحسن عَنهُ أَنَّهَا إِذا حبلت فاللبن للثَّانِي
وَقَالَ مُحَمَّد إِذا نزل لَهَا لبن فالتحريم للزوجين فَإِذا وضعت فالتحريم للثَّانِي لَا غير وَهِي مَسْأَلَة الْمَبْسُوط
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم الرَّضَاع الْمُقَارن للنِّكَاح فَأَما الرَّضَاع الطارىء على النِّكَاح فَإِنَّهُ يُبطلهُ لِأَنَّهُ يُوجب حُرْمَة مُؤَبّدَة بَيَانه إِذا تزوج الرجل صَغِيرَة فأرضعتها أمه حرمت عَلَيْهِ لِأَنَّهَا صَارَت أُخْتا لَهُ بِالرّضَاعِ
وَلَو تزوج رجل صغيرتين رضيعتين فَجَاءَت امْرَأَة وأرضعتهما مَعًا أَو وَاحِدَة بعد الْأُخْرَى صارتا أُخْتَيْنِ من الرضَاعَة وحرمتا عَلَيْهِ وَبَطل نِكَاحهمَا لِأَن الْجمع بَين الْأُخْتَيْنِ يَسْتَوِي فِيهِ الِابْتِدَاء والبقاء وَيجب على الزَّوْج لكل وَاحِدَة من الصغيرتين نصف الْمهْر لِأَن الْفرْقَة وَقعت قبل الدُّخُول بهما من غير فعلهمَا
ثمَّ ينظر فَإِن كَانَت الْمُرضعَة تَعَمّدت الْفساد يرجع عَلَيْهَا الزَّوْج بِمَا غرم من نصف الْمهْر وَإِن كَانَت لم تتعمد لم يرجع
وَقَالَ الشَّافِعِي يضمن مهر الْمثل فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن فعلهَا سَبَب الْحُرْمَة لاعتدائها وَإِنَّمَا يكون السَّبَب تَعَديا بِقصد الْفساد أما بِدُونِ قصد الْفساد فَلَيْسَ بتعد كحفر الْبِئْر على قَارِعَة الطَّرِيق وحفر الْبِئْر فِي ملك نَفسه
وَإِذا ثَبت أَن الرَّضَاع محرم فَإِنَّمَا يعرف بِالْإِقْرَارِ أَو بِشَهَادَة رجلَيْنِ

(2/240)


أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ
أما لَا يثبت بِشَهَادَة الرجل الْوَاحِد وَلَا بِشَهَادَة النِّسَاء وحدهن لِأَن هَذَا مِمَّا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال فَإِن النّظر إِلَى ثدي الْمَرْأَة جَائِز فِي الْجُمْلَة

(2/241)


بَاب الْعدة
الْعدة أَنْوَاع ثَلَاثَة عدَّة الْوَفَاة وعدة الطَّلَاق وعدة الْوَطْء
أما عدَّة الْوَفَاة فَفِي حق الْحرَّة أَرْبَعَة أشهر وَعشرا صَغِيرَة كَانَت أَو كَبِيرَة دخل بهَا زَوجهَا أَو لم يدْخل حرا كَانَ زَوجهَا أَو عبدا
وَهَذِه الْعدة لَا تجب إِلَّا فِي نِكَاح صَحِيح لقَوْله تَعَالَى {وَالَّذين يتوفون مِنْكُم ويذرون أَزْوَاجًا} من غير فصل وَمُطلق اسْم الزَّوْج لَا يَقع على المتزوج نِكَاحا فَاسِدا
وَأما فِي حق الزَّوْجَة الْأمة فشهران وَخَمْسَة أَيَّام كَانَ زَوجهَا حرا أَو عبدا لِأَن الْعدة تتنصف بِالرّقِّ وتتكامل بِالْحُرِّيَّةِ وَيعْتَبر فِيهَا جَانب النِّسَاء دون الرِّجَال بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَت الزَّوْجَة حَامِلا فانقضاء عدتهَا بِوَضْع حملهَا إِذا كَانَ تَاما أَو سقطا مستبين الْخلق كُله أَو بعضه قصرت الْمدَّة أَو طَالَتْ
وَعند عَليّ رَضِي الله عَنهُ عدتهَا أبعد الْأَجَليْنِ
وَالصَّحِيح قَول عَامَّة الْعلمَاء لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {حرجا مِمَّا قضيت ويسلموا تَسْلِيمًا}

(2/243)


وَالنَّص مُطلق وَهُوَ آخرهما نزولا على مَا رُوِيَ عَن ابْن مَسْعُود أَنه قَالَ من شَاءَ باهلته أَن سُورَة النِّسَاء الْقصرى نزلت بعد الَّتِي فِي سُورَة الْبَقَرَة
وَأما عدَّة الطَّلَاق فَثَلَاثَة قُرُوء فِي حق ذَوَات الْأَقْرَاء إِذا كَانَت حرَّة
وَفِي حق الآيسة وَالصَّغِيرَة وَالَّتِي لَا تحيض بعد ثَلَاثِينَ سنة ثَلَاثَة أشهر إِذا كَانَ بعد الدُّخُول بهَا أَو بعد الْخلْوَة الصَّحِيحَة فِي النِّكَاح الصَّحِيح لِأَنَّهَا توجب كَمَال الْمهْر فتوجب كَمَال الْعدة بطرِيق الأولى احْتِيَاطًا
وَأما الْخلْوَة الصَّحِيحَة فِي النِّكَاح الْفَاسِد فَلَا توجب الْعدة وَلَا كَمَال الْمهْر لِأَن التَّسْلِيم لَا يجب عَلَيْهَا فَلَا تُقَام الْخلْوَة مقَامه
وَأما الْخلْوَة الْفَاسِدَة فِي النِّكَاح الصَّحِيح فَإِن كَانَ يُمكنهُ الْوَطْء مَعَ الْمَانِع كالحيض وَالْإِحْرَام وَنَحْو ذَلِك يجب كَمَال الْعدة دون كَمَال الْمهْر لِأَنَّهُمَا يتهمان فِي الْعدة الَّتِي هِيَ حق الشَّرْع
وَإِن كَانَ لَا يُمكنهُ الْوَطْء مَعَ الْمَانِع حسا كَالْمَرِيضِ أَو الْمَرِيضَة الَّتِي لَا يقدر الْوَطْء مِنْهُمَا أَو الصَّغِير أَو الصَّغِيرَة الَّتِي لَا يتَصَوَّر الْجِمَاع مِنْهُمَا فَلَا عدَّة لِأَنَّهُمَا لَا يتهمان وَلم يُوجد التَّسْلِيم الَّذِي أوجب الْعدة
وَإِن كَانَت الزَّوْجَة مَمْلُوكَة للْغَيْر فعدتها حيضتان إِن كَانَت من ذَوَات الْأَقْرَاء وَإِن لم تَحض فشهر وَنصف
وَلَا تجب عدَّة الطَّلَاق قبل الدُّخُول

وَأما أم الْوَلَد إِذا أعتقت أَو مَاتَ سَيِّدهَا فعدتها ثَلَاث حيض عندنَا
وَعند الشَّافِعِي بقرء وَاحِد
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَة قُرُوء}

(2/244)


وَالْحكم فِي الْخلْوَة الصَّحِيحَة مَا ذكرنَا
وَقَالَ الله تَعَالَى {واللائي يئسن من الْمَحِيض من نِسَائِكُم إِن ارتبتم فعدتهن ثَلَاثَة أشهر واللائي لم يحضن}
وَقَالَ {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نكحتم الْمُؤْمِنَات ثمَّ طلقتموهن من قبل أَن تمَسُّوهُنَّ فَمَا لكم عَلَيْهِنَّ من عدَّة تعتدونها}
وَأما فِي حق الْحَامِل فعدتها وضع الْحمل لَا خلاف فِي الْمُطلقَة لظَاهِر قَوْله {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ} وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام طَلَاق الْأمة ثِنْتَانِ وعدتها حيضتان
وَقَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ طَلَاق الْأمة تَطْلِيقَتَانِ وعدتها حيضتان وَلَو اسْتَطَعْت لجعلتها حَيْضَة وَنصف
وَأما عدَّة الْمَوْطُوءَة وَهِي الَّتِي وطِئت بِالنِّكَاحِ الْفَاسِد أَو شُبْهَة عقد أَو شُبْهَة ملك أَو كَانَت أم ولد فَأعْتقهَا مَوْلَاهَا أَو مَاتَ عَنْهَا فَثَلَاث حيض أَو ثَلَاثَة أشهر أَو وضع الْحمل لِأَنَّهَا مُلْحقَة بالمنكوحة شرعا
وَلَو طلق الرجل امْرَأَته فِي مَرضه الَّذِي مَاتَ فِيهِ ثَلَاثًا أَو طَلَاقا

(2/245)


بَائِنا ثمَّ مَاتَ قبل أَن تَنْقَضِي عدتهَا فورثت اعْتدت بأَرْبعَة أشهر وَعشرا فِيهَا ثَلَاث حيض عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَقَالَ أَبُو يُوسُف عدتهَا ثَلَاث حيض
وَكَذَلِكَ امْرَأَة الْمُرْتَد يجب عَلَيْهَا الْعدة وترث من الْمُرْتَد على هَذَا الْخلاف فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
وَإِن كَانَ الطَّلَاق رَجْعِيًا فِي صِحَة أَو مرض فعدتها أَرْبَعَة أشهر وَعشرا وَبَطل عَنْهَا الْحيض فِي قَوْلهم لِأَن الزَّوْجِيَّة بَاقِيَة
وَمَوْت الزَّوْج يُوجب عدَّة الْوَفَاة
وَإِذا مَاتَ الصَّبِي عَن امْرَأَته وَهِي حَامِل فعدتها أَن تضع حملهَا عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَقَالَ أَبُو يُوسُف عدتهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرا
وَالصَّحِيح قَوْلهمَا لظَاهِر قَوْله تَعَالَى {وَأولَات الْأَحْمَال أَجلهنَّ أَن يَضعن حَملهنَّ}
وَذكر الْكَرْخِي فَإِن مَاتَ وَهِي غير حَامِل ثمَّ حملت بعد مَوته قبل انْقِضَاء الْعدة فعدتها الشُّهُور فِي قَوْلهم
ثمَّ فِي حق من كَانَت عدته بالشهور كَيفَ يعْتَبر الشَّهْر بِالْأَيَّامِ أَو بِالْأَهِلَّةِ فَنَقُول جملَة هَذَا أَن الْوَفَاة أَو الطَّلَاق إِذا اتّفق فِي غرَّة الشَّهْر اعْتبرت الشُّهُور بِالْأَهِلَّةِ وَإِن نقصت عَن الْعدَد فِي قَول أَصْحَابنَا جَمِيعًا
فَأَما إِذا حصل فِي بعض الشَّهْر فَقَالَ أَبُو حنيفَة تعْتَبر بِالْأَيَّامِ فَتعْتَد فِي الطَّلَاق تسعين يَوْمًا وَفِي الْوَفَاة مائَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا
وَقَالَ مُحَمَّد تَعْتَد بَقِيَّة الشَّهْر بِالْأَيَّامِ ثمَّ تَعْتَد شَهْرَيْن بِالْأَهِلَّةِ وتكمل الشَّهْر الأول من الشَّهْر الثَّالِث بِالْأَيَّامِ

(2/246)


وَعَن أبي يُوسُف رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة مثل قَول أبي حنيفَة
وَفِي رِوَايَة مثل قَول مُحَمَّد وَهُوَ قَوْله الْأَخير
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام الشَّهْر هَكَذَا وَهَكَذَا وَأَشَارَ بأصابع يَدَيْهِ ثَلَاثًا وخنس إبهامه فِي الثَّالِث فَكَانَ الأَصْل هُوَ الْأَهِلّة عِنْد الْإِمْكَان وَعند التَّعَذُّر يُصَار إِلَى الْأَيَّام
ثمَّ العدتان يتداخلان عندنَا سَوَاء كَانَتَا من جنس وَاحِد أَو من جِنْسَيْنِ مُخْتَلفين
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يتداخلان بل يجب أَن تمْضِي فِي الْعدة الأولى فَإِذا انْقَضتْ استأنفت الْأُخْرَى
وَصُورَة الْمَسْأَلَة أَن الْمُطلقَة إِذا مضى بعض عدتهَا وَتَزَوَّجت فِي عدتهَا فَوَطِئَهَا الزَّوْج ثمَّ تاركها فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهَا عدَّة أُخْرَى ويتداخلان
وَكَذَا إِذا كَانَتَا من جِنْسَيْنِ بِأَن كَانَ الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا إِذا وطِئت بِشُبْهَة تداخلت أَيْضا
وَيعْتَبر مَا ترى من الْحيض فِي الْأَشْهر من عدَّة الْوَطْء وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ الْعدة مُعْتَبرَة بِالنسَاء تتنصف برقها وتتكامل بحريتها بِالْإِجْمَاع وَإِنَّمَا الْخلاف فِي الطَّلَاق
ثمَّ مَا عرفت من الْجَواب فِي حق الْمسلمَة فَهُوَ الْجَواب فِي حق الْكِتَابِيَّة إِذا كَانَت تَحت مُسلم لِأَن الْعدة فِيهَا حق الشَّرْع وَحقّ الزَّوْج وَالْولد فَإِن لم تكن مُخَاطبَة بِحَق الشَّرْع فمخاطبة بإيفاء حق الزَّوْج وَالْولد

(2/247)


وَأما الذِّمِّيَّة تَحت ذمِّي فَلَا عدَّة عَلَيْهَا فِي موت وَلَا فرقة عِنْد أبي حنيفَة إِذا كَانَ فِي دينهم كَذَلِك إِلَّا أَن تكون حَامِلا فَلَا يجوز نِكَاحهَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهَا الْعدة لجَرَيَان أَحْكَام الْإِسْلَام عَلَيْهِمَا بِسَبَب الذِّمَّة
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّهَا غير مُخَاطبَة بِحَق الشَّرْع وَالزَّوْج لَا يعْتَقد الْعدة حَقًا لنَفسِهِ فَلم تجب لحقه
أما إِذا كَانَت حَامِلا فتمنع من التَّزْوِيج حَقًا للْوَلَد حَتَّى لَا يخْتَلط النّسَب فيضيع الْوَلَد
ثمَّ فِي النِّكَاح الْفَاسِد إِذا وَقعت الْفرْقَة بعد الْوَطْء بتفريق القَاضِي أَو بمتاركتها فَإِنَّهُ تعْتَبر الْعدة من وَقت التَّفْرِيق لَا من وَقت الْوَطْء عندنَا خلافًا ل زفر فَإِنَّهُ يعْتَبر من آخر وطئة وَطئهَا
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لِأَن النِّكَاح الْفَاسِد مَوْجُود من وَجه وَهُوَ مُلْحق بالثابت من كل وَجه فِي حق الْأَحْكَام فَلَا بُد من التَّفْرِيق حَتَّى تجب الْعدة
وَإِذا كَانَ الزَّوْج غَائِبا فَطلق امْرَأَته أَو مَاتَ عَنْهَا وَالْمَرْأَة لَا تعلم بذلك حَتَّى مَضَت مُدَّة الْعدة فَإِنَّهُ تَنْقَضِي الْعدة وَتعْتَبر من وَقت الطَّلَاق
وَالْعلم لَيْسَ بِشَرْط لمضي الْعدة فَإِنَّهَا أجل وضع لبراءة الرَّحِم وَإنَّهُ يحصل بِلَا علم
وَأما الممتد طهرهَا فعدتها بِالْأَقْرَاءِ وَلَا تَنْقَضِي بالشهور مَا لم تدخل فِي حد الْإِيَاس لِأَنَّهَا من ذَوَات الْأَقْرَاء فِي الْجُمْلَة

(2/248)


بَاب مَا يجب على الْمُعْتَدَّة
الْمُعْتَدَّة إِمَّا إِن كَانَت عَن طَلَاق أَو عَن وَفَاة
فَإِن كَانَت عَن طَلَاق يَنْبَغِي لَهَا أَن لَا تخرج من بَيتهَا لَيْلًا وَلَا نَهَارا بل يجب عَلَيْهَا السُّكْنَى فِي الْبَيْت الَّذِي تسكن فِيهِ وَأجر السُّكْنَى وَالنَّفقَة على الزَّوْج
وَأَصله قَوْله تَعَالَى و {لَا تخرجوهن من بُيُوتهنَّ وَلَا يخْرجن إِلَّا أَن يَأْتِين بِفَاحِشَة مبينَة}
وَأما الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا فَلَا بَأْس بِأَن تخرج بِالنَّهَارِ فِي حوائجها وَلَا تبيت فِي غير منزلهَا الَّذِي تَعْتَد فِيهِ لِأَن نَفَقَتهَا عَلَيْهَا فتحتاج إِلَى الْخُرُوج لإِصْلَاح أمرهَا
وَعَن مُحَمَّد لَا بَأْس بِأَن تبيت فِي غير بَيتهَا أقل من نصف اللَّيْل لِأَن البيتوتة عبارَة عَن السّكُون فِي الْمَكَان أَكثر اللَّيْل فِي الْعرف
ثمَّ منزلهَا الَّذِي تُؤمر بِالسُّكْنَى والاعتداد فِيهِ هُوَ الْموضع الَّذِي كَانَت تسكنه قبل مُفَارقَة الزَّوْج وَقبل مَوته سَوَاء كَانَ الزَّوْج سَاكِنا فِيهِ أَو لم يكن لِأَن الله تَعَالَى أضَاف الْبَيْت إِلَيْهَا وَالْبَيْت الْمُضَاف إِلَيْهَا هُوَ الَّذِي تسكنه
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا إِنَّهَا إِذا زارت أَهلهَا فَطلقهَا زَوجهَا كَانَ

(2/249)


عَلَيْهَا أَن تعود إِلَى منزلهَا الَّذِي كَانَت تسكن فِيهِ فَتعْتَد هُنَالك
فَإِن اضطرت إِلَى الْخُرُوج فَلَا بَأْس بذلك مثل أَن تخَاف سُقُوط الْبَيْت وانهدامه أَو تخَاف أَن يغار على متاعها أَو أَن يكون بِأُجْرَة وَلَا تَجِد مَا تُؤَدِّيه فِي أجرته فِي عدَّة الْوَفَاة فَإِن كَانَت تقدر على الْأُجْرَة فَلَا تنْتَقل
وَإِن كَانَ الْمنزل لزَوجهَا وَقد مَاتَ عَنْهَا فلهَا أَن تسكن فِي نصِيبهَا إِن كَانَ نصِيبهَا يكفيها فِي السُّكْنَى وَلَكِن تستتر عَن سَائِر الْوَرَثَة مِمَّن لَيْسَ بِمحرم لَهَا
فَأَما إِذا كَانَ نصِيبهَا لَا يكفيها أَو خَافت على متاعها مِنْهُم فلهَا أَن تنْتَقل وَيكون ذَلِك عذرا وَالسُّكْنَى وَجَبت حَقًا لله تَعَالَى عَلَيْهَا فَيسْقط بالعذر كَسَائِر الْعِبَادَات
وَكَذَلِكَ المسافرة حرَام أَيْضا للمطلقة سَوَاء كَانَ سفر حج فرض أَو غَيره
مَعَ زَوجهَا أَو محرم حَتَّى تَنْقَضِي عدتهَا لِأَن السّفر خُرُوج مديد إِلَّا أَن فِي الْمُطلقَة طَلَاقا رَجْعِيًا للزَّوْج أَن يُسَافر بهَا إِذا رَاجعهَا
وَقَالَ زفر لزَوجهَا أَن يُسَافر بهَا وَهَذَا بِنَاء على أَن المسافرة بهَا مُرَاجعَة عِنْد زفر وَعِنْدنَا لَيْسَ بمراجعة
فَأَما لَا خلاف أَن الْخُرُوج فِي حَال الْعدة حرَام عَلَيْهَا
وَلَو خرجت الْمَرْأَة مَعَ زَوجهَا فِي سفر غير سفر الْحَج ثمَّ طَلقهَا فِي بعض الطَّرِيق إِن كَانَ بَينهَا وَبَين مصرها الَّذِي خرجت مِنْهُ أقل من ثَلَاثَة أَيَّام وَبَينهَا وَبَين مقصدها ثَلَاثَة أَيَّام فَإِنَّهَا ترجع إِلَى منزلهَا لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهَا إنْشَاء السّفر وَفِي ذَلِك إنْشَاء السّفر
وَإِن كَانَ فِي كل جَانب أقل من مُدَّة السّفر كَانَ لَهَا الْخِيَار لما ذكرنَا
وَإِن كَانَ من كل جَانب مُدَّة السّفر ينظر إِن كَانَت هِيَ فِي مَوضِع يُمكنهَا الْمقَام فِيهِ أَقَامَت فِي ذَلِك الْموضع واعتدت وَلَا تمْضِي عِنْد أبي

(2/250)


حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَإِن وجدت محرما
وعَلى قَوْلهمَا إِن لم يكن مَعهَا محرم فَكَذَلِك
وَإِن كَانَ مَعهَا محرم مَضَت على سفرها
وَإِن كَانَت فِي مَوضِع لَا يصلح للإقامة وَتخَاف على نَفسهَا وَمَالهَا فَإِن شَاءَت مَضَت وَإِن شَاءَت رجعت لِاسْتِوَاء الْأَمريْنِ لَكِن إِذا بلغت إِلَى أدنى الْموضع الَّذِي يصلح للإقامة فَهُوَ على هَذَا الْخلاف الَّذِي ذكرنَا
فَإِن أَحرمت لِلْحَجِّ وَخرجت إِلَى سفر الْحَج مَعَ محرم لَهَا غير الزَّوْج ثمَّ طَلقهَا الزَّوْج أَو مَاتَ فبلغها الْخَبَر وَبَينهَا وَبَين مصرها أقل من ثَلَاثَة أَيَّام فَإِنَّهَا ترجع وَتصير بِمَنْزِلَة الْمحصر فَإِن رَاجعهَا زَوجهَا بطلت الْعدة وتعود الزَّوْجِيَّة فَجَاز لَهَا السّفر
وَأما الْحداد فَيجب على كل مُعْتَدَّة بَالِغَة عَاقِلَة مسلمة حرَّة بَانَتْ من زَوجهَا بِوَاحِدَة أَو ثَلَاث أَو مَاتَ عَنْهَا زَوجهَا
فَإِن كَانَت مُعْتَدَّة عَن وَفَاة يجب الْإِحْدَاد بِالْإِجْمَاع
وَإِن كَانَت عَن طَلَاق بَائِن أَو ثَلَاث فَكَذَلِك عندنَا
وَعند الشَّافِعِي لَا يجب الْإِحْدَاد
وَأَجْمعُوا أَنه لَا يجب الْإِحْدَاد على الْمُطلقَة طَلَاقا رَجْعِيًا
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ لَا يحل لامْرَأَة تؤمن بِاللَّه وَالْيَوْم الآخر أَن تحد على ميت فَوق ثَلَاثَة أَيَّام إِلَّا على زَوجهَا أَرْبَعَة أشهر وَعشرا والمباينة نَظِير الْمُتَوفَّى عَنْهَا زَوجهَا فِي التحسر على مَا فَاتَ فِي الْغَالِب فَيجب الْإِحْدَاد عَلَيْهَا
ثمَّ تَفْسِير الْإِحْدَاد هُوَ الاجتناب عَن جَمِيع مَا يتزين بِهِ النِّسَاء من

(2/251)


الطّيب وَلبس الثَّوْب الْمَصْبُوغ والمطيب بالعصفر والزعفران والاكتحال والادهان والامتشاط وَلبس الْحلِيّ والخضاب وَنَحْو ذَلِك إِلَّا إِذا لم يكن لَهَا إِلَّا ثوب مصبوغ فَلَا بَأْس بِأَن تلبسه وَلَا تقصد الزِّينَة
وَقَالَ فِي الأَصْل وَلَا تلبس قصبا وَلَا خَزًّا تتزين بِهِ لِأَن هَذَا مِمَّا يلبس للْحَاجة فَيعْتَبر فِيهِ الْقَصْد فَإِن قصدت الزِّينَة يكره وَإِن لم تقصد فَلَا بَأْس
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم الْمُعْتَدَّة الْبَالِغَة الْعَاقِلَة الْمسلمَة الْحرَّة فِي النِّكَاح الصَّحِيح
فَأَما الصَّغِيرَة والكتابية وَالْأمة والمدبرة وَأم الْوَلَد وَالْمُكَاتبَة والموطوءة عَن شُبْهَة أَو نِكَاح فَاسد فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ السُّكْنَى وَيُبَاح لَهُنَّ الْخُرُوج لِأَن السُّكْنَى حق الله تَعَالَى والكافرة لَا تخاطب بِهِ
فَأَما الرقيقة فَلَا يلْزمهَا الْمقَام فِي منزل زَوجهَا لقِيَام حق الْمولى فِي الْخدمَة إِلَّا إِذا بوأها مَوْلَاهَا منزلا فَحِينَئِذٍ لَا تخرج لِأَنَّهُ أسقط حق نَفسه فِي الْخدمَة
فَإِن أَرَادَ الْمولى أَن يُخرجهَا فَلهُ ذَلِك لِأَنَّهُ أعَار مَنْفَعَة خدمته للزَّوْج وللمعير أَن يسْتَردّ الْعَارِية
وَأما الْكِتَابِيَّة فلهَا أَن تخرج إِلَّا أَن يحبسها الزَّوْج لحقه فِي عدتهَا لصيانة المَاء فَتكون السُّكْنَى حق الزَّوْج لأجل الْوَلَد
وَأما الصَّغِيرَة فلهَا الْخُرُوج وَلَيْسَ للزَّوْج منعهَا لِأَنَّهُ لَا يلْزمهَا حق الشَّرْع وَلَا حق الزَّوْج لِأَن حَقه فِي حفظهَا لصيانة الْوَلَد وَلَا يتَصَوَّر الْوَلَد فِي حَقّهَا
وَأما أم الْوَلَد إِذا أعتقت أَو مَاتَ سَيِّدهَا فلهَا أَن تخرج لِأَن عدتهَا عدَّة الْوَطْء

(2/252)


وَكَذَلِكَ فِي الْوَطْء لشُبْهَة أَو نِكَاح فَاسد لَهَا أَن تخرج لِأَن ذَلِك وَاجِب فِي النِّكَاح الصَّحِيح لَا غير
فَأَما الْحداد فَلَا يجب على الصَّغِيرَة والكافرة لِأَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِمَا حق الله تَعَالَى
فَأَما على الْأمة والمدبرة وَأم الْوَلَد وَالْمُكَاتبَة إِذا كَانَت زَوجته فَيجب الْحداد لِأَنَّهُ عبَادَة بدنية وَإِنَّهَا لَا تسْقط بِسَبَب الرّقّ
وَفِي عدَّة أم الْوَلَد بعد الْعتْق وَالْمَوْت وَفِي الْعدة من نِكَاح فَاسد لَا حداد أَيْضا لِأَنَّهُ يجب لحُرْمَة الزَّوْجِيَّة وَلم تُوجد
ثمَّ الْمُعْتَدَّة إِذا قَالَت انْقَضتْ عدتي فِي مُدَّة تَنْقَضِي بهَا الْعدة غَالِبا فَإِنَّهَا تصدق لِأَنَّهَا أمينة وَالْقَوْل قَول الْأمين فِيمَا لَا يُخَالِفهُ الظَّاهِر بِالْإِجْمَاع
وَلَو لم تعترف بِانْقِضَاء الْعدة لَا تَنْقَضِي لاحْتِمَال أَنَّهَا تصير ممتدة الطُّهْر
فَأَما إِذا أخْبرت بِانْقِضَاء الْعدة فِي مُدَّة أقل من شَهْرَيْن قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يصدق فِي أقل من شَهْرَيْن
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يصدق فِي تِسْعَة وَثَلَاثِينَ يَوْمًا
ولتخريج قَول أبي حنيفَة رَحمَه الله وَجْهَان أَحدهمَا رَوَاهُ مُحَمَّد وَالثَّانِي رَوَاهُ الْحسن
وَإِن طَلقهَا فِي نفَاسهَا وَهِي حرَّة فَقَالَ أَبُو حنيفَة فِي رِوَايَة مُحَمَّد لَا تصدق فِي أقل من خَمْسَة وَثَمَانِينَ يَوْمًا
وَفِي رِوَايَة الْحسن مائَة يَوْم

(2/253)


وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا تصدق فِي أقل من خَمْسَة وَسِتِّينَ يَوْمًا
وَقَالَ مُحَمَّد لَا تصدق فِي أقل من أَرْبَعَة وَخمسين يَوْمًا وَسَاعَة
وَوجه تَخْرِيج الْمَسْأَلَة يعرف فِي كتاب الْحيض وَالله أعلم

(2/254)