تحفة الفقهاء

كتاب الْمُضَاربَة
يحْتَاج إِلَى معرفَة تَفْسِير الْمُضَاربَة والألفاظ الَّتِي بهَا تَنْعَقِد الْمُضَاربَة وَإِلَى بَيَان شُرُوط صِحَّتهَا والشروط الْمفْسدَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا
وَأما تَفْسِير الْمُضَاربَة فَهُوَ دفع المَال إِلَى غَيره ليتصرف فِيهِ وَيكون الرِّبْح بَينهمَا على مَا شرطا فَيكون الرِّبْح لرب المَال بِسَبَب مَاله لِأَنَّهُ نَمَاء مَاله وللمضارب بِاعْتِبَار عمله الَّذِي هُوَ سَبَب وجود الرِّبْح
وَأما أَلْفَاظ الْمُضَاربَة فَأن يَقُول دفعت هَذَا المَال إِلَيْك مُضَارَبَة أَو مقارضة أَو مُعَاملَة أَو خُذ هَذَا المَال واعمل فِيهِ على أَن مَا رزق الله من شَيْء فَهُوَ بَيْننَا نِصْفَانِ أَو على أَن لَك ربعه أَو خمسه أَو عشره وَلم يزدْ على هَذَا فَهُوَ مُضَارَبَة
ثمَّ هِيَ نَوْعَانِ مُطلقَة وخاصة
أما الْمُطلقَة فَأن يدْفع المَال إِلَى رجل وَيَقُول دفعت هَذَا المَال إِلَيْك مُضَارَبَة على أَن الرِّبْح بَيْننَا نِصْفَانِ
وَأما الْخَاصَّة فَأن يدْفع إِلَيْهِ ألف دِرْهَم مُضَارَبَة على أَن يعْمل بهَا فِي

(3/19)


الْكُوفَة أَو أَن يعْمل بهَا فِي الْبَز أَو الْخَزّ أَو قَالَ خُذ هَذَا المَال مُضَارَبَة بِالنِّصْفِ على أَن تشتري بِهِ الطَّعَام وَنَحْو ذَلِك
وَأما شَرَائِط صِحَّتهَا فَمِنْهَا أَن يكون رأى رَأس المَال من الْأَثْمَان الْمُطلقَة فَكل مَا يصلح رَأس مَال الشّركَة وَيصِح بِهِ عقد الشّركَة تصح بِهِ الْمُضَاربَة وَإِلَّا فَلَا وَقد ذكرنَا هَذَا فِي كتاب الشّركَة
وَأما الْمُضَاربَة بِرَأْس مَال الدّين فَهُوَ على وَجْهَيْن أَحدهمَا أَن يكون الدّين لرب المَال على رجل فَيَقُول لَهُ اعْمَلْ بديني الَّذِي فِي ذِمَّتك مُضَارَبَة بِالنِّصْفِ فَإِن اشْترى بهَا وَبَاعَ فَجَمِيع مَا اشْترى وَبَاعَ يملكهُ وَله ربحه وَعَلِيهِ وضيعته وَالدّين فِي ذمَّته بِحَالهِ عِنْد أبي حنيفَة بِنَاء على أَصله فِيمَن وكل رجلا ليَشْتَرِي بِالدّينِ الَّذِي فِي ذمَّته لم يجز
وعَلى أَصلهمَا يجوز هَذَا التَّوْكِيل وَيبرأ من الدّين فَيكون مَا اشْترى وَبَاعَ لرب المَال لَهُ ربحه وَعَلِيهِ وضيعته وَالْمُضَاربَة فَاسِدَة لِأَن الشِّرَاء وَقع للْمُوكل فَيكون مُضَارَبَة بالعروض
وَأما إِذا قَالَ لَهُ اقبض مَالِي على فلَان من الدّين واعمل بِهِ مُضَارَبَة فقد جَازَ لِأَنَّهُ أضَاف الْمُضَاربَة إِلَى الْمَقْبُوض الَّذِي هُوَ أَمَانَة فِي يَده
وَمن شَرط صِحَّتهَا أَن يكون الرِّبْح جُزْءا مشَاعا من الْجُمْلَة
أما إِذا عين بِأَن قَالَ على أَن لَك من الرِّبْح مائَة دِرْهَم أَو نَحْوهَا فَلَا يَصح لاحْتِمَال أَن الرِّبْح لَا يكون إِلَّا هَذَا الْقدر فَلَا يحصل الرِّبْح لرب المَال
وَكَذَا الْوَصِيّ لَو دفع مَال الصَّبِي مُضَارَبَة وَشرط عمل الصَّغِير فالمضاربة فَاسِدَة لبَقَاء يَد الْمَالِك على المَال

(3/20)


وَمِنْهَا انْقِطَاع يَد رب المَال عَن رَأس المَال شَرط صِحَّتهَا حَتَّى قَالُوا فِي الْمضَارب إِذا دفع المَال لي رب المَال مُضَارَبَة بِالثُّلثِ فالمضاربة الثَّانِيَة فَاسِدَة
وَمِنْهَا إِعْلَام قدر الرِّبْح لِأَن الرِّبْح هُوَ الْمَقْصُود فجهالته توجب فَسَاد العقد
فَكل شَرط يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَة الرِّبْح يفْسد الْمُضَاربَة
وَإِن كَانَ لَا يُؤَدِّي إِلَى جَهَالَة الرِّبْح يبطل الشَّرْط وَيصِح العقد مثل أَن يشْتَرط أَن تكون الوضيعة على الْمضَارب أَو عَلَيْهِمَا فَالشَّرْط يبطل وَيبقى العقد صَحِيحا والوضيعة فِي مَال الْمُضَاربَة وَكَذَا لَو دفع ألفا مُضَارَبَة على أَن الرِّبْح بَينهمَا نِصْفَانِ وعَلى أَن يدْفع إِلَيْهِ رب المَال أرضه ليزرعها سنة أَو على أَن يسكنهُ دَاره سنة فَالشَّرْط بَاطِل وَالْمُضَاربَة جَائِزَة
وَأما الْأَحْكَام فَنَقُول الْمُضَاربَة تشْتَمل على أَحْكَام مُخْتَلفَة إِذا دفع المَال إِلَى الْمضَارب فَهُوَ أَمَانَة فِي يَده فِي حكم الْوَدِيعَة لِأَنَّهُ قَبضه بِأَمْر الْمَالِك لَا على طَرِيق الْبَدَل والوثيقة
فَإِذا اشْترى بِهِ فَهُوَ وكَالَة لِأَنَّهُ تصرف فِي مَال الْغَيْر بِإِذْنِهِ
فَإِذا ربح صَار شركَة لِأَنَّهُ ملك جُزْءا من المَال بِشَرْط الْعَمَل وَالْبَاقِي نَمَاء مَال الْمَالِك فَهُوَ لَهُ فَكَانَ مُشْتَركا بَينهمَا
فَإِذا فَسدتْ الْمُضَاربَة بِوَجْه من الْوُجُوه صَارَت إِجَارَة لِأَن الْوَاجِب فِيهَا أجر الْمثل وَذَلِكَ يجب فِي الْإِجَارَات
فَإِن خَالف الْمضَارب صَار غَاصبا وَالْمَال مَضْمُون عَلَيْهِ لِأَنَّهُ

(3/21)


تعدى فِي ملك غَيره
ثمَّ من حكم الْمُضَاربَة الْمُطلقَة الْعَامَّة أَن يتَصَرَّف الْمضَارب فِي مَال الْمُضَاربَة مَا بدا لَهُ من أَنْوَاع التِّجَارَات وَله أَن يدْفع بضَاعَة ووديعة ويستأجر الْأَجِير وَالدَّوَاب والبيوت وَأَن يَبِيعهُ بِالنَّقْدِ والنسيئة ويوكل وَكيلا فِي الشِّرَاء وَالْبيع وَله أَن يرْهن ويرتهن فِي الْمُضَاربَة وَله أَن يُسَافر بِالْمَالِ فِي الطَّرِيق الَّذِي يُسَافر فِيهِ التُّجَّار
وَلَيْسَ لَهُ أَن يقْرض وَأَن يستدين على الْمُضَاربَة وَإِن يَأْخُذ سفتجة حَتَّى يَأْمُرهُ بذلك وَلَيْسَ لَهُ أَن يدْفع المَال إِلَى غَيره مُضَارَبَة وَأَن يُشَارك بِهِ وَأَن يخلطه بِمَالِه وَلَا بِمَال غَيره فِي قَوْلهم جَمِيعًا
وَفِي الرِّوَايَة الْمَشْهُورَة لَهُ أَن يَأْذَن لعبد الْمُضَاربَة فِي التِّجَارَة لِأَنَّهُ عَادَة التُّجَّار
وَأما الْمُضَاربَة الْخَاصَّة فَهِيَ فِيمَا ذكرنَا من الْأَحْكَام مثل الْمُضَاربَة الْعَامَّة وَإِنَّمَا تفارقها فِي قدر الْخُصُوص وَهُوَ أَن يتَقَيَّد بِالْمِصْرِ الَّذِي قَيده بهَا بِأَن دفع المَال مُضَارَبَة ليعْمَل بهَا فِي الْكُوفَة فَلَيْسَ لَهُ أَن يخرج المَال من الْكُوفَة بِنَفسِهِ وَلَا يُعْطِيهَا أَيْضا بضَاعَة لمن يخرج بهَا عَن الْكُوفَة فَإِن أخرجهَا من الْكُوفَة ضمن فَإِن اشْترى بهَا وَبَاعَ فَمَا اشْترى فَهُوَ لنَفسِهِ وَإِن لم يشتر بهَا شَيْئا حَتَّى يردهُ إِلَى الْكُوفَة برىء من الضَّمَان وَرجع المَال مُضَارَبَة على حَالهَا كَالْمُودعِ إِذا خَالف فِي الْوَدِيعَة ثمَّ عَاد إِلَى الْوِفَاق

(3/22)


وَلَو دفع إِلَيْهِ على أَن يعْمل فِي سوق الْكُوفَة فَعمل بِالْكُوفَةِ فِي غير سوقها فَهُوَ جَائِز على الْمُضَاربَة اسْتِحْسَانًا لِأَنَّهُ لَا يُفِيد غَالِبا
وَلَو قَالَ لَهُ لَا تعْمل إِلَّا فِي سوق الْكُوفَة فَعمل فِي غير السُّوق فَبَاعَ وَاشْترى فَهُوَ ضَامِن لِأَن هَذَا حجر وَالْأول تَخْصِيص وَإِنَّمَا يَصح التَّخْصِيص إِذا كَانَ مُفِيدا وَالْحجر عَن التَّصَرُّف فِي ملك نَفسه جَائِز وَلَا يَصح التَّصَرُّف بِدُونِ إِذْنه
ثمَّ فِي الْمُضَاربَة الْمُطلقَة إِذا نهى رب المَال أَن يخرج المَال من الْمصر الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْهُ وَعلم بِالنَّهْي فَلَيْسَ لَهُ أَن يخرجهه وَحَاصِل هَذَا أَن فِي الْمُضَاربَة الْمُطلقَة إِن خصصها رب المَال بعد العقد فَإِن كَانَ رَأس المَال بِحَالهِ أَو اشْترى بِهِ مَتَاعا ثمَّ بَاعه وَقبض ثمنه دَرَاهِم ودنانير فَإِن تَخْصِيصه جَائِز كَمَا لَو خصص الْمُضَاربَة فِي الِابْتِدَاء لِأَنَّهُ يملك التَّخْصِيص إِذا كَانَ فِيهِ فَائِدَة
أما إِذا كَانَ مَال الْمُضَاربَة عرُوضا فَلَيْسَ يَصح نهي رب المَال حَتَّى يصير نَقْدا وَذَلِكَ نَحْو أَن يَقُول لَا تبع بِالنَّسِيئَةِ لِأَن الْمُضَاربَة تمت بِالشِّرَاءِ وَلَو أَرَادَ الْعَزْل عَن البيع لم يَصح عَزله فَكَذَلِك عَن صفته
وَمِنْهَا أَن الْمضَارب لَيْسَ لَهُ أَن ينْفق من مَال الْمُضَاربَة مَا دَامَ فِي مصره وَإِذا سَافر أنْفق من مَال الْمُضَاربَة لنفقته وَكسوته ومركوبه وعلف دوابه وَنَفَقَة أجيره ومؤونته وَمَا لَا بُد فِي السّفر مِنْهُ عَادَة إِلَّا مؤونة الْحجامَة والخضاب والنورة فَهُوَ من مَاله
وروى الْحسن أَن كل مَا يثبت فِيهِ نَفَقَة الْإِنْسَان كَانَ فِيهِ الدَّوَاء والحجامة فِي قِيَاس قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَكَذَلِكَ الدّهن وَقَالَ مُحَمَّد الدّهن فِي مَاله

(3/23)


وَلَو أَقَامَ فِي مصر من الْأَمْصَار للْبيع وَالشِّرَاء وَنوى الْإِقَامَة خَمْسَة عشر يَوْمًا فنفقته من مَال الْمُضَاربَة مَا لم يتَّخذ من الْمصر دَارا للتوطين
ثمَّ إِذا دخل مصره فَمَا فضل من نَفَقَته وَكسوته يردهُ إِلَى مَال الْمُضَاربَة
ثمَّ مِقْدَار النَّفَقَة الَّتِي أنْفق يحْتَسب كُله من الرِّبْح إِن كَانَ ربح وَإِن لم يكن فَهُوَ من رَأس المَال
وَمَا أنفقهُ من مَاله فِيمَا لَهُ أَن يُنْفِقهُ من مَال الْمُضَاربَة على نَفسه فَهُوَ دين فِي الْمُضَاربَة كالوصي إِذا أنْفق على الصَّغِير من مَال نَفسه لِأَن تَدْبِير ذَلِك مفوض إِلَيْهِ
وَمِنْهَا أَن قسْمَة الرِّبْح قبل قبض رَأس المَال لَا تصح حَتَّى أَنَّهُمَا لَو اقْتَسمَا الرِّبْح وَرَأس المَال فِي يَد الْمضَارب فَهَلَك فَمَا أَخذ رب المَال من الرِّبْح يكون محسوبا من رَأس المَال وَيرجع على الْمضَارب فِيمَا قَبضه حَتَّى يتم رَأس المَال فَإِن فضل فَهُوَ ربح بَينهمَا
وَلَو هلك رَأس المَال فِي يَد الْمضَارب قبل أَن يَشْتَرِي بِهِ شَيْئا يهْلك أَمَانَة وتنفسخ الْمُضَاربَة لِأَن المَال يتَعَيَّن فِي الْمُضَاربَة
وَالْقَوْل فِي الْمُضَاربَة الصَّحِيحَة قَول الْمضَارب وَفِي الْفَاسِدَة قَول رب المَال
فَأَما إِذا اشْترى بِالْمَالِ رَقِيقا فَهَلَك الرَّقِيق فَهُوَ على الْمُضَاربَة
وَلَو كَانَ رَأس المَال ألفا فَاشْترى بِهِ شَيْئا فَهَلَك الْألف قبل التَّسْلِيم فَإِنَّهُ يرجع هُوَ بِالْألف على رب المَال ثَانِيًا وثالثا ورابعا وَذَلِكَ كُله رَأس المَال لِأَن الْمُضَاربَة قد تمت
لَو مَاتَ الْمضَارب يَنْفَسِخ عقد الْمُضَاربَة لعَجزه عَن الْعَمَل بِهِ

(3/24)


فَصَارَ كلما لَو عَزله إِلَّا أَن فِي الْعَزْل لَا بُد من الْعلم وَفِي الْمَوْت يَنْفَسِخ وَإِن لم يعلم لِأَنَّهُ فسخ حكمي كَذَلِك إِذا مَاتَ رب المَال يَنْفَسِخ سَوَاء علم الْمضَارب بِمَوْتِهِ أَولا لِأَنَّهُ فسخ حكمي
وَهَذَا إِذا كَانَ المَال نَقْدا فَأَما إِذا كَانَ المَال عرُوضا فَإِن بيع الْمضَارب جَائِز حَتَّى يصير نَقْدا فَيُؤَدِّي رَأس المَال وَلَا يَنْعَزِل بِالْعَزْلِ صَرِيحًا وَكَذَلِكَ بِالْمَوْتِ
ثمَّ الْمُضَاربَة مَتى فَسدتْ وَقد ربح فِيهَا فَالرِّبْح لرب المَال وللمضارب أجر الْمثل لِأَن اسْتِحْقَاق رب المَال الرِّبْح لكَونه نَمَاء مَاله وَالْمُضَارب إِنَّمَا يسْتَحق بِالشّرطِ وَقد فسد العقد لَكِن عمل لَهُ بِحكم عقد فَاسد فَيلْزمهُ أجر الْمثل
وَكَذَا إِذا لم يربح لِأَنَّهُ اسْتَعْملهُ مُدَّة فِي عمله فَكَانَ عَلَيْهِ أجر الْعَمَل
وَفِي الْمُضَاربَة الصَّحِيحَة إِن لم يكن ربح فَلَا شَيْء للْمُضَارب لِأَنَّهُ عَامل لنَفسِهِ فَلَا يسْتَحق الْأجر وَالله أعلم

(3/25)