تحفة الفقهاء

كتاب الرَّهْن
يحْتَاج إِلَى بَيَان شَرْعِيَّة عقد الرَّهْن يحْتَاج إِلَى وَإِلَى بَيَان رُكْنه وَإِلَى بَيَان شَرَائِط جَوَازه وَإِلَى بَيَان مَا يصلح مَرْهُونا وَإِلَى بَيَان مَا يكون مَرْهُونا بِهِ وَإِلَى بَيَان حكم الرَّهْن وَمَا يتَعَلَّق بِهِ من الْأَحْكَام
أما الأول فَنَقُول الرَّهْن عقد شرع وَثِيقَة بِمَال
عرفت مشروعيته بِالنَّصِّ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا} إِلَى أَن قَالَ {فرهان مَقْبُوضَة}
وَرُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه اشْترى من يَهُودِيّ طَعَاما نَسِيئَة وَرهن بِهِ درعه
وَأما بَيَان رُكْنه فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول قَوْله رهنتك هَذَا بِمَالك عَليّ من
فَمِنْهَا الْقَبْض وَهُوَ عندنَا
وَقَالَ مَالك يَصح بِالْإِيجَابِ وَالْقَبُول
وَهُوَ خلاف النَّص قَالَ الله تَعَالَى {فرهان مَقْبُوضَة}

(3/37)


الدّين أَو قَوْله خُذ هَذَا الشَّيْء رهنا بِدينِك وَنَحْو ذَلِك
وَمِنْهَا دوَام الْقَبْض بِأَن يكون محوزا فِي يَده لِأَن مَقْصُود الرَّهْن هُوَ الاستيثاق وَذَلِكَ لَا يحصل إِلَّا بِهَذَا
وَمِنْهَا أَن يكون مُنْفَصِلا عَن غَيره غير مُتَعَلق بِمَا لم يَقع عَلَيْهِ عقد الرَّهْن
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن رهن الْمشَاع لَا يَصح
وَقَالَ الشَّافِعِي يَصح
وَالصَّحِيح مَا قُلْنَاهُ لِأَنَّهُ لَا يقدر على تَسْلِيمه إِلَّا بالتهايؤ وَذَلِكَ يُوجب فَوَات الْقَبْض على الدَّوَام
وَيَسْتَوِي الْجَواب فِي الْمشَاع الَّذِي يَنْقَسِم وَالَّذِي لَا يَنْقَسِم وَمن الشَّرِيك وَغَيره
وَأما الشُّيُوع الطارىء فَيبْطل الرَّهْن فِي رِوَايَة الأَصْل
وروى ابْن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يبطل
وَأما إِذا رهن بَيْتا بِعَيْنِه من دَار بِعَينهَا جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بشائع وَلِهَذَا قُلْنَا إِنَّه لَا يجوز رهن ثَمَرَة فِي شَجَرَة بِدُونِ الشَّجَرَة وَلَا الشَّجَرَة بِدُونِ الْكَرم حَتَّى يحوزه ويسلمه إِلَى الْمُرْتَهن وَكَذَا رهن شجر فِي أَرض بِدُونِ الأَرْض وَكَذَا إِذا رهن زرعا دون الأَرْض أَو الأَرْض دون الزَّرْع لِأَن الرَّهْن مُتَّصِل بِمَا لَيْسَ برهن فَلَا يَصح التَّسْلِيم وَإِن رهن النّخل وَالشَّجر وَالْكَرم بمواضعها من الأَرْض جَازَ لِأَنَّهُ لَا يُمكن

(3/38)


قبضهَا بِمَا فِيهَا بِالتَّخْلِيَةِ
وَلَو قَالَ رهنتك هَذِه الدَّار أَو هَذِه الأَرْض أَو هَذِه الْقرْيَة يدْخل فِي الرَّهْن كل مَا كَانَ مُتَّصِلا بالمرهون من الْبناء فِي الدَّار وَالشَّجر مَعَ الثَّمر وَالزَّرْع وَالرّطب فِي الأَرْض لِأَن الرَّهْن لَا يجوز بِدُونِ مَا يتَّصل بِهِ فَكَانَ إِطْلَاق العقد ينْصَرف إِلَى مَا فِيهِ تَصْحِيحه
وَلَو رهن دَارا وفيهَا مَتَاع قَلِيل أَو كثير أَو حبوب أَو شَيْء مِمَّا ينْتَفع بِهِ دون هَذِه الْأَشْيَاء لم يَصح الرَّهْن حَتَّى يسلم الدَّار فارغة عَنْهَا
وَلَو رهن الدَّار بِمَا فِيهَا صَحَّ إِذا سلم الدَّار إِلَيْهِ وخلى بَينه وَبَين الدَّار بِمَا فِيهَا وَيصير الْكل رهنا
وَلَو رهن دَارا والراهن وَالْمُرْتَهن فِي جوفها فَقَالَ رهنتها مِنْك وسلمتها إِلَيْك وَقَالَ الْمُرْتَهن قبلت لم يتم الرَّهْن حَتَّى يخرج الرَّاهِن من الدَّار ثمَّ يَقُول الرَّاهِن قد سلمتها إِلَيْك لِأَنَّهُ لَا يَصح التَّسْلِيم إِلَى الْمُرْتَهن وَهُوَ فِي الدَّار فَإِذا خرج فَلَا بُد من تَسْلِيم جَدِيد
ثمَّ قبض الْأَب وَالْوَصِيّ ووكيل الْمُرْتَهن كقبضه
وَكَذَا قبض الْعدْل كقبضه لِأَنَّهُ يمسك الرَّهْن للْمُرْتَهن وَلَكِن لَا يملك نقض يَده وَالرَّدّ إِلَى يَد الرَّاهِن
وَلَيْسَ لَهُ أَن يقبضهُ الْمُرْتَهن إِلَّا بِإِذن الرَّاهِن لِأَنَّهُ لم يرض بإمساك الْمُرْتَهن حَيْثُ جعلاه فِي يَد الْعدْل وشرطا فِي عقد الرَّهْن أَو بعد الرَّهْن
فَأَما إِذا شرطا أَن يكون فِي يَد الْعدْل وَأَن يَبِيعهُ بِدِينِهِ وَيَقْضِي بِهِ دينه فَيصح وَلَكِن لَا يملك الرَّاهِن نقض هَذِه الْوكَالَة إِلَّا بِرِضا الْمُرْتَهن لِأَن البيع صَار حَقًا من حُقُوق الرَّهْن زِيَادَة وَثِيقَة فِي حق الْمُرْتَهن بِطَلَبِهِ
وَلَو لم يكن مَشْرُوطًا فِي الرَّهْن ثمَّ أَمر الْعدْل بعد ذَلِك بِبيعِهِ فَهَذَا

(3/39)


تَوْكِيل بِالْبيعِ فَيملك الرَّاهِن عَزله وَالنَّهْي عَن البيع وَإِذا مَاتَ الرَّاهِن يَنْعَزِل هَذَا الْوَكِيل وَفِي الْفَصْل الأول لَا يملك الرَّاهِن عَزله وَلَو مَاتَ لَا يَنْعَزِل الْوَكِيل عَن البيع
وَأما بَيَان مَا يصلح مَرْهُونا فَكل مَال مُتَقَوّم يجوز أَن يكون مَبِيعًا لِأَن حكمه ملك الْحَبْس بِالدّينِ ليقضي مِنْهُ الدّين إِذا عجز عَن الْقَضَاء إِلَّا بِهِ فَلَا بُد من أَن يكون مَالا مُتَقَوّما
وَلِهَذَا لَا يجوز أَن يكون الْمُدبر وَأم الْوَلَد وَالْمكَاتب وَالْحر رهنا لِأَنَّهُ لَا يُمكن اسْتِيفَاء الدّين من هَؤُلَاءِ
وَكَذَلِكَ لَا يجوز أَن يكون الْخمر وَالْخِنْزِير رهنا سَوَاء كَانَ العاقدان مُسلمين أَو أَحدهمَا مُسلما وَالْآخر ذِمِّيا لِأَن الرَّهْن للإيفاء والاستيفاء وإيفاء الدّين من الْخمر وَالْخِنْزِير لَا يجوز من الْمُسلم وَكَذَا الِاسْتِيفَاء من الْمُرْتَهن الْمُسلم
ثمَّ فِي حق أهل الذِّمَّة يجوز الرَّهْن والارتهان بِالْخمرِ وَالْخِنْزِير لِأَنَّهُمَا مَال عِنْدهم وَلَا يجوز بالميتة وَالدَّم لِأَنَّهُمَا ليسَا بِمَال أصلا
وَكَذَا الْمشَاع وَالثَّمَرَة الْمُعَلقَة من الشَّجَرَة وَالزَّرْع النَّابِت فِي الأَرْض لَا يَصح رهنا لِأَنَّهُ لَا يتَحَقَّق فِيهِ التَّسْلِيم
وَأما بَيَان مَا يجوز أَن يكون مَرْهُونا بِهِ فَنَقُول الدّين يصلح أَن يكون مَرْهُونا بِهِ على كل حَال سَوَاء كَانَ ثمَّة بيع أَو ضَمَان إِتْلَاف وَنَحْو ذَلِك لِأَن الرَّهْن للاستيفاء وَاسْتِيفَاء الدّين من ثمن الرَّهْن مُتَحَقق
وَأما الْأَعْيَان الْمَضْمُونَة فعلى وَجْهَيْن مَا كَانَ مَضْمُونا بِنَفسِهِ كالمغصوب فَيجوز الرَّهْن بِهِ والمضمون

(3/40)


بِنَفسِهِ مَا يجب عِنْد هَلَاكه مثله إِن كَانَ مثلِيا وَقِيمَته إِن لم يكن لَهُ مثل
وَأما الْأَعْيَان الْمَضْمُونَة بغَيْرهَا فَلَا يجوز الرَّهْن بهَا كَالْمَبِيعِ فِي يَد البَائِع مَضْمُون بِالثّمن لَا بِنَفسِهِ على معنى أَن الْمَبِيع إِذا هلك يسْقط الثّمن إِذْ لَا يجب بهلاكه شَيْء على الضَّامِن وَيصير بِهِ مُسْتَوْفيا للدّين
واما الْأَعْيَان الَّتِي لَيست بمضمونة كالودائع والعواري وَالْمُسْتَأْجر وَمَال الْمُضَاربَة وَالشَّرِكَة فَلَا يجوز الرَّهْن بهَا لِأَن مَا لَيْسَ بمضمون لَا يصير الْمُرْتَهن مُسْتَوْفيا بهلاكه
وَيجوز الرَّهْن بِبَدَل الصُّلْح عَن دم الْعمد وببدل الْخلْع وَالْمهْر لِأَنَّهَا مَضْمُونَة بأنفسها فَإِنَّهَا إِذا هَلَكت يجب مثلهَا إِن كَانَ لَهَا مثل وَقيمتهَا إِن لم يكن لَهَا مثل
ثمَّ إِذا هلك الرَّهْن وَالْعين الْمَضْمُونَة قَائِمَة فِي يَد الرَّاهِن يُقَال لَهُ سلم الْعين الَّتِي فِي يدك وَخذ من الْمُرْتَهن الْأَقَل من الدّين وَمن قيمَة الرَّهْن لِأَن الْمَرْهُون مَضْمُون عندنَا كَذَلِك
وَإِن هَلَكت الْعين الْمَضْمُونَة قبل هَلَاك الرَّهْن فَيصير الرَّهْن رهنا بِقِيمَة الْعين الْمَضْمُونَة فَإِذا هلك الرَّهْن بعد ذَلِك هلك بِالْأَقَلِّ من قِيمَته وَمن قيمَة الْعين الَّتِي كَانَت رهنا بهَا
وَلَا يجوز الرَّهْن بقصاص فِي نفس أَو فِيمَا دونهَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن اسْتِيفَاء الْقصاص من الرَّهْن
وَإِن كَانَت الْجِنَايَة خطأ جَازَ الرَّهْن بأروشها لِأَنَّهُ يُمكن الِاسْتِيفَاء من الرَّهْن

(3/41)


وَأما حكم الرَّهْن فعندنا ملك الْعين فِي حق الْحَبْس حَتَّى يكون الْمُرْتَهن أَحَق بإمساكه إِلَى وَقت إِيفَاء الدّين
وَإِذا مَاتَ الرَّاهِن فَهُوَ أَحَق بِهِ من سَائِر الْغُرَمَاء فيستوفي مِنْهُ دينه فَمَا فضل يكون لسَائِر الْغُرَمَاء وَالْوَرَثَة
وَلِهَذَا لَا يجوز للرَّاهِن أَن يتَصَرَّف فِيهِ تَصرفا يبطل حق الْمُرْتَهن من البيع وَالْإِجَارَة وَالْهِبَة وَغَيرهَا
وَلِهَذَا لَا يجوز لَهُ أَن ينْتَفع بالمرهون نوع انْتِفَاع من الِاسْتِخْدَام وَالرُّكُوب وَنَحْو ذَلِك
وَكَذَلِكَ زَوَائِد الرَّهْن تكون رهنا عندنَا وَهُوَ أَحَق بالإمساك وَيكون أَحَق بِهِ بعد وَفَاته كَمَا فِي حق الأَصْل إِلَّا أَن الزَّوَائِد غير مَضْمُونَة عَلَيْهِ حَتَّى لَا يسْقط الدّين بهلاكها
وَلَيْسَ للْمُرْتَهن أَن يَبِيع الرَّهْن بِدِينِهِ إِلَّا إِذا سلطه الرَّاهِن على بَيْعه أَو سلط الْعدْل على ذَلِك
فَإِن أعَار الْمُرْتَهن الرَّهْن من الرَّاهِن أَو الرَّاهِن من الْمُرْتَهن فَإِنَّهُ يجوز وَيخرج الرَّهْن من ضَمَان الْمُرْتَهن وَعقد الرَّهْن على حَاله وَلكُل وَاحِد مِنْهُمَا أَن يبطل الْعَارِية وَيَردهُ إِلَى الرَّهْن لِأَن الْعَارِية غير لَازِمَة
وعَلى هَذَا إِذا غصبه غَاصِب يخرج عَن ضَمَان الْمُرْتَهن وَلَكِن الرَّهْن قَائِم حَتَّى إِن للْمُرْتَهن أَن يَأْخُذهُ من الْغَاصِب وَيَردهُ إِلَى الرَّهْن
وَأما إِذا آجره الرَّاهِن من الْمُرْتَهن فَيخرج من الرَّهْن وَلَا يعود أبدا لِأَن الْإِجَارَة عقد لَازم فالإقدام عَلَيْهِ يكون فسخا للرَّهْن

(3/42)


وَكَذَلِكَ لَو آجر الرَّاهِن من غير الْمُرْتَهن فَأَجَازَهُ الْمُرْتَهن أَو الْمُرْتَهن من غَيره فَأَجَازَهُ الرَّاهِن جَازَت الْإِجَارَة وَيخرج من الرَّهْن لما قُلْنَا
وَلَو بَاعَ الرَّاهِن أَو الْمُرْتَهن وَأَجَازَ صَاحبه فَإِنَّهُ يجوز البيع وَيصير الثّمن رهنا مَكَانَهُ قبض من المُشْتَرِي أَو لم يقبض لِأَن الثّمن قَائِم مقَام الرَّهْن وَإِن كَانَ الثّمن فِي ذمَّة المُشْتَرِي وَلَا يجوز رهن الدّين ابْتِدَاء وَلَكِن يجوز الْبَقَاء كَالْعَبْدِ الرَّهْن إِذا قتل تكون قِيمَته رهنا حَتَّى لَو نوى الثّمن فِي ذمَّته أَو هلك الْمَقْبُوض فَإِنَّهُ يهْلك من مَال الْمُرْتَهن وَيسْقط الدّين بِقَدرِهِ كَمَا لَو كَانَ فِي يَده
وللمرتهن أَن يُطَالب الرَّاهِن بإيفاء الدّين مَعَ عقد الرَّاهِن إِذا لم يكن مُؤَجّلا لِأَن الرَّهْن شرع لتوثيق الدّين فَلَا يسْقط حق الْمُطَالبَة إِلَّا بِالْأَدَاءِ
وَيجوز للرَّاهِن أَن يُوكل الْمُرْتَهن بِبيعِهِ وَاسْتِيفَاء الدّين مِنْهُ
وَلَو قَالَ الرَّاهِن إِن جئْتُك بحقك إِلَى وَقت كَذَا وَإِلَّا فَهُوَ لَك لم يجز وَهُوَ رهن على حَاله لِأَن التَّمْلِيك لَا يتَعَلَّق بِالشّرطِ
وَلَا يجوز للْحَاكِم أَن يَبِيع الرَّهْن بِدِينِهِ بعد حُلُول الْأَجَل إِذا كَانَ مُفلسًا عَن أبي حنيفَة وَلَكِن يحبس الرَّاهِن حَتَّى يَبِيعهُ وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يَبِيعهُ
وَهَذَا فرع مَسْأَلَة الْحجر على الْحر

وَأما نَفَقَة الرَّهْن فعلى وَجْهَيْن فَكل نَفَقَة ومؤونة كَانَت لمصْلحَة الرَّهْن وتبقيته فعلى الرَّاهِن
وكل مَا كَانَ لحفظه أَو لرده إِلَى يَد الْمُرْتَهن أَو لرد جُزْء مِنْهُ فَاتَ بِسَبَب حَادث فعلى الْمُرْتَهن
بَيَانه أَن الرَّهْن إِذا كَانَ حَيَوَانا فنفقته وَكسوته على الرَّاهِن

(3/43)


وَإِن كَانَ الرَّهْن أمة فَولدت فأجر الظِّئْر على الرَّاهِن
وَإِن كَانَ الرَّهْن بستانا فِيهِ أَشجَار وكرم فسقيه وتلقيح نخله وجداده وَالْقِيَام بمصلحته على الرَّاهِن وَكَذَا الْخراج فَأَما الْعشْر فَفِي الْغلَّة وَالزَّرْع يَأْخُذ الإِمَام وَالْبَاقِي رهن عِنْده
وَكَذَا أجر الرَّاعِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَيْهِ لعلف الْحَيَوَان فَهُوَ كالطعام وَالشرَاب
وَيَسْتَوِي الْجَواب فِيهِ بَين أَن يكون الرَّهْن مَضْمُونا أَو أَمَانَة كزوائد الرَّهْن أَو مَا فضل من قيمَة الرَّهْن على الدّين لِأَن كُله ملكه فَعَلَيهِ كِفَايَته ومؤونته
وَأما مَا يحْتَاج إِلَيْهِ للْحِفْظ كَأُجْرَة الْمسكن وَأُجْرَة الْحَافِظ ومأوى الْبَقر وَالْغنم فعلى الْمُرْتَهن
وَكَذَا مَا يحْتَاج لرد الْعين إِلَى يَد الْمُرْتَهن كجعل الْآبِق فَعَلَيهِ إِن كَانَ قيمَة الرَّهْن وَالدّين سَوَاء وَأَن كَانَ بعضه أَمَانَة فعلَيْهِمَا على قدر الْأَمَانَة وَالضَّمان
وَأما مَا يجب لرد جُزْء من الْعين إِلَى يَد الْمُرْتَهن الَّذِي فَاتَ بِسَبَب عَارض كمداواة الْجراح والقروح والأمراض فَهُوَ منقسم عَلَيْهِمَا فَمَا كَانَ من حِصَّة الْمَضْمُون فعلى الْمُرْتَهن وَمَا كَانَ من حِصَّة الْأَمَانَة فعلى الرَّاهِن
وَمَا وَجب على الرَّاهِن فَفعله الْمُرْتَهن بِغَيْر أَمر الْحَاكِم فَهُوَ مُتَبَرّع فِيهِ
وَإِن كَانَ بأَمْره يرجع بِهِ على الرَّاهِن
وَكَذَا مَا وَجب على الْمُرْتَهن فأداه الرَّاهِن بِغَيْر أمره فَهُوَ مُتَبَرّع

(3/44)


ثمَّ للرَّاهِن أَن يمْتَنع من إِيفَاء الدّين عِنْد مَحل الْأَجَل حَتَّى يحضر الْمُرْتَهن الرَّهْن لِأَنَّهُ رُبمَا يكون هَالكا أَو غَائِبا
فَإِذا أحضر الرَّهْن يُقَال للرَّاهِن سلم الدّين إِلَيْهِ أَولا ثمَّ اقبض الرَّهْن
حَتَّى يتَعَيَّن حَقه فَيكون عينا بِعَين كَمَا فِي البيع
وَلَو جنى الْمُرْتَهن على الرَّهْن أَو غَيره جِنَايَة يجب عَلَيْهِ قِيمَته أَو مثله إِن كَانَ الرَّهْن مثلِيا ثمَّ إِن لم يكن الدّين حَالا يكون رهنا مَكَانَهُ وَإِن كَانَ الدّين حَالا أَو حل فَإِن كَانَ مثل دينه فِي الْجِنْس وَالصّفة يصير الْمُرْتَهن مُسْتَوْفيا لدينِهِ
وَإِن كَانَ هُوَ الْمُتْلف يصير قصاصا بِقدر الدّين ويترادان الْفضل
وَإِن كَانَ الرَّهْن عبدا فجنى على إِنْسَان خطأ فَإِن ضَمَان الْجِنَايَة على الْمُرْتَهن وَيُقَال للْمُرْتَهن أَولا أفد العَبْد عَن أرش الْجِنَايَة وَإِنَّمَا يُخَاطب هُوَ بذلك أَولا لما أَن فِيهِ إبْقَاء حَقه وَهُوَ الرَّهْن لِأَنَّهُ إِذا فدى طهر العَبْد عَن الْجِنَايَة فَجعل كَأَن الْجِنَايَة لم تكن فَيبقى الدّين وَالرَّهْن على حَاله وَلَا يرجع على الرَّاهِن بِشَيْء من الْفِدَاء لِأَنَّهُ أصلح الرَّهْن بِاخْتِيَارِهِ وَلَيْسَ للْمُرْتَهن أَن يدْفع العَبْد بِحَال لِأَن الدّفع تمْلِيك الرَّقَبَة وَهُوَ لَا يملك تمْلِيك مَال الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه
وَإِن لم يفد وأبى ذَلِك يُقَال للرَّاهِن ادْفَعْ أَو أفده فَأَيّهمَا اخْتَار بَطل الرَّهْن وَالدّين لِأَن عين العَبْد أَو بدله وَهُوَ الْفِدَاء صَار مُسْتَحقّا بِسَبَب كَانَ عِنْد الْمُرْتَهن فَجعل كَأَنَّهُ هلك الرَّهْن
وَلَو اسْتهْلك العَبْد الْمَرْهُون مَال إِنْسَان وَذَلِكَ يسْتَغْرق الرَّقَبَة فَإِن أدّى الْمُرْتَهن الدّين الَّذِي لزم العَبْد الْمَرْهُون بَقِي الرَّهْن وَالدّين على حَاله وَفرغ عَن الدّين وَإِن أَبى أَن يُؤَدِّي الدّين قيل للرَّاهِن بِعْهُ فِي دينه أَو اقْضِ دينه فَإِن قضى دينه بَطل دين الْمُرْتَهن على الرَّاهِن وَيخرج العَبْد عَن الرَّهْن لِأَنَّهُ اسْتحق بِسَبَب كَانَ عِنْد الْمُرْتَهن فَيكون

(3/45)


عَلَيْهِ وَإِن لم يقْض دين العَبْد يُبَاع العَبْد فِي الدّين الَّذِي لحقه فَيَأْخُذ صَاحب دين العَبْد دينه وَيبْطل بِمِقْدَار ذَلِك من دين الْمُرْتَهن فَإِن كَانَ دين الْمُرْتَهن أقل كَانَ مَا بَقِي من ثمن العَبْد للرَّاهِن وَإِن كَانَ دين الْمُرْتَهن أَكثر من دين الْغَرِيم استوفى الْمُرْتَهن مَا بَقِي من دينه وَمَا فضل من ثمن العَبْد للْمُرْتَهن إِن كَانَ الدّين حل وَإِلَّا أمسك مَا فضل رهنا فِي يَده إِلَى أَن يحل الدّين فَيَأْخذهُ قصاصا بِدِينِهِ
وَلَو رهن عَبْدَيْنِ أَو ثَوْبَيْنِ بِأَلف دِرْهَم كل وَاحِد مِنْهُمَا بِخَمْسِمِائَة فَأدى خَمْسمِائَة لم يكن لَهُ أَخذ وَاحِد مِنْهُمَا حَتَّى يُؤَدِّي كل الدّين وَكَذَلِكَ فِي العَبْد الْوَاحِد لِأَن كل جُزْء من الرَّهْن مَحْبُوس بِكُل الدّين فَمَا لم يقبض الْكل يكون لَهُ حق حبس الْكل
وَإِن كَانَ الرَّهْن شَيْئَيْنِ أَو أَكثر فَإِنَّهُ يَنْقَسِم الدّين عَلَيْهِمَا على قدر قيمتهمَا يَوْم الْقَبْض لِأَنَّهُ صَار مَضْمُونا بِالْقَبْضِ
وَلَو زَاد فِي الرَّهْن شَيْء بِأَن ولدت الْأمة الْمَرْهُونَة ولدا أَو نَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يَنْقَسِم الدّين على الأَصْل يَوْم الْقَبْض وعَلى الزِّيَادَة يَوْم الفكاك لِأَن الزَّوَائِد تكون مَضْمُونَة وَإِن كَانَت محبوسة إِلَى يَوْم الفكاك
ثمَّ الزِّيَادَة فِي الرَّهْن جَائِزَة عندنَا خلافًا ل زفر كالزيادة فِي الْمَبِيع وينقسم الدّين عَلَيْهِمَا جَمِيعًا وَيعْتَبر قيمَة الأَصْل يَوْم قَبضه وَيعْتَبر قيمَة الزِّيَادَة يَوْم الزِّيَادَة
فَأَما الزِّيَادَة فِي الدّين فَلَا تجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله
وَعند أبي يُوسُف تجوز وَهَذِه الْمَسْأَلَة من مسَائِل الخلافيات
وَلَو اسْتعَار من رجل شَيْئا ليرهنه بِدِينِهِ فأعاره مِنْهُ مُطلقًا ليرهنه فَلهُ أَن يرهنه بِأَيّ صنف من الدّين وَبِأَيِّ قدر قَلِيلا أَو

(3/46)


كثيرا لِأَن هَذَا بِمَنْزِلَة الْإِذْن لَهُ بِقَضَاء الدّين من مَال هُوَ عِنْده وَدِيعَة قد أذن مُطلقًا فَيجب الْعَمَل بِإِطْلَاقِهِ
وَإِن سمي لَهُ قدرا أَو إنْسَانا بِعَيْنِه أَو فِي بلد بِعَيْنِه فَلَيْسَ لَهُ أَن يفعل بِخِلَافِهِ وَلَو فعل كَانَ لصَاحبه أَن يَأْخُذ الرَّهْن لِأَنَّهُ لم يَأْتِ بِمَا أَمر بِهِ فَلم يَصح الرَّهْن فَإِن عجز الرَّاهِن عَن قَضَاء الدّين فقضاه الْمُعير فَلهُ أَن يرجع لَا يكون مُتَبَرعا لِأَنَّهُ مُضْطَر فِي ذَلِك لوصوله إِلَى مَاله بِمَنْزِلَة الْوَارِث إِذا قضى دين الْمَيِّت لتسلم لَهُ التَّرِكَة يرجع فِي التَّرِكَة لما قُلْنَا
وَلَو رهن عبدا من إِنْسَان ثمَّ جَاءَ برهن آخر حَتَّى يكون مَكَان الأول وَقبل الْمُرْتَهن الرَّهْن الثَّانِي جَازَ وَيصير الثَّانِي هُوَ الرَّهْن إِذا قبض الرَّاهِن الأول لِأَنَّهُ مَا رَضِي بِالْجمعِ بَينهمَا رهنا وَلَا يصير الثَّانِي رهنا إِلَّا بعد انْفِسَاخ الأول ضَرُورَة عدم الْجمع
وَإِنَّمَا تقع الضَّرُورَة إِذا قبض الأول فَأَما إِذا لم يقبض بَقِي الأول رهنا دون الثَّانِي حَتَّى لَو هلكا يكون الثَّانِي أَمَانَة وَالْأول هلك بِدِينِهِ
وَلَو أعتق الرَّاهِن العَبْد الْمَرْهُون ينفذ عتقه عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(3/47)