تحفة الفقهاء

كتاب الدِّيات
يحْتَاج إِلَى بَيَان الْقَتْل الْمُوجب للْقصَاص وَالْقَتْل الْمُوجب للدية
وَإِلَى بَيَان مِقْدَار الدِّيَة وكيفيتها فِي النَّفس وَمَا دون النَّفس وعَلى من تجب
أما بَيَان الأول فَنَقُول إِن الْجِنَايَة على الْآدَمِيّ نَوْعَانِ فِي النَّفس وَمَا دون النَّفس
وكل وَاحِد مِنْهُمَا على نَوْعَيْنِ مُوجب للْقصَاص وَمُوجب لِلْمَالِ
أما الْجِنَايَة فِي النَّفس الْمُوجبَة للْقصَاص فنوع وَاحِد وَهُوَ الْقَتْل الْعمد الْخَالِي عَن الشُّبْهَة لقَوْله تَعَالَى {كتب عَلَيْكُم الْقصاص فِي الْقَتْلَى الْحر بِالْحرِّ وَالْعَبْد بِالْعَبدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمن عُفيَ لَهُ من أَخِيه شَيْء فاتباع بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَان ذَلِك تَخْفيف من ربكُم وَرَحْمَة فَمن اعْتدى بعد ذَلِك فَلهُ عَذَاب أَلِيم} وَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام الْعمد قَود وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي قَول يجب بِهِ أَحدهمَا إِمَّا الْقَتْل أَو الدِّيَة وَالْخيَار إِلَى الْوَلِيّ وَفِي قَول الْوَاجِب هُوَ الْقصاص عينا لَكِن للْوَلِيّ حق الْعُدُول إِلَى المَال من غير رضَا الْقَاتِل

(3/99)


وَلَا خلاف أَنه إِذا لم يقدر على اسْتِيفَاء الْقصاص من كل وَجه فَإِن لَهُ حق الْعُدُول إِلَى المَال فَإِن من قطع يَد إِنْسَان وَيَد الْقَاطِع شلاء أَو منقوصة بإصبع أَو شج رَأس إِنْسَان وَرَأس الشاج أَصْغَر أَو أكبر فَإِنَّهُ لَا يجب الْقصاص عينا بل الْوَلِيّ بِالْخِيَارِ فِي ذَلِك وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَلِكَ إِذا تعذر اسْتِيفَاء الْقصاص لِمَعْنى فَإِنَّهُ يجب المَال حَتَّى إِن الْقصاص إِذا كَانَ مُشْتَركا بَين رجلَيْنِ فَعَفَا أَحدهمَا فَإِنَّهُ يَنْقَلِب نصيب الآخر مَالا
وَكَذَلِكَ الخاطىء مَعَ الْعَامِد أَو الصَّغِير الْكَبِير أَو الْمَجْنُون والعاقل إِذا اشْتَركَا فِي الْقَتْل وَتعذر اسْتِيفَاء الْقصاص فِي حق أحد الشَّرِيكَيْنِ فَإِنَّهُ يجب المَال عَلَيْهِمَا نِصْفَيْنِ
وَأما الآب وَالْأَجْنَبِيّ إِذا اشْتَركَا فِي قتل الابْن فَلَا يجب الْقصاص على الْأَب بِالْإِجْمَاع وَلَا يجب على الشَّرِيك عندنَا وَلَكِن يجب المَال وَعند الشَّافِعِي يجب الْقصاص على الْأَجْنَبِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو وجد الْقَتْل الْعمد من الْجَمَاعَة فِي حق الْوَاحِد فَإِنَّهُم يقتلُون بِهِ بِالْإِجْمَاع قَالَ عمر رَضِي الله عَنهُ لَو اجْتمع أهل صنعاء على قَتله لقتلتهم بِهِ
وَأما الْوَاحِد إِذا قتل جمَاعَة فَإِنَّهُ يقتل وَلَا يجب شَيْء من الدِّيَة
وَعند الشَّافِعِي يجمع بَين الْقَتْل وَالدية فَيكون الْقَتْل بِمُقَابلَة الْوَاحِد وَتجب الدِّيَة فِي حق كل وَاحِد من البَاقِينَ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو قطع جمَاعَة يَد وَاحِد لَا تقطع أَيْديهم بهَا وَلَكِن يجب عَلَيْهِم دِيَة الْيَد
وَأما الْوَاحِد إِذا قطع يَد جمَاعَة فَإِنَّهُ تقطع يَده وَيجب عَلَيْهِ الدِّيَة فِي البَاقِينَ

(3/100)


وَعند الشَّافِعِي الْأَيْدِي تقطع بيد وَاحِدَة وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلِهَذَا قُلْنَا إِن الْحر يقتل بِالْعَبدِ خلافًا للشَّافِعِيّ
وَالْعَبْد يقتل بِالْحرِّ بِالْإِجْمَاع وَيجْرِي الْقصاص بَين الصَّغِير وَالْكَبِير وَالذكر وَالْأُنْثَى وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ فِي النَّفس لما تلونا من النَّص خلافًا للشَّافِعِيّ
وَأَجْمعُوا أَن الْمُسلم لَا يقتل بالمستأمن وَكَذَلِكَ الذِّمِّيّ
وَأما الْمُسْتَأْمن هَل يقتل بالمستأمن فِيهِ رِوَايَتَانِ
وَلَو قتل إِنْسَان رجلا عمدا فَحق اسْتِيفَاء الْقود إِلَى الْوَلِيّ الْكَبِير إِن كَانَ وَاحِدًا وَلَو كَانُوا أَكثر فللكل
فَأَما إِذا كَانَ الْكل صغَارًا فقد اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ بَعضهم قَالُوا الِاسْتِيفَاء إِلَى السُّلْطَان وَبَعْضهمْ قَالُوا ينْتَظر إِلَى بلوغهم أَو بُلُوغ أحدهم
أما إِذا كَانَ الْبَعْض كبارًا وَالْبَعْض صغَارًا فقد قَالَ أَبُو حنيفَة للكبير ولَايَة الِاسْتِيفَاء وعَلى قَوْلهم يأخر إِلَى وَقت بُلُوغ الصغار وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما اللَّقِيط إِذا قتل عمدا فولاية اسْتِيفَاء الْقصاص إِلَى السُّلْطَان عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَعند أبي يُوسُف لَا يَسْتَوْفِي وَلَكِن تجب الدِّيَة وَهِي مَسْأَلَة كتاب اللَّقِيط
وَأما الْقَتْل الْمُوجب لِلْمَالِ فأنواع عمد مَحْض فِيهِ شُبْهَة وَشبه الْعمد وَقتل الْخَطَأ وَالْقَتْل بطرِيق التسبيب
أما الأول فَمَا ذكرنَا من قتل الْمُسْتَأْمن وَنَحْوه

(3/101)


وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة من لَهُ الْقصاص فِي الطّرف إِذا استوفى الطّرف وسرى إِلَى النَّفس وَمَات لَا يجب الْقصاص لأجل الشُّبْهَة وَتجب الدِّيَة وعَلى قَوْلهم لَا يجب شَيْء
وَأَجْمعُوا أَن الإِمَام إِذا قطع يَد السَّارِق أَو البزاغ أَو الْخِتَان والفصاد والمأمور بِقطع الْيَد إِذا سرى فعلهم لَا يجب عَلَيْهِم شَيْء وَهِي تعرف فِي الخلافيات
وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة من لَهُ الْقصاص فِي النَّفس إِذا استوفى فِي الطّرف ثمَّ عَفا عَن النَّفس وبرأ لَا يقطع طرفه وَلَكِن يجب أرش الْيَد عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدهم لَا يجب شَيْء
وَلَو سرى إِلَى النَّفس لَا يجب شَيْء وعَلى هَذَا قَالَ أَبُو حنيفَة من شج رَأس إِنْسَان فعفى عَنْهَا ثمَّ سرى إِلَى النَّفس تجب الدِّيَة دون الْقود
وَقَالُوا لَا يجب شَيْء
وَمن قَالَ لغيره اقتلني فَقتله عمدا أم خطأ تجب الدِّيَة دون الْقود فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب شَيْء
وَلَو قَالَ اقْتُل عَبدِي فَقتله لَا يجب شَيْء لِأَنَّهُ أمره فِيمَا هُوَ حَقه
وَلَو قَالَ لَهُ اقْتُل وَلَدي وَلَا وَارِث لَهُ سوى الْأَب فَقتله يقتل الْقَاتِل لِأَنَّهُ لَا حق لَهُ فِي دم وَلَده بِخِلَاف نَفسه وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه قَالَ تجب الدِّيَة اسْتِحْسَانًا

(3/102)


وَلَو عَفا الْمَجْرُوح عَن الْجراحَة ثمَّ مَاتَ مِنْهُ صَحَّ عَفوه اسْتِحْسَانًا
وَكَذَلِكَ الْوَارِث إِذا عَفا قبل موت الْمَجْرُوح يَصح الْعَفو اسْتِحْسَانًا لِأَن لَهُ حَقًا
وَلَو قَالَ الرجل اقْتُل أخي وَهُوَ وَارثه فَقتل لَا يجب الْقود اسْتِحْسَانًا وَتجب الدِّيَة وَعند زفر يقتل وَلِهَذَا نَظَائِر
وَأما الثَّانِي فَهُوَ الْقَتْل بِآلَة لم تُوضَع لَهُ وَلم يحصل بِهِ الْمَوْت غَالِبا مثل السَّوْط الصَّغِير والعصا الصَّغِيرَة فَإِنَّهُ يُوجب المَال دون الْقصاص بِالْإِجْمَاع
فَأَما الْقَتْل بالعصا الْكَبِيرَة وَبِكُل آلَة يحصل بهَا الْمَوْت غَالِبا لَكِنَّهَا لَا تجرح فَعِنْدَ أبي حنيفَة هُوَ شبه الْعمد لَا يُوجب الْقود وَعِنْدَهُمَا يُوجب الْقود وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وعَلى هَذَا إِذا ضرب بِالسَّوْطِ الصَّغِير ووالى فِي الضربات حَتَّى مَاتَ لَا يجب الْقود عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدهم يجب وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما الْقَتْل الْخَطَأ فَهُوَ أَن يَرْمِي سَهْما إِلَى صيد فَأصَاب آدَمِيًّا أَو أَرَادَ أَن يطعن قَاتل أَبِيه فتقدمه رجل فَوَقع فِيهِ وَنَحْو ذَلِك
وَهُوَ مُوجب لِلْمَالِ دون الْقصاص بِالْإِجْمَاع لقَوْله تَعَالَى {وَمن قتل مُؤمنا خطأ فَتَحْرِير رَقَبَة مُؤمنَة ودية مسلمة}

(3/103)


وَأما الْقَتْل بطرِيق التسبيب فنحو من حفر بِئْرا على قَارِعَة الطَّرِيق فَوَقع فِيهِ إِنْسَان وَمَات فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ الدِّيَة دون الْقصاص بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ مسبب للْقَتْل وَلَيْسَ بمباشر لِأَن الْحفر لَيْسَ بقتل
وعَلى هَذَا شُهُود الْقصاص إِذا رجعُوا لَا يجب عَلَيْهِم الْقصاص وَلَكِن تجب عَلَيْهِم الدِّيَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُم الْقَتْل مُبَاشرَة وَإِنَّمَا وجد مِنْهُم سَبَب الْقَتْل
وَأما بَيَان حكم مَا دون النَّفس فَنَقُول كل مَا يُمكن فِيهِ الْقصاص وَهُوَ الْفِعْل الْعمد الْخَالِي عَن الشُّبْهَة فَإِنَّهُ يُوجب الْقصاص
وكل مَا لَا يُمكن الْقصاص وَهُوَ الْفِعْل الْخَطَأ وَمَا فِيهِ شُبْهَة فَفِي بعض الْأَعْضَاء تجب دِيَة كَامِلَة وَفِي بعض الْأَعْضَاء يجب أرش مُقَدّر وَفِي الْبَعْض تجب حُكُومَة الْعدْل فَنَقُول لَا خلاف بَين أَصْحَابنَا أَنه لَا يجْرِي الْقصاص فِيمَا دون النَّفس بَين العبيد وَلَا بَين الْأَحْرَار وَالْعَبِيد وَلَا بَين الذّكر وَالْأُنْثَى لِأَن الْقصاص فِيهَا مَبْنِيّ على التَّسَاوِي فِي الْمَنَافِع والأروش وَلَا مُسَاوَاة بَين هَؤُلَاءِ فِي مَنَافِع الْأَطْرَاف والأروش وَلِهَذَا لَا تقطع الْيَد الصَّحِيحَة بالشلاء وَلَا بمنقوصة الْأَصَابِع
وَكَذَا لَا تقطع الْيُمْنَى إِلَّا باليمنى وَلَا الْيُسْرَى إِلَّا باليسرى
وَكَذَلِكَ فِي أَصَابِع الْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ يُؤْخَذ إِبْهَام الْيُمْنَى بإبهام الْيُمْنَى والسبابة بالسبابة وَالْوُسْطَى بالوسطى وَلَا يقطع الْأَصَابِع إِلَّا بِمِثْلِهَا من الْقَاطِع
وَكَذَلِكَ لَا تُؤْخَذ الْعين الْيُمْنَى باليسرى وَلَا الْعين الْيُسْرَى باليمنى

(3/104)


جب القوكذلك فِي الْأَسْنَان الثَّنية بالثنية والناب بالناب والضرس بالضرس وَلَا يُؤْخَذ الْأَعْلَى بالأسفل وَلَا الْأَسْفَل بالأعلى لما ذكرنَا من التَّفَاوُت فِي الْمَنَافِع وَإِنَّمَا يجْرِي الْقصاص فِيمَا يُمكن فِيهِ التَّسَاوِي لَا فِيمَا لَا يُمكن
وَلِهَذَا لَو قطع الْكَفّ من الْمفصل أَو من الْمرْفق أَو من الْكَتف يجب الْقصاص
وَلَو قطع من الساعد أَو من الْعَضُد لَا يجب لِأَنَّهُ لَا يعرف التَّسَاوِي
وَكَذَلِكَ كل مَا كَانَ فِي غير المفاصل
وَكَذَلِكَ فِي الْأَسْنَان إِذا قلع أَو كسر يجب الْقصاص فيقلع سنّ القالع وَيكسر بِقَدرِهِ بالمبرد
وَأما الْعين إِن قورت فَلَا يُمكن الْقصاص فِيهَا فَإِن كَانَت الْعين قَائِمَة وَذهب ضوءها فالقصاص مُمكن بِأَن يَجْعَل على وَجه الْقطن المبلول وتحمى مرْآة وتقرب من عينه حَتَّى يذهب ضوءها
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه لَا يجب الْقصاص فِي الْأَحول لِأَن الْحول نقص فِي الْعين والمماثلة شَرط
وَفِي الْأذن إِذا قطعت كلهَا أَو بَعْضهَا مَعْرُوفا يقْتَصّ
وَأجْمع أَصْحَابنَا على الْقصاص فِي الْحَشَفَة والمارن
وَاخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي الْأنف وَالذكر وَاللِّسَان إِذا استوعب كل وَاحِد مِنْهُمَا فَعِنْدَ أبي يُوسُف يجب الْقصاص وَعند مُحَمَّد لَا يجب
وَإِنَّمَا يُرِيد بِقطع الْأنف كل المارن فَأَما قَصَبَة الْأنف فَعظم وَأَجْمعُوا أَنه لَا يجب الْقصاص فِي الْعظم لعدم الْإِمْكَان
وَفِي حلق اللِّحْيَة وَالرَّأْس والحاجب والشارب إِذا لم ينْبت لَا

(3/105)


يجب الْقصاص وَرُوِيَ فِي النَّوَادِر أَنه يجب الْقصاص
وَأما فِي الشجاج فَلَا خلاف أَنه يجب الْقصاص فِي الْمُوَضّحَة بِأَن يَنْتَهِي السكين إِلَى الْعظم وَلَا خلاف أَنه لَا يجب الْقصاص فِيمَا بعد الْمُوَضّحَة من الهاشمة وَغَيرهَا
وَأما فِيمَا قبل الْمُوَضّحَة فقد ذكر فِي الأَصْل أَنه يجب الْقصاص لِأَنَّهُ يُمكن تَقْدِير غور الْجراحَة بمسمار ثمَّ يعْمل حَدِيدَة على قدرهَا فتغمد فِي اللَّحْم إِلَى آخرهَا فيستوفى مثل مَا فعل
وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنه لَا يجب بِهِ الْقصاص
وَأما بَيَان وجوب الدِّيَة ومقدارها وكيفيتها فَنَقُول الْجِنَايَة الْمُوجبَة للدية إِمَّا إِن كَانَت فِي النَّفس أَو فِيمَا دونهَا
أما إِذا كَانَت فِي النَّفس فَفِيمَا بَين الْأَحْرَار تجب دِيَة كَامِلَة يَسْتَوِي فِيهَا الصَّغِير وَالْكَبِير والوضيع والشريف وَالْمُسلم وَالذِّمِّيّ
وَقَالَ الشَّافِعِي فِي دِيَة الْيَهُود وَالنَّصَارَى أَرْبَعَة آلَاف دِرْهَم فضَّة وَفِي الْمَجُوس ثمانماثة دِرْهَم
ثمَّ مِقْدَار الدِّيَة فِي الْأَحْرَار ألف دِينَار أَو عشرَة آلَاف دِرْهَم فضَّة أَو مائَة من الْإِبِل كل وَاحِدَة أصل وَهُوَ الظَّاهِر فِي قَول أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد كَذَلِك وَقَالا من الْبَقر مِائَتَا بقرة وَمن الْغنم ألفا شَاة وَمن الْحلَل مِائَتَا حلَّة كل حلَّة ثَوْبَان إِزَار ورداء
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة فِي كتاب المعاقل مَا يدل على مثل قَوْلهم فَإِنَّهُ قَالَ إِذا صَالح الْوَلِيّ على أَكثر من مِائَتي بقرة أَو مِائَتي حلَّة لم يجز فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَلَو لم تكن هَذِه الْأَشْيَاء أصولا لجَاز

(3/106)


الصُّلْح على أَكثر مِنْهَا كَمَا لَو صَالح على عرُوض أخر تزداد قيمتهاعن على الدِّيَة وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ الشَّافِعِي من الْإِبِل وَالدَّنَانِير مثل قَوْلنَا وَفِي الدَّرَاهِم قَالَ اثْنَي عشر ألفا
وَأَصله مَا روى عُبَيْدَة السَّلمَانِي عَن عمر أَنه قضى فِي الدِّيَة من الدَّرَاهِم بِعشر آلَاف وَمن الدَّنَانِير بِأَلف وَمن الْإِبِل بِمِائَة وَمن الْبَقر بمائتين وَمن الشياه بِأَلفَيْنِ وَمن الْحلَل بمائتين
وَأما كَيْفيَّة الْأَسْنَان فِي الْإِبِل فَقَالَ أَصْحَابنَا فِي دِيَة الْخَطَأ إِنَّهَا خسمة أَنْوَاع عشرُون بنت مَخَاض وَعِشْرُونَ ابْن مَخَاض وَعِشْرُونَ بنت لبون وَعِشْرُونَ حقة وَعِشْرُونَ جَذَعَة وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود
وَقَالَ الشَّافِعِي عشرُون ابْن لبون مَكَان ابْن مَخَاض
وَأما دِيَة شبه الْعمد فَقَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو يُوسُف أَربَاعًا خمس وَعِشْرُونَ بنت مَخَاض وَخمْس وَعِشْرُونَ بنت لبون وَخمْس وَعِشْرُونَ حقة وَخمْس وَعِشْرُونَ جَذَعَة وَهُوَ قَول ابْن مَسْعُود
وَقَالَ مُحَمَّد فِي شبه الْعمد ثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعُونَ مَا بَين ثنية إِلَى بازل عامها كلهَا خلقَة وَهُوَ قَول عمر وَأبي مُوسَى الْأَشْعَرِيّ والمغيرة رَضِي الله عَنْهُم

(3/107)


وَذكر فِي الأَصْل وَعَن عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَنه قَالَ فِي شبه الْعمد أَثلَاث ثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ حقة وَثَلَاثَة وَثَلَاثُونَ جَذَعَة وَأَرْبَعَة وَثَلَاثُونَ خلفة فِي بطونها أَوْلَادهَا
وَأما حكم الْجِنَايَة فِيمَا دون النَّفس خطأ فَنَقُول قد تجب دِيَة كَامِلَة بتفويت الْعُضْو وَقد تجب الدِّيَة بتفويت معنى فِي النَّفس تفوت بِهِ النَّفس حكما فِي حق جنس الْمَنْفَعَة وَقد يجب أرش مُقَدّر وَقد تجب حُكُومَة الْعدْل
فَأَما الْعُضْو الَّذِي يجب كَمَال الدِّيَة بتفويته فَهُوَ الْعُضْو الَّذِي لَا نَظِير لَهُ فِي الْبدن يفوت بِهِ جمال كَامِل أَو مَنْفَعَة بهَا قوام النَّفس وَذَلِكَ نَحْو اللِّسَان كُله وَالْأنف كُله وَالذكر كُله
وَتجب أَيْضا بِقطع الْحَشَفَة والمارن وَبَعض اللِّسَان إِذا كَانَ يمنعهُ من الْكَلَام وَكَذَا الْإِفْضَاء بَين السَّبِيلَيْنِ بِحَيْثُ لَا يسْتَمْسك الْبَوْل وَالْغَائِط
وَكَذَا حلق شعر رَأس الرجل وَالْمَرْأَة وَحلق لحية الرجل بِحَيْثُ لَا ينْبت وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي تجب حُكُومَة الْعدْل
وَأما حلق لحية العَبْد ذكر فِي الأَصْل تجب فِيهِ حُكُومَة الْعدْل وَفِي رِوَايَة الْحسن تجب قيمَة العَبْد
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الهندواني إِنَّمَا تجب الدِّيَة بحلق اللِّحْيَة إِذا كَانَت كَامِلَة يتجمل بهَا فَإِن كَانَت طاقات لَا يتجمل بهَا فَلَا شَيْء فِيهَا
وَكَذَلِكَ فِي لحية تشين وَلَا تزين بِأَن كَانَت على ذقنه شَعرَات
وَإِن كَانَت لحية يَقع بهَا الْجمال فِي الْجُمْلَة وَلَا يَقع بهَا الشين تجب فِيهَا حُكُومَة الْعدْل

(3/108)


وَأما فَوَات الْمَعْنى فَهُوَ ذهَاب الْعقل وَالْبَصَر والسمع والشم والذوق وَالْكَلَام وَالْجِمَاع مَعَ قيام الْآلَة الَّتِي تقوم بهَا هَذِه الْمَنَافِع صُورَة فَتجب بِكُل وَاحِد مِنْهَا الدِّيَة
وَإِنَّمَا يعرف فَوَات الْبَصَر بِأَن يلقى بَين يَدَيْهِ حَيَّة فَإِن هرب يعلم أَن بَصَره بَاقٍ
وَفِي السّمع يتغفل ثمَّ يُنَادي فَإِن أجَاب يعلم أَنه لم يفت سَمعه
وَأما الْعُضْو الَّذِي فِي الْبدن مِنْهُ اثْنَان كالعينين والأذنين والشفتين والحاجبين إِذا حلقا على وَجه لَا ينبتان وَالْيَدَيْنِ والرجليين وثديي الْمَرْأَة وحلمتيهما فَفِيهَا الدِّيَة وَفِي وَاحِد من ذَلِك نصف الدِّيَة
وَفِي الْأُنْثَيَيْنِ إِن قطعهمَا مَعَ الذّكر جملَة من جَانب وَاحِد فِي حَالَة وَاحِدَة فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ ديتان دِيَة بِإِزَاءِ الذّكر ودية بِإِزَاءِ الْأُنْثَيَيْنِ
وَإِن قطع الذّكر أَولا ثمَّ الْأُنْثَيَيْنِ يجب ديتان أَيْضا لِأَن بعد قطع الذّكر مَنْفَعَة الْأُنْثَيَيْنِ قَائِمَة وَهِي إمْسَاك الْمَنِيّ
وَأما إِذا قطع الْأُنْثَيَيْنِ أَولا ثمَّ الذّكر تجب الدِّيَة بِقطع الْأُنْثَيَيْنِ لزوَال مَنْفَعَة مَخْصُوصَة وَتجب بِقطع الذّكر حُكُومَة الْعدْل لِأَن مَنْفَعَة الإيلاد بطلت بِفَوَات الْأُنْثَيَيْنِ
وَفِي أشفار الْعَينَيْنِ كلهَا الدِّيَة وَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا ربع الدِّيَة إِذا لم ينْبت
وَكَذَا فِي قطع الأجفان مَعَ الأشفار تجب دِيَة كَامِلَة وَتصير الأجفان تَابِعَة للأشفار
فَأَما إِذا قطع الأجفان الَّتِي لَا أشفار لَهَا تجب حُكُومَة الْعدْل وَصَارَ

(3/109)


كَقطع الْأَصَابِع وَحدهَا يُوجب دِيَة كَامِلَة لِأَن الْكَفّ تبع
وَلَو قطع الْكَفّ بِدُونِ الْأَصَابِع تجب حُكُومَة الْعدْل
وَلَو قطع الْكَفّ مَعَ الْأَصَابِع تجب دِيَة وَاحِدَة لِأَن الْكَفّ تبع كَذَا هَذَا
وَفِي أَصَابِع الْيَدَيْنِ أَو الرجلَيْن كلهَا الدِّيَة الْكَامِلَة
وَفِي كل إِصْبَع عشر الدِّيَة لَا فضل للكبيرة على الصَّغِيرَة
ثمَّ مَا كَانَ من الْأَصَابِع فِيهِ ثَلَاثَة مفاصل فَفِي كل مفصل ثلث دِيَة الإصبع وَمَا كَانَ فِيهِ مفصلان فَفِي كل وَاحِد مِنْهُمَا نصف دِيَة الإصبع
وإصبع الْيَد وَالرجل فِي الْأَرْش سَوَاء
وَفِي الْأَسْنَان فِي كل سنّ إِذا سَقَطت خَمْسمِائَة دِرْهَم اسْتَوَى فِيهِ الأضراس والثنايا وَغَيرهَا
فَإِذا اسودت السن من الضَّرْبَة أَو احْمَرَّتْ أَو اصْفَرَّتْ فَفِيهِ الْأَرْش تَاما عِنْد أبي حنيفَة
وَقد روى أَبُو يُوسُف عَنهُ أَنه قَالَ فِيهَا حُكُومَة الْعدْل
وروى مُحَمَّد عَنهُ أَنه قَالَ إِن كَانَ حرا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ وَإِن كَانَ عبدا فَفِيهِ حُكُومَة الْعدْل
وَقَالَ فِيهَا حُكُومَة الْعدْل
ثمَّ هَذَا الحكم فِي الْأَسْنَان بعد أَن يستأنى بهَا سنة فَإِن نَبتَت بَيْضَاء مُسْتَقِيمَة فَلَا شَيْء عَلَيْهِ
وَإِن نَبتَت سَوْدَاء أَو حَمْرَاء أَو صفراء أَو خضراء جعلت كَأَن لم تكن لِأَنَّهُ لم يحصل بهَا الْجمال وَالْمَنْفَعَة
وَأما الشجاج فقد ذكر الْمَشَايِخ أَن الشجاج إِحْدَى عشرَة شجة

(3/110)


أَولهَا الخادشة وَهِي الَّتِي تخدش الْجلد
وَبعدهَا الدامعة وَهِي الَّتِي يخرج مِنْهَا مَا يشبه الدمع
وَبعدهَا الدامية وَهِي الَّتِي يخرج مِنْهَا الدَّم
وَبعدهَا الباضعة وَهِي الَّتِي تبضع اللَّحْم
وَبعدهَا المتلاحمة وَهِي الَّتِي تذْهب فِي اللَّحْم أَكثر مِمَّا تذْهب الباضعة هَكَذَا رُوِيَ عَن أبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد المتلاحمة قبل الباضعة وَهِي الَّتِي يتلاحم فِيهَا الدَّم ويسود
وَبعدهَا السمحاق وَهِي الَّتِي تصل إِلَى جلدَة رقيقَة فَوق الْعظم تِلْكَ الْجلْدَة تسمى السمحاق
ثمَّ الْمُوَضّحَة وَهِي الَّتِي توضح الْعظم
ثمَّ الهاشمة وَهِي الَّتِي تهشم الْعظم
ثمَّ المنقلة وَهِي الَّتِي يخرج مِنْهَا الْعظم على وَجه النَّقْل
ثمَّ الآمة وَهِي الَّتِي تصل إِلَى أم الدِّمَاغ وَهِي جلدَة تَحت الْعظم فَوق الدِّمَاغ
ثمَّ الدامغة وَهِي الَّتِي تخرق الْجلْدَة وَتصل إِلَى الدِّمَاغ
فَهَذِهِ أحدى عشرَة شجة
وَلم يذكر مُحَمَّدًا لخادشة وَلَا الدامغة لِأَن لَا يتَّصل بهما الحكم غَالِبا لِأَن الخادشة لَا يبقي لَهَا أثر وَلَا حكم للشجة الَّتِي لَا يبْقى لَهَا أثر والدامغة لَا يعِيش مَعهَا الْإِنْسَان فَيكون حكمه حكم الْقَتْل
ثمَّ فِي الشجاج الَّتِي قبل الْمُوَضّحَة تجب حُكُومَة الْعدْل
وَفِي الْمُوَضّحَة تجب خمس من الْإِبِل

(3/111)


وَفِي الهاشمة عشر من الْإِبِل
وَفِي المنقلة خَمْسَة عشر من الْإِبِل
وَفِي الآمة ثلث الدِّيَة
ثمَّ مَوَاضِع الشجاج عندنَا هُوَ الرَّأْس وَالْوَجْه فِي مَوَاضِع الْعظم مثل الْجَبْهَة والوجنتين والصدغين والذقن دون الْخَدين وَلَا تكون الْأمة إِلَّا فِي الرَّأْس وَفِي الْوَجْه فِي الْموضع الَّذِي يخلص مِنْهُ إِلَى الدِّمَاغ
وَالصَّغِيرَة والكبيرة فِي ذَلِك سَوَاء لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام فِي الْمُوَضّحَة خمس من الْإِبِل من غير فصل
ثمَّ الْجراح فِي سَائِر الْبدن لَيْسَ فِي شَيْء مِنْهَا أرش مَعْلُوم سوى الْجَائِفَة وَهِي الْجراحَة النافذة إِلَى الْجوف والمواضع الَّتِي تنفذ الْجراحَة مِنْهَا إِلَى الْجوف هِيَ الصَّدْر وَالظّهْر والبطن والجنبان دون الرَّقَبَة وَالْحلق وَالْيَدَيْنِ وَالرّجلَيْنِ وفيهَا ثلث الدِّيَة
فَإِذا نفذت إِلَى الْجَانِب الآخر فَهِيَ جائفتان وَفِي كل وَاحِدَة مِنْهُمَا ثلث الدِّيَة فَإِنَّهُ رُوِيَ عَن أبي بكر الصّديق رَضِي الله عَنهُ أَنه حكم فِي جَائِفَة نفذت إِلَى الْجَانِب الآخر بِثُلثي الدِّيَة وَذَلِكَ بِحَضْرَة الصَّحَابَة من غير خلاف
وَأما مَا يجب حُكُومَة الْعدْل فِيهِ فقد ذكرنَا بعضه
وَمن ذَلِك كسر الضلع وَكسر قَصَبَة الْأنف وَكسر كل عظم من الْبدن سوى السن فِيهِ حُكُومَة الْعدْل
وَكَذَا فِي ثدي الرجل وَفِي حلمة ثدييه حُكُومَة عدل دون ذَلِك وَفِي أَحدهمَا نصف ذَلِك
وَفِي لِسَان الْأَخْرَس وَذكر الْخصي والعنين وَالْعين الْقَائِمَة الذَّاهِب نورها وَالسّن السَّوْدَاء وَالْيَد الشلاء وَالذكر الْمَقْطُوع

(3/112)


الْحَشَفَة والكف الْمَقْطُوع الْأَصَابِع وَكسر الظفر وقلعة بِحَيْثُ لَا ينْبت أَو نبت مَعَ الْعَيْب
وَأما الصَّبِي الطِّفْل فَفِي لِسَانه حُكُومَة عدل مَا لم يتَكَلَّم
وَفِي يَده وَرجله وَذكره إِذا كَانَ يَتَحَرَّك مثل الْكَبِير وَفِي المارن وَالْأُذن الْمَقْصُود هُوَ الْجمال فَحكمه حكم الْكَبِير وَفِي الْمعِين إِذا وجد مَا يسْتَدلّ بِهِ على الْبَصَر كالكبير
وَفِي حلق رَأس إِنْسَان إِذا نبت أَبيض على قَول أبي حنيفَة لَا يجب شَيْء إِذا كَانَ حرا لِأَن الشيب لَيْسَ بِعَيْب وَإِن كَانَ عبدا يجب مَا نَقصه وَقَالَ أَبُو يُوسُف تجب حُكُومَة الْعدْل فيهمَا
وَفِي ثدي الْمَرْأَة المقطوعة الحلمة وَالْأنف الْمَقْطُوع الأرنبة والجفن الَّذِي لَا أشفار لَهُ حُكُومَة الْعدْل
ثمَّ الشَّجَّة إِذا التحمت وَنبت الشّعْر لَا يجب فِيهَا شَيْء على الشاج عِنْد أبي حنيفَة لِأَن الشين الَّذِي لحقه بِسَبَبِهِ قد زَالَ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف تجب عَلَيْهِ حُكُومَة عدل فِي الْأَلَم
وَقَالَ مُحَمَّد يلْزمه أُجْرَة الطَّبِيب
وَاخْتلف الْمُتَأَخّرُونَ من أَصْحَابنَا فِي كَيْفيَّة الْحُكُومَة فَقَالَ الطَّحَاوِيّ يقوم الْمَجْنِي عَلَيْهِ لَو كَانَ عبدا صَحِيحا وَيقوم وَبِه الشَّجَّة فَمَا نقص بَين الْقِيمَتَيْنِ كَانَت أرشا فِي شجة الْحر
وَكَانَ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي يَقُول يقرب من الشَّجَّة الَّتِي لَهَا أرش مُقَدّر بالحزر وَالظَّن يحكم بذلك أهل الْعلم بالجراحات
وَأما حكم النِّسَاء فَنَقُول إِن دِيَة الْمَرْأَة على النّصْف من دِيَة الرجل بِإِجْمَاع الصَّحَابَة مثل عمر

(3/113)


وَعلي وَابْن مَسْعُود وَزيد بن ثَابت رَضِي الله عَنْهُم وَغَيرهم فَإِنَّهُم قَالُوا دِيَة الْمَرْأَة على النّصْف من دِيَة الرجل إِلَّا أَن ابْن مَسْعُود قَالَ إِلَّا فِي الْمُوَضّحَة وَالسّن فَإِنَّهَا كَالرّجلِ
وَأما فِيمَا دون النَّفس من الْمَرْأَة فَإِنَّهُ يعْتَبر بديتها فيتنصف كديتها لِأَن الْمَرْأَة فِي مِيرَاثهَا وشهادتها بِمَنْزِلَة النّصْف من الرجل فَكَذَا فِي الدِّيَة
وَقَالَ ابْن مَسْعُود تعاقل الْمَرْأَة الرجل فِيمَا كَانَ أَرْشه نصف عشر الدِّيَة يَعْنِي مَا كَانَ أقل من ذَلِك فالرجل وَالْمَرْأَة فِي ذَلِك سَوَاء وَاسْتدلَّ بالغرة
وَقَالَ سعيد بن الْمسيب تعاقل الْمَرْأَة الرجل إِلَى ثلث دِيَتهَا يَعْنِي مَا كَانَ أقل من ثلث الدِّيَة فالرجل وَالْمَرْأَة فِيهِ سَوَاء
وَرُوِيَ أَن ربيعَة الرأت سَأَلَ سعيد بن الْمسيب عَن رجل قطع إِصْبَع

(3/114)


امْرَأَة فَقَالَ فِيهَا عشر من الْإِبِل قَالَ فَإِن قطع ثَلَاثًا قَالَ فِيهَا ثَلَاثُونَ من الْإِبِل قَالَ فَإِن قطع أَرْبَعَة قَالَ فِيهَا عشرُون من الْإِبِل فَقَالَ ربيعَة لما عظم ألمها وزادت مصيبتها قل أَرْشهَا فَقَالَ لَهُ أعراقي أَنْت قَالَ لَا بل جَاهِل متعلم أَو عَالم متبين فَقَالَ هَكَذَا السّنة يَا ابْن أَخ أَرَادَ بذلك سنة زيد بن ثَابت
وَمَا قَالَ ربيعَة فَهُوَ حجتنا فِي الْمَسْأَلَة أَن مَا قَالُوا يُؤَدِّي إِلَى أَن يقل الأَرْض عِنْد كَثْرَة الْجِنَايَة وَهَذَا لَا يَصح لِأَن مَا دون النَّفس مُعْتَبر بدية النَّفس بِدلَالَة مَا زَاد على ثلث الدِّيَة
وَأما فِي العَبْد إِذا قَتله حر خطأ فَإِن كَانَ قَلِيل الْقيمَة فَإِنَّهُ يجب قِيمَته بِالْإِجْمَاع فَأَما إِذا كَانَ كَبِير الْقيمَة بِأَن زَادَت قِيمَته عَن دِيَة الْحر قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد يجب عشرَة آلَاف إِلَّا عشرَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَالشَّافِعِيّ تجب قِيمَته بَالِغَة مَا بلغت إِلَّا أَن عِنْد الشَّافِعِي تجب بِمُقَابلَة الْمَالِيَّة وَعند أبي يُوسُف تجب بِمُقَابلَة الدَّم وَلِهَذَا قَالَ مِقْدَار الدِّيَة يجب على الْعَاقِلَة وَيجب مُؤَجّلا فِي ثَلَاث سِنِين وَيدخل فِيهِ الْإِبِل كَمَا قَالَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما إِذا قَتله عبد خطأ فَإِنَّهُ يجب الدّفع أَو الْفِدَاء
وَأما إِذا جنى العَبْد على حر أَو على عبد غير الْمولي فَإِن كَانَ عمدا يجب الْقصاص وَإِن كَانَ خطأ فِي نفس أَو فِيمَا دونهَا قل أَرْشهَا أَو كثر فَذَلِك فِي رَقَبَة الْجَانِي وَلَيْسَ فِي ذمَّة الْمولى مِنْهُ شَيْء وَيكون

(3/115)


الْمولى بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ دفع العَبْد بِالْجِنَايَةِ وَإِن شَاءَ فدى عَنهُ بِجَمِيعِ الْأَرْش لإِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك
فَإِن مَاتَ العَبْد قبل أَن يخْتَار الْفِدَاء فَلَا شَيْء على لمولى لِأَن الْحق مُتَعَلق بِالْعينِ فيزول بزواله وَإِن كَانَ بعد اخْتِيَار الْفِدَاء لم يبطل لِأَنَّهُ انْتقل الْحق إِلَى ذمَّة الْمولى بالتزامه
وَإِن جنى العَبْد على جمَاعَة فالمولى بِالْخِيَارِ بَين أَن يدْفع العَبْد إِلَيْهِم وَكَانَ مقسوما بَينهم على قدر مَا لكل وَاحِد مِنْهُم من أرش الْجِنَايَة وَبَين أَن يمسك العَبْد ويفدى بِأَرْش الْجِنَايَات كلهَا لما ذكرنَا
وَلَو تصرف الْمولى فِي العَبْد الْجَانِي بعد الْعلم بِالْجِنَايَةِ تَصرفا يُخرجهُ عَن ملكه نَحْو البيع وَالْهِبَة وَالْإِعْتَاق أَو أقرّ بِهِ لرجل أَو كَانَت أمة فاستولدها فَإِنَّهُ يصير مُخْتَارًا للْفِدَاء بِالدِّيَةِ إِن كَانَت الْجِنَايَة فِي النَّفس وبالأرش إِن كَانَت الْجِنَايَة فِيمَا دون النَّفس لِأَن الْمُخَير بَين الشَّيْئَيْنِ إِذا فعل مَا يدل على اخْتِيَار أَحدهمَا أَو منع من اخْتِيَار أَحدهمَا تعين الآخر للاختيار وَمَعَ هَذِه التَّصَرُّفَات تعذر الدّفع
وَإِن كَانَ لَا يعلم بِالْجِنَايَةِ يلْزمه قيمَة عَبده إِذا كَانَت أقل من الْأَرْش لِأَنَّهُ لَا يصير مُخْتَارًا بِلَا علم وَلَكِن امْتنع التَّسْلِيم إِلَى الْوَلِيّ بِفِعْلِهِ مَعَ تعلق حق الْوَلِيّ بِهِ فَيصير متلفا عَلَيْهِ هَذَا الْقدر فليزمه ذَلِك الْقدر وَلَا حق لوَلِيّ الْجِنَايَة فِيمَا زَاد عَلَيْهِ
وَأما جِنَايَة الْمُدبر وَأم الْوَلَد فَفِي مَال الْمولى دون عَاقِلَته يعْتَبر الْأَقَل من أرش الْجِنَايَة وَمن قِيمَته لِأَن الأَصْل فِي جِنَايَة العَبْد هُوَ دفع الرَّقَبَة إِلَّا أَنه بِالتَّدْبِيرِ وَالِاسْتِيلَاد صَار مَانِعا من التَّسْلِيم من غير اخْتِيَار فَكَأَنَّهُ دبره وَهُوَ لَا يعلم بِالْجِنَايَةِ فَيلْزمهُ الْأَقَل من ذَلِك لما ذكرنَا

(3/116)


وَلَا يلْزم الْمولى بجنايتهما أَكثر من قيمَة وَاحِدَة وَإِن كثرت الأروش يَسْتَوِي فِيهِ من تقدم أَو تَأَخّر فِي الْجِنَايَة لِأَن الْمَنْع منع وَاحِد وَالضَّمان يتَعَلَّق بِهِ فَجعل كَأَن الْجِنَايَات اجْتمعت ثمَّ دبره وَهُوَ لَا يعلم بهَا
وَيعْتَبر قيمَة الْمُدبر لكل وَاحِد مِنْهُم يَوْم جنى عَلَيْهِ وَلَا يعْتَبر الْقيمَة يَوْم التَّدْبِير لِأَنَّهُ صَار مَانِعا بِالتَّدْبِيرِ السَّابِق عَن تَسْلِيمه فِي حَال الْجِنَايَة
وَأما جِنَايَة الْمكَاتب فعلية دون سَيّده وَدون عَاقِلَته يحكم عَلَيْهِ بِالْأَقَلِّ من قِيمَته وَمن أرش جِنَايَته
وَهَذَا لِأَن الْوَاجِب الْأَصْلِيّ هُوَ دفع الرَّقَبَة وَتَسْلِيم رقبته مُمكن فِي الْجُمْلَة بِأَن عجز نَفسه فَيكون مُتَعَلقا بِرَقَبَتِهِ على طَرِيق التَّوَقُّف فَلَا ينْتَقل الْحق من رقبته إِلَى ذمَّته ليؤدي من كَسبه إِلَّا بِأحد معَان ثَلَاثَة إِمَّا بِحكم الْحَاكِم بأرشها عَلَيْهِ أَو يصطلحوا على الْأَرْش أَو يَمُوت وَيتْرك مَالا أَو ولدا وَهَذَا الَّذِي ذكرنَا مَذْهَبنَا
وَقَالَ زفر إِن جِنَايَته تجب فِي ذمَّته بِمَنْزِلَة الْحر
وَثَمَرَة الْخلاف تظهر فِي مَوَاضِع من ذَلِك أَن الْمكَاتب إِذا عجز قبل انْتِقَال الْجِنَايَة من رقبته يُقَال للْمولى ادفعه أَو افده وَعند زفر يُبَاع فِي الْأَرْش
وَمن ذَلِك أَيْضا أَن الْمكَاتب إِذا جنى ثمَّ جنى قبل الْقَضَاء بِالْجِنَايَةِ الأولى عَلَيْهِ يقْضِي عَلَيْهِ بِقِيمَة وَاحِدَة لِأَن الْجِنَايَة تتَعَلَّق بِالرَّقَبَةِ والرقبة الْوَاحِدَة تتضايق عَنْهُمَا كجنايتي العَبْد
وَعند زفر يحكم فِي كل جِنَايَة بِقِيمَتِه لِأَنَّهَا تجب عِنْده فِي الذِّمَّة وَلَا تضايق فِيهَا
وَأما جِنَايَة العَبْد وَالْمُدبر وَأم الْوَلَد على مَوْلَاهُم أَو على مَاله خطأ فَتكون هدرا لِأَنَّهُ لَو وَجب الضَّمَان يجب على العَبْد للْمولى وَالْمولى لَا يجب لَهُ مَال على عَبده

(3/117)


وَكَذَا الْجِنَايَة من الْمولى عَلَيْهِم تكون هدرا أَيْضا إِلَّا أَن فِي الْمُدبر يجب عَلَيْهِ أَن يسْعَى فِي قِيمَته إِذا قتل الْمولى خطأ لِأَن الْعتْق وَصِيَّة فَلَا يجوز أَن يسلم للْقَاتِل
وَأما جِنَايَة الْمكَاتب على مَوْلَاهُ وَجِنَايَة مَوْلَاهُ عَلَيْهِ خطأ فلازمة لِأَن الْمكَاتب أَحَق بمنافعه وأكسابه فَيكون كَالْحرِّ سَوَاء
وَأما الْجَنِين فَنَقُول إِذا ضرب الرجل بطن امْرَأَة حرَّة فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا فَعَلَيهِ الْغرَّة وَهِي عبد أَو أمة تعدل خَمْسمِائَة دِرْهَم ذكرا كَانَ الْجَنِين أَو أُنْثَى
وَكَانَ الْقيَاس فِيهِ أَن لَا يجب شَيْء لِأَنَّهُ يحْتَمل أَنه لم يكن فِيهِ حَيَاة وَقت الضَّرْب وَلِهَذَا لَو ضرب بطن دَابَّة فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا لَا يجب الضَّمَان وَفِي الِاسْتِحْسَان يجب لإِجْمَاع الصَّحَابَة على ذَلِك
وَيكون على الْعَاقِلَة
وَلَو ألقته حَيا فَمَاتَ من سَاعَته فَعَلَيهِ الدِّيَة كَامِلَة على الْعَاقِلَة لِأَن صَارَت نفسا من كل وَجه
وَلَو مَاتَت الْأُم بِالضَّرْبِ ثمَّ خرج الْجَنِين مَيتا لَا يلْزمه الْغرَّة لاحْتِمَال أَنه مَاتَ بِسَبَب الخنق فَزَاد هَاهُنَا احْتِمَال آخر
وأصل الْوُجُوب ثَبت بِخِلَاف الْقيَاس فَلَا يُقَاس عَلَيْهِ مَا لَيْسَ نَظِيره
وَلَو ضرب بطن أمة فَأَلْقَت جَنِينا مَيتا يغرم نصف عشر قِيمَته من

(3/118)


إِن كَانَ ذكرا وَعشر قيمتهَا إِذا كَانَ أُنْثَى وَقَالَ الشَّافِعِي فِيهِ عشر قيمَة الْأُم
وَهَذَا لما ذكرنَا أَن الْوَاجِب فِي الْجَنِين الْغرَّة بِالنَّصِّ وَهُوَ خَمْسمِائَة دِرْهَم وَذَلِكَ عشر دِيَة الْأُنْثَى وَنصف عشر دِيَة الذّكر وَالْقيمَة فِي الْأمة كالدية فِي الْحرَّة فَوَجَبَ عشر قيمتهَا إِن كَانَت أُنْثَى وَنصف عشر قِيمَته إِن كَانَ ذكرا بِنَاء على الْحر إِلَّا أَن مَا وَجب فِي جَنِين الْأمة فَهُوَ فِي مَال الضَّارِب حَالا لِأَن مَا دون النَّفس من الرَّقِيق ضَمَانه ضَمَان الْأَمْوَال وَذَلِكَ مِمَّا لَا تتحمله الْعَاقِلَة بِخِلَاف جَنِين الْحرَّة
وَأما بَيَان من تجب عَلَيْهِ الدِّيَة فَنَقُول كل دِيَة وَجَبت بِنَفس الْقَتْل فِي خطأ أَو شبة عمد أَو فِي عمد دَخلته شبهه تجب فِي ثَلَاث سِنِين على من وَجَبت عَلَيْهِ فِي كل سنة الثُّلُث
فالخطأ وَشبه الْعمد على الْعَاقِلَة
وَأما الْعمد الَّذِي تدخله الشُّبْهَة فيتحول مَالا فَهُوَ فِي مَال الْجَانِي فِي ثَلَاث سِنِين وَذَلِكَ مثل قتل الْأَب ابْنه وَالْمولى عَبده
وَكَذَلِكَ إِذا صولح من الْجِنَايَة على مَال لَا يجب على الْعَاقِلَة وَيجب على الْقَاتِل فِي مَاله حَالا لِأَنَّهُ مَا وَجب بِنَفس الْقَتْل وَإِنَّمَا وَجب بِعقد الصُّلْح فَإِن جعلاه مُؤَجّلا يكون مُؤَجّلا وَإِلَّا فَيكون حَالا كَثمن الْمَبِيع
وَكَذَا من أقرّ على نَفسه بِالْقَتْلِ خطأ فَالدِّيَة فِي مَاله فِي ثَلَاث سِنِين لَا على الْعَاقِلَة
وَكَذَلِكَ مَا وَجب بِجِنَايَة العَبْد فَإِنَّهُ لَا يكون على الْعَاقِلَة

(3/119)


وأصل ذَلِك حَدِيث عمر رَضِي الله عَنهُ مَوْقُوفا عَلَيْهِ وَمَرْفُوعًا لَا تعقل الْعَاقِلَة عمدا وَلَا عبدا وَلَا صلحا وَلَا اعترافا وَلَا مَا دون أرش الْمُوَضّحَة إِلَّا أَن فِي الصُّلْح تجب حَالا وَفِي الْإِقْرَار والعمد الَّذِي فِيهِ شُبْهَة تجب عَلَيْهِ وَلَكِن مُؤَجّلا فِي ثَلَاث سِنِين لإِجْمَاع الصَّحَابَة أَن الدِّيَة تجب مُؤَجّلَة فِي ثَلَاث سِنِين فِي كل سنة الثُّلُث عِنْد انْقِضَائِهَا
وَكَذَلِكَ الحكم فِي الْحر من بدل النَّفس فَهُوَ فِي ثَلَاث سِنِين كالعشرة إِذا قتلوا وَاحِدًا خطأ فعلى عَاقِلَة كل وَاحِد مِنْهُم عشر الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين
وَلَا يغرم كل رجل من الْعَاقِلَة إِلَّا ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو أَرْبَعَة فِي ثَلَاث سِنِين فَإِن قلت الْعَاقِلَة حَتَّى صَار نصيب كل وَاحِد مِنْهُم أَكثر من ذَلِك يضم إِلَيْهِم أقرب الْقَبَائِل مِنْهُم فِي النّسَب من أهل الدِّيوَان كَانُوا أَو من غَيرهم حَتَّى لَا يلْزم الرجل مِنْهُم أَكثر من ذَلِك لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِم بطرِيق الْإِعَانَة تَخْفِيفًا على قريبهم فَلَا يجوز أَن يجب عَلَيْهِم على وَجه فِيهِ تعسير عَلَيْهِم
وَأما أرش مَا دون النَّفس خطأ إِذا بلغ نصف عشر الدِّيَة فَهُوَ على الْعَاقِلَة فِي سنة
وَكَذَا فِي الْمَرْأَة إِذا بلغ نصف عشرَة دِيَتهَا يكون على الْعَاقِلَة فِي سنة لِأَن مَا دون النَّفس مُعْتَبر بِالدِّيَةِ
ثمَّ مَا زَاد فِي نصف الْعشْر إِلَى أَن يبلغ ثلث الدِّيَة فَفِي سنة قِيَاسا على مَا يجب على الْعَاقِلَة فِي السّنة الأولى
فَإِن زَاد على الثُّلُث فَالزِّيَادَة تجب فِي سنة أُخْرَى إِلَى الثُّلثَيْنِ
فَإِن زَاد على الثُّلثَيْنِ فَهِيَ فِي السّنة الثَّالِثَة

(3/120)


ثمَّ الْعَاقِلَة من هم فعندنا الْعَاقِلَة هم أهل الدِّيوَان فِي حق من لَهُ الدِّيوَان وهم الْمُقَاتلَة وَمن لَا ديوَان لَهُ فعاقلته من كَانَ من عصبته فِي النّسَب
وَعند الشَّافِعِي لَا يلْزم أهل الدِّيوَان إِلَّا أَن يَكُونُوا من النّسَب
وَالصَّحِيح قَوْلنَا لما رُوِيَ عَن إِبْرَاهِيم النَّخعِيّ أَنه قَالَ كَانَت الدِّيَة على الْقَبَائِل فَلَمَّا وضع عمر رَضِي الله عَنهُ الدَّوَاوِين جعلهَا على أهل الدِّيوَان وَذَلِكَ بِحَضْرَة الصَّحَابَة رَضِي الله عَنْهُم من غير خلاف
وَتبين أَنه إِنَّمَا كَانَ على أهل الْقَبَائِل للتناصر فَلَمَّا صَار التناصر بالديوان اعْتبر الدِّيوَان لوُجُود الْمَعْنى وَلِهَذَا لَا تكون الْمَرْأَة وَالصَّبِيّ وَالْعَبْد وَالْمُدبر وَالْمكَاتب من جملَة الْعَاقِلَة لأَنهم لَيْسُوا من أهل التناصر وَلَا من أهل الْإِعَانَة بِالشَّرْعِ وَالله أعلم

(3/121)


بَاب ضَمَان الرَّاكِب
وَمن كَانَ فِي مَعْنَاهُ أصل الْبَاب أَن السّير فِي ملك نَفسه مُبَاح مُطلق وَالسير فِي طَرِيق الْمُسلمين مَأْذُون بِشَرْط السَّلامَة فَمَا تولد من سير تلف مِمَّا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فَهُوَ مَضْمُون وَمَا لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فَلَيْسَ بمضمون إِذْ لَو جَعَلْنَاهُ مَضْمُونا لصار مَمْنُوعًا عَن السّير وَهُوَ مَأْذُون
وَلِهَذَا قَالَ أَصْحَابنَا رضوَان الله عَلَيْهِم إِن مَا أثار من الْغُبَار بِالْمَشْيِ أَو بسير الدَّابَّة لَا يضمن مَا تولد مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَكَذَا مَا أثارت الدَّابَّة بسنابكها من الْحَصَى الصغار وَأما الْحَصَى الْكِبَار فَإِن الرَّاكِب يضمن مَا تولد مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا يكون سَببا إِلَّا بالعنف فِي السّير فَيمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَإِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول من سَارَتْ دَابَّته فِي طَرِيق الْمُسلمين وَهُوَ رَاكب عَلَيْهَا أَو قَائِد أَو سائق فوطأت دَابَّته رجلا بِيَدِهَا أَو برجلها أَو كدمت أَو صدمت بصدرها أَو خبطت بِيَدِهَا فَهُوَ ضَامِن لِأَنَّهُ يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَكَذَلِكَ السَّائِق والقائد لِأَنَّهُ مقرب للدابة إِلَى الْجِنَايَة
والرديف كالراكب إِلَّا أَن الْفرق أَن الرَّاكِب قَاتل بِوَطْء الدَّابَّة بثقله وَفعله هُوَ لَيْسَ بمسبب والسائق مسبب حَتَّى تجب الْكَفَّارَة على

(3/123)


الرَّاكِب دون السَّائِق والقائد
وَلَو نفحت الدَّابَّة برجلها وَهِي تسير أَو بذنبها فَلَا ضَمَان فِي ذَلِك على رَاكب وَلَا رَدِيف وَلَا سائق وَلَا قَائِد لِأَن الِاحْتِرَاز عَنهُ غير مُمكن
وَلَو أوقف الدَّابَّة فِي الطَّرِيق فَهُوَ ضَامِن لما تولد من وقُوف الدَّابَّة من الْوَطْء والنفحة بِالرجلِ والذنب وَمَا عطب بروثها وبولها ولعابها
وَكَذَا إِذا أوقفها على بَاب مَسْجِد من مَسَاجِد الْمُسلمين فَهُوَ بِمَنْزِلَة الطَّرِيق لِأَنَّهُ من جملَته وَالسير مَأْذُون فِي الطَّرِيق دون الْوُقُوف والإيقاف
فَإِن جعل الإِمَام للْمُسلمين عِنْد بَاب الْمَسْجِد موقفا لوقوف الدَّوَابّ فَمَا حدث من الْوُقُوف غير مَضْمُون لِأَن مَأْذُون فِيهِ
وَلَكِن سَاق الدَّابَّة فِيهِ أَو قاد أَو سَار فِيهِ على الدَّابَّة يضمن لِأَن الْإِذْن فِي حق الْوُقُوف لَا غير فَبَقيَ السّير على مَا كَانَ بِشَرْط السَّلامَة
وعَلى هَذَا وقُوف الدَّوَابّ فِي سوق الْخَيل وَالدَّوَاب لِأَن ذَلِك مَأْذُون من جِهَة السُّلْطَان
وعَلى هَذَا الفلاة وَطَرِيق مَكَّة إِذا كَانَ وقُوف الدَّابَّة فِي غير المحجة فِي نَاحيَة مِنْهُ لِأَن هَذَا مِمَّا لَا يضر بِالنَّاسِ فَلَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الْإِذْن وَأما الْوُقُوف فِي المحجة فَهُوَ كالوقوف فِي طَرِيق الْمُسلمين
فَأَما إِذا كَانَ الطَّرِيق ملكا خَاصّا لَهُ فساق فِيهِ دابتة أَو سَار بهَا وَهُوَ رَاكب أَو فِي ملكه فِي الْجُمْلَة فَمَا تولد من سيره فَهُوَ غير مَضْمُون عَلَيْهِ إِلَّا وَطْء الدَّابَّة لِأَنَّهُ تصرف فِي ملكه فَلَا يتَقَيَّد بِشَرْط

(3/124)


السَّلامَة لَكِن الْوَطْء بِمَنْزِلَة فعله لحُصُول الْهَلَاك بثقله وَمن تعدى على الْغَيْر فِي دَار نَفسه يضمن
وَلَو نفرت الدَّابَّة أَو انفلتت مِنْهُ فَمَا أَصَابَت فِي فورها ذَلِك لَا ضَمَان عَلَيْهِ وَسَوَاء كَانَ الانفلات فِي ملك صَاحبهَا أَو فِي الطَّرِيق أَو فِي ملك الْغَيْر لِأَنَّهُ لَا صنع لَهُ فِيهِ وَلَا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ
وَقد قَالُوا فِيمَن أرسل دَابَّته فَمَا أَصَابَت فِي فورها ضمن وَإِن مَالَتْ يَمِينا أَو شمالا ثمَّ أَصَابَت فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن لم يكن لَهَا طَرِيق آخر يجب الضَّمَان على الْمُرْسل لِأَنَّهَا بَاقِيَة على الْإِرْسَال وَإِن كَانَ لَهَا طَرِيق آخر فانعراجها باختيارها يقطع حكم الْإِرْسَال فَتَصِير كالمنفلتة
وَلَو حفر بِئْرا فِي طَرِيق الْمُسلمين أَو أخرج جنَاحا أَو نصب فِيهِ ميزابا أَو بنى دكانا أَو وضع حجرا أَو خَشَبَة أَو مَتَاعا أَو صب مَاء فِي الطَّرِيق أَو قعد ليستريح أَو لمَرض أَصَابَهُ فعثر بِشَيْء من ذَلِك عَابِر فَوَقع فَمَاتَ أَو وَقع على غَيره فَقتله أَو على مَال إِنْسَان فَهَلَك فَهُوَ ضَامِن لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ لِأَن الطَّرِيق مَأْذُون فِيهِ للسير لَا غير فَمَا تولد مِنْهُ يكون مَضْمُونا
ثمَّ مَا كَانَ من الْجِنَايَة على بني آدم فَهُوَ على الْعَاقِلَة على مَا ذكرنَا وَمَا كَانَ على المَال فَهُوَ عَلَيْهِ فِي مَاله حَالا
وَلَو كَانَ الرجل سائرا على دَابَّته أَو وَاقِفًا عَلَيْهَا فِي ملكه أَو فِي طَرِيق الْعَامَّة فَنَخَسَ دَابَّته رجل فَضربت بذنبها أَو برجلها أَو نفرت فصدمت إنْسَانا فِي فَور النخسة فالناخس ضَامِن دون الرَّاكِب إِذا فعل ذَلِك بِغَيْر أمره لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ فِي النخس فَمَا تولد مِنْهُ مَضْمُون عَلَيْهِ والراكب لَيْسَ بمتعد

(3/125)


فَأَما إِذا انْقَطع الْفَوْر فَذَاك مُضَاف إِلَى اخْتِيَار الدَّابَّة لَا إِلَى الناخس
وَكَذَلِكَ لَو ضربهَا رجل بِغَيْر أمره
فَأَما إِذا نخس بِأَمْر الرَّاكِب أَو ضرب فنفحت برجلها إنْسَانا فَقتلته فَإِن كَانَ الرَّاكِب يسير فِي الطَّرِيق أَو كَانَ وَاقِفًا فِي ملكه أَو فِي مَوضِع قد أذن فِيهِ بِالْوُقُوفِ من هَذِه الْأَسْوَاق وَنَحْوهَا فَلَا ضَمَان فِي هَذَا على رَاكب وَلَا سائق وَلَا ضَارب وَلَا ناخس لِأَنَّهُ فعل بِأَمْر الرَّاكِب فعلا يملكهُ الرَّاكِب فَصَارَ فعله كَفِعْلِهِ وَلَو فعل الرَّاكِب لَا يضمن مَا أَصَابَت الدَّابَّة بِالرجلِ فَكَذَا هَذَا
وَلَو كَانَ الرَّاكِب وَاقِفًا فِي بعض طرق الْمُسلمين الَّتِي لم يُؤذن بِالْوُقُوفِ فِيهَا فَأمر رجلا أَن يضْرب دَابَّته فضربها فنفحت رجلا فَقتلته فَالدِّيَة عَلَيْهِمَا نِصْفَانِ هَكَذَا ذكر الْكَرْخِي
وروى ابْن سَمَّاعَة عَن أبي يُوسُف فِي هَذَا أَن الضَّمَان على الرَّاكِب لَا غير لِأَن ضربه لَهُ بِأَمْر الرَّاكِب كضرب الرَّاكِب وَلَو فعل الرَّاكِب فتولد مِنْهُ شَيْء برجلها يضمن فَكَذَا هَذَا
وَوجه مَا ذكر الْكَرْخِي أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا مُتَعَدٍّ بطرِيق التسبيب فصارا شَرِيكَيْنِ
وَلَو كَانَ الرجل يسير على دَابَّته فَأمر رجلا حَتَّى ينخسها أَو يضْربهَا فوطئت إنْسَانا فَمَاتَ فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا
وَكَذَلِكَ لَو فعل بِغَيْر أَمر الرَّاكِب فوطئت إنْسَانا فَمَاتَ فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا لِأَن الْمَوْت حصل بِسَبَب فعل الناخس وَثقل الرَّاكِب فَيكون الضَّمَان عَلَيْهِمَا

(3/126)


وَلَو قاد الرجل قطارا فَمَا أوطأه أَوله أَو أوسطه أَو آخِره فَهُوَ ضَامِن لَهُ
وَكَذَلِكَ إِن صدم إنْسَانا فَقتله لِأَن الْقَائِد مقرب للبهيمة إِلَى الْجِنَايَة وَهَذَا مِمَّا يُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ فِي الْجُمْلَة بِأَن يذود النَّاس عَن الطَّرِيق
فَإِن كَانَ مَعَه سائق فَالضَّمَان عَلَيْهِمَا كَيْفَمَا كَانَ السَّائِق فِي وسط القطار أَو فِي آخِره لِأَنَّهُ قد يكون سائقا وَقَائِدًا وَقد يكون سائقا لَا غير وَالْأول قَائِد فهما مسببان فِي هَذِه الْجِنَايَة
وَلَو كَانَ على القطار محامل فِيهَا أنَاس نيام أَو غير نيام فَإِن كَانَ مِنْهُم الْقود والسوق فهم شُرَكَاء السَّائِق والقائد وعَلى الركْبَان الْكَفَّارَة لَا غير
فَأَما إِذا لم يكن مِنْهُم فعل فِي الْقود فهم كالمتاع فَلَا شَيْء عَلَيْهِم
وَلَو أَن حَائِطا من دَار إِنْسَان مَال إِلَى نَافِذ أَو إِلَى دَار رجل فَهَذَا على وَجْهَيْن
إِن بني الْحَائِط مائلا إِلَى ملك غَيره أَو إِلَى الطَّرِيق فَهُوَ ضَامِن لما عطب بسقوطه وَإِن لم يُطَالب بنقضه لِأَنَّهُ مُتَعَدٍّ بِالْبِنَاءِ فِي هَوَاء غَيره وهواء طَرِيق الْمُسلمين حَقهم أَيْضا فَمَا تولد مِنْهُ وَهُوَ مُمكن الِاحْتِرَاز عَنهُ يُؤَاخذ بِهِ
فَأَما إِذا بنى فِي ملكه وَحقه ثمَّ مَال الْبناء إِلَى الطَّرِيق أَو إِلَى دَار إِنْسَان فَلم يُطَالب بنقضه وَلم يشْهد عَلَيْهِ فِيهِ حَتَّى سقط على رجل فَقتله أَو على مَال إِنْسَان فأتلفه فَلَا يضمن لِأَنَّهُ شغل هَوَاء غَيره وَوَقع فِي يَده بِغَيْر صنعه وَهُوَ ميلان الْجِدَار فَيكون فِي يَده أَمَان

(3/127)


كَثوب ألقته الرّيح فِي يَده فَمَا تولد مِنْهُ لَا يُؤْخَذ بِهِ وَإِن طُولِبَ بنقضه وَأشْهد عَلَيْهِ ثمَّ سقط بعد ذَلِك فِي مُدَّة أمكنه نقضه فِيهَا فَهُوَ ضَامِن لِأَن بعد الْمُطَالبَة يجب عَلَيْهِ التفريغ فَإِذا لم يفعل مَعَ الْإِمْكَان صَار مُتَعَدِّيا كَمَا فِي الثَّوْب الَّذِي هبت بِهِ الرّيح إِذا طلبه صَاحبه فَامْتنعَ عَن الرَّد يجب الضَّمَان عَلَيْهِ إِذا هلك
أما إِذا لم يفرط فِي نقضه وَذهب حَتَّى يسْتَأْجر من يهدمه فَسقط فأفسد شَيْئا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يجب عَلَيْهِ إِزَالَة يَده بِقدر الْمُمكن
وَالْإِشْهَاد أَن يَقُول الرجل اشْهَدُوا أَنِّي قد تقدّمت إِلَى هَذَا الرجل فِي هدم حَائِطه هَذَا
وَالْمُعْتَبر عندنَا الْمُطَالبَة بالهدم وَإِنَّمَا يحْتَاج إِلَى الْإِشْهَاد ليثبت بِهِ الْمُطَالبَة عِنْد الْإِنْكَار كَمَا قُلْنَا فِي الشُّفْعَة إِن الْمُعْتَبر هُوَ الطّلب وَإِنَّمَا الْإِشْهَاد ليثبت الطّلب بِالشَّهَادَةِ عِنْد الْإِنْكَار حَتَّى لَو اعْترف صَاحب الدَّار أَنه طُولِبَ بنقضه وَجب عَلَيْهِ الضَّمَان وَإِن لم يشْهد عَلَيْهِ
ثمَّ إِن كَانَ الميلان إِلَى دَار إِنْسَان فالإشهاد إِلَى صَاحب الدَّار إِن كَانَ فِيهَا أَو لم يكن فِيهَا سَاكن وَإِن كَانَ فِيهَا سكان فالإشهاد إِلَى السكان
وَإِن كَانَ الميلان إِلَى طَرِيق الْعَامَّة فالإشهاد إِلَى كل من لَهُ حق الْمُرُور فِيهِ الْمُسلم وَالذِّمِّيّ فِيهِ سَوَاء
وَلَكِن أَنما يَصح الْإِشْهَاد على مَالك الْحَائِط أَو الَّذِي لَهُ ولَايَة النَّقْض مثل الْأَب وَالْوَصِيّ وَلَا يَصح الْإِشْهَاد على الْمُرْتَهن وَالْمُسْتَأْجر وَالْمُسْتَعِير وَالْمُودع لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُم ولَايَة النَّقْض فَكَانَ الْإِشْهَاد عَلَيْهِم وَعَدَمه سَوَاء
وَلَو أشهد من لَهُ حق الْإِشْهَاد على صَاحب الْحَائِط المائل أَو على من يَصح عَلَيْهِ الْإِشْهَاد فَطلب مِنْهُ التَّأْجِيل أَو الْإِبْرَاء فأجل وَأَبْرَأ فَإِن كَانَ أميل إِلَى الدَّار صَحَّ لِأَنَّهُ أبطل حَقه
فَأَما إِذا كَانَ الْميل إِلَى

(3/128)


الطَّرِيق فأبرأ أَو أجل الَّذِي أشهد عَلَيْهِ مِمَّن لَهُ حق الْمُرُور أَو القَاضِي فَإِنَّهُ لَا يَصح لِأَنَّهُ هَذَا حق الْعَامَّة فإبراء الْوَاحِد وتأجيله يَصح فِي حَقه لَا فِي حق النَّاس
وَلَو بَاعَ صَاحب الدَّار بعد الْإِشْهَاد فَسقط الْحَائِط بَعْدَمَا قَبضه المُشْتَرِي أَو بَعْدَمَا ملكه فِي زمَان لَا يتَمَكَّن من نقضه فَلَا ضَمَان على البَائِع فِيمَا هلك بسقوطه لِأَنَّهُ لَا يملك النَّقْض فَسقط حكم الْإِشْهَاد وَإِن كَانَ بعد التَّفْرِيط لَا يسْقط الضَّمَان

(3/129)


بَاب الْقسَامَة
يحْتَاج فِي هَذَا الْبَاب إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة الْقسَامَة وَإِلَى تَفْسِيرهَا وَإِلَى بَيَان من تجب عَلَيْهِ
أما الأول فالقسامة مَشْرُوعَة فِي الْقَتِيل الَّذِي يُوجد وَبِه عَلامَة الْقَتْل من الْجراح وَغَيرهَا وَلم يعرف لَهُ قَاتل بالأحاديث وَقَضَاء عمر رَضِي الله عَنهُ وَإِجْمَاع الصَّحَابَة فِي خلَافَة عمر بن عبد الْعَزِيز رَحمَه الله عَلَيْهِ
وَأما تَفْسِير الْقسَامَة وَبَيَان من تجب عَلَيْهِ فَهُوَ مَا روى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة رَحمَه الله عَلَيْهِمَا أَنه قَالَ فِي الْقَتِيل يُوجد فِي الْمحلة أَو فِي دَار رجل فِي الْمصر إِن كَانَت بِهِ جِرَاحَة أَو أثر ضرب أَو أثر خنق فَإِن هَذَا قَتِيل وَفِيه الْقسَامَة على عَاقِلَة رب الدَّار إِذا وجد فِي الدَّار وعَلى عَاقِلَة أهل الْمحلة إِذا وجد فِي الْمحلة يقسم خَمْسُونَ رجلا كل رجل مِنْهُم بِاللَّه مَا قتلته وَلَا علمت لَهُ قَاتلا

(3/131)


ثمَّ يغرمون الدِّيَة فِي ثَلَاث سِنِين على أهل الدِّيوَان فِي كل سنة الثُّلُث مِقْدَار مَا يُصِيب كل وَاحِد مِنْهُم ثَلَاثَة دَرَاهِم أَو أَرْبَعَة فِي ثَلَاثَة سِنِين فَإِن زَاد ضمُّوا إِلَيْهِم أقربهم مِنْهُم من الْقَبَائِل نسبا لَا جوارا فَإِن نَقَصُوا عَن خمسين كررت عَلَيْهِم الْأَيْمَان
ثمَّ لَا يدْخل فِي الْقسَامَة إِلَّا الْعَاقِل الْبَالِغ الْحر فَأَما الْمَرْأَة فَهَل تدخل ذكر الطَّحَاوِيّ أَنه لَا يدْخل فِي الْقسَامَة إِلَّا رجل عَاقل بَالغ حر
وَذكر مُحَمَّد عَن أبي حنيفَة فِي الْقَتِيل يُوجد فِي قَرْيَة امْرَأَة لَا يكون بهَا غَيرهَا وَلَيْسَ لَهَا عَاقِلَة قريبَة قَالَ تستحلف ويكرر عَلَيْهَا الْأَيْمَان وعَلى عاقلتها الَّتِي هِيَ أقرب الْقَبَائِل إِلَيْهَا فِي النّسَب
وَقَالَ أَبُو يُوسُف ينظر إِلَى أقرب الْقَبَائِل إِلَيْهَا وَتَكون الْقسَامَة عَلَيْهِم وَلَا قسَامَة على الْمَرْأَة لِأَنَّهَا لَيست من أهل النُّصْرَة كَالصَّبِيِّ وَالْجُنُون وَالْعَبْد
وهما يَقُولَانِ إِن الْمَرْأَة من أهل الِاسْتِحْلَاف فِي الْحُقُوق وَمن أهل الْمُشَاركَة فِي الدِّيَة فَإِنَّهَا إِذا قتلت رجلا خطأ تشارك الْعَاقِلَة فِي الدِّيَة
وَيدخل فِي الْقسَامَة الْأَعْمَى والمحدود فِي الْقَذْف وَالذِّمِّيّ لأَنهم من أهل الِاسْتِحْلَاف والنصرة
وَيكون الِاخْتِيَار فِي رجال الْقسَامَة إِلَى أَوْلِيَاء الْقَتِيل لِأَن ذَلِك حَقهم وَلَهُم فِي الِاخْتِيَار فَائِدَة
هَذَا الَّذِي ذكرنَا مَذْهَب عُلَمَائِنَا رَحِمهم الله
وَقَالَ مَالك وَالشَّافِعِيّ رحمهمَا الله إِذا كَانَ هُنَاكَ لوث أَي عَلامَة الْقَتْل من وَاحِد بِعَيْنِه أَو بَينهمَا عَدَاوَة ظَاهِرَة فَإِنَّهُ يسْتَحْلف الْأَوْلِيَاء خمسين يَمِينا

(3/132)


ثمَّ يقْتَصّ من الْمُدَّعِي عَلَيْهِ عِنْد مَالك
وَعند الشَّافِعِي يقْضِي لَهُم على الْمُدَّعِي عَلَيْهِ بِالدِّيَةِ
وَلَكِن هَذَا خلاف الْأَحَادِيث الْمَشْهُورَة وَإِجْمَاع الصَّحَابَة
ثمَّ إِذا وجد الْقَتِيل فِي دَار رجل فالقسامة على رب الدَّار وعَلى جِيرَانه إِن كَانُوا عَاقِلَته وَإِن لم يَكُونُوا فعلى عَاقِلَته من أهل الْمصر وَعَلَيْهِم الدِّيَة كَذَا ذكر مُحَمَّد فِي الأَصْل وَلم يذكر إِذا كَانَت الْعَاقِلَة غيبا
وَذكر فِي اخْتِلَاف زفر وَيَعْقُوب أَن الْقسَامَة عَلَيْهِ وعَلى عَاقِلَته غيبا كَانُوا أَو حضورا
وعَلى قَول أبي يُوسُف لَا قسَامَة على الْعَاقِلَة
وَذكر الْكَرْخِي إِن كَانَت الْعَاقِلَة حَاضِرَة فِي الْمصر دخلُوا فِي الْقسَامَة وَإِن كَانَت غَائِبَة فالقسامة على صَاحب الدَّار يُكَرر عَلَيْهِ الْإِيمَان وَالدية عَلَيْهِ وعَلى الْعَاقِلَة
ثمَّ الْقسَامَة وَالدية على الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب من عَاقِلَة من وجد فيهم الْقَتِيل فَرب الدَّار وَقَومه أخص ثمَّ أهل الْمحلة ثمَّ أهل الْمصر
وَكَذَلِكَ الْقَبَائِل الْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَإِن كَانَت الْمحلة فِيهَا من قبائل شَتَّى فَإِن الدِّيَة والقسامة على أهل الخطة وَلَيْسَ على المُشْتَرِي شَيْء عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا قسَامَة وَلَا دِيَة مَا بَقِي وَاحِد من أهل الخطة
وعَلى قَول أبي يُوسُف على أهل الخطة والمشترين جَمِيعًا
وَقيل إِنَّمَا أجَاب أَبُو حنيفَة على عَادَة أهل الْكُوفَة فَإِن أهل الخطة هم الَّذين يدبرون أَمر الْمحلة وَأَبُو يُوسُف بني على عَادَة أهل زَمَانه أَن التَّدْبِير إِلَى الْأَشْرَاف من أهل الخطة كَانُوا أَولا
وَأما إِذا لم يكن فِي الْمحلة أحد من أهل الخطة وفيهَا ملاك وسكان فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد على

(3/133)


الْملاك دون السكان
وَقَالَ أَبُو يُوسُف عَلَيْهِم جَمِيعًا
وَلَو وجد الْقَتِيل فِي السُّوق فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد على أَرْبَابهَا وَعند أبي يُوسُف على سكانها
وَإِن كنت السُّوق للعامة أَو للسُّلْطَان فَالدِّيَة فِي بَيت المَال
وَلَو وجد فِي الْمَسْجِد الْجَامِع أَو الجسور الْعَامَّة أَو النَّهر الْعَام كدجلة والفرات فَالدِّيَة فِي بَيت المَال وَلَا قسَامَة على أحد
فَأَما فِي النَّهر الْخَاص الَّذِي يقْضِي فِيهِ بِالشُّفْعَة للشَّرِيك فعلى عَاقِلَة أَرْبَاب النَّهر
وَلَو وجد فِي السجْن وَلَا يعرف من قَتله فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد على بَيت المَال وَعند أبي يُوسُف تجب الْقسَامَة وَالدية على أهل السجْن
وَإِن وجد فِي السَّفِينَة فَالدِّيَة والقسامة على من فِي السَّفِينَة من ركبهَا أَو يمدها من الْمَالِك وَغَيره بِخِلَاف الدَّار لِأَنَّهَا مِمَّا ينْقل من مَوضِع إِلَى مَوضِع فَيعْتَبر فِيهِ الْيَد دون الْملك
وَكَذَلِكَ العجلة أَو الدَّابَّة إِذا وجد عَلَيْهَا قَتِيل وَمَعَهَا رجل يحملهَا وَهُوَ قَائِد أَو سائق أَو رَاكب فَإِنَّهُ يكون الْقسَامَة عَلَيْهِ
وَإِن اجْتمع رجال بَعضهم قَائِد وَبَعْضهمْ سائق
وَبَعْضهمْ رَاكب فَيكون عَلَيْهِم لِأَنَّهُ فِي أَيْديهم فَصَارَ كوجوده فِي دَارهم
وَإِن وجد فِي فلاة من الأَرْض ينظر إِن كَانَت ملكا لإِنْسَان فالقسامة وَالدية على الْمَالِك وعَلى قبيلته
وَإِن كَانَ ذَلِك الْموضع لَا مَالك لَهُ وَكَانَ موضعا يسمع فِيهِ الصَّوْت من مصر من الْأَمْصَار أَو

(3/134)


قَرْيَة من الْقرى فَعَلَيْهِم وَإِن كَانَ لَا يسمع فِيهِ الصَّوْت وَلَيْسَ بِملك لأحد فَهُوَ هدر لِأَنَّهُ لَا يَد لأحد عَلَيْهِ
وَكَذَلِكَ فِي الدجلة والفرات أَرَادَ فِي حق الْقسَامَة فَأَما الدِّيَة فَفِي بَيت المَال إِذا ظهر أولياؤه
فَأَما إِذا وجد على شط نهر عَظِيم مثل دجلة والفرات فعلى أقرب الْقرى من ذَلِك الْموضع من حَيْثُ يسمع الصَّوْت الْقسَامَة وَالدية
وَلَو وجد الْقَتِيل فِي عَسْكَر فِي الفلاة فَإِن كَانَت ملكا فعلى أَرْبَاب الفلاة وَإِن لم يكن لَهَا مَالك فَإِن وجد فِي خباء أَو فسطاط فعلى من يسكن الخباء والقسطاط وعَلى عواقلهم وَإِن وجد خَارِجا من الفسطاطا والخباء فعلى أقرب الأخبية والفساطيط
وَإِن كَانَ الْعَسْكَر لقوا قتالا فَقَاتلُوا فَلَا قسَامَة وَلَا دِيَة فِي قَتِيل وجد بَين أظهرهم لِأَن الظَّاهِر أَنه قَتِيل الْعَدو
وَلَو وجد قَتِيل فِي دَار نَفسه فديته على ورثته وعَلى عاقلتهم وَتَكون مِيرَاثا لَهُم لَو فضل من دِيَته عِنْد أبي حنيفَة رَضِي الله عَنهُ وَعِنْدَهُمَا لَا شَيْء فِيهِ وَهُوَ هدر وَبِه أَخذ زفر
وروى أَبُو يُوسُف عَن أبي حنيفَة مثله لِأَن وجود الْقَتِيل فِي الدَّار بِمَنْزِلَة مُبَاشرَة الْقَتْل من صَاحبهَا فَإِذا وجد الْقَتِيل فِي دَار نَفسه فَيصير كَأَنَّهُ قتل نَفسه وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْمُعْتَبر فِي الْقسَامَة وَالدية حَال ظُهُور الْقَتِيل بِدَلِيل أَن مَاتَ قبل ذَلِك لَا يدْخل فِي الدِّيَة وَحَال ظُهُور الْقَتِيل الدَّار للْوَرَثَة فَيكون عَلَيْهِم وعَلى عاقلتهم كمن وجد قَتِيلا فِي دَار ابْنه أَو بِئْر حفرهَا ابْنه أَلَيْسَ أَن الْقسَامَة وَالدية على ابْنه وعواقله كَذَا هَذَا
ثمَّ يثبت الْمِيرَاث لَهُ بَعْدَمَا صَار للمقتول حَتَّى يقْضِي دينه فَمَا فضل يكون للْوَرَثَة بِسَبَب الْقَرَابَة وَالله أعلم

(3/135)


هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا لم يدع الْأَوْلِيَاء على رجل بِعَيْنِه من أهل الْمحلة
فَأَما إِذا ادعوا على رجل بِعَيْنِه فالقسامة وَالدية بحالهما فِي جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة
وروى عبد الله بن الْمُبَارك عَن أبي حنيفَة وَمُحَمّد أَنه يسْقط
وَقَالَ أَبُو يُوسُف الْقيَاس أَنه يسْقط وَفِي الِاسْتِحْسَان أَنه لَا يسْقط للأثر
وَجه ظَاهر الرِّوَايَة أَن الظَّاهِر أَن الْقَاتِل أحد أهل الْمحلة وَالْوَلِيّ يَدعِي إِلَّا أَنه عين وَهُوَ مُتَّهم فِي التَّعْيِين فَلَا يعْتَبر
فَأَما إِذا ادّعى الْوَلِيّ الْقَتْل على رجل من غَيرهم فَيكون إِبْرَاء لَهُم عَن الْقسَامَة وَالدية لِأَنَّهُ نفي الْقَتْل عَنْهُم بِدَعْوَاهُ على غَيرهم
وَلَو شهد اثْنَان من أهل الْمحلة للْوَلِيّ بِهَذِهِ الدَّعْوَى لم تقبل شَهَادَتهمَا فِي قَول أبي حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد تقبل وَإِنَّمَا قَالَ أَبُو حنيفَة هَذَا لِأَن أهل الْمحلة صَارُوا خصما فِي هَذِه الدَّعْوَى فَلَا تقبل شَهَادَتهم وَإِن خَرجُوا عَن الْخُصُومَة بِالْإِبْرَاءِ كَالْوَكِيلِ إِذا خَاصم ثمَّ عزل فَشهد لَا تقبل شَهَادَته كَذَا هَذَا
وَكَذَا لَو ادّعى الْأَوْلِيَاء الْقَتْل على وَاحِد من أهل الْمحلة بِعَيْنِه فَشهد شَاهِدَانِ من أهل الْمحلة عَلَيْهِ لم تقبل شَهَادَتهمَا بالِاتِّفَاقِ لِأَن الْخُصُومَة قَائِمَة عَلَيْهِم بعد هَذِه الدَّعْوَى على مَا بَينا فَتكون هَذِه شَهَادَة لأَنْفُسِهِمْ فَلَا تقبل

(3/136)