تحفة الفقهاء

كتاب الْهِبَة
يحْتَاج إِلَى بَيَان مَشْرُوعِيَّة عقد الْهِبَة
وَإِلَى بَيَان رُكْنه وَإِلَى بَيَان شَرَائِط صِحَّته وَإِلَى بَيَان حكمه
أما الأول فَنَقُول الْهِبَة عقد مَشْرُوع مَنْدُوب إِلَيْهِ بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
أما الْكتاب فَقَوله تَعَالَى {فَإِن طبن لكم عَن شَيْء مِنْهُ نفسا فكلوه هَنِيئًا مريئا}
وَأما السّنة فَقَوله عَلَيْهِ السَّلَام تحَابوا وَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَام الْعَائِد فِي هِبته كَالْكَلْبِ يعود فِي قيئه
وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع

(3/159)


وَأما ركن الْهِبَة فَهُوَ الْإِيجَاب وَالْقَبُول فالإيجاب قَوْله وهبت هَذَا الشَّيْء مِنْك أَو جعلته لَك أَو هَذَا لَك أَو نحلته لَك أَو قَالَ جعلت هَذِه الدَّار لَك عمري أَو عمرك أَو حَياتِي أَو حياتك فَإِذا مت فَهُوَ رد عَليّ فَهَذَا كُله هبة وَهِي لَهُ حَيَاته وَمَوته وَالشّرط الَّذِي شَرطه بَاطِل على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ امسكوا عَلَيْكُم أَمْوَالكُم لَا تعمروها فَإِن من أعمر شَيْئا كَانَ لمن أعْمرهُ
وَلَو قَالَ هَذِه الدَّار لَك رقبي أَو حبيسة وَدفعهَا إِلَيْهِ فَهِيَ عَارِية فِي يَده ويأخذها مِنْهُ مَتى شَاءَ وَقَالَ أَبُو يُوسُف إِذا قبضهَا فَهِيَ هبة وَقَوله رقبي وحبيسة بَاطِل
وَلَو قَالَ هَذِه الدَّار لَك سُكْنى أَو هَذِه الشَّاة أَو هَذِه الأَرْض لَك منحة فَهِيَ عَارِية فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَن المنحة عبارَة عَن بذل الْمَنَافِع فَإِذا أضَاف إِلَى عين ينْتَفع بهَا مَعَ قِيَامهَا عمل بحقيقته فَأَما إِذا أضَاف إِلَى شَيْء لَا ينْتَفع بِهِ إِلَّا باستهلاكه كَمَا إِذا منحه طَعَاما أَو لَبَنًا أَو دَرَاهِم أَو دَنَانِير فَإِنَّهُ يكون هبة لِأَنَّهُ لَا مَنْفَعَة لَهُ مَعَ قيام عينه
وعَلى هَذَا قَالُوا إِن عَارِية الْأَعْيَان تمْلِيك الْمَنَافِع وعارية الْمكيل وَالْمَوْزُون قرض وَيكون تمْلِيك الْعين
وَكَذَا لَو قَالَ هَذِه الدَّار لَك سُكْنى عمري أَو عمري سُكْنى فَهِيَ عَارِية
وَكَذَا إِذا قَالَ هبة سُكْنى أَو سُكْنى هبة فَهِيَ عَارِية

(3/160)


وَإِن قَالَ هَذِه الدَّار لَك عمري تسكنها أَو صَدَقَة تسكنها فَهِيَ هبة وَصدقَة وَقَوله تسكنها أَو تؤاجرها أَو تعيرها يكون مشورة فَيكون شرطا فَاسِدا وَالْهِبَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
كَذَا لَو قَالَ هِيَ لَك هبة تسكنها فَهِيَ هبة جَائِزَة لما ذكرنَا
وَلَو وهب الرجل أمة على أَن لَا يَبِيعهَا فالهبة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَهُوَ قَول أبي يُوسُف أَيْضا
وَكَذَا لَو شَرط أَن يتخذها أم ولد أَو أَن يَبِيعهَا من فلَان أَو يردهَا عَلَيْهِ بعد شهر كَانَت الْهِبَة جَائِزَة وَالشّرط بَاطِل وَكَانَ يَنْبَغِي أَن لَا يكون الشَّرْط الْفَاسِد مُفْسِدا للْعقد وَإِنَّمَا جَاءَ الْفساد لأجل النَّهْي وَالنَّهْي ورد فِي البيع وَمَا ورد فِي غَيره فَبَقيَ غَيره على الأَصْل إِلَّا إِذا كَانَ فِي مَعْنَاهُ وَأَصله مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه أجَاز الْعُمْرَى وأبطل شَرط المعمر
أما شَرَائِط الصِّحَّة فَمِنْهَا الْقَبْض حَتَّى لَا يثبت الْملك للْمَوْهُوب لَهُ قبل الْقَبْض وَهَذَا عندنَا
وَقَالَ مَالك الْقَبْض لَيْسَ بِشَرْط
وَأَصله مَا رُوِيَ عَن جمَاعَة من الصَّحَابَة رضوَان الله عَلَيْهِم أَنهم قَالُوا لَا تجوز الْهِبَة إِلَّا مَقْبُوضَة محوزة
وَمِنْهَا أَن تكون الْهِبَة مقسومة إِذا كَانَ يحْتَمل الْقِسْمَة وَتجوز إِذا كَانَ مشَاعا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة سَوَاء كَانَت الْهِبَة للشَّرِيك أَو غَيره
وَقَالَ الشَّافِعِي هبة الْمشَاع جَائِزَة
وَكَذَلِكَ الْخلاف فِي التَّصَدُّق بالمشاع

(3/161)


وَأَصله مَا روينَا عَن الصَّحَابَة أَنهم قَالُوا لَا تجوز الْهِبَة إِلَّا مَقْبُوضَة محوزة والحيازة يُرَاد بهَا الْقِسْمَة هَاهُنَا بِالْإِجْمَاع
وَمِنْهَا أَن تكون الْهِبَة متميزة عَن غير الْمَوْهُوب وَغير مُتَّصِلَة بِهِ وَلَا مَشْغُولَة بِغَيْر الْمَوْهُوب حَتَّى لَو وهب أَرضًا فِيهَا زرع للْوَاهِب دون الزَّرْع أَو نخلا فِيهَا ثَمَرَة للْوَاهِب معلقَة بِهِ دون الثَّمَرَة لَا يجوز وَكَذَلِكَ لَو وهب ثَمَرَة النّخل دون النّخل أَو الزَّرْع دون الأَرْض وَقبض النخيل وَالثَّمَرَة وَالْأَرْض وَالزَّرْع لَا يجوز
وَكَذَا لَو وهب دَارا فِيهَا مَتَاع للْوَاهِب أَو ظرفا فِيهِ مَتَاع للْوَاهِب دون الْمَتَاع أَو وهب دَابَّة عَلَيْهَا حمل للْوَاهِب دون الْحمل وَقَبضهَا فَإِنَّهُ لَا يجوز وَلَا يَزُول الْملك عَن الْوَاهِب إِلَى الْمَوْهُوب لَهُ لِأَن الْمَوْهُوب غير متميز عَمَّا لَيْسَ بموهوب فَيكون بِمَنْزِلَة هبة الْمشَاع
وَلَو قسم الْمشَاع وَسلم مَا وهب جَازَ
وَكَذَا فِي هَذِه الْفُصُول إِذا سلم الدَّار فارغة عَن الْمَتَاع
وَكَذَا إِذا حصد الزَّرْع وجز الثَّمر ثمَّ سلم النّخل وَالْأَرْض جَازَ لِأَن الْملك يثبت عِنْد الْقَبْض فَيعْتَبر حَالَة الْقَبْض وَتَكون الْهِبَة مَوْقُوفَة فِي حق ثُبُوت الْملك إِلَى وَقت الْإِفْرَاز وَفِي كَون الْهِبَة فِي الْحَال فَاسِدَة أَو لَا خلاف بَين الْمَشَايِخ وَلَكِن لَا خلاف أَنه إِذا وجد التَّسْلِيم بعد الْقِسْمَة والإفراز جَازَ
وَلَو وهب دَارا من رجلَيْنِ أَو كرا من طَعَام أَو ألف دِرْهَم أَو شَيْئا مِمَّا يقسم فَإِنَّهُ لَا يجوز عِنْد أبي جنيفة وَعِنْدَهُمَا جَائِز
وَالْحَاصِل أَن عِنْد أبي حنيفَة الشُّيُوع مَتى حصل عِنْد الْقَبْض فَإِنَّهُ يمْنَع صِحَة الْهِبَة وَإِن حصل الْقَبْض فِي غير مشَاع جَازَ فجوز هبة الِاثْنَيْنِ من الْوَاحِد وَلم يجوز هبة الْوَاحِد من الِاثْنَيْنِ
وَاعْتبر أَو يُوسُف

(3/162)


وَمُحَمّد فِي فَسَاد العقد حُصُول الشُّيُوع فِي الطَّرفَيْنِ جَمِيعًا فجوزا هبة الْوَاحِد من اثْنَيْنِ وَهبة الِاثْنَيْنِ من الْوَاحِد
وَلَو وهب عبدا من رجلَيْنِ أَو شَيْئا مِمَّا لَا يقسم جَازَ بِالْإِجْمَاع لِأَنَّهُ لَا عِبْرَة للشيوع فِيمَا لَا يحْتَمل الْقِسْمَة فِي بَاب الْهِبَة
وَلَو وهب رجل لِرجلَيْنِ وَقَالَ وهبت لَكمَا هَذِه الدَّار لهَذَا نصفهَا وَلِهَذَا نصفهَا فَهُوَ على الْخلاف الَّذِي ذَكرْنَاهُ
وَلَو قَالَ وهبت لَك نصفهَا وَلِهَذَا نصفهَا لم يجز بِالْإِجْمَاع لِأَن العقد وَقع فِي الْمشَاع فِي كل نصف
وَلَو قَالَ وهبت لَكمَا هَذَا الدَّار لهَذَا ثلثهَا وَلِهَذَا ثلثاها جَازَ عِنْد مُحَمَّد وَعند أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يجوز فهما مرا على أَصلهمَا وَأَبُو يُوسُف فرق عِنْد مُخَالفَة النَّصِيبَيْنِ كَمَا لَو رهن عينا وَاحِدَة من اثْنَيْنِ لأَحَدهمَا الثُّلُث وَللْآخر الثُّلُثَانِ فَكَذَلِك هَذَا
ثمَّ إِن عِنْد أبي حنيفَة إِذا قسم وَسلم إِلَى كل وَاحِد مِنْهُمَا حِصَّته مفرزة جَازَ لما قُلْنَا
وَلَو تصدق بِعشْرَة دَرَاهِم على مسكينين جَازَ وَلَو تصدق على غَنِيَّيْنِ لم يجز عِنْد أبي حنيفَة كَالْهِبَةِ من اثْنَيْنِ لِأَن الصَّدَقَة تقع من الْمُتَصَدّق لله تَعَالَى لَا للْفَقِير فَلَا يتَحَقَّق الشُّيُوع وَالصَّدَََقَة من الغنيين هبة فَلم تجز وَقيل على قَوْله تجوز الصَّدَقَة من الغنيين لِأَنَّهُ يحل لَهما صَدَقَة التَّطَوُّع
وَلَو وهب رجل لرجل مَا فِي بطن جَارِيَته أَو غنمه أَو مَا فِي ضروعها أَو وهب لَهُ سمنا فِي لبن أَو زبدا قبل أَن يمخض
أَو دهنا فِي سمسم قبل أَن يعصر أَو زيتا فِي زيتون أَو دَقِيقًا فِي حِنْطَة وسلطه على قَبضه عِنْد الْولادَة وَعند اسْتِخْرَاج ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن بعض هَذِه

(3/163)


الْأَشْيَاء مَعْدُوم عِنْد العقد أَو معجوز التَّسْلِيم لِمَعْنى فِي الْمحل أَو مَجْهُول حَتَّى لَا يكون محلا للْبيع وَإِذا كَانَ هَكَذَا فَيكون فَاسِدا لَا مَوْقُوفا بِخِلَاف مَا ذكرنَا من هبة الْمشَاع والموهوب الْمُتَّصِل بِغَيْرِهِ حَيْثُ يجوز إِذا سلم بعد الْإِفْرَاز والفصل لِأَن الْمشَاع قَابل لحكمه لَكِن الْمَانِع هُوَ الْعَجز عَن التَّسْلِيم لِمَعْنى فِي غَيره فَإِذا زَالَ الْمَانِع فينقلب جَائِزا
وَلَو وهب جَارِيَة أَو حَيَوَانا وَاسْتثنى الْحمل جَازَت الْهِبَة فِي الْأُم وَالْحمل جَمِيعًا وَبَطل الِاسْتِثْنَاء
وَجُمْلَة هَذَا أَن الْعُقُود على ثَلَاثَة أضْرب أَحدهَا إِذا عقد على الْأُم دون الْحمل فسد العقد وَبَطل الِاسْتِثْنَاء وَهُوَ كَالْبيع وَالْإِجَازَة وَالرَّهْن لِأَن الْحمل تبع للْأُم فِي هَذِه الْعُقُود فَكَانَ مُوجبه ثُبُوت الحكم فِي الْكل فَإِذا اسْتثْنى الْحمل فقد نفى بعض مُوجب العقد ففسد العقد
وَالثَّانِي أَن يَصح فِيهِ العقد وَيبْطل الِاسْتِثْنَاء وَذَلِكَ مثل النِّكَاح وَالْخلْع وَالصُّلْح عَن دم الْعمد وَالْهِبَة لِأَن مُوجبه أَن يثبت الحكم فِي الْكل
وَقد نفى بعض الْمُوجب بِالِاسْتِثْنَاءِ فَيكون شرطا فَاسِدا وَالْهِبَة لَا تبطل بِالشُّرُوطِ الْفَاسِدَة
الثَّالِث يجوز العقد وَالِاسْتِثْنَاء وَهُوَ الْوَصِيَّة إِذا أوصى بِجَارِيَة إِلَّا حملهَا صحت الْوَصِيَّة فِي الْجَارِيَة وَبَقِي الْحمل للْوَرَثَة لِأَن الْحمل أصل فِي حق هَذَا التَّصَرُّف حَتَّى تجوز الْوَصِيَّة بِالْحملِ فَجَاز الِاسْتِثْنَاء
وَلَو أعتق مَا فِي بطن جَارِيَته ثمَّ وَهبهَا جَازَت الْهِبَة فِي الْأُم
وَلَو دبر مَا فِي بطن جَارِيَته ثمَّ وَهبهَا لم يجز فَمن أَصْحَابنَا من

(3/164)


قَالَ فِي الْمَسْأَلَة رِوَايَتَانِ وَمِنْهُم من فرق بَين التَّدْبِير وَالْإِعْتَاق
وَلَو وهب عبدا أَو ثوبا أَو عينا من الْأَعْيَان مفرزا مقسوما وَلم يَأْذَن لَهُ فِي قَبضه فَقَبضهُ الْمَوْهُوب لَهُ فَإِن كَانَ بِحَضْرَة الْوَاهِب يجوز اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز ذكرنَا فِي الزِّيَادَات
وَإِذا قَامَ من الْمجْلس ثمَّ قبض لَا يَصح لِأَن الْقَبْض فِي الْهِبَة بِمَنْزِلَة الْقبُول فِي حق إِثْبَات الحكم وَذَلِكَ يَصح فِي الْمجْلس لَا بعده كَذَلِك هَذَا
وَلَو وهب دينا لَهُ على رجل لرجل وَأذن لَهُ بِقَبْضِهِ مِمَّن عَلَيْهِ جَازَت الْهِبَة إِذا قبض ذَلِك اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز وَهُوَ قَول زفر وَلَو لم يَأْذَن لَهُ فِي قبض الدّين لم تجز الْهِبَة وَإِن قَبضه الْمَوْهُوب لَهُ بِحَضْرَة الْوَاهِب
وَلَو وهب الْعَارِية أَو الْوَدِيعَة وكل أَمَانَة فِي يَد إِنْسَان من صَاحب الْيَد فَإِنَّهُ يجوز وَيثبت الْملك للْمَوْهُوب لَهُ وينوب قبض الْأَمَانَة عَن قبض الْهِبَة وَهَذَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس أَن لَا يكون قَابِضا حَتَّى يتَمَكَّن من قَبضه بالخلية وَوجه الِاسْتِحْسَان أَن الْهِبَة تبرع وَقبض الْأَمَانَة يَنُوب عَنهُ بِخِلَاف مَا إِذا بَاعَ من الْمُودع لِأَن البيع عقد ضَمَان وَقبض الْأَمَانَة لَا يَنُوب عَن قبض الضَّمَان
وَلَو كَانَت الْعين مَضْمُونَة فِي يَد إِنْسَان بِالْمثلِ أَو بِالْقيمَةِ كَمَا فِي الْغَصْب والمقبوض على سوم الشِّرَاء فَوَهَبَهَا من صَاحب الْيَد تصح الْهِبَة وَيبرأ عَن الضَّمَان فَيكون قبضا غير مَضْمُون
وَلَو كَانَت مَضْمُونَة بغَيْرهَا كَالرَّهْنِ وَالْمَبِيع فَوَهَبَهَا الْمَالِك لمن هِيَ فِي يَده فَإِنَّهُ لَا يكون قَابِضا بذلك مَا لم يقبضهَا قبضا مستأنفا بعد عقد الْهِبَة لِأَنَّهَا إِذا كَانَت مَضْمُونَة بغَيْرهَا لم تصح الْبَرَاءَة عَنْهَا بِالْهبةِ فَلَا يصير قبض أَمَانَة وَلَا بُد من تجانس القبضين حَتَّى يتساويا

(3/165)


ثمَّ إِذا صحت الْهِبَة عِنْد وجود شرائطها واحتجنا إِلَى بَيَان الحكم فَنَقُول حكم الْهِبَة ثُبُوت الْملك للْمَوْهُوب لَهُ غير لَازم حَتَّى يَصح الرُّجُوع وَالْفَسْخ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يَقع الْملك لَازِما إِلَّا فِي هبة الْوَلَد لوَلَده
لَكِن يكره الرُّجُوع فِي الْهِبَة لِأَن من بَاب الدناءة
وللموهوب لَهُ أَن يمْتَنع عَن الرَّد
وَلَا يَصح الرُّجُوع إِلَّا بتراض أَو بِقَضَاء القَاضِي لِأَنَّهُ فسخ بعد تَمام العقد فَصَارَ كالفسخ بِسَبَب الْعَيْب بعد الْقَبْض
وَإِنَّمَا يمْتَنع الرُّجُوع بِأَسْبَاب مِنْهَا الْعِوَض للْحَدِيث الْوَاهِب أَحَق بهبته مَا لم يثبت مِنْهَا أَي يعوض
وَلَكِن الْعِوَض نَوْعَانِ عوض مَشْرُوط فِي العقد وَعوض مُتَأَخّر عَن العقد
أما الْمَشْرُوط فِي العقد بِأَن قَالَ وهبت لَك هَذَا العَبْد على أَن تعوضني هَذَا الثَّوْب فَحكمه أَن لكل وَاحِد أَن يرجع فِي السلعتين جَمِيعًا مَا لم يتقابضا
وَإِن قبض أَحدهمَا دون الآخر كَانَ للقابض وَغير الْقَابِض الرُّجُوع
فَإِذا تقابضا جَمِيعًا انْقَطع الرُّجُوع وَصَارَ بِمَنْزِلَة البيع وَإِن كَانَ عقده عقد هبة حَتَّى يرد كل وَاحِد مِنْهُمَا بِالْعَيْبِ وَيرجع فِي الِاسْتِحْقَاق وَتثبت الشُّفْعَة وَهَذَا عندنَا وَعند زفر عقده عقد بيع حَتَّى يشْتَرط الْقَبْض عندنَا لثُبُوت الْملك فِي هَذِه الْهِبَة وَلَا يَصح فِي الشُّيُوع وَعِنْده بِخِلَافِهِ

(3/166)


فَأَما الْعِوَض الْمُتَأَخر عَن العقد فَهُوَ لإِسْقَاط الرُّجُوع فَلَا يصير فِي معنى الْمُعَاوضَة لَا ابْتِدَاء وَلَا انْتِهَاء وَإِنَّمَا يكون المَال الثَّانِي عوضا عَن الأول بِالْإِضَافَة إِلَيْهِ نصا بِأَن أعْطى للْوَاهِب شَيْئا وَقَالَ هَذَا عوض عَن هِبتك أَو قد نحلتك هَذَا عَن هِبتك أَو كافأتك أَو جازيتك أَو أثبتك أَو قَالَ هَذَا بدل هِبتك أَو مَكَان هِبتك أَو قد تَصَدَّقت بِهَذَا عَلَيْك بَدَلا من هِبتك فَإِن هَذَا عوض فِي هَذِه الْوُجُوه إِذا وجد قبض الْعِوَض وَيكون الْعِوَض هبة تصح بِمَا تصح بِهِ الْهِبَة وَتبطل بِمَا تبطل بِهِ الْهِبَة
فَأَما إِذا لم يضف الْعِوَض إِلَى الْهِبَة الأولى فَإِنَّهَا تكون هبة مُبتَدأَة وَيثبت حق الرُّجُوع فِي الهبتين جَمِيعًا
وَمِنْهَا الْعِوَض من حَيْثُ الْمَعْنى وَهُوَ لَيْسَ بعوض مَالِي كالثواب فِي الصَّدَقَة فَإِنَّهُ يكون عوضا مَانِعا من الرُّجُوع وكصلة الرَّحِم الْمحرم وصلَة الزَّوْجِيَّة حَتَّى لَا يَصح الرُّجُوع فِي هبة ذَوي الْأَرْحَام الْمَحَارِم وَهبة الزَّوْجَيْنِ لِأَنَّهُ قد حصل الْعِوَض معنى
وَمِنْهَا إِذا زَادَت فِي الْهِبَة زِيَادَة مُتَّصِلَة بِفعل الْمَوْهُوب لَهُ أَو بِفعل غَيره بِأَن كَانَت جَارِيَة مَهْزُولَة فَسَمنت أَو كَانَت دَارا فَبنى الْمَوْهُوب لَهُ فِيهَا بِنَاء أَو كَانَت أَرضًا فغرس فِيهَا أشجارا أَو نصب فِيهَا دولابا وَهُوَ مُثبت فِي الأَرْض مَبْنِيّ فِيهَا أَو كَانَ ثوبا فصبغه بعصفر أَو قطعه قَمِيصًا وخاطه لِأَن الْمَوْهُوب اخْتَلَط بِغَيْرِهِ وَالرُّجُوع لَا يُمكن فِي غير الْمَوْهُوب فَامْتنعَ أصلا
أما الزِّيَادَة الْمُنْفَصِلَة كالأرش وَالْولد والعقر فَلَا تمنع الرُّجُوع لِأَنَّهُ يُمكن الْفَسْخ فِي الْأُم وَالْأَصْل دونهَا بِخِلَاف زَوَائِد الْمَبِيع لِأَن ثمَّ يُؤَدِّي إِلَى الرِّبَا لِأَنَّهَا عقد معوضة بِخِلَاف الْهِبَة

(3/167)


وَأما نُقْصَان الْمَوْهُوب فَلَا يمْنَع الرُّجُوع لِأَنَّهُ فَاتَ بعضه وَلَو كَانَ الْكل قَائِما فَرجع فِي الْبَعْض دون الْبَعْض جَازَ فَكَذَا هَذَا
وَمِنْهَا خُرُوج الْمَوْهُوب عَن ملك الْمَوْهُوب لَهُ بِأَن بَاعَ أَو وهب لِأَن اخْتِلَاف الْملكَيْنِ كاختلاف الْعَينَيْنِ
وَكَذَا إِذا مَاتَ الْمَوْهُوب لَهُ لِأَن الْملك ينْتَقل إِلَى ورثته
وَكَذَا إِذا مَاتَ الْوَاهِب لِأَنَّهُ ينْتَقل إِلَى ورثته
وَكَذَا لَو هلك الْمَوْهُوب لِأَنَّهُ زَالَ الْملك فَلَا يحْتَمل الْفَسْخ
ثمَّ الرُّجُوع فِي الْهِبَة بِغَيْر الْقَضَاء فسخ عندنَا حَتَّى يجوز فِي الْمشَاع وَلَا يشْتَرط الْقَبْض خلافًا لزفَر وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو وهب رجل لِابْنِهِ الصَّغِير شَيْئا صحت الْهِبَة لِأَن قبض الْأَب كقبضه وَكَذَا قبض جده بعده وَقبض وَصِيّ الْأَب وَالْجد بعدهمَا حَتَّى لَو وهب هَؤُلَاءِ من الصَّغِير وَالْمَال فِي أَيْديهم صحت الْهِبَة ويصيرون قابضين للصَّغِير وعَلى هَذَا قَالُوا إِذا بَاعَ الْأَب مَاله من ابْنه الصَّغِير ثمَّ هلك الْمَبِيع عقيب البيع كَانَ الْهَلَاك على الصَّغِير لِأَنَّهُ صَار قَابِضا بِقَبض الْأَب
وَكَذَلِكَ لَو وهب أَجْنَبِي للصَّغِير شَيْئا فَقبض ذَلِك أحد هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة لِأَن لَهُم ولَايَة التَّصَرُّف فِي مَاله
وَمن غَابَ مِنْهُم غيبَة مُنْقَطِعَة فالولاية تنْتَقل إِلَى الْأَبْعَد كَمَا فِي ولَايَة النِّكَاح
وَلَا يجوز قبض غير هَؤُلَاءِ عَنهُ أَجْنَبِيّا كَانَ أَو ذَا رحم مِنْهُ لِأَنَّهُ لَا ولَايَة لَهُم عَلَيْهِ إِلَّا إِذا كَانَ الصَّغِير فِي حجره وَعِيَاله فَيكون قَبضه للهبة بِمَنْزِلَة إِيصَال النَّفْع إِلَيْهِ وَيكون من بَاب الْحِفْظ

(3/168)


وَلَو قبض الصَّغِير الْعَاقِل مَا وهب لَهُ وَاحِد من هَؤُلَاءِ الْأَرْبَعَة جَازَ قَبضه اسْتِحْسَانًا وَالْقِيَاس أَن لَا يجوز لِأَن هَذَا من بَاب النَّفْع وَقبض هَؤُلَاءِ عَلَيْهِ أَيْضا وَإِن كَانَ عَاقِلا لِأَن النّظر الْكَامِل فِي هَذَا أَن يملك كل وَاحِد مِنْهُمَا ذَلِك
وَلَو وهب الْأَب مَال الصَّغِير لَا يجوز لِأَنَّهُ تبرع وَلَو وهب بِشَرْط الْعِوَض وَقبل الآخر الْعِوَض لم يجز ذَلِك فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَقَالَ مُحَمَّد يجوز ف أَبُو حنيفَة اعْتبر نفس الْهِبَة وَهِي من بَاب التَّبَرُّع وَلَا يملك الْأَب ذَلِك وَمُحَمّد يَقُول هَذَا بِمَعْنى البيع
وعَلى هَذَا الْخلاف الْمَأْذُون وَالْمكَاتب إِذا وهبا بِشَرْط الْعِوَض لم يجز عِنْدهمَا خلافًا لَهُ
وَلَو وهب رجل لعبد رجل فَإِن الْقبُول وَالْقَبْض إِلَى العَبْد دون مَوْلَاهُ وَيكون الْملك لمولى بِحكم أَنه كسب عَبده لِأَن الْغَرَض هُوَ وَجه العَبْد فَيكون هبة لَهُ وَلَا يجوز قبض الْمولى وقبوله عَنهُ سَوَاء كَانَ على العَبْد دين أَو لم يكن لِأَنَّهُ هبة للْعَبد
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الْمكَاتب أَن قبُول الْهِبَة وَقَبضهَا إِلَيْهِ دون مَوْلَاهُ لِأَنَّهُ أَحَق بِكَسْبِهِ
وَيكون للْوَاهِب الرُّجُوع إِذا كَانَ العَبْد أَجْنَبِيّا فِي حَقه وَإِن كَانَ انْتقل الْملك إِلَى مَوْلَاهُ لِأَن ملك العَبْد غير مُسْتَقر فِيهِ فَكَأَن الْملك وَقع للْمولى ابْتِدَاء
وَكَذَلِكَ فِي الْمكَاتب إِن عتق فَظَاهر لِأَنَّهُ اسْتَقر ملكه وَإِن عجز وَصَارَ كَسبه للْمولى فَلهُ حق الرُّجُوع فِي قَول أبي يُوسُف وَلم يجز الرُّجُوع فِي قَول مُحَمَّد بِنَاء على أَن عِنْد أبي يُوسُف كَأَن الْملك وَقع للْمولى من الِابْتِدَاء وَعند مُحَمَّد كَأَنَّهُ ثَبت من وَقت الْعَجز

(3/169)


وَلَو وهب الرجل لعبد رجل هبة والواهب ذُو رحم محرم من العَبْد دون الْمولى فَإِنَّهُ يرجع بالِاتِّفَاقِ
وَأما إِذا كَانَ الْمولى ذَا رحم محرم من الْوَاهِب دون العَبْد فَعِنْدَ أبي حنيفَة يرجع أَيْضا وَعِنْدَهُمَا لَا يرجع وَهَذَا بِنَاء على أَن الْملك فِي الْهِبَة يَقع للْمولى فَيكون هبة من الْمولى عِنْدهمَا وَإِن كَانَ ذَا رحم محرم لَا يرجع وَإِن كَانَ أَجْنَبِيّا يرجع وَلَا عِبْرَة لجَانب العَبْد وَعند أبي حنيفَة هَذَا هبة للْمولى من وَجه وَلِلْعَبْدِ من وَجه فَلَا تكون صلَة كَامِلَة فِي حق كل وَاحِد على الِانْفِرَاد والصلة الْكَامِلَة مَانِعَة للرُّجُوع فَلَا تتعدى إِلَى الصِّلَة من وَجه
فَأَما إِذا كَانَا جَمِيعًا ذَوي رحم محرم من الْوَاهِب ذكر أَبُو الْحسن الْكَرْخِي عَن مُحَمَّد أَن قِيَاس قَول أبي حنيفَة أَن يرجع لِأَنَّهُ لم يكن لكل وَاحِد مِنْهُمَا صلَة كَامِلَة
وَقَالَ أَبُو جَعْفَر الهندواني لَيْسَ لَهُ أَن يرجع فِي قَوْلهم جَمِيعًا لِأَن الْهِبَة لأيهما كَانَت تمنع الرُّجُوع
وعَلى هَذَا التَّفْرِيع لَو وهب للْمكَاتب وَهُوَ ذُو رحم محرم من الْوَاهِب أَو مَوْلَاهُ ذُو رحم محرم من الْوَاهِب فَإِن أدّى الْمكَاتب اعْتبر حَاله لِأَنَّهُ اسْتَقر ملكه بِالْعِتْقِ
فَإِن عجز فَفِي قِيَاس قَول أبي حنيفَة يعْتَبر حَال الْمولى كَأَن الْهِبَة وَقعت لَهُ من الِابْتِدَاء
وَعند مُحَمَّد لَا يرجع لِأَن الْكسْب كَانَ للْمكَاتب وَعند الْعَجز ينْتَقل إِلَى الْمولى
وَلَو وهب الرجل أَوْلَاده فَسلم إِلَى الْكِبَار حصتهم وَقبض هُوَ حِصَّة الصغار جَازَ لما قُلْنَا
وَلَكِن يَنْبَغِي أَن يُسَوِّي بَين أَوْلَاده فِي الْهِبَة فِي قَول أبي يُوسُف وَفِي قَول مُحَمَّد يجْزِيه إِن أَعْطَاهُم على قدر مواريثهم وَالله أعلم بِالصَّوَابِ

(3/170)