تحفة الفقهاء

كتاب الْوَدِيعَة
اعْلَم أَن عقد الْوَدِيعَة مَشْرُوع ومندوب إِلَيْهِ لِأَن فِيهِ إِعَانَة لصَاحِبهَا لحفظ مَاله وَالله تَعَالَى يَقُول {وتعاونوا على الْبر وَالتَّقوى}
ثمَّ عقد الْوَدِيعَة استحفاظ من الْمُودع وائتمان لَهُ فَتكون الْوَدِيعَة أَمَانَة فِي يَد الْمُودع لوُجُود الائتمان من الْمُودع يلْزمه حفظهَا إِذا قبل الْوَدِيعَة لِأَنَّهُ الْتزم الْحِفْظ فَيجب عَلَيْهِ أَن يحفظ على الْوَجْه الَّذِي يحفظ مَاله بحرزه وَبِيَدِهِ وبيد من كَانَ مَاله فِي يَده نعني بحرزه الَّذِي هُوَ ملكه أَو يستأجره أَو يستعيره وَلَيْسَ الشَّرْط أَن يحفظه فِي الْحِرْز الَّذِي يحفظ فِيهِ مَاله ونعني بيد من كَانَ مَاله فِي يَده كل من كَانَ فِي عِيَاله حَتَّى المتسأجر الَّذِي اسْتَأْجرهُ مشاهرة بِنَفَقَتِهِ وَكسوته دون الَّذِي اسْتَأْجرهُ بِالدَّرَاهِمِ أَو الْمُسْتَأْجر مياومة وَيدخل فِيهِ العَبْد الْمَأْذُون الَّذِي فِي يَده مَاله وَشريك الْمُفَاوضَة والعنان وَإِن لم يَكُونُوا فِي عِيَاله
ثمَّ إِذا أخرجه من يَده وَدفعه إِلَى غَيره وَدِيعَة يصير ضَامِنا لِأَنَّهُ رَضِي بحفظه دون حفظ غَيره من غير ضَرُورَة حَتَّى إِذا وَقع الْحَرِيق وَنَحْوه فِي دَاره فأودع غَيره لَا يضمن
وَأما مُودع الْمُودع هَل يضمن لَو هَلَكت الْوَدِيعَة فَعِنْدَ أبي حنيفَة

(3/171)


لَا يضمن وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد يضمن وَالْمَالِك بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن الْمُودع الأول وَإِن شَاءَ ضمن الثَّانِي فَإِن ضمن الأول لَا يرجع على الثَّانِي وَإِن ضمن الثَّانِي يرجع على الأول
وَلَو اسْتهْلك الثَّانِي الْوَدِيعَة فَلصَاحِب الْوَدِيعَة الْخِيَار فِي تضمينها فَإِن ضمن الأول يرجع الأول على الثَّانِي لِأَنَّهُ يصير ملكا لَهُ بِالضَّمَانِ فَكَأَنَّهُ أودع مَاله عِنْده وَإِن ضمن الثَّانِي لَا يرجع على الأول وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
فَإِن اسْتردَّ الْمُودع الأول من الثَّانِي وَحفظه بِنَفسِهِ يبرأ عَن الضَّمَان عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ
وعَلى هَذَا إِذا اسْتعْمل الْوَدِيعَة بِأَن ركب الدَّابَّة وَلبس الثَّوْب ثمَّ نزل وَنزع يعود أَمينا عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَفِي الْمُسْتَأْجر وَالْمُسْتَعِير إِذا خالفا ثمَّ تركا الْخلاف بَقِي الضَّمَان وَعند بَعضهم هَذَا بِمَنْزِلَة الْمُودع
وَلَو سَافر بالوديعة لَا يضمن عِنْد أبي حنيفَة وَلَو أودع إنْسَانا ضمن وَعِنْدَهُمَا يضمن وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو رد الْوَدِيعَة إِلَى بَيت الْمُودع من غير حَضْرَة الْمُودع يضمن
وَكَذَا إِذا رد إِلَى يَد من فِي عِيَال الْمَالِك لِأَنَّهُ لم يرض بيدهم حَيْثُ أودع وَفِي الْإِجَارَة وَالْعَارِية لَا يضمن لعادة النَّاس حَتَّى إِن الْعَارِية إِذا كَانَت شَيْئا نفيسا قَالُوا يضمن وَقيل أَيْضا فِي الثِّيَاب كَذَلِك وَإِنَّمَا الْعَادة فِي بعض آلَات الْبَيْت
وَلَو بعث الْوَدِيعَة مَعَ من كَانَ فِي عِيَاله لَا يضمن

(3/172)


وَلَو قَالَ لَهُ احفظ فِي هَذِه الدَّار وَلَا تحفظ فِي هَذَا الْبَيْت وَإنَّهُ مثل غَيره فِي الْحِرْز فَلَو حفظ فِي غَيره لَا يضمن بِخِلَاف الدَّاريْنِ
وَلَو قَالَ احفظ فِي هَذَا الْمصر وَلَا يخرج يجب عَلَيْهِ الْحِفْظ فِي ذَلِك الْمصر إِلَّا إِذا كَانَ ثمَّة عذر ظَاهر بِأَن قصد السُّلْطَان أَخذه فَأخْرجهُ مَعَ نَفسه
وَلَو قَالَ الْمُودع هَلَكت الْوَدِيعَة عِنْدِي أَو رَددتهَا إِلَيْك وَأنكر الْمُودع وَقَالَ لَا بل أتلفتها فَالْقَوْل قَول الْمُودع لِأَنَّهُ أَمِين فِي ذَلِك وَلَكِن مَعَ الْيَمين لِأَنَّهُ لَو أقرّ بذلك يلْزمه فَإِن أَقَامَ الْمُودع الْبَيِّنَة على الْإِتْلَاف يضمن الْمُودع وَكَذَا إِذا حلف الْمُودع على الْإِتْلَاف فنكل
فَلَو أَقَامَ الْمُودع الْبَيِّنَة على أَنه أتلفهَا الْمُودع وَأقَام الْمُودع الْبَيِّنَة على أَنَّهَا هَلَكت فَبَيِّنَة الْمُودع أولى لِأَنَّهَا أَكثر إِثْبَاتًا
وَلَو أَقَامَ على إِقْرَار الْمُودع أَنَّهَا هَلَكت يقبل وَيكون إكذابا لبينته
وَلَو طلب الْمُودع يَمِين الْمُودع بِاللَّه مَا يعلم أَنَّهَا هَلَكت فَالْقَاضِي يحلفهُ فَإِن حلف يقْضِي بِالضَّمَانِ وَإِن نكل يقْضِي بِالْبَرَاءَةِ
وعَلى هَذَا إِذا جحد الْوَدِيعَة فَالْقَوْل قَوْله
وَلَو أَقَامَ الْمُودع الْبَيِّنَة على الْوَدِيعَة يضمن الْمُودع فَإِن أقرّ بالوديعة وَأقَام الْمُودع الْبَيِّنَة على أَنَّهَا هَلَكت قبل جحوده الْوَدِيعَة لَا يقبل لِأَنَّهُ بالجحود أكذب بَينته وَإِن أَقَامَ على إِقْرَار الْمُودع بذلك يقبل
وَلَو طلب من القَاضِي أَن يحلف الْمُودع بِاللَّه مَا يعلم أَن الْوَدِيعَة هَلَكت قبل جحوده إِيَّاهَا يحلفهُ فَإِن حلف يقْضِي بِالضَّمَانِ وَإِن نكل يقْضِي بِالْبَرَاءَةِ
وَلَو أودع رجلَانِ عِنْد رجل وَدِيعَة وغابا ثمَّ حضر أَحدهمَا فَلَيْسَ لَهُ أَن يدْفع إِلَيْهِ حِصَّته
مَا لم يجتمعا وَإِن طلب مِنْهُ عِنْد أبي

(3/173)


حنيفَة وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد لَهُ أَن يقسم وَيدْفَع إِلَيْهِ حِصَّته وَلَا تصح الْقِسْمَة فِي حق الْغَائِب حَتَّى لَو هلك النّصْف الْبَاقِي فِي يَده يكون للْغَائِب فِي أَن يَأْخُذ الْمُودع نصفه الآخر
وَلَو أودع رجل عِنْد رجلَيْنِ وَدِيعَة مِمَّا يقسم فَلَهُمَا أَن يقسماه وَيَأْخُذ كل وَاحِد نصفه للْحِفْظ لِأَنَّهُ رَضِي بحفظهما وَأمكن من هَذَا الْوَجْه
وَلَو دفع أَحدهمَا إِلَى صَاحبه ضمن النّصْف عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ رَضِي بحفظهما لَا بِحِفْظ أَحدهمَا وَعِنْدَهُمَا لَا يضمن
وَأَجْمعُوا أَنَّهَا إِذا كَانَت لَا تقسم لَا يضمن لِأَنَّهُ لَا يُمكن حفظهما فِي مَكَان وَاحِد فَكَانَ رَاضِيا بِحِفْظ أَحدهمَا
وعَلى هَذَا الْخلاف فِي المرتهنين والوكيلين بِالْقَبْضِ
وَلَو خلط الودية بِمَال نَفسه إِن كَانَ يُمكن التَّمْيِيز لَا شَيْء عَلَيْهِ ويميز وَإِن كَانَ لَا يُمكن التَّمْيِيز يضمن الْحَافِظ عِنْد أبي حنيفَة مثله لصَاحبه
وَكَذَلِكَ إِذا كَانَت وديعتان فخلط إِحْدَاهمَا بِالْأُخْرَى يضمن مثل ذَلِك لصاحبهما وَإِذا أدّى الضَّمَان حل لَهُ ذَلِك وَعِنْدَهُمَا فِي الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير إِن شَاءَ الْمَالِك ضمنه مثله وَإِن شَاءَ أَخذ نصف الْمَخْلُوط
وَكَذَا فِي الوديعتين وَفِي سَائِر المكيلات والموزونات إِن شَاءَ ضمنه كل وَاحِد مثل حَقه وَإِن شَاءَ باعا الْمَخْلُوط وقبضا الثّمن وَيَأْخُذ صَاحب الْحِنْطَة ثمن الْحِنْطَة غير مخلوط بِالشَّعِيرِ وَيَأْخُذ صَاحب الشّعير ثمن الشّعير غير مخلوط بِالْحِنْطَةِ
وَلَو مَاتَ الْمُودع وَلم يبين الْوَدِيعَة فَإِن كَانَت مَعْرُوفَة وَهِي

(3/174)


قَائِمَة ترد إِلَى صَاحبهَا
وَإِن لم تعرف يضمن وَيكون صَاحبهَا شَرِيكا للْغُرَمَاء وَالله تَعَالَى أعلم

(3/175)