تحفة الفقهاء

كتاب الْعَارِية
أعلم أَن إِطْلَاق اسْم الْعَارِية فِي الْعرف بطريقتين بطرِيق الْحَقِيقَة وبطريق الْمجَاز
أما بطرِيق الْحَقِيقَة فَهُوَ إِعَارَة الْأَعْيَان الَّتِي ينْتَفع بهَا مَعَ قِيَامهَا كالدور وَالْعَبِيد وَالدَّوَاب وَنَحْوهَا وَهُوَ تمْلِيك مَنَافِع الْأَعْيَان عِنْد عَامَّة الْمَشَايِخ
وَقَالَ الْكَرْخِي إِنَّه عقد إِبَاحَة فَإِنَّهُ لَيْسَ للْمُسْتَعِير أَن يُؤَاجر وَلَو كَانَ تَمْلِيكًا لملك الْإِجَارَة كالمستأجر يملك أَن يُؤَاجر
لَكِن هَذَا لَيْسَ بِصَحِيح فَإِنَّهُ يملك أَن يعير وَلَو كَانَ إِبَاحَة لَكَانَ لَا يملك كالمباح لَهُ الطَّعَام لَا يملك الدّفع إِلَى غَيره إِلَّا أَنه لَا يملك الْإِجَارَة لِأَنَّهُ عقد لَازم وَالْعَارِية تبرع فَكيف يملك بِهِ مَا هُوَ لَازم فَيُؤَدِّي إِلَى تَغْيِير الْمَشْرُوع ثمَّ الْعَارِية أَمَانَة عندنَا وَعند الشَّافِعِي مَضْمُونَة وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو شَرط الضَّمَان فِي الْعَارِية هَل يَصح الْمَشَايِخ مُخْتَلفُونَ فِيهِ وَأما بطرِيق الْمجَاز فَهُوَ إِعَارَة الْمكيل وَالْمَوْزُون وكل مَا لَا يُمكن الِانْتِفَاع بِهِ إِلَّا

(3/177)


باستهلاكه فَهُوَ قرض حَقِيقَة وَلَكِن يُسمى عَارِية مجَازًا لِأَنَّهُ لما رَضِي بِالِانْتِفَاعِ بِهِ باستهلاكه بِبَدَل كَانَ تَمْلِيكًا لَهُ بِبَدَل وَهُوَ تَفْسِير الْقَرْض وَلَا يلْزم الْأَجَل فِيهِ كَمَا فِي الْعَارِية
ثمَّ الْعَارِية قد تكون مُطلقَة وَقد تكون مُقَيّدَة فالمطلقة
أَن يستعير شَيْئا وَلم يبين أَنه يَسْتَعْمِلهُ بِنَفسِهِ أَو بِغَيْرِهِ وَلم يبين كَيْفيَّة الِاسْتِعْمَال
وَحكمهَا أَنه ينزل منزلَة الْمَالِك فَكل مَا ينْتَفع بِهِ الْمَالِك ينْتَفع بِهِ الْمُسْتَعِير من الرّكُوب وَالْحمل وَله أَن يركب غَيره وَلَكِن يحمل بِقدر الْمُعْتَاد لَا زِيَادَة عَلَيْهِ لِأَن الزِّيَادَة تكون إتلافا
فَأَما إِذا بَين أَنه يسْتَعْمل بِنَفسِهِ فَهَذَا على وَجْهَيْن إِن كَانَ مِمَّا يتَفَاوَت النَّاس فِي اسْتِعْمَاله كالركوب واللبس فَإِنَّهُ يخْتَص بِهِ وَلَا يجوز لَهُ أَن يركب غَيره وَأَن يلبس غَيره
وَإِن كَانَ شَيْئا لَا يتَفَاوَت كسكنى الدَّار فَلهُ أَن يعير غَيره
وَكَذَا إِذا سمي وقتا أَو مَكَانا فجاوز ذَلِك الْمَكَان أَو زَاد على الْوَقْت يضمن لِأَن التَّخْصِيص مُفِيد
فَأَما إِذا بَين مِقْدَار الْحمل وَالْجِنْس فَإِن حمله عَلَيْهِ أَو زَاد يضمن بِقدر الزِّيَادَة
وَلَو حمل عَلَيْهِ شَيْئا بِخِلَاف جنسه فَإِن كَانَ مثله فِي الخفة أَو أخف مِنْهُ لَا يضمن وَإِن كَانَ أثقل مِنْهُ يضمن إِلَّا إِذا كَانَ شَيْئا فِيهِ زِيَادَة ضَرَر بالدابة فَيضمن وَإِن كَانَ مثله فِي الْوَزْن والثقل بِأَن اسْتعَار دَابَّة ليحمل عَلَيْهَا مائَة من من الْقطن فَحمل عَلَيْهَا مائَة من من الْحَدِيد فَإِنَّهُ يضمن لِأَن ثقل الْحَدِيد يكون فِي مَوضِع وَاحِد وَثقل

(3/178)


الْقطن يتفرق على جَمِيع ظهرهَا وبدنها
وَإِن كَانَ أثقل مِنْهُ فَإِن كَانَ من الْجِنْس الْمَذْكُور يضمن بِقدر الزِّيَادَة وَإِن كَانَ من خلاف الْجِنْس يضمن كل الْقيمَة
وَلَيْسَ للْمُسْتَعِير أَن يُؤَاجر لما ذكرنَا فَإِن فعل فَهُوَ ضَامِن من حِين سلمه إِلَى الْمُسْتَأْجر وَيكون الْمُعير بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن الْمُسْتَعِير وَإِن شَاءَ ضمن الْمُسْتَأْجر لوُجُود التَّعَدِّي مِنْهُمَا فَإِن ضمن الْمُسْتَعِير لم يرجع على الْمُسْتَأْجر لِأَنَّهُ ملك الْعين بِالضَّمَانِ فَكَأَنَّهُ آجر ملك نَفسه فَهَلَك وَإِن ضمن الْمُسْتَأْجر فَإِن كَانَ لَا يعلم أَنه عَارِية يرجع على الْمُسْتَعِير لِأَنَّهُ ضمن الدَّرك بِإِيجَاب عقد فِيهِ بدل فَيكون غرور فَأَما إِذا كَانَ يعلم فَلَا يرجع لِأَنَّهُ لَا غرور فِيهِ وَالرُّجُوع بِحكم الْغرُور
وَلَو اسْتعَار أَرضًا على أَن يَبْنِي فِيهَا بِنَاء أَو يغْرس فِيهَا غرسا فإمَّا إِن كَانَ مُطلقًا أَو مؤقتا إِلَى عشر سِنِين وَنَحْوه
فَإِن كَانَ مُطلقًا فَبنى فِيهَا أَو غرس فَلصَاحِب الأَرْض أَن يستردها فِي أَي وَقت شَاءَ لِأَن الْعَارِية غير لَازِمَة وعَلى الْمُسْتَعِير أَن يَأْخُذ غرسه وبناءه لِأَنَّهُ شغل أَرض غَيره وَلم يرض صَاحبه بذلك وَلَيْسَ للْمُسْتَعِير أَن يضمن الْمُعير قيمَة غرسه وبنائه وَيتْرك ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لم يُوجد مِنْهُ الْغرُور لِأَن الْعَارِية تسترد على كل حَال
وعَلى قَول مَالك لَهُ أَن يرجع عَلَيْهِ
وَإِن كَانَ مؤقتا فَلهُ أَن يسْتَردّ أَيْضا لَكِن الْمُسْتَعِير بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ ضمن الْمُعير قيمَة غرسه وبنائه وَيتْرك ذَلِك عَلَيْهِ لِأَنَّهُ غره حَيْثُ وَقت وقتا طَويلا ثمَّ اسْتردَّ قبل مضيه وَإِن شَاءَ أَخذ غرسه وبناءه إِن لم يضر

(3/179)


الْقلع بِأَرْض الْمُعير فَأَما إِذا كَانَ يضر بِهِ فَالْخِيَار للْمُعِير إِن شَاءَ أَخذ الْغَرْس وَالْبناء بِالضَّمَانِ وَإِن شَاءَ رَضِي الله بِالْقطعِ فَأَما إِذا أعَار الأَرْض ليزرع فزرع ثمَّ أَرَادَ أَن يسْتَردّ وَالزَّرْع غير مدرك فَلَيْسَ لَهُ ذَلِك وَتبقى الأَرْض فِي يَده بطرِيق الْإِجَارَة إِلَى أَن يَأْخُذ الْغلَّة لِأَن هَذِه مُدَّة يسيرَة مَعْلُومَة فِيهِ وَفِيه نظر من الْجَانِبَيْنِ بِخِلَاف الْغَرْس وَالْبناء فَإِنَّهُ لَو انقلبت إِجَارَة يتَضَرَّر بِهِ الْمُعير لطول الْمدَّة
وَإِن اخْتلف الْمُعير وَالْمُسْتَعِير فِي عدد الْأَيَّام أَو فِي مِقْدَار الْحمل أَو فِي الْمَكَان فَالْقَوْل قَول الْمُعير لِأَن الْمُسْتَعِير قَابض لنَفسِهِ فَيكون سُقُوط الضَّمَان بِنَاء على الْإِذْن لَهُ

(3/180)