تحفة الفقهاء

كتاب الدَّعْوَى والبينات
الدَّعْوَى نَوْعَانِ صَحِيحَة وفاسدة
أما الصَّحِيحَة فَأن يُوجد فِيهَا شَرَائِط الصِّحَّة بِأَن يدعى على خصم حَاضر وَأَن يكون الْمُدعى بِهِ شَيْئا مَعْلُوما معينا وَأَن يتَعَلَّق بِهِ حكم على الْمَطْلُوب مِنْهُ
والفاسدة أَن لَا يكون الْخصم حَاضرا وَأَن يكون الْمُدعى بِهِ مَجْهُولا لِأَنَّهُ لَا يُمكن للشُّهُود الشَّهَادَة وَلَا للْقَاضِي الْقَضَاء بِهِ وَأَن لَا تلْزم الْمَطْلُوب مِنْهُ ذَلِك بِأَن ادّعى أَنه وَكيل فلَان
وَالْقَاضِي لَا يسمع دَعْوَاهُ إِذا أنكر الآخر لِأَن يُمكنهُ عَزله للْحَال
ثمَّ إِنَّمَا يصير الْمُدعى بِهِ مَعْلُوما إِمَّا بِالْإِشَارَةِ إِلَيْهِ عِنْد القَاضِي بِأَن كَانَ مَنْقُولًا فِي الدَّعْوَى وبالشهادة وَإِن لم يكن مَنْقُولًا نَحْو الْعقار والرحى وَنَحْوهمَا مِمَّا يُمكن مَعْرفَته بالتحديد فإعلامه بذلك وَهُوَ فِي الْعقار
وَمَا لَا يُمكن مَعْرفَته بالتحديد كحجر الرَّحَى فينصب القَاضِي أَمينا حَتَّى يسمع الدَّعْوَى وَالْبَيِّنَة عِنْد ذَلِك بِالْإِشَارَةِ
ثمَّ الْمُدَّعِي من يلْتَمس بِدَعْوَاهُ إِثْبَات ملك على غَيره فِي الْعين أَو فِي الدّين أَو يثبت حَقًا
وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ من يدْفع ذَلِك عَن نَفسه وينفيه

(3/181)


وَقيل الْمُدعى من إِذا ترك الدَّعْوَى يتْرك وَالْمُدَّعِي عَلَيْهِ من إِذا ترك الدَّعْوَى لم يتْرك
وَذكر مُحَمَّد أَن الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ الْمُنكر
إِذا ثَبت هَذَا فَنَقُول إِذا جَاءَ الْمُدَّعِي إِلَى القَاضِي مَعَ خَصمه فَالْقَاضِي يسْأَله مَاذَا يَدعِي عَلَيْهِ فَإِذا ادّعى الْمُدَّعِي دَعْوَى صَحِيحَة على خصم حَاضر سَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ عَن جَوَاب الْمُدَّعِي وَقَالَ أجب خصمك بِلَا أَو نعم وَمَا ذكرنَا اسْتِحْسَان وَالْقِيَاس مَا ذكر فِي الزِّيَادَات أَن الْمُدَّعِي إِذا جَاءَ إِلَى القَاضِي مَعَ خَصمه فَإِنَّهُ لَا يسْأَل الْمُدَّعِي مَاذَا يَدعِي حَتَّى يبْدَأ الْمُدَّعِي بِدَعْوَاهُ ثمَّ إِذا ادّعى دَعْوَى صَحِيحَة وسمعها لَا يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ عَن جَوَاب مَا لم يسْأَل الْمُدَّعِي مِنْهُ أَن يسْأَل الْمُدعى عَلَيْهِ عَن جَوَابه لِأَنَّهُ إنْشَاء الْخُصُومَة
لَكِن الصَّحِيح هُوَ الِاسْتِحْسَان لِأَن الْخَصْمَيْنِ رُبمَا يعجزان عَن ذَلِك لمهابة مجْلِس القَاضِي
فَإِذا سَأَلَ الْمُدعى عَلَيْهِ عَن الْجَواب فَإِذا أقرّ بِهِ أمره بِتَسْلِيم الْمُدعى بِهِ إِلَى الْمُدَّعِي وَإِن أنكر سَأَلَ الْمُدَّعِي عَن الْبَيِّنَة عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا طلب الْمُدَّعِي مِنْهُ الْحلف لِأَن عِنْده إِذا قَالَ الْمُدَّعِي لي بَيِّنَة حَاضِرَة فِي الْمصر فَالْقَاضِي لَا يحلفهُ وَعِنْدَهُمَا يحلفهُ فَلذَلِك يسْأَل
فَإِذا قَالَ لَا بَيِّنَة لي أَو لَيْسَ لي بَيِّنَة حَاضِرَة فَإِنَّهُ يحلف الْمُدعى عَلَيْهِ إِذا طلب الْمُدَّعِي الْيَمين لِأَن الْيَمين حَقه فَلَا بُد من طلبه
فَإِذا حلفه فَإِن حلف تَنْقَطِع الْخُصُومَة إِلَى وَقت إِقَامَة الْبَيِّنَة وَإِن نكل يقْضِي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ عندنَا فِي الْأَمْوَال وَعند الشَّافِعِي يرد الْيَمين إِلَى الْمُدَّعِي فَإِذا حلف يقْضِي لَهُ
وَفِي الْقصاص فِي

(3/182)


الطّرف يقْضِي بِالنّكُولِ أَيْضا عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يقْضِي بِالدِّيَةِ وَأما فِي النَّفس فعندهما يقْضِي بِالدِّيَةِ أَيْضا
وَعِنْده لَا يقْضِي بِالْقصاصِ وَلَا بِالدِّيَةِ وَلَكِن يحبس حَتَّى يقر أَو يحلف وَكَذَا لَا يقْضِي بِالنّكُولِ فِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يقْضِي وَأَجْمعُوا أَنه لَا يقْضِي بِالنّكُولِ فِي الْحُدُود
وعَلى هَذَا الِاسْتِحْلَاف عِنْده لَا يسْتَحْلف فِي الْأَشْيَاء السَّبْعَة وَهِي النِّكَاح وَالرّق وَالْوَلَاء وَالنّسب وَالرَّجْعَة والفيء فِي الْإِيلَاء وَالِاسْتِيلَاد لِأَن الِاسْتِحْلَاف لأجل النّكُول وَهُوَ بذل وَإِبَاحَة عِنْد أبي حنيفَة وَلَا يجْرِي ذَلِك فِي هَذِه الْأَشْيَاء
وَعِنْدَهُمَا هُوَ بِمَعْنى الْإِقْرَار الَّذِي فِيهِ شُبْهَة وَهَذِه الْأَشْيَاء مِمَّا يثبت بِدَلِيل فِيهِ شُبْهَة وَهَذَا مِمَّا يعرف فِي الخلافيات
ثمَّ الدَّعْوَى إِمَّا أَن تكون فِي ملك مُطلق أَو بِسَبَب مَعَ التَّارِيخ أَو بِدُونِ وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت من الْخَارِج على ذِي الْيَد أَو من الخارجين على ذِي الْيَد أَو من صَاحِبي الْيَد أَحدهمَا على صَاحبه
أما إِذا كَانَ الدَّعْوَى فِي ملك مُطلق فَنَقُول إِن كَانَت من الْخَارِج على ذِي الْيَد بِلَا تَارِيخ فَبَيِّنَة الْخَارِج أولى عندنَا وَعند الشَّافِعِي بَيِّنَة الْيَد أولى وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وعَلى هَذَا الْخلاف إِذا أرخا وتاريخهما سَوَاء لِأَنَّهُ لم يثبت سبق أَحدهمَا فَبَقيت دَعْوَى ملك مُطلق
فَأَما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ أولى عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَهُوَ قَول مُحَمَّد أَولا ثمَّ رَجَعَ بعد رُجُوعه من الرقة وَقَالَ لَا تقبل بَيِّنَة ذِي الْيَد على وَقت وَلَا غَيره إِلَّا فِي التَّاج كَذَا ذكر ابْن سَمَّاعَة
وَذكر مُحَمَّد هَذِه الْمَسْأَلَة فِي كتاب الدَّعْوَى وَقَالَ عِنْد أبي

(3/183)


حنيفَة يقْضِي بهَا للْخَارِج ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ يقْضِي بهَا لصَاحب الْيَد وَهُوَ قَول مُحَمَّد أَي قَوْله الأول لِأَن بَيِّنَة صَاحب الْيَد أَثْبَتَت أَنه أول المالكين
وَأما إِذا وَقت أَحدهمَا
وَلم يُوَقت الآخر فَعِنْدَ مُحَمَّد لَا عِبْرَة لتاريخ صَاحب الْيَد
فالخارج أولى
وَعند أبي يُوسُف بَيِّنَة صَاحب الْوَقْت أولى وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة مَعَ مُحَمَّد وَفِي رِوَايَة مَعَ أبي يُوسُف
وَأما إِذا كَانَت الدَّعْوَى من الخارجين فِي ملك مُطلق بِلَا تَارِيخ أَو تاريخهما سَوَاء وَالشَّيْء فِي يَد الثَّالِث فَهُوَ بَينهمَا نِصْفَانِ عندنَا
وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ فِي قَول تهاترت الْبَيِّنَتَانِ وَتبقى فِي يَد صَاحب الْيَد قَضَاء ترك وَفِي رِوَايَة يقرع بَينهمَا وَيَقْضِي للَّذي خرجت لَهُ الْقرعَة وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ أولى بالِاتِّفَاقِ لِأَن بَيِّنَة الخارجين مسموعة فيترجح أَحدهمَا بالتاريخ
وَأما إِذا وَقت أَحدهمَا دون الآخر فهما سَوَاء عِنْد أبي حنيفَة وَلَا عِبْرَة بالتاريخ لجَوَاز أَن يكون الآخر لَو وَقت كَانَ تَارِيخه أسبق
وَعند أبي يُوسُف صَاحب الْوَقْت أولى
وَعند مُحَمَّد الَّذِي أطلق أولى لِأَن الْملك الْمُطلق ملك من الأَصْل حكما حَتَّى يسْتَحق الزَّوَائِد بِهِ
وَأما إِذا كَانَ الشَّيْء فِي أَيْدِيهِمَا فَأَقَامَ كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنه لَهُ فَإِنَّهُ يقْضِي لكل وَاحِد مِنْهُمَا بِنصْف مَا فِي يَد صَاحبه لِأَنَّهُ خَارج فِي ذَلِك النّصْف
وَلَو أَقَامَ أَحدهمَا الْبَيِّنَة يقْضِي لَهُ بِنصْف مَا فِي يَد صَاحبه وَمَا فِي يَده يتْرك فِي يَده قَضَاء ترك

(3/184)


وَلَو لم يكن لَهما بَيِّنَة قضى بَينهمَا نِصْفَيْنِ قَضَاء ترك حَتَّى لَو أَقَامَ أَحدهمَا الْبَيِّنَة على صَاحبه بعد ذَلِك تقبل
وَكَذَا إِذا أرخا وتاريخهما سَوَاء
وَأما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف صَاحب الْوَقْت الأول أولى
وَقَالَ مُحَمَّد لَا يعْتَبر الْوَقْت فِي حق صَاحب الْيَد فَكَانَ بَينهمَا
وَأما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا وَقت دون الآخر فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا عِبْرَة للْوَقْت فَيكون بَينهمَا
وَقَالَ أَبُو يُوسُف هُوَ لصَاحب الْوَقْت فِي حق صَاحب الْيَد فَكَانَ بَينهمَا
وَأما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا وَقت دون الآخر فَعِنْدَ أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا عِبْرَة للْوَقْت فَيكون بَينهمَا وَقَالَ أَبُو يُوسُف هُوَ لصَاحب الْوَقْت
وَأما إِذا كَانَ دَعْوَى الْملك بِسَبَب فَإِن كَانَ السَّبَب هُوَ الْإِرْث فَإِن كَانَ أَحدهمَا خَارِجا وَالْآخر صَاحب الْيَد وَأقَام كل وَاحِد مِنْهُمَا الْبَيِّنَة أَنه ملكه مَاتَ أَبوهُ وَتَركه مِيرَاثا لَهُ فَهُوَ للْخَارِج فِي قَول أَصْحَابنَا جَمِيعًا لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا يثبت الْملك للْمَيت مُطلقًا فَصَارَ كَمَا لَو حضر المالكان وادعيا ملكا مُطلقًا يكون للْخَارِج كَذَا هَذَا
وَكَذَا إِذا أرخا وتاريخهما سَوَاء أَو ذكر أَحدهمَا الْوَقْت دون الآخر
وَأما إِذا كَانَ تَارِيخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ لصَاحب الْوَقْت الأول عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَفِي قَول مُحَمَّد الآخر للْخَارِج
وَأما إِذا كَانَا خَارِجين فِي دَعْوَى الْمِيرَاث على ثَالِث وَوقت أَحدهمَا أسبق فَهُوَ لَهُ فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد

(3/185)


رِوَايَتَانِ فِي ظَاهر الرِّوَايَة قَالَ فِي الْمِيرَاث ذَلِك كُله سَوَاء وَهُوَ بَينهمَا نِصْفَانِ
وَفِي نَوَادِر هِشَام إِن لم يؤرخا ملك الميتين فَهُوَ لصَاحب التَّارِيخ الأول
وَكَانَ أَبُو بكر الرَّازِيّ يفرق لمُحَمد بَين الْمِيرَاث من اثْنَيْنِ وَبَين الشِّرَاء من اثْنَيْنِ قَالَ فِي الْمِيرَاث بَينهمَا نِصْفَانِ وَفِي شِرَاء الخارجين من رجل وَاحِد إِنَّه لصَاحب الْوَقْت الأول لِأَن المُشْتَرِي يثبت الْملك لنَفسِهِ وَالْوَارِث يثبت الْملك للْمَيت
لَكِن رُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي الْإِمْلَاء فِي الخارجين إِذا أَقَامَا الْبَيِّنَة على الشِّرَاء من وَاحِد وأرخا أَن التَّارِيخ لَا يقبل إِلَّا أَن يؤرخا ملك البَائِع وَسوى بَينه وَبَين الْمِيرَاث
وَأما إِذا كَانَ السَّبَب هُوَ الشِّرَاء بِأَن ادّعى الْخَارِج الشِّرَاء من صَاحب الْيَد وَهُوَ مُنكر يقبل
وَلَو ادّعى صَاحب الْيَد الشِّرَاء من خَارج يقبل أَيْضا لِأَنَّهُ يَصح تلقي الْملك من جِهَته
فَأَما إِذا ادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الشِّرَاء من صَاحبه من غير تَارِيخ فَلَا يقْضِي بالبينتين عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَترك الْمُدعى بِهِ فِي يَد صَاحب الْيَد
وَعند مُحَمَّد يقْضِي بالبينتين جَمِيعًا لِأَنَّهُ يُمكن تصحيحهما وَيجْعَل كَأَن الْخَارِج بَاعَ من صَاحب الْيَد وَسلم إِلَيْهِ ثمَّ بَاعَ صَاحب الْيَد مِنْهُ وَلم يسلم إِلَيْهِ فَيُؤْمَر بِالتَّسْلِيمِ إِلَيْهِ وَلَا يُمكن على الْعَكْس لِأَن بيع الْعقار قبل الْقَبْض عِنْده لَا يجوز
وَأما إِذا أرخا وتاريخ أَحدهمَا أسبق فَإِنَّهُ يقْضِي لآخرهما وقتا أَيهمَا كَانَ وَالْبيع الثَّانِي ينْقض البيع الأول عِنْدهمَا وَقَالَ مُحَمَّد يقْضِي

(3/186)


بهَا للْخَارِج وَفِي الْمَسْأَلَة تَفْصِيل لم يذكرهُ الْكَرْخِي
وأماإذا أَقَامَا الْبَيِّنَة على الشِّرَاء وَالْقَبْض فعندهما تهاترت الْبَيِّنَتَانِ وَالْمُدَّعِي لمن هُوَ فِي يَده وَعند مُحَمَّد يقْضِي بهَا للَّذي فِي يَده وَالثمن بِالثّمن قصاصا كَأَن الْخَارِج اشْتَرَاهَا من الدَّاخِل فقبضها ثمَّ اشْتَرَاهَا الدَّاخِل مِنْهُ وَقبض لِأَن الْمَذْهَب عِنْده أَن الْقَبْض الْمَوْجُود مهما أمكن أَن يَجْعَل قبض بيع يَجْعَل حملا لأمر الْعَاقِل على الصِّحَّة
وَأما الخارجان إِذا ادّعَيَا الشِّرَاء على صَاحب الْيَد فَإِن كَانَ وَاحِدًا وَأَقَامَا الْبَيِّنَة على الشِّرَاء مِنْهُ بِثمن مَعْلُوم وَلم يذكرَا التَّارِيخ وَلَا الْقَبْض فَإِنَّهُ يَجْعَل بَينهمَا نِصْفَيْنِ عندنَا
وَعند الشَّافِعِي فِي قَول تهاترت الْبَيِّنَتَانِ
وَفِي قَول يقرع بَينهمَا
فَأَما إِذا أرخا وتاريخ أَحدهمَا أسبق فَهُوَ لَهُ
وَكَذَا إِذا وَقت أَحدهمَا دون الآخر فَهُوَ لصَاحب الْوَقْت لِأَنَّهُ ثَبت سبق بيع أَحدهمَا وَبيع الآخر معنى حَادث وَلَا يعلم تَارِيخه فَيحكم بِهِ للْحَال
وَأما إِذا لم يكن لوَاحِد مِنْهُمَا تَارِيخ وَلَكِن لَهُ قبض بِأَن كَانَ فِي يَد أَحدهمَا فَهُوَ أولى لِأَنَّهُ يحمل على قبض البيع وَالْبيع الثَّانِي حَادث وَلم يعرف تاريخهما فَجعل كَأَن بيع صَاحب الْقَبْض أسبق
فَإِن ذكر الآخر تَارِيخا ولأحدهما تَارِيخ وَللْآخر قبض لم يعْتَبر التَّارِيخ إِلَّا أَن يشْهدُوا أَن بَيْعه كَانَ قبل بيع الَّذِي الشَّيْء فِي يَده فَيَقْضِي لَهُ بِهِ وَيرجع الآخر بِالثّمن على البَائِع
فَأَما إِذا ادّعى كل وَاحِد مِنْهُمَا الشِّرَاء من رجل غير الَّذِي ادّعى

(3/187)


عَلَيْهِ صَاحبه وَأَقَامَا الْبَيِّنَة فَهُوَ بَينهمَا نِصْفَانِ لِأَن المشتريين قاما مقَام البائعين كَأَنَّهُمَا حضرا وَأَقَامَا الْبَيِّنَة وَالْمَال بَينهمَا نِصْفَانِ
وَلَو أرخا وتاريخ أَحدهمَا أسبق يكون لَهُ عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف وَمُحَمّد وَهَذِه رِوَايَة الْأُصُول
وَقد ذكرنَا فرق أبي بكر الرازق وَرِوَايَة الْإِمْلَاء عَن مُحَمَّد فِي هَذَا الْفَصْل فَلَا نعيده
ثمَّ فِي هَذِه الْمسَائِل فِي الشِّرَاء يثبت الْخِيَار لكل وَاحِد من مدعي الشِّرَاء لِأَنَّهُ يَدعِي شِرَاء الْكل فَلَا يرضى بِالنِّصْفِ مَعَ الشّركَة وَهِي عيب فَإِن اخْتَار أَخذ النّصْف يرجع على البَائِع بِنصْف الثّمن لاسْتِحْقَاق نصف الْمَبِيع وَإِن اخْتَار الرَّد رَجَعَ بِجَمِيعِ الثّمن لانفساخ البيع
وَإِن اخْتَار أَحدهمَا الرَّد وَالْآخر الْأَخْذ فَإِن كَانَ قبل تَخْيِير الْحَاكِم لَهما وَالْحكم لَهما نِصْفَيْنِ فَإِنَّهُ يَأْخُذ جَمِيع الْمَبِيع بِجَمِيعِ الثّمن لِأَنَّهُ اسْتَحَقَّه بِحكم العقد وَإِنَّمَا امْتنع لأجل الْمُزَاحمَة فَإِذا ترك الآخر الْخُصُومَة فَلهُ ذَلِك بِحكم العقد
فَأَما إِذا كَانَ بعد حكم الْحَاكِم بَينهمَا فَيَأْخُذ النّصْف بِنصْف الثّمن لِأَنَّهُ بِحكمِهِ يَنْفَسِخ العقد فِي النّصْف وَلَا يعود إِلَّا بالتجديد
وَأما دَعْوَى النِّتَاج فَإِن ادّعى الْخَارِج وَذُو الْيَد النِّتَاج فِي دَابَّة فَهِيَ لصَاحب الْيَد لِأَنَّهُمَا ادّعَيَا أولية الْملك فاستويا فِي الدَّعْوَى فيرجح بِالْيَدِ وَفِي عين هَذِه الْمَسْأَلَة ورد حَدِيث جَابر عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام
وَإِن ادّعى أَحدهمَا النِّتَاج فَهُوَ لصحب الْيَد أَيهمَا كَانَ لما ذكرنَا

(3/188)


وَإِن كَانَ خارجان ادّعَيَا النِّتَاج وَهُوَ فِي يَد ثَالِث يَدعِي ملكا مُطلقًا فَهِيَ بَين الخارجين نِصْفَانِ لِاسْتِوَائِهِمَا
ثمَّ ظَاهر مَذْهَبنَا أَنه يقْضِي لصَاحب الْيَد لَا أَن يتْرك فِي يَده بِلَا قَضَاء
وَرُوِيَ عِيسَى بن أبان أَنه تتهاتر الْبَيِّنَتَانِ وَيتْرك فِي يَده صَاحب الْيَد قَضَاء ترك وَهَذَا خلاف مَذْهَبنَا فَإِن الخارجين يقْضِي بَينهمَا وَلَو كَانَ ترك فِي يَد صَاحب الْيَد لَا بطرِيق الْقَضَاء يَنْبَغِي أَن يكون لصَاحب الْيَد إِذا تهاترت الْبَيِّنَتَانِ
فَإِن أرخا فَإِنَّهُ ينظر إِن كَانَ سنّ النِّتَاج يُوَافق أحد التاريخين فَهُوَ لَهُ
وَإِن أشكل الْأَمر سقط حكم التَّارِيخ وَجعل كَأَنَّهُمَا لم يذكرَا التَّارِيخ
وَإِن خَالف الْوَقْتَيْنِ ذكر فِي ظَاهر الرِّوَايَة أَنه لَا عِبْرَة للتاريخ وَالْحكم فِيهِ مَا ذكرنَا من غير تَارِيخ
وَذكر الْحَاكِم أَن فِي رِوَايَة أبي اللَّيْث تهاترت الْبَيِّنَتَانِ وَيبقى النِّتَاج فِي يَد صَاحب الْيَد قَضَاء ترك وَهُوَ الْأَصَح
كَذَا الْجَواب فِي كل مَا لَا يتَكَرَّر فِيهِ سَبَب الْملك وَلَا يُعَاد وَلَا يصنع مرَّتَيْنِ فَهُوَ كالنتاج

(3/189)


وَمَا يتَكَرَّر فِيهِ سَبَب الْملك ويصنع مرَّتَيْنِ فَهُوَ على التَّفْصِيل الَّذِي ذكرنَا من دَعْوَى الْملك الْمُطلق وبالسبب
وَإِذا كَانَ حَائِط بَين دارين وَلَيْسَ لوَاحِد مِنْهُمَا عَلَيْهِ جُذُوع وَلَا لَهُ اتِّصَال بِالْبِنَاءِ فَإِنَّهُ يكون بَينهمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الاستظلال
وَإِن كَانَ لأَحَدهمَا عَلَيْهِ جُذُوع فالحائط لَهُ لِأَنَّهُ مُسْتَعْمل لَهُ
وَإِن كَانَ لَهما جُذُوع على السوَاء فَهُوَ لَهما لِاسْتِوَائِهِمَا
وَإِن كَانَ لأَحَدهمَا أَكثر ذكر الْكَرْخِي أَنه إِذا كَانَ لأَحَدهمَا ثَلَاثَة فَصَاعِدا وَللْآخر كثير فهما سَوَاء
أما إِذا كَانَ لأَحَدهمَا مَا دون الثَّلَاثَة وَللْآخر أَكثر فَهُوَ لصَاحب الْكثير وَكَذَا ذكر مُحَمَّد فِي كتاب الْإِقْرَار وَذكر فِي كتاب الدَّعْوَى أَن لكل وَاحِد مِنْهُمَا مَا تَحت خشبته وَلَا يكون لَهُ كل الْحَائِط
وَإِن لم يكن لَهما جُذُوع ولأحدهما اتِّصَال بِالْبِنَاءِ من جَانب وَاحِد
أَي يكون بعض ألبان الْحَائِط الْمُدعى بِهِ فِي حَائِط مَمْلُوك لَهُ قَالَ صَاحب الِاتِّصَال أولى
وَذكر فِي الأَصْل أَنه إِذا كَانَ اتِّصَال تربيع فَهُوَ أولى من صَاحب الْجُذُوع
وَرُوِيَ عَن أبي يُوسُف أَنه إِذا كَانَ الِاتِّصَال من الطَّرفَيْنِ كَانَ أولى من صَاحب الْجُذُوع
وَالْمرَاد من اتِّصَال التربيع أَن يكون بعض الألبان متداخلا فِي الْبَعْض كالأزج والطاقات وَأَبُو يُوسُف اعْتبر هَذَا فِي جَانِبي الْحَائِط الْمُدعى بِهِ مُتَّصِلا بحائطي

(3/190)


الْمُدَّعِي لِأَن هَذَا دَلِيل على أَن باني الْحَائِط هُوَ ثمَّ لصَاحب الْجُذُوع حق وضع الْجُذُوع فِي هَذِه الْمَسْأَلَة
وَكَذَا إِذا كَانَ لَهُ جذع وَاحِد فالحائط لصَاحب الْأَكْثَر وَله حق الْوَضع وَلَيْسَ لصَاحبه أَن يرفع إِلَّا إِذا أَقَامَ الْبَيِّنَة أَن الْحَائِط لَهُ فَحِينَئِذٍ يرفع لِأَن الْبَيِّنَة دَلِيل مُطلق
وَإِن كَانَ خصا بَين شَخْصَيْنِ والقمط إِلَى أَحدهمَا وَادّعى كل وَاحِد الخص فَهُوَ بَينهمَا عِنْد أبي حنيفَة وَلَا يرجح بِكَوْن القمط فِي جَانِبه
وَقَالا بِأَن صَاحب القمط أولى
وَلَو كَانَ وَجه الْبناء أَو الطاقات على الْحَائِط فِي أحد الْجَانِبَيْنِ فَلَا يرجع هَذَا بِالْإِجْمَاع لِأَن هَذَا لَا يخْتَص بِالْملكِ
وَلَو كَانَ لأَحَدهمَا سفل وَللْآخر علو فَلَيْسَ لصَاحب السّفل أَن يتَصَرَّف تَصرفا لم يكن فِي الْقَدِيم وَإِن كَانَ لَا يتَضَرَّر بِهِ صَاحبه عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا لَا بَأْس بِهِ إِذا لم يكن فِيهِ ضَرَر وَكَذَا صَاحب الْعُلُوّ
وَلَو انهدما فَامْتنعَ صَاحب السّفل عَن الْبناء لَا يجْبر عَلَيْهِ لِأَن الْإِنْسَان لَا يجْبر على عمَارَة بَيته لَكِن يُقَال لصَاحب الْعُلُوّ ابْن بِمَالك السّفل وضع عَلَيْهِ علوك وارجع عَلَيْهِ بِقِيمَتِه مَبْنِيا وامنع الآخر عَن السكن حَتَّى يدْفع الْقيمَة
وَكَذَا الْجَواب فِي الْحَائِط بَين الدَّاريْنِ
وَلَو هَدمه أَحدهمَا يجْبر على الْعِمَارَة وَالله تَعَالَى أعلم

(3/191)