تحفة الفقهاء

كتاب الْوَصَايَا
فِي هَذَا الْكتاب فصلان فصل فِي الْوَصِيَّة وَفصل فِي الْإِيصَاء
نبدأ بِالْوَصِيَّةِ فَنَقُول نحتاج إِلَى بَيَان الْوَصِيَّة وَإِلَى بَيَان صفة المشروعية وَإِلَى بَيَان شَرَائِط الصِّحَّة وَإِلَى بَيَان الْمُوصى بِهِ وَإِلَى بَيَان الْمُوصى لَهُ وَمَا يتَّصل بِهَذِهِ الْجُمْلَة
أما الْوَصِيَّة فَهِيَ تمْلِيك مُضَاف إِلَى مَا بعد

(3/205)


الْمَوْت بطرِيق التَّبَرُّع إِذْ التَّمْلِيك أَنْوَاع ثَلَاثَة فَلَا بُد لكل نوع من اسْم خَاص ليتميز عَن صَاحبه فَالْبيع اسْم لتمليك عين المَال بعوض فِي حَالَة الْحَيَاة وَالْهِبَة وَالصَّدَََقَة تمْلِيك عين المَال بِغَيْر عوض فِي حَالَة الْحَيَاة بطرِيق التَّبَرُّع وَالْعَارِية تمْلِيك الْمَنْفَعَة بطرِيق التَّبَرُّع فِي حَالَة الْحَيَاة فَيكون الْوَصِيَّة اسْما لتمليك المَال بعد الْمَوْت بطرِيق التَّبَرُّع فِي الْعين وَالْمَنَافِع جَمِيعًا
فَأَما الْإِعْتَاق فِي معرض الْمَوْت تنجيزا وَكَذَا الْهِبَة والمحاباة فَلَيْسَتْ من جملَة الْوَصِيَّة فَإِنَّهَا نَافِذَة للْحَال
وَكَذَلِكَ الْكفَالَة وَضَمان الدَّرك لَكِن فِي معنى الْوَصِيَّة على معنى أَنه يعْتَبر من ثلث المَال لتَعلق حق الْغُرَمَاء بِالتَّرِكَةِ فِي مرض الْمَوْت
وَلَو كَانَ عَلَيْهِ حجَّة الْإِسْلَام أَو الزَّكَاة أَو الْكَفَّارَات وَجَبت فِي الصِّحَّة أَو فِي الْمَرَض فَيبْطل بِالْمَوْتِ عندنَا
وَلَو أوصى بهَا تصح من الثُّلُث بِمَنْزِلَة التَّبَرُّع فِي الْمَرَض
وعَلى هَذَا قُلْنَا إِن الْقبُول من الْمُوصى لَهُ وَالرَّدّ يعْتَبر بعد الْمَوْت لِأَن الْإِيجَاب ينزل بعد الْمَوْت وَالْقَبُول يشْتَرط عِنْد الْإِيجَاب كَمَا فِي البيع وَغَيره وَهَذَا عندنَا
وَعند زفر الْقبُول لَيْسَ بِشَرْط وَلَا ترتد بِالرَّدِّ كالميراث
وَلَو رد أَو قبل فِي حَيَاة الْمُوصي لَا يَصح حَتَّى لَو مَاتَ الْمُوصى لَهُ بعد الْقبُول قبل موت الْمُوصي فَإِن الْوَصِيَّة لَا يكون ملكا لوَرَثَة الْمُوصى لَهُ
وَلَو مَاتَ الْمُوصى لَهُ بعد موت الْمُوصي قبل الْقبُول وَالرَّدّ فَالْقِيَاس أَن لَا يكون لوَرَثَة الْمُوصى لَهُ شَيْء لِأَن الْقبُول لم يُوجد من الْمُوصى لَهُ فَيبْطل وَفِي الِاسْتِحْسَان يصير لوَرثَته إِمَّا لِأَنَّهُ وجد الْقبُول مِنْهُ دلَالَة أَو لِأَن الْإِيجَاب قد تمّ بِنَفسِهِ وَتوقف على قبُوله فَإِذا مَاتَ ثَبت الْملك لَهُ كَأَنَّهُ قبل دلَالَة كالمشتري بِالْخِيَارِ إِذا مَاتَ يلْزم العَبْد
فَلَو رد ورثته بعد مَوته هَل يَصح ردهم اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ قيل يجوز الرَّد لِأَنَّهُ صَحَّ لوُجُود الْقبُول مِنْهُم دلَالَة فَإِذا وجد الرَّد

(3/206)


صَرِيحًا يبطل
وَقيل لَا يجوز لِأَنَّهُ صَار مِيرَاثا للْوَرَثَة عَن الْمُوصى لَهُ لصيرورته ملكا لَهُ بِالْمَوْتِ وَلَا يَصح رد الْمِيرَاث
وَأما بَيَان المشروعية فَنَقُول
قَالَ بَعضهم مَشْرُوعَة بِصفة الْوُجُوب فِي حق الْكل
وَقَالَ بَعضهم وَاجِبَة فِي حق الْوَالِدين لقَوْله تَعَالَى {الْوَصِيَّة للْوَالِدين والأقربين}
وَالصَّحِيح أَنَّهَا مَشْرُوعَة بطريقة النّدب لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى تصدق عَلَيْكُم بِثلث أَمْوَالكُم فِي آخر أعماركم زِيَادَة فِي أَعمالكُم
وَأما شَرَائِط الصِّحَّة فَمِنْهَا أَهْلِيَّة التَّبَرُّع حَتَّى لَا يَصح من الصَّبِي وَالْعَبْد وَالْمكَاتب فِي حق الْمولى
وَمِنْهَا عدم الدّين لقَوْله تَعَالَى {فَلَنْ تَجِد لَهُ نَصِيرًا}
وَمِنْهَا التَّقْدِير بِثلث التَّرِكَة حَتَّى أَنَّهَا لَا تصح فِيمَا زَاد على الثُّلُث إِلَّا أَن يُجِيز الْوَرَثَة وإجازتهم وردهم يَصح بعد الْمَوْت
أما قبل الْمَوْت فَلَا يَصح لما قُلْنَا إِن الْملك بِالْوَصِيَّةِ يثبت بعد الْمَوْت
وَمِنْهَا أَن يكون الْمُوصى لَهُ أَجْنَبِيّا حَتَّى أَن الْوَصِيَّة للْوَارِث لَا تجوز إِلَّا بِإِجَازَة الْوَرَثَة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لوَارث إِلَّا أَن يُجِيز الْوَرَثَة فَإِن أجَاز بعض الْوَرَثَة تنفذ بِقدر حِصَّته من الْمِيرَاث لَا غير

(3/207)


وَمِنْهَا أَن لَا يكون قَائِلا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا وَصِيَّة لقَاتل
وَلَو أجَاز الْوَرَثَة يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد لِأَنَّهُ لَا يجوز لحق الْوَرَثَة فَيجوز بإجازتهم كَمَا فِي وَصِيَّة الْوَارِث
وَعند أبي يُوسُف لَا يجوز لِأَن الْمَانِع حق الله تَعَالَى فَصَارَ كالميراث
وَمِنْهَا أَن يكون الْمُوصى لَهُ مَوْجُودا حَيا حَتَّى لَو أوصى للجنين إِن كَانَ مَوْجُودا حَيا عِنْد الْإِيصَاء يَصح وَإِلَّا فَلَا
وَإِنَّمَا يعرف بِأَن ولد قبل سِتَّة أشهر حَيا
وَأما بَيَان الْمُوصى بِهِ فالموصى بِهِ يجب أَن يكون مَالا
ثمَّ المَال نَوْعَانِ الْمَنَافِع والأعيان
وَأما الْوَصِيَّة بالمنافع فجائزة بِأَن أوصى بِخِدْمَة عبد بِعَيْنِه لفُلَان يكون وَصِيَّة بِالْخدمَةِ لَهُ وَعين العَبْد تكون للْوَرَثَة مَا دَامَ الْمُوصى لَهُ حَيا وَإِذا مَاتَ فَيسلم العَبْد إِلَى الْوَرَثَة فَإِنَّهَا فِي معنى الْعَارِية المؤبدة فينتهي بِمَوْت الْمُوصى لَهُ
وَكَذَا لَو أوصى بِالْعَبدِ لإِنْسَان وبخدمته لآخر جَازَ لما قُلْنَا
وَكَذَا لَو أوصى بسكنى دَاره أَو بغلة بستانه وَلم يُوَقت فِي ذَلِك وقتا فَيكون للْمُوصى لَهُ مُدَّة حَيَاته وَيعود الْبُسْتَان وَالدَّار إِلَى الْوَرَثَة وَمَا كَانَ من الثَّمَرَة وَالْغلَّة حَاصِلا قبل موت الْمُوصى لَهُ فَيكون لوَرثَته وَمَا يحصل بعد مَوته يكون لوَرَثَة الْمُوصي
وَإِنَّمَا يجوز إِذا خرج من الثُّلُث وَإِنَّمَا يعْتَبر خُرُوج قيمَة الْأَعْيَان الَّتِي أوصى بغلتها وَخدمتهَا وثمرتها من الثُّلُث دون أَن يضم الْغلَّة وَقِيمَة الثَّمَرَة والخدمة إِلَى رَقَبَة الْأَعْيَان

(3/208)


وَلَو أوصى بالثمرة بالغلة للْمَسَاكِين جَازَ بِالْإِجْمَاع
وَلَو أوصى بسكنى دَاره أَو بِخِدْمَة عَبده أَو بِظهْر فرسه للْمَسَاكِين لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يجوز
وَلَو أوصى لفقير وَاحِد بِعَيْنِه جَازَ وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما الْوَصِيَّة بأعيان الْأَمْوَال فَإِنَّهُ يجوز سَوَاء كَانَ الْمُوصى بِهِ مَوْجُودا معينا أَو بِربع المَال أَو ثلثه أَو خمسه وَله مَال أَو أوصى بالمعدوم بِأَن يُوصي بِمَا يُثمر نخله أَو مَا يخرج من بستانه أَو بِثلث مَاله وَلَا مَال لَهُ فَإِن الْوَصِيَّة جَائِزَة من الثُّلُث
وَيعْتَبر الثُّلُث وَقت موت الْمُوصي لَا قبله لما ذكرنَا أَنَّهَا إِيجَاب الْملك عِنْد الْمَوْت حَتَّى إِنَّه لَو أوصى بِثلث مَاله وَله ثَلَاثَة آلَاف دِرْهَم ثمَّ مَاتَ وَله ألف فَإِن الْوَصِيَّة تصح فِي ثلث الْألف لما قُلْنَا
وَلَو أوصى بِلَبن غنمه وأصوافها وَأَوْلَادهَا ثمَّ مَاتَ الْمُوصي فَإِنَّهُ يَقع على مَا هُوَ الْمَوْجُود يَوْم الْمَوْت دون مَا يحدث من بعد الْمَوْت وَإِن لم يكن شَيْئا مَوْجُودا وَقت الْمَوْت بِخِلَاف الْوَصِيَّة بثمرة النَّخْلَة فَإِنَّهُ يَقع على الْمَوْجُود وَقت الْمَوْت إِن كَانَ وَإِن لم يكن يَقع على مَا يحدث بعد موت الْمُوصي
وَأما الْوَصِيَّة بالموجود فَإِن كَانَ شَيْئا معينا فَإِنَّهُ يَصح فِيهِ حَتَّى إِذا خرج من الثُّلُث يكون للْمُوصى لَهُ وَإِن لم يكن يخرج يكون لَهُ بِقدر الثُّلُث
وَإِذا هلك ثُلُثَاهُ وَبَقِي الثُّلُث يكون كل الثُّلُث لَهُ إِن خرج من ثلث المَال
وَأما إِذا كَانَت الْوَصِيَّة بِثلث المَال أَو بربعه وَنَحْو ذَلِك فَإِن خرج يكون لَهُ وَإِن لم يخرج يكون لَهُ بِقدر الثُّلُث
وَأما إِذا اجْتمعت الْوَصَايَا لأَحَدهم بِالثُّلثِ وَلآخر بِالربعِ وَلآخر

(3/209)


بالخمس فَإِن أجَاز الْوَرَثَة جَازَ فِي الْكل
وَإِلَّا يصرف إِلَى كل وَاحِد مِنْهُم من الثُّلُث بِقدر وَصيته ويتضاربون فِي ذَلِك فَيكون ثلث الثُّلُث لهَذَا وَربع الثُّلُث وَخمْس الثُّلُث للآخرين كَمَا فِي الْمَوَارِيث
وَإِن كَانَ وَصِيَّة أحدهم أَكثر من الثُّلُث بِأَن أوصى لَهُ بِالنِّصْفِ أَو بالثلثين فَعِنْدَ أبي حنيفَة يضْرب من زَاد نصِيبه على الثُّلُث بِالثُّلثِ دون الزِّيَادَة وَمن كَانَ نصِيبه دون الثُّلُث فِيمَا سمي لَهُ
وَعِنْدَهُمَا يضْرب صَاحب الزِّيَادَة بِجَمِيعِ مَا سمي لَهُ كَمَا فِي الْمِيرَاث
وَأَجْمعُوا فِي خمس وَصَايَا أَنه يضْرب بِمَا سمي وَإِن جَاوز عَن الثُّلُث فِي الْعتْق الْموقع فِي الْمَرَض وَفِي الْعتْق الْمُعَلق بِمَوْت الْمُوصي وَهُوَ التَّدْبِير وبالمحاباة فِي الْمَرَض وبالوصية بِالْإِعْتَاقِ بعد الْمَوْت وبالوصية الْمُرْسلَة وَهِي الْوَصِيَّة بِشَيْء بِغَيْر عينه وَلَا يكون مَنْسُوبا إِلَى جُزْء من المَال نَحْو الْوَصِيَّة لفُلَان بِمِائَة دِرْهَم وَنَحْوهَا
وَهل يقدم بعض أَصْحَاب الْوَصِيَّة مُعلى الْبَعْض فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَت الْوَصَايَا للعباد أَو تقع الله تَعَالَى
أما إِذا كَانَت الْوَصَايَا للعباد فَإِنَّهُ يقدم الْعتْق الْموقع فِي الْمَرَض وَالْعِتْق الْمُعَلق بِمُطلق الْمَوْت وَهُوَ التَّدْبِير الصَّحِيح والمحاباة فِي البيع الْوَاقِع فِي الْمَرَض
وَمَا سوى هَذِه الْوَصَايَا يتضارب فِيهَا أهل الْوَصَايَا على السوَاء لَا يقدم بَعضهم على بعض
وَإِن ضَاقَ الثُّلُث عَن الْعتْق والمحاباة يبْدَأ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي مِنْهُمَا لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْقُوَّة فترجح بالبداءة وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَقَالا يبْدَأ بِالْعِتْقِ لَا محَالة لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل الْفَسْخ

(3/210)


وَأما إِذا كَانَت الْوَصَايَا بِمَا هُوَ من حُقُوق الله تَعَالَى نَحْو الْحَج وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَات وَالصَّدقَات وَنَحْوهَا من أَعمال الْبر ينظر إِن كَانَ كُله تَطَوّعا بَدَأَ بِمَا بَدَأَ بِهِ الْمُوصي لِاسْتِوَاء الْكل فِي نَفسه فِي الْقُوَّة فيترجح بالبداءة لِأَنَّهُ هُوَ الأهم عِنْده ظَاهرا وَلَا يقدم الْوَصِيَّة بِالْإِعْتَاقِ لِأَنَّهُ يحْتَمل الْفَسْخ كَسَائِر الْوَصَايَا فَإِذا بلغ الثُّلُث للْكُلّ فبها ونعمت وَإِن فني الثُّلُث بِالْبَعْضِ يبطل الْبَاقِي
وَإِن كَانَت كلهَا فَرَائض مُتَسَاوِيَة بِأَن كَانَ وُجُوبهَا ثَبت بِدَلِيل مَقْطُوع بِهِ يرجح بالبداءة لتساويها فِي الْقُوَّة وَقَالُوا فِي الْحَج وَالزَّكَاة عِنْد أبي يُوسُف يقدم الْحَج فِي رِوَايَة وَإِن أَخّرهُ جَازَ
وَفِي رِوَايَة يقدم الزَّكَاة وَهُوَ قَول مُحَمَّد رَحمَه الله
ثمَّ مَا أوجبه الله تَعَالَى ابْتِدَاء أولى مِمَّا أوجبه عِنْد فعل من الْمُكَلف فَقَالُوا يقدم الْحَج وَالزَّكَاة على الْكَفَّارَات الْمَذْكُورَة فِي الْقُرْآن
ثمَّ هَذِه الْكَفَّارَات مُقَدّمَة على صَدَقَة الْفطر والفطرة مُقَدّمَة على كَفَّارَة الْفطر لِأَنَّهَا ثبتَتْ بِخَبَر الْوَاحِد وَهِي مُقَدّمَة على الْمَنْذُور هُوَ مقدم على الْأُضْحِية
والواجبات كلهَا مُقَدّمَة على النَّوَافِل
وَأما إِذا كَانَ مَعَ الْوَصَايَا الثَّابِتَة لحق الله تَعَالَى الْوَصِيَّة للآدمي فَإِن الْمُوصى لَهُ يضْرب مَعَ الْوَصَايَا بِالْقربِ وَيجْعَل كل جِهَة من جِهَات الْقرب مُفْردَة بِالضَّرْبِ وَلَا يَجْعَل كلهَا جِهَة وَاحِدَة بِأَن قَالَ ثلث مَالِي فِي الْحَج وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَات ولزيد يقسم على أَرْبَعَة أسْهم لِأَن كل جِهَة غير الْأُخْرَى وَلَا يقدم الْفَرْض على حق الأدمِيّ لحَاجَة العَبْد إِلَى حَقه
ثمَّ إِنَّمَا يصرف إِلَى الْحَج الْفَرْض وَالزَّكَاة وَالْكَفَّارَات إِذا أوصى

(3/211)


بهَا فَأَما بِدُونِ الْوَصِيَّة فَلَا يصرف الثُّلُث إِلَيْهَا بل يسْقط عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ على مَا ذكرنَا فِي الزَّكَاة
وَإِذا أوصى يعْتَبر من الثُّلُث لتَعلق حق الْوَرَثَة بِمَالِه فِي مرض الْمَوْت
وَأما بَيَان الْمُوصى لَهُ وَأَحْكَامه فَنَقُول الْمُوصى لَهُ يجب أَن يكون حَيا وَأَن يكون أَجْنَبِيّا لَا وَارِث لَهُ وَلَا قَائِلا إِيَّاه وَقد ذكرنَا هَذَا حَتَّى لَو أوصى لِرجلَيْنِ أَحدهمَا ميت تكون الْوَصِيَّة كلهَا للحي
وَلَو أوصى لأَجْنَبِيّ ولوارثه يكون النّصْف للْأَجْنَبِيّ لِأَن الْوَارِث من أهل الْوَصِيَّة حَتَّى لَو أجَاز بَاقِي الْوَرَثَة جَازَ
وَلَو أوصى لِذَوي قرَابَته أَو لأقربائه أَو لذِي قراباته أَو لأرحامه أَو لِذَوي رحم مِنْهُ فَإِن عِنْد أبي حنيفَة يعْتَبر فِي هَذِه الْوَصِيَّة أَشْيَاء ذُو الرَّحِم الْمحرم وَالْأَقْرَب فَالْأَقْرَب وَأَن لَا يكون فيهم وَالِد وَلَا ولد وَأَن يكون اثْنَيْنِ فَصَاعِدا إِن كَانَ بِلَفْظ الْجمع أَو يَقُول لِذَوي قرَابَته
وَلَو قَالَ لذِي قرَابَته يَقع على الْوَاحِد فَصَاعِدا
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد الْوَصِيَّة لجَمِيع قرَابَته من جِهَة الرِّجَال وَالنِّسَاء إِلَى أقْصَى أَب لَهُ فِي الْإِسْلَام الْقَرِيب والبعيد فِيهِ سَوَاء كَمَا إِذا أوصى للعلوية والعباسية يصرف إِلَى من يتَّصل بعلي وعباس رَضِي الله عَنْهُمَا دون من فَوْقهمَا من الْآبَاء
بَيَانه إِذا ترك عمين وخالين فَعنده الْوَصِيَّة للعمين للقرب وَعِنْدَهُمَا بَين الْكل أَربَاعًا
وَلَو ترك عَمَّا وخالين فللعم النّصْف وَالنّصف للخالين عِنْده

(3/212)


لِأَن اسْم الْجمع فِي الْوَصِيَّة ينْصَرف إِلَى اثْنَيْنِ فَيسْتَحق كل وَاحِد النّصْف فَيكون للأقرب النّصْف وَالنّصف للأبعدين بَينهمَا سَوَاء
وَإِن ترك عَمَّا وَاحِدًا وَلم يكن لَهُ غَيره من ذَوي الرَّحِم الْمحرم فالنصف للعم وَالنّصف رد على الْوَرَثَة عِنْده
وَعِنْدَهُمَا يصرف إِلَى ذِي الرَّحِم الَّذِي لَيْسَ بِمحرم
وَإِن كَانَ أوصى لذِي قرَابَته فَجَمِيع الثُّلُث للعم لما بَينا
وَلَو أوصى لأهل بَيت فلَان أَو لحسبه أَو نسبه أَو لأنسبائه فَهَذَا يَقع على قرَابَة أَبِيه الَّذين ينسبون إِلَيْهِ إِلَى أقْصَى أَب لَهُ فِي الْإِسْلَام دون قرَابَة أمه لِأَن النّسَب والحسب وَالْبَيْت يخْتَص بِالْأَبِ دون الْأُم
وَكَذَا لَو أوصى لآل فلَان فَهُوَ بِمَنْزِلَة أهل بَيت فلَان
وَلَو أوصى لأهل فلَان فَالْقِيَاس أَن يَقع على زَوْجَة فلَان خَاصَّة وَهُوَ قَول أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يصرف إِلَى جَمِيع من كَانَ فِي عِيَاله من الْأَحْرَار وَلَا يدْخل فِيهِ المماليك وَأما الابْن الْكَبِير الَّذِي اعتزل عَنهُ وَالْبِنْت الَّتِي فِي بَيت الزَّوْج فَلَا تدخل
وَلَو أوصى لبني فلَان فَإِن كَانُوا لَا يُحْصى عَددهمْ كبني تَمِيم وَبني الْعَبَّاس فَإِنَّهُ يصرف إِلَى جَمِيع الْقَبِيلَة
وَيدخل فيهم الحليف وَالْموالى بِسَبَب الْوَلَاء والعتاقة لِأَن هَذَا بِمَنْزِلَة الصَّدَقَة وَله أَن يصرف إِلَى وَاحِد وَأكْثر عِنْد أبي يُوسُف لِأَنَّهُ اسْم جنس وَعند مُحَمَّد يصرف إِلَى اثْنَيْنِ وَأكْثر دون الْوَاحِد لِأَن اسْم الْجمع فِي الْوَصِيَّة يَقع على الِاثْنَيْنِ وَالذكر وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاء لِأَنَّهُ اسْم للقبيلة
وَلَو كَانُوا يُحصونَ وأبوهم من الْعَرَب فَإِنَّهُ يدْخل فِيهِ بَنو فلَان من الْعَرَب دون الحلفاء والموالي

(3/213)


ثمَّ عِنْد أبي حنيفَة يدْخل فِيهِ الذُّكُور من أَوْلَاد الصلب دون الْإِنَاث
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد يدْخل فِيهِ الْكل وَهُوَ قَول أبي حنيفَة الأول
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا كَانَ الْكل إِنَاثًا لَا يدْخلُونَ
وَأما إِذا لم يكن لفُلَان ولد الصلب فَإِن الْوَصِيَّة للذكور من أَوْلَاد الْبَنِينَ عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يدْخل الْكل
وَهل يدْخل بَنو الْبَنَات فروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنهم يدْخلُونَ وَذكر فِي السّير الْكَبِير أَنهم لَا يدْخلُونَ
وَلَو كَانَ لَهُ ابْن وَاحِد وَبَنُو بَنِينَ فللابن النّصْف وَالْبَاقِي للْوَرَثَة دون بني الْبَنِينَ وَعِنْدَهُمَا للِابْن النّصْف وَالْبَاقِي لبني الْبَنِينَ
وَلَو كَانَ لَهُ ابْنَانِ وَبَنُو ابْن فَالْكل للابنين لِأَن الِابْنَيْنِ فِي الْوَصِيَّة بِمَنْزِلَة الْجمع
وَلَو كَانَ لَهُ ابْن وَاحِد وَبَنَات فالنصف للِابْن وَالْبَاقِي للْوَرَثَة عِنْد أبي حنيفَة
وَعِنْدَهُمَا للِابْن النّصْف وَالْبَاقِي للبنات
وَلَو كَانَ لَهُ بَنَات وَبَنُو ابْن فَلَا شَيْء لَهُم بل للْوَرَثَة عِنْده وَعِنْدَهُمَا للْكُلّ على السوَاء
وَلَو أوصى لولد فلَان فَإِنَّهُ يدْخل فِيهِ الذّكر والانثى على السوَاء وَيدخل فِيهِ الْجَنِين الَّذِي يُولد لأَقل من سِتَّة أشهر وَلَا يدْخل ولد الْوَلَد مَا دَامَ الصلبي حَيا
وَلَو كَانَ لَهُ بَنَات وَبَنُو الابْن فَهِيَ للبنات لَا غير
وَلَو كَانَ ولد وَاحِد فَالْكل لَهُ لِأَن اسْم الْوَلَد يَقع لَهُ
وَلَو أوصى لعقب فلَان فعقب الرجل هُوَ وَلَده من الذُّكُور وَالْإِنَاث
فَإِن لم يكن فولد وَلَده من الذُّكُور دون الْإِنَاث وَدون ولد

(3/214)


الْإِنَاث
وَيكون هَذَا الِاسْم بعد موت الْأَب لَا قبله حَتَّى إِن الْمُوصي إِذا مَاتَ وَفُلَان حَيّ فَلَا شَيْء لَهُم لأَنهم لَا يكونُونَ عقبا حَال حَيَاته
وَكَذَا لَو أوصى لوَرَثَة فلَان فَهُوَ مثل عقب فلَان إِلَّا أَن فِي الْعقب سهم الذّكر وَالْأُنْثَى سَوَاء فِي الْوَرَثَة يكون بَينهم على قدر الْمَوَارِيث
وَلَو أوصى لعصبة فلَان فَإِنَّهُ يَصح الْوَصِيَّة وَإِن لم يمت فلَان حَتَّى إِذا مَاتَ الْمُوصي تصرف الْوَصِيَّة إِلَى عصبته فَإِن كَانَ لَهُ أَب وَابْن فالعصبة هُوَ الابْن دون الْأَب وَيكون للأقرب فَالْأَقْرَب على تَرْتِيب الْعَصَبَات
وَلَو أوصى لأختانه فالختن زوج كل ذَات رحم محرم مِنْهُ وكل ذِي رحم محرم من أَزوَاجهنَّ من الذّكر وَالْأُنْثَى وهم فِي الْوَصِيَّة سَوَاء
وَلَو أوصى للأصهار فالصهر كل ذِي رحم محرم من زَوجته الذّكر وَالْأُنْثَى
وَلَو أوصى لأيتام بني فلَان فَإِنَّهُ يَقع على من لَا أَب لَهُ
وَلَو أوصى لأيامى بني فلَان فالأيم كل امْرَأَة لَا زوج لَهَا بكرا كَانَت أَو ثَيِّبًا وَعند مُحَمَّد يَقع على الثّيّب الأيم والأرملة كل امْرَأَة محتاجة أرملت من زَوجهَا وَمَالهَا
ثمَّ هَذِه الْوَصَايَا نَوْعَانِ فَالْوَصِيَّة لقوم يُحصونَ تقع على عدد رؤوسهم على السوَاء ذكرهم وأنثاهم غنيهم وفقيرهم صَغِيرهمْ وَكَبِيرهمْ
فَأَما إِذا كَانُوا لَا يُحْصى عَددهمْ فَهُوَ على ثَلَاثَة أوجه

(3/215)


إِن أوصى لأهل الْحَاجة نصا بِأَن قَالَ لفقراء بني تَمِيم أَو لمساكينهم وأراملهم فَإِنَّهُ يَصح لِأَن الْحق فِيهِ لله تَعَالَى والفقراء مصارف فَصَاحب الْحق مَعْلُوم فَصحت
وَالثَّانِي أَن يذكر اسْما لَا يدل على الْحَاجة لَا عرفا وَلَا لُغَة كَقَوْلِه أوصيت لبني فلَان أَو لأيامى بني فلَان أَو لشبانهم أَو لكهولهم أَو لشيوخهم فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الْوَصِيَّة تقع لَهُم وهم مَجْهُولُونَ
وَالثَّالِث أَن يكون الِاسْم قد يَقع على الْفُقَرَاء إِمَّا فِي عرف اللُّغَة أَو فِي عرف الشَّرْع كَمَا إِذا أوصى لأيتام بني فلَان أَو لعميانهم أَو لزمناهم لقَوْله تَعَالَى {واليتامى وَالْمَسَاكِين} فَمَتَى كَانُوا لَا يُحصونَ يسْتَدلّ بِهِ أَنه أَرَادَ بِهِ الْفُقَرَاء مِنْهُم تَصْحِيحا للْوَصِيَّة بِخِلَاف مَا إِذا كَانُوا يُحصونَ فَإِنَّهُ يَقع على الْأَغْنِيَاء والفقراء جَمِيعًا لِأَنَّهُ يُمكن الْعَمَل بِحَقِيقَة الِاسْم لِأَن الْوَصِيَّة تصح لَهُم
وَلَو أوصى لغلمان بني فلَان ولصبيانهم يَقع على من لم يَحْتَلِم
وَلَو قَالَ لشبانهم أَو لفتيانهم يَقع على من بلغ مِنْهُم إِلَى أَن يصير كهلا وَدخل فِي الثَّلَاثِينَ إِلَّا إِذا غَلبه الشمط قبل ذَلِك
والكهل يَقع على من دخل فِي الثَّلَاثِينَ إِلَى خمسين إِلَّا إِذا غلب الْبيَاض
وَالشَّيْخ يَقع على الْخمسين إِلَى آخر الْعُمر إِلَّا إِذا غلب الْبيَاض قبله هَذَا هُوَ الْأَشْبَه من الْأَقْوَال

(3/216)


فصل فِي الْإِيصَاء
الله جلّ ذكره نقُول الْإِيصَاء جَائِز
وَلَا بُد لَهُ من الْقبُول من الْمُوصي لِأَنَّهُ مُتَبَرّع بِالْعَمَلِ فِيهِ فَلَا بُد من قبُوله
وَكَانَ يَنْبَغِي أَن يعْتَبر الْقبُول بعد الْمَوْت كَمَا فِي الْوَصِيَّة بِالْمَالِ لِأَنَّهُ إِيجَاب بعد الْمَوْت لَكِن جَازَ هَاهُنَا الْقبُول فِي حَال الْحَيَاة بِخِلَاف الْوَصِيَّة بِالْمَالِ لضَرُورَة أَن الْمَيِّت إِنَّمَا يُوصي إِلَى من يعْتَمد عَلَيْهِ من الأصدقاء والأمناء فَلَو اعْتبر الْقبُول بعد الْمَوْت فَرُبمَا لَا يقبل فَلَا يحصل غَرَضه وَهُوَ الْمُوصي الَّذِي اخْتَارَهُ
وَإِذا صَحَّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن كَانَ الْمُوصي حَاضرا أَو غَائِبا
فَإِن كَانَ حَاضرا وَقبل مُوَاجهَة صَحَّ
وَلَو أَرَادَ أَن يرد الْوِصَايَة وَيرجع لَا يَصح بِدُونِ محْضر الْمُوصي أَو علمه لما فِيهِ من الْغرُور بِهِ
وَإِذا رد فِي المواجهة صَحَّ
فَأَما إِذا كَانَ غَائِبا فَبَلغهُ الْخَبَر فَقبل فَلَا يَصح رده إِلَّا بِحَضْرَة الْمُوصي
وَإِذا بلغه وَلم يقبل ورده صَحَّ بِغَيْر محضره لِأَنَّهُ لَيْسَ بغرور
وَأما إِذا بلغه بعد الْمَوْت فَإِذا قبل أَو تصرف فِي التَّرِكَة تَصرفا يدل

(3/217)


على قبُوله فَلَا يَصح رده إِلَّا عِنْد الْحَاكِم لِأَنَّهُ قَائِم مقَام الْمُوصي كَالْوَكِيلِ لَا يملك عزل نَفسه فِي حَال غيبَة الْمُوكل وَيملك فِي حَال حَضرته
فَأَما إِذا لم يقبل ورد كَمَا علم يَصح وَله الْخِيَار بَين أَن يقبل وَيرد لِأَنَّهُ مُتَبَرّع فِي الْعَمَل فَلَا يجْبر عَلَيْهِ
وَلَو لم يعلم القَاضِي بِأَن للْمَيت وَصِيّا وَالْوَصِيّ غَائِب فأوصى إِلَى رجل فالوصي هُوَ وَصِيّ الْمَيِّت دون وَصِيّ القَاضِي لِأَنَّهُ اتَّصل بِهِ اخْتِيَار الْمَيِّت كَمَا إِذا كَانَ القَاضِي عَالما
ثمَّ للْقَاضِي أَن يعْزل وَصِيّ الْمَيِّت إِذا كَانَ فَاسِقًا غير مَأْمُون على التَّرِكَة
وَإِن كَانَ ثِقَة لكنه ضَعِيف لَا يقدر على التَّصَرُّف وَحفظ التَّرِكَة بِنَفسِهِ فَإِن القَاضِي يضم إِلَيْهِ غَيره وَلَا يعزله لاعتماد الْمُوصي عَلَيْهِ لأمانته فيحصيل الْغَرَض بهما
وَلَو أوصى الْمَيِّت إِلَى رجل ثمَّ أوصى إِلَى آخر كَانَ هَذَا اشتراكا فِي الْوِصَايَة مَا لم ينص على عزل الأول وإخراجه
وَكَذَلِكَ هَذَا من القَاضِي
وَلَو أَنه أوصى إِلَى رجل بِقَضَاء دينه وَأوصى إِلَى آخر بِأَن يعْتق عَنهُ فَهُوَ وصيان فيهمَا جَمِيعًا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَكَذَلِكَ إِذا أوصى بِنَصِيب بعض وَلَده إِلَى رجل وبنصيب من بَقِي إِلَى آخر
وعَلى هَذَا لَو أوصى بميراثه فِي بلد إِلَى رجل وَفِي بلد آخر إِلَى آخر
وَكَذَلِكَ لَو أوصى بتقاضي الدّين إِلَى رجل وبنفقة الْوَرَثَة إِلَى آخر وبحفظ

(3/218)


المَال إِلَى آخر
وَكَذَا إِذا أوصى إِنْسَان للْحَال وَإِلَى آخر إِن قدم فَإِذا قدم فلَان فَهُوَ وَصِيّ دون الأول فهما وصيان فِي ذَلِك كُله عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف خلافًا ل مُحَمَّد لِأَن الْوِصَايَة لَا تتجزأ عِنْدهمَا مَتى ثبتَتْ فِي الْبَعْض تثبت فِي الْكل
وَرُوِيَ عَن أبي حنيفَة فِيمَن أوصى إِلَى فلَان حَتَّى يقدم فلَان فَإِذا قدم فَهُوَ الْوَصِيّ دون الأول فَهُوَ كَمَا قَالَ فَيكون عَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي هَذَا
وَيجوز أَن يكون الأول قَول أبي يُوسُف خَاصَّة
وَعند وَمُحَمّد كل وَاحِد مِنْهُمَا وَصِيّ فِيمَا جعل إِلَيْهِ هَذَا هُوَ الْمَشْهُور من الْخلاف
وَلَو أوصى إِلَى رجل وَهُوَ وَصِيّ لرجل آخر فَإِنَّهُ يكون وَصِيّا فِي تركته وتركة الأول عندنَا خلافًا لِابْنِ أبي ليلى
وَلَو أوصى إِلَى رجلَيْنِ فَإِن أَحدهمَا لَا ينْفَرد بِتَصَرُّف يحْتَاج فِيهِ إِلَى الرَّأْي عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد
وَعند أبي يُوسُف ينْفَرد
ثمَّ إِن عِنْدهمَا ينْفَرد فِي أَشْيَاء مَخْصُوصَة بِأَن يكون فِي تَأْخِير التَّصَرُّف ضَرَر إِلَى حَضْرَة صَاحبه أَو لَا يحْتَاج فِيهِ إِلَى الرَّأْي وَذَلِكَ نَحْو شِرَاء الْكَفَن وجهاز الْمَيِّت وَكَذَا جمع الْأَمْوَال المتفرقة من قبض الدُّيُون والودائع وَالْمَغْصُوب
وَكَذَلِكَ فِي أَدَاء مَا على الْمَيِّت من رد الودائع وَالْمَغْصُوب وَقَضَاء الدّين وتنفيذ الْوَصِيَّة بِأَلفَيْنِ أَو بِأَلف مُرْسلَة أَو بِإِعْتَاق عبد بِعَيْنِه بِخِلَاف الْوَصِيَّة بأعمال الْبر أَو إِعْتَاق عبد غير معِين لِأَنَّهُ يحْتَاج فِيهِ إِلَى الرَّأْي
وَكَذَا شِرَاء مَا لَا بُد للْيَتِيم مِنْهُ نَحْو الْإِنْفَاق وَالْكِسْوَة وَكَذَا قبُول

(3/219)


الْهِبَة وَبيع مَا يتسارع إِلَيْهِ الْفساد لِأَن فِيهِ مَنْفَعَة للصَّبِيّ
وَهَكَذَا ينْفَرد بِالْخُصُومَةِ للْمَيت وَعَلِيهِ
وَلَو مَاتَ أحد الْوَصِيّين وَأوصى إِلَى رجل آخر جَازَ وَيكون قَائِما مقامة
وَإِن لم يوص إِلَى آخر فللقاضي أَن ينصب وَصِيّا آخر حَتَّى ينفذ تصرفهما عِنْدهمَا خلافًا لأبي يُوسُف
ثمَّ وَصِيّ الْأَب أولى من الْجد
فَإِن لم يكن فالجد ثمَّ وَصِيّ الْجد
فَإِن لم يكن فَالْقَاضِي ووصي القَاضِي
ثمَّ ينظر إِن كَانَ فِي التَّرِكَة دين يملك الْوَصِيّ بيع كل شَيْء لقَضَاء الدّين من الْعقار وَالْمَنْقُول
وَإِن لم يكن دين وَالْوَرَثَة كلهم صغَار يملك بيع كل شَيْء وإمساك ثمنه وَالتَّصَرُّف فِيهِ
وَإِن كَانَ كلهم كبارًا وهم حُضُور لَيْسَ لَهُ ولَايَة بيع شَيْء إِلَّا إِذا كَانَ فِيهِ وَصَايَا
وَإِن كَانُوا غيبا يملك بيع الْمَنْقُول لِأَن حفظ الثّمن أيسر وَله ولَايَة حفظ مَال الْغَائِب وَلَا يملك بيع الْعقار
وَإِن كَانَ بَعضهم صغَارًا وَبَعْضهمْ كبارًا غيبا يملك بيع الْعقار عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لَا يَصح فِي حِصَّة الْكِبَار
وَأما وَصِيّ الْأُم وَالْأَخ وَالْعم فَهَؤُلَاءِ بِأَنْفسِهِم يملكُونَ حفظ مَال الصَّبِي وَبيع الْمَنْقُول لِأَنَّهُ من بَاب الْحِفْظ

(3/220)


وَلَو قَالَ لرجل إِن مت من مرضِي هَذَا أَو فِي سَفَرِي هَذَا فَأَنت وَصِيّ فِي مَالِي فبرأ وَلم يمت حَتَّى رَجَعَ من السّفر ثمَّ مَاتَ لَا يكون وَصِيّا لِأَنَّهُ تعلق بِشَرْط خَاص وَلم يُوجد
وَلَو أوصى إِلَى عبد إِنْسَان أَو إِلَى ذمِّي أَو إِلَى صبي عَاقل فَإِنَّهُ لَا ينفذ ويخرجه القَاضِي
وَلَو عتق العَبْد وَأسلم الذِّمِّيّ قبل إِخْرَاج القَاضِي تنفذ الْوَصَايَا
وَإِذا بلغ الصَّبِي لَا تنفذ عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا تنفذ
وَلَو تصرف العَبْد أَو الذِّمِّيّ قبل الْإِخْرَاج يَصح فِي رِوَايَة وَلَا يَصح فِي رِوَايَة وَفِي الصَّبِي لَا يَصح بِالْإِجْمَاع
وَلَو أوصى إِلَى عبد نَفسه فَإِن لم يكن فِي الْوَرَثَة كَبِير جَازَ عِنْد أبي حنيفَة خلافًا لَهما
وَلَو كَانَ فِي الْوَرَثَة كَبِير لَا يَصح بِالْإِجْمَاع

(3/221)


بَاب الرُّجُوع عَن الْوَصِيَّة
أصل الْبَاب أَن الرُّجُوع فِي الْوَصِيَّة صَحِيح لِأَنَّهُ تبرع لم يتم لِأَن الْقبُول فِيهِ بعد الْمَوْت فَيملك الرُّجُوع كالرجوع عَن الْإِيجَاب فِي البيع قبيل الْقبُول
وَإِذا ثَبت أَنه يَصح الرُّجُوع فِيهِ فَكل فعل يُوجد من الْمُوصي فِيهِ دلَالَة على تبقية الْملك لنَفسِهِ يكون رُجُوعا
وكل فعل يدل على إبْقَاء العقد وتنفيذ الْوَصِيَّة لَا يدل على الرُّجُوع كَمَا إِذا وجد مِنْهُ فعل لَو فعل فِي ملك غَيره يَنْقَطِع حق الْملك للْمَالِك وَيصير ملكا لَهُ
فَإِذا فعل بعد الْوَصِيَّة فِي الْمُوصى بِهِ مَا يدل على إبْقَاء الْملك فِيهِ لنَفسِهِ فَيكون رُجُوعا كَمَا إِذا أوصى بِثَوْب ثمَّ قطعه وخاطه ونظائره كَثِيرَة
وَكَذَا إِذا اتَّصَلت بِعَين الْمُوصى بِهِ زِيَادَة لَا يُمكن تمييزها وَلَا يسْتَحق عَلَيْهِ نقضهَا فَإِنَّهُ يكون رُجُوعا لِأَنَّهُ لَا يُمكن تَسْلِيمهَا إِلَّا بِتَسْلِيم تِلْكَ الزِّيَادَة وَلَا يجب عَلَيْهِ ذَلِك فَيدل على الرُّجُوع وَذَلِكَ كالسويق إذالته بالسمن أَو بني بِنَاء فِي الدَّار الْمُوصى بهَا وَكَذَلِكَ لَو أوصى بِقطن ثمَّ حَشا بِهِ قبَاء وضربه أَو بِثَوْب فَجعله ظهارة أَو بطانة لِأَنَّهُ لَا يجب عَلَيْهِ نقض ذَلِك لكَونه تَصرفا فِي ملكه
وَكَذَلِكَ لَو أَزَال الْمُوصى بِهِ عَن ملكه بِأَن بَاعهَا ثمَّ اشْتَرَاهَا

(3/223)


بطلت الْوَصِيَّة
وَلَو ذبح الشَّاة تبطل الْوَصِيَّة بِنَفس الذّبْح لِأَنَّهُ يدل على الرُّجُوع لِأَن الذَّبِيحَة لَا تبقى إِلَى مَا بعد الْمَوْت
وَلَو أوصى بقميص ثمَّ نقضه وَجعله قبَاء يكون رُجُوعا
وَلَو لم يخطه قبَاء لَكِن نقض الْقَمِيص فِيهِ اخْتِلَاف الْمَشَايِخ
وَلَو أوصى بدار ثمَّ جصصها أَو هدمها لَا يكون رُجُوعا لِأَن الْبناء تبع والتجصيص زِينَة
وَكَذَلِكَ لَو غسل الثَّوْب الْمُوصى بِهِ لإِزَالَة الْوَسخ
وَلَو قَالَ أوصيت بِهَذَا العَبْد لفُلَان ثمَّ قَالَ أوصيت بِهَذَا لفُلَان آخر يكون شركَة
وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي أوصيت بِهِ لفُلَان هُوَ لفُلَان يكون للثَّانِي وَلَا يكون شركَة
وَلَو قَالَ العَبْد الَّذِي أوصيت بِهِ لفُلَان فقد أوصيت بِهِ لفُلَان يكون شركَة
وَلَو أوصى ثمَّ أنكر الْوَصِيَّة وجحدها فالجحود لَا يكون رُجُوعا عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد يكون رُجُوعا
وَلَو أوصى بِعَبْد لإِنْسَان ثمَّ قَالَ مَا أوصيت لفُلَان فَهُوَ لعَمْرو وَهُوَ حَيّ ثمَّ مَاتَ عَمْرو قبل موت الْمُوصي يكون مِيرَاثا لِأَن الْوَصِيَّة انْتَقَلت إِلَى عَمْرو فَإِذا مَاتَ قبل موت الْمُوصي بطلت الْوَصِيَّة فَيكون مِيرَاثا
وَلَو قَالَ مَا أوصيت لفُلَان فَهُوَ لعقب عَمْرو وَعَمْرو حَيّ فَإِن مَاتَ عَمْرو قبل موت الْمُوصي فَهُوَ لوَرَثَة عَمْرو لأَنهم صَارُوا عقبا

(3/224)


لَهُ قبل نَفاذ الْوَصِيَّة بِالْمَوْتِ وَلَو مَاتَ الْمُوصي وَعَمْرو حَيّ فَتكون الْوَصِيَّة لفُلَان لِأَنَّهُ لم تنْتَقل الْوَصِيَّة إِلَيْهِم لِأَن الْعقب لَا يكون قبل موت عَمْرو
وَلَو أوصى بِسيف لإِنْسَان فَهُوَ لَهُ بغمده وحمائله عِنْد أبي حنيفَة وَزفر
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَهُ السَّيْف لَا غير
وَكَذَا لَو أوصى بالميزان والقبان والسرج فَعِنْدَ زفر يدْخل كل مَا كَانَ تَوَابِع ذَلِك الشَّيْء
وَعند أبي يُوسُف يدْخل مَا كَانَ مُتَّصِلا بِهِ
وَفِي الْمُصحف الَّذِي لَهُ غلاف عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف لَا يدْخل الغلاف
وَعند زفر يدْخل فَأَبُو يُوسُف مر على أَصله وَكَذَا زفر
وَأَبُو حنيفَة إِمَّا أَن يفرق بَين الْمُصحف وَسَائِر الْمسَائِل أَو يكون عَنهُ رِوَايَتَانِ
وَلَو أوصى بِشَيْء فِي الظّرْف فَإِن الْمُعْتَبر فِيهِ الْعَادة إِن كَانَ مِمَّا يُبَاع مَعَ الظّرْف يدْخل وَإِلَّا فَلَا

(3/225)