تحفة الفقهاء

كتاب الْكفَالَة
قَالَ يحْتَاج إِلَى بَيَان الْكفَالَة لُغَة وَشرعا وَإِلَى بَيَان أَلْفَاظ الْكفَالَة وَإِلَى بَيَان شَرَائِط صِحَّتهَا وَإِلَى بَيَان أَنْوَاع الْمَكْفُول بِهِ وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا
أما الأول فالكفالة لُغَة هِيَ الضَّم قَالَ الله تَعَالَى {وكفلها زَكَرِيَّا} أَي ضمهَا إِلَى نَفسه
وَفِي الشَّرْع ضم ذمَّة إِلَى ذمَّة فِي حق الْمُطَالبَة أَو فِي حق أصل الدّين على حسب مَا اخْتلف الْمَشَايِخ فِيهِ
وَأما أَلْفَاظ الْكفَالَة فَأن يَقُول الْكَفِيل للطَّالِب دَعه فَأَنا ضَامِن مَا عَلَيْهِ أَو كَفِيل بذلك أَو قبيل أَو زعيم أَو هُوَ إِلَيّ أَو عَليّ أَو هُوَ لَك

(3/237)


عِنْدِي أَو هُوَ لَك قبلي
وَقد ذكرنَا فِي كتاب الْإِقْرَار إِذا قَالَ لفُلَان عِنْدِي كَذَا يكون إِقْرَارا بالوديعة وَهَاهُنَا يكون ضمانا لِأَن قَوْله عِنْدِي يحْتَمل هُوَ فِي يَدي وَيحْتَمل هُوَ فِي ذِمَّتِي فَيَقَع على الْأَدْنَى وَهُوَ الْوَدِيعَة فَأَما الدّين فَلَا يكون إِلَّا فِي الذِّمَّة وَلَا يكون فِي الْيَد فَحمل على الْوُجُوب هَاهُنَا
وَأما شرائطها فَمن ذَلِك أَن يكون الْكَفِيل من أهل التَّبَرُّع لِأَن الْكفَالَة تبرع بِالْتِزَام المَال
فَلَا يَصح فِي الصَّبِي وَالْعَبْد الْمَحْجُور عَلَيْهِ
وَكَذَا لَا تصح كَفَالَة الْمكَاتب
وَكَذَا كَفَالَة الْمَرِيض لَا تصح إِلَّا من الثُّلُث كتبرعه
وَمن شَرطهَا أَيْضا أَن يكون الدّين صَحِيحا سَوَاء كَانَ على الصَّغِير أَو العَبْد الْمَحْجُور لِأَنَّهُ يُطَالب بعد الْعتْق
أما الْكفَالَة بِبَدَل الْكِتَابَة فَإِنَّهُ لَا تجوز لِأَنَّهُ لَيْسَ بدين صَحِيح لِأَنَّهُ لَا يجب للْمولى على عَبده شَيْء وَإِنَّمَا وَجب مُخَالفا للْقِيَاس لصِحَّة الْكِتَابَة نظرا للْعَبد حَتَّى يصل إِلَى الْعتْق
وَأما الْمَكْفُول بِهِ فنوعان الدُّيُون والأعيان
وَمَا الْكفَالَة بالديون فصحيحة بِلَا خلاف وَصَاحب الدّين بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ طَالب الْأَصِيل وَإِن شَاءَ طَالب الْكَفِيل وَلَا يُوجب بَرَاءَة الْأَصِيل عندنَا

(3/238)


وَعند ابْن أبي ليلى يُوجب الْبَرَاءَة وَهَذَا فَاسد لِأَنَّهُ يصير الْكفَالَة وَالْحوالَة سَوَاء
وَأيهمَا اخْتَار مُطَالبَته لَا يبرأ الآخر بِخِلَاف غَاصِب الْغَاصِب مَعَ الْغَاصِب فَإِن للْمَالِك أَن يضمن أَيهمَا شَاءَ وَإِذا اخْتَار تضمين أَحدهمَا لم يكن لَهُ اخْتِيَار الآخر
وَكَذَا فِي إِعْتَاق أحد الشَّرِيكَيْنِ الشَّرِيك السَّاكِت بِالْخِيَارِ بَين أَن يضمن الْمُعْتق إِن كَانَ مُوسِرًا وَبَين أَن يستسعي العَبْد فَإِذا اخْتَار أَحدهمَا لَيْسَ لَهُ أَن يخْتَار الآخر
وَجُمْلَة هَذَا أَن الْكَفِيل لَيْسَ لَهُ أَن يُطَالب الْمَكْفُول عَنهُ بِالْمَالِ قبل أَن يُؤَدِّي عَنهُ شَيْئا إِلَّا أَنه إِذا طُولِبَ طَالب الْمَكْفُول عَنهُ بالخلاص
فَإِن حبس كَانَ لَهُ أَن يحبس الْمَكْفُول عَنهُ
أما إِذا أدّى فَينْظر إِن كَانَ كفل بِغَيْر أمره فَلَا يرجع عندنَا خلافًا لمَالِك لِأَنَّهُ تبرع بِقَضَاء دين غَيره وَإِن كفل عَنهُ بأَمْره وَهُوَ مِمَّن يجوز إِقْرَاره على نَفسه بِالدّينِ وَيملك التَّبَرُّع يرجع عَلَيْهِ لِأَن الْكفَالَة فِي حق الْمَكْفُول عَنهُ استقراض وَهُوَ طلب الْقَرْض وَالْكَفِيل بِالْأَدَاءِ مقرض للمكفول عَنهُ ونائب عَنهُ فِي الْأَدَاء إِلَى الْمَكْفُول لَهُ وَفِي حق الْمَكْفُول لَهُ تمْلِيك مَا فِي ذمَّة الْمَكْفُول عَنهُ من الْكَفِيل بِمَا أَخذه من المَال فَيرجع عَلَيْهِ بِمَا أقْرضهُ حَتَّى إِن الصَّبِي الْمَحْجُور إِذا أَمر رجلا بِأَن يكفل عَنهُ فكفل وَأدّى لَا يرجع عَلَيْهِ لِأَن استقراض الصَّبِي لَا يتَعَلَّق بِهِ الضَّمَان وَأما العَبْد الْمَحْجُور فَلَا يرجع عَلَيْهِ إِلَّا بعد الْعتْق لما قُلْنَا
وَلَو وهب صَاحب الدّين المَال لأَحَدهمَا جَازَ وَذَلِكَ بِمَنْزِلَة أَدَاء المَال
وَكَذَا لَو مَاتَ الطَّالِب فورثه أَحدهمَا لِأَن بِالْهبةِ وَالْمِيرَاث يملك مَا فِي ذمَّته فَإِن كَانَ الْمَوْهُوب

(3/239)


لَهُ أَو الْوَارِث هُوَ الْكَفِيل فقد ملك مَا فِي ذمَّته فَيرجع على الْأَصِيل كَمَا لَو ملك ذَلِك بِالْأَدَاءِ
وَإِن كَانَ الْمَوْهُوب لَهُ أَو الْوَارِث هُوَ الْمَكْفُول عَنهُ برىء الْكَفِيل كَأَنَّهُ أدّى
وَلَو أَبْرَأ الطَّالِب الْأَصِيل فقد برئا جَمِيعًا
وَإِن أَبْرَأ الْكَفِيل برىء دون الْأَصِيل سَوَاء كَانَ ذَلِك بِأَمْر الْمَكْفُول عَنهُ أَو لَا
وَلَو قَالَ لأَحَدهمَا بَرِئت إِلَيّ من المَال فَهُوَ إِقْرَار بِالْقَبْضِ بالِاتِّفَاقِ لِأَن هَذَا اللَّفْظ يسْتَعْمل فِي الْأَدَاء
وَلَو قَالَ لأَحَدهمَا بَرِئت من المَال فَهُوَ إِقْرَار بِالْقَبْضِ عِنْد أبي يُوسُف كَأَنَّهُ قَالَ بَرِئت إِلَيّ من المَال
وَعند مُحَمَّد بِمَنْزِلَة قَوْله أَبْرَأتك من المَال
ثمَّ الْكَفِيل يرجع بِمَا ضمن لَا بِمَا أدّى لِأَنَّهُ ملك مَا فِي ذمَّة الْأَصِيل حَتَّى أَنه إِذا كَانَ عَلَيْهِ دَرَاهِم صِحَاح جَيِّدَة فَأدى زُيُوفًا وَتجوز بِهِ صَاحب الدّين فَإِنَّهُ يرجع بالجياد
وَكَذَا لَو أدّى عَنْهَا من الْمكيل وَالْمَوْزُون أَو الْعرُوض فَإِنَّهُ يرجع بِالدَّرَاهِمِ بِخِلَاف الْوَكِيل بِقَضَاء الدّين فَإِنَّهُ يرجع بِمَا أدّى لَا بِمَا على الْغَرِيم وَبِخِلَاف الصُّلْح إِذا صَالح من الْألف على خَمْسمِائَة فَإِنَّهُ يرجع بخمسائة لَا بِالْألف لِأَنَّهُ إِسْقَاط الْبَعْض
وَلَو كفل لرجل بِمَال إِلَى القطاف أَو إِلَى الْحَصاد أَو إِلَى الدياس أَو إِلَى النيروز أَو إِلَى المهرجان وَنَحْوهَا من الْآجَال المجهولة يَصح عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ بِخِلَاف البيع إِلَى هَذِه الْآجَال فَلَا يجوز بِالْإِجْمَاع
وَلَو كَانَ عَلَيْهِ ثمن بيع أَو دين حَال فَأَجله إِلَى هَذِه الْآجَال يَصح أَيْضا بِمَنْزِلَة الْكفَالَة
وَلَا خلاف فِي جَوَاز الْكفَالَة إِلَى أجل مَعْلُوم من الشَّهْر وَالسّنة وَنَحْوهَا

(3/240)


أما إِذا كفل إِلَى أجل مَجْهُول لَا يشبه آجال النَّاس مثل مَجِيء الْمَطَر وهبوب الرّيح فالأجل بَاطِل وَالْكَفَالَة جَائِزَة لِأَن الْكفَالَة وَردت منجزة لَكِن الْأَجَل بَاطِل فَلم يَصح التَّأْجِيل فَتبقى الْكفَالَة حَالَة
أما إِذا علق الْكفَالَة بِشَرْط فَإِن كَانَ ذَلِك سَببا لوُجُوب الْحق أَو وَسِيلَة إِلَى الْأَدَاء فِي الْجُمْلَة مثل أَن يَقُول إِذا قدم زيد أَو اسْتحق الْمَبِيع فالكفالة جَائِزَة لِأَنَّهُ سَبَب للوصول إِلَى الْأَدَاء لِأَن زيدا رُبمَا يكون مضاربا
فَأَما إِذا قَالَ إِذا جَاءَ الْمَطَر أَو هبت الرّيح أَو دخل زيد دَارنَا فَأَنا كَفِيل عنْدك بِكَذَا فَإِنَّهُ لَا يجوز لِأَن الْأَمْوَال لَا يجوز أَن يتَعَلَّق وُجُوبهَا بِالشُّرُوطِ
وَلَو كَانَ على رجل دين مُؤَجل فكفل بِهِ رجل مُطلقًا فَإِنَّهُ يكون مُؤَجّلا لِأَنَّهُ الْتزم مثل مَا على الْأَصِيل فَإِن سمي الْكَفِيل أَََجَلًا زَائِدا عَلَيْهِ أَو نَاقِصا أَو مثله يلْزمه كَذَلِك لِأَنَّهُ مُتَبَرّع فَيلْزمهُ على حسب مَا تبرع بِهِ
وَلَو كَانَ المَال حَالا فكفل إِنْسَان مُؤَجّلا بِأَمْر الْمَكْفُول لَهُ فَإِنَّهُ يجوز فَيكون تأجيلا فِي حَقّهمَا فِي ظَاهر الرِّوَايَة
وَفِي رِوَايَة ابْن سَمَّاعَة عَن مُحَمَّد أَنه حَال على الْأَصِيل مُؤَجل فِي حق الْكَفِيل
وَلَو كفل عَن رجل لرجل والمكفول لَهُ غَائِب فَبَلغهُ الْخَبَر فَأجَاز لَا يَصح وَلَا تتَوَقَّف الْكفَالَة على قبُوله وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَقَالَ أَبُو يُوسُف خلافًا لَهما فَهَذَا كَذَلِك إِلَّا أَنَّهُمَا استحسنا فِي الْمَرِيض إِذا قَالَ عِنْد مَوته لوَرثَته اضمنوا مَا عَليّ من الدّين لغرمائي وهم غيب فَفَعَلُوا فَهُوَ جَائِز ويلزمهم نظرا للْغُرَمَاء

(3/241)


وَلَو كفل رجلَانِ رجلا بِأَلف دِرْهَم بأَمْره وَلم يكفل كل وَاحِد عَن صَاحبه فَإِن على كل وَاحِد مِنْهُمَا خَمْسمِائَة لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْكفَالَة
وَلَو أدّى أَحدهمَا لَا يرجع على صَاحبه لِأَنَّهُ يُؤَدِّي عَن نَفسه لَا عَن صَاحبه لَكِن يرجع على الْأَصِيل بِمَا أدّى
وَلَو لَقِي الْمَكْفُول لَهُ الكفيلين يعد ذَلِك فكفل أَحدهمَا عَن صَاحبه صَحَّ لِأَن الْكفَالَة عَن الْكَفِيل صَحِيحَة ثمَّ مَا أدّى فَالْقَوْل قَوْله إِنَّه أدّى من كَفَالَة الْكَفِيل الآخر أَو من كَفَالَة نَفسه لِأَنَّهُ لزمَه المَال من وَجْهَيْن
وَلَو لَقِي الْمَكْفُول لَهُ الْكَفِيل الآخر الَّذِي لم يكفل فَطلب مِنْهُ أَن يكفل عَن صَاحبه وكفل صَحَّ وَالْجَوَاب فِيهِ وَفِيمَا إِذا كَانَ فِي الِابْتِدَاء كفل كل وَاحِد من الكفيلين عَن صَاحبه سَوَاء وَهُوَ أَن كل مَا يُؤَدِّي كل وَاحِد مِنْهُمَا إِلَى الْمَكْفُول لَهُ فَذَلِك عَن نَفسه إِلَى خَمْسمِائَة
وَلَو قَالَ أؤدي عَن شَرِيكي لَا عَن نَفسِي لَا يقبل وَيكون عَن نَفسه
فَأَما إِذا زَاد على خَمْسمِائَة فَيرجع بِالزِّيَادَةِ على شَرِيكه إِن شَاءَ وَإِن شَاءَ على الْمَكْفُول عَنهُ
وعَلى هَذَا إِذا اشْترى رجلَانِ من رجل عبدا بِأَلف دِرْهَم على أَن كل وَاحِد مِنْهُمَا كَفِيل عَن صَاحبه ثمن حِصَّته
وَكَذَا الْجَواب فِي المفاوضين بعد فسخ الشّركَة إِذا كَانَ عَلَيْهِمَا دين لصَاحبه أَن يُطَالب بِهِ كل وَاحِد مِنْهُمَا وَإِذا أدّى أَحدهمَا النّصْف لَا يرجع فَإِذا أدّى زِيَادَة على النّصْف لَهُ أَن يرجع على صَاحبه لِأَن كل وَاحِد مِنْهُمَا كَفِيل عَن صَاحبه
وَأما الْكفَالَة بالأعيان فَهِيَ أَنْوَاع ثَلَاثَة أَحدهمَا كَفَالَة بِعَين هِيَ أَمَانَة غير وَاجِبَة التَّسْلِيم كَالْوَدِيعَةِ وَكَمَال الْمُضَاربَة وَالشَّرِكَة وَهِي لَا تصح أصلا

(3/242)


وَالثَّانِي الْكفَالَة بِعَين هِيَ أَمَانَة وَلكنهَا وَاجِبَة التَّسْلِيم كالعارية وَالْمُسْتَأْجر فِي يَد الْمُسْتَأْجر وَكَذَا الْعين الْمَضْمُونَة بغَيْرهَا كَالْمَبِيعِ قبل الْقَبْض مَضْمُون بِالثّمن وكالرهن مَضْمُون بِالدّينِ وَالْجَوَاب فِي الْكل وَاحِد وَهُوَ أَنه تصح الْكفَالَة بِتَسْلِيم الْعين فَمَتَى هَلَكت الْعين لَا يجب على الْكَفِيل قيمَة الْعين
وَالثَّالِث الْعين الْمَضْمُونَة بِقِيمَتِهَا كالمغصوب وَالْمَبِيع بيعا فَاسِدا والمقبوض على سوم الشِّرَاء تصح الْكفَالَة بهَا وَيجب عَلَيْهِ تَسْلِيم الْعين مَا دَامَت بَاقِيَة وَإِذا هَلَكت يجب عَلَيْهِ تَسْلِيم قيمتهَا مَتى ثَبت الْغَصْب بِالْبَيِّنَةِ أَو الْإِقْرَار
ثمَّ الْكفَالَة بِالنَّفسِ بعد الدَّعْوَى من قبيل الْقسم الثَّانِي فَإِنَّهُ مَضْمُون بِالتَّسْلِيمِ وَإنَّهُ يجب عَلَيْهِ تَسْلِيم النَّفس والحضور إِلَى بَاب القَاضِي حَتَّى يُقيم الْخصم الْبَيِّنَة فَتَصِح الْكفَالَة بِهِ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَلَكِن لَو هلك الْكَفِيل لَا شَيْء عَلَيْهِ من المَال الْمُدعى بِهِ حَتَّى لَا يُؤْخَذ من تركته وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَكَذَا لَو كفل بِنَفس من عَلَيْهِ التَّعْزِير
أما لَو كفل بِنَفس من عَلَيْهِ حد الْقَذْف أَو حد السّرقَة أَو الْقصاص هَل يجوز ذكر أَبُو الْحسن أَن الْكفَالَة بِالنَّفسِ فِي الْحُدُود وَالْقصاص جَائِزَة فِي قَوْلهم إِذا بذلها الْمَطْلُوب بِنَفسِهِ وَلَكِن هَل للْقَاضِي أَن يَأْمُرهُ بالتكفيل إِذا طلب الْخصم قَالَ أَبُو حنيفَة لَا يَأْخُذ القَاضِي مِنْهُ كَفِيلا وَلَكِن يحْبسهُ حَتَّى تُقَام عَلَيْهِ الْبَيِّنَة أَو يَسْتَوْفِي
ثمَّ الْكَفِيل بِالنَّفسِ يُؤْخَذ بإحضار الْمَكْفُول عَنهُ مَا دَامَ إحضارة مُمكنا مَقْدُورًا
فَإِن صَار بِحَال لَا يقدر على إِحْضَاره بِوَجْه من الْوُجُوه بِأَن مَاتَ بطلت الْكفَالَة وَلَا شَيْء على الْكَفِيل فَأَما إِذا كَانَ يُرْجَى حُضُور الْمَكْفُول عَنهُ بِأَن غَابَ فَإِنَّهُ يتَأَخَّر الْمُطَالبَة بالإحضار عَن

(3/243)


الْكَفِيل للْحَال ويؤجل إِلَى مُدَّة يُمكنهُ الْإِحْضَار فِي تِلْكَ الْمدَّة فَإِن لم يحضرهُ وَظَهَرت مماطلته فَإِنَّهُ يحبس الْكَفِيل فَإِذا ظهر للْقَاضِي أَنه لَا يقدر على الْإِحْضَار بِدلَالَة الْحَال أَو شهد الشُّهُود بذلك فَإِنَّهُ يخرج من الْحَبْس وَينظر إِلَى وَقت الْقُدْرَة كَمَا فِي الْإِعْسَار فِي حق الدّين وَإِذا أخرجه القَاضِي فَإِن الْغُرَمَاء يلازمونه وَلَا يحول القَاضِي بَينه وَبَين الْغُرَمَاء وَلَكِن لَيْسَ للْغُرَمَاء أَن يمنعوه من اشْتِغَاله كَمَا فِي الإفلاس سَوَاء
هَذَا إِذا كفل بِالنَّفسِ مُطلقًا
فَأَما إِذا ادّعى عَلَيْهِ ألف دِرْهَم فكفل بِنَفسِهِ على أَن يوافيه بِهِ غَدا فَإِن لم يوافه بِهِ غَدا فَعَلَيهِ المَال الَّذِي ادّعى فَإِن أقرّ الْمَطْلُوب بِالْألف أَو ثَبت بِالْبَيِّنَةِ وَقضى القَاضِي وكفل على هَذَا الْوَجْه صحت الْكفَالَة بِالنَّفسِ وَتَصِح الْكفَالَة بِالْمَالِ مُعَلّقا بِشَرْط ترك الموافاة غَدا وَالْكَفَالَة بِالشّرطِ صَحِيحَة فَإِذا لم يواف بِهِ غَدا يُؤْخَذ مِنْهُ المَال بِسَبَب الْكفَالَة بِالْمَالِ وَبقيت الْكفَالَة بِالنَّفسِ لِأَن من حجَّته أَن يَقُول لي عَلَيْهِ مَال آخر
وَلَو قَالَ كفلت بِنَفسِهِ على أَنِّي إِن لم أواف بِهِ غَدا فعلي الْألف وَلم يقل الْألف الَّذين ادعيت فعلى قَول مُحَمَّد لَا تصح الْكفَالَة وعَلى قَوْلهمَا تصح كَأَنَّهُ قَالَ فعلي الْألف الَّذِي تَدعِي لِأَنَّهُ هِيَ الْمَعْهُودَة
فَأَما إِذا أنكر الْمَطْلُوب المَال ثمَّ كفل بِنَفسِهِ على أَن يوافيه بِهِ غَدا وَإِن لم يواف بِهِ فَعَلَيهِ المَال فَلم يوافه بِهِ لَا يلْزمه المَال لِأَن وجوب المَال لَا يتَعَلَّق بالخطر أما الْكفَالَة بِالْمَالِ الثَّابِت فَيتَعَلَّق بالخطر
وَلَو كفل بِالنَّفسِ وَالْمَال وَسَماهُ ثمَّ قَالَ إِن وافيتك بِهِ غَدا فَأَنا

(3/244)


بَرِيء مِنْهُ فوافاه بِهِ من الْغَد يبرأ من المَال فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ وَفِي رِوَايَة لَا يبرأ لِأَن هَذَا تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِالشّرطِ وَفِي الْبَرَاءَة معنى التَّمْلِيك فَلَا يَصح تَعْلِيقه بِالشّرطِ
وَلَو كفل بِالنَّفسِ على أَن يوافي بِهِ عِنْد القَاضِي غَدا فسلمه إِلَيْهِ فِي السُّوق فَإِنَّهُ يبرأ
وَالْأَصْل أَنه إِذا سلمه فِي مَكَان يقدر على أَن يحضرهُ فِيهِ إِلَى القَاضِي فَهُوَ كتسليمه فِي مجْلِس القَاضِي
وَكَذَا إِذا سلمه فِي أَطْرَاف هَذَا الْمصر
وَلَو سلمه فِي قَرْيَة هَذَا الْمصر الَّتِي لَيْسَ فِيهَا قَاض لَا يبرأ
وَلَو كفل على أَن يدْفع فِي مصر معِين فَدفع فِي مصر آخر يبرأ عِنْد أبي حنيفَة وَفِي كل مَوضِع فِيهِ قَاض وَعِنْدَهُمَا لَا يبرأ مَا لم يسلم فِي ذَلِك الْمصر بِعَيْنِه

(3/245)