تحفة الفقهاء

كتاب الصُّلْح
الصُّلْح مَشْرُوع بِالْكتاب وَالسّنة وَالْإِجْمَاع
أما الْكتاب فَقَوله تعالي {وَإِن امْرَأَة خَافت من بَعْلهَا نُشُوزًا أَو إعْرَاضًا فَلَا جنَاح عَلَيْهِمَا أَن يصلحا بَينهمَا صلحا وَالصُّلْح خير}
وَأما السّنة فَمَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه قَالَ الصُّلْح جَائِز بَين الْمُسلمين إِلَّا صلحا أحل حَرَامًا أَو حرم حَلَالا
وَعَلِيهِ الْإِجْمَاع
ثمَّ الصُّلْح أَنْوَاع ثَلَاثَة أَحدهَا الصُّلْح عَن إِقْرَار الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ جَائِز بِالْإِجْمَاع
وَالثَّانِي الصُّلْح عَن إِنْكَاره وَهُوَ جَائِز عندنَا
وَقَالَ ابْن أبي ليلى لَا يجوز وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَالثَّالِث الصُّلْح عَن سكُوت الْمُدعى عَلَيْهِ وَهُوَ جَائِز أَيْضا عندنَا وَهُوَ قَول ابْن أبي ليلى
وَقَالَ الشَّافِعِي لَا يجوز وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ الصُّلْح بَين الْمُدَّعِي وَالْمُدَّعى عَلَيْهِ أَو بَين الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيّ

(3/249)


أما الأول فَلَا يَخْلُو إِمَّا أَن تكون الدَّعْوَى فِي الْعين الْقَائِمَة أَو فِي الدّين وَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ الصُّلْح عَن إِنْكَار أَو عَن إِقْرَار
أما إِذا كَانَت الدَّعْوَى فِي الْأَعْيَان الْقَائِمَة وَالصُّلْح عَن إِقْرَار فَإِن هَذَا الصُّلْح فِي معنى البيع من الْجَانِبَيْنِ فَمَا يجوز فِي البيع يجوز فِي الصُّلْح وَمَا لَا فَلَا
فَإِن كَانَ الْمُدعى بِهِ عرُوضا أَو عقارا أَو حَيَوَانا من العبيد وَالدَّوَاب يجوز الصُّلْح إِذا كَانَ بدل الصُّلْح عينا قَائِما معينا مَمْلُوكا لَهُ سَوَاء كَانَ كيليا أَو وزنيا أَو غير ذَلِك من الْحَيَوَان وَالْعرُوض
أما إِذا كَانَ دينا فَإِن كَانَ شَيْئا من الْمكيل وَالْمَوْزُون مَعْلُوم الْقدر وَالصّفة يجوز كَمَا فِي البيع لِأَن هَذِه الْأَشْيَاء تصلح ثمنا عينا كَانَ أَو دينا
وَإِن كَانَ الْبَدَل ثيابًا مَوْصُوفَة فِي الذِّمَّة لَا يجوز مَا لم يُوجد فِيهِ جَمِيع شَرَائِط السّلم بِخِلَاف الكيلي والوزني فَإِنَّهُ يثبت دينا فِي الذِّمَّة مُطلقًا فِي الْمُعَاوضَة الْمُطلقَة فيصلح ثمنا من غير أجل
وَإِن كَانَ الْبَدَل حَيَوَانا مَوْصُوفا فِي الذِّمَّة لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يصير دينا فِي مُقَابلَة مَال بِمَال فَلَا يصلح ثمنا
وَإِن كَانَ الصُّلْح عَن إِنْكَار فَكَذَلِك الْجَواب فِي جَانب الْمُدَّعِي
فَأَما فِي جَانب الْمُدعى عَلَيْهِ فَهُوَ إِسْقَاط وَبدل عَمَّا لَيْسَ بِمَال
وعَلى هَذَا يثبت حق الشُّفْعَة فِي الْجَانِبَيْنِ فِي الصُّلْح عَن إِقْرَار حَتَّى أَن الْبَدَل إِذا كَانَ دَارا وَالْمُدَّعى بِهِ دَارا يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة فِي الدَّاريْنِ وَفِي الصُّلْح عَن إِنْكَار وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا يثبت للشَّفِيع الشُّفْعَة فِي الدَّار الَّتِي هِيَ بدل الصُّلْح دون الدَّار الَّتِي هِيَ مدعى بهَا لما قُلْنَا

(3/250)


وَكَذَا حق الرَّد بِالْعَيْبِ وَحكم الِاسْتِحْقَاق على هَذَا فِي الصُّلْح عَن إِقْرَار يثبت من الْجَانِبَيْنِ وَفِي الصُّلْح عَن إِنْكَار يثبت فِي جَانب الْمُدَّعِي لَا غير
أما إِذا كَانَ الْمُدعى بِهِ ذَهَبا أَو فضَّة فَإِن كَانَ الْبَدَل غير الذَّهَب وَالْفِضَّة فَإِنَّهُ يجوز الصُّلْح كَيْفَمَا كَانَ وَإِن كَانَ الْبَدَل ذَهَبا أَو فضَّة
فَإِن كَانَ الصُّلْح عَن إِقْرَار وَالْبدل من جنس الْمُدعى بِهِ فَلَا يَصح إِلَّا سَوَاء بِسَوَاء وَيشْتَرط التَّقَابُض
إِن كَانَ بِخِلَاف جنسه كالذهب مَعَ الْفضة يجوز مَعَ التَّفَاضُل وَلَكِن يشْتَرط الْقَبْض فِي الْمجْلس لِأَن هَذَا صرف فَيشْتَرط فِيهِ شَرَائِط الصّرْف
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِي الصُّلْح عَن إِنْكَار فِي حق الْمُدَّعِي
هَذَا كُله إِذا كَانَ الْمُدعى بِهِ عينا فَأَما إِذا كَانَ دينا فَإِن كَانَ دَرَاهِم أَو دَنَانِير وَبدل الصُّلْح عين مَال مَعْلُوم من غير الكيلي والوزني فَإِنَّهُ يجوز وَيكون ذَلِك بِمَنْزِلَة بيع الْعين بِالدّينِ إِن كَانَ عَن إِقْرَار
وَإِن كَانَ عَن إِنْكَار فَفِي حق الْمُدَّعِي كَذَلِك إِلَّا أَنه إِذا كَانَ الْبَدَل من الذَّهَب وَالْفِضَّة الَّتِي تتَعَيَّن كالتبر والأواني مِنْهُمَا يكون صرفا فَيشْتَرط التَّسَاوِي والتقابض فِي الْجِنْس والتقابض فِي خلاف الْجِنْس دون التَّسَاوِي
وَإِن كَانَ الْبَدَل من الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير فَإِن كَانَ من جنسه كَمَا إِذا كَانَ عَلَيْهِ ألف دِرْهَم جَيِّدَة فَصَالح من ذَلِك على ألف دِرْهَم جَيِّدَة أَو رَدِيئَة جَازَ وَيكون هَذَا اسْتِيفَاء عين حَقه وإبراء عَن صفته
وَإِن صَالح على خَمْسمِائَة جَيِّدَة أَو رَدِيئَة جَازَ وَيكون اسْتِيفَاء

(3/251)


للْبَعْض وإبراء عَن الْبَعْض
وَإِن صَالح على ألف دِرْهَم لَا يجوز لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء فَيجْعَل صرفا والتساوي شَرط لصِحَّة الصّرْف عِنْد اتِّحَاد الْجِنْس
وأصل هَذَا أَن الصُّلْح مَتى وَقع على جنس مَا هُوَ الْمُسْتَحق بِعقد المداينة يَجْعَل اسْتِيفَاء وَإِن لم يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء يكون صرفا فَيشْتَرط فِيهِ شَرَائِط الصّرْف
وعَلى هَذَا إِذا صَالح من ألف دِرْهَم رَدِيء على خَمْسمِائَة جَيِّدَة لَا يجوز لِأَن مُسْتَحقّ الرَّدِيء لَا يسْتَحق الْجيد فَلَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء فَيكون صرفا وَبيع ألف دِرْهَم رَدِيء بِخَمْسِمِائَة جَيِّدَة لَا يجوز لِأَنَّهُ رَبًّا
وَلَو صَالح من ألف سود على ألف بيض وَسلمهَا فِي الْمجْلس جَازَ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِاسْتِيفَاء وَهُوَ صرف فَإِذا وجد التَّقَابُض وهما فِي مجْلِس وَاحِد جَازَ لِأَن الْجَوْدَة لَا قيمَة لَهَا عِنْد مقابلتها بجنسها
وَإِن افْتَرقَا بَطل
وَلَو صَالح عَن ألف بيض على خَمْسمِائَة سود جَازَ وَيكون هَذَا حطا عَن الْقدر وَالصّفة وَاسْتِيفَاء لبَعض الأَصْل
وَلَو صَالح من الدّين الْحَال على الْمُؤَجل وهما فِي الْقدر سَوَاء جَازَ وَيكون هَذَا تأجيلا للدّين
وَلَو كَانَ على الْعَكْس يجوز أَيْضا وَيكون اسْتِيفَاء وَيصير الآخر تَارِكًا حَقه وَهُوَ الْأَجَل
وَلَو كَانَ الدّين مُؤَجّلا وَصَالح على بعضه معجلا لَا يجوز لِأَن صَاحب الدّين الْمُؤَجل لَا يسْتَحق الْمُعَجل فَلَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء فَصَارَ عوضا وَبيع خَمْسمِائَة بِأَلف لَا يجوز

(3/252)


وَلَو كَانَ الْبَدَل بِخِلَاف جنسه بِأَن صَالح من الدَّرَاهِم على الدَّنَانِير فَإِن وجد التَّقَابُض يجوز وَإِلَّا فَلَا لِأَنَّهُ لَا يُمكن أَن يَجْعَل اسْتِيفَاء لاخْتِلَاف الْجِنْس فَيصير صرفا فَيشْتَرط شَرَائِط الصّرْف
وَكَذَا فِي سَائِر الوزنيات إِذا كَانَت مَوْصُوفَة فِي الذِّمَّة لِأَنَّهُ افترق عَن دين بدين
وعَلى هَذَا إِذا كَانَ الدّين كيليا فَصَالح على جنسه أَو على خلاف جنسه على الْفُصُول الَّتِي ذكرنَا من غير تفَاوت
وَأما إِذا كَانَ بدل الصُّلْح الْمَنَافِع بِأَن كَانَ على رجل عشرَة دَرَاهِم فَصَالح من ذَلِك على مَنْفَعَة الدَّار سنة أَو ركُوب الدَّابَّة سنة وَنَحْو ذَلِك فَإِنَّهُ يجوز وَيكون إِجَارَة إِن كَانَ الصُّلْح عَن إِقْرَار من الْجَانِبَيْنِ
وَإِن كَانَ عَن إِنْكَار من جَانب الْمُدَّعِي فَكل حكم عرف فِي الْإِجَارَة فَهُوَ الحكم هَاهُنَا فِي موت الْعَاقِدين وهلاك الْمُسْتَأْجر والاستحقاق من غير تفَاوت وَقد ذكرنَا فِي الْإِجَارَة إِلَّا أَن فِي الصُّلْح عَن إِقْرَار يرجع إِلَى الْمُدعى بِهِ وَفِي الصُّلْح عَن إِنْكَار يرجع إِلَى أصل الدَّعْوَى
وَإِن كَانَ الدّين الْمُدعى بِهِ حَيَوَانا بِأَن وَجب فِي الذِّمَّة عَن قتل الْخَطَأ أَو فِي الْمهْر وَبدل الْخلْع فَصَالح على دَرَاهِم فِي الذِّمَّة وافترقا من غير قبض جَازَ وَإِن كَانَ هَذَا دينا بدين لِأَن هَذَا لَيْسَ بمعاوضة بل اسْتِيفَاء عين حَقه لِأَن الْحَيَوَان الَّذِي وَجب فِي الذِّمَّة لم يكن وُجُوبه لَازِما حَتَّى إِن من عَلَيْهِ إِذا جَاءَ بِقِيمَتِه يجْبر من لَهُ على الْقبُول بِخِلَاف سَائِر الدُّيُون
هَذَا الَّذِي ذكرنَا إِذا كَانَ الْمُدعى بِهِ مَالا فَأَما إِذا كَانَ حقوقا لَيست بِمَال فَصَالح مِنْهَا على بدل هُوَ مَال فَهَذَا على ضَرْبَيْنِ ضرب يجوز وَضرب لَا يجوز

(3/253)


أما الضَّرْب الَّذِي يجوز فنحو الصُّلْح عَن مُوجب الْعمد فِي النَّفس وَمَا دون النَّفس على أَي بدل كَانَ دينا كَانَ أَو عينا أقل من الدِّيَة وَأرش الْجِنَايَة أَو أَكثر لِأَن هَذَا بدل الْقصاص لَا بدل الدِّيَة إِلَّا أَن الْبَدَل إِذا كَانَ دينا لَا بُد من الْقَبْض فِي الْمجْلس حَتَّى لَا يكون افتراقا عَن دين بدين
وبمثله لَو كَانَ الصُّلْح فِي قتل الْخَطَأ وجراح الْخَطَأ فِيمَا ذكرنَا من جَوَاز الصُّلْح وَاشْتِرَاط الْقَبْض فِي الدّين إِلَّا أَن الْفرق بَين الْعمد وَالْخَطَأ أَن فِي الْعمد الصُّلْح على أَكثر من الدِّيَة وَالْأَرْض جَائِز وَفِي الْخَطَأ على أَكثر من الدِّيَة وَالْأَرْش لَا يجوز لِأَن هَا هُنَا الْأَرْش وَالدية مقدران شرعا وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ رَبًّا فَلَا يجوز فَهُوَ الْفرق
ثمَّ ينظر إِن كَانَ الْبَدَل مِمَّا يصلح مهْرا فِي النِّكَاح وَتَصِح تَسْمِيَته يجب ذَلِك
وَإِن كَانَ مِمَّا لَا يصلح مهْرا وَلَا تصح تَسْمِيَته وَيجب فِي ذَلِك مهر الْمثل تجب هَاهُنَا دِيَة النَّفس فِي الْقَتْل وَأرش الْجِنَايَة فِيمَا دون النَّفس إِلَّا فِي فصل وَاحِد وَهُوَ أَنه إِذا صَالح على خمر أَو خِنْزِير فِي الْعمد فَإِن كَانَ فِي النِّكَاح يجب مهر الْمثل وَهَاهُنَا يسْقط الْقصاص وَلَا يجب شَيْء وَيكون ذَلِك عفوا مِنْهُ
وَمَا عرفت من الْجَواب فِي الصُّلْح عَن دم الْعمد فَهُوَ الْجَواب فِي الْخلْع وَالْعِتْق على مَال وَالْكِتَابَة فِيمَا ذكرنَا
وَأما الضَّرْب الثَّانِي فأنواع كَثِيرَة مِنْهَا أَن المُشْتَرِي إِذا صَالح مَعَ الشَّفِيع عَن حق الشُّفْعَة على مَال مَعْلُوم لَا يجوز
وَمِنْهَا أَن الْكَفِيل بِالنَّفسِ إِذا صَالح الْمَكْفُول لَهُ بِمَال مَعْلُوم على أَن يبرأ من الْكفَالَة فَالصُّلْح بَاطِل وَالْكَفَالَة لَازِمَة
وَلَو كَانَ لرجل ظلة على طَرِيق نَافِذَة أَو كنيف شَارِع فخاصمه رجل

(3/254)


فِيهِ وَأَرَادَ طَرحه فَصَالحه على دَرَاهِم فَالصُّلْح بَاطِل لِأَن هَذَا حق لجَماعَة الْمُسلمين وَلم يكن لَهُ حق مُعْتَبر حَتَّى يكون إِسْقَاطًا لحقه
وبمثله لَو كَانَ الطَّرِيق غير نَافِذ فخاصمه رجل من أهل الطَّرِيق فَصَالحه على دَرَاهِم مُسَمَّاة فَالصُّلْح جَائِز لِأَنَّهُ مُشْتَرك بَين جمَاعَة محصورة فَيكون جُزْء مِنْهُ ملكا لهَذَا الْوَاحِد فَيكون صلحا عَن حَقه وَفِيه فَائِدَة لاحْتِمَال أَن يُصَالح الْبَقِيَّة بِخِلَاف الأول لِأَنَّهُ لَا يتَصَوَّر الصُّلْح من جَمِيع النَّاس
وَلَو ادّعى رجل على رجل مائَة دِرْهَم فأنكرها الْمُدعى عَلَيْهِ فَصَالح الْمُدَّعِي على أَنه إِن حلف الْمُدعى عَلَيْهِ فَهُوَ بَرِيء فَحلف الْمُدعى عَلَيْهِ مَا لهَذَا الْمُدَّعِي قَلِيل وَلَا كثير فَإِن الصُّلْح بَاطِل وَالْمُدَّعِي على دَعْوَاهُ فَإِن أَقَامَ بَيِّنَة أَخذه بهَا وَإِن لم يكن لَهُ بَيِّنَة وَأَرَادَ استحلافه لَهُ ذَلِك وَإِنَّمَا بَطل ذَلِك لِأَنَّهُ إِبْرَاء مُعَلّق بِالشّرطِ وَهُوَ فَاسد لِأَن فِيهِ معنى التَّمْلِيك
وَأما الِاسْتِحْلَاف فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن حلف فِي غير مجْلِس القَاضِي فَلهُ أَن يحلفهُ ثَانِيًا لِأَن الْحلف فِي غير مجْلِس القَاضِي لَا عِبْرَة بِهِ فيحلفه ثَانِيًا
وَأما إِذا حلف فِي مجْلِس القَاضِي فَلَا يحلفهُ ثَانِيًا لِأَن حق الْمُدَّعِي فِي الْحلف صَار مُسْتَوْفِي مرّة فَلَا يجب عَلَيْهِ الْإِيفَاء ثَانِيًا
وَلَو اصطلحا على أَن يحلف الْمُدَّعِي فَمَتَى حلف فالدعوى لَازِمَة للْمُدَّعى عَلَيْهِ فَحلف الْمُدَّعِي على ذَلِك فَإِن الصُّلْح بَاطِل وَلَا يلْزم الْمُدعى عَلَيْهِ شَيْء بِهَذَا لِأَن هَذَا إِيجَاب المَال بِشَرْط وَهُوَ فَاسد
وَلَو ادّعى على امْرَأَة نِكَاحهَا فصالحها على مائَة دِرْهَم على أَن تقر لَهُ بِالنِّكَاحِ فَهُوَ جَائِز وَتَكون الْمِائَة زِيَادَة فِي مهرهَا لِأَن إِقْرَارهَا بِالنِّكَاحِ مَحْمُول على الصِّحَّة

(3/255)


وَكَذَا لَو قَالَ لَهَا أَعطيتك مائَة دِرْهَم على أَن تَكُونِي امْرَأَتي فَهُوَ جَائِز إِذا قبلت ذَلِك بِمحضر من الشُّهُود وَيكون هَذَا كِنَايَة عَن النِّكَاح ابْتِدَاء
وَكَذَا لَو قَالَ تَزَوَّجتك أمس على ألف دِرْهَم فَقَالَت لَا فَقَالَ أزيدك مائَة على أَن تقري لي بِالنِّكَاحِ فأقرت كَانَ لَهَا ألف وَمِائَة وَالنِّكَاح جَائِز وَيحمل إِقْرَارهَا على الصِّحَّة
وَكَذَا لَو ادعِي على رجل مَجْهُول النّسَب أَنه عَبده فَأنْكر وَقَالَ إِنِّي حر الأَصْل فَصَالح الْمُدَّعِي عَلَيْهِ مَعَ الْمُدَّعِي على بدل مَعْلُوم جَازَ حَتَّى لَو أَقَامَ الْمُدَّعِي الْبَيِّنَة بعد ذَلِك لَا تقبل وَيصير ذَلِك بِمَنْزِلَة الْعتْق بِبَدَل وَلَكِن تقبل الْبَيِّنَة فِي حق إِثْبَات الْوَلَاء
وَلَو ادّعى على رجل ألف دِرْهَم فَأنْكر فَقَالَ أقرّ لي بهَا عَلَيْك على أَن أُعْطِيك مائَة دِرْهَم كَانَ بَاطِلا لِأَن هَذَا إِيجَاب الْألف على نَفسه بِمِائَة دِرْهَم
وَكَذَلِكَ لَو صَالح الْقَاذِف مَعَ الْمَقْذُوف بِشَيْء على أَن يعْفُو عَنهُ وَلَا يخاصمه فَهُوَ بَاطِل
وَكَذَلِكَ لَو صَالح الشَّاهِد بِمَال على أَن لَا يشْهد عَلَيْهِ أَو أَرَادَ أَن يشْهد على الزَّانِي أَو السَّارِق أَو الْقَاذِف فَصَالَحُوهُ على مَال فَالصُّلْح بَاطِل وَلَا تقبل شَهَادَته فِي هَذِه الْحَادِثَة وَفِي غَيرهَا إِلَّا أَن يَتُوب وَيسْتَرد المَال مِنْهُ فِي جَمِيع ذَلِك
وَلَو ادّعى رجل قبل رجل وَدِيعَة أَو عَارِية أَو مَالا مُضَارَبَة أَو إِجَارَة فَقَالَ الْأمين قد رَددتهَا عَلَيْك أَو هَلَكت ثمَّ صَالحه على مَال فَإِن الصُّلْح بَاطِل عِنْد أبي يُوسُف وَعند مُحَمَّد جَائِز وَهِي من الخلافيات

(3/256)


وَأما إِذا كَانَ الصُّلْح بَين الْمُدَّعِي وَالْأَجْنَبِيّ فَلَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ بِإِذن الْمُدعى عَلَيْهِ أَو بِغَيْر إِذْنه
أما إِذا كَانَ بِإِذْنِهِ فَإِنَّهُ يَصح الصُّلْح وَيكون وَكيلا عَنهُ فِي الصُّلْح وَيجب المَال على الْمُدعى عَلَيْهِ دون الْوَكِيل سَوَاء كَانَ الصُّلْح عَن إِقْرَار أَو عَن إِنْكَار لِأَن الْوَكِيل فِي الصُّلْح لَا ترجع إِلَيْهِ الْحُقُوق وَهَذَا إِذا لم يضمن بدل الصُّلْح عَن الْمُدعى عَلَيْهِ فَأَما إِذا ضمن فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ بِحكم الْكفَالَة وَالضَّمان لَا بِحكم العقد
فَأَما إِذا كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَهَذَا صلح الْفُضُولِيّ
وَهُوَ على أَرْبَعَة أوجه فِي ثَلَاثَة مِنْهَا يَصح الصُّلْح وَيجب المَال على الْمصَالح الْفُضُولِيّ وَلَا يجب على الْمُدعى عَلَيْهِ شَيْء بِأَن يَقُول الْفُضُولِيّ للْمُدَّعِي أصالحك من دعواك هَذِه على فلَان بِأَلف دِرْهَم على أَن ضَامِن لَك هَذِه الْألف أَو عَليّ هَذِه الْألف أَو قَالَ عَليّ ألفي هَذِه أَو على عَبدِي هَذَا أضَاف المَال إِلَى نَفسه أَو عين الْبَدَل فَقَالَ عَليّ هَذِه الْألف أَو عَليّ هَذَا العَبْد وَإِنَّمَا كَانَ هَكَذَا لِأَن التَّبَرُّع بِإِسْقَاط الدّين بِأَن يقْضِي دين غَيره بِغَيْر إِذْنه صَحِيح والتبرع بِإِسْقَاط الْخُصُومَة عَن غَيره صَحِيح وَالصُّلْح عَن إِقْرَار إِسْقَاط للدّين وَالصُّلْح عَن إِنْكَار إِسْقَاط للخصومة فَيجوز كَيْفَمَا كَانَ
وَفِي فصل وَاحِد لَا يَصح بِأَن قَالَ أصالحك من دعواك هَذَا مَعَ فلَان على ألف دِرْهَم أَو على عبد وسط فَإِن هَذَا الصُّلْح مَوْقُوف على إجَازَة الْمُدعى عَلَيْهِ فَإِن أجَاز يَصح وَيجب المَال عَلَيْهِ دون الْمصَالح لِأَن الْإِجَازَة بِمَنْزِلَة ابْتِدَاء التَّوْكِيل وَالْحكم فِي التَّوْكِيل كَذَلِك وَإِن لم يجز يبطل الصُّلْح لِأَنَّهُ لَا يجب المَال وَالْمُدَّعى بِهِ لَا يسْقط

(3/257)


وعَلى هَذَا الْخلْع من الْأَجْنَبِيّ على هَذِه الْفُصُول إِن كَانَ بِإِذن الزَّوْج يكون وَكيلا عَنهُ وَيجب المَال على الْمَرْأَة للزَّوْج دون الْوَكِيل لِأَنَّهُ معبر وسفير فَلَا يرجع إِلَيْهِ بالحقوق
وَإِن كَانَ بِغَيْر إِذْنه فَإِن وجد من الْفُضُولِيّ ضَمَان بدل الْخلْع أَو قَالَ خَالع امْرَأَتك على كَذَا دِرْهَم عَليّ أَو على عَبدِي هَذَا أوعلي هَذَا الْألف أَو عَليّ هَذَا العَبْد فَإِن الْخلْع صَحِيح وَيجب المَال على الْفُضُولِيّ وَلَيْسَ لَهُ أَن يرجع لِأَنَّهُ مُتَبَرّع
وَإِن قَالَ اخلع امْرَأَتك على كَذَا فَقَالَ خلعت فَإِنَّهُ مَوْقُوف على إجَازَة الْمَرْأَة فَإِن أجازت صَحَّ الْخلْع وَيجب الْبَدَل عَلَيْهَا دون الْفُضُولِيّ
وَإِن لم تجز بَطل الْخلْع وَلَا يَقع الطَّلَاق
وعَلى هَذِه الْفُصُول الْعَفو عَن دم الْعمد من الْأَجْنَبِيّ
وعَلى هَذِه الْفُصُول الزِّيَادَة فِي الثّمن من الْأَجْنَبِيّ إِن كَانَت بِإِذْنِهِ يكون وَكيلا وَتجب على المُشْتَرِي
لَا وَإِن كَانَت بِغَيْر إِذن المُشْتَرِي فَهُوَ على الْفُصُول الَّتِي ذكرنَا

(3/258)


بَاب آخر من الصُّلْح
جمع فِي الْبَاب مسَائِل مُتَفَرِّقَة مِنْهَا أَن من كَانَ لَهُ على آخر ألف دِرْهَم فَقَالَ للمديون أصالحك على أَن أحط عَنْك مِنْهَا خَمْسمِائَة على أَن تُعْطِينِي الْيَوْم خَمْسمِائَة فَصَالحه على ذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد إِن أعطَاهُ خَمْسمِائَة فِي ذَلِك الْيَوْم برىء من الْخَمْسمِائَةِ الْأُخْرَى وَإِن لم يُعْطه حَتَّى مضى الْيَوْم انْتقض الصُّلْح وعادت الْألف عَلَيْهِ كَمَا كَانَت
وَقَالَ أَبُو يُوسُف بِأَنَّهُ يبرأ من الْخَمْسمِائَةِ وَيبقى عَلَيْهِ خَمْسمِائَة
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا قَالَ أصالحك عَن الْألف على خَمْسمِائَة تعجلها الْيَوْم فَإِن لم تعجلها فالألف عَلَيْك وَلم يعجل الْيَوْم بَطل الصُّلْح وَعَلِيهِ الْألف
وَحَاصِل هَذَا أَن عِنْدهمَا هَذَا الْكَلَام فِي مَوضِع الْإِجْمَاع وَهُوَ الْفَصْل الثَّانِي لَيْسَ تَعْلِيق الْبَرَاءَة عَن خَمْسمِائَة بِشَرْط تَعْجِيل خَمْسمِائَة لِأَن الْألف كلهَا مُعجلَة بِحكم عقد المداينة فَلَا معنى لاشتراطه وَهُوَ ثَابت وَلِأَن تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِالشّرطِ لَا يجوز لِأَنَّهُ تمْلِيك من وَجه حَتَّى يرْتَد بِالرَّدِّ وَهَذَا الْكَلَام صَحِيح بِالْإِجْمَاع وَلكنه حط وإبراء عَن الْخَمْسمِائَةِ للْحَال وَتَعْلِيق فسخ الْبَرَاءَة بترك التَّعْجِيل فِي الْيَوْم وَتَعْلِيق الْفَسْخ بِالشّرطِ جَائِز فَإِن من قَالَ لغيره أبيعك هَذَا العَبْد بِأَلف

(3/259)


دِرْهَم على أَن تعجلها الْيَوْم فَإِن لم تعجلها فَلَا بيع بَيْننَا فَإِن البيع جَائِز وَجعل ترك التَّعْجِيل شرطا فِي الْفَسْخ فَكَذَا هَذَا وَهَذَا الْمَعْنى مَوْجُود فِي فصل الْخلاف
وَعند أبي يُوسُف هَذَا تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِشَرْط التَّعْجِيل والبراءة لَا يَصح تَعْلِيقهَا بِالشُّرُوطِ وَجه قَول أبي يُوسُف أَنه صَالح على عوض بِشَرْط تَعْجِيله فَإِذا لم يُوجد الْوَفَاء بالتعجيل لم يَنْفَسِخ العقد بِدُونِ شَرط الْفَسْخ صَرِيحًا وَلم يُوجد فَبَقيَ الْحَط صَحِيحا كَمَا إِذا قَالَ بِعْتُك هَذَا العَبْد بِأَلف على أَن تعجلها الْيَوْم
بِخِلَاف الْفَصْل الْمجمع عَلَيْهِ لِأَن ذَلِك صلح على خَمْسمِائَة للْحَال وَجعل ترك التَّعْجِيل شرطا للْفَسْخ عرفنَا ذَلِك بالتنصيص على ذَلِك الشَّرْط
وَلَو صَالح على أَن يُعْطِيهِ خَمْسمِائَة إِلَى شهر على أَن يحط عَنهُ خَمْسمِائَة السَّاعَة فَإِن لم يُعْطه إِلَى شهر فَعَلَيهِ الْألف فَهُوَ صَحِيح لِأَن هَذَا إِبْرَاء للْحَال وَتَعْلِيق لفسخ الْإِبْرَاء بِالشّرطِ
وعَلى هَذَا الْكفَالَة إِذا أَخذ مِنْهُ كَفِيلا بِأَلف دِرْهَم فَصَالح مَعَه على أَن يحط خَمْسمِائَة وَشرط على الْكَفِيل ذَلِك إِن أوفاه خَمْسمِائَة إِلَى شهر فَإِن لم يوفه خَمْسمِائَة إِلَى رَأس الشَّهْر فَعَلَيهِ الْألف فَهُوَ جَائِز وَالْألف على الْكَفِيل إِن لم يوفه لما قُلْنَا
وَلَو ضمن الْكَفِيل الْألف مُطلقًا ثمَّ قَالَ عَنْك حططت خَمْسمِائَة على أَن توفيني رَأس الشَّهْر خَمْسمِائَة فَإِن لم توفني فالألف عَلَيْك فَهَذَا صَحِيح وَهُوَ أوثق من الأول
وَلَو قَالَ لمن عَلَيْهِ الْألف مَتى مَا أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت تَبرأ عَن الْبَاقِي فَإِن هَذَا لَا يَصح وَيبقى عَلَيْهِ الْألف لِأَن هَذَا تَعْلِيق الْبَرَاءَة بِالشّرطِ

(3/260)


وَكَذَلِكَ إِذا قَالَ صالحتك على أَنَّك مَتى مَا أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت بَرِيء من خَمْسمِائَة لَا يَصح لما قُلْنَا
وَكَذَا من قَالَ هَذِه الْمقَالة لمكاتبه إِذا أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت بَرِيء من بَاقِي الْكِتَابَة لما قُلْنَا
وَلَو قَالَ لَهُ إِن أدّيت إِلَيّ خَمْسمِائَة فَأَنت حر وَالْبدل ألف يَصح وَيبرأ لِأَن هَذَا تَعْلِيق الْعتْق وَتثبت الْبَرَاءَة حكما
وَمِنْهَا المُشْتَرِي إِذا وجد بِالْمَبِيعِ عَيْبا فَصَالحه البَائِع من الْعَيْب على شَيْء دَفعه إِلَيْهِ أَو حط عَنهُ من ثمنه شَيْئا فَإِن كَانَ الْمَبِيع مِمَّا يجوز رده على البَائِع أَو كَانَ لَهُ حق الْمُطَالبَة بأرشه دون رده فَالصُّلْح جَائِز لِأَن هَذَا صلح عَن حَقه وَإِن لم يكن لَهُ حق الرَّد وَلَا أَخذ الْأَرْش لَا يجوز الصُّلْح لِأَن هَذَا أَخذ مَال لَا بِمُقَابلَة شَيْء فَلَا يجوز
وَهَذَا إِذا كَانَ بيعا يجوز فِيهِ التَّفَاضُل
وَأما إِذا كَانَ فِي بيع الرِّبَا فَلَا يجوز لِأَنَّهُ يُؤَدِّي إِلَى الزِّيَادَة وَهُوَ رَبًّا فَلَا يجوز
وَفِي الْموضع الَّذِي جَازَ إِذا زَالَ الْعَيْب بِأَن انجلى الْبيَاض يبطل الصُّلْح وَيَأْخُذ البَائِع مَا أدّى لِأَنَّهُ زَالَ حَقه
وَلَو صَالح عَن عيب قَائِم وَعَن كل عيب يجوز
وَلَو لم يجد بِهِ عَيْبا وَصَالح مَعَ هَذَا عَن كل عيب جَازَ لوُجُود سَبَب الْحق
وَلَو صَالح عَن عيب خَاص كالعمى وَنَحْوه يجوز لِأَنَّهُ لما جَازَ عَن كل عيب جَازَ عَن الْوَاحِد

(3/261)