تحفة الفقهاء

كتاب الْإِكْرَاه
الْإِكْرَاه نَوْعَانِ نوع يُوجب الإلجاء والإضرار كالتخويف بِالْقَتْلِ وَقطع الْعُضْو وَالضَّرْب المبرح المتوالي الَّذِي يخَاف مِنْهُ التّلف
وَنَوع لَا يُوجب كالتخويف بِالْحَبْسِ والقيد وَالضَّرْب الْيَسِير
وَالَّذِي يَقع عَلَيْهِ الْإِكْرَاه من الْفِعْل وَالتّرْك إِمَّا إِن كَانَ من الْأُمُور الحسية أَو من الْأُمُور الشَّرْعِيَّة
أما إِذا وَقع الْإِكْرَاه على الْفِعْل الْحسي فَهُوَ أَقسَام ثَلَاثَة فِي حق الْإِبَاحَة والرخصة وَالْحُرْمَة
أما الَّذِي يحْتَمل الْإِبَاحَة كشرب الْخمر وَأكل الْميتَة وَالْخِنْزِير فَإِن كَانَ الْإِكْرَاه بِمَا يُوجب الِاضْطِرَار وَهُوَ الْقَتْل وَقطع الْعُضْو وَنَحْوه
فَإِن كَانَ غَالب حَال الْمُكْره أَنه يقْتله لَو لم يشرب فَإِنَّهُ يُبَاح لَهُ شربه وتناوله لِأَن هَذَا مِمَّا يُبَاح عِنْد الضَّرُورَة كَمَا فِي حَال المخمصة
وَإِن كَانَ غَالب حَاله أَنه لَا يقْتله وَلَا يُحَقّق مَا أوعده أَو كَانَ التخويف بِمَا لَيْسَ فِيهِ خوف تلف النَّفس كالحبس والقيد وَالضَّرْب الْيَسِير فَإِنَّهُ لَا يُبَاح الْإِقْدَام عَلَيْهِ وَلَا يرخص حَتَّى يَأْثَم بالإقدام عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يجب تَقْدِيم حق الله تَعَالَى على حق نَفسه

(3/273)


وَفِي الْفَصْل الأول يُبَاح حَتَّى لَو أقدم لَا إِثْم عَلَيْهِ
وَلَو لم يقدم حَتَّى هلك يَأْثَم لِأَنَّهُ صَار مهْلكا نَفسه عَن اخْتِيَار
وَأما الْفَصْل الَّذِي يرخص فِيهِ وَلَا يسْقط الْحُرْمَة كَمَا إِذا أكره بِالْقَتْلِ على أَن يجْرِي كلمة الْكفْر على لِسَانه أَو على أَن يشْتم مُحَمَّدًا صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو على أَن يُصَلِّي إِلَى الصَّلِيب فَإِنَّهُ لَا يُبَاح لَهُ ذَلِك وَلَكِن يرخص لَهُ الْفِعْل وَإِن امْتنع حَتَّى قتل كَانَ مثابا ثَوَاب الْجِهَاد لِأَن الْحُرْمَة لم تسْقط بِخِلَاف الْفَصْل الأول
وعَلى هَذَا لَو أكره على إِتْلَاف مَال إِنْسَان بِمَا فِيهِ خوف التّلف وغالب ظَنّه أَن يفعل فَإِنَّهُ يرخص وَلَا يُبَاح لِأَن حُرْمَة مَال الْغَيْر لَا تسْقط لحقه وَلَكِن يرخص بِالضَّمَانِ كَمَا فِي حَال المخمصة
وَأما الْفَصْل الثَّالِث فَلَا يُبَاح وَلَا يرخص وَإِن كَانَ يُخَالف الْقَتْل على نَفسه كَمَا إِذا أكره بِالْقَتْلِ على أَن يقتل فلَانا الْمُسلم أَو يقطع عضوه أَو يضْربهُ ضربا يخَاف فِيهِ التّلف وَكَذَا فِي ضرب الْوَالِدين على وَجه يخَاف مِنْهُ التّلف لِأَن الْقَتْل حرَام مَحْض وَضرب الْوَالِدين كَذَلِك فَلَا يسْقط لأجل حَقه
وَلَو فعل فَإِنَّهُ يَأْثَم فِي الْآخِرَة
وَأما أَحْكَام الدُّنْيَا من الْقود وَالضَّمان فَنَقُول فِي الْإِكْرَاه على إِتْلَاف مَال الْغَيْر يجب الضَّمَان على الْمُكْره بِلَا خلاف
وَأما فِي الْقَتْل خطأ وعمدا فَيكون الحكم على الْمُكْره عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَيصير الْمُكْره آلَة وَيصير قَاتلا فَيكون الحكم عَلَيْهِ
وَعند أبي يُوسُف تجب الدِّيَة على الْمُكْره وَلَا يجب الْقود أصلا
وَعند الشَّافِعِي يجب على الْمُكْره وَالْمكْره جَمِيعًا الْقود
وَعند زفر على الْمُكْره وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(3/274)


وَكَذَا فِي الْإِكْرَاه على الْقطع على هَذَا الْخلاف
هَذَا إِذا لم يَأْذَن الْمُكْره عَلَيْهِ للمكره على مَا أكره
أما إِذا أذن لَهُ بِقطع الْيَد وَالْقَتْل فَلَا يُبَاح للمكره ذَلِك لِأَنَّهُ لَا يُبَاح بِالْإِبَاحَةِ وَالْإِذْن وَلَكِن فِي الْقطع لَا يجب الضَّمَان على أحد لوُجُود الْإِذْن من جِهَته وَفِي الْقَتْل لَا عِبْرَة لإذنه بل تجب الدِّيَة على الْمُكْره كَمَا لَو لم يُوجد الْإِذْن هَذَا جَوَاب ظَاهر الرِّوَايَة وَفِي رِوَايَة لَا يجب
وَلَو أكره على الزِّنَا بِالْقَتْلِ لَا يُبَاح وَلَا يرخص للرجل ويرخص للْمَرْأَة
وَكَانَ أَبُو حنيفَة يَقُول أَولا إِنَّه لَا يجب الْحَد ثمَّ رَجَعَ وَقَالَ فَإِن كَانَ الْإِكْرَاه من السُّلْطَان لَا يجب الْحَد وَيجب الْعقر
وَإِن كَانَ من غَيره يجب الْحَد
وَعِنْدَهُمَا لَا يجب الْحَد وَيجب الْعقر كَيْفَمَا كَانَ
وَأما الْإِكْرَاه على الْأُمُور الشَّرْعِيَّة فنوعان فِي الأَصْل إِمَّا إِن ورد الْإِكْرَاه على إنْشَاء التَّصَرُّف أَو على الْإِقْرَار بِهِ
أما إِذا ورد على الْإِنْشَاء فَهُوَ على وَجْهَيْن إِن كَانَ تَصرفا يحْتَمل الْفَسْخ وَيشْتَرط فِيهِ الرِّضَا كَالْبيع وَالشِّرَاء وَالْإِجَارَة وَنَحْوهَا وَالْإِكْرَاه بِأَيّ طَرِيق كَانَ فَإِنَّهُ يكون التَّصَرُّف فَاسِدا إِن اتَّصل بِهِ التَّسْلِيم يُفِيد الْملك وَإِلَّا فَلَا
وعَلى قَول زفر يكون مَوْقُوفا على إجَازَة الْمُكْره وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة

(3/275)


وَهَذَا إِذا بَاعَ أَو اشْترى بِالثّمن الَّذِي أكره عَلَيْهِ
فَأَما إِذا بَاعَ بِخِلَاف جنسه ينفذ وَيخرج عَن الْإِكْرَاه لِأَنَّهُ أَتَى بِغَيْر مَا أكره عَلَيْهِ
وَإِن بَاعَ بِأَقَلّ من ذَلِك الثّمن فَالْقِيَاس أَن ينفذ وَلَا يكون مكْرها وَفِي الِاسْتِحْسَان يكون مكْرها
وَإِن بَاعه بِأَكْثَرَ من ذَلِك الثّمن يكون طَائِعا
وَإِن كَانَ تَصرفا لَا يحْتَمل الْفَسْخ كَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالنِّكَاح وَالْيَمِين وَالنّذر وَنَحْوهَا فَإِنَّهُ ينفذ التَّصَرُّف عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ الطَّلَاق إِن كَانَ قبل الدُّخُول بهَا يلْزمه نصف الْمهْر الْمُسَمّى
والمتعة فِي غير الْمُسَمّى على الْمُكْره لِأَنَّهُ وَجب عَلَيْهِ بِسَبَب إكراهه
وَإِن كَانَ بعد الدُّخُول يجب على الزَّوْج الْمُكْره لِأَنَّهُ استوفى مَنْفَعَة الْبضْع
وَأما فِي الْعتاق فَيجب الضَّمَان على الْمُكْره سَوَاء كَانَ مُوسِرًا أَو مُعسرا وَلَا يسْعَى العَبْد فِي ذَلِك وَيكون الْوَلَاء للْمُعْتق الْمُكْره لِأَن الْعتْق حصل بِفعل الْمُكْره لَكِن جعل ذَلِك إتلافا من الْمُكْره فَعَلَيهِ قِيمَته
وَفِي النِّكَاح إِذا أكرهت الْمَرْأَة على التَّزْوِيج بِأَلف وَمهر مثلهَا عشرَة آلَاف فَالنِّكَاح صَحِيح وَيَقُول القَاضِي للزَّوْج إِن شِئْت تمم لَهَا مهر مثلهَا وَإِلَّا فرقت بَيْنكُمَا وَإِن لم ترض الْمَرْأَة إِن كَانَ الزَّوْج كفوا لَهَا
وتخير الْمَرْأَة إِن كَانَ غير كُفْء وَإِن تمم لَهَا مهر مثلهَا
وَإِن رضيت الْمَرْأَة بِنُقْصَان الْمهْر وَعدم الْكَفَاءَة يثبت الْخِيَار للأولياء فِي عدم الْكَفَاءَة بالإتفاق وَفِي نُقْصَان الْمهْر عِنْد أبي حينفة خلافًا لَهما هَذَا إِذا كَانَ قبل الدُّخُول
فَإِن كَانَ بعد الدُّخُول وَهِي غير مُكْرَهَة فِي التَّمْكِين يجوز النِّكَاح لوُجُود الرِّضَا دلَالَة وَيسْقط الْخِيَار للْمَرْأَة وَيبقى الْخِيَار للأولياء
وَإِن فرق القَاضِي بَينهمَا فَلَا شَيْء عَلَيْهِ قبل الدُّخُول لِأَن

(3/276)


الْفرْقَة جَاءَت من قبلهَا
وَأما إِذا أكره على الأقارير فَلَا يَصح سَوَاء كَانَ بِالْمَالِ أَو الطَّلَاق أَو الْعتاق وَنَحْو ذَلِك لِأَن الْإِقْرَار إِخْبَار وَالْخَبَر الَّذِي ترجح كذبه لَا يكون حجَّة وَالْإِكْرَاه دَلِيل رُجْحَان الْكَذِب
وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ الْإِكْرَاه بوعيد شَيْء مُعْتَبر عِنْد النَّاس حَتَّى يكون نافيا للضَّرَر
وَيخْتَلف باخْتلَاف حَال الْمُكْره من الشّرف والدناءة والضعف وَالْقُوَّة حَتَّى قَالَ أَصْحَابنَا بِأَن السَّوْط الْوَاحِد والقيد وَالْحَبْس فِي الْيَوْم الْوَاحِد إِكْرَاه فِي حق بعض النَّاس وَلَيْسَ بإكراه فِي حق الْبَعْض فَيكون مفوضا إِلَى رَأْي القَاضِي الْمُجْتَهد لاخْتِلَاف أَحْوَال النَّاس فِيهِ
وَلَو أكره رجل على قتل وَارثه بإكراه يُوجب الإلجاء فَإِنَّهُ لَا يحرم عَن الْمِيرَاث وَإِن كَانَ لَا يُبَاح لَهُ الْإِقْدَام على قَتله لِأَنَّهُ مُضْطَر فِيهِ
وَلَو أكره رجل على شِرَاء ذِي رحم محرم مِنْهُ حَتَّى عتق لَا يجب على الْمُكْره شَيْء لِأَن الشِّرَاء يَصح بِمثل الْقيمَة وَالزِّيَادَة عَلَيْهِ لَا تجب وَالْإِعْتَاق وَشِرَاء الْقَرِيب سَوَاء فِي ثُبُوت الْعتْق إِلَّا أَنه لَا تجب الْقيمَة هَاهُنَا لِأَنَّهُ حصل لَهُ عوض وَهُوَ صلَة الرَّحِم
وَلَو أكره على شِرَاء عبد قَالَ لَهُ إِن مَلكتك فَأَنت حر فَاشْتَرَاهُ وَقَبضه حَتَّى عتق عَلَيْهِ لَا يضمن الْمُكْره لِأَنَّهُ مبَاشر الشَّرْط فَإِن الْعتْق بِالْيَمِينِ يَقع
وَكَذَا لَو قَالَ لعَبْدِهِ إِن دخلت هَذِه الدَّار فَأَنت حر فأكره على أَن يدْخل الدَّار فَدخل فَعتق لَا يضمن لِأَنَّهُ مبَاشر للشّرط دون الْعلَّة

(3/277)


ثمَّ الْإِكْرَاه عِنْد أبي حنيفَة إِنَّمَا يَصح من السُّلْطَان لَا غير
وَعِنْدَهُمَا يَصح من كل مسلط لَهُ قدرَة تَحْقِيق مَا وعد
وَقيل إِن هَذَا اخْتِلَاف زمَان لِأَن فِي زمن أبي حنيفَة كَانَ لَا يقدر على الْإِكْرَاه إِلَّا السُّلْطَان وَفِي زمانهما تَغَيَّرت الْأُمُور فَأجَاب كل وَاحِد على حسب زَمَانه
وَبَعْضهمْ حققوا الِاخْتِلَاف من حَيْثُ الْمَعْنى
وَلَو أَن صَبيا مسلطا بِأَن كَانَ سُلْطَانا أكره رجلا بِالْقَتْلِ على الْقَتْل وَنَحْوه فَالْجَوَاب فِيهِ وَفِي الْبَالِغ سَوَاء لِأَنَّهُ تحقق مِنْهُ الْإِكْرَاه لَهُ
وَكَذَا إِذا كَانَ رجل بِهِ مرّة يخْتَلط بِهِ وَهُوَ مسلط يجوز إكراهه كالعاقل سَوَاء

(3/278)