تحفة الفقهاء

كتاب الْقِسْمَة
الْقِسْمَة فِي الْأَمْلَاك الْمُشْتَركَة نَوْعَانِ قسْمَة الْأَعْيَان وَقِسْمَة الْمَنَافِع وَهِي الْمُهَايَأَة
أما قسْمَة الْأَعْيَان الْمُشْتَركَة فمشروعة عرفنَا شرعيتها بِحَدِيث رَسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قسم خَيْبَر بَين الْغَانِمين
وَعَلِيهِ توارث الْأمة
والأعيان الْمُشْتَركَة قد تكون أَمْثَالًا مُتَسَاوِيَة فقسمتها تكون تَمْيِيز الْأَنْصِبَاء لَا غير مثل الْمكيل وَالْمَوْزُون والعددي المتقارب
وَقد تكون أَشْيَاء مُخْتَلفَة مثل الدّور وَالْعَقار وَالْعرُوض وَالْحَيَوَان وقسمتها تكون فِي معنى البيع
ثمَّ الْقِسْمَة قد تكون من القَاضِي وأمينه بِإِذْنِهِ وَقد تكون من الشُّرَكَاء عِنْد التَّرَاضِي
فَإِن كَانَت الْقِسْمَة من القَاضِي عِنْد المرافعة إِلَيْهِ فَإِن كَانَ فِي ذَلِك مَنْفَعَة لَهُم فَإِنَّهُ يقسم
وَإِن كَانَ فِيهِ ضَرَر أَو لَا حَاجَة لَهُم إِلَى ذَلِك فَإِنَّهُ لَا يفعل وَإِن تَرَاضيا عَلَيْهِ وَلَكِن يُفَوض الْأَمر إِلَيْهِم حَتَّى يقسموا بِأَنْفسِهِم فَإِن الْحمام الْمُشْتَرك بَين اثْنَيْنِ إِذا طلبا من القَاضِي الْقِسْمَة لَا يقسم لِأَن فِي الْقِسْمَة ضَرَرا لِأَنَّهُمَا يتضرران بذلك لِأَنَّهُ لَا يُمكن الِانْتِفَاع بِبَعْض الْحمام دون الْبَعْض وَلَو قسما

(3/279)


بأنفسهما جَازَ لولايتهما على أَنفسهمَا
وَكَذَا فِي الْبَيْت الْوَاحِد وَالثَّوْب الْوَاحِد والجوهرة الْوَاحِدَة لَا تجوز الْقِسْمَة من القَاضِي
وَلَو طلبا مِنْهُ الْقِسْمَة لَا يفعل وَلَو قسما بأنفسهما جَازَ
وَكَذَا دَار بَين اثْنَيْنِ لأَحَدهمَا فِيهَا شقص قَلِيل إِن طلب صَاحب الْقَلِيل لَا يقسم لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة لَهُ فِيهِ فَيكون مُتَعَنتًا
وَإِن طلب صَاحب الْكثير يقسم لِأَن لَهُ حَاجَة فِي ذَلِك وَيدْفَع الضَّرَر عَن نَفسه وَلَو قسما بأنفسهما جَازَ لما قُلْنَا
ثمَّ الْمَقْسُوم لَا يَخْلُو إِمَّا إِن كَانَ دورا أَو عقارا أَو مَنْقُولًا فَإِن كَانَ عقارا وَهِي فِي يَد الْجَمَاعَة وطلبوا الْقِسْمَة من القَاضِي فَإِن قَالُوا هِيَ بَيْننَا مِيرَاث عَن فلَان فَإِن عِنْد أبي حنيفَة لَا يقسم حَتَّى يقيموا الْبَيِّنَة على موت فلَان وعَلى عدد الْوَرَثَة وَعِنْدَهُمَا يقسم بإقرارهم وَيشْهد أَنه قسمهَا بإقرارهم
وَلَو كَانَ ذَلِك فِي عرُوض أَو شَيْء مَنْقُول فَإِنَّهُ يقسم بإقرارهم بالِاتِّفَاقِ
وَكَذَا إِذا أقرُّوا بِكَوْن الْعقار بَينهم ملكا مُطلقًا وَلم يدعوا انْتِقَال الْملك فِيهَا من وَاحِد فَإِنَّهُ يقسم بَينهم بإقرارهم بِالْإِجْمَاع
وَإِن ادعوا أَنهم اشْتَروا من فلَان الْغَائِب فَفِي رِوَايَة الأَصْل لَا يقسم حَتَّى يثبتوا الِانْتِقَال من الْغَائِب وَفِي رِوَايَة يقسم بإقرارهم
وَهَذَا إِذا لم يكن فِي الْوَرَثَة غَائِب كَبِير أَو صَغِير لَا ولي لَهُ فَأَما إِذا كَانَ فِي الْوَرَثَة كَبِير غَائِب أَو صَغِير فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يقسم على كل حَال
وَعِنْدَهُمَا ينظر إِن كَانَت الدَّار فِي يَد الْكِبَار الْحُضُور فَإِنَّهُ يقسم بَينهم وَيَضَع حق الْغَائِب فِي يَد أَمِين يحفظه ويوكل عَن الصَّغِير

(3/280)


رجلا حَتَّى يحفظه
وَإِن كَانَت الدَّار فِي يَد الْغَائِب أَو فِي يَد الصَّغِير أَو فِي أَيْدِيهِمَا مِنْهَا شَيْء فَإِنَّهُ لَا يقسم حَتَّى تقوم الْبَيِّنَة على الْمِيرَاث وَعدد الْوَرَثَة بالِاتِّفَاقِ
ثمَّ إِذا قَامَت الْبَيِّنَة على الْمِيرَاث ينظر إِن كَانَ الْحَضَر اثْنَيْنِ فَصَاعِدا وَالْغَائِب وَاحِد أَو أَكثر وَفِيهِمْ صَغِير فَإِن القَاضِي يقسم بَينهم ويعزل نصيب كل صَغِير وغائب وَيجْعَل فِي يَد أَمِين يحفظه
وَلَو كَانَ هَذَا فِي ملك مُطلق وشريكان حاضران وَشريك غَائِب فَالْقَاضِي لَا يقسم لِأَن القَاضِي لَهُ ولَايَة فِي الْجُمْلَة فِي مَال مُشْتَرك بَين الْوَرَثَة فَيكون قَضَاء على الْحَاضِر وَلَا ولَايَة لَهُ على مَال الْغَائِب مَقْصُودا فَلَا يقسم من غير أَن يحضر من يقوم مقَامه
وَلَو حضر وَارِث وَاحِد وَغَابَ الْبَاقُونَ وَطلب الْقِسْمَة فَإِن القَاضِي لَا يقسم لِأَن الْقِسْمَة لَا تصح إِلَّا بَين المتقاسمين الْحَاضِرين
وَلَو كَانَ وَارِث كَبِير حَاضر وَهُنَاكَ وَارِث صَغِير نصب القَاضِي لَهُ وَصِيّا وَقسم لِأَنَّهُ حضر المتقاسمان وَطلب أَحدهمَا الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يحكم بِالْقِسْمَةِ على أَحدهمَا للطَّالِب
وَلَو قسم دَارا بَين شَرِيكَيْنِ وفيهَا مسيل المَاء وَالطَّرِيق وَنَحْوهمَا فَإِن قسم مُطلقًا وَأمكن أَن يَجْعَل فِي نصيب كل وَاحِد مِنْهُمَا طَرِيقا ومسيل مَاء فَإِنَّهُ تصح الْقِسْمَة فِي الْكل
وَإِن كَانَ لَا يُمكن جعل الطَّرِيق فِي ملك أَحدهمَا بل يحْتَاج إِلَى تسييل المَاء والاستطراق فِي نصيب شَرِيكه فَإِن ذكر الْقَاسِم فِي الْقِسْمَة إِنِّي قسمت الدَّار بَينهمَا بحقوقها فَإِنَّهُ يبْقى مُشْتَركا بَينهمَا فَيكون لَهُ حق تسييل المَاء والاستطراق فِي نصيب شَرِيكه
وَإِن لم يذكر الْحُقُوق تنقض الْقِسْمَة وَيكون ذَلِك غَلطا من

(3/281)


الْقَاسِم لِأَنَّهُ لَا يتَمَكَّن كل وَاحِد مِنْهُمَا من الِانْتِفَاع بِهِ بِدُونِ الطَّرِيق
وَلَو قسم دورا بَينهم وَجعل لكل وَاحِد نصِيبه فِي دَار وَاحِدَة سَوَاء كَانَت متلاصقة أَو فِي بَلْدَة أَو فِي بِلَاد لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا إِن كَانَ يُمكن التَّعْدِيل فِي الْقِسْمَة فِي ذَلِك فَلَا بَأْس بِهِ
وعَلى هَذَا قسْمَة الرَّقِيق بِأَن جعل نصيب كل وَاحِد فِي عبد لَا يجوز عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا جَائِز
فَأَما فِي الْمَنْقُول سوى الرَّقِيق إِذا كَانَ جِنْسا وَاحِدًا مثل الْإِبِل وَالْبَقر وَالْغنم والمكيل وَالْمَوْزُون فَإِنَّهُ جَائِز بِلَا خلاف لِأَن التَّفَاوُت يسير
فَأَما إِذا جعل لأَحَدهم الْإِبِل وَللْآخر الْغنم وَللْآخر الْبَقر لم يجز لاخْتِلَاف الْأَنْوَاع
وَكَذَا فِي الثِّيَاب من جنس وَاحِد تجوز الْقِسْمَة وَفِي الْأَجْنَاس الْمُخْتَلفَة لَا تجوز
وَفِي الثَّوْب الْوَاحِد لَا تجوز لِأَنَّهُ يحْتَاج إِلَى الْقطع وَهُوَ ضَرَر
ثمَّ إِذا قسم الدَّار فَإِنَّهُ يقسم الْعَرَصَة بالذراع وَيقسم الْبناء بِالْقيمَةِ وَيجوز أَن يَجْعَل لأَحَدهمَا أَكثر ذِرَاعا من الآخر لِأَن قِيمَته أَكثر
ثمَّ ذكر أَبُو الْحسن أَن أَبَا حنيفَة قَالَ يحْتَسب فِي الْقِسْمَة كل ذِرَاع من السّفل الَّذِي لَا علو لَهُ بذراعين من الْعُلُوّ الَّذِي لَا سفل لَهُ
وَقَالَ أَبُو يُوسُف ذِرَاع من السّفل بِذِرَاع من الْعُلُوّ
وَقَالَ مُحَمَّد يقسم على الْقيمَة دون الذِّرَاع
ومشايخنا قَالُوا إِنَّمَا أجَاب أَبُو حنيفَة على عَادَة أهل الْكُوفَة

(3/282)


لاختيارهم السّفل على الْعُلُوّ
الْعَمَل فِي هَذِه الْمَسْأَلَة على قَول مُحَمَّد لاخْتِلَاف حَال الْبِلَاد فِي ذَلِك فَتعْتَبر الْقيمَة
ثمَّ مَا كَانَ فِي البيع من خِيَار الرُّؤْيَة وَخيَار الشَّرْط وَالرَّدّ بِالْعَيْبِ فَفِي الْقِسْمَة كَذَلِك لَا يَخْتَلِفَانِ لِأَنَّهَا فِي معنى البيع وَهَذَا إِذا قسما بِالتَّرَاضِي
فَأَما إِذا قسم القَاضِي فَكَذَلِك فِي الْعَيْب وَلَا يثبت خِيَار الرُّؤْيَة وَلَا خِيَار الشَّرْط فِيهِ لِأَنَّهُ لَو فسخ كَانَ للْقَاضِي أَن يقسم ثَانِيًا فَلَا فَائِدَة فِيهِ
ولأحد الشَّرِيكَيْنِ أَن يحْفر فِي نصِيبه بِئْرا أَو بالوعة وَإِن كَانَ يضر بقسم شَرِيكه وَكَذَا هَذَا فِي الجارين
وَإِذا ظهر للْمَيت دين بعد الْقِسْمَة أَو وَارِث غَائِب أَو طِفْل أدْرك وَلم يكن لَهُ وَصِيّ فَلهم نقض الْقِسْمَة لِأَن الْقَاسِم غلط فِيهَا فَإِن كَانَ للْمَيت مَال سوى مَا قسم يقْضِي مِنْهُ الدّين وَلَا ينْقض الْقِسْمَة
وَكَذَلِكَ إِذا قضى بعض الْوَرَثَة الدّين أَو كفل رجل عَن صَاحب الدّين
وَكَذَا لَو ظهر الدّين للْوَارِث الَّذِي قسم وَلَا تكون الْقِسْمَة مِنْهُ إِبْرَاء للدّين الَّذِي عَلَيْهِ لِأَنَّهُ رُبمَا لَا يعلم ذَلِك
وَكَذَلِكَ إِذا ظَهرت الْوَصِيَّة لأَجْنَبِيّ أَو ظهر ولد وَارِث فَإِنَّهُ تنقض الْقِسْمَة لِأَن الْمُوصى لَهُ كواحد من الْوَرَثَة
وَأما الْمُهَايَأَة فنوعان من حَيْثُ الْمَكَان أَو من حَيْثُ الزَّمَان

(3/283)


أما من حَيْثُ الْمَكَان بِأَن كَانَت دَارا كَبِيرَة يسكن أَحدهمَا نَاحيَة وَالْآخر نَاحيَة جَازَ وَهِي قسْمَة الْمَنَافِع وَلَا يشْتَرط فِيهَا بَيَان الْمدَّة
وَلَو استغل أَحدهمَا نصِيبه جَازَ بِخِلَاف الْعَارِية فَإِنَّهَا لَا تؤاجر
وَقَالَ بَعضهم لَا يجوز كَمَا فِي الْعَارِية إِلَّا إِذا اشْترطَا الاستغلال لمن شَاءَ مِنْهُمَا
وَأما من حَيْثُ الزَّمَان بِأَن كَانَت دَارا صَغِيرَة يسكن أَحدهمَا شهرا وَالْآخر شهرا جَازَ وَهَذَا فِي معنى الْعَارِية وَلِهَذَا يشْتَرط الْمدَّة
وَلَو آجر أَحدهمَا لَا يجوز كَمَا فِي الْعَارِية
وَلَو تهايآ فِي الرَّقِيق الْمُشْتَرك فَأخذ أَحدهمَا عبدا وَالْآخر عبدا جَازَ عِنْدهمَا بِلَا شكّ لِأَن قسْمَة الرَّقِيق جَائِزَة عِنْدهمَا
وَعند أبي حنيفَة تجوز هَاهُنَا لِأَنَّهَا قسْمَة الْمَنَافِع وَهِي من جنس وَاحِد
وَفِي النخيل وَالشَّجر الْمُشْتَرك إِذا أَخذ أَحدهمَا طَائِفَة يستثمرها وَينْتَفع بثمرها خَاصَّة وَالْآخر طَائِفَة لَا يجوز لِأَنَّهَا اسْتِحْقَاق الْعين بِالْإِجَارَة
وَفِي الْأَرَاضِي يزرع أَحدهمَا الْبَعْض وَالْآخر الْبَعْض جَائِز لِأَنَّهَا قسْمَة الْمَنَافِع

(3/284)