تحفة الفقهاء

كتاب السّير
قَالَ يحْتَاج إِلَى تَفْسِير الْجِهَاد وَإِلَى بَيَان كَيْفيَّة فرض الْجِهَاد وَإِلَى بَيَان من يفترض عَلَيْهِ وَإِلَى بَيَان مَا يجب حَال شُهُود الْوَقْعَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَام الْأَنْفَال والغنائم وَإِلَى بَيَان حكم الْجِزْيَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَام أهل الرِّدَّة وَإِلَى بَيَان أَحْكَام الْبُغَاة وَنَحْو ذَلِك
أما تَفْسِير الْجِهَاد
فَهُوَ الدُّعَاء إِلَى الدّين الْحق والقتال مَعَ من امْتنع عَن الْقبُول بِالْمَالِ وَالنَّفس قَالَ الله تَعَالَى {انفروا خفافا وثقالا وَجَاهدُوا بأموالكم وَأَنْفُسكُمْ} وَقَالَ {إِن الله اشْترى من الْمُؤمنِينَ}

(3/293)


وَأما بَيَان كَيْفيَّة فَرْضه فَنَقُول إِنَّه فرض كِفَايَة لَا فرض عين
ونعني بِهِ أَنه إِذا لم يقم بِهِ الْبَعْض من أهل الثغور وَغَيرهم مِمَّن هُوَ يقرب مِنْهُم فَإِنَّهُ يفْرض على جَمِيع النَّاس مِمَّن لَهُ قدرَة عَلَيْهِ إِمَّا بِالنَّفسِ أَو بِالْمَالِ
فَإِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ لِأَن الْمَقْصُود وَهُوَ دفع شَرّ الْكَفَرَة وَالدُّعَاء إِلَى دين الْإِسْلَام يحصل بِالْبَعْضِ فَمَا لم يتَعَيَّن الْبَعْض يجب على الْكل وَإِذا تعين الْبَعْض سقط عَن البَاقِينَ
وَلِهَذَا قُلْنَا إِذا كَانَ النفير عَاما يجب على العَبْد أَن يخرج بِغَيْر إِذن الْمولى وعَلى الْمَرْأَة القادرة عَلَيْهِ أَن تخرج بِغَيْر إِذن زَوجهَا وعَلى الْوَلَد أَن يخرج بِغَيْر إِذن الْوَالِدين أَو أَحدهمَا إِذا كَانَ الآخر مَيتا
فَأَما إِذا قَامَ بِهِ الْبَعْض فَلَا يجوز لهَؤُلَاء أَن يخرجُوا إِلَّا بِالْإِذْنِ
وَأما بَيَان مَا يجب حَال شُهُود الْوَقْعَة فَنَقُول إِذا لَقِي الْغُزَاة قوما من الْكفَّار فَإِن لم تبلغهم الدعْوَة أصلا يَنْبَغِي أَن يَدعُوهُم إِلَى الْإِسْلَام أَولا
فَإِن أَبَوا فَإلَى الذِّمَّة
فَإِن أَبَوا فَحِينَئِذٍ يقاتلونهم
فَأَما إِذا بلغتهم الدعْوَة فَالْأولى الْبدَاءَة بِالدُّعَاءِ إِلَى الْإِسْلَام
فَإِن بدأوا بِالْقِتَالِ والإغارة والبينات عَلَيْهِم فَلَا بَأْس بذلك لِأَنَّهُ قد توجه عَلَيْهِم الْخطاب بِالْإِيمَان بِاتِّفَاق الْأمة
فَإِن سمع رجلا قَالَ لَا إِلَه إِلَّا الله أَو قَالَ أشهد أَن مُحَمَّدًا رَسُول الله فَإِن كَانَ من عَبدة الْأَوْثَان أَو من الثنوية أَو من الدهرية فَإِنَّهُ لَا يُبَاح قَتله لِأَنَّهُ أَتَى بِالتَّوْحِيدِ
وَإِن كَانَ من أهل الْكتاب فإتيان الشَّهَادَتَيْنِ لَا يَكْفِي مَا لم يتبرأ من دين الْيَهُودِيَّة والنصرانية
وَكَذَا إِذا قَالَ أَنا مُسلم أَو مُؤمن أَو أَنا مصل لأَنهم

(3/294)


يَعْتَقِدُونَ أَن دينهم إِسْلَام وَأَن لَهُم شرائع وَصَلَاة
وَإِذا قَالَ أَنا صليت مَعَ الْمُسلمين بِجَمَاعَة أَو أَنا على دين مُحَمَّد لَا يُبَاح قَتله لِأَن ذَلِك دلَالَة الْإِسْلَام
ثمَّ الْغُزَاة لَهُم أَن يقتلُوا كل من كَانَ من أهل الْقِتَال وكل من قَاتل وَإِن لم يكن من أهل الْقِتَال فِي الْجُمْلَة نَحْو الصّبيان والمجانين والرهابين والشيوخ الهرمى
فَأَما إِذا لم يقاتلوا فَلَا يُبَاح قتل هَؤُلَاءِ
وَأما الرهابين فَإِن كَانُوا لَا يخالطون النَّاس فَكَذَلِك
وَإِن كَانُوا يخالطون النَّاس أَو يدلون على عورات الْمُسلمين فَيُبَاح قَتلهمْ
وَلَا بَأْس أَن يحرقوا حصونهم بالنَّار ويغرقوها بِالْمَاءِ وينصبوا المجانيق على حصونهم ويهدموها عَلَيْهِم وَأَن يرموها بالنبال وَإِن علمُوا أَن فيهم أُسَارَى الْمُسلمين والتجار لِأَن فِيهِ ضَرُورَة
وَكَذَا إِذا تترسوا بأطفال الْمُسلمين وبأساراهم لَكِن يَنْبَغِي أَن يقصدوا بِهِ قتل الْكفَّار دون الْمُسلمين لما فِيهِ من ضَرُورَة إِقَامَة الْفَرْض عَلَيْهِم
ثمَّ إِذا ظفر الْغُزَاة بهم فَلَا بَأْس بِأَن يقتل الْمُقَاتلَة مِنْهُم من كَانَ مُقَاتِلًا سوى الصَّبِي وَالْمَجْنُون فَإِنَّهُ لَا يُبَاح قَتلهمَا بعد الْفَرَاغ من الْقِتَال لِأَنَّهُمَا لَيْسَ من أهل الْقَتْل ليَكُون جَزَاء على قتالهما إِلَّا إِذا كَانَ الصَّبِي أَو الْمَعْتُوه ملكا فَلَا بَأْس بِقَتْلِهِمَا كسرا لشوكتهما وَيُبَاح فِي حَالَة الْقِتَال لدفع الشَّرّ
وَأما الشُّيُوخ والرهابين والنسوان إِذا قَاتلُوا فَيُبَاح قَتلهمْ بعد الْفَرَاغ أَيْضا جَزَاء على قِتَالهمْ إِلَّا إِذا كَانَت الْمَرْأَة ملكة فَيُبَاح قَتلهَا وَإِن لم تقَاتل
وَيَنْبَغِي لَهُم أَن يخرجُوا إِلَى دَار الْإِسْلَام نِسَاءَهُمْ وصبيانهم ويسترقوهم لما فِيهِ من مَنْفَعَة الْمُسلمين وَلَا يَنْبَغِي أَن يتركوهم فِي دَار

(3/295)


الْحَرْب لما فِيهِ من ضَرَر بِالْمُسْلِمين
وَأما الشَّيْخ الفاني الَّذِي لَا قتال عِنْده وَلَا يقدر أَن يلقح لَكِن يُمكن أَن يفادى بِهِ فَإِن شاؤوا تَرَكُوهُ وَإِن شاؤوا أَخْرجُوهُ على قَول من يرى مفاداة الْأَسير بالأسير وعَلى قَول من لَا يرى يتركونه فِي دَارهم لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِيهِ
وَكَذَا فِي الْعَجُوز الْكَبِيرَة الَّتِي لَا تَلد
وَلَا يَنْبَغِي للغزاة أَن يفر وَاحِد من اثْنَيْنِ مِنْهُم
وَالْحَاصِل أَن الْأَمر مَبْنِيّ على غَالب الظَّن فَإِن غلب فِي ظن الْمقَاتل أَنه يغلب وَيقتل فَلَا بَأْس بِأَن يفر مِنْهُم وَلَا عِبْرَة بِالْعدَدِ حَتَّى إِن الْوَاحِد إِذا لم يكن مَعَه سلَاح فَلَا بَأْس بِأَن يفر من اثْنَيْنِ مَعَهُمَا السِّلَاح أَو من الْوَاحِد الَّذِي مَعَه سلَاح
ثمَّ الْغُزَاة هَل لَهُم أَن يُؤمنُوا الْكَفَرَة إِن كَانَ عِنْدهم أَن الْقُوَّة للكفرة يجب أَن يُؤمنُوا حَتَّى يتقووا ثمَّ يخبروهم بِنَقْض الْأمان ويشتغلوا بِالْقِتَالِ لِأَن الْأمان فِي هَذِه الْحَالة فِي معنى الْقِتَال
ثمَّ أَمَان الْوَاحِد الْحر أَو العَبْد الْمقَاتل أَو الْمَرْأَة صَحِيح بِلَا خلاف
فَأَما أَمَان العَبْد الْمَحْجُور فَلَا يَصح عِنْدهمَا وَعند مُحَمَّد وَالشَّافِعِيّ يَصح وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما أَمَان الصَّبِي الْمُرَاهق فَلَا يَصح عِنْدهم
وَعند مُحَمَّد يَصح
وَأَجْمعُوا أَنه لَا يجوز أَمَان التَّاجِر فِي دَار الْحَرْب وَلَا الْأَسير فِيهَا وَلَا أَمَان الْمُسلم الَّذِي لم يُهَاجر إِلَيْنَا وَلَا أَمَان الذِّمِّيّ الْمقَاتل مَعَهم لأَنهم متهمون فِي ذَلِك

(3/296)


فَأَما الْمُسلم الْحر فيستوي فِيهِ الْأَعْمَى وَالْمَرِيض وَالشَّيْخ الْكَبِير لِأَن هَؤُلَاءِ من أهل الرَّأْي
ثمَّ بعد صِحَة الْأمان للْإِمَام أَن ينْقض إِذا رأى الْمصلحَة فِيهِ لَكِن يُخْبِرهُمْ بذلك ثمَّ يقاتلهم حَتَّى لَا يكون تغريرا لَهُم
وَكَذَا الْجَواب فِي الْمُوَادَعَة وَهُوَ الصُّلْح على ترك الْقِتَال مُدَّة بِمَال أَو بِغَيْر مَال تجوز من الإِمَام إِن رأى الْمصلحَة ثمَّ يُخْبِرهُمْ بِالنَّقْضِ وينقض حَتَّى لَا يكون تغريرا
وَمَا أَخذ من المَال إِن لم يتم الْمدَّة يرد إِلَيْهِم بِقَدرِهِ
وَكَذَلِكَ الْمُوَادَعَة فِي حق الْمُرْتَدين وَأهل الْبَغي جَائِزَة إِذا كَانَ فِيهِ مصلحَة لِأَن هَذَا بِمَنْزِلَة الْأمان
وَهَذَا إِذا كَانَ الصُّلْح على أَن يَكُونُوا على حكم الْكفْر
وَلَو صَالحُوا على أَن يَكُونُوا على أَحْكَام الْمُسلمين فَإِنَّهُم يصيرون ذمَّة وَلَا يجوز لنا نقض ذَلِك كعقد الذِّمَّة
وَأما أَحْكَام الْأَنْفَال والغنائم فَنَقُول هُنَا ثَلَاثَة أَشْيَاء النَّفْل وَالْغنيمَة والفيء
أما النَّفْل فَمَا خصّه الإِمَام لبَعض الْغُزَاة تحريضا لَهُم على الْقِتَال لزِيَادَة قُوَّة وجرأة مِنْهُم بِأَن قَالَ من قتل قَتِيلا فَلهُ سلبه أَو قَالَ لسرية مَا أصبْتُم فَهُوَ لكم أَو قَالَ لأحد معِين مَا أصبت فَهُوَ لَك فَإِنَّهُ مُخْتَصّ بِهِ وَيثبت الْملك لَهُ فِي النَّفْل وَلَا يُشَارك فِيهِ غَيره من الْغُزَاة
وَالسَّلب عبارَة عَن ثِيَاب الْمَقْتُول وسلاحه الَّتِي مَعَه ودابته الَّتِي عَلَيْهَا سرجها وآلاتها وَمَا عَلَيْهَا من الحقيبة الَّتِي فِيهَا الْأَمْوَال وَمَا على الْمَقْتُول من الْكيس الَّذِي فِيهِ الدَّرَاهِم
فَأَما مَا يكون مَعَ غُلَامه على فرس آخر وأمواله الَّتِي على دَابَّة أُخْرَى فَذَلِك من

(3/297)


الْغَنِيمَة يشْتَرك فِيهِ الْغُزَاة كلهم وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي السَّلب للْقَاتِل وَإِن لم ينص عَلَيْهِ الإِمَام وَهِي مَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما الْفَيْء فَمَا حصل من غير مقاتلة فَهُوَ خَاص لرَسُول عَلَيْهِ السَّلَام فيتصرف فِيهِ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَيفَ شَاءَ قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا أَفَاء الله على رَسُوله مِنْهُم فَمَا أَوجَفْتُمْ عَلَيْهِ من خيل وَلَا ركاب وَلَكِن الله يُسَلط رسله على من يَشَاء}
وَأما الْغَنَائِم فَهُوَ اسْم لما يُؤْخَذ من أَمْوَال الْكَفَرَة بِقُوَّة الْغُزَاة وقهر الْكَفَرَة بِسَبَب الْقِتَال بِإِذن الإِمَام
وَيتَعَلَّق بالغنائم أَحْكَام مِنْهَا حكم ثُبُوت الْحق وَالْملك فِيهَا فَنَقُول هَذَا أَقسَام ثَلَاثَة أَحدهَا أَن يتَعَلَّق حق التَّمَلُّك أَو حق الْملك للغزاة بِنَفس الْأَخْذ والاستيلاء وَلَا يثبت بِهِ الْملك قبل الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ فَإِن عِنْده فِي قَول يثبت الْملك بِنَفس الْأَخْذ
وَفِي قَوْله بعد الْفَرَاغ من الْقِتَال وانهزام الْعَدو
ويبتنى على هَذَا الأَصْل فروع مِنْهَا أَن الإِمَام إِذا بَاعَ شَيْئا من الْغَنَائِم لَا لحَاجَة الْغُزَاة أَو بَاعَ وَاحِد من الْغُزَاة فَإِنَّهُ لَا يَصح عندنَا لعدم الْملك
وَكَذَا لَو أتلف وَاحِد من الْغُزَاة فِي دَار الْحَرْب فَإِنَّهُ لَا يضمن
وَلَو مَاتَ وَاحِد من الْغُزَاة لَا يُورث سَهْمه

(3/298)


وَلَو لحق المدد الْجَيْش قبل الْقِسْمَة فِي دَار الْحَرْب يشاركونهم فِي الْقِسْمَة
وَلَو قسم الإِمَام فِي دَار الْحَرْب لَا مُجْتَهدا وَلَا بِاعْتِبَار حَاجَة الْغُزَاة فَإِنَّهُ لَا يَصح الْقِسْمَة عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يَصح بِخِلَاف ذَلِك فِي الْفُصُول وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما بَيَان ثُبُوت الْحق فَإِن الْأَسير إِذا أسلم قبل الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام فَإِنَّهُ لَا يكون حرا
وَلَو أسلم قبل الْأَخْذ يكون حرا لما أَنه يتَعَلَّق بِهِ حق الْغُزَاة بِالْأَخْذِ
وَكَذَلِكَ لَو أسلم أَرْبَاب الْأَمْوَال قبل الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام فَإِنَّهُم لَا يختصون بِأَمْوَالِهِمْ بل هم من جملَة الْغُزَاة فِي الِاسْتِحْقَاق بِسَبَب الشّركَة فِي الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام بِمَنْزِلَة المدد
وَكَذَا لَيْسَ لوَاحِد من الْغُزَاة أَن يَأْخُذ شَيْئا من الْغَنَائِم من غير حَاجَة وَلَو لم يثبت الْحق كَانَ بِمَنْزِلَة الْمُبَاح
وَالْقسم الثَّانِي بعد الْإِحْرَاز بدار الْإِسْلَام قبل الْقِسْمَة فَإِن حق الْملك يتَأَكَّد ويستقر وَلَكِن لَا يثبت الْملك أَيْضا
وَلِهَذَا قَالُوا لَو مَاتَ وَاحِد مِنْهُم يُورث نصِيبه
وَلَو قسم الإِمَام أَو بَاعَ جَازَ
وَلَو لحقهم مدد لَا يشاركونهم وَيضمن الْمُتْلف وَلَكِن الْملك لَا يثبت حَتَّى لَو أعتق وَاحِد من الْغُزَاة عبدا من عبيد الْغَنِيمَة لَا يعْتق لِأَنَّهُ لَا يثبت الْملك الْخَاص إِلَّا بِالْقِسْمَةِ
وَالْقسم الثَّالِث بعد الْقِسْمَة يثبت الْملك الْخَاص لكل وَاحِد فِيمَا هُوَ نصِيبه
فَأَما حكم الطَّعَام والعلف فِي دَار الْحَرْب فَنَقُول لَا بَأْس بتناول الطَّعَام والعلف لعُمُوم الْحَاجة سَوَاء كَانَ المتناول

(3/299)


غَنِيا أَو فَقِيرا من غير ضَمَان لِأَن فِي إِلْزَام الْغَنِيّ حمل الطَّعَام والعلف مَعَ نَفسه مُدَّة ذَهَابه وإيابه ومقامه فِي دَار الْحَرْب حرجا عَظِيما
وَإِذا كَانَ محرزا بدار الْإِسْلَام لَا يُبَاح التَّنَاوُل بِغَيْر ضَمَان
وَمَا فضل من الطَّعَام والعلف بعد الْإِحْرَاز قبل الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يرد إِلَى الْغَنِيمَة إِن كَانَ غينا وَإِن كَانَ فَقِيرا يَأْكُل بِالضَّمَانِ
وَإِن كَانَ بعد الْقِسْمَة فَإِنَّهُ يرد ثمنه إِلَى الْفُقَرَاء
وَإِن بَاعَ شَيْئا مِنْهُ يرد ثمنه إِلَى الْمغنم إِن كَانَ غَنِيا قبل الْقِسْمَة وَإِن كَانَ بعد الْقِسْمَة يتَصَدَّق على الْفُقَرَاء
وَإِن كَانَ فَقِيرا يَأْكُل إِن كَانَ بعد الْقِسْمَة
وَأما مَا سوى الطَّعَام والعلف من الْأَمْوَال فَلَا يُبَاح للغزاة أَن يَأْخُذُوا شَيْئا مِنْهَا لتَعلق حق الْكل بهَا إِلَّا فِي السِّلَاح والكراع وَالثيَاب عِنْد الْحَاجة وَإِذا اسْتغنى يردهُ إِلَى الْمغنم أَو يدْفع إِلَيْهِ بِحِصَّتِهِ من الْغَنِيمَة فَلَا يُبَاح للغني أَن يفعل ذَلِك بِخِلَاف الطَّعَام والعلف
وَمِنْهَا حكم كَيْفيَّة قسْمَة الْغَنَائِم فَنَقُول يقسم على خَمْسَة أسْهم فَأَرْبَعَة أسْهم للغزاة وَالْخمس لأربابه وَإِنَّمَا يصرف إِلَى الْمُقَاتلَة يَعْنِي بِهِ أهل الْقِتَال سَوَاء كَانَ شَابًّا أَو شَيخا عبدا مَأْذُونا أَو حرا بعد أَن كَانَ رجلا مُسلما مَأْذُونا لِلْقِتَالِ وَسَوَاء كَانَ صَحِيحا أَو مَرِيضا
أما الصَّبِي الْعَاقِل وَالْمَرْأَة وَالذِّمِّيّ وَالْعَبْد الْمَحْجُور عَن الْقَتْل إِذا قَاتلُوا فَإِنَّهُ يرْضخ لَهُم الإِمَام شَيْئا لَا سَهْما كَامِلا لِأَنَّهُ لَا يجب الْقِتَال على هَؤُلَاءِ إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة
ثمَّ ينظر إِن كَانَ رَاجِلا فَلهُ سهم وَاحِد وَإِن كَانَ فَارِسًا فَلهُ

(3/300)


سَهْمَان عِنْد أبي حنيفَة سهم لَهُ وَسَهْم لفرسه
وَعِنْدَهُمَا لَهُ ثَلَاث أسْهم سهم لَهُ وسهمان لفرسه
ثمَّ يُسهم للفارس لفرس وَاحِد عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد وَزفر
وَعند أبي يُوسُف يُسهم لفرسين وَلَا يُسهم لما زَاد على ذَلِك وَهَذِه الْمَقَادِير تعرف بالأخبار الْوَارِدَة فِي الْبَاب وَمِنْهَا أَنه يعْتَبر حَال الْمقَاتل فِي كَونه فَارِسًا أَو رَاجِلا فِي حَال دُخُوله دَار الْحَرْب فِي ظَاهر الرِّوَايَة إِذا كَانَ قَصده الدُّخُول للْجِهَاد حَتَّى إِذا كَانَ يدْخل تَاجِرًا فَإِنَّهُ لَا يسْتَحق
وَلَو دخل فَارِسًا لقصد الْجِهَاد يسْتَحق سهم الفرسان وَإِن مَاتَ فرسه
وَعند الشَّافِعِي يعْتَبر وصف الْمقَاتل حَال شُهُود الْوَقْعَة وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَلَو دخل رَاجِلا ثمَّ اشْترى فرسا أَو وهب لَهُ أَو ورث أَو اسْتعَار أَو اسْتَأْجر وَقَاتل فَارِسًا فَلهُ سهم راجل لاعْتِبَار حَال الدُّخُول
وروى الْحسن عَنهُ أَنه لَهُ سهم فَارس
وَلَو دخل فَارِسًا ثمَّ بَاعَ فرسه أَو آجره أَو أَعَارَهُ أَو رَهنه أَو وهبه وَسلم روى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن لَهُ سهم فَارس لاعْتِبَار الدُّخُول
وَذكر فِي السّير الْكَبِير أَن لَهُ سهم راجل لِأَنَّهُ لم يكن دُخُوله لقصد الْجِهَاد فَاعْتبر الْحسن حَالَة الدُّخُول بِنَاء على الظَّاهِر وَاعْتبر حَال شُهُود الْوَقْعَة أَيْضا لأجل حَقِيقَة الْقِتَال
وَمِنْهَا حكم الأسرى فَنَقُول الإِمَام بِالْخِيَارِ إِن شَاءَ قتل الْمُقَاتلَة مِنْهُم سَوَاء كَانُوا من الْمُشْركين أَو من أهل الْكتاب من الْعَرَب أَو من الْعَجم لِأَنَّهُ قد يكون مصلحَة

(3/301)


الْمُسلمين فِي قَتلهمْ وَإِن شَاءَ استرقهم وقسمهم بَين الْغَانِمين إِلَّا فِي حق مُشْركي الْعَرَب فَإِنَّهُم لَا يسْتَرقونَ وَلَكِن يقتلُون إِن لم يسلمُوا قَالَ الله تَعَالَى {تقاتلونهم أَو يسلمُونَ}
فَأَما النِّسَاء والذراري فيسترقون كلهم الْعَرَب والعجم فِيهِ سَوَاء وَلَا يُبَاح قَتلهمْ لِأَنَّهُ فِيهِ مَنْفَعَة للْمُسلمين
وَلَيْسَ للْإِمَام أَن يمن على الأسرى فَيتْرك قَتلهمْ لِأَن فِيهِ إبِْطَال حق الْغُزَاة من غير نفع يرجع إِلَيْهِم
وَهل يجوز أَن يتْرك قَتلهمْ بالمفاداة بِأَن يفادى بهم أسرى الْمُسلمين عِنْد أبي حنيفَة لَا تجوز المفاداة وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد تجوز المفاداة بهم
وَلَا يجوز مفاداة أسر الْكفَّار بِمَال يُؤْخَذ مِنْهُم وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ للْإِمَام خِيَار آخر فِي حق أهل الْكتاب وَعَبدَة الْأَوْثَان من الْعَجم أَن يعْقد مَعَهم عقد الذِّمَّة على أَن يقبلُوا الْجِزْيَة وَيتْرك الْأَرَاضِي فِي أَيْديهم بالخراج كَمَا فعل عمر رَضِي الله عَنهُ بسواد الْعرَاق فِي حق مُشْركي الْعَجم
فَأَما فِي حق مُشْركي الْعَرَب فَلَا يجوز أَخذ الْجِزْيَة مِنْهُم كَمَا لَا يجوز الاسترقاق فَيقسم أراضيهم بَين الْغُزَاة لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لَا يجْتَمع دِينَار فِي جَزِيرَة الْعَرَب
وَمِنْهَا حكم الْخمس فَنَقُول إِن الْخمس فِي زَمَاننَا يقسم على ثَلَاثَة أسْهم سهم لِلْيَتَامَى وَسَهْم

(3/302)


للْمَسَاكِين وَسَهْم لأبناء السَّبِيل
وَلم يكن ذكر هَؤُلَاءِ الْأَصْنَاف على طَرِيق الِاسْتِحْقَاق حَتَّى لَو صرف إِلَى صنف مِنْهُم جَازَ كَمَا فِي الصَّدَقَة
وَاخْتلف مَشَايِخنَا قَالَ بَعضهم بِأَن فِي زمن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام كَانَ يقسم على خَمْسَة أسْهم سهم للرسول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَسَهْم لأقرباء الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام للْفُقَرَاء دون الْأَغْنِيَاء
وَقَالَ بَعضهم يصرف إِلَى الْفُقَرَاء والأغنياء من الأقرباء وَثَلَاثَة أسْهم إِلَى مَا ذكر الله تَعَالَى فِي الْكتاب وَهَذَا عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يقسم على خَمْسَة أسْهم فسهم الرَّسُول يصرف إِلَى كل خَليفَة فِي زَمَانه وَسَهْم ذَوي الْقُرْبَى يصرف إِلَى بني هَاشم من أَوْلَاد فَاطِمَة وَغَيرهَا وَثَلَاثَة أسْهم أُخْرَى إِلَى مَا نَص الله عَلَيْهِم
وَعِنْدنَا على الْوَجْه الَّذِي كَانَ وَقد بَقِي ثَابتا وهم فُقَرَاء الْقَرَابَة سوى سهم الرَّسُول عَلَيْهِ السَّلَام فَإِنَّهُ سقط بوفاته وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
ثمَّ الْخمس إِنَّمَا يجب فِيمَا يُؤْخَذ من أَمْوَال أهل الْحَرْب إِذا أَخذ إِمَّا بِإِذن الإِمَام أَو بِقُوَّة قوم لَهُم مَنْعَة وشوكة فَإِن الْغَنِيمَة اسْم لمَال يُؤْخَذ على طَرِيق الْقَهْر وَالْغَلَبَة أما فِي المنعة فَظَاهر
وَكَذَا إِذا أذن الإِمَام لسرية أَو لوَاحِد حَتَّى يدْخل للإغارة بِخمْس مَا أَصَابَهُ لِأَنَّهُ أَخذ بِقُوَّة الإِمَام ومعونته والإمداد عِنْد الْحَاجة
فَأَما إِذا دخل قوم لَا مَنْعَة لَهُم بِغَيْر إِذن الإِمَام وَأخذُوا شَيْئا لَا يجب فِيهِ الْخمس عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وهم بِمَنْزِلَة اللُّصُوص والتجار ظفروا بِمَال أهل الْحَرْب خُفْيَة وأخرجوه يكون ملكا لَهُم خَاصَّة وَلَا خمس فِيهِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بغنيمة
هَذَا الَّذِي ذكرنَا حكم أَمْوَال الْكفَّار الَّتِي أخذت مِنْهُم

(3/303)


وَأما حكم أَمْوَالنَا الَّتِي أخذُوا من الْمُسلمين بالقهر وَالْغَلَبَة فِي دَار الْإِسْلَام فَقبل أَن يحرزوا بدار الْحَرْب لَا يثبت الْملك لَهُم
وَإِن أحرزوا يثبت الْملك لَهُم عندنَا خلافًا لَهُ
وَكَذَا الْجَواب فِي عبيدنا إِذا أخذُوا فِي دَار الْإِسْلَام
فَأَما إِذا أبق العَبْد منا وَدخل دَار الْحَرْب ثمَّ أَخَذُوهُ وأسروه لَا يصير ملكا لَهُم عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يملكونه
وَأَجْمعُوا أَنهم إِذا أخذُوا مدبرينا ومكاتبينا وَأُمَّهَات أَوْلَادنَا أَنهم لَا يملكُونَ حَتَّى لَو وجد الْملك الْقَدِيم يَأْخُذهُ من غير شَيْء قبل الْقِسْمَة وَبعد الْقِسْمَة وَفِي يَد التَّاجِر
فَأَما كل مَال ملكوه فَإِن وجد قبل الْقِسْمَة يُؤْخَذ بِغَيْر شَيْء
وَإِن كَانَ بعد الْقِسْمَة يُؤْخَذ بِالْقيمَةِ
وَإِن وجد فِي يَد تَاجر أخرجه إِلَى دَار الْإِسْلَام فَإِنَّهُ يَأْخُذ بِالثّمن إِن شَاءَ لِأَن للْمَالِك الْقَدِيم حق التَّمَلُّك بِالْبَدَلِ كالشفيع وَهَذَا فِي غير الْمكيل وَالْمَوْزُون فَأَما فِي الْمِثْلِيَّات فَلَا يَأْخُذ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَة فِي أَن يَأْخُذ شَيْئا وَيُعْطِي مثله
وَلَو أَن حَرْبِيّا دخل دَار الْإِسْلَام بِغَيْر أَمَان يصير فَيْئا لجَماعَة الْمُسلمين حَتَّى لَو أسلم قبل أَن يَأْخُذهُ وَاحِد من الْمُسلمين فَإِنَّهُ لَا يعْتق وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة
فَأَما عِنْدهمَا فَيصير ملكا للآخذ حَتَّى لَو أسلم قبل الْأَخْذ يكون حرا
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا عَاد إِلَى دَار الْحَرْب قبل الْأَخْذ ثمَّ أسلم يكون حرا لِأَن حق أهل دَار الْإِسْلَام لم يتَأَكَّد عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا لم يثبت
فَإِن دخل بِأَمَان ثمَّ أَخذ يَصح الْأمان وَلَا يصير ملكا للآخذ لَكِن يَقُول لَهُ الإِمَام إِن رجعت قبل سنة فَلَا شَيْء عَلَيْك وَإِن

(3/304)


مَضَت سنة وضعت عَلَيْك الْجِزْيَة وصرت ذِمِّيا فَإِن ذهب قبل مُضِيّ السن وَإِلَّا صَار رَاضِيا بِالذِّمةِ وَيصير ذِمِّيا

(3/305)


بَاب أَخذ الْجِزْيَة
وَحكم الْمُرْتَدين أما حكم الْجِزْيَة فَنَقُول إِن أَخذ الْجِزْيَة وَعقد الذِّمَّة مَشْرُوع فِي حق جَمِيع الْكفَّار إِلَّا فِي حق مُشْركي الْعَرَب والمرتدين فَإِنَّهُ لَا يقبل مِنْهُم الْجِزْيَة كَمَا لم يشرع فيهم الاسترقاق
فَأَما فِي حق أهل الْكتاب فَلقَوْله تَعَالَى {هم المعتدون}
وَأما فِي حق الْعَجم فبحديث عمر رَضِي الله عَنهُ أَن فتح سَواد الْعرَاق وَضرب الْجِزْيَة على جَمَاعَتهمْ وَوضع الْخراج على أراضيهم
ثمَّ الْجِزْيَة إِنَّمَا تشرع فِي حق المقاتلين من الرِّجَال الْعُقَلَاء الْأَحْرَار الأصحاء دون النِّسَاء وَالصبيان والمجانين والأرقاء لِأَنَّهَا تجب على من يجب عَلَيْهِ الْقَتْل
ثمَّ الْجِزْيَة على التَّفَاوُت فِي حق الْمُوسر المكثر فِي كل سنة ثَمَانِيَة وَأَرْبَعُونَ درهما
وَفِي حق الْمُتَوَسّط أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ
وَفِي حق الْفَقِير المعتمل أَعنِي الْقَادِر على الْعَمَل وَالْكَسْب اثْنَا عشر درهما حَتَّى لَا يجب على الزَّمن وَالْأَعْمَى وَالشَّيْخ الفاني إِذا لم يَكُونُوا أَغْنِيَاء وَإِذا

(3/307)


كَانُوا أَغْنِيَاء فَكَذَلِك فِي ظَاهر الرِّوَايَة لِأَن هَؤُلَاءِ لَيْسُوا من التقل
وَعَن أبي يُوسُف فِي رِوَايَة أَنه يجب على الْأَغْنِيَاء مِنْهُم
وعَلى هَذَا فِي التغلبي الْفَقِير الَّذِي لَا يقدر على الْعَمَل لَا شَيْء عَلَيْهِ لِأَن الصَّدَقَة المضاعفة جِزْيَة حَقِيقَة
وَكَذَلِكَ إِن مرض الذِّمِّيّ أَكثر السّنة لَا تجب الْجِزْيَة لِأَن الصِّحَّة شَرط
وَكَذَلِكَ أهل الصوامع والرهابين والسياحون يُؤْخَذ مِنْهُم الْخراج إِذا كَانُوا مِمَّن يقدرُونَ على الْعَمَل
وَعَن مُحَمَّد أَنه لَا خراج عَلَيْهِم لأَنهم لَا يقتلُون إِذا لم يكن مِنْهُم شَرّ ظَاهر فَلَا تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة ثمَّ الْجِزْيَة تجب زجرا لَهُم عَن الْكفْر فِي الْمُسْتَقْبل عِنْد أبي حنيفَة حَتَّى تُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة فِي السّنة الَّتِي يعْقد فِيهَا الذِّمَّة
وَإِذا مَضَت السّنة لَا يُؤْخَذ مِنْهُم الْجِزْيَة فِي السّنة الَّتِي يعْقد فِيهَا الذِّمَّة
وَإِذا مَضَت السّنة لَا يُؤْخَذ لما مضى
وَعِنْدَهُمَا تُؤْخَذ مَا دَامَ ذِمِّيا لما مضى
ولقب الْمَسْأَلَة أَن الموانيد هَل تُؤْخَذ أم لَا فَعنده لَا تُؤْخَذ خلافًا لصاحبيه
وَأما إِذا أسلم الذِّمِّيّ أَو مَاتَ تسْقط الْجِزْيَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَأما حكم أهل الرِّدَّة فَنَقُول لَهُم أَحْكَام من ذَلِك أَن الرجل الْمُرْتَد يقتل لَا محَالة إِذا لم يسلم وَلَا يسترق لَكِن الْمُسْتَحبّ أَن يعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام أَولا فَإِن أسلم وَإِلَّا

(3/308)


فَيقْتل من سَاعَته إِذا لم يطْلب التَّأْجِيل
فَأَما إِذا طلب التَّأْجِيل إِلَى ثَلَاثَة أَيَّام لينْظر فِي أمره فَإِنَّهُ يُؤَجل وَلَا يُزَاد عَلَيْهِ
وَلَكِن مَشَايِخنَا قَالُوا الأولى أَن يُؤَجل ثَلَاثَة أَيَّام وَيحبس ويعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام فَإِذا وَقع الْيَأْس فَحِينَئِذٍ يقتل
فَأَما الْمَرْأَة فَلَا تقتل عندنَا
خلافًا للشَّافِعِيّ وَلكنهَا تحبس وتجبر على الْإِسْلَام وتضرب فِي كل ثَلَاثَة أَيَّام إِلَى أَن تسلم
وَكَذَا الْجَواب فِي الْأمة إِلَّا أَن الْأمة تحبس فِي بَيت الْمولى لِأَن ملكه قَائِم بِخِلَاف الْمُرْتَدَّة الْمَنْكُوحَة فَإِن النِّكَاح قد بَطل بِالرّدَّةِ
وَلَو لحقت بدار الْحَرْب ثمَّ ظهر الْمُسلمُونَ عَلَيْهِم لَهُم أَن يسترقوا الْمُرْتَدَّة دون الْمُرْتَد
فَأَما الصَّبِي الْعَاقِل إِذا ارْتَدَّ فَردته صَحِيحَة عِنْد أبي حنيفَة وَمُحَمّد كإسلامه
وَعند أبي يُوسُف إِسْلَام صَحِيح دون ارتداده
وَعند الشَّافِعِي لَا يَصح كِلَاهُمَا وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
لَكِن لَا يقتل ويعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام وَلَكِن لَا يحبس وَلَا يضْرب وَإِذا بلغ الْآن يعرض عَلَيْهِ الْإِسْلَام جبرا وَيحبس وَيضْرب لَكِن لَا يقتل لِأَنَّهُ لَا يجب الْقَتْل بِهَذِهِ الرِّدَّة
وعَلى هَذَا الصَّبِي إِذا حكم بِإِسْلَامِهِ تبعا لِأَبَوَيْهِ ثمَّ بلغ كَافِرًا وَلم يسمع مِنْهُ الْإِقْرَار بعد الْبلُوغ فَإِنَّهُ يجْبر على الْإِسْلَام وَلَكِن لَا يقتل أَيْضا فَأَما إِذا سمع مِنْهُ الْإِقْرَار بعد الْبلُوغ يقتل إِذا ارْتَدَّ
والسكران إِذا ارْتَدَّ فِي حَال ذهَاب عقله فَالْقِيَاس أَن تصح ردته فِي حق الْأَحْكَام وَفِي الِاسْتِحْسَان لَا تصح
وَإِن ذهب عقله بِسَبَب

(3/309)


البرسام وَالْإِغْمَاء فَارْتَد فِي تِلْكَ الْحَالة لَا تصح ردته قِيَاسا واستحسانا لِأَن الْكفْر لَا يَصح بِدُونِ الْقَصْد
وَمِنْهَا حكم مَال الْمُرْتَد وتصرفاته قَالَ أَبُو حنيفَة إِنَّه مَوْقُوف فَإِن مَاتَ أَو قتل على ردته أَو لحق بدار الْحَرْب بَطل جَمِيع ذَلِك إِلَّا أَن يَدعِي ولد جَارِيَة لَهُ فَيثبت نسبه وَتصير الْجَارِيَة أم ولد لَهُ
وَإِن أسلم صَحَّ ذَلِك كُله لِأَن مَاله مَوْقُوف عِنْده بَين أَن يصير لوَرثَته من وَقت الرِّدَّة وَبَين أَن يبْقى لَهُ إِذا أسلم فالتصرفات المبنية عَلَيْهِ كَذَلِك
وَعند أبي يُوسُف تَصَرُّفَاته صَحِيحَة مثل تصرف الصَّحِيح
وَعند مُحَمَّد تَصَرُّفَاته مثل تصرف الْمَرِيض لَا تصح تبرعاته إِلَّا من الثُّلُث لِأَن عِنْدهمَا ملكه بَاقٍ بعد الرِّدَّة وَإِنَّمَا يَزُول بِالْمَوْتِ وَالْقَتْل وإلحاق بدار الْحَرْب
وَأما حكم مَال الْمُرْتَدَّة وتصرفاتها فَمثل قَوْلهمَا فِي الْمُرْتَد عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهَا لَا تقتل
وَمِنْهَا حكم مِيرَاث الْمُرْتَد وَإِذا مَاتَ أَو قتل أَو لحق بدار الْحَرْب وَترك مَاله فِي دَار الْإِسْلَام قَالَ أَبُو حنيفَة فَمَا اكْتَسبهُ فِي حَال الْإِسْلَام
فَهُوَ مِيرَاث لوَرثَته الْمُسلمين وَمَا اكْتَسبهُ فِي حَال الرِّدَّة فَهُوَ فَيْء
وَعِنْدَهُمَا الْكل مِيرَاث
ثمَّ عِنْدهمَا يعْتَبر حَال الْوَارِث وَقت الْمَوْت وَالْقَتْل دون الرِّدَّة فَإِن كَانَ مُسلما حرا يَرث وَإِلَّا فَلَا
وَعَن أبي حنيفَة رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة يعْتَبر حَال الرِّدَّة لَا غير
وَفِي رِوَايَة يعْتَبر حَال الرِّدَّة والدوام إِلَى وَقت الْمَوْت وَالْقَتْل

(3/310)


وَكَذَلِكَ إِذا لحق بدار الْحَرْب فَإِنَّهُ يُورث مَاله لِأَن اللحاق بدار الْحَرْب بِمَنْزِلَة الْمَوْت
لَكِن هَل يشْتَرط قَضَاء القَاضِي بلحاقه فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
وَلَكِن القَاضِي يحكم بِعِتْق أُمَّهَات أَوْلَاده ومدبريه
وَأما الْمكَاتب فَإِذا أدّى بدل الْكِتَابَة إِلَى ورثته عتق وَيكون الْوَلَاء للمرتد وَيقوم الْوَرَثَة مقَامه فِي حق قبض بدل الْكِتَابَة كَمَا إِذا مَاتَ الْمولى وَترك مكَاتبا
وَلَو أَن الْمُرْتَد بَعْدَمَا لحق بدار الْحَرْب عَاد إِلَى دَار الْإِسْلَام مُسلما فَإِن كَانَ قبل قَضَاء القَاضِي بلحاقه فَمَا لَهُ على حَاله وَلم يعْتق مدبروه ومكاتبوه وَأُمَّهَات أَوْلَاده
وَإِن كَانَ بعد الْقَضَاء فَمَا وجد من مَاله فِي يَد وَارثه بِحَالهِ فَهُوَ أَحَق بِهِ كَأَنَّهُ وهب مِنْهُ وَله أَن يرجع
وَمَا زَالَ عَن ملكه بالتمليك أَو بِالْأَكْلِ فَلَا رُجُوع فِيهِ
وَلَا سَبِيل لَهُ على أُمَّهَات الْأَوْلَاد والمدبرين وَلَا يفْسخ عتقهم لِأَنَّهُ لَا يحْتَمل الْفَسْخ وَإِن وجد بدل الْكِتَابَة فِي يَد الْوَرَثَة يَأْخُذهُ وَإِلَّا فَلَا شَيْء على الْوَرَثَة

(3/311)


بَاب أَحْكَام الْبُغَاة
قَالَ إِذا خرج طَائِفَة على الإِمَام على التَّأْوِيل وخالفوا الْجَمَاعَة فَإِن لم يكن لَهُم مَنْعَة فللإمام أَن يَأْخُذهُمْ ويحبسهم حَتَّى يحدثوا تَوْبَة
وَإِن كَانَت لَهُم مَنْعَة فَإِنَّهُ يجب على الَّذين لَهُم قُوَّة وشوكة أَن يعينوا إِمَام أهل الْعدْل ويقاتلوهم حَتَّى يهزموهم ويقتلوهم
وَبعد الانهزام يقتلُون مدبريهم وأسرائهم ويجهزون على جريحهم
وَأَصله قَوْله تَعَالَى {وَإِن طَائِفَتَانِ من الْمُؤمنِينَ اقْتَتَلُوا فأصلحوا بَينهمَا فَإِن بَغت إِحْدَاهمَا على الْأُخْرَى فَقَاتلُوا الَّتِي تبغي حَتَّى تفيء إِلَى أَمر الله}
وَإِن عَفا الإِمَام عَن أسرائهم فَلَا بَأْس بِهِ أَيْضا
وَإِن لم يكن لَهُم مَنْعَة ينحازون إِلَيْهَا فَلَيْسَ للْإِمَام أَن يقتل أَسْرَاهُم وَلَا مدبريهم وَلَكِن يحبسهم حَتَّى يحدثوا تَوْبَة
ثمَّ يخلى سبيلهم
ثمَّ بعد التَّوْبَة مَا أَخذ الإِمَام من أَمْوَالهم وسلاحهم وَهُوَ قَائِم يرد إِلَيْهِم
وَمَا استهلكوه فَلَا ضَمَان عَلَيْهِم
وَكَذَا فِي جَانب أهل الْبَغي إِذا أتلفوا أَمْوَال أهل الْعدْل

(3/313)


وَأَصله حَدِيث الزُّهْرِيّ أَنه قَالَ وَقعت الْفِتْنَة فَاجْتمع أَصْحَاب رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وهم متوافرون على أَن كل دم أريق بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَهُوَ هدر وكل مَا أتلف بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَلَا ضَمَان فِيهِ وكل فرج استبيح بِتَأْوِيل الْقُرْآن فَلَا حد فِيهِ وَمَا كَانَ قَائِما يرد
وَهَذَا إِذا أتلفوا فِي حَال التجبر والمنعة
فَأَما إِذا أتلفوا مَالهم ونفوسهم قبل ظُهُور المنعة أَو بعد الانهزام فَإِنَّهُم يضمنُون لأَنهم من أهل دَار الْإِسْلَام
وَهَذَا جَوَاب الحكم وَإِنَّمَا نعني بِهِ أَن يضمن كل وَاحِد من الْفَرِيقَيْنِ للْآخر مَا أتلف من الْأَنْفس وَالْأَمْوَال لكَونهَا معصومة فِي هَذِه الْحَالة إِلَّا بطرِيق الدّفع
ثمَّ كل من لَا يُبَاح قَتله من أهل الْحَرْب لَا يُبَاح قَتله من أهل الْبَغي إِلَّا إِذا وجد الْقِتَال من العبيد والنسوان والشيوخ فيحنئذ يقتلُون فِي حَالَة الْقِتَال
وَبعد الانهزام لَا يُبَاح
وَيكرهُ أَن يبْعَث برؤوس الْبُغَاة أَو الحربى إِلَى الْآفَاق إِلَّا إِذا كَانَ فِي ذَلِك وَهن لَهُم فَلَا بَأْس بِهِ
ثمَّ قَتْلَى أهل الْعدْل شُهَدَاء يفعل بهم مثل مَا يفعل بِالشُّهَدَاءِ يكفنون فِي ثِيَابهمْ وَلَا يغسلون وَيصلى عَلَيْهِم
فَأَما قَتْلَى أهل الْبَغي فَلَا يصلى عَلَيْهِم سَوَاء كَانَ لَهُم مَنْعَة أَو لم يكن وَهُوَ الصَّحِيح
وَلَكِن يغسلون ويكفنون ويدفنون لِأَن هَذَا من شِيمَة الْمَوْتَى
وَأما قَضَاء قَاضِي أهل الْبَغي بِشَهَادَة أهل الْبَغي فَلَا يَصح لاحْتِمَال أَنه قضى بِمَا هُوَ بَاطِل عندنَا لأَنهم يسْتَحلُّونَ أَمْوَالنَا ودماءنا وَلَا يقبل قَاضِي أهل الْعدْل كتاب قاضيهم لما ذكرنَا من الِاحْتِمَال

(3/314)


وَإِذا تَابُوا وَرَجَعُوا ينظر الإِمَام فِي قضاياه فَإِن قضى بِمَا هُوَ الْحق بِشَهَادَة أهل الْعدْل ينفذ وَإِلَّا فَيرد الْكل
وَأما إِذا نصبوا قَاضِيا من أهل الْعدْل فَإِن قَضَاءَهُ نَافِذ لِأَن لَهُم شَوْكَة وَقُوَّة وَأمكن للْقَاضِي تَنْفِيذ قضاياه بقواهم وَالله أعلم

(3/315)