تحفة الفقهاء

كتاب الشّرْب
فِي هَذَا الْكتاب فصلان أَحدهمَا فِي أَحْكَام الشّرْب
الثَّانِي فِي أَحْكَام الْأَرَاضِي
أما الأول فَنَقُول إِن الْمِيَاه أَنْوَاع أَرْبَعَة مَاء مَمْلُوك وَهُوَ مَا أحرز فِي الْأَوَانِي
وَحكمه حكم سَائِر الْأَمْلَاك لَيْسَ لأحد فِيهِ حق وَلَا يحل لأحد أَن يَأْخُذهُ وَلَا أَن يشربه إِلَّا عِنْد الضَّرُورَة القاتلة بِأَن أَصَابَهُ الْعَطش على وَجه يهْلك فَيُبَاح لَهُ الْأَخْذ وَالشرب وَلَو منع صَاحبه لَهُ أَن يقاتله بِالسِّلَاحِ حَتَّى يتَمَكَّن من تنَاوله بِقدر مَا يدْفع بِهِ عطشه إِذا كَانَ مَعَه فضل مَاء عَن حَاجته الماسة
وَفِي الطَّعَام يُبَاح لَهُ أَن يَأْخُذ جبرا وقهرا وَلَكِن لَا يُقَاتل بِالسِّلَاحِ كَمَا قَالَ بعض الْمَشَايِخ
وَقَالَ بَعضهم هَذَا فِي البئرالخاص وَالنّهر الْخَاص فَإِن حق الشّفة ثَابت لكل النَّاس فَمن منع حَقه لَهُ أَن يُقَاتل مَعَه
فَأَما فِي المَاء الْمَمْلُوك فَعِنْدَ الضَّرُورَة القاتلة يُبَاح لَهُ الْأَخْذ قهرا لَكِن لَا يُقَاتل كَمَا فِي الطَّعَام

(3/317)


وَالثَّانِي المَاء الَّذِي يكون فِي الْبِئْر والحوض وَالْعين الْمَمْلُوكَة لَهُ فَهُوَ حق خَاص لَهُ كالمملوك لَكِن لعامة النَّاس حق الشّفة من هَذَا المَاء حَتَّى يشرب بِنَفسِهِ وَيَأْخُذ المَاء لنَفسِهِ ولمواشيه وَلَيْسَ لصَاحب المَاء حق الْمَنْع وَهُوَ معنى قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام النَّاس شُرَكَاء فِي الثَّلَاث فِي المَاء والكلأ وَالنَّار
وَلَكِن لَو أَرَادَ أحد أَن يسْقِي زرعه من ذَلِك المَاء لَا يجوز لَهُ ذَلِك ويمنعه السُّلْطَان عَنهُ
لِأَن هَذَا يبطل حَقه لِأَنَّهُ لَو أطلق هَذَا لشاركه فِيهِ كل من يُمكنهُ سقِِي أرضه مِنْهُ فَيبْطل حَقه أصلا
وَالثَّالِث أَن يكون نَهرا مُشْتَركا بَين جمَاعَة محصورة حَتَّى يثبت الشُّفْعَة بِسَبَب الشّركَة فِيهِ كَانَ لهَؤُلَاء الشُّرَكَاء حق السَّقْي بِقدر شركتهم فِي النَّهر وَلَيْسَ لغَيرهم حق السَّقْي للمزارع وَالْأَشْجَار إِنَّمَا لَهُم حق الشّفة
وَلَو أَرَادَ وَاحِد من الشُّرَكَاء أَن يكْرِي نَهرا صَغِيرا وَيَأْخُذ المَاء من النَّهر الْمُشْتَرك فيسوق إِلَى أَرض أَحْيَاهَا لَيْسَ لَهَا مِنْهُ شرب لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِرِضا الشُّرَكَاء
وَكَذَلِكَ إِذا أَرَادَ أَن ينصب عَلَيْهِ رحى لَيْسَ لَهُ ذَلِك إِلَّا بِرِضا الشُّرَكَاء لِأَن بقْعَة الرَّحَى حق وَملك لجماعتهم فَإِذا بنى اخْتصَّ بِتِلْكَ الْبقْعَة وَانْقطع حق الشُّرَكَاء عَنْهَا فَيمْنَع
أما إِذا كَانَ مَوضِع الرَّحَى ملكه موليس فِيهِ ضَرَر بالشركاء بِأَن كَانَ المَاء يُدِير الرَّحَى وَيجْرِي المَاء على سنَنه فِي النَّهر فَلَيْسَ لَهُم حق الْمَنْع لِأَن المَاء مُشْتَرك بَينهم وَلكُل وَاحِد مِنْهُم أَن ينْتَفع بِحقِّهِ على وَجه لَا يتَضَرَّر بِهِ شركاؤه
فَأَما إِذا كرى نَهرا من هَذَا النَّهر وعرج المَاء حَتَّى يصل إِلَى الرَّحَى

(3/318)


الْمَمْلُوكَة لَهُ فِي أرضه فيدير رحاه ثمَّ يجْرِي النَّهر من أَسْفَله لَيْسَ لَهُ ذَلِك لِأَن فِيهِ ضَرَرا بالشركاء بِقطع المَاء عَن سنَنه فَيتَأَخَّر وُصُول حَقهم إِلَيْهِم وينتقص فِي الْجُمْلَة أَيْضا
وَكَذَا الْجَواب فِي نصب الدالية والسانية
وَالرَّابِع الْأَنْهَار الْعِظَام كالفرات والدجلة والجيحون وَغَيرهَا فَلَا حق لأحد فِيهَا على الْخُصُوص بل هُوَ حق الْعَامَّة فَكل من يقدر على سقِِي أراضيه مِنْهَا فَلهُ ذَلِك
وَكَذَا نصب الرَّحَى والدالية وَنَحْو ذَلِك
وَهَذَا إِذْ لم يكن فِيهِ ضرب بالنهر الْعَظِيم أما إِذا كَانَ فِيهِ ضرب فَيمْنَع عَن ذَلِك
ثمَّ كري الْأَنْهَار الْعِظَام على السُّلْطَان من مَال بَيت المَال لِأَن مَنْفَعَتهَا ترجع إِلَى عَامَّة النَّاس فَيكون مؤونة ذَلِك فِي مَال الْعَامَّة وَهُوَ مَال بَيت المَال
وَأما كري النَّهر الْمُشْتَرك بَين أَقوام معلومين فَعَلَيْهِم وَاخْتلفُوا فِي كَيْفيَّة ذَلِك قَالَ أَبُو حنيفَة عَلَيْهِم جَمِيعًا أَن يكروا من أَعْلَاهُ فَإِذا جَاوز أَرض رجل وَاحِد دفع عَنهُ حِصَّته يكرن الْكرَى على من بَقِي
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد الكري عَلَيْهِم جَمِيعًا من أَوله إِلَى آخِره بحصص الشّرْب وَالْأَرْض

(3/319)


وَبَيَان ذَلِك أَن النَّهر إِذا كَانَ بَين عشرَة وَلكُل وَاحِد مِنْهُم عَلَيْهِ أراض على السوَاء فَإِن الكري من فوهة النَّهر إِلَى أَن يُجَاوز شرب أَوَّلهمْ بَينهم على عشرَة أسْهم على كل وَاحِد مِنْهُم الْعشْر فَإِذا تجَاوز شرب الأول خرج هُوَ من الكري وَيكون الكري على البَاقِينَ على تِسْعَة أسْهم فَإِذا تجَاوز شرب الثَّانِي سَقَطت عَنهُ النَّفَقَة وَيكون الكري على البَاقِينَ على ثَمَانِيَة أسْهم على هَذَا التَّرْتِيب
وَقَالا إِن المؤونة بَينهم على عشرَة أسْهم من أول النَّهر إِلَى آخِره
فهما يَقُولَانِ إِن لصَاحب الْأَعْلَى مَنْفَعَة فِي حفر الْأَسْفَل فَإِنَّهُ مسيل مائَة كَمَا أَن لصَاحب الْأَسْفَل مَنْفَعَة فِي الْأَعْلَى ثمَّ حفر الْأَعْلَى مُشْتَرك فَكَذَلِك الْأَسْفَل
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِن فوهة النَّهر مُشْتَركَة لَا يتَوَصَّل أحدهم إِلَى الِانْتِفَاع بشربه إِلَّا بحفرها
وَكَذَا حفر مَا بعْدهَا فَإِذا تجَاوز شرب أحدهم فَلَا حق لَهُ فيحفر مَا بعد أرضه لِأَن ذَلِك ملك الْبَاقِي لَا ملكه إِنَّمَا لَهُ حق تسييل المَاء فِيهِ فَتكون المؤونة على الْمَالِك لَا على صَاحب الْحق كَمَا فِي مسيل المَاء على سَطَعَ مَمْلُوك لغيره
وَإِذا كَانَ نهر لرجل بَين أراض فَاخْتَلَفُوا فِي المسناة قَالَ صَاحب الأَرْض هِيَ ملكي وَقَالَ صَاحب النَّهر هِيَ ملكي وَلَا يعرف أَن المسناة فِي يَد من هِيَ وَفِي تصرف من هِيَ قَالَ أَبُو حنيفَة هِيَ ملك صَاحب الأَرْض حَتَّى إِن لَهُ أَن يغْرس فِيهَا ويزرع وَيمْنَع صَاحب النَّهر عَن إِلْقَاء الطين فِيهَا وَعَن الْمُرُور فِيهَا إِلَّا أَنه لَيْسَ لَهُ أَن يحْفر المسناة فيسيل مَاء النَّهر فِي غير مَوْضِعه فَيكون حق صَاحب النَّهر فِي إمْسَاك المَاء لَا غير
وعَلى قَوْلهمَا إِنَّمَا هِيَ ملك صَاحب النَّهر
وَمن مَشَايِخنَا من قَالَ إِن هَذَا الْخلاف مَبْنِيّ على أَن النَّهر هَل لَهُ حَرِيم أم لَا فَإِن كرى رجل نَهرا فِي أَرض موَات بِإِذن السُّلْطَان فَعِنْدَ

(3/320)


أبي حنيفَة لَيْسَ لَهُ حَرِيم
وَعِنْدَهُمَا لَهُ حَرِيم فَكَانَ الظَّاهِر شَاهدا لصَاحب النَّهر عِنْدهمَا وَلَيْسَ بِشَاهِد لَهُ عِنْد أبي حنيفَة
لَكِن أهل التَّحْقِيق من مَشَايِخنَا قَالُوا لَا خلاف أَن للنهر حريما فِي أَرض موَات فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام جعل للبئر حريما فَيكون جعله ذَاك جعلا للنهر حريما بطرِيق الأولى لشدَّة حَاجَة النَّهر إِلَى الْحَرِيم
وَلَكِن الْخلاف هَاهُنَا فِيمَا إِذا لم يعرف أَن المسناة فِي يَد صَاحب النَّهر بِأَن كَانَت مُتَّصِلَة بالأراضي مُسَاوِيَة لَهَا وَلم تكن أَعلَى مِنْهَا فَالظَّاهِر شَاهد أَنَّهَا من جملَة أراضيه إِذْ لَو لم تكن هَكَذَا لكَانَتْ أَعلَى لإلقاء الطين فِيهَا وَنَحْو ذَلِك
وَعِنْدَهُمَا الظَّاهِر شَاهد لصَاحب النَّهر لكَونه حريما لَهُ فَوَقع الْكَلَام بَينهم فِي التَّرْجِيح
ثمَّ الشّرْب الْخَاص أَو الْمُشْتَرك لَا يجوز بَيْعه وهبته وَنَحْو ذَلِك إِلَّا الْوَصِيَّة
وَيجْرِي فِيهِ الْإِرْث لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعَين مَال بل هُوَ حق مَالِي
فَأَما إِذا بَاعَ تبعا لأرضه جَازَ وَيصير الشّرْب لصَاحب الأَرْض وَإِنَّمَا يدْخل الشّرْب إِذا ذكره صَرِيحًا فِي البيع أَو يذكر إِنِّي بِعْت الأَرْض بحقوقها أَو بمرافقها أَو بِكُل قَلِيل وَكثير هُوَ لَهَا دَاخل فِيهَا وخارج مِنْهَا من حُقُوقهَا فَحِينَئِذٍ يدْخل
فَأَما فِي الْإِجَارَة فَيدْخل الشّرْب من غير ذكر لِأَن الِانْتِفَاع بِالْأَرْضِ الْمُسْتَأْجرَة لَا يكون إِلَّا بِالْمَاءِ بِخِلَاف البيع
أما أَحْكَام الْأَرَاضِي
فَهِيَ أَنْوَاع وَأَرْض مَمْلُوكَة عامرة لَا يجوز لأحد التَّصَرُّف فِيهَا وَالِانْتِفَاع بهَا إِلَّا بِرِضا صَاحبهَا
وَالثَّانيَِة أَرض خراب انْقَطع مَاؤُهَا وَهِي ملك صَاحبهَا لَا تَزُول

(3/321)


عَنهُ إِلَّا بإزالته وتورث عَنهُ إِذا مَاتَ
وَهَذَا إِذا عرف صَاحبهَا
وَإِن لم يعرف فَحكمهَا حكم اللّقطَة
الثَّالِثَة الأَرْض الْمُبَاحَة وَتسَمى الْموَات وَهِي نَوْعَانِ أَحدهمَا مَا يكون تبعا لبَعض الْقرى مرعى لمواشيهم ومحتطبا لَهُم فَهِيَ حَقهم لَا يجوز للْإِمَام أَن يقطعهَا من أحد لِأَن فِي ذَلِك ضَرَرا بهؤلاء
وَلَكِن ينْتَفع بالحطب والقصب الَّتِي فِيهَا هَؤُلَاءِ وَغَيرهم وَلَيْسَ لَهُم أَن يمنعوها عَن غَيرهم لِأَنَّهَا لَيست بِملك لَهُم
وَالْحَد الْفَاصِل أَن يسمع صَوت الرجل من أدنى الأَرْض الْمَمْلُوكَة إِلَيْهِ فَمَا لم يسمع صَوته فِيهِ فَهِيَ لَيست بتابعة لقريتهم
وَالنَّوْع الثَّانِي مَا لَا يكون تبعا لقرية من الْقرى فَهِيَ على الْإِبَاحَة من أَحْيَاهَا بِإِذن الإِمَام فَعِنْدَ أبي حنيفَة تكون ملكا لَهُ وَعِنْدَهُمَا بِغَيْر إِذن الإِمَام تصير ملكا لَهُ وَيصير هُوَ أَحَق بهَا من غَيره ملكا
والإحياء أَن يَبْنِي ثمَّة بِنَاء
أَو يحْفر نَهرا أَو يَجْعَل للأراضي مسناة وَنَحْو ذَلِك
أما إِذا وضع أحجارا حولهَا وَجعل ذَلِك حدا فَإِنَّهُ لَا تصير ملكا لَهُ وَلَكِن يكون هُوَ أَحَق بِالِانْتِفَاعِ بهَا بسبق يَده على مَا رُوِيَ مني مناخ من سبق
ثمَّ فِي الْأَرَاضِي الْمَمْلُوكَة لَا شركَة لأحد فِي الْحَطب والقصب مِنْهَا وَإِنَّمَا لَهُم حق فِي الْكلأ وَلَيْسَ لأربابها منع الْغَيْر عَن ذَلِك للْحَدِيث الَّذِي روينَا
وَلَو منع عَن الدُّخُول يَقُول لَهُ أخرج الْكلأ إِلَى الطَّالِب وَإِلَّا فَاتْرُكْهُ حَتَّى يدْخل فيحصد بِنَفسِهِ
وَهَكَذَا المروج الْمَمْلُوكَة والأجمة الْمَمْلُوكَة فِي حق الْكلأ والسمك لَا فِي الْحَطب والقصب

(3/322)


ثمَّ إِذا حفر نَهرا هَل لَهُ حَرِيم عِنْد بعض الْمَشَايِخ على الْخلاف الَّذِي ذكرنَا فِي المسناة
وَعند بَعضهم لَهُ حَرِيم بِقدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ بالِاتِّفَاقِ لإلقاء الطين وَنَحْوه
وَاخْتلف أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد فِي مِقْدَاره قَالَ أَبُو يُوسُف قدر عرض نصف النَّهر من هَذَا الْجَانِب وَقدر النّصْف من الْجَانِب الآخر
وَقَالَ مُحَمَّد قدر عرض جَمِيع النَّهر من كل جَانب
وَكَذَا الِاخْتِلَاف فِي الْحَوْض
فَأَما حَرِيم بِئْر العطن فأربعون ذِرَاعا بِالْإِجْمَاع
وحريم الْعين خَمْسمِائَة ذِرَاع من كل جَانب بِالْإِجْمَاع
وَاخْتلفُوا فِي بِئْر الناضح قَالَ أَبُو حنيفَة أَرْبَعُونَ من كل جَانب
وَقَالا سِتُّونَ ذِرَاعا

(3/323)