تحفة الفقهاء

كتاب الْأَشْرِبَة
قَالَ يحْتَاج إِلَى تَفْسِير أَسمَاء الْأَشْرِبَة الْمُحرمَة فِي الْجُمْلَة وَإِلَى بَيَان أَحْكَامهَا
أما الْأَسْمَاء فثمانية الْخمر وَالسكر ونقيع الزَّبِيب ونبيذ التَّمْر والفضيخ والباذق والطلاء وَيُسمى المثلث والجمهوري وَيُسمى أَبُو يوسفي
أما الْخمر فَهُوَ اسْم للنيء من مَاء الْعِنَب بَعْدَمَا غلي وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد وَسكن عَن الغليان وَصَارَ صافيا وَهَذَا عِنْد أبي حنيفَة
وَقَالَ أَبُو يُوسُف وَمُحَمّد إِذا غلي وَاشْتَدَّ فَهُوَ خمر وَإِن لم يسكن عَن الغليان
وَأما السكر فَهُوَ النيء من مَاء الرطب بَعْدَمَا غلي وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد وَسكن غليانه عِنْده وَعِنْدَهُمَا إِذا غلي وَلم يسكن غليانه
وَأما نَقِيع الزَّبِيب فَهُوَ الزَّبِيب إِذا نقع فِي المَاء حَتَّى خرجت حلاوته إِلَى المَاء من غير طبخ
وَأما نَبِيذ التَّمْر فَيَقَع على المَاء الَّذِي نقع فِيهِ التَّمْر فَخرجت حلاوته ثمَّ اشْتَدَّ وغلي وَقذف بالزبد وَهَذَا الأسم يَقع على الْمَطْبُوخ والنيء مِنْهُ

(3/325)


وَأما الفضيخ فَهُوَ الْبُسْر إِذا خرج مِنْهُ المَاء وغلي وَاشْتَدَّ وَقذف بالزبد وَذَلِكَ بِأَن يكسر ويدق يُسمى فضيخا لِأَنَّهُ يفضخ أَي يكسر ويرض
وَأما الباذق فَهُوَ اسْم لما طبخ أدنى من مَاء الْعِنَب حَتَّى ذهب أقل من الثُّلثَيْنِ سَوَاء كَانَ أقل من الثُّلُث أَو النّصْف أَو طبخ أدنى طبخه بَعْدَمَا صَار مُسكرا وَسكن عَن الغليان
وَأما الطلاء فَهُوَ اسْم للمثلث وَهُوَ الْمَطْبُوخ من مَاء الْعِنَب بَعْدَمَا ذهب ثُلُثَاهُ وَبَقِي الثُّلُث وَصَارَ مُسكرا
وَأما الجمهوري فَهُوَ الطلاء الَّذِي يلقى فِيهِ المَاء حَتَّى يرق وَيعود إِلَى الْمِقْدَار الَّذِي كَانَ فِي الأَصْل ثمَّ طبخ أدنى طبخه وَصَارَ مُسكرا وَهَذَا بَيَان الْأَسْمَاء
أما بَيَان الْأَحْكَام فَنَقُول أما الْخمر فلهَا أَحْكَام سِتَّة الأول تَحْرِيم شرب قليلها وكثيرها
وَيحرم الِانْتِفَاع بهَا للتداوي وَغَيره
لَكِن عِنْد أبي حنيفَة مَا لم تسكن من الغليان يُبَاح شربهَا وَعِنْدَهُمَا إِذا صَار مُسكرا يحرم شربه وَإِن لم يسكن من الغليان قَالَ عَلَيْهِ السَّلَام حرمت الْخمر لعينها قليلها وكثيرها وَالسكر من كل شراب
وَالثَّانِي تَكْثِير جَاحد حرمتهَا لِأَن حرمتهَا ثبتَتْ بِنَصّ الْكتاب
وَالثَّالِث يحرم تمليكها وتملكها بِسَبَب الْملك من البيع وَالْهِبَة وَغَيرهمَا مِمَّا للعباد فِيهِ صنع
وَالرَّابِع هِيَ نجسه نَجَاسَة غَلِيظَة حَتَّى إِذا أصَاب الثَّوْب أَكثر

(3/326)


من قدر الدِّرْهَم يمْنَع جَوَاز الصَّلَاة لقَوْله تَعَالَى {رِجْس من عمل الشَّيْطَان}
وَالْخَامِس يجب الْحَد بِشرب قليلها وكثيرها بِإِجْمَاع الصَّحَابَة عَلَيْهِ
وَالسَّادِس يجب فِيهِ الْحَد مُقَدرا بِثَمَانِينَ سَوْطًا فِي حق الْأَحْرَار وَفِي حق العبيد نصف ذَلِك
وَأما حكم السكر ونقيع الزَّبِيب وَالتَّمْر من غير طبخ والفضيخ والباذق فواحد وَهُوَ أَنه يحرم شرب قليلها وكثيرها لَكِن هَذِه الْحُرْمَة دون حُرْمَة الْخمر حَتَّى إِن من جحد حُرْمَة هَذِه الْأَشْرِبَة لَا يكفر بِخِلَاف الْخمر
وَكَذَا لَا يجب الْحَد بِشرب قليلها وَإِنَّمَا يجب الْحَد بالسكر
وَقَالَ بعض النَّاس بِإِبَاحَة هَذِه الْأَشْرِبَة مثل بشر المريسي وَغَيره لوُرُود الْأَخْبَار فِي إِبَاحَة شربهَا
وَاخْتلفت الرِّوَايَات فِي النَّجَاسَة فَفِي رِوَايَة عَن أبي حنيفَة أَنه نجس الْعين كَالْخمرِ وَيمْنَع من جَوَاز الصَّلَاة مَا كَانَ مُقَدرا بِأَكْثَرَ من قدر الدِّرْهَم وَفِي رِوَايَة ظَاهر
وَعَن أبي يُوسُف أَنه اعْتبر فِيهِ الْكثير الْفَاحِش
أَو مَا بيع هَذِه الْأَشْرِبَة وتمليكها فَجَائِز عِنْد أبي حنيفَة
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد لَا يجوز ذَلِك فهما يَقُولَانِ إِن المَال مَا يُبَاح الِانْتِفَاع بِهِ

(3/327)


حَقِيقَة وَشرعا وَهَذِه الْأَشْرِبَة لَا يُبَاح شربهَا وَلَا الِانْتِفَاع بهَا شرعا فَلَا تكون مَالا كَالْخمرِ
أَبُو حنيفَة يَقُول إِن الْأَخْبَار تَعَارَضَت فِي هَذِه الْأَشْرِبَة فِي الْحل وَالْحُرْمَة فَقُلْنَا بِحرْمَة الشّرْب احْتِيَاطًا وَلَا تبطل الْمَالِيَّة الثَّابِتَة فِي الْحَالة الأولى احْتِيَاطًا لِأَن الِاحْتِيَاط لَا يجْرِي فِي إبِْطَال حُقُوق النَّاس
وَأما حكم الطلاء وَحكم مطبوخ التَّمْر وَالزَّبِيب أدنى طبخ على السوَاء فالقليل مِنْهُ حَلَال ظَاهر والمسكر حرَام وَهُوَ الْقدح الَّذِي يسكر
فَإِذا سكر يجب عَلَيْهِ الْحَد
وَيجوز بَيْعه وتمليكه وَيضمن متلفه وَهَذَا فِي قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَعَن مُحَمَّد رِوَايَتَانِ فِي رِوَايَة أَنه حرَام شربه لَكِن لَا يجب الْحَد مَا لم يسكر وَهُوَ قَول الشَّافِعِي
وَفِي رِوَايَة قَالَ لَا أحرمهُ وَلَكِن لَا أشْرب مِنْهُ وَالصَّحِيح قَوْلهمَا بِاتِّفَاق عَامَّة الصَّحَابَة على إِبَاحَة شربه حَتَّى إِن عِنْد أبي حنيفَة هَذَا من عَلامَة مَذْهَب السّنة وَالْجَمَاعَة حَتَّى سُئِلَ عَنْهَا فَقَالَ السّنة أَن تفضل الشَّيْخَيْنِ وتحب الختنين إِلَى أَن قَالَ وَلَا تحرم نَبِيذ الْجَرّ
ثمَّ مَا سوى هَذِه الْأَشْرِبَة مِمَّا يتَّخذ من الْحِنْطَة وَالشعِير والذرة وَالسكر والفانيذ وَالْعَسَل والتين فَهِيَ مُبَاحَة وَإِن سكر مِنْهَا وَلَا حد على من سكر مِنْهَا هَذَا هُوَ الصَّحِيح من الرِّوَايَة لِأَن هَذِه من جملَة الْأَطْعِمَة وَلَا عِبْرَة بالسكر فَإِن فِي بعض الْبِلَاد قد يسكر الْمَرْء من الْخبز وَنَحْوه والبنج يسكر وَلبن الرمكة يسكر

(3/328)


وروى الْحسن عَن أبي حنيفَة أَن الْمُسكر مِنْهُ حرَام كَمَا فِي المثلث وَلَكِن إِذا سكر مِنْهُ لَا حد فِيهِ بِخِلَاف المثلث
ثمَّ حد السكر الَّذِي يتَعَلَّق بِهِ وجوب الْحَد وَالْحُرْمَة عِنْد أبي حنيفَة أَن يَزُول عقله بِحَيْثُ لَا يفهم شَيْئا
وَعِنْدَهُمَا إِذا كَانَ غَالب كَلَامه الهذيان
فَمَا قَالَه أَبُو حنيفَة غَايَة السكر فَاعْتبر الْكَمَال فِي دَرْء الْحَد وَلَو كَانَ الْخمر فِيهَا حموضة غالبة وفيهَا طعم المرارة لكنه مغلوب فَإِنَّهُ لَا يحل مَا لم يزل من كل وَجه
وهما اعتبرا الْغَالِب فَيحل عِنْدهمَا
وَيحرم على الْأَب أَن يسْقِي الصّبيان خمرًا وَعَلِيهِ الْإِثْم فِي الشّرْب
وَكَذَلِكَ لَو سقى الدَّوَابّ حَتَّى سكرت ثمَّ ذَبحهَا لَا يحرم أكل لَحمهَا
وَلَو نقعت فِيهَا الْحِنْطَة ثمَّ غسلت حَتَّى زَالَ طعمها ورائحتها يحل أكلهَا
وَلَو ألْقى فِي الْخمر علاجا من الْملح والمسك وَالْبيض والخل حَتَّى صَارَت حامضا يحل شربهَا عندنَا وَصَارَت خلا
وَعند الشَّافِعِي لَا يحل
ولقب الْمَسْأَلَة أَن تَحْلِيل الْخمر بالعلاج هَل يُبَاح أم لَا وَلَو نقل الْخمر من الظل إِلَى الشَّمْس وَمن الشَّمْس إِلَى الظل حَتَّى تصير حامضا تحل عندنَا وَللشَّافِعِيّ فِيهِ قَولَانِ وَالْمَسْأَلَة مَعْرُوفَة
وَالله أعلم

(3/329)