تحفة
الفقهاء كتاب الْحَظْر وَالْإِبَاحَة
سمى مُحَمَّد بن الْحسن رَحمَه الله ومشايخنا هَذَا الْكتاب
كتاب الِاسْتِحْسَان
لما فِيهِ من الْمسَائِل الَّتِي استحسنها الْعقل وَالشَّرْع
وَالشَّيْخ أَبُو الْحسن الْكَرْخِي سَمَّاهُ كتاب الْحَظْر وَالْإِبَاحَة
لما فِيهِ من بَيَان أَحْكَام الْحَظْر وَالْإِبَاحَة وَالْكَرَاهَة
وَالنَّدْب على الْخُصُوص
وَبَدَأَ الْكتاب بِإِبَاحَة الْمس وَالنَّظَر إِلَى الرِّجَال وَالنِّسَاء
فَنَقُول النسوان على أَرْبَعَة أَنْوَاع نوع مِنْهَا الزَّوْجَات
والمملوكات بِملك الْيَمين
وَنَوع مِنْهَا الأجنبيات وَذَوَات الرَّحِم الَّتِي لَا يحرم نِكَاحهنَّ
وَنَوع آخر ذَوَات الرَّحِم الْمحرم والمحارم الَّتِي لَا رحم لَهَا
كالمحرمة بِالرّضَاعِ والصهرية
وَنَوع آخر مملوكات الْغَيْر
أما النَّوْع الأول فَيحل للزَّوْج وللمالك النّظر والمس من قرنها إِلَى
قدمهَا عَن شَهْوَة وَيحل الِاسْتِمْتَاع فِي الْفرج وَمَا دون الْفرج
إِلَّا فِي حَالَة الْحيض فَإِنَّهُ لَا يُبَاح الْوَطْء فِي هَذِه
الْحَالة مَا لم تطهر
وَهل يُبَاح الْجِمَاع فِيمَا دون الْفرج قَالَ أَبُو حنيفَة وَأَبُو
يُوسُف لَا
(3/331)
يُبَاح الِاسْتِمْتَاع إِلَّا فَوق
الْإِزَار
وَقَالَ مُحَمَّد يجْتَنب شعار الدَّم وَيحل لَهُ مَا وَرَاء ذَلِك من غير
إِزَار
وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِي تَفْسِير قَول أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف مَا فَوق
الْإِزَار بَعضهم قَالُوا أَرَادَ مَا فَوق السُّرَّة من الْبَطن وَنَحْوه
وَلَا يُبَاح مَا دون السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة
وَقَالَ بَعضهم أَرَادَ بِهِ أَنه يحل الِاسْتِمْتَاع مَعَ الْإِزَار لَا
مكشوفا
وَكَذَا لَا يحل الِاسْتِمْتَاع بالدبر عِنْد عَامَّة الْعلمَاء
وَقَالَ بعض أَصْحَاب الظَّوَاهِر يُبَاح
وَالْأَصْل فِي ذَلِك قَوْله تَعَالَى {وَالَّذين هم لفروجهم حافظون}
{إِلَّا على أَزوَاجهم أَو مَا ملكت أَيْمَانهم فَإِنَّهُم غير ملومين}
من غير فصل إِلَّا أَن حَالَة الْحيض صَارَت مُسْتَثْنَاة لقَوْله تَعَالَى
{ويسألونك عَن الْمَحِيض قل هُوَ أَذَى}
وَصَارَ الِاسْتِمْتَاع بالدبر مُسْتَثْنى بأجماع الصَّحَابَة وَبِحَدِيث
عَليّ رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام قَالَ من أَتَى
حَائِضًا أَو امْرَأَة فِي دبرهَا أَو أَتَى كَاهِنًا فَصدقهُ فِيمَا
يَقُول فَهُوَ كَافِر بِمَا أنزل على مُحَمَّد صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَأما النّظر إِلَى عين الْفرج فمباح أَيْضا لِأَن الِاسْتِمْتَاع مُبَاح
فالنظر أولى لَكِن لَيْسَ من الْأَدَب النّظر إِلَى فرج نَفسه أَو إِلَى
فرجهَا
وأصل ذَلِك مَا رُوِيَ عَن عَائِشَة رَضِي الله عَنْهَا أَنَّهَا قَالَت
قبض رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَمَا نظرت إِلَى مَا مِنْهُ
وَمَا نظر إِلَى مَا مني
وَأما النَّوْع الثَّانِي وَهُوَ الْمَحَارِم من ذَوَات الرَّحِم والمحارم
الَّتِي لَا وَالركبَة وَإِلَى الْبَطن وَالظّهْر وَيُبَاح النّظر إِلَى
مَا سوى ذَلِك من الشّعْر والصدر والساعدين والساقين وَنَحْوهَا لقَوْله
تَعَالَى {وَلَا يبدين زينتهن} رحم لَهَا من الأجنبيات فَنَقُول
(3/332)
النّظر حرَام إِلَى هَؤُلَاءِ إِلَى مَا
بَين السُّرَّة {إِلَّا لبعولتهن}
وَلَكِن هَذَا إِذا كَانَ غَالب رَأْيه أَنه لَا يَشْتَهِي
فَأَما إِذا كَانَ غَالب حَاله أَنه يَشْتَهِي فَلَا يُبَاح لَهُ النّظر
وَمَا عرفت من الْجَواب فِي حق النّظر فَهُوَ الْجَواب فِي حق الْمس أَنه
لَا يُبَاح لَهُ مس الْأَعْضَاء الَّتِي لَا يُبَاح لَهُ النّظر إِلَيْهَا
وَيُبَاح مس الْأَعْضَاء الَّتِي يُبَاح لَهُ النّظر إِلَيْهَا
وَهَذَا إِذا كَانَت الْأَعْضَاء مكشوفة
فَأَما إِذا كَانَت مَعَ الثِّيَاب وَاحْتَاجَ ذُو الرَّحِم الْمحرم إِلَى
مس هَذِه الْأَعْضَاء الْأَرْبَعَة وَرَاء الثَّوْب للإركاب والإنزال
والوضع فِي الْقَبْر واللحد فَلَا بَأْس بذلك إِذا كَانَ لَا يَشْتَهِي
لأجل الْحَاجة
وَأما النَّوْع الثَّالِث وَهُوَ مملوكات الْغَيْر فَحكمهَا وَحكم ذَوَات
الرَّحِم الْمحرم فِي حُرْمَة النّظر والمس سَوَاء
وَأما النَّوْع الرَّابِع وَهُوَ الأجنبيات وَذَوَات الرَّحِم بِلَا محرم
فَإِنَّهُ يحرم النّظر إِلَيْهَا أصلا من رَأسهَا إِلَى قدمهَا سوى
الْوَجْه وَالْكَفَّيْنِ فَإِنَّهُ لَا بَأْس بِالنّظرِ إِلَيْهِمَا من غير
شَهْوَة فَإِن كَانَ غَالب رَأْيه أَنه يَشْتَهِي يحرم أصلا
وَأما الْمس فَيحرم سَوَاء عَن شَهْوَة أَو عَن غير شَهْوَة وَهَذَا إِذا
كَانَت شَابة
فَإِن كَانَت عجوزا فَلَا بَأْس بالمصافحة إِن كَانَ غَالب رَأْيه أَنه لَا
(3/333)
يَشْتَهِي
وَلَا تحل المصافحة إِن كَانَت تشْتَهي وَإِن كَانَ الرجل لَا يَشْتَهِي
فَإِن كَانَ عِنْد الضَّرُورَة فَلَا بَأْس بِالنّظرِ وَإِن كَانَ
يَشْتَهِي كَالْقَاضِي وَالشَّاهِد ينظر إِلَى وَجههَا عِنْد الْقَضَاء
وَتحمل الشَّهَادَة أَو كَانَ يُرِيد تزَوجهَا لِأَن الْغَرَض لَيْسَ هُوَ
اقْتِضَاء الشَّهْوَة على مَا رُوِيَ عَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَنه
قَالَ للْمُغِيرَة بن شُعْبَة لَو نظرت إِلَيْهَا لأحرى أَن يُؤْدم
بَيْنكُمَا
وَأما النّظر إِلَى الْقَدَمَيْنِ هَل يحرم ذكر فِي كتاب الِاسْتِحْسَان
هِيَ عَورَة فِي حق النّظر وَلَيْسَ بِعَوْرَة فِي حق الصَّلَاة
وَكَذَا ذكر فِي الزِّيَادَات إِشَارَة إِلَى أَنَّهَا لَيست بِعَوْرَة فِي
حق الصَّلَاة
وَذكر ابْن شُجَاع عَن الْحسن عَن أبي حنيفَة أَنَّهَا لَيست بِعَوْرَة فِي
حق النّظر كالوجه وَالْكَفَّيْنِ
وَأما الرِّجَال فِي حق الرِّجَال فَيُبَاح لكل وَاحِد النّظر إِلَى الآخر
سوى مَا بَين الرّكْبَة إِلَى السُّرَّة
وَالركبَة عَورَة عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ والسرة لَيست بِعَوْرَة
عندنَا وَعِنْده عَورَة
وَكَذَلِكَ النِّسَاء فِي حق النِّسَاء يُبَاح النّظر إِلَى جَمِيع
الْأَعْضَاء سوى مَا بَين الرّكْبَة إِلَى السُّرَّة
وَمَا يُبَاح النّظر يُبَاح الْمس من غير شَهْوَة
وَلَا يُبَاح الْمس وَالنَّظَر إِلَى مَا بَين السُّرَّة وَالركبَة إِلَّا
فِي حَالَة الضَّرُورَة بِأَن كَانَت الْمَرْأَة ختانة تختن النِّسَاء أَو
كَانَت تنظر إِلَى الْفرج لمعْرِفَة الْبكارَة أَو كَانَ فِي مَوضِع
الْعَوْرَة قرح أَو جرح يحْتَاج إِلَى التَّدَاوِي وَإِن كَانَ لَا يعرف
ذَلِك إِلَّا الرجل يكْشف ذَلِك الْموضع الَّذِي فِيهِ جرح وقرح فَينْظر
إِلَيْهِ ويغض الْبَصَر مَا اسْتَطَاعَ
(3/334)
وَكَذَا يُبَاح للنِّسَاء النّظر إِلَى
الرِّجَال إِلَّا فِيمَا بَين السُّرَّة إِلَى الرّكْبَة لِأَن هَذَا
لَيْسَ بِعَوْرَة فَإِن الرِّجَال قد يكونُونَ فِي إِزَار وَاحِد فِي
الْأَسْوَاق وَلم يُنكر عَلَيْهِم أحد
(3/335)
بَاب آخر قَالَ رجل رأى
إنْسَانا قتل أَبَاهُ عمدا بِالسِّلَاحِ أَو أقرّ عِنْده ثمَّ قَالَ
الْقَاتِل إِنَّمَا قتلته لِأَنَّهُ قتل وليي عمدا أَو أَنه ارْتَدَّ عَن
الْإِسْلَام وَلم يعرف الابْن ذَلِك إِلَّا بِدَعْوَاهُ فَإِنَّهُ يُبَاح
لَهُ أَن يقْتَصّ مِنْهُ لَا يقبل قَوْله لِأَن الْقصاص ثَبت عِنْده
لوُجُود الْقَتْل الْعمد ظَاهرا بالعيان أَو بِالْإِقْرَارِ فَإِن
الْإِقْرَار حجَّة بِنَفسِهِ وَقَول الْقَائِل يحْتَمل الصدْق وَالْكذب
فَلَا يعْتَبر إِلَّا بِحجَّة
وَلَو شهد عِنْده رجلَانِ عَدْلَانِ إِن هَذَا الرجل قتل أَبَاك عمدا
بِالسِّلَاحِ فَإِنَّهُ لَا يُبَاح لَهُ أَن يقْتله لِأَن قَول الشَّاهِدين
لَا يصير حجَّة بِدُونِ قَضَاء القَاضِي بِخِلَاف الْإِقْرَار والعيان
وَلَو شهد عِنْد الابْن شَاهِدَانِ على دَعْوَى الْقَاتِل أَنه قَتله بِحَق
ينظر إِن كَانَ بِحَال لَو شَهدا عِنْد القَاضِي فَالْقَاضِي يقْضِي
بِشَهَادَتِهِمَا فَإِنَّهُ لَا يتعجل بِالْقَتْلِ بل يتَوَقَّف إِلَى أَن
يشهدَا عِنْد القَاضِي
وَإِن كَانَ بِحَال لَا يقبل القاضى قَوْلهمَا يُبَاح لَهُ أَن يقْتله
للْحَال بَيَانه إِذا كَانَ الشَّاهِدَانِ محدودين فِي الْقَذْف أَو فاسقين
أَو النِّسَاء وحدهن فَالْقَاضِي لَا يقْضِي بقَوْلهمْ وَيُبَاح لَهُ أَن
يقْتله للْحَال
وَإِن كَانَا رجلَيْنِ عَدْلَيْنِ يتَوَقَّف
(3/337)
وَكَذَلِكَ فِي الشَّاهِد الْوَاحِد
يتَوَقَّف
وَرُوِيَ عَن مُحَمَّد فِي المحدودين أحب إِلَيّ أَن يتَوَقَّف لِأَن
القَاضِي رُبمَا يقبل شَهَادَتهمَا على رَأْي الشَّافِعِي وَيكون
اجْتِهَاده يُفْضِي إِلَيْهِ وَيَرَاهُ حَقًا وصوابا وَقَضَاء القَاضِي فِي
فصل مُخْتَلف فِيهِ جَائِز
وَكَذَلِكَ فِي الْفَاسِقين وَالنِّسَاء وحدهن يجب أَن يكون الْجَواب
كَذَلِك عِنْده لِأَن ذَلِك فصل مُخْتَلف فِيهِ أَيْضا
وَكَذَلِكَ الْجَواب فِيمَا إِذا رأى إنْسَانا أَخذ مَال أَبِيه أَو أقرّ
عِنْده ثمَّ قَالَ كَانَ ذَلِك عِنْده وَدِيعَة لي فَأَخَذته أَو كَانَ لي
عَلَيْهِ دين فاقتضيته فَلهُ أَن يَأْخُذهُ
وَلَو شهد رجلَانِ عِنْده بذلك لَيْسَ لَهُ أَن يَأْخُذ لما قُلْنَا
وَلَو أَن القَاضِي إِنَّمَا قضى فِي فصل مُجْتَهد فِيهِ وَهُوَ من أهل
الِاجْتِهَاد بِرَأْيهِ والمقضى عَلَيْهِ فَقِيه مُجْتَهد يرى بِخِلَاف مَا
يقْضِي بِهِ القَاضِي فَإِنَّهُ يجب عَلَيْهِ أَن يتْرك رَأْيه بِرَأْي
القَاضِي سَوَاء كَانَ ذَلِك من بَاب الْحل أَو الْحُرْمَة أَو الْملك أَو
الطَّلَاق أَو الْعتاق وَنَحْوه لِأَن قَضَاء القَاضِي فِي فصل مُجْتَهد
فِيهِ ينفذ بِإِجْمَاع الْأمة لِأَن رَأْيه ترجح بِولَايَة القَاضِي
وَهَذَا قَول مُحَمَّد
وَكَذَا قَالَ أَبُو يُوسُف فِيمَا لَيْسَ من بَاب الْحُرْمَة فَأَما إِذا
كَانَ من بَاب الْحُرْمَة فَيتبع رَأْي نَفسه احْتِيَاطًا فِي بَاب
الْحُرْمَة بَيَانه رجل قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَلْبَتَّة وَهُوَ
رجل فَقِيه فِي زَعمه واجتهاده أَنه طَلَاق ثَلَاث أَو بَائِن فَرفعت
الْمَرْأَة الْأَمر إِلَى القَاضِي ورأيه أَنه طَلَاق وَاحِد يملك
الرّجْعَة فَقضى بِالْحلِّ للْمَرْأَة عَلَيْهِ يحل للزَّوْج وَطْؤُهَا
وَيصير رَأْيه متروكا بِرَأْي القَاضِي عِنْد مُحَمَّد وَعند أبي يُوسُف
بِخِلَافِهِ
(3/338)
وَلَو كَانَ رَأْي الزَّوْج أَن هَذَا
طَلَاق رَجْعِيّ ورأي القَاضِي أَنه طَلَاق بَائِن أَو ثَلَاث فَقضى
بِالْحُرْمَةِ يحرم عَلَيْهِ وَطْؤُهَا فِي الْقَوْلَيْنِ
وَلَو كَانَ الرجل الْمُطلق لَيْسَ بفقيه فَأفْتى لَهُ الْفُقَهَاء بِأَن
هَذَا طَلَاق محرم وَرفعت الْأَمر إِلَى القَاضِي وَقضى القَاضِي بِالْحلِّ
يحل لَهُ وَطْؤُهَا لِأَن فَتْوَى الْفُقَهَاء للمطلق بِمَنْزِلَة
الِاجْتِهَاد مِنْهَا فَيجب عَلَيْهِ ترك الْفَتْوَى بِرَأْي القَاضِي
عِنْد مُحَمَّد خلافًا لأبي يُوسُف
وَإِذا كَانَت الْمَسْأَلَة على الْعَكْس فَالْجَوَاب كَذَلِك أَنه يتبع
رَأْي القَاضِي من الْقَوْلَيْنِ
وَلَو أَن فَقِيها مُجْتَهدا قَالَ لامْرَأَته أَنْت طَالِق أَلْبَتَّة
ورأيه أَنه ثَلَاث وعزم على الْحُرْمَة وأمضى رَأْيه فِيمَا بَينه
وَبَينهَا وأجنب عَنْهَا ثمَّ تحول رَأْيه إِلَى أَنه طَلَاق يملك
الرّجْعَة يجب الْعَمَل بِالرَّأْيِ الأول فِي حق هَذِه الْمَرْأَة حَتَّى
لَا يحل لَهُ وَطْؤُهَا إِلَّا بِنِكَاح جَدِيد أَو بعد الزَّوْج الثَّانِي
وبالرأي الثَّانِي فِي الْمُسْتَقْبل فِي حَقّهَا وَفِي حق غَيرهَا لِأَن
مَا أمضى بِالِاجْتِهَادِ لَا ينْقض بِاجْتِهَاد مثله
وَلَو لم يعزم على الْحُرْمَة وَلم يمض اجْتِهَاده بَينه وَبَينهَا حَتَّى
تحول رَأْيه إِلَى الْحل وَأَنه طَلَاق رَجْعِيّ لَهُ أَن يَطَأهَا وَلَا
تقع الْفرْقَة لِأَنَّهُ لم يُوجد إِمْضَاء الِاجْتِهَاد الأول فَصَارَ
كَالْقَاضِي إِذا كَانَ رَأْيه التَّحْرِيم فَقيل أَن يقْضِي تحول رَأْيه
إِلَى الْحل يعْمل بِالرَّأْيِ الثَّانِي وَيَقْضِي بِالْحلِّ فِي حق هَذِه
الْمَرْأَة فَكَذَا هَذَا
(3/339)
بَاب آخر مِنْهُ لَا خلاف
بَين الْأمة فِي إِبَاحَة اسْتِعْمَال الْحَرِير للنِّسَاء لبسا واستفراشا
وجلوسا عَلَيْهِ وَنَحْو ذَلِك
فَأَما فِي حق الرِّجَال فاللبس حرَام بِالْإِجْمَاع بِأَن جعله قبَاء أَو
قيمصا أَو قلنسوة وَهُوَ حَرِير خَالص فِي غير حَالَة الْحَرْب
فَأَما فِي حَال الْحَرْب فَكَذَلِك عِنْد أبي حنيفَة وَعِنْدَهُمَا يُبَاح
اللّبْس فِي حَال الْحَرْب
وَهَذَا إِذا كَانَ كُله حَرِيرًا
فَأَما إِذا كَانَ لحْمَته حَرِيرًا فَلَا يكره فِي الْحَرْب بِالْإِجْمَاع
وَيكرهُ فِي غَيره
وَإِذا كَانَ السدى حَرِيرًا لَا غير لَا يكره بِالْإِجْمَاع
وَأَصله قَوْله عَلَيْهِ السَّلَام على مَا رَوَاهُ عَليّ بن أبي طَالب
رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام أَخذ حَرِيرًا
بِشمَالِهِ وذهبا بِيَمِينِهِ وَرفع بهما يَدَيْهِ وَقَالَ إِن هذَيْن
حرَام على ذُكُور أمتِي حل لإناثها ف أَبُو حنيفَة أَخذ بِعُمُوم الحَدِيث
وَلم يفصل بَين الْحَرْب وَغَيره
وهما قَالَا بِالْإِبَاحَةِ فِي حق أهل الْحَرْب لِأَن لِبَاس الْحَرِير
أهيب لِلْعَدو وَأثبت للسلاح فخصا أهل الْحَرْب من عُمُوم الحَدِيث وَلَكِن
أَبَا حنيفَة قَالَ هَذَا الْمَعْنى يحصل بِمَا إِذا كَانَ لحْمَته
حَرِيرًا فَلَا ضَرُورَة فِي الْحَرِير الْخَالِص
وَأما لِبَاس الصّبيان والمجانين فَحَرَام على الْأَوْلِيَاء ويأثمون
(3/341)
بذلك
أما لَا حُرْمَة فِي حَقهم فَلِأَنَّهُ لَا خطاب عَلَيْهِم
وَأما النّوم على الْحَرِير واستعماله فِي الْجُلُوس عَلَيْهِ والاتكاء
عَلَيْهِ فَجَائِز عِنْد أبي حنيفَة لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ تَعْظِيم
بِخِلَاف اللبَاس
وَعِنْدَهُمَا لَا يجوز للرِّجَال أَيْضا لِأَنَّهُ لِبَاس الْكَفَرَة من
الْأَعَاجِم
وَلَكِن الْقَلِيل من الْحَرِير عَفْو فِي حق اللّبْس وَذَلِكَ مِقْدَار
ثَلَاث أَصَابِع أَو أَربع فَإِن النَّبِي عَلَيْهِ السَّلَام لبس فَرْوَة
أطرافها من حَرِير وَكَذَلِكَ الْعلم فِي الثِّيَاب مُعْتَاد من غير نَكِير
من أحد فَيكون إِجْمَاعًا
وَأما اسْتِعْمَال الذَّهَب وَالْفِضَّة بطرِيق التحلي فمباح فِي حق
النِّسَاء وَفِي حق الرِّجَال حرَام سوى التَّخَتُّم بِالْفِضَّةِ
لما روينَا من الحَدِيث وَجَاءَت الرُّخْصَة فِي الْخَاتم
وَأما اسْتِعْمَال الْأَوَانِي من الذَّهَب وَالْفِضَّة فِي الشّرْب
وَالْأكل والأدهان وَنَحْو ذَلِك مِمَّا يسْتَعْمل فِي الْبدن فَحَرَام فِي
حق الرِّجَال وَالنِّسَاء جَمِيعًا حَتَّى المكحلة والمرآة والمجمر
وَنَحْوهَا وَكَذَلِكَ الركاب واللجام والثفر والكرسي والسرير وَنَحْوهَا
أما إِذا كَانَ ففا أَو مضببا فَلَا بَأْس بِاسْتِعْمَالِهِ عِنْد أبي
حنيفَة وَكَذَلِكَ إِذا كَانَ على السَّيْف
وَعِنْدَهُمَا يكره ذَلِك كُله لِأَن الذَّهَب وَالْفِضَّة صَارا من
أَجزَاء ذَلِك الشَّيْء
وَأَبُو حنيفَة يَقُول إِنَّه تبع لما لَيْسَ بِذَهَب وَفِضة والعبر
للْأَصْل وَهَذَا فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ
وَفِي رِوَايَة إِذا كَانَ فَمه عِنْد الشّرْب يَقع على الْعود لَا يكره
وَإِن كَانَ يَقع على الْفضة يكره
وَكَذَا إِذا كَانَ الْجُلُوس على الْكُرْسِيّ المف وَالْمذهب على هَاتين
الرِّوَايَتَيْنِ إِن كَانَ الْجُلُوس على مَوضِع الْعود لَا يكره وَإِن
كَانَ على الْفضة يكره
وَفِي رِوَايَة لَا يكره أصلا
(3/342)
وهما رخصا فِي الْمُصحف فِي رِوَايَة
وَفِي رِوَايَة يكره فِي الْمُصحف أَيْضا
وَهَذَا إِذا كَانَ الذَّهَب مِمَّا يخلص بالإذابة
فَأَما إِذا كَانَ مموها بِمَاء الذَّهَب وَالْفِضَّة فَلَا بَأْس بِهِ
لِأَنَّهُ لَا يخلص عِنْد الإذابة
وَكَذَا كِتَابَة الذَّهَب وَالْفِضَّة على الثِّيَاب فعلى هَذَا
الِاخْتِلَاف
وَإِذا جدع أَنفه فَجعل أنفًا من فضَّة لإِزَالَة الشين لَا يكره وَلَو جعل
من الذَّهَب لَا يكره أَيْضا لِأَنَّهُ إِذا كَانَ من الْفضة ينتن فَرخص
فِي ذَلِك وَفِي عين هَذَا ورد الْأَثر
وَلَو تحرّك سنه فشدها بِذَهَب أَو فضَّة فَلَا بَأْس بِهِ عِنْد أبي
حنيفَة
وَفِي الْجَامِع الصَّغِير لَا يشدها بِالذَّهَب
وَعند مُحَمَّد لَا بَأْس بِهِ
وَكَانَ أَبُو حنيفَة لَا يرى بَأْسا بشدها بِالْفِضَّةِ لِأَنَّهُ لَا
حَاجَة إِلَى الذَّهَب
وَلَو خيف سُقُوط الفص من خَاتم الْفضة فَشد بمسمار من ذهب فَلَا بَأْس
بِهِ بالِاتِّفَاقِ لأجل الضَّرُورَة
وَلَو سَقَطت سنّ إِنْسَان وَأَرَادَ أَن يُعِيدهَا ويشدها بِالذَّهَب
وَالْفِضَّة يكره عِنْد أبي حنيفَة كَمَا لَو وضع سنّ ميت آخر يكره
وَقَالَ أَبُو يُوسُف لَا بَأْس بِإِعَادَة سنه مَكَانهَا وَلَا يشبه سنه
سنّ ميت آخر وَبَينهمَا فصل عِنْدِي وَإِن لم يحضرني ذَلِك
ثمَّ ذكر فِي الْكتاب مسَائِل ذكرهَا مُتَفَرِّقَة فِي الْكتب وَقد جمعهَا
هَاهُنَا وَقد ذَكرنَاهَا فِي موَاضعهَا فَلَا نعيدها وَنَذْكُر بعض مَا لم
نذكرهُ
وَمِنْهَا أَنه يكره شرب لبن الأتان للتداوي بالِاتِّفَاقِ أما عِنْد أبي
حنيفَة فَلَا يشكل كَمَا فِي بَوْل مَا يُؤَكد لَحْمه
وَأَبُو يُوسُف فرق
(3/343)
وَقَالَ الأَصْل هُوَ الْكَرَاهَة لقَوْله
عَلَيْهِ السَّلَام إِن الله تَعَالَى لم يَجْعَل شفاءكم فِيمَا حرم
عَلَيْكُم وَلَكِن فِي الْبَوْل ورد حَدِيث خَاص فَبَقيَ الْبَاقِي على
الأَصْل
وَقَالَ لَا بَأْس بعيادة الْيَهُودِيّ وَالنَّصْرَانِيّ للْحَدِيث
الْوَارِد فِيهِ وَلأَجل إلْف أهل الذِّمَّة خُصُوصا فِي حَال الْمَرَض
مِمَّا يَدعُوهُم إِلَى الدّين الْحق
أما السَّلَام فَقَالُوا يكره لما فِيهِ من التَّعْظِيم وتعظيمهم مَكْرُوه
وَأما رد السَّلَام فَلَا بَأْس بِهِ لِأَن الِامْتِنَاع من ذَلِك يؤذيهم
وَالْإِحْسَان فِي حَقهم مَنْدُوب لَكِن يَنْبَغِي أَن لَا يزِيد على
قَوْله وَعَلَيْكُم لِأَنَّهُ قيل إِنَّهُم يَقُولُونَ السام عَلَيْكُم
فيجابون بقوله وَعَلَيْكُم بطرِيق المجازاة
وَهل يكره منع هَؤُلَاءِ من الدُّخُول فِي الْمَسَاجِد قَالَ مَالك
يمْنَعُونَ عَن دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام وَعَن كل مَسْجِد
وَقَالَ الشَّافِعِي يمْنَعُونَ عَن دُخُول الْمَسْجِد الْحَرَام لَا غير
وَعِنْدنَا لَا يمْنَعُونَ عَن دُخُول شَيْء من الْمَسَاجِد وَذَلِكَ لِأَن
الْمُشْركين كَانُوا يدْخلُونَ الْمَسْجِد الْحَرَام عِنْد رَسُول الله صلى
الله عَلَيْهِ وَسلم لعرض الْإِسْلَام عَلَيْهِم وَنَحْو ذَلِك
وَيكرهُ للْمَرْأَة أَن تصل شعرهَا الْمَقْطُوع بشعرها وَكَذَا بِشعر
غَيرهَا لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام لعن الله الْوَاصِلَة
وَالْمسْتَوْصِلَة
وَلَا بَأْس بِأَن تصل شعرهَا بِشعر الْبَهِيمَة لِأَن ذَلِك من بَاب
الزِّينَة وَهِي غير مَمْنُوعَة عَنْهَا للزَّوْج
وَيكرهُ اللّعب بالنرد وَالشطْرَنْج
وَالْأَرْبَعَة عشر وكل لَهو لقَوْله
(3/344)
عَلَيْهِ السَّلَام مَا أَنا من دَد وَلَا
الدَّد مني
وَبَعض أَصْحَاب الحَدِيث أباحوا اللّعب بالشطرنج لما فِيهِ من تشحيذ
الخاطر
وَلَكِن الصَّحِيح هُوَ الْكَرَاهَة على مَا روينَا كل لعب حرَام إِلَّا
ثَلَاثَة
وَهَذَا إِذا لم يكن فِيهِ قمار
فَأَما إِذا كَانَ فِيهِ قمار فَهُوَ حرَام مَحْض لثُبُوت حرمته بِنَصّ
الْكتاب وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {إِنَّمَا الْخمر وَالْميسر والأنصاب
والأزلام رِجْس من عمل الشَّيْطَان فَاجْتَنبُوهُ}
وَلَو أَن حَامِلا مَاتَت وَفِي بَطنهَا ولد يضطرب فَإِن كَانَ غَالب
الظَّن أَنه ولد حَيّ وَهُوَ فِي مُدَّة يعِيش غَالِبا فَإِنَّهُ يشق
بَطنهَا لِأَن فِيهِ إحْيَاء الْآدَمِيّ بترك تَعْظِيم الْآدَمِيّ وَترك
التَّعْظِيم أَهْون من مُبَاشرَة سَبَب الْمَوْت
وَلَو ابتلع إِنْسَان درة رجل فَمَاتَ لم يشق بَطْنه لإِخْرَاج الدرة لِأَن
حُرْمَة النَّفس فَوق حُرْمَة المَال
وَإِن كَانَ الَّذِي ابتلع غَنِيا يضمن قيمَة الدرة لصَاحِبهَا
وَإِن كَانَ فَقِيرا فَيكون لَهُ ثَوَاب التَّصَدُّق بهَا وَالله تَعَالَى
أعلم
(3/345)
|