تحفة
الفقهاء كتاب الرُّجُوع عَن الشَّهَادَات
الرُّجُوع عَن الشَّهَادَة لَا يَصح بعد قَضَاء القَاضِي وَيصِح قبله
لِأَنَّهُ إِخْبَار يحْتَمل الْغَلَط
وَإِنَّمَا يصير حجَّة ضَرُورَة صِحَة الْقَضَاء فَمَا لم يتَّصل بِهِ
قَضَاء القَاضِي يَصح الرُّجُوع
وَلَا يلْزم الشُّهُود بذلك شَيْء لِأَنَّهُ لم يثبت بِهِ الحكم
وَبعد الحكم لَا يَصح الرُّجُوع فِي حق الْخصم وَلَكِن يُصِيب متلفا فِي حق
الْمَشْهُود عَلَيْهِ فَيلْزمهُ ضَمَانه إِلَّا إِذا حصل الْعِوَض
للْمَشْهُود عَلَيْهِ فبذلك لَا يضمن لِأَنَّهُ يكون إتلافا بعوض فَلَا
يكون إتلافا معنى
وَالْعبْرَة فِي الرُّجُوع بَقَاء من بَقِي من الشُّهُود لَا رُجُوع من
رَجَعَ وَيبقى الْحق بِقدر بَقَاء الشُّهُود ويتلف بِقدر مَا رَجَعَ
إِذا ثَبت هَذَا الأَصْل تخرج عَلَيْهِ الْمسَائِل
إِذا شهد شَاهِدَانِ على رجل بِمَال وَقضى القَاضِي بذلك وَسلم المَال
إِلَى الْمُدَّعِي ثمَّ رَجَعَ أَحدهمَا غرم نصف المَال لِأَنَّهُ بَقِي
النّصْف بِبَقَاء شَاهد وَاحِد
وَلَو رجعا جَمِيعًا غرما المَال بَينهمَا نِصْفَيْنِ
وَلَو كَانُوا أَرْبَعَة فَرجع اثْنَان أَو وَاحِد مِنْهُم فَلَا شَيْء
عَلَيْهِ لبَقَاء المَال بِبَقَاء الشَّاهِدين
وَلَو رَجَعَ ثَلَاثَة يلْزمهُم نصف المَال لبَقَاء النّصْف بِبَقَاء شَاهد
وَاحِد
وَلَو شهد رجل وَامْرَأَتَانِ على مَال فَرَجَعت امْرَأَة غرمت ربع
(3/365)
المَال
وَلَو رجعتا غرمتا نصف المَال لبَقَاء النّصْف بِبَقَاء رجل لِأَن
الْمَرْأَتَيْنِ بِمَنْزِلَة رجل وَاحِد
وَلَو شهد رجل وَاحِد وَعشر نسْوَة على رجل بِمَال ثمَّ رجعُوا جَمِيعًا
بعد الحكم فَقَالَ أَبُو حنيفَة على الرجل سدس المَال وعَلى النِّسَاء
خَمْسَة أسداسه لِأَن كل امْرَأتَيْنِ بِمَنْزِلَة رجل وَاحِد
وَعند أبي يُوسُف وَمُحَمّد على الرجل النّصْف وعَلى النِّسَاء النّصْف
لِأَن النِّسَاء وَإِن كثرن لَهُنَّ شطر الشَّهَادَة
وَلَو شَهدا على رجل أَنه بَاعَ عَبده من فلَان بِأَلف وَقبض الثّمن ثمَّ
رجعا لم يضمنا لِأَن هَذَا إِتْلَاف بعوض
وَكَذَا لَو شَهدا على رجل أَنه تزوج امْرَأَة بِأَلف دِرْهَم وَهُوَ مهر
مثلهَا وَقضى القَاضِي بِالنِّكَاحِ ثمَّ رجعا لم يضمنا لِأَنَّهُمَا أثبتا
لَهُ الْبضْع بِمُقَابلَة المَال
وَلَو شَهدا على رجل أَنه طلق امْرَأَته ثَلَاثًا وَقد دخل بهَا وَقضى
القَاضِي ثمَّ رجعا لم يضمنا إِلَّا مَا زَاد على مهر الْمثل لِأَنَّهُ
بِقدر مهر الْمثل إِتْلَاف بعوض وَهُوَ اسْتِيفَاء مَنَافِع الْبضْع
وَلَو كَانَ قبل الدُّخُول فَإِن كَانَ الْمهْر مُسَمّى ضمنا النّصْف وَإِن
لم يكن الْمهْر مُسَمّى يضمنَانِ الْمُتْعَة لِأَن ذَلِك تلف
بِشَهَادَتِهِمَا وَلم يحصل لَهُ بمقابلته عوض
وَكَذَلِكَ لَو شَهدا على رجل بِإِجَارَة دَاره سنة ثمَّ رجعا بعد
اسْتِيفَاء السُّكْنَى فَإِنَّهُمَا يغرمان للْمُسْتَأْجر مَا زَاد على أجر
الْمثل لِأَنَّهُ بِقدر أجر الْمثل حصل الْعِوَض وَالْبَاقِي بِغَيْر عوض
فَيكون إتلافا
وَكَذَا لَو شَهدا على رجل أَنه أعتق عَبده بِأَلف دِرْهَم وَسلم إِلَيْهِ
أَولا ثمَّ رجعا لم يضمنا لِأَن هَذَا إِتْلَاف بعوض
(3/366)
وَلَو شَهدا أَنه أعتق بِغَيْر مَال ثمَّ
رجعا يضمنَانِ للإتلاف بِغَيْر عوض
وَلَو شَهدا على أَنه قَالَ لعَبْدِهِ إِن دخلت هَذِه الدَّار فَأَنت حر
وَقد دخل وَقضى القَاضِي بِالْعِتْقِ ثمَّ رجعا ضمنا لِأَن هَذِه شَهَادَة
على الْإِعْتَاق وَهُوَ إِتْلَاف بِغَيْر عوض فيضمنان
وَلَو شَهدا أَنه حلف بِعِتْق عَبده بِدُخُول الدَّار وَشهد آخرَانِ على
الدُّخُول وَقضى القَاضِي بِالْعِتْقِ ثمَّ رجعُوا فَإِن الضَّمَان يجب على
شُهُود الْيَمين لَا على شُهُود الدُّخُول لِأَن الدُّخُول شَرط وَكَلَام
الْيَمين صَار إعتاقا والتلف يُضَاف إِلَى الْعلَّة دون الشَّرْط وَيكون
الْمُتْلف هُوَ شَاهد الْيَمين
وَلَو شَهدا على رجل بِسَرِقَة عشرَة دَرَاهِم وَقضى القَاضِي عِنْد
خُصُومَة الْمَالِك وَقطعت يَده ثمَّ رجعا يغرمان دِيَة الْيَد
وَكَذَلِكَ لَو شَهدا على رجل بقتل الْخَطَأ أَو بجراحه خطأ ثمَّ رجعا
وَلَو شَهدا على الْقَتْل الْعمد وَقضى القَاضِي واقتص ثمَّ رجعا لَا يجب
الْقصاص على الشُّهُود عندنَا
وَعند الشَّافِعِي يجب وَلَكِن عندنَا يجب المَال لِأَنَّهُ لَا يُمكن
إِيجَاب الْقصاص بالتسبيب وَيُمكن إِيجَاب المَال كَمَا فِي حفر الْبِئْر
وَلَو شهد أَرْبَعَة على رجل بِالزِّنَا وَشهد آخرَانِ على الْإِحْصَان
ثمَّ رجعُوا بعد إِقَامَة الرَّجْم لَا يجب على شُهُود الْإِحْصَان شَيْء
وَتجب الدِّيَة على شُهُود الزِّنَى لِأَن الزِّنَا عِلّة والإحصان شَرط
وَلَو رَجَعَ أحد الشُّهُود بِالزِّنَا بعد الرَّجْم فَإِنَّهُ يجد حد
الْقَذْف
(3/367)
لِأَن شَهَادَته صَارَت قذفا بِإِقْرَارِهِ
وَيغرم ربع الدِّيَة لبَقَاء ثَلَاثَة أَربَاع بِثَلَاثَة شُهُود
وَإِن رَجَعَ آخر فَكَذَلِك
وَلَو أَنه إِذا رَجَعَ وَاحِد مِنْهُم بعد الْقَضَاء قبل إِقَامَة الْحَد
عَلَيْهِم يحدون جَمِيعًا عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف
وَقَالَ مُحَمَّد يحد الرَّاجِع وَحده اسْتِحْسَانًا
وَأَجْمعُوا أَنه إِذا رَجَعَ وَاحِد قبل الْقَضَاء بِالرَّجمِ فَإِنَّهُم
يحدون جَمِيعًا وَهِي من مسَائِل الخلافيات
(3/368)
|