قره عين الأخيار لتكملة رد المحتار علي «الدر المختار شرح تنوير الأبصار»

بَاب إِقْرَار الْمَرِيض
وَجه تَأْخِيره ظَاهر، لانه عَارض وإفراده فِي بَاب على حِدة لاختصاصه بِأَحْكَام على حِدة، ولان فِي بَعْضهَا اخْتِلَافا.
قَالَ فِي نور الْعين: وَمن الامور المعترضة على الاهلية الْمَرَض، وَهُوَ لَا يُنَافِي أَهْلِيَّة وجوب الحكم حتما لله تَعَالَى أَو للْعَبد، وَلَا لاهلية الْعبارَة حَتَّى صَحَّ نِكَاح الْمَرِيض وطلاقه وَسَائِر مَا يتَعَلَّق بالعبارة، وَلَكِن الْمَرَض لما كَانَ سَبَب الْمَوْت وَالْمَوْت عجز خَالص كَانَ الْمَرَض من أَسبَاب الْعَجز فشرعت الْعِبَادَات على الْمَرِيض بِقدر الْقُدْرَة، وَلما كَانَ الْمَوْت عِلّة خلَافَة الْوَارِث والغرماء فِي المَال كَانَ الْمَرَض من أَسبَاب تعلق حق الْوَارِث والغريم بِمَالِه فَيكون الْمَرَض من أَسبَاب الْحجر على الْمَرِيض بِقدر مَا يتَعَلَّق بِهِ صِيَانة للحقين، إِذا اتَّصل الْمَرَض بِالْمَوْتِ مُسْتَندا إِلَى أول الْمَرَض، حَتَّى لَا يُورث الْمَرَض فِيمَا لَا يتَعَلَّق بِهِ حق غَرِيم، ووارث كَنِكَاح بِمهْر الْمثل حَيْثُ يَصح مِنْهُ لانه من الْحَوَائِج الاصلية وحقهم يتَعَلَّق فِيمَا فضل عَنْهَا، فَيصح فِي الْحَال كل تصرف يحْتَمل الْفَسْخ كَهِبَة وَبيع بمحاباة، ثمَّ ينْتَقض إِن احْتِيجَ إِلَيْهِ، وَمَا لَا يحْتَمل النَّقْض جعل كمعلق بِالْمَوْتِ كإعتاق إِذا وَقع على حق غَرِيم أَو ورث، بِخِلَاف إِعْتَاق الرَّاهِن حَيْثُ ينفذ، لَان حق الْمُرْتَهن فِي ملك الْيَد دون الرَّقَبَة اهـ.

قَوْله: (يَعْنِي مرض الْمَوْت) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن أل للْعهد، وَلما كَانَت أل تحْتَمل الِاسْتِغْرَاق وَغَيره فَسرهَا بيعني وَكَانَ الْمقَام أَي.

قَوْله: (مر فِي طَلَاق الْمَرِيض) وَهُوَ قَوْلَهُ مَنْ غَالِبُ حَالِهِ الْهَلَاكُ بِمَرَضٍ أَوْ غَيْرِهِ بِأَنْ أَضْنَاهُ مَرَضٌ عَجَزَ بِهِ عَنْ إِقَامَة مَصَالِحه
خَارج الْبَيْت أَو بارز رجلا أَوْ قُدِّمَ لِيُقْتَلَ مِنْ قِصَاصٍ أَوْ رَجْمٍ أَوْ بَقِيَ عَلَى لَوْحٍ مِنْ السَّفِينَةِ أَوْ افترسه سبع وَبَقِي فِي فِيهِ، وَلَا يَصح تبرعه إِلَّا من الثُّلُث اهـ.
وَمِنْه: لَو قدمه ظَالِم ليَقْتُلهُ، وَمِنْه: لَو تلاطمت الامواج وَخيف الْغَرق فَهُوَ كَالْمَرِيضِ: أَي وَمَات من ذَلِك كُله كَمَا قَيده ثمَّة وأوضحه سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى، فَرَاجعه.

قَوْله: (وسيجئ فِي الْوَصَايَا) حَيْثُ قَالَ الْمُؤلف هُنَاكَ: قيل مَرَضِ الْمَوْتِ أَنْ لَا يَخْرُجَ لِحَوَائِجِ نَفْسِهِ، وَعَلِيهِ اعْتمد فِي التَّجْرِيد.
بَزَّازِيَّة.
وَالْمُخْتَارُ أَنَّهُ مَا كَانَ الْغَالِبُ مِنْهُ الْمَوْتُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبَ فِرَاشٍ.
قُهُسْتَانِيُّ عَنْ هبة الذَّخِيرَة.
اهـ.
وَاخْتَارَهُ صَاحب الْهِدَايَة فِي التَّجْنِيس.
لَكِن فِي الْمِعْرَاجِ: وَسُئِلَ صَاحِبُ الْمَنْظُومَةِ عَنْ حَدِّ مَرَضِ الْمَوْتِ، فَقَالَ: كَثُرَتْ فِيهِ أَقْوَالُ الْمَشَايِخِ، وَاعْتِمَادُنَا فِي ذَلِك على قَول الفضلي، وَهُوَ أَنْ لَا يَقْدِرَ أَنْ يَذْهَبَ فِي حَوَائِجِ نَفْسِهِ خَارِجَ الدَّارِ وَالْمَرْأَةُ لِحَاجَتِهَا دَاخِلَ الدَّار لصعود السَّطْح وَنَحْوه اهـ.
وَهَذَا الَّذِي جَرَى عَلَيْهِ فِي بَابِ طَلَاقِ الْمَرِيضِ، وَصَححهُ الزَّيْلَعِيّ.

(8/284)


أَقُولُ: وَالظَّاهِرُ أَنَّهُ مُقَيَّدٌ بِغَيْرِ الْأَمْرَاضِ الْمُزْمِنَةِ الَّتِي طَالَتْ، وَلَمْ يُخَفْ مِنْهَا الْمَوْتُ كَالْفَالِجِ وَنَحْوِهِ، وَإِنْ صَيَّرَتْهُ ذَا فِرَاشٍ وَمَنَعَتْهُ عَنْ الذَّهَابِ فِي حَوَائِجِهِ فَلَا يُخَالِفُ مَا جَرَى عَلَيْهِ أَصْحَاب الْمُتُون والشروح هُنَا تَأمل.
قَالَ فِي الْإِسْمَاعِيلِيَّة: مَنْ بِهِ بَعْضُ مَرَضٍ يَشْتَكِي مِنْهُ وَفِي كَثِيرٍ مِنْ الْأَوْقَاتِ يَخْرُجُ إلَى السُّوقِ وَيَقْضِي مَصَالِحه لَا يكون بِهِ مَرِيضًا مَرَضَ الْمَوْتِ وَتُعْتَبَرُ تَبَرُّعَاتُهُ مِنْ كُلِّ مَالِهِ، وَإِذَا بَاعَ لِوَارِثِهِ أَوْ وَهَبَهُ لَا يتَوَقَّف على إجَازَة بَاقِي الْوَرَثَة اهـ.
وَتَمام الْكَلَام على ذَلِك مفصلا فِي المحلين الْمَذْكُورين.

قَوْله: (إِقْرَاره بدين لاجنبي) المُرَاد بالاجنبي من لم يكن وَارِثا وَإِن كَانَ ابْن ابْنه.

قَوْله: (نَافِذ من كل مَاله) لَكِنْ يَحْلِفُ الْغَرِيمُ كَمَا مَرَّ قُبَيْلَ بَابِ التَّحْكِيم، وَمثله فِي قَضَاء الاشباه.

قَوْله: (بأثر عمر) رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ، وَهُوَ مَا رُوِيَ عَنهُ أَنه قَالَ: إِذا أقرّ الْمَرِيض بدين جَازَ ذَلِك عَلَيْهِ فِي جَمِيع تركته، والاثر فِي مثله كالخبر لانه من المقدرات، فَلَا يتْرك بِالْقِيَاسِ فَيحمل على أَنه سَمعه من النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم، ولان قَضَاء الدّين من الْحَوَائِج الاصلية لَان فِيهِ تَفْرِيغ ذمَّته وَرفع الْحَائِل بَينه وَبَين الْجنَّة فَيقدم
على حق الْغُرَمَاء كَسَائِر حَوَائِجه، لَان شَرط تَعْلِيق حَقهم الْفَرَاغ من حَقه، وَلِهَذَا يقدم كَفنه عَلَيْهِم، وَالْقِيَاس أَن لَا ينفذ إِلَّا من الثُّلُث، لَان الشَّرْع قصر تصرفه على الثُّلُث وعلق حق الْوَرَثَة بالثلثين، فَكَذَا إِقْرَاره.
كَذَا فِي الزَّيْلَعِيّ.
وَفِيه: ولانه لَو لم يقبل إِقْرَاره لامتنع النَّاس عَن مُعَامَلَته حذرا من إتواء مَالهم فينسد عَلَيْهِم طَرِيق التِّجَارَة أَو المداينة اهـ.
وَفِي بعض النّسخ بأثر ابْن عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُمَا: وَهِي الْمُوَافقَة لما فِي الاتقاني عَن الْمَبْسُوط.
أَقُول: وَفِي البُخَارِيّ فِي كتاب الْوَصَايَا مَا نَصه: وَيذكر أَن شريحا وَعمر بن عبد الْعَزِيز وطاوسا وَعَطَاء وَابْن أذينة أَجَازُوا إِقْرَار الْمَرِيض بدين اهـ.
فَلَعَلَّ مُرَاد الشَّارِح بأثر عمر هُوَ عمر بن عبد الْعَزِيز
قَوْله: (وَلَو بِعَين فَكَذَلِك) قَالَ الْعَلامَة الرَّمْلِيّ فِي حَاشِيَته على الْمنح: قَوْله إِقْرَاره بدين لَيْسَ احْتِرَازًا عَن الْعين لَان إِقْرَاره لَهُ بهَا صَحِيح.
قَالَ فِي مجمع الفتاوي إِذا أقرّ الْمَرِيض لاجنبي بِجَمِيعِ مَاله صَحَّ، وَلَو أقرّ لغير الْوَارِث بِالدّينِ يَصح وَلَو أحَاط بِجَمِيعِ مَاله، وَبِه نَأْخُذ.
وفيهَا: الْمَرِيض الَّذِي لَيْسَ عَلَيْهِ دين إِذا أقرّ بِجَمِيعِ مَاله صَحَّ إِقْرَاره وَلَا يتَوَقَّف على إجَازَة الْوَرَثَة، وَلَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَا يَنْفُذُ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُث عِنْد عدم الاجازة، وَقد ذكر الزَّيْلَعِيّ: لَو كَانَ عَلَيْهِ دين لَا يَصح إِقْرَاره بدين وَلَا بِعَين فِي يَده لآخر فِي حق غُرَمَاء الصِّحَّة وَالْمَرَض بِأَسْبَاب مَعْلُومَة اهـ.

قَوْله: (إِلَّا إِذا علم تملكه) أَيْ بَقَاءُ مِلْكِهِ لَهَا فِي زَمَنِ مَرَضِهِ.

قَوْله: (فيتقيد بِالثُّلثِ) أَي فَيكون إِقْرَاره لَهُ تَمْلِيكًا لَهُ وَالتَّمْلِيك فِي الْمَرَض وَصِيَّة، وَهُوَ معنى مَا أَفَادَهُ الْحَمَوِيّ أَن إِقْرَاره بِالْعينِ للاجنبي صَحِيح إِن كَانَ إِقْرَاره حِكَايَة، وَإِن كَانَ بطرِيق الِابْتِدَاء يَصح من الثُّلُث كَمَا فِي فُصُول الْعِمَادِيّ.
وَقد سُئِلَ الْعَلامَة الْمَقْدِسِي: عَن المُرَاد بالحكاية والابتداء.
فَأجَاب: بِأَن الْمُرَادُ بِالِابْتِدَاءِ مَا يَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ إقْرَارٍ، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءُ تَمْلِيكٍ بِأَنْ يَعْلَمَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مِلْكٌ لَهُ، وَإِنَّمَا قَصَدَ إخْرَاجَهُ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِكَ مَنْعٌ ظَاهِرٌ عَلَى الْمُقِرِّ، كَمَا يَقَعُ أَنَّ الانسان يُرِيد أَن يتَصَدَّق على فَقير وَلكنه يعرض عَنهُ

(8/285)


بَين النَّاس، وَإِذا خلا بِهِ تصدق عَلَيْهِ كي لَا يُحْسَدَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ الْوَرَثَةِ فَيَحْصُلَ مِنْهُمْ إيذَاءٌ فِي الْجُمْلَةِ بِوَجْهٍ مَا، وَأَمَّا الْحِكَايَةُ فَهِيَ على حَقِيقَة الاقرار.
اهـ.
وَقَول الْمَقْدِسِي: بِأَن يعلم الخ، يُفِيد إِطْلَاقه أَن
التَّقْيِيد من الْمُؤلف.
قَوْله: فِي مَرضه اتفاقي ط.
قَالَ: إذَا أَقَرَّ الرَّجُلُ فِي مَرَضِهِ بِدَيْنٍ لِغَيْرِ وَارِثٍ فَإِنَّهُ يَجُوزُ، وَإِنْ أَحَاطَ ذَلِكَ بِمَالِهِ، وَإِنْ أَقَرَّ لِوَارِثٍ فَهُوَ بَاطِلٌ إلَّا أَنْ يصدقهُ الْوَرَثَة اهـ.
وَهَكَذَا فِي عَامَّة الْمُعْتَمدَة الْمُعْتَبَرَةِ مِنْ مُخْتَصَرَاتِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَغَيْرِهَا، لَكِنْ فِي الْفُصُولِ الْعِمَادِيَّةِ: أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِلْوَارِثِ لَا يَجُوزُ حِكَايَةً وَلَا ابْتِدَاءً، وَإِقْرَارُهُ لِلْأَجْنَبِيِّ يَجُوزُ حِكَايَةً مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ وَابْتِدَاءً مِنْ ثلث المَال.
اهـ.
قُلْت: وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْلَقَهُ الْمَشَايِخُ فَيَحْتَاجُ إلَى التَّوْفِيقِ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُوَفَّقَ بَيْنَهُمَا بِأَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ بِالِابْتِدَاءِ مَا يَكُونُ صُورَتُهُ صُورَةَ إقْرَارٍ وَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ ابْتِدَاءُ تَمْلِيكٍ بِأَنْ يَعْلَمَ بِوَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ أَنَّ ذَلِكَ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ مِلْكٌ لَهُ وَإِنَّمَا قَصَدَ إخْرَاجَهُ فِي صُورَةِ الْإِقْرَارِ، حَتَّى لَا يَكُونَ فِي ذَلِك إِظْهَار على الْمقر لَهُ، وكما يَقع لبَعض أَن يتَصَدَّق على فَقير الخ.
وَأما الْحِكَايَة فَهُوَ على حَقِيقَة الاقرار، وَبِهَذَا الْفرق أجَاب الْعَلامَة الْمَقْدِسِي، وَنَقله عَن السَّيِّد الْحَمَوِيّ كَمَا نَقله الرَّمْلِيّ فِي حَاشِيَة جَامع الْفُصُولَيْنِ.
أَقُولُ: وَمِمَّا يَشْهَدُ لِصِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ الْفَرْقِ مَا صَرَّحَ بِهِ صَاحِبُ الْقُنْيَةِ.
أَقَرَّ الصَّحِيحُ بِعَبْدٍ فِي يَدِ أَبِيهِ لِفُلَانٍ ثُمَّ مَاتَ الْأَبُ وَالِابْنُ مَرِيضٌ، فَإِنَّهُ يُعْتَبَرُ خُرُوجُ الْعَبْدِ مِنْ ثُلُثِ الْمَالِ، لِأَنَّ إقْرَارَهُ مُتَرَدِّدٌ بَين أَن يَمُوت الابْن أَولا فَيبْطل، أَو الْأَبُ أَوَّلًا فَيَصِحَّ، فَصَارَ كَالْإِقْرَارِ الْمُبْتَدَإِ فِي الْمَرَض.
قَالَ أستاذنا: فَهَذَا كالتنصيص أَنَّ الْمَرِيضَ إذَا أَقَرَّ بِعَيْنٍ فِي يَدِهِ لِلْأَجْنَبِيِّ فَإِنَّمَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ مِنْ جَمِيعِ الْمَالِ إذَا لَمْ يَكُنْ تَمْلِيكُهُ إيَّاهُ فِي حَالِ مَرضه مَعْلُوما حَتَّى أمكن جعل إِقْرَاره إِظْهَارًا أَي لحق الْمقر لَهُ لَا تَمْلِيكًا، فَأَمَّا إذَا عُلِمَ تَمَلُّكُهُ فِي حَالِ مَرَضِهِ فَإِقْرَارُهُ بِهِ لَا يَصِحُّ إلَّا مِنْ ثُلُثِ المَال.
قَالَ رَحمَه الله تَعَالَى: وَأَنه حسن من حَيْثُ الْمَعْنى اهـ.
قُلْت: وَإِنَّمَا قَيَّدَ حَسَنَهُ بِكَوْنِهِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ الرِّوَايَةُ مُخَالِفٌ لِمَا أَطْلَقُوهُ فِي مُخْتَصَرَاتِ الْجَامِعِ الْكَبِيرِ، فَكَانَ إقْرَارُ الْمَرِيضِ لِغَيْرِ وَارِثِهِ صَحِيحًا مُطْلَقًا، وَإِنْ أَحَاطَ بِمَالِهِ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ.
مُعِينُ الْمُفْتِي.
وَنَقَلَهُ شَيْخُ مَشَايِخِنَا مُنْلَا عَلِيٌّ ثُمَّ قَالَ بَعْدَ كَلَام طَوِيل فَالَّذِي تحرر مِنْ الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَحَاطَ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَشَمِلَ الدَّيْنَ وَالْعَيْنَ، وَالْمُتُونُ لَا تَمْشِي غَالِبًا إلَّا عَلَى ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَفِي الْبَحْرِ مِنْ بَابِ قَضَاءِ الْفَوَائِت: مَتى اخْتلف التَّرْجِيح
رجح إِطْلَاق مَا فِي الْمُتُون اهـ.
وَقد علمت أَن التَّفْصِيل مُخَالف لما أطْلقُوا، وَإِنْ حَسَّنَهُ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا الرِّوَايَةُ اهـ.
فقد عَلِمْتَ أَنَّ مَا نَقَلَهُ الشَّارِحُ عَنْ الْمُصَنِّف لم يرتضه المُصَنّف.
أَقُول: حَاصِل هَذَا الْكَلَام: أَنَّ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِأَجْنَبِيٍّ صَحِيحٌ، وَإِنْ أَحَاطَ بِكُل مَاله، لكنه مَشْرُوط بِمَا إِذا لم يعلم أَنه ابْتِدَاء تمْلِيك فِي الْمَرَض كَمَا إِذا علم أَن مَا أقرّ بِهِ إِنَّمَا دخل فِي ملكه فِي مَرضه، كَمَا إِذا أقرّ فِي مرض مَوته بشئ لاجنبي لم يعلم تملكه لَهُ فِي مَرضه، وَلم يكن عَلَيْهِ دين الصِّحَّة، فَإِن إِقْرَاره بِأَنَّهُ ملك فلَان الاجنبي دَلِيل على أَنه ابْتِدَاء تمْلِيك، كَمَا يَقع كثيرا فِي زَمَاننَا من أَن الْمَرِيض يقر بالشئ لغيره إِضْرَارًا لوَارِثه، فَإِذا علم ذَلِك تقيد بِثلث مَاله، وَهُوَ معنى قَول الْفُصُول الْعمادِيَّة: وَابْتِدَاء من ثلث مَاله، لَكِن أَنْت خَبِير بِأَن الْمُعْتَمد أَن الاقرار إِخْبَار لَا تمْلِيك، وَأَن الْمقر لَهُ بشئ إِذا لم يَدْفَعهُ لَهُ الْمقر بِرِضَاهُ لَا يحل لَهُ أَخذه ديانَة إِلَّا إِذا كَانَ قد ملك ذَلِك بِنَحْوِ بيع أَو هبة وَإِن

(8/286)


كَانَ يحكم لَهُ بِأَنَّهُ ملكه بِنَاء على ظَاهر الامر، وَإِن الْمقر صَادِق فِي إِقْرَاره، فعلى هَذَا إِذا علمنَا أَن هَذَا الْمقر كَاذِب فِي إِقْرَاره وَأَنه قصد بِهِ ابْتِدَاء تمْلِيك فبالنظر إِلَى الدّيانَة لَا يملك الْمقر لَهُ شَيْئا مِنْهُ، وبالنظر إِلَى الْقَضَاء فِي ظَاهر الشَّرْع يحكم لَهُ بِالْكُلِّ، فَلَا وَجه لتخصيص نفاذه من الثُّلُث، لانا حَيْثُ صدقناه فِي إِقْرَاره فِي ظَاهر الشَّرْع لزم نفاذه من كل مَاله، وَإِن أحَاط بِهِ، فَلِذَا أطلق أَصْحَاب الْمُتُون والشروح نَفاذ الاقرار للاجنبي من كل المَال، فَلَيْسَ فِيمَا ذكره فِي الْقنية شئ من الْحسن، لَا من حَيْثُ الْمَعْنى وَلَا من حَيْثُ الرِّوَايَة، وَلَا يكون فِيهِ تأييد لما ذكره من الْفرق إِلَّا أَن يحمل الاقرار الْمَزْبُور على الْهِبَة، وَهِي فِي الْمَرَض وَصِيَّة لكنه يشْتَرط فِيهَا التَّسْلِيم، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى أَضَافَ الْمُقَرَّ بِهِ إلَى ملكه كَانَ هبة، فعلى هَذَا فَيمكن حمل مَا ذكر على الْوَصِيَّة حَيْثُ كَانَ الْمقر فِي ذكر الْوَصِيَّة، فَلَا يشْتَرط التَّسْلِيم، وَإِلَّا حمل على الْهِبَة وَاشْترط التَّسْلِيم كَمَا علمت، وَهَذَا كُله أَيْضا حَيْثُ أضَاف مَا أقرّ بِهِ إِلَى نَفسه كَقَوْلِه دَاري أَو عَبدِي لفُلَان، بِخِلَاف قَوْله هَذِه الدَّار أَو العَبْد لفُلَان وَلم يكن مَعْلُوما للنَّاس بِأَنَّهُ ملك الْمقر، فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يُمكن حمله على التَّمْلِيك بطرِيق الْهِبَة أَو الْوَصِيَّة، لانه يكون مُجَرّد إِقْرَار وَهُوَ إِخْبَار لَا تمْلِيك كَمَا فِي الْمُتُون والشروح.
وَمَا نقل عَن الْقنية مَحْمُول على إِنَّه إنْشَاء تمْلِيك ابْتِدَاء، وَلذَا قيد نفاذه
بِكَوْنِهِ من الثُّلُث، إِلَّا أَن يُقَال: إِن إِقْرَار هَذَا الابْن كَانَ إِخْبَارًا فِي حَال صِحَّته لكنه لما دخل العَبْد فِي ملكه وَهُوَ مَرِيض وَلَزِمَه تَسْلِيمه إِلَى الْمقر لَهُ فِي تِلْكَ الْحَالة اعْتبر تَبَرعا فِي الْمَرَض فتقيد بِالثُّلثِ.
وَمَا نقل عَن الْعمادِيَّة فَالْمُرَاد بِهِ الاقرار بالابراء عَن الْعين: يَعْنِي أَنه إِذا أقرّ الْمَرِيض أَنه أَبْرَأ وَارثه عَن دين لَهُ عَلَيْهِ لَا يَصح حِكَايَة بِأَن يسند الابراء إِلَى حَال الصِّحَّة، وَلَا ابْتِدَاء بِأَن يقْصد إبراءه الْآن.
وَأما الاجنبي إِذا حكى أَنه أَبرَأَهُ فِي الصِّحَّة يجوز من كل المَال، وَإِذا ابْتَدَأَ إبراءه الْآن لَا على سَبِيل الْحِكَايَة فَمن الثُّلُث لانه تبرع.
وَمَا نقل عَن جَامع الْفُصُولَيْنِ من أَنه لم يجز فَصرحَ فِي الْجَوْهَرَة بِأَنَّهُ أَي من كل المَال، وَإِنَّمَا يجوز من الثُّلُث، وَعَلِيهِ فَلَا فرق فِي إِقْرَاره بإبراء الاجنبي بَين كَونه حِكَايَة أَو ابْتِدَاء، حَيْثُ ينفذ من الثُّلُث، بِخِلَاف الاقرار بِقَبض الدّين مِنْهُ فَإِنَّهُ من الْكل كَمَا مر اهـ.
مُلَخصا من التَّنْقِيح لسيدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى.
أَقُول: لَكِن فِي قَوْله فِي صدر الْعبارَة وَإِن أقرّ لوَارث فَهُوَ بَاطِل فِيهِ نظر، لَان الْبَاطِل لَا تلْحقهُ الاجارة، فَيتَعَيَّن أَن يُقَال إِنَّه مَوْقُوف لَا بَاطِل.
تَأمل.
وَفِي الْمجلة من الْمَادَّة 1061: الاقرار لاجنبي صَحِيح من جَمِيع المَال فِي مرض الْمَوْت إِذا لم يكن عَلَيْهِ دين الصِّحَّة، وَلم يعلم أَن الْمقر ملكه بِسَبَب هبة أَو إِرْث أَو شِرَاء من مُدَّة قريبَة، وَأما إِذا علم أَن الْمَرِيض كَانَ ملكه بِسَبَب مِمَّا ذكر وَكَانَ قريب عهد فِي تملكه، فَيكون من الثُّلُث، سَوَاء حمل على الْوَصِيَّة إِن كَانَ فِي مذاكرة الْوَصِيَّة، وَإِلَّا فعلى الْهِبَة إِذا كَانَ مَعْلُوما ذَلِك عِنْد كثير من النَّاس.

قَوْلُهُ: (فِي مُعِينِهِ) وَهُوَ مُعِينُ الْمُفْتِي لِلْمُصَنِّفِ.

قَوْله: (وَأخر الارث عَنهُ) لَان قَضَاء الدّين من الْحَوَائِج الاصلية، لَان فِيهِ تَفْرِيغ ذمَّته وَرفع الْحَائِل بَينه وَبَين الْجنَّة كَمَا قدمنَا فَيقدم على حق الْوَرَثَة.

قَوْله: (وَدين الصِّحَّة مُطلقًا) سَوَاء علم بِسَبَب مَعْرُوف أَو بِإِقْرَارِهِ، سَوَاء كَانَ لوَارث أم لَا بِعَين أَو بدين ط.

قَوْله: (وَدين) مُبْتَدأ خَبره جملَة قدم، وَيصِح جَرّه، والاول قَول الشَّارِح فِي الْفَرَائِض: وَيُقَدَّمُ دَيْنُ الصِّحَّةِ عَلَى دَيْنِ الْمَرَضِ إنْ جهل سَببه وَإِلَّا فسيان.

قَوْله: (وَمَا لزمَه فِي مَرضه بِسَبَب مَعْرُوف) وَإِنَّمَا سَاوَى مَا قبله لانه لما علم سَببه انْتَفَت التُّهْمَة عَن الاقرار.
منح.

(8/287)


قَالَ فِي الْمَبْسُوط: إِذا اسْتقْرض مَالا فِي مَرضه وعاين الشُّهُود دفع الْمقْرض المَال إِلَى الْمُسْتَقْرض أَو اشْترى شَيْئا بِأَلف دِرْهَم وعاين الشُّهُود قبض الْمَبِيع أَو تزوج امْرَأَة بِمهْر مثلهَا أَو اسْتَأْجر شَيْئا بمعاينة الشُّهُود، فَإِن هَذِه الدُّيُون تكون مُسَاوِيَة لديون الصِّحَّة، وَذَلِكَ لانها وَجَبت بِأَسْبَاب مَعْلُومَة لَا مرد لَهَا، ولانه بالقرض وَالشِّرَاء لم يفوت على غُرَمَاء الصِّحَّة شَيْئا لانه يزِيد فِي التَّرِكَة مِقْدَار الدّين الَّذِي تعلق بهَا، وَمَتى لم يتَعَرَّض لحقوقهم بالابطال نفذ مُطلقًا اهـ.
جلبي وَفِي التَّعْلِيل الثَّانِي نظر لاحْتِمَال اسْتِهْلَاك مَا اقترضه أَو مَا اشْتَرَاهُ ط
قَوْله: (أَو بمعاينة قَاض) هَذَا بِنَاء على أَن القَاضِي يقْضِي بِعِلْمِهِ وَهُوَ مَرْجُوح كَمَا مر مرَارًا.

قَوْله: (قدم على مَا أقرّ بِهِ فِي مر ض مَوته) حَتَّى لَو أقرّ من عَلَيْهِ دين فِي صِحَّته فِي مَرضه لاجنبي بدين، أَو عين مَضْمُونَة أَو أَمَانَة بِأَن قَالَ مُضَارَبَة أَو وَدِيعَة أَو غصب يقدم دين الصِّحَّة، وَلَا يَصح إِقْرَاره فِي حق غُرَمَاء الصِّحَّة، فَإِن فضل شئ من التَّرِكَة يصرف إِلَى غُرَمَاء الْمَرَض.
إتقاني.
وَإِنَّمَا قدم عَلَيْهِ، لَان الْمَرِيض مَحْجُور عَن الاقرار بِالدّينِ مَا لم يفرغ عَن دين الصِّحَّة، فالدين الثَّابِت بِإِقْرَار الْمَحْجُور لَا يزاحم الدّين الثَّابِت بِلَا حجر، كَعبد مَأْذُون أقرّ بدين بعد حجره، فَالثَّانِي لَا يزاحم الاول.
حموي.
وَفِيه: وَلنَا أَن حق غُرَمَاء الصِّحَّة تعلق بِمَال الْمَرِيض مرض الْمَوْت فِي أول مَرضه لانه عجز عَن قَضَائِهِ من مَال آخر، فالاقرار فِيهِ صَادف حق غُرَمَاء الصِّحَّة فَكَانَ مَحْجُورا عَلَيْهِ ومدفوعا بِهِ.

قَوْله: (وَلَو الْمقر بِهِ وَدِيعَة) أَي لم يتَحَقَّق ملكه لَهَا فِي مَرضه، وَإِلَّا كَانَت وَصِيَّة.

قَوْله: (وَعند الشَّافِعِي الْكل سَوَاء) لانه إِقْرَار لَا تُهْمَة فِيهِ لانه صادر عَن عقد والذمة قَابِلَة للحقوق فِي الْحَالين، وَلنَا أَن الْمَرِيض مَحْجُور عَن الاقرار بِالدّينِ مَا لم يفرغ عَن دين الصِّحَّة، فالدين الثَّابِت بِإِقْرَار الْمَحْجُور لَا يزاحم الدّين الثَّابِت بِلَا حجر، كَعبد مَأْذُون أقرّ بِالدّينِ بعد الْحجر، فَالثَّانِي لَا يزاحم الاول.
دُرَر.
وَالْحَاصِل: أَن الدّين الثَّابِت قبل الْحجر لَا يزاحمه الثَّابِت بعده، وَلَكِن مَا لَو علم مِنْهُ سَبَب بِلَا إِقْرَار يلْحق بالثابت قبل الْحجر فيؤخر عَنْهُمَا الثَّابِت بِمُجَرَّد الاقرار، ثمَّ الدّين الثَّابِت بِالسَّبَبِ نَوْعَانِ: نوع لَو قبض صَاحبه من الْمَرِيض ذَلِك لَا يُشَارِكهُ فِيهِ صَاحب دين الصِّحَّة كالمقرض وَالْمَبِيع فِيهِ.
وَنَوع: يُشَارك فِيهِ مَعَه كمهر قَبضته الْمَرْأَة وَأُجْرَة قبضهَا الْآجر كَمَا فِي غَايَة الْبَيَان، وَأُجْرَة مَسْكَنه ومأكله
وملبسه، وَمِنْه أدويته وَأُجْرَة طبيبه من النَّوْع الاول لَو قبضت لَا يشاركها الْغُرَمَاء وَالْمهْر من النَّوْع الثَّانِي، وَلم يعد من التَّبَرُّعَات لَان النِّكَاح من الْحَوَائِج الاصلية كَمَا مر وَيَأْتِي.

قَوْله: (كَنِكَاح مشَاهد) أَي للشُّهُود، وَإِنَّمَا جعل النِّكَاح من جملَة مَا يجب تَقْدِيمه لانه من الْحَوَائِج الاصلية كَمَا مر، وَإِن كَانَت رَابِعَة لشيخ فان، لَان النِّكَاح فِي أصل الْوَضع من مصَالح الْمَعيشَة، والاصل الْوَضع لَا الْحَال لَان الْحَال مِمَّا لَا يتَوَقَّف عَلَيْهَا كَمَا فِي الْمنح.

قَوْله: (أما الزِّيَادَة فباطلة) أَي مَا لم تجزها الْوَرَثَة لانها وَصِيَّة لزوجته الوارثة، فَافْهَم.

قَوْله: (وَبيع مشَاهد) إِنَّمَا يكون مشاهدا بِالْبَيِّنَةِ على مَا تقدم.

قَوْلُهُ: (وَالْمَرِيضُ) بِخِلَافِ الصَّحِيحِ كَمَا فِي حَبْسِ الْعِنَايَةِ.

قَوْلُهُ: (لَيْسَ لَهُ) أَيْ لِلْمَرِيضِ، وَمُفَادُهُ أَن تَخْصِيص الصَّحِيح صَحِيح كَمَا فِي حَجْرِ النِّهَايَةِ شَرْحِ الْمُلْتَقَى.

قَوْلُهُ: (دين بعض الْغُرَمَاء) وَلَو غُرَمَاء

(8/288)


لتَعلق حق كل الْغُرَمَاء بِمَا فِي يَده، وَالتَّقْيِيد بالمريض يُفِيد أَن الْحر غير الْمَحْجُور لَا يمْنَع من ذَلِك.
قَالَ فِي الدُّرَر: وَلم يجز تَخْصِيص غَرِيم بِقَضَاء دينه، وَهَذَا ظَاهر فِي أَنه لَو أَدَّاهُ شَاركهُ الْغُرَمَاء الآخر، بِخِلَاف قَوْله وَلَيْسَ لَهُ الخ، فَإِنَّهُ يحْتَمل، وَيدل على ذَلِك قَول الشَّارِح فَلَا يسلم لَهما.

قَوْله: (فَلَا يسلم) بِفَتْح اللَّام المخففة من السَّلامَة.

قَوْله: (لَهما) بَلْ يُشَارِكُهُمَا غُرَمَاءُ الصِّحَّةِ، لِأَنَّ مَا حَصَلَ لَهُ مِنْ النِّكَاحِ وَسُكْنَى الدَّارِ لَا يَصْلُحُ لتَعلق حَقهم بِعَين التَّرِكَة، فَكَانَ تَخْصِيصُهُمَا إبْطَالًا لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَهُ مِنْ الْمَسْأَلَتَيْنِ لِأَنَّهُ حَصَلَ فِي يَدِهِ مِثْلُ مَا نَقَدَ، وَحَقُّ الْغُرَمَاءِ تَعَلَّقَ بِمَعْنَى التَّرِكَة لَا بالصورة، فَإِذا حصل لَهُ مثله لَا يعد تفويتا كَمَا فِي الْكِفَايَة وَهَذَا فِي الاجرة المستوفية الْمَنْفَعَة.
أما إِذا كَانَت الاجرة مَشْرُوطَة التَّعْجِيل وَامْتنع من تَسْلِيم الْعين الْمُؤجرَة حَتَّى يقبض الاجرة فَهِيَ كَمَسْأَلَة ثمن الْمَبِيع الْآتِيَة الَّذِي امْتنع من تَسْلِيمه حَتَّى يقبض ثمنه.

قَوْله: (إِلَّا فِي مَسْأَلَتَيْنِ الخ) وَذَلِكَ لَان الْمَرِيض إِنَّمَا منع من قَضَاء دين بعض الْغُرَمَاء لما فِيهِ من إِسْقَاط حق البَاقِينَ، فَإِذا حصل للْغُرَمَاء مثل مَا قضى وَلم يسْقط من حَقهم شئ جَازَ الْقَضَاء، ولان حق الْغُرَمَاء فِي معنى التَّرِكَة لَا فِي عينهَا كَمَا مر.
فَإِذا اشْترى عبدا وأوفى ثمنه من التَّرِكَة فَمَعْنَى التَّرِكَة حَاصِل لَهُم لم يسْقط مِنْهُ شئ فَجَاز مَا فعله ط.

قَوْله: (لَو بِمثل الْقيمَة) وَالزِّيَادَة تبرع فَهِيَ وَصِيَّة.

قَوْلُهُ: (أَيْ ثَبَتَ كُلٌّ مِنْهُمَا) أَيْ مِنْ
الْقَرْض وَالشِّرَاء.

قَوْله: (بِخِلَاف اعطاء الْمهْر وَنَحْوه) أَي كإيفاء أُجْرَة عَلَيْهِ، وذكرهما ليُفِيد الحكم فيهمَا وَفِيمَا ذكره المُصَنّف بعد.
قَالَ فِي خزانَة الْمُفْتِينَ: الْمَرِيض إِذا تزوج امْرَأَة وَأَعْطَاهَا مهرهَا يسْتَردّ مِنْهَا مَا أخذت وَيكون بَين الْغُرَمَاء بِالْحِصَصِ، وَالْمَرْأَة وَاحِدَة مِنْهُم، بِخِلَاف ثمن الْمَبِيع، فَإِن الثّمن يسلم للدافع: أَي للْبَائِع الَّذِي دفع السّلْعَة، أما إِذا لم يَدْفَعهَا فَإِن لَهُ حَبسهَا حَتَّى يقبض الثّمن على كل حَال، وَلَكِن ينظر الْفرق بَين الْمهْر وبذل الاجرة وَبَين ثمن الْمَبِيع وَالْقَرْض، وَالْفرق أَن الْمهْر تبرع من وَجه وصلَة وَعرض من وَجه، فباعتبار مَا فِيهِ من الْمُعَاوضَة تشارك الْغُرَمَاء، وَبِاعْتِبَار مَا فِيهِ من الصِّلَة والتبرع يسْتَردّ مَا أَخَذته فِي الْمَرَض والاجرة بعد اسْتِيفَاء الْمَنْفَعَة دين فِي ذمَّة الْمُسْتَأْجر فساوت بِقِيمَة الدُّيُون، أما قَضَاء مَا اسْتقْرض فِي مَرضه لَا يسْتَردّ دفعا للْحَرج، لَان الْمقْرض إِذْ علم عدم وفائه فِي الْمَرَض يمْتَنع عَن إقراضه، وَكَذَا البَائِع فَيلْحق الْمَرِيض الْحَرج، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ.

قَوْله: (وَمَا إِذا لم يؤد) أَي وَبِخِلَاف مَا إِذا لم يؤد بدل مَا اسْتقْرض أَو ثمن مَا اشْترى فِي الْمَرَض.

قَوْله: (فَإِن البَائِع) أَي والمقرض.

قَوْله: (أُسْوَة) بِضَم الْهمزَة وَكسرهَا وَبِهِمَا قرئَ فِي السَّبع.

قَوْله: (فِي الثّمن) الاولى أَن يَقُول فِي التَّرِكَة.

قَوْله: (كَانَ أولى) فتباع وَيقْضى من ثمنهَا مَاله، فَإِن زَاد رده فِي التَّرِكَة، وَإِن نقص حاصص بنقصه كَمَا لَا يخفى.

قَوْله: (أقرّ الْمَرِيض الخ) وَلَو للْمَرِيض على الْوَارِث دَيْنٌ فَأَقَرَّ بِقَبْضِهِ لَمْ يَجُزْ، سَوَاءٌ وَجَبَ الدّين بِصِحَّتِهِ أَوْ لَا عَلَى الْمَرِيضِ دَيْنٌ أَوْ لَا.
فصولين.

قَوْله: (ثمَّ أقرّ بدين) وَقد تساوى الدينان صِحَة أَو مَرضا.

قَوْله: (للاستواء) فِي الثُّبُوت فِي ذمَّة الْمقر.

قَوْله: (وَلَو أقرّ بدين ثمَّ

(8/289)


بوديعة تحاصا) لانه لما بَدَأَ بالاقرار بِالدّينِ تعلق حق الْغَرِيم بالالف الَّتِي فِي يَده، فَإِذا أقرّ أَنَّهَا وَدِيعَة يُرِيد أَن يسْقط حق الْغَرِيم عَنْهَا فَلَا يصدق إِلَّا أَنه قد أقرّ بوديعة تعذر تَسْلِيمهَا بِفِعْلِهِ، فَصَارَت كالمستهلكة فَتكون دينا عَلَيْهِ، ويساوي الْغَرِيم الآخر فِي الدّين وَلَو أقرّ بوديعة ثمَّ بدين، فَصَاحب الْوَدِيعَة أولى بهَا لانه لما بَدَأَ بالوديعة ملكهَا الْمقر لَهُ بِعَينهَا، فَإِذا أقرّ بدين لم يجز أَن يتَعَلَّق بِمَال الْغَيْر ط عَن الْحَمَوِيّ.

قَوْله: (وبعكسه الْوَدِيعَة أولى) يَعْنِي أَن الالف الْمعِين يصرف للوديعة من غير محاصصة
فِيهِ، لِأَنَّهُ حِينَ أَقَرَّ بِهَا عَلِمَ أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ تَرِكَتِهِ، ثُمَّ إقْرَارُهُ بِالدَّيْنِ لَا يَكُونُ شَاغِلًا لَمَّا لَمْ يَكُنْ مِنْ جُمْلَةِ تَرِكَتِهِ.
بَزَّازِيَّة.
وَالْحَاصِل: أَن فِي الصُّورَة الاولى يتحاصان، وَفِي الصُّورَة الثَّانِيَة ينْصَرف للوديعة من غير تحاصص وَيلْزمهُ مَا أقرّ بِهِ، وَإِقْرَاره بِمَال فِي يَده إِنَّه بضَاعَة أَو مُضَارَبَة حكمه مسَاوٍ للوديعة كَمَا فِي الْبَدَائِع.

قَوْله: (وإبراؤه مديونه وَهُوَ مديون) أَي بمستغرق قُيِّدَ بِهِ احْتِرَازًا عَنْ غَيْرِ الْمَدْيُونِ، فَإِنْ لم يكن مديونا وَأَبْرَأ الاجنبي فَهُوَ نَافِذ من الثُّلُث كَمَا فِي الْجَوْهَرَة.
قَالَ أَبُو السُّعُود فِي حَاشِيَة الاشباه مَا نَصه: لَيْسَ على إِطْلَاقه، بل يُقيد أَن لَا يبْقى لَهُ من المَال الفارغ عَن الدّين مَا يُمكن خُرُوج الْقدر المبرأ من ثلثه، وَلَا بُد من قيد آخر وَهُوَ أَن يكون لَهُ وَارِث وَلم يجز.

قَوْله: (للتُّهمَةِ) علله أَو السُّعُود فِي حَاشِيَة الاشباه بقوله: لَان إِبْرَاء الْوَارِث فِي مرض مَوته وَصِيَّة، وَهِي للْوَارِث لَا تجوز مَا لم يجز الْوَارِث الآخر، لَكِن الشَّارِح تبع الْمنح، والاظهر مَا نَقَلْنَاهُ عَن أبي السُّعُود.

قَوْله: (إِن كَانَ أَجْنَبِيًّا) إلَّا أَنْ يَكُونَ الْوَارِثُ كَفِيلًا عَنْهُ فَلَا يَجُوزُ، إذْ يَبْرَأُ الْكَفِيلُ بِبَرَاءَةِ الْأَصِيلِ جَامع الْفُصُولَيْنِ.
وَلَو أقرّ بِاسْتِيفَائِهِ دَيْنَهُ مِنْهُ صُدِّقَ كَمَا بَسَطَهُ فِي الْوَلوالجِيَّة.

قَوْله: (وَإِن كَانَ وَارِثا فَلَا يجوز) أَي سَوَاءٌ كَانَ مِنْ دَيْنٍ لَهُ عَلَيْهِ أَصَالَةً أَوْ كَفَالَةً، وَكَذَا إقْرَارُهُ بِقَبْضِهِ وَاحْتِيَالِهِ بِهِ على غَيره.
فصولين.

قَوْله: (وحيلة صِحَّته الخ) قَالَ فِي الاشباه: وَهِي الْحِيلَة فِي إِبْرَاء الْمَرِيض وَارثه مرض مَوته، بِخِلَاف قَوْله أَبْرَأتك فَإِنَّهُ يتَوَقَّف كَمَا فِي حيل الْحَاوِي الْقُدسِي، وعَلى هَذَا لَو أقرّ الْمَرِيض بذلك لاجنبي لم تسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ بشئ من الْوَارِث، فَكَذَا إِذا أقرّ بشئ لبَعض ورثته كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّة.

قَوْله: (يَشْمَل الْوَارِث وَغَيره) صَرَّحَ بِهِ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ حَيْثُ قَالَ: مَرِيضٌ لَهُ عَلَى وَارِثِهِ دَيْنٌ فَأَبْرَأَهُ لَمْ يَجُزْ، وَلَوْ قَالَ لَمْ يَكُنْ لِي عَلَيْك شئ ثُمَّ مَاتَ جَازَ إقْرَارُهُ قَضَاءً لَا دِيَانَةً اهـ.
وَيَنْبَغِي لَو ادّعى الْوَارِث الآخر أَن الْمُقِرُّ كَاذِبٌ فِي إقْرَارِهِ أَنْ يَحْلِفَ الْمُقَرُّ لَهُ بِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ كَاذِبًا بِنَاءً عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ الْمُفْتَى بِهِ كَمَا مَرَّ قُبَيْلَ بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: ادَّعَى عَلَيْهِ ديونا ومالا ووديعة فَصَالَحَ الطَّالِبُ عَلَى يَسِيرٍ سِرًّا وَأَقَرَّ الطَّالِبُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُدعى عَلَيْهِ شئ وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ الْمُدَّعِي ثُمَّ مَاتَ فَبَرْهَنَ الْوَارِثُ أَنَّهُ
كَانَ لِمُوَرِّثِي عَلَيْهِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ وَإِنَّمَا قَصَدَ حِرْمَانَنَا لَا تُسْمَعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَارِثَ الْمُدَّعِي وَجَرَى مَا ذَكَرْنَا فَبَرْهَنَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ عَلَى أَنَّ أَبَانَا قصد حرماننا بِهَذَا الاقرار تسمع.
اهـ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ فِي مَسْأَلَتِنَا كَذَلِكَ، لَكِنْ فرق فِي الاشباه بِكَوْنِهِ مُتَّهمًا فِي هَذِه الْإِقْرَارِ لِتَقَدُّمِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالصُّلْحِ مَعَهُ عَلَى يَسِيرٍ وَالْكَلَامُ عِنْدَ عَدَمِ قَرِينَةٍ عَلَى التُّهْمَةِ.
اهـ.

(8/290)


قُلْت: وَكَثِيرًا مَا يَقْصِدُ الْمُقِرُّ حِرْمَانَ بَقِيَّةِ الْوَرَثَةِ فِي زَمَانِنَا، وَتَدُلُّ عَلَيْهِ قَرَائِنُ الْأَحْوَالِ الْقَرِينَة مِنْ الصَّرِيحِ، فَعَلَى هَذَا تُسْمَعُ دَعْوَاهُمْ بِأَنَّهُ كَانَ كَاذِبًا وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُمْ عَلَى قِيَامِ الْحَقِّ على الْمقر لَهُ، وَكَذَا الْحُكْمُ يَجْرِي لَوْ ادَّعَى وَارِثُ الْمُقِرِّ فَيحلف، وَالنَّفْي عبر عَنهُ فِي الْبَحْر هُنَا بالاقرار، وَتارَة عبر عَنهُ بالابراء فِي أول الاقرار، وَفِي الصُّلْح، وَكَذَا البزازي، وَحِينَئِذٍ فَمَا فِي الْمَتْن إِمَّا إِقْرَار أَو إِبْرَاء، وَكِلَاهُمَا لَا يَصِحُّ لِلْوَارِثِ كَمَا فِي الْمُتُونِ والشروح، فَمَا فِي الْمَتْن هُنَا غَرِيب لَا يُعَوَّلُ عَلَيْهِ، لِئَلَّا يَصِيرَ حِيلَةً لِإِسْقَاطِ الْإِرْثِ الجبري مَعَ ضعفه، ويوضحه مَا لَو قَالُوا قصد حرماننا بذلك تسمع دَعوَاهُم كَمَا سَمِعت وَيَأْتِي، وَالله تَعَالَى أعلم.

قَوْله: (صَحِيح قَضَاء لَا ديانَة) لانه فِي الدّيانَة لَا يجوز إِذا كَانَ بِخِلَاف الْوَاقِع، وَنَفس الامر بِأَن كَانَ لَهُ فِي الْوَاقِع عَلَيْهِ شئ لاستلزامه إِيثَار بعض الْوَرَثَة، وحرمان الْبَعْض، إِذْ لَو قَالَ طابق الْوَاقِع إِقْرَاره بِأَن لم يكن عَلَيْهِ شئ لصَحَّ قَضَاء وديانة كَمَا لَا يخفى.

قَوْله: (إِلَّا الْمهْر) أَي إِذا قَالَت فِي مرض مَوتهَا لَا مهر لي عَلَيْهِ أَو لم يكن لي عَلَيْهِ مهر.

قَوْله: (على الصَّحِيح) مُقَابِله مَا فِي الْمنح عَن الْبَزَّازِيَّة معزيا إِلَى حيل الْخصاف قَالَت فِيهِ: لَيْسَ على زَوجي مهر أَو قَالَ فِيهِ لم يكن لي على فلَان شئ يبرأ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ اهـ.

قَوْله: (لظُهُور أَنه عَلَيْهِ غَالِبا) لَعَلَّ المُرَاد مَا تعورف تأجليه غَالِبا.
تَأمل قَوْله (بِخِلَاف) رَاجع إِلَى.

قَوْله: (فَلَا يَصح) .

قَوْله: (فَإِنَّهُ يَصِحُّ وَلَا تُسْمَعُ دَعْوَى زَوْجِهَا فِيهِ) اعْلَم أَن صَاحب الاشباه استنبط هَذِه الْمَسْأَلَة من مَسْأَلَة الاقرار الْمصدر بِالنَّفْيِ، وَقَالَ: إِن هَذَا الاقرار مِنْهَا: أَي الْبِنْت بِمَنْزِلَة قَوْلهَا لَا حق لي فِيهِ، فَيصح وَلَيْسَ من قبيل الاقرار بِالْعينِ للْوَارِث لانه فِيمَا إِذا قَالَ هَذَا لفُلَان، فَلْيتَأَمَّل وَيُرَاجع الْمَنْقُول اهـ.
وَأقرهُ على ذَلِك المُصَنّف فِي منحه حَيْثُ قَالَ: وَفِي التاترخانية من بَاب إِقْرَار الْمَرِيض معزيا إِلَى
الْعُيُون: ادّعى على رجل مَالا وأثبته وأبرأه لَا تجوز بَرَاءَته إِن كَانَ عَلَيْهِ دين، وَكَذَا لَو أَبْرَأ الْوَارِث لَا يجوز سَوَاء كَانَ عَلَيْهِ دين أَو لَا، وَلَو أَنه قَالَ لم يكن لي على هَذَا الْمَطْلُوب شئ ثمَّ مَاتَ جَازَ إِقْرَاره فِي الْقَضَاء اهـ.
وَفِي الْبَزَّازِيَّة معزيا إِلَى حيل الْخصاف قَالَت فِيهِ: لَيْسَ لي على زَوجي مهر وَقَالَ فِيهِ لم يكن لي على فلَان شئ يبرأ عندنَا خلافًا للشَّافِعِيّ.
اهـ.
وفيهَا قبله وإبراء الْوَارِث لَا يجوز فِيهِ.
قَالَ فِيهِ: لم يكن لي عَلَيْهِ شئ لَيْسَ لوَرثَته أَن يدعوا عَلَيْهِ شَيْئا فِي الْقَضَاء، وَفِي الدّيانَة لَا يجوز هَذَا الاقرار، وَفِي الْجَامِع أقرّ الابْن فِيهِ أَنه لَيْسَ لَهُ على وَالِده شئ من تَرِكَة أمه صَحَّ، بِخِلَاف مَا لَو أَبرَأَهُ أَو وهبه، وَكَذَا لَو أقرّ بِقَبض مَاله مِنْهُ اهـ.
وَبِهَذَا علم صِحَة مَا أفتى بِهِ مَوْلَانَا صَاحب الْبَحْر: فِيمَا لَو أقرَّت الْبِنْت فِي مرض مَوتهَا بِأَن الامتعة الْفُلَانِيَّة ملك أَبِيهَا لَا حق لَهَا فِيهَا أَنه يَصح، وَلَا تسمع دَعْوَى زَوجهَا فِيهَا مُسْتَندا إِلَى مَا ذَكرْنَاهُ، وَقد خَالفه فِي ذَلِك شَيخنَا أَمِين الدّين بن عبد العال الْمصْرِيّ، وَأفْتى بِعَدَمِ الصِّحَّة مُسْتَندا إِلَى عَامَّة مَا فِي الْمُعْتَبرَات من أَن الاقرار للْوَارِث لَا يَصح، وَكثير من النقول الصَّحِيحَة يشْهد بِصِحَّة هَذَا: أَي إِفْتَاء صَاحب الْبَحْر، وَلَيْسَ هَذَا من قبيل الاقرار لوَارث كَمَا لَا يخفى.
قَالَ مَوْلَانَا صَاحب الْبَحْر: وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي الْبَزَّازِيَّة معزيا للذخيرة قَوْلهَا فِيهِ لَا مهر لي عَلَيْهِ أَو

(8/291)


لَا شئ لي عَلَيْهِ أَو لم يكن لي عَلَيْهِ مهر قيل يَصح، وَقيل لَا يَصح، وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح.
اهـ.
لَان هُنَا فِي خُصُوص الْمهْر لظُهُور أَنه عَلَيْهِ غَالِبا، وكلامنا فِي غير الْمهْر، وَلَا يُنَافِيهِ أَيْضا مَا ذكره فِي الْبَزَّازِيَّة أَيْضا بعده: ادّعى عَلَيْهِ مَالا وديونا ووديعة فَصَالح مَعَ الطَّالِب على شئ يَسِيرٍ سِرًّا وَأَقَرَّ الطَّالِبُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّهُ لم يكن لَهُ على الْمُدعى عَلَيْهِ شئ وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ الْمُدَّعِي ثُمَّ مَاتَ لَيْسَ لوَرثَته أَن يدعوا على الْمُدعى عَلَيْهِ بشئ، وَإِن برهنوا على أَنه كَانَ لمورثنا عَلَيْهِ أَمْوَال لكنه قصد بِهَذَا الاقرار حِرْمَانَنَا لَا تُسْمَعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَارِثَ الْمُدَّعِي وَجَرَى مَا ذَكَرْنَا فَبَرْهَنَ بَقِيَّةُ الْوَرَثَةِ عَلَى أَنَّ أَبَانَا قَصَدَ حِرْمَانَنَا بِهَذَا الاقرار وَكَانَ عَلَيْهِ أَمْوَال تسمع اهـ.
لكَونه مُتَّهمًا فِي الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالصُّلْحِ
مَعَهُ عَلَى يَسِيرٍ، وَالْكَلَامُ عِنْد عدم قرينَة على التُّهْمَة وَالله تَعَالَى أعلم اهـ.
مَا ذكره فِي الْمنح.
وَأقرهُ على ذَلِك الشَّارِح كَمَا ترى، قَالَ محشيه الْفَاضِل الْخَيْر الرَّمْلِيّ قَوْله: وَبِهَذَا علم صِحَة مَا أفتى بِهِ مَوْلَانَا صَاحب الْبَحْر الخ.
أَقُول: لَا شَاهد على ذَلِك مِمَّا تقدم، وَحَيْثُ كَانَت الامتعة فِي يَد الْبِنْت المقرة لَا يَصح إِقْرَارهَا بهَا لابيها، يدل عَلَيْهِ مَا صرح بِهِ الزَّيْلَعِيّ وَغَيره من أَنه لَو أقرّ بِعَين فِي يَده لآخر لَا يَصح فِي حق غُرَمَاء الصِّحَّة، وَإِذا لم يَصح فِي حق غُرَمَاء الصِّحَّة لَا يَصح فِي حق بَقِيَّة الْوَرَثَة لاشْتِرَاكهمَا فِي الحكم لشمُول الْعلَّة وَهِي التُّهْمَة لَهما، وَمَا قدمه من قَوْله بِخِلَاف إِقْرَاره بِأَن هَذَا العَبْد لفُلَان، فَإِنَّهُ كَالدّين فَإِذا كَانَ كَالدّين فَكيف يَصح الاقرار بِهِ للْوَارِث، أما عدم شَهَادَة مَا تقدم لَهُ فبيانه أَن قَوْله لَيْسَ لي على فلَان أَو لم يكن لي عَلَيْهِ دين مُطَابِقٌ لِمَا هُوَ الْأَصْلُ مِنْ خُلُوِّ ذِمَّتِهِ عَن دينه فَلم يكن من بَاب الاقرار لَهُ، فَصَارَ كَاعْتِرَافِهِ بِعَيْنٍ فِي يَدِ زَيْدٍ بِأَنَّهَا لِزَيْدٍ فَانْتَفَتْ التُّهْمَةُ، وَمِثْلُهُ لَيْسَ لَهُ عَلَى وَالِدِهِ شئ مِنْ تَرِكَةِ أُمِّهِ، وَلَيْسَ لِي عَلَى زَوْجِي مهر على القَوْل الْمَرْجُوح، وَقد علمت أَن الاصح أَنه لَا يَصح، بِخِلَاف الامتعة الَّتِي بيد المقرة، فَإِنَّهُ إِقْرَار بهَا لِلْوَارِثِ بِلَا شَكٍّ، لِأَنَّ أَقْصَى مَا يُسْتَدَلُّ بِهِ على الْملك الْيَد، فقد أقرَّت بِمَا هُوَ ملكهَا ظَاهرا لوارثها فَأنى يَصح وأنى تَنْتفِي التُّهْمَة؟ وَقَوله وَكثير من النقول الصَّحِيحَة نشْهد بِصِحَّة هَذَا، وَلَيْسَ هَذَا من بَاب الاقرار لوَارث غير صَحِيح، لانا لم نجد فِي النقول الصَّحِيحَة وَلَا الضعيفة مَا يشْهد بِصِحَّتِهِ، وَوجدنَا النقول مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ الْإِقْرَارَ بِالْعَيْنِ الَّتِي فِي يَدِ الْمقر كالاقرار بِالدّينِ، وَلم يبعد عَهْدك بنقلها وَقَول صَاحب الْبَحْر وَلَا يُنَافِيهِ الخ.
أَقُول: بل يفهم مِنْهُ عدم الصِّحَّة بالاولى، وَذَلِكَ لانه إِذا لم يَصح فِيمَا مِنْهُ الاصل بَرَاءَة الذِّمَّة، فَكيف يَصح فِيمَا فِيهِ الْملك مشَاهد؟ ظَاهرا بِالْيَدِ نعم، لَو كَانَت فِي الامتعة يَد الاب هِيَ الْمُشَاهدَة لَا يَد الْبِنْت، فَلَا كَلَام فِي الصِّحَّة، فَالْحق مَا أفتى بِهِ ابْن عبد العال، وَيدل أَيْضا لصِحَّة مَا قُلْنَا مَا فِي شرح الْقَدُورِيّ الْمُسَمّى بمجمع الرِّوَايَة من قَوْله قَالَ فِي حَاشِيَة الْهِدَايَة: قَوْله وَإِقْرَار الْمَرِيض لوَارِثه لَا يَصح إِلَّا أَن يصدقهُ بَقِيَّة الْوَرَثَة، هَذَا إِشَارَة إِلَى أَن إِقْرَار الْمَرِيض لوَارِثه إِذا كَانَ هُنَا وراث آخر غير الْمقر لَهُ إِنَّمَا لَا يَصح لَا لعدم الْمَحَلِّيَّة بل لحق بَقِيَّة الْوَرَثَة، فَإِذا لم يكن لَهُ وَارِث غير الْمقر لَهُ صَحَّ إِقْرَاره، دلّ
عَلَيْهِ مَا ذكر فِي الدِّيات إِذا مَاتَت الْمَرْأَة وَتركت زوجا وعبدين لَا مَال لَهَا غَيرهمَا فأقرت أَن هَذَا العَبْد بِعَيْنِه وَدِيعَة لزَوجهَا عِنْدهَا، ثمَّ مَاتَت فَذَلِك جَائِز وَيكون العَبْد للزَّوْج بالاقرار بالوديعة وَالْعَبْد الآخر مِيرَاث نصفه للزَّوْج وَنصفه لبيت المَال اهـ.
فَهَذَا صَرِيح فِي أَنه إِذا كَانَ هُنَاكَ وَارِث غير الزَّوْج وَغير بَيت المَال لَا يَصح إِقْرَارهَا بِالْعَبدِ للزَّوْج، وَأي فرق بَين قَول الْبِنْت هَذِه الامتعة الَّتِي بيَدي أَو فِي بَيْتِي

(8/292)


ملك أبي لَا حق لي فِيهَا، وَبَين قَول الزَّوْجَة هَذَا العَبْد ملك زَوجي، فَإِن كَانَ زِيَادَة لَا حق لي فِيهَا فَهَذَا نفى حَقّهَا الْمشَاهد بِالْيَدِ ظَاهرا بعد إثْبَاته للاب.
وَبِه لَا يخرج عَن كَونه إِقْرَارا للْوَارِث بِعَين فِي يَده، فَتَأمل اهـ مَا ذكره الشَّيْخ خير الدّين الرَّمْلِيّ رَحمَه الله تَعَالَى، فالعجب من الشَّارِح مَعَ قَول شَيْخه الْخَيْر الرَّمْلِيّ فِي حَاشِيَته على الاشباه أَيْضا: أَن كل مَا أَتَى بِهِ من الشواهد لَا يشْهد لَهُ مَعَ تصريحهم بِأَن إِقْرَار الْمَرِيض بِعَين فِي يَده لوَارِثه لَا يَصح، وَلَا شكّ أَن الامتعة الَّتِي بيد الْبِنْت، وملكها فِيهَا ظَاهر بِالْيَدِ إِذا قَالَت هِيَ ملك أبي لَا حق لي فِيهَا إِقْرَار بِالْعينِ للْوَارِث، بِخِلَاف قَوْله لم يكن لي عَلَيْهِ شئ أَو لَا حق لي عَلَيْهِ أَو لَيْسَ لي عَلَيْهِ شئ وَنَحْوه من صور النَّفْي لتمسك النَّافِي فِيهِ بالاصل، فَكيف يسْتَدلّ بِهِ على مدعاه، ويجعله صَرِيحًا فِيهِ.
ثمَّ قَالَ: وَقد خَالفه فِي ذَلِك عُلَمَاء عصره بِمصْر، وأفتوا بِعَدَمِ الصِّحَّة، وَمِنْهُم وَالِد شَيخنَا الشَّيْخ أَمِين الدّين بن عبد العال.
وَبعد هَذَا الْبَحْث والتحرير رَأَيْت شيخ شَيخنَا شيخ الاسلام الشَّيْخ عَليّ الْمَقْدِسِي رد على الْمُؤلف: أَي صَاحب الاشباه كَلَامه، وَكَذَلِكَ الشَّيْخ مُحَمَّد الْغَزِّي على هَامِش نُسْخَة الاشباه والنظائر، فقد ظهر الْحق واتضح وَللَّه الْحَمد والْمنَّة اهـ كَلَام الْخَيْر الرَّمْلِيّ أَيْضا.
وَتَبعهُ السَّيِّد الْحَمَوِيّ فِي حَاشِيَة الاشباه، وَكَذَلِكَ رد عَلَيْهِ الْعَلامَة جوي زَاده كَمَا رَأَيْته مَنْقُولًا عَنهُ فِي هَامِش نُسْخَتي الاشباه، ورد عَلَيْهِ أَيْضا الْعَلامَة البيري وَقَالَ بعد كَلَام: وَعَلِيهِ فَلَا يَصح الِاسْتِدْلَال لمفت وَلَا لقاض بِمَا أفتى بِهِ من صِحَة الاقرار للْوَارِث بالعروض فِي مرض الْمَوْت الْوَاقِع فِي زَمَاننَا، لَان الْخَاص وَالْعَام يعلمُونَ أَن الْمقر مَالك لجَمِيع مَا حوته دَاره لَا حق فِيهِ للْمقر لَهُ بِوَجْه من الْوُجُوه، وَإِنَّمَا قصد حرمَان بَاقِي الْوَرَثَة: أَي تُهْمَة بعد هَذِه التُّهْمَة يَا عباد الله اهـ.
وَكَذَا رد عَلَيْهِ الشَّيْخ إِسْمَاعِيل الحائك مفتي دمشق الشَّام سَابِقًا حَيْثُ سُئِلَ: فِيمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنْ لَا حق لَهُ فِي
الامتعة الْمَعْلُومَة مَعَ بنته وَملكه فِيهَا ظَاهر؟ فَأجَاب بِأَن الاقرار بَاطِل عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَلَوْ مُصَدَّرًا بِالنَّفْيِ خلافًا للاشباه وَقد أَنْكَرُوا عَلَيْهِ اهـ.
وَكَذَا رد عَلَيْهِ شَيخنَا السائحاني وَغَيره.
وَالْحَاصِل كَمَا رَأَيْته مَنْقُولًا عَن الْعَلامَة جوي زَاده: أَن الامتعة إِن كَانَت فِي يَد الْبِنْت فَهُوَ إِقْرَار بِالْعينِ للْوَارِث بِلَا شكّ، وَإِن لم تكن فِي يَدهَا فَهُوَ صَحِيح، وَبِه يشْعر كَلَام الْخَيْر الرَّمْلِيّ الْمُتَقَدّم، وَصرح بِهِ أَيْضا فِي حَاشِيَته على الْمنح، وَأطَال فِي الرَّد على الاشباه كَمَا علمت.
مطلب: الاقرار للْوَارِث مَوْقُوف إِلَّا فِي ثَلَاث فَإِن قلت: قد ذكر الشَّارِح فِيمَا يَأْتِي عَن الاشباه أَن إِقْرَاره للْوَارِث مَوْقُوف إِلَّا فِي ثَلَاث مِنْهَا: إِقْرَاره كلهَا الخ، وَقَول الْبِنْت هَذَا الشئ لابي إِقْرَار بالامانة بالامانات فَيصح وَإِن كَانَ فِي يَدهَا.
قلت: المُرَاد يَصح إِقْرَارهَا بِقَبض الامانة الَّتِي لَهُ عِنْد وَارثه، لَان صَاحب الاشباه ذكر عَن تَلْخِيص الْجَامِع أَنَّ الْإِقْرَارَ لِلْوَارِثِ مَوْقُوفٌ إلَّا فِي ثَلَاثٍ: لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ وَدِيعَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، أَوْ بِقَبْضِ مَا قَبضه الْوَارِث بِالْوكَالَةِ من مديونه.
ثمَّ قَالَ فِي الاشباه: وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالثَّانِيَةِ إقْرَارُهُ بِالْأَمَانَاتِ كُلِّهَا وَلَوْ مَالَ الشَّرِكَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ، وَالْمَعْنَى فِي الْكل أَنه لَيْسَ فِيهِ إيثارا لبَعض اهـ: يَعْنِي أَن الْوَدِيعَة فِي قَوْله أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً غير قيد، بل يَنْبَغِي أَن يلْحق بهَا الامانات كلهَا فَيكون إِقْرَاره بقبضها كإقراره بِقَبض الْوَدِيعَة، وَيُؤَيّد هَذَا الْبَحْث مَا قدمْنَاهُ

(8/293)


عَن نور الْعين من قَوْله: مَرِيض عَلَيْهِ دين مُحِيط بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ وَارِثِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ، لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ ادَّعَى رَدَّ الْأَمَانَةِ إلَى مُوَرِّثِهِ الْمَرِيضِ وَكذبه الْمُورث يقبل قَول الْوَارِث اهـ.
فقد تبين لَك أَنه لَيْسَ المُرَاد إِقْرَاره بأمانة عِنْده لوَارِثه، بل المُرَاد مَا قُلْنَا فَتنبه لذَلِك، فَإِنِّي رَأَيْت من يُخطئ فِي ذَلِك مَعَ أَن النقول صَرِيحَة بِأَن إِقْرَاره لوَارِثه بِعَين غير صَحِيح كَمَا مر، ثمَّ إِن مَا ذكره فِي الاشباه من اسْتثِْنَاء الْمَسْأَلَة الثَّالِثَة الظَّاهِر أَنه يَسْتَغْنِي عَنهُ بِالثَّانِيَةِ، لَان الْمَرِيض إِذا كَانَ لَهُ دين على أَجْنَبِي فَوكل الْمَرِيض وَارثه بِقَبض الدّين الْمَذْكُور فَقَبضهُ صَار ذَلِك الَّذين أَمَانَة فِي يَد الْوَارِث، فَإِذا أقرّ
بِقَبْضِهِ مِنْهُ فقد أقرّ لَهُ بِقَبض مَا كَانَ لَهُ أَمَانَة عِنْده، لَان المَال فِي يَد الْوَكِيل أَمَانَة.
تَأمل.
وَقد ذكر فِي جَامع الْفُصُولَيْنِ صُورَة الْمَسْأَلَة الاولى من الْمسَائِل الثَّلَاث فَقَالَ: صُورَتَهَا أَوْدَعَ أَبَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي مَرَضِ الْأَبِ أَوْ صِحَّتِهِ عِنْدَ الشُّهُودِ، فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَقَرَّ بِإِهْلَاكِهِ صُدِّقَ، إذْ لَوْ سَكَتَ وَمَات وَلَا يدْرِي مَا صنع كَانَت فِي مَاله، فَإِذا أقرّ بإتلافه فَأولى اهـ.
قَوْله عِنْد الشُّهُود قيد بِهِ لتَكون الْوَدِيعَة معرفَة بِغَيْر إِقْرَاره، وَلِهَذَا قيد فِي الاشباه بقوله الْمَعْرُوفَة، فَيدل على أَنه لَو أقرّ بإهلاك وَدِيعَة لوَارِثه وَلَا بَيِّنَة على الايداع لَا يقبل قَوْله، وَبِه تعلم مَا فِي عبارَة المُصَنّف وَالشَّارِح من الْخلَل حَيْثُ قَالَ: بِخِلَافِ إقْرَارِهِ لَهُ: أَيْ لِوَارِثِهِ بِوَدِيعَةٍ مُسْتَهْلَكَةٍ فَإِنَّهُ جَائِز.
وَصُورَتُهُ أَنْ يَقُولَ: كَانَتْ عِنْدِي وَدِيعَةٌ لِهَذَا الْوَارِث فاستهلكتها.
جَوْهَرَة اهـ.
فَإِنَّهُ كَانَ عَلَيْهِ أَن يَقُول: بِخِلَاف إِقْرَاره لَهُ باستهلاك وَدِيعَة معرفَة فَإِنَّهُ جَائِز فاغتنم ذَلِك.

قَوْله: (كَمَا بَسطه فِي الاشباه الخ) أَقُول: وَقد خَالفه عُلَمَاء عصره، وأفتوا بِعَدَمِ الصِّحَّة كَمَا علمت.
وَقد كتب الْعَلامَة الْحَمَوِيّ فِي حَاشِيَة الاشباه فِي الرَّد على عبارتها فَقَالَ: كل مَا أَتَى بِهِ المُصَنّف: أَي صَاحب الاشباه لَا يشْهد لَهُ مَعَ تصريحهم بِأَن إِقْرَاره بِعَين فِي يَده لوَارِثه لَا يَصح، وَلَا شكّ أَن الامتعة الَّتِي بيد الْبِنْت ملكهَا فِيهَا ظَاهر بِالْيَدِ، فَإِذا قَالَت هِيَ ملك أبي لَا حق لي فِيهَا، فَيكون إِقْرَارا بِالْعينِ للْوَارِث، بِخِلَاف قَوْله لم يكن لي عَلَيْهِ شئ أَو لَا حق لي عَلَيْهِ أَو لَيْسَ لي عَلَيْهِ شئ وَنَحْوه من صُورَة النَّفْي لتمسك النَّافِي فِيهِ بالاصل، فَكيف يسْتَدلّ بِهِ على مدعاه ويجعله صَرِيحًا فِيهِ.
وَذكر الشَّيْخ صَالح فِي حَاشِيَته على الاشباه متعقبا لصَاحِبهَا فِي هَذِه الْمَسْأَلَة مَا نَصه: أَقُول: مَا ذكره المُصَنّف هُنَا لَا يخرج عَن كَونه إِقْرَارا للْوَارِث بِالْعينِ، وَهُوَ غير صَحِيح، وَبِه أفتى شيخ الاسلام أَمِين الدّين، وَلَيْسَ هَذَا دَاخِلا تَحت صور النَّفْي الَّتِي ذكرهَا مستدلا بهَا.
وَقَالَ أَخُو الْمُؤلف الشَّيْخ عمر بن نجيم: لَا يخفى مَا فِي إِقْرَارهَا من التُّهْمَة خُصُوصا إِذا كَانَ بَينهَا وَبَين زَوجهَا خُصُومَة كتزوجه عَلَيْهَا.
وَقَالَ البيري: الصَّوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إقْرَارٌ لِلْوَارِثِ بِالْعَيْنِ بِصِيغَةِ النَّفْي، وَلَا نزاع فِي عدم صِحَة ذَلِك للْوَارِث فِي مرض الْمَوْت، وَمَا اسْتندَ لَهُ المُصَنّف مَفْرُوض فِي إِقْرَار بِصِيغَة النَّفْي فِي دين لَا فِي عين، وَالدّين وصف قَائِم بِالذِّمةِ وَإِنَّمَا يصير مَالا بِاعْتِبَار قَبضه اهـ.
وَقَول المُصَنّف: وَلَيْسَ هَذَا من
قبيل الاقرار للْوَارِث فِيهِ نظر.

قَوْلُهُ: (أَوْ مَعَ أَجْنَبِيٍّ) قَالَ فِي نُورِ الْعَيْنِ: أَقَرَّ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ مُشْتَرَكٍ بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَهُمَا تَصَادَقَا فِي الشَّرِكَةِ أَوْ تَكَاذَبَا، وَقَالَ مُحَمَّدٌ: لِلْأَجْنَبِيِّ بِحِصَّتِهِ لَوْ أَنْكَرَ الْأَجْنَبِيُّ الشَّرِكَةَ، وَبِالْعَكْسِ لَمْ يَذْكُرْهُ مُحَمَّدٌ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَال: إِنَّه على اخْتِلَاف، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ لَمْ يَجُزْ

(8/294)


على قَول مُحَمَّد كَمَا هُوَ قَوْلهمَا اهـ.
لَهما أَن الاقرار إِخْبَار، وَلَا يَصح أَن ينفذ على خلاف الْوَجْه الَّذِي أقرّ بِهِ، فَإِذا أقرّ مُشْتَركا لَا يُمكن أَن ينفذ غير مُشْتَرك.
وَفِي أَحْكَام الناطفي: لَو أقرّ لاثْنَيْنِ بِأَلف فَرد أَحدهمَا وَقبل الآخر فَلهُ النّصْف.

قَوْله: (بِعَين) قيست على الدّين الْمَذْكُور فِي الحَدِيث، وَمِثَال الْعين أَن يقر الْمَرِيض بِأَن هَذِه الْعين وَدِيعَة وأرثي أَو عاريته أَو غصبتها أَو رهنتها مِنْهُ.

قَوْله: (بَطل) أَي على تَقْدِير عدم الاجازة، وَإِلَّا فَهُوَ مَوْقُوف اهـ.
منح لكنه لَو طلب سلم إِلَيْهِ، ثمَّ إِن مَاتَ لَا يرد لاحْتِمَال صِحَة الاقرار بالتحاق صِحَة الْمَرِيض اهـ.
حموي عَن الرَّمْز.

قَوْله: (وَلَنَا حَدِيثُ لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ وَلَا إقْرَارَ لَهُ بدين) رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيّ، لَكِن فِي الْمَبْسُوط أَن الزِّيَادَة شَاذَّة وَلذَلِك تَركهَا فِي الدُّرَر، وَالْمَشْهُور: لَا وَصِيَّة لوَارث، ولدلالة نفي الْوَصِيَّة على نفي الاقرار لَهُ بِالطَّرِيقِ الاولى، لَان بِالْوَصِيَّةِ إِنَّمَا يذهب ثلث المَال، وبالاقرار يذهب كُله، فإبطالها إبِْطَال للاقرار بِالطَّرِيقِ الاولى كَمَا فِي المنبع.
فَظهر أَن مَا يُقَال الْمُدَّعِي عدم جَوَاز الاقرار وَالدَّلِيل على عدم جَوَاز الْوَصِيَّة.
فَالصَّوَاب مَا أَتَى بِهِ صَاحب الْهِدَايَة سَاقِط غَايَته أَن الدَّلِيل لم ينْحَصر على عبارَة النَّص كَمَا صرح بِهِ فِي الاصول.

قَوْله: (إِلَّا أَن يصدقهُ بَقِيَّة الْوَرَثَة) أَيْ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَلَا عِبْرَةَ لِإِجَازَتِهِمْ قَبْلَهُ كَمَا فِي خِزَانَةِ الْمُفْتِينَ وَإِنْ أَشَارَ صَاحِبُ الْهِدَايَةِ لِضِدِّهِ، وَأَجَابَ بِهِ ابْنُهُ نِظَامُ الدِّينِ وحفيده عِمَادُ الدِّينِ.
ذَكَرَهُ الْقُهُسْتَانِيُّ شَرْحُ الْمُلْتَقَى.
وَفِي النعيمية: إذَا صَدَّقَ الْوَرَثَةُ إقْرَارَ الْمَرِيضِ لِوَارِثِهِ فِي حَيَاتِهِ لَا يُحْتَاجُ لِتَصْدِيقِهِمْ بَعْدَ وَفَاتِهِ، وَعَزَاهُ لِحَاشِيَةِ مِسْكِينٍ قَالَ: فَلَمْ تُجْعَلْ الْإِجَازَةُ كَالتَّصْدِيقِ، وَلَعَلَّه لانهم أقرُّوا اهـ.
قَالَ الْعَلامَة أَبُو السُّعُود فِي حَاشِيَة مِسْكين: وَكَذَا لَو كَانَ لَهُ دين على وَارثه فَأقر بِقَبْضِهِ لَا يَصح، إِلَّا أَن يصدقهُ الْبَقِيَّة.
زَيْلَعِيّ.
فَإِذا صدقوه فِي حَيَاة الْمقر فَلَا حَاجَة إِلَى التَّصْدِيق بعد الْمَوْت،
بِخِلَاف الْوَصِيَّة بِمَا زَاد على الثُّلُث حَيْثُ لَا تنفذ إِلَّا بِإِجَازَة الْوَرَثَة بعد موت الْمُوصي حموي اهـ.
أَقُول: يَنْبَغِي أَن يكون على هَذَا المنوال رضَا الْغُرَمَاء قبل مَوته.
تدبر.
وَأَقُول: وَكَذَا وقف بَيْعه لوَارِثه على إجازتهم كَمَا قدمه فِي بَاب القضولي، وَأَشَارَ فِي الخزانة إِلَى أَنهم قَالُوا أجزنا إِقْرَاره فِي حَيَاته فَلهم الرُّجُوع: أَي فَلَا مُخَالفَة لَان التَّصْدِيق كصريح الاقرار، بِخِلَاف الاجازة.

قَوْله: (فَلَو لم يكن وَارِث آخر) أَي ذُو فرض أَو تصعيب أَو رحم محرم.

قَوْله: (أَو أوصى لِزَوْجَتِهِ) يَعْنِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ آخَرُ، وَكَذَا فِي عَكسه كَمَا فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّة، وَفِي بعض النّسخ وَأوصى بِدُونِ ألف، وَهِي الاولى لانه تَصْوِير للْوَصِيَّة للْوَارِث الَّذِي لَيْسَ لَهُ وَارِث غَيره، وَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر بِغَيْر أحد الزَّوْجَيْنِ لما قَالَه من أَن غَيرهمَا فرضا وردا.

قَوْله: (صحت الْوَصِيَّة) وَلَو كَانَ مَعهَا بَيت المَال لما أَنه غير وَارِث، بل يوضع فِيهِ المَال على أَنه مَال ضائع لَا بطرِيق الارث، فَلَا يُعَارضهُ الْوَصِيَّة والاقرار وَلَا الْمُحَابَاة، كَمَا أَفَادَهُ الْخَيْر الرَّمْلِيّ فِي فَتَاوَاهُ آخر الْوَصَايَا، قَالَ فِيهَا: وَحَيْثُ لَا وَارِث نفذت محاباتها مَعَ زَوجهَا بِلَا توقف، وَلَو أوصت بِكُل مَا لَهَا نفذت وصيتها لَهُ، لَكِن قد يُقَال: إِن مَا ذكره الشَّارِح أَنه لَا يُوَافق مَسْأَلَة المُصَنّف، لَان موضوعها الاقرار لَا بملاحظة أَن هَذَا الاقرار

(8/295)


يكون وَصِيَّة بِدَلِيل قَوْله: إِلَّا أَن يصدقهُ الْوَرَثَة فَإِنَّهُ يَصح الاقرار، وَإِن لم يكن وَارِث آخر.
وَالْحَاصِل: أَن الْمَسْأَلَة فِي حد ذَاتهَا صَحِيحَة، إِلَّا أَنَّهَا لَا توَافق مَسْأَلَة المُصَنّف لما ذكرنَا.
تَأمل.

قَوْله: (وَأما غَيرهمَا) أَي غير الزَّوْجَيْنِ وَلَو كَانَ ذَا رحم.
شرنبلالية.

قَوْله: (فرضا وردا) الْمُنَاسب زِيَادَة أَو تعصيبا ط.

قَوْله: (فَلَا يحْتَاج لوَصِيَّة شرنبلالية) وَالْحَاصِل أَن إِقْرَار الْمَرِيض لوارثة لَا يَصح إِذا كَانَ هُنَاكَ وَارِث آخر غير الْمقر لَهُ لَا لعدم الْمَحَلِّيَّة بل لحق الْوَرَثَة، فَإِذا لم يكن لَهُ وَارِث آخر غير الْمقر لَهُ صَحَّ إِقْرَاره.

قَوْله: (أقرّ بوقف الخ) هَذَا كَلَام مُجمل يحْتَاج إِلَى بَيَان، ذكر الشَّارِح الْعَلامَة عبد الْبر عَن الْخَانِية: رجل أقرّ فِي مَرَضِهِ بِأَرْضٍ فِي يَدِهِ أَنَّهَا وَقْفٌ إنَّ أَقَرَّ بِوَقْفٍ مِنْ قِبَلِ نَفْسِهِ كَانَ مِنْ الثُّلُثِ كَمَا لَوْ أَقَرَّ الْمَرِيضُ بِعِتْقِ عَبده، وَإِن مِنْ جِهَةِ غَيْرِهِ إنْ صَدَّقَهُ ذَلِكَ الْغَيْرُ أَو ورثته جَازَ فِي الْكل، وَإِن لم يُبَيِّنْ أَنَّهُ مِنْهُ أَوْ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ من الثُّلُث.
وَفِي منية الْمُفْتِي مثله.
وَسَوَاء أسْند الْوَقْف إِلَى حَال الصِّحَّة أَو
لم يسند فَهُوَ من الثُّلُث، إِلَّا أَن يُجِيز الْوَرَثَة أَو يصدقوه فِي الاسناد إِلَى الصِّحَّة، وَلَو كَانَ الْمسند إِلَيْهِ مَجْهُولا أَو مَعْرُوفا وَلم يصدق وَلم يكذب أَو مَاتَ وَلَا وَارِث لَهُ إِلَّا بَيت المَال فَالظَّاهِر أَن يكون من الثُّلُث، لَان التَّصْدِيق مِنْهُ أَو من الْوَارِث شَرط فِي كَونه من جَمِيع المَال، وَفرع عَلَيْهِ صَاحب الْفَوَائِد أَنه لَا يعْتَبر تَصْدِيق السُّلْطَان فِيمَا إِذا كَانَ لم يكن لَهُ وَارِث إِلَّا بَيت المَال، وَهَذَا مَنْقُول من كَلَام شَيخنَا وَإِن قَالَ الطرسوسي تفقها اهـ.
بِتَصَرُّف.
وَفِي شرح الشُّرُنْبُلَالِيّ: وَإِن أجَاز ورثته أَو صدقوه فَهُوَ من جَمِيع المَال، لَان مظهر بِإِقْرَارِهِ لَا منشئ، فَلَو لم يكن للْغَيْر وَارِث.
قَالَ المُصَنّف: لَا يعْتَبر تَصْدِيق السُّلْطَان، كَذَا أطلقهُ.
قلت: وَهَذَا فِي الْوَقْف لَا على جِهَة عَامَّة ظَاهر لتَضَمّنه إِقْرَاره على غَيره وَإِبْطَال حق الْعَامَّة، وَأما الْوَقْف على جِهَة عَامَّة فَيصح تَصْدِيق السُّلْطَان كإنشائه لما تقدم من صِحَة وقف السُّلْطَان شَيْئا من بَيت المَال على جِهَة عَامَّة، ثمَّ لَا يخفى أَن الْمقر لم يسْندهُ لغيره وَلم يكن لَهُ وَارِث تجوز إجَازَة السُّلْطَان، وَمن لَهُ بَيت المَال.
كَذَا فِي الْبَزَّازِيَّة.
وَلنَا فِيهِ رِسَالَة.
وَلَا يعْمل بِمَا فهمه الطرسوسي كَمَا نَقله المُصَنّف عَنهُ من أَنه يكون من الثُّلُث مَعَ عدم اعْتِبَار تَصْدِيق السُّلْطَان أَنه نَافِذ من كل المَال ط.

قَوْله: (فَلَو على جِهَة عَامَّة) كبناء القناطر والثغور.

قَوْله: (صَحَّ تَصْدِيق السُّلْطَان) لَان لَهُ أَن يفعل ذَلِك من بَيت المَال، وَمن حكى أمرا يملك استئنافه صدق.

قَوْله: (وَكَذَا لَو وقف) أَي أنشأ وَقفا فِي مرض مَوته وَلَا وَارِث لَهُ على جِهَة عَامَّة فَإِنَّهُ ينفذ من الْجَمِيع بِتَصْدِيق السُّلْطَان.

قَوْله: (خلافًا لمن زَعمه الطرسوسي) هُوَ يَقُول: لَو لم يكن لَهُ وَارِث إِلَّا بَيت المَال لَا يعْتَبر تَصْدِيق السُّلْطَان، بل يكون من الثُّلُث كَمَا يُؤْخَذ من شرح الْوَهْبَانِيَّة لعبد الْبر السَّابِقَة، وَوجه فَسَاد مَا زَعمه الطرسوسي أَن الْوَقْف وَالْحَالة هَذِه وَصِيَّة وَهِي مُقَدّمَة على بَيت المَال، بل لَا يحْتَاج ذَلِك لتصديق السُّلْطَان.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ كَانَ ذَلِكَ) أَيْ الْإِقْرَارُ وَلَوْ وصلية.

قَوْله: (إِقْرَار بِقَبض دينه أَو غصبه) بِأَن أقرّ أَنه قبض مَا غصبه وَارثه مِنْهُ.

(8/296)


قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: لَا يَصِحُّ إقْرَارُ مَرِيضٍ مَاتَ فِيهِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ وَارِثِهِ، وَلَا من كَفِيل وَارثه، وَلَو
أقرّ لوَارِثه وَقت إِقْرَار وَوَقْتَ مَوْتِهِ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُف، لَا عِنْد مُحَمَّد وَيَأْتِي تَمَامه، وَقُيِّدَ بِدِينِ الْوَارِثِ احْتِرَازًا عَنْ إقْرَارِهِ بِاسْتِيفَاءِ دَيْنِ الْأَجْنَبِيِّ، وَالْأَصْلُ فِيهِ أَنَّ الدَّيْنَ لَوْ كَانَ وَجَبَ لَهُ عَلَى أَجْنَبِيٍّ فِي صِحَّتِهِ جَازَ إِقْرَار بِاسْتِيفَائِهِ، وَلَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَعْرُوفٌ، سَوَاءٌ وَجَبَ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ الثّمن أَوْ لَا كَبَدَلِ صُلْحِ دَمِ الْعَمْدِ وَالْمَهْرِ وَنَحْوه، وَلَو دينا وَجب لَهُ فِي مَرَضِهِ وَعَلَيْهِ دَيْنٌ مَعْرُوفٌ أَوْ دَيْنٌ وَجب عَلَيْهِ بمعاينة الشُّهُود بمرضه، فَلَوْ مَا أَقَرَّ بِقَبْضِهِ بَدَلًا عَمَّا هُوَ مَالٌ لَمْ يَجُزْ إقْرَارُهُ: أَيْ فِي حَقِّ غُرَمَاء الصِّحَّة أَو الْمَرَض بمعاينة الشُّهُود كَمَا فِي الْبَدَائِعِ، وَلَوْ بَدَلًا عَمَّا لَيْسَ بِمَالٍ جَازَ إقْرَارُهُ بِقَبْضِهِ وَلَوْ عَلَيْهِ دَيْنٌ مَعْرُوفٌ جَامِعُ الْفُصُولَيْنِ.
وَفِيهِ: لَوْ بَاعَ فِي مَرَضِهِ شَيْئًا بِأَكْثَرَ من قِيمَته فَأقر بِقَبض ثمنه وَالْمَسْأَلَة بِحَالِهَا من كَون الْمقر مديونا دينا مَعْرُوفا بِبَيِّنَة لَمْ يُصَدَّقْ، وَقِيلَ لِلْمُشْتَرِي أَدِّ ثَمَنَهُ مَرَّةً أُخْرَى أَوْ اُنْقُضْ الْبَيْعَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعند مُحَمَّد: يُؤَدِّي قدر قِيمَته أَو ينْقض البيع.
قَالَ فِي جَامع الْفُصُولَيْنِ: أَقَرَّ بِدَيْنٍ لِوَارِثِهِ أَوْ لِغَيْرِهِ، ثُمَّ بَرِئَ فَهُوَ كَدَيْنِ صِحَّتِهِ، وَلَوْ أَوْصَى لِوَارِثِهِ ثُمَّ برِئ بطلت وَصيته اهـ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: نَفْسُ الْبَيْعِ مِنْ الْوَارِثِ لَا يَصِحُّ إلَّا بِإِجَازَةِ الْوَرَثَةِ: يَعْنِي فِي مَرَضِ الْمَوْتِ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَعِنْدَهُمَا يَجُوزُ، لَكِنْ إنْ كَانَ فِيهِ غَبْنٌ أَوْ مُحَابَاةٌ يُخَيَّرُ الْمُشْتَرِي بَيْنَ الرَّد وتكميل الْقيمَة اهـ.
أَقُول: وَبَيَان مَا تقدم أَن حق الْغُرَمَاء يتَعَلَّق بِذِمَّة الْمَدْيُون فِي الصِّحَّة، فَإِذا مرض تعلق بِمَعْنى التَّرِكَة، وَهِي أعيانها، وَالدّين مُطلقًا لَيْسَ مِنْهَا فَلم يكن أتلف عَلَيْهِم بِهَذَا الاقرار شَيْئا، وَأما إِذا مرض وَتعلق حَقهم بِعَين التَّرِكَة فَإِذا بَاعَ مِنْهَا شَيْئا أَو أقرّ بِاسْتِيفَاء ثمنه فقد أتلف عَلَيْهِم، وَقَوله وَقيل للْمُشْتَرِي أد ثمنه مرّة أُخْرَى: أَي على زعمك، وَإِلَّا بِأَن أقرُّوا: أَي الْغُرَمَاء بِدفع الثّمن لَا يكون لَهُم مُطَالبَة، وَهَذَا الْفَرْع مُشكل من حَيْثُ أَن البيع صَحِيح نَافِذ، فَكيف يتَخَيَّر وَالْحَالة هَذِه بَين نقض البيع أَو تأدية الثّمن.
وَقَول مُحَمَّد أَشد إشْكَالًا من حَيْثُ إِن الْوَاجِب فِي البيع الثّمن دون الْقيمَة، وَيُمكن تَصْوِيره على قَول الامام، وَذَلِكَ بِأَن يكون المُشْتَرِي وَارِثا وَالْبيع مِنْهُ غير نَافِذ عِنْده، بل مَوْقُوف على إجَازَة الْوَرَثَة، فَإِذا لم يجيزوا وَلم يردوا كَانَ للْمُشْتَرِي الْخِيَار.
وَحِينَئِذٍ يُخَيّر بَين الْفَسْخ وَعَدَمه.
فَإِذا قَالَت
لَهُ الْوَرَثَة إِن شِئْت فادفع الثّمن لنجيز البيع وَإِن شِئْت رد علينا بخيارك صَحَّ، لَكِن يشكل عَلَيْهِ قَول مُحَمَّد، وَأَن الْقَوْلَيْنِ مَنْسُوبا للصالحين، وهما يجيزان البيع من الْوَارِث مُطلقًا، غير أَنه يُقَال لَهُ فِي صُورَة الْمُحَابَاة: أد الْقيمَة أَو افسخ.
تَأمل.

قَوْلُهُ: (وَنَحْوُ ذَلِكَ) كَأَنْ يُقِرَّ أَنَّهُ قَبَضَ الْمَبِيعَ فَاسِدًا مِنْهُ أَوْ أَنَّهُ رَجَعَ فِيمَا وهبه لَهُ مَرِيضا حموي ط.
أَو أَنه استوفى ثمن مَا بَاعه كَمَا فِي الْهِنْدِيَّة.

قَوْله: (بِقَبض دينه) فِيهِ إِشَارَة إِلَى أَن إِقْرَاره وَدِيعَة لَهُ كَانَت عِنْده صَحِيح، وَبِه صرح فِي الاشباه ثمَّ قَالَ وَيَنْبَغِي أَن يلْحق بذلك الاقرار بالامانات كلهَا.

قَوْله: (لَا يَصح لوُقُوعه لمَوْلَاهُ) ملكا فِي العَبْد وَالْمكَاتب إِذا عجز وَحقا فِيهِ إِن لم يعجز نَفسه.
وَالْحَاصِل: أَنه لَا يَصِحُّ إقْرَارُ مَرِيضٍ مَاتَ فِيهِ بِقَبْضِ دَيْنٍ مِنْ وَارِثِهِ، وَلَا مِنْ كَفِيلِ وَارِثِهِ أَو عبد وَارثه، لَان الاقرار لعبد الْوَارِث إِقْرَار لمَوْلَاهُ، وَمَا أقرّ بِهِ للْمكَاتب فِيهِ حق لمَوْلَاهُ، لذَلِك قَالَ فِي الْمنح:

(8/297)


لانه يَقع لمَوْلَاهُ ملكا أَو حَقًا اهـ.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ فَعَلَهُ) أَيْ الْإِقْرَارَ بِهَذِهِ الْأَشْيَاءِ للْوَارِث.

قَوْله: (ثمَّ برِئ) أَي من مَرضه.

قَوْله: (لعدم مرض الْمَوْت) فَلم يتَعَلَّق بِهِ حق الْوَرَثَة.

قَوْله: (وَلَو مَاتَ الْمقر لَهُ) أَي الْوَارِث للْمقر ثمَّ الْمَرِيض الْمقر.

قَوْله: (وورثة الْمقر لَهُ من وَرَثَة الْمَرِيض) صورته: أَقَرَّ لِابْنِ ابْنِهِ ثُمَّ مَاتَ ابْنُ الِابْنِ عَن أَبِيه ثمَّ مَاتَ الْمقر عَن ذَلِك الابْن فَقَط أَو ابْنَيْنِ أَحدهمَا وَالِد الْمقر لَهُ أَو أقرّ لامْرَأَته بدين فَمَاتَتْ ثمَّ مَاتَ هُوَ وَترك مِنْهَا وَارِثا.

قَوْله: (جَازَ إِقْرَاره) عِنْد أبي يُوسُف آخرا وَمُحَمّد لِخُرُوجِهِ عَن كَونه وَارِثا فِي الصُّورَة الاولى، وَفِي الصُّورَة الثَّانِيَة فلَان الْعبْرَة لكَون الْمقر لَهُ وَارِثا وَلَا وَقت موت الْمقر، وَهِي إِذْ ذَاك لَيست وارثة، لَان الْمَيِّت لَيْسَ بوارث، وَهَذَا هُوَ الَّذِي يَأْتِي قَرِيبا عَن الصيرفية.

قَوْله: (كإقراره لاجنبي) يَعْنِي لَو كَانَ الْمقر لَهُ أَجْنَبِيّا وَمَات قبل الْمقر وورثته وَرَثَة الْمقر فَإِن إِقْرَاره جَائِز لانه لم يقر لوَارث حِين أقرّ، أما فِي الاجنبي فَظَاهر، وَأما فِي الْوَارِث الَّذِي مَاتَ فَإِنَّهُ بِمَوْتِهِ قبل الْمقر خرج عَن كَونه وَارِثا لَهُ.
قَالَ فِي الْمنح: وَلَو أقرّ لوَارِثه ثمَّ مَاتَ الْمقر لَهُ ثمَّ الْمَرِيض ووارث الْمقر لَهُ من وَرَثَة الْمَرِيض لم يجز إِقْرَاره عِنْد أبي يُوسُف أَولا، وَقَالَ آخرا: يجوز وَهُوَ قَول مُحَمَّد.

قَوْله: (وسيجئ) أَي قَرِيبا.

قَوْله: (بوديعة مستهلكة) أَي وَهِي مَعْرُوفَة لعدم التُّهْمَة، وَلَو كذبناه وَمَات وَجب الضَّمَان من مَاله لانه مَاتَ
مجهلا، وَعَلِيهِ بَيِّنَة فَلَا فَائِدَة فِي تَكْذِيبه، وَلَو كَانَت الْوَدِيعَة غير مَعْرُوفَة لَا يقبل إِقْرَاره باستهلاكها إِلَّا أَن يصدقهُ بَقِيَّة الْوَرَثَة كَمَا فِي التَّبْيِين، والاصوب أَن يَقُول المُصَنّف باستهلاكه الْوَدِيعَة أَي الْمَعْرُوفَة بِالْبَيِّنَةِ بدل قَوْله بوديعة مستهلكة.

قَوْله: (وَصورته) لم يُبَيِّنْ بِهَذِهِ الصُّورَةِ أَنَّ الْوَدِيعَةَ مَعْرُوفَةٌ كَمَا صرح بِهِ فِي الاشباه، وَقد أوضح الْمَسْأَلَة فِي الولواجية فَرَاجعهَا وصورها فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ رَاقِمًا.
صُورَتَهَا: أَوْدَعَ أَبَاهُ أَلْفَ دِرْهَمٍ فِي مَرَضِ الْأَبِ أَوْ صِحَّتِهِ عِنْدَ الشُّهُودِ فَلَمَّا حَضَرَهُ الْمَوْتُ أَقَرَّ بِإِهْلَاكِهِ صُدِّقَ.
إذْ لَوْ سَكَتَ وَمَاتَ وَلَا يَدْرِي مَا صنع كَانَت دينا فِي مَاله، فَإِذا أقرّ باستهلاكه فَأولى، وَلَو أقرّ أَولا بتلفها فِي يَده فنكل عَن الْيَمين وَمَات لم يكن لوَارِثه فِي مَاله شئ اهـ.
وَالْحَاصِلُ: أَنَّ مَدَارَ الْإِقْرَارِ هُنَا عَلَى اسْتِهْلَاكِ الْوَدِيعَة الْمَعْرُوفَة لَا عَلَيْهَا، وَمِنْه تعلم أَن قَوْله وَمِنْهَا إِقْرَاره بالامانات كلهَا مُقَيّد بِمَا هُنَا، ثمَّ فِيهِ أَيْضا، لَو أقرّ الْمَرِيض بِقَبض ثمن مَا بَاعه لوَارِثه بأَمْره أَو بِولَايَة لم يصدق إِذا أقرّ بدين لوَارِثه إِلَّا أَن يَدعِي الْهَلَاك لكَونه دينا فِي تركته، فَلَو قَالَ قبضت الثّمن وأتلفته يبرأ المُشْتَرِي، وَلَو أدّى لم يرجع، وَكَذَا لَا يصدق فِي قبض ثمن مَا بَاعَ لغيره من وَارثه إِلَّا أَن يَقُول ضَاعَ عِنْدِي أَو دَفعته إِلَى الْآمِر اهـ.
وَاللَّام فِي لوَارِثه وَلغيره: لَام الْعلَّة أَو الْملك لَا التَّعْدِيَة، وَقَوله إِلَّا أَن يَدعِي الْهَلَاك لكَونه دينا فِي تركته صَوَابه: لكَونه لَيْسَ دينا فِي تركته، لَان الْوَكِيل أَمِين غير ضمين، وَيدل على ذَلِك أَيْضا قَوْله بعده إِلَّا أَن يَقُول ضَاعَ عِنْدِي أَو دَفعته إِلَى الْآمِر، لانه لم يصر دينا فِي التَّرِكَة لَا لوَارث وَلَا من جِهَة الْوَارِث، وَقَوله قبضت الثّمن وأتلفته هُوَ مثل إِقْرَاره لوَارِثه بوديعة استهلكها فتقيد الْمُبَايعَة بمعاينة الشُّهُود، وَحِينَئِذٍ فَإِذا أدّى ضَمَان ذَلِك للْوَارِث لم يرجع على المُشْتَرِي، وَيُمكن رُجُوع ضمير أدّى للْمُشْتَرِي، وَإِنَّمَا لَا يرجع لانه مُتَبَرّع، وَسَيَأْتِي فِي آخر كِتَابَته على الْوَصَايَا مَا يُخَالِفهُ، وَلَكِن مَا هُنَا أولى.

(8/298)


وَفِي خزانَة الْمُفْتِينَ: بَاعَ عبدا من وَارثه فِي صِحَّته، ثمَّ أقرّ بِاسْتِيفَاء الثّمن فِي الْمَرَض لَا يَصح.
وَفِي الزَّيْلَعِيّ: لَو كَانَت الْوَدِيعَة غير مَعْرُوفَة لَا يقبل قَوْله استهلكتها إِلَّا أَن يصدقهُ بَقِيَّة الْوَرَثَة.

قَوْله: (وَالْحَاصِل الخ) فِيهِ مُخَالَفَةٌ لِلْأَشْبَاهِ، وَنَصُّهَا: وَأَمَّا مُجَرَّدُ الْإِقْرَارِ للوراث فَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى الْإِجَازَةِ، سَوَاءٌ
كَانَ بِعَيْنٍ أَوْ دَيْنٍ أَوْ قَبْضٍ مِنْهُ أَوْ أَبْرَأَهُ إِلَّا فِي ثَلَاثٍ: لَوْ أَقَرَّ بِإِتْلَافِ وَدِيعَتِهِ الْمَعْرُوفَةِ، أَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِ مَا كَانَ عِنْدَهُ وَدِيعَةً، أَوْ بِقَبْضِ مَا قَبَضَهُ الْوَارِثُ بِالْوَكَالَةِ مِنْ مَدْيُونِهِ.
كَذَا فِي تَلْخِيصِ الْجَامِعِ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يلْحق بِالثَّانِيَةِ إِقْرَاره بالامانات كلهَا وَلَو مَاتَ الشَّرِكَةِ أَوْ الْعَارِيَّةِ، وَالْمَعْنَى فِي الْكُلِّ أَنَّهُ لَيْسَ يه إيثَارُ الْبَعْضِ، فَاغْتَنِمْ هَذَا التَّحْرِيرَ فَإِنَّهُ مِنْ مُفْرَدَات هَذَا الْكتاب.
اه.
وَقد ظن من لَا خبْرَة لَهُ أَن النَّفْي من قبيل الاقرار وَهُوَ خطأ، وَقَالَ قبل هَذَا: لَو قَالَ الْمَرِيض مرض الْمَوْت لَا حق لي على فلَان الْوَارِث لم تسمع الدَّعْوَى عَلَيْهِ من وَارِث آخر، وعَلى هَذَا يَقع كثيرا أَن الْبِنْت فِي مرض مَوتهَا بِأَن الامتعة الْفُلَانِيَّة ملك أَبِيهَا لَا حق لَهَا فِيهَا، وَقد أجبْت فِيهَا مرَارًا بِالصِّحَّةِ لما فِي التاترخانية من بَاب إِقْرَار الْمَرِيض: ادّعى على رجل مَالا وأثبته وأبرأه لَا تجوز بَرَاءَته إِن كَانَ مديونا وَكَذَا لَو أَبْرَأ الْوَارِث لَا يجوز سَوَاء كَانَ مديونا أَو لَا، وَلَو قَالَ: لم يكن لي على هَذَا الْمَطْلُوب شئ ثمَّ مَاتَ جَازَ إِقْرَاره فِي الْقَضَاء.
وَفِي الْبَزَّازِيَّة: قَالَت فِيهِ لَيْسَ لي على زَوجي مهر يبرأ عندنَا، خلافًا للشَّافِعِيّ، وفيهَا قبله: قَالَ فِيهِ لم يكن لي عَلَيْهِ شئ لَيْسَ لوَرثَته أَن يدعوا عَلَيْهِ شَيْئا فِي الْقَضَاء، وَفِي الدّيانَة لَا يجوز هَذَا الاقرار.
وَفِي الْجَامِع: أقرّ الابْن فِيهِ أَنه لَيْسَ لَهُ على وَالِده شئ من تَرِكَة أمه صَحَّ، بِخِلَاف مَا لَو أَبرَأَهُ أَو وهبه، وَكَذَا لَو أقرّ بِقَبض مَاله مِنْهُ فَهَذَا صَرِيح فِيمَا قُلْنَاهُ، وَلَا يُنَافِيهِ مَا فِي الْبَزَّازِيَّة قَوْلهَا فِيهِ لَا مهر لي عَلَيْهِ أَو لَا شئ لي عَلَيْهِ أَو لم يكن عَلَيْهِ مهر، قيل لَا يَصح، وَقيل يَصح، وَالصَّحِيح أَنه لَا يَصح اهـ.
لَان هَذَا فِي خُصُوص الْمهْر لظُهُور أَنه على غَالِبا وكلامنا فِي غير الْمهْر، وَلَا يُنَافِيهِ مَا ذكره البزازي أَيْضا: ادّعى عَلَيْهِ ديونا ومالا ووديعة فَصَالَحَ الطَّالِبُ عَلَى يَسِيرٍ سِرًّا وَأَقَرَّ الطَّالِبُ فِي الْعَلَانِيَةِ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمُدعى عَلَيْهِ شئ، وَكَانَ ذَلِكَ فِي مَرَضِ الْمُدَّعِي ثُمَّ مَاتَ فَبَرْهَنَ الْوَارِثُ أَنَّهُ كَانَ لِمُوَرِّثِي عَلَيْهِ أَمْوَالٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّمَا قَصَدَ حِرْمَانَنَا لَا تُسْمَعُ، وَإِنْ كَانَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ وَارِثَ الْمُدَّعِي وَجَرَى مَا ذكرنَا فبرهن بَقِيَّة الْوَرَثَة على أَنا أَبَانَا قصد حرماننا بِهَذَا الاقرار تسمع اهـ.
لكَونه مُتَّهَمًا فِي هَذَا الْإِقْرَارِ لِتَقَدُّمِ الدَّعْوَى عَلَيْهِ وَالصُّلْحِ مَعَهُ عَلَى يَسِيرٍ وَالْكَلَامُ عِنْدَ عَدَمِ قرينَة على التُّهْمَة اهـ كَلَام الاشباه.
فَقَوْل الشَّارِح مِنْهَا إِقْرَاره الخ وَقَوله وَمِنْه هَذَا الشئ الخ إِنَّمَا هما بحثان لَا منقولان،
فتحريره فِي غير مَحَله لَان المُرَاد بالامانة قبضهَا مِنْهُ لَا أَنَّهَا لَهُ، وقدسها أَيْضا فِي الاخير لانه من الاقرار بِالْعينِ للْوَارِث، وَقدم هُوَ عدم صِحَة ذَلِك، وَقِيَاسه على قَول الْمُورث لم يكن لي على الْوَارِث دين قبل ثُبُوته قِيَاس مَعَ الْفَارِق، لَان الْعين غير الدّين وَهُوَ لَا يَصح، وَيَأْتِي قَرِيبا تأييد الْمُوَافقَة لما فهمته عَن الْخَيْر الرَّمْلِيّ والحموي والحامدي، وَللَّه تَعَالَى الْحَمد والْمنَّة، وَقدمنَا مَا يُفِيد ذَلِك مَعَ بعض النقول الْمَذْكُورَة.

قَوْله: (مِنْهَا إِقْرَاره بالامانات كلهَا) أَيْ بِقَبْضِ الْأَمَانَاتِ الَّتِي عِنْدَ وَارِثِهِ، لَا بِأَنَّ هَذِهِ الْعَيْنَ لِوَارِثِهِ فَإِنَّهُ لَا يَصِحُّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ قَرِيبًا، وَصَرَّحَ بِهِ فِي الْأَشْبَاهِ، وَهَذَا مُرَادُ صَاحِبِ الْأَشْبَاهِ بِقَوْلِهِ: وَيَنْبَغِي أَنْ يَلْحَقَ بِالثَّانِيَةِ إقْرَارُهُ بِالْأَمَانَاتِ كُلِّهَا، فَتَنَبَّهْ لِهَذَا فَإِنَّا رَأَيْنَا مَنْ يُخْطِئُ فِيهِ وَيَقُول: إِن

(8/299)


إقْرَارَهُ لِوَارِثِهِ بِهَا جَائِزٌ مُطْلَقًا، مَعَ أَنَّ النُّقُولَ مُصَرِّحَةٌ بِأَنَّ إقْرَارَهُ لَهُ بِالْعَيْنِ كَالدَّيْنِ كَمَا قَدَّمْنَاهُ عَنْ الرَّمْلِيِّ.
وَمِنْ هَذَا يَظْهَرُ لَك مَا فِي بَقِيَّةِ كَلَامِ الشَّارِحِ، وَهُوَ مُتَابِعٌ فِيهِ لِلْأَشْبَاهِ مُخَالِفًا لِلْمَنْقُولِ، وَخَالَفَهُ فِيهِ الْعُلَمَاءُ الْفُحُولُ كَمَا قَدَّمْنَاهُ.
وَفِي الْفَتَاوَى الْإِسْمَاعِيلِيَّة: سُئِلَ فِيمَنْ أَقَرَّ فِي مَرَضِهِ أَنْ لَا حَقَّ لَهُ فِي الْأَسْبَابِ وَالْأَمْتِعَةِ الْمَعْلُومَةِ مَعَ بِنْتِهِ الْمَعْلُومَةِ وَأَنَّهَا تَسْتَحِقُّ ذَلِكَ دُونَهُ مِنْ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ، فَهَلْ إذَا كَانَتْ الْأَعْيَانُ الْمَرْقُومَةُ فِي يَدِهِ وَمِلْكُهُ فِيهَا ظَاهِرٌ وَمَاتَ فِي ذَلِك الْمَرَض فالاقرار بهَا للْوَرَثَة بَاطِلٌ؟.
الْجَوَابُ: نَعَمْ عَلَى مَا اعْتَمَدَهُ الْمُحَقِّقُونَ، وَلَوْ مُصَدَّرًا بِالنَّفْيِ خِلَافًا لِلْأَشْبَاهِ وَقَدْ أَنْكَرُوا عَلَيْهِ اهـ.
ونقه السائحاني فِي مَجْمُوعه ورد على الاشباه وَالشَّارِح فِي هَاشم نسخته.
وَفِي الحامدية: سُئِلَ فِي مَرَضَ الْمَوْتِ أَقَرَّ فِيهِ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَ زَوْجَتِهِ هِنْدَ حَقًّا وَأَبْرَأَ ذِمَّتَهَا عَنْ كُلِّ حَقٍّ شَرْعِيٍّ وَمَاتَ عَنْهَا وَعَنْ وَرَثَةٍ غَيرهَا وَله تَحت يَدهَا أَعْيَان وَله بذمتها دَيْنٌ وَالْوَرَثَةُ لَمْ يُجِيزُوا الْإِقْرَارَ، فَهَلْ يَكُونُ غير صَحِيحٍ.
الْجَوَابُ: يَكُونُ الْإِقْرَارُ غَيْرَ صَحِيحٍ وَالْحَالَةُ هَذِه، وَالله تَعَالَى أعلم اهـ.
أَقُول: لَكِن يجب تَقْيِيد عدم الصِّحَّة بِمَا إِذا كَانَ ملكه فِيهَا مَعْلُوما أَيْضا ليَكُون ذَلِك قرينَة على قصد الاضرار بباقي الْوَرَثَة لِئَلَّا يتنافى كَلَامهم.
تَأمل.

قَوْلُهُ: (وَمِنْهَا النَّفْيُ) فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِإِقْرَارٍ لِلْوَارِثِ
كَمَا صَوَّبَهُ فِي الْأَشْبَاهِ
قَوْلُهُ: (كَلَا حَقَّ لِي) هَذَا صَحِيحٌ فِي الدَّيْنِ لَا فِي الْعين كَمَا مر.

قَوْله: (وَهِي الْحِيلَة) أَي فِي قَوْله: لَا حق لي قبل أُمِّي وَأبي: يَعْنِي إِذا علم أَنه لَا حق لَهُ قبلهمَا وَخَافَ أَن يتعلل عَلَيْهِمَا أحد من الْوَرَثَة أَو يَدعِي عَلَيْهِمَا بشئ، أما لَو كَانَ لَهُ حق فَلَا يحل لَهُ إِضْرَار بَاقِي الْوَرَثَة، فليتق الله من كَانَ خَارِجا من الدُّنْيَا مُقبلا على الْآخِرَة.

قَوْله: (وَمِنْه) الاولى وَمِنْه كَمَا قَالَ فِي سابقه إِلَّا أَن يُقَال: إِنَّه عَائِد إِلَى النَّفْي: أَي وَمن النَّفْي السَّابِق هَذَا الخ.

قَوْله: (هَذَا) غَيْرُ صَحِيحٍ كَمَا عَلِمْتَهُ مِمَّا مَرَّ لانه مُخَالف لعامة الْمُعْتَبرَات.

قَوْله: (وَهَذَا حَيْثُ لَا قرينَة) لم يذكر ذَلِك فِي الاشباه أصلا، وَحَيْثُ كَانَ هَذَا إِقْرَارا بِعَين لوَارث وَأَنه لَا يَصح فَلَا حَاجَة إِلَى هَذَا التَّقْيِيد.

قَوْله: (فَلْيحْفَظ فَإِنَّهُ مُهِمّ) الْحَاصِل أَن الشَّارِح رَحمَه الله تَعَالَى تَابع صَاحب الاشباه، وَقد علمت أَنه مُخَالف للمنقول، واستنبط من كَلَامه أَشْيَاء مُخَالفَة أَيْضا، وَقد ظهر لَك بِمَا قدمْنَاهُ حَقِيقَة الْحَال بعون الْملك المتعال.
تَتِمَّة: قَالَ فِي الْبَحْرِ فِي مُتَفَرِّقَاتِ الْقَضَاءِ: لَيْسَ لي على فلَان شئ ثُمَّ ادَّعَى عَلَيْهِ مَالًا وَأَرَادَ تَحْلِيفَهُ لَمْ يحلف، وَعند أبي يُوسُف يحلف، وَسَيَأْتِي فِي مَسَائِلَ شَتَّى آخَرَ الْكِتَابِ أَنَّ الْفَتْوَى على قَول أبي يُوسُف، وَاخْتَارَهُ أَئِمَّةُ خُوَارِزْمَ، لَكِنْ اخْتَلَفُوا فِيمَا إذَا ادَّعَاهُ وَارِثُ الْمُقِرِّ عَلَى قَوْلَيْنِ، وَلَمْ يُرَجِّحْ فِي الْبَزَّازِيَّةِ مِنْهُمَا شَيْئًا.
وَقَالَ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ: الرَّأْيُ فِي التَّحْلِيفِ إلَى الْقَاضِي، وَفَسَّرَهُ فِي فَتْحِ الْقَدِير بِأَنَّهُ يجْتَهد فِي خُصُوص الْوَقَائِعِ، فَإِنْ غَلَبَ عَلَى ظَنِّهِ أَنَّهُ لَمْ يقبض حِين أقرّ يحلف لَهُ الْخصم، وَمن لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّهِ ذَلِكَ لَا يُحَلِّفُهُ، وَهَذَا إنَّمَا هُوَ فِي الْمُتَفَرِّسِ فِي الْأَخْصَامِ اهـ.
قلت: وَهَذَا مؤيد لما بحثناه، وَالْحَمْد لله.

(8/300)


قَالَ فِي التاترخانية عَن الْخُلَاصَة: رجل قَالَ استوفيت جَمِيع مَالِي عَلَى النَّاسِ مِنْ الدَّيْنِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ أَبْرَأْتُ جَمِيعَ غُرَمَائِي لَا يَصِحُّ، إلَّا أَنْ يَقُولَ قَبِيلَةَ فُلَانٍ وَهُمْ يُحصونَ فَحِينَئِذٍ يَصح إِقْرَاره وَيبرأ.
وَفِي التاترخانية أَيْضا عَنْ وَاقِعَاتِ النَّاطِفِيِّ: أَشْهَدَتْ الْمَرْأَةُ شُهُودًا عَلَى نَفْسِهَا لِابْنِهَا أَوْ لِأَخِيهَا تُرِيدُ بِذَلِكَ إضْرَارَ الزَّوْجِ، أَوْ أَشْهَدَ الرَّجُلُ شُهُودًا عَلَى نَفْسِهِ بِمَالٍ لِبَعْضِ الْأَوْلَادِ يُرِيدُ بِهِ إضْرَارَ بَاقِي الْأَوْلَادِ وَالشُّهُودُ يَعْلَمُونَ ذَلِكَ وَسِعَهُمْ أَنْ لَا يُؤَدُّوا الشَّهَادَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ الْبِيرِيُّ،
وَيَنْبَغِي عَلَى قِيَاسِ ذَلِكَ أَنْ يُقَالَ: إِذا كَانَ لِلْقَاضِي عِلْمٌ بِذَلِكَ لَا يَسَعُهُ الْحُكْمُ.
كَذَا فِي حَاشِيَةِ أَبِي السُّعُودِ عَلَى الْأَشْبَاهِ والنظائر.

قَوْله: (يُؤمر فِي الْحَال بِتَسْلِيمِهِ) لاحْتِمَال صِحَة هَذَا الاقرار بِصِحَّتِهِ من هَذَا الْمَرَض.

قَوْله: (يردهُ) أَي إِن كَانَ لَهُ وَارِث غَيره وَلم يصدقهُ.

قَوْله: (تَصَرُّفَات الْمَرِيض نَافِذَة) لما تقدم احْتِمَال صِحَّته، وَيظْهر لي أَن يتَفَرَّع على هَذَا مَا فِي الْخَانِية، وَهُوَ لَو أقرّ لوَارِثه بِعَبْد فَقَالَ لَيْسَ لي لكنه لفُلَان الاجنبي فَصدقهُ ثمَّ مَاتَ الْمَرِيض فَالْعَبْد للاجنبي وَيضمن الْوَارِث قِيمَته وَتَكون بَينه وَبَين سَائِر الْوَرَثَة.

قَوْله: (وَإِنَّمَا ينتفض) أَي التَّصَرُّف الْمَأْخُوذ من التَّصَرُّفَات، وَهَذَا فِي تصرف ينْقض، أما مَا لَا ينْقض كَالنِّكَاحِ فالامر فِيهِ ظَاهر، وَفِي نُسْخَة بِالتَّاءِ.

قَوْله: (بعد الْمَوْت) مَحَله مَا إِذا تصرف لوَارث، وَأما إِذا كَانَ لغير وَارِث: فَإِن كَانَ تَبَرعا أَو مُحَابَاة ينفذ من الثُّلُث، وَإِلَّا فَصَحِيح كَالنِّكَاحِ.

قَوْله: (وَالْعبْرَة لكَونه وَارِثا الخ) قَالَ الزَّيْلَعِيّ: اعْلَم أَن الاقرار لَا يَخْلُو إِمَّا أَن يكون الْمقر لَهُ وَارِثا وَقت الاقرار دون الْمَوْت، أَو كَانَ وَارِثا فيهمَا، وَإِن لم يكن وَارِثا فِيمَا بَينهمَا أَو لم يكن وَارِثا وَقت الاقرار وَصَارَ وَارِثا وَقت الْمَوْت، فَإِن كَانَ وَارِثا وَقت الاقرار دون وَقت الْمَوْت بِأَن أقرّ لاخيه مثلا ثمَّ ولد لَهُ ولد يَصح الاقرار، لعدم كَونه وَارِثا وَقت الْمَوْت، وَإِن كَانَ وَارِثا فيهمَا لَا فِيمَا بَينهمَا بِأَن لامْرَأَته ثمَّ أَبَانهَا وَانْقَضَت عدتهَا ثمَّ تزَوجهَا أَو والى رجلا فَأقر لَهُ ثمَّ فسخ الْمُوَالَاة ثمَّ عقدهَا ثَانِيًا لَا يجوز الاقرار عِنْد أبي يُوسُف، لَان الْمقر مُتَّهم بِالطَّلَاق، وَفسخ الْمُوَالَاة ثمَّ عقدهَا ثَانِيًا، وَعند مُحَمَّد يجوز، لَان شَرط امْتنَاع الاقرار أَن يبْقى وَارِثا إِلَى الْمَوْت بذلك السَّبَب وَلم يبْق، ولانه لما صَار أَجْنَبِيّا تعذر الاقرار كَمَا لَو أنشأه فِي ذَلِك الْوَقْت، أَلا ترى أَنه لَو لم يعْقد ثَانِيًا كَانَ جَائِزا فَكَذَا إِذا عقد، وَإِن لم يكن وَارِثا وَقت الاقرار ثمَّ صَار وَارِثا وَقت الْمَوْت ينظر: فَإِن صَار وَارِثا بِسَبَب كَانَ قَائِما وَقت الاقرار بِأَن أقرّ لاخيه وَله ابْن مَاتَ الابْن قبل الاب لَا يَصح إِقْرَاره، فَإِن صَار وَارِثا بِسَبَب جَدِيد كالتزوج وَعقد الْمُوَالَاة جَازَ.
وَقَالَ زفر: لَا يجوز لَان الاقرار حصل للْوَارِث وَقت العقد فَصَارَ كَمَا إِذا صَار وَارِثا بِالنّسَبِ وَلنَا أَن الاقرار حِين حصل للاجنبي لَا للْوَارِث فَينفذ وَلزِمَ فَلَا يبطل، بِخِلَاف الْهِبَة لانها وَصِيَّة وَلِهَذَا من الثُّلُث، فَيعْتَبر وَقت الْمَوْت، بِخِلَاف مَا إِذا صَار وَارِثا بِالنّسَبِ بِأَن أقرّ مُسلم مَرِيض لاخيه الْكَافِر، ثمَّ أسلم قبل مَوته أَو كَانَ محجوبا بالابن ثمَّ مَاتَ الابْن، حَيْثُ لَا يجوز الاقرار لَهُ لَان سَبَب الارث كَانَ
قَائِما وَقت الاقرار، وَلَو أقرّ لوَارِثه ثمَّ مَاتَ الْمقر لَهُ ثمَّ الْمَرِيض ووارث الْمقر لَهُ من وَرَثَة الْمَرِيض لم يجز إِقْرَاره عِنْد أبي يُوسُف أَولا، لَان إِقْرَاره حصل للْوَارِث ابْتِدَاء وانتهاء.
وَقَالَ آخرا: يجوز وَهُوَ قَول

(8/301)


مُحَمَّد، لانه بِالْمَوْتِ قبل موت الْمَرِيض خرج من أَن يكون وَارِثا، وَكَذَلِكَ لَو أقرّ لاجنبي ثمَّ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ الْمَرِيضُ وَوَرَثَةُ الْمُقَرِّ لَهُ من وَرَثَة الْمقر، لَان إِقْرَاره كَانَ للاجنبي فَيتم بِهِ ثمَّ لَا يبطل بِمَوْتِهِ اهـ.

قَوْله: (لعدم إِرْثه) أَي وَقت الْمَوْت.

قَوْله: (فَيجوز) يَعْنِي لَو أقرّ لاجنبي فِي مرض مَوته وَكَانَ الْمقر مَجْهُول النّسَب وَعقد الْمُوَالَاة مَعَه فَلَمَّا مَاتَ وَارِثا بِعقد الْمُوَالَاة، فَلَا يبطل إِقْرَاره لَهُ لَان الارث إِنَّمَا كَانَ بِسَبَب حَادث بعد الاقرار، فَيبقى الاقرار لَكِن لَا تظهر لَهُ ثَمَرَة لَان مولى الْمُوَالَاة لَا يَرث مَعَ وَارِث قريب أَو بعيد، وَإِنَّمَا يتَوَقَّف لحق الْوَارِث وَلَا وَارِث مَعَه، إِذْ لَو كَانَ مَعَه وَارِث لم يسْتَحق الْمِيرَاث فَلَا يكون وَارِثا وَرُبمَا يظْهر ثَمَرَته مَعَ أحد الزَّوْجَيْنِ، فَإِن الاقرار ينفذ فِي حق الزَّوْج الْمقر لما تقرر، وَكَذَا إِن صَحَّ عقد الْوَلَاء مَعَ اثْنَيْنِ بعد أَن أقرّ لاحدهما فَليُرَاجع هَذَا الاخير.

قَوْله: (لَان إِرْثه بِسَبَب قديم) أَي قَائِم وَقت الاقرار، وَلم أَقَرَّ لِوَارِثِهِ وَقْتَ إقْرَارِهِ وَوَقْتَ مَوْتِهِ وَخَرَجَ مِنْ أَنْ يَكُونَ وَارِثًا فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ بَطَلَ إقْرَارُهُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا عِنْدَ مُحَمَّد.
نور الْعين عَن قاضيخان.
أَقُول: وإيضاحه أَنه لَو أقرّ لمن كَانَ وَارِثا وَقت الاقرار ثمَّ خرج عَن ذَلِك بعده ثمَّ صَار وَارِثا عِنْد الْمَوْت فالاولى أَو يَقُول: فَلَو أقرّ لمن هُوَ وَارِث وَقت الخ.
وَفِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَقَرَّ لِابْنِهِ وَهُوَ قِنٌّ ثمَّ عتق فَمَاتَ الاب جَازَ، لَان الاقرار لِلْمَوْلَى لَا لِلْقِنِّ، بِخِلَافِ الْوَصِيَّةِ لِابْنِهِ وَهُوَ قِنٌّ ثُمَّ عَتَقَ فَإِنَّهَا تَبْطُلُ لِأَنَّهَا حِينَئِذٍ للِابْن اهـ.
وَبَيَانه فِي الْمنح.
وَانْظُر مَا حَرَّره سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى فِي الْوَصَايَا.

قَوْله: (بِخِلَاف الْهِبَة) الظَّاهِر أَنه لَا بُد من الْقَبْض فِي الْهِبَة، وَإِلَّا فَلَا اعْتِبَار لَهَا.

قَوْله: (فَلَا تصح) يَعْنِي لَو وهب لَهَا شَيْئا أَو أوصى لَهَا ثمَّ تزَوجهَا فَإِنَّهُمَا يبطلان اتِّفَاقًا.

قَوْله: (لِأَنَّ الْوَصِيَّةَ تَمْلِيكٌ بَعْدَ الْمَوْتِ وَهِيَ حِينَئِذٍ وارثة) تَعْلِيل لقَوْله وَالْوَصِيَّة لَهَا ثمَّ تزَوجهَا، كَذَا الْهِبَة لَهَا فِي مَرضه، لَان الْهِبَة فِي مرض الْمَوْت وَصِيَّة.

قَوْله: (أقرّ فِيهِ الخ) يُفِيدُ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ حَيَّةً وَارِثَةً لَمْ يَصِحَّ.
قَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: لَا يَصِحُّ إقْرَارُ مَرِيضٍ مَاتَ فِيهِ بِقَبْضِ دَيْنِهِ مِنْ وَارِثِهِ وَلَا مِنْ كَفِيلِ وَارِثِهِ وَلَوْ كَفَلَ فِي صِحَّتِهِ.
وَكَذَا لَوْ أَقَرَّ بِقَبْضِهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ تبرع عَن وَارثه.
وكل رجلا بِبيع شئ مُعَيَّنٍ فَبَاعَهُ مِنْ وَارِثِ مُوَكِّلِهِ وَأَقَرَّ بِقَبْضِ المثن مِنْ وَارِثِهِ أَوْ أَقَرَّ أَنَّ وَكِيلَهُ قَبَضَ الثَّمَنَ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ لَا يُصَدَّقُ، وَإِنْ كَانَ الْمَرِيضُ هُوَ الْوَكِيلَ وَمُوَكِّلُهُ صَحِيحٌ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ أَنَّهُ قَبَضَ الثَّمَنَ مِنْ الْمُشْتَرِي وَجَحَدَ الْمُوَكِّلُ صُدِّقَ الْوَكِيلُ، وَلَوْ كَانَ الْمُشْتَرِي وَارِثَ الْوَكِيلِ وَالْمُوَكِّلُ وَالْوَكِيلُ مَرِيضَانِ فَأَقَرَّ الْوَكِيلُ بِقَبْضِ الثَّمَنِ لَا يُصَدَّقُ إذْ مَرَضُهُ يَكْفِي لِبُطْلَانِ إقْرَارِهِ لوَارِثه بِالْقَبْضِ فَمَرَضُهُمَا أَوْلَى.
مَرِيضٌ عَلَيْهِ دَيْنٌ مُحِيطٌ فَأَقَرَّ بِقَبْضِ وَدِيعَةٍ أَوْ عَارِيَّةٍ أَوْ مُضَارَبَةٍ كَانَتْ لَهُ عِنْدَ وَارِثِهِ صَحَّ إقْرَارُهُ،

(8/302)


لِأَنَّ الْوَارِثَ لَوْ ادَّعَى رَدَّ الْأَمَانَةِ إلَى مُوَرِّثِهِ الْمَرِيضِ وَكَذَّبَهُ الْمُوَرِّثُ يُقْبَلُ قَوْلُ الْوَارِثِ اهـ.
من نور الْعين قبيل كتاب الْوَصِيَّة.
فَرْعٌ: بَاعَ فِيهِ مِنْ أَجْنَبِيٍّ عَبْدًا وَبَاعَهُ الْأَجْنَبِيُّ مِنْ وَارِثِهِ أَوْ وَهَبَهُ مِنْهُ صَحَّ إنْ كَانَ بَعْدَ الْقَبْضِ، لِأَنَّ الْوَارِثَ مَلَكَ الْعَبْدَ مِنْ الْأَجْنَبِيِّ لَا مِنْ مُوَرِّثِهِ.
بَزَّازِيَّةٌ.

قَوْله: (وَترك مِنْهَا وَارِثا) الظَّاهِر أَن قَول الْمُؤلف مِنْهَا اتفاقي، وَيحمل كَلَام المُصَنّف على أَنه ترك وَارِثا مُنْكرا مَا أقرّ بِهِ.

قَوْله: (وَلَوْ أَقَرَّ فِيهِ لِوَارِثِهِ وَلِأَجْنَبِيٍّ بِدَيْنٍ لَمْ يَصح) أَي للْوَارِث وَلَا للاجنبي.

قَوْله: (خلافًا لمُحَمد) فَإِنَّهُ يُجِيزهُ فِي حق الاجنبي وَيبْطل مِنْهُ مَا أصَاب الْوَارِث، وَهَذَا مُسْتَدْرك بقوله سَابِقًا أَو مَعَ أَجْنَبِي بدين أَو عين أطلقهُ هُنَا، وَقيد الْخلاف فِي الْوَصَايَا بِمَا إِذا أنكر أَحدهمَا الشّركَة مَعَ الآخر فَيصح فِي حِصَّة الاجنبي عِنْد مُحَمَّد خلافًا لَهما، أما إِذا تَصَادقا فَلَا يَصح اتِّفَاقًا، وَمثله فِي التمرتاشية وَالْمجْمَع لَهُ أَن أقراره للْوَارِث لم يَصح فَلم تثبت الشّركَة، فَتَصِح للاجنبي كَمَا لَو أوصى لوَارِثه ولاجنبي، وكما لَو أقرّ لاخيه فِي مرض مَوته لَا وَارِث لَهُ غَيره ثمَّ ولد لَهُ ابْن ينفذ إِقْرَاره لاخيه.
كَذَا هُنَا.
وَلَهُمَا، أَنه أقرّ بِمَال مَوْصُوف بِصفة فَإِذا بطلت الصّفة يبطل الاصل كَمَا لَو تَصَادقا كَمَا فِي شرح الْمَنْظُومَة.
فرع: فِي التاترخانية عَنْ السِّرَاجِيَّةِ: وَلَوْ قَالَ مُشْتَرَكٌ أَوْ شَرِكَةٌ فِي هَذِهِ الدَّارِ فَهَذَا إقْرَارٌ بِالنِّصْفِ،
وَفِي الْعَتَّابِيَّةِ: وَمُطْلَقُ الشَّرِكَةِ بِالنِّصْفِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ مَا يُفَسِّرُهُ الْمُقِرُّ.
وَلَوْ قَالَ لي الثُّلُثَانِ مَوْصُولا صدق، وَكَذَا قَوْله بيني وَبَينه أولى وَله.
اهـ.
نهج النجَاة.

قَوْله: (عمادية) وعبارتها كَمَا فِي الْمنح حَيْثُ قَالَ: وَلَو أقرّ الْمَرِيض لوَارِثه ولاجنبي بدين فَإِقْرَاره بَاطِل تَصَادَقَا فِي الشَّرِكَةِ أَوْ تَكَاذَبَا.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إِقْرَاره للاجنبي بِقدر نصِيبه جَائِز إِذا تكاذبا فِي الشّركَة وَأنكر الاجنبي الشّركَة، وَهِي مَعْرُوفَة فِي الجامعين.
وَذكر شيخ الاسلام الْمَعْرُوف بخواهر زَاده: إِذا كذب الْوَارِث الْمقر فِي الشّركَة وَصدقه فِي الاجنبي لم يذكر مُحَمَّد هَذَا الْفَصْل، وَيجوز أَن يُقَال: إِنَّه على الِاخْتِلَاف، وَلَكِن للصحيح أَن يُقَال: إِنَّه لَا يجوز على قَول مُحَمَّد كَمَا هُوَ مَذْهَبهمَا.
هَذِه الْجُمْلَة فِي فَتَاوَى القَاضِي ظهير اهـ.
مَا فِي الْفُصُول.
وَبِه وَبِمَا ذَكرْنَاهُ عَن شرح الْمَنْظُومَة يعلم مَا فِي كَلَام الشَّارِح فَتَأَمّله، وَقدمنَا نَظِيره فَلَا تنسه.

قَوْله: (وَإِن أقرّ لاجنبي مَجْهُول نسبه الخ) وَهُوَ مَنْ لَا يُعْلَمُ لَهُ أَبٌ فِي بَلَدِهِ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي شَرْحِ تَلْخِيصِ الْجَامِعِ لِأَكْمَلِ الدِّينِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ بَلَدٌ هُوَ فِيهِ كَمَا فِي الْقنية لَا مسْقط رَأسه كَمَا ذكر الْبَعْض، وَاخْتَارَ الْمَقْدِسِي وَبَعض أَرْبَاب الْحَوَاشِي بِأَنَّهُ هُوَ الظَّاهِر، لَان المغربي إِذا انْتقل إِلَى الشرق فَوَقع عَلَيْهِ حَادِثَة يلْزمه أَن يفتش على نَسَبِهِ فِي الْمَغْرِب، وَفِيهِ مِنْ الْحَرَجِ مَا لَا يخفى فَلْيحْفَظ هَذَا، ذكره فِي الْحَوَاشِي اليعقوبية.
وَإِلَى الْقَوْلَيْنِ أَشَارَ الشَّارِح فِيمَا يَأْتِي، وَقيد بِمَجْهُول النّسَب لَان معروفه يمْتَنع ثُبُوته من غَيره.

قَوْله: (وَصدقَة) أَي إِذا كَانَ يُولد مثله لمثله لِئَلَّا شكون مُكَذبا فِي الظَّاهِر.
ذكره الشمني
قَوْله: (وَهُوَ من أهل التَّصْدِيق) بِأَن كَانَ يعبر عَن نَفسه، أما إِذا لم يكن يعبر عَن نَفسه لم يحْتَج إِلَى التَّصْدِيق كَمَا سَيذكرُهُ الشَّارِح.

قَوْله: (لما مر) من أَنه إِقْرَار لوَارث عِنْد الْمَوْت بِسَبَب قديم كَانَ عِنْد الاقرار، وَلَو أقرّ

(8/303)


الْمَرِيض الْمُسلم بدين لِابْنِهِ النَّصْرَانِي أَو العَبْد فَأسلم أَو أعتق قبل مَوته فلاقرار بَاطِل، لَان سَبَب التُّهْمَة بَينهمَا كَانَ قَائِما حِين الاقرار، وَهُوَ الْقَرَابَة الْمَانِعَة للارث، وَلَو فِي ثَانِي الْحَال وَلَيْسَ هَذَا كَالَّذي أقرّ لامْرَأَة ثمَّ تزَوجهَا، وَالْوَجْه ظَاهر كَمَا فِي غَايَة الْبَيَان نقلا عَن وَصَايَا الْجَامِع الصَّغِير.
وَذكر فَخر الدّين قاضيخان فِي شَرحه خلاف زفر فِي الاقرار لِابْنِهِ وَهُوَ نَصْرَانِيّ أَو عبد الخ فَقَالَ: إِن الاقرار صَحِيح عِنْد زفر لانه وَقت الاقرار لم يكن وَارِثا اهـ.
أَقُول: يظْهر من هَذَا أَن مذْهبه مُضْطَرب، لَان هَذَا التَّعْلِيل يَقْتَضِي صِحَة إِقْرَاره فِي الْمَسْأَلَة الْمَارَّة بِصِحَّة إِقْرَاره لاجنبية ثمَّ تزَوجهَا مَعَ أَن مذْهبه عدم الصِّحَّة كهذه الْمَسْأَلَة.
تدبر.

قَوْله: (وَلَو لم يثبت) الانسب فِي التَّعْبِير أَن يَقُول، فَلَو عرف أَو كذبه لَا يثبت نسبه، وَيكون ذَلِك مَفْهُوم قَوْله مَجْهُول نسبه وَقَوله وَصدقه كَمَا علمت فَتدبر.

قَوْله: (لعدم ثُبُوت النّسَب) تكْرَار لَا فَائِدَة فِيهِ.

قَوْله: (وَلَو أقرّ لمن طَلقهَا) أَي فِي مَرضه.

قَوْله: (يَعْنِي بَائِنا) أَي الثَّلَاث لَيْسَ بِقَيْد لَان الْبَائِن يمْنَعهَا من الارث، وَلَو وَاحِدَة حَيْثُ كَانَ بطلبها أَو فِي الصِّحَّة فَالشَّرْط الْبَيْنُونَة وَلَو صَغِيرَة، أما الرحمية فَهِيَ زَوْجَة، وَإِن كَانَت مِمَّن لَا تَرث بِأَن كَانَت ذِمِّيَّة صَحَّ إِقْرَاره لَهَا من جَمِيع المَال ووصيته من الثُّلُث.
حدادي.
وَإِنْ طَلَّقَهَا بِلَا سُؤَالِهَا فَلَهَا الْمِيرَاثُ بَالِغًا مَا بَلَغَ، وَلَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ لَهَا لِأَنَّهَا وارثة إِذا هُوَ فار.

قَوْله: (فلهَا الاقل من الارث وَالدّين) لقِيَام التُّهْمَة بِبَقَاء الْعدة لاحْتِمَال تواطئها مَعَه على الطَّلَاق لِيُقِر لَهَا بِالدّينِ الزَّائِد على فَرضهَا فعوملت بالاقل دفعا لقصدها السئ بإضرار الْوَرَثَة، وَبَاب الاقرار كَانَ منسدا لبَقَاء الزَّوْجِيَّة، فَرُبمَا أقدم على الطَّلَاق ليَصِح إِقْرَاره لَهَا زِيَادَة على إرثها وَلَا تُهْمَة فِي أقلهما فَيثبت.

قَوْله: (فِي أَعْيَان التَّرِكَة) وَلَو كَانَ إِرْثا لشاركت فِيهَا، والمألة تقدّمت فِي آخر إِقْرَار الْمَرِيض بأوفى مِمَّا هُنَا فَرَاجعهَا إِن شِئْت.
فرع: إِقْرَاره لَهَا، أَي للزَّوْجَة بمهرها إلَى قَدْرِ مِثْلِهِ صَحِيحٌ لِعَدَمِ التُّهْمَةِ فِيهِ، وَإِن بعد الدُّخُول فِيهِ قَالَ الامام ظهير الدّين، وَقد جرت الْعَادة بِمَنْع نَفسهَا قبل قبضهَا مِقْدَارٍ مِنْ الْمَهْرِ فَلَا يُحْكَمُ بِذَلِكَ الْقَدْرِ إِذا لم تعترف هِيَ بِالْقَبْضِ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ يُصَدَّقُ إلَى تَمَامِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَإِنْ كَانَ الظَّاهِرُ أَنَّهَا اسْتَوْفَتْ شَيْئًا بَزَّازِيَّةٌ.
وَفِيهَا: أَقَرَّ فِيهِ لِامْرَأَتِهِ الَّتِي مَاتَتْ عَن ولد مِنْهُ بِقَدْرِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَلَهُ وَرَثَةٌ أُخْرَى لَمْ يصدقوه فِي ذَلِك، قَالَ الامام ظهير الدّين: لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ، وَلَا يُنَاقِضُ هَذَا مَا تَقَدَّمَ لِأَنَّ الْغَالِبَ هُنَا بَعْدَ مَوْتِهَا اسْتِيفَاءُ ورثتها أَو وصيها الْمهْر بِخِلَاف الاول.
اهـ.

قَوْله: (فَإِذا مَضَت الْعدة) أَي سَوَاء كَانَ الاقرار قبل مضيها أَو بعده، وَالظَّاهِر أَن مثله مالو أقرّ لَهَا وَهِي زَوجته فِي مرض مَوته ثمَّ طَلقهَا وَانْقَضَت الْعدة ثمَّ مَاتَت.

قَوْله: (وَإِن أقرّ لغلام) لَا يخفى أَن قَوْله سَابِقًا وَإِن أقرّ لاجنبي الخ مندرج فِي
هَذِه شرنبلالية.

(8/304)


قَالَ السَّيِّد الْحَمَوِيّ: وَكَانَ الْأَوْلَى تَقْدِيمَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنْ أَقَرَّ لِأَجْنَبِيٍّ ثُمَّ أَقَرَّ بِبُنُوَّتِهِ لِأَنَّ الشُّرُوطَ الثَّلَاثَة هُنَا مُعْتَبرَة هُنَاكَ أَيْضا اهـ.

قَوْله: (أَو فِي بلد هُوَ فِيهَا) حِكَايَة قَول آخر كَمَا قدمناهما قَرِيبا.
قَالَ الْعَلامَة الرحمتي: إِذا كَانَ مَجْهُول النّسَب فِي أحد المكانبن: أَي بَلَده أَو بلد هُوَ فِيهَا يقْضِي بِصِحَّة الدَّعْوَى، لَكِن مَجْهُول النّسَب فِي مَوضِع الدَّعْوَى إِذا قضى بِثُبُوت نسبه من الْمُدَّعِي ثمَّ جَاءَت بَيِّنَة من مولده بِأَنَّهُ مَعْلُوم النّسَب من غير الْمُدَّعِي تبطل بهَا تِلْكَ الدَّعْوَى، أما لَو كَانَ مَجْهُول النّسَب فِي مولده فَلَا تنقض الدَّعْوَى بعد ثُبُوتهَا.

قَوْله: (بحث يُولد مثله لمثله) أَي مثل هَذَا الْغُلَام لمثل هَذَا الْمَرِيض بِأَن يكون الرجل أكبر مِنْهُ باثنتي عشرَة سنة وَنصف، وَالْمَرْأَة أكبر مِنْهُ بتسع سِنِين وَنصف كَمَا فِي الْمُضْمرَات، وَالْمرَاد بالغلام الْوَلَد فَيشْمَل الْبِنْت.

قَوْله: (إِنَّه ابْنه) أَي بِلَا وَاسِطَة، حَتَّى لَو أقرّ لشخص أَنه ابْن ابْنه لم يثبت نسبه وَكَانَ حكمه حكم مَا لَو أقرّ بِأَخ كَمَا فِي البرجندي، وَسَيَأْتِي.

قَوْله: (وَصدقه) أَي الْمقر الْغُلَام.

قَوْله: (وَإِلَّا لم يحْتَج لتصديقه) لانه فِي يَد غَيره فَينزل منزلَة الْبَهِيمَة فَلم يعْتَبر تَصْدِيقه، بِخِلَاف الْمُمَيز لانه فِي يَد نَفسه، وَعند الائمة الثَّلَاثَة بِلَا تَصْدِيقه لَو كَانَ غير مُكَلّف.

قَوْله: (وَحِينَئِذٍ) يَنْبَغِي حذفهَا فَإِنَّهُ بذكرها بَقِي الشَّرْط بِلَا جَوَاب ح.

قَوْله: (وَلَو الْمقر مَرِيضا) لَا حَاجَة إِلَيْهِ بعد كَون الْبَاب بَاب إِقْرَار الْمَرِيض.

قَوْله: (شَارك الْغُلَام الْوَرَثَة) لانه من ضرورات ثُبُوت النّسَب.
زَيْلَعِيّ.
ثمَّ لَا يَصح الرُّجُوع، لَان النّسَب بعد ثُبُوته لَا يقبل الابطال، بِخِلَاف الرُّجُوع عَن الاقرار لنسب نَحْو الاخ، فَإِنَّهُ يَصح لعدم ثُبُوته لانه كَالْوَصِيَّةِ وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ كَمَا فِي الْبَدَائِعِ، لَكِن يَأْتِي فِي كَلَام الشَّارِح عَن المُصَنّف قَرِيبا بالتصديق يثبت فَلَا ينفع الرُّجُوع الخ وَيَأْتِي الْكَلَام عَلَيْهِ.

قَوْله: (فَإِن انْتَفَت هَذِه الشُّرُوط) أَي أَحدهَا بِأَن علم نسبه أَو لم يُولد مثله لمثله، أَو لم يصدقهُ الْغُلَام فَيصير مُكَذبا فَلَا يثبت النّسَب، لكنه يُؤَاخَذُ الْمُقِرُّ مِنْ حَيْثُ اسْتِحْقَاقُ الْمَالِ كَمَا قَالَ.

قَوْله: (يُؤَاخذ الْمقر من حَيْثُ اسْتِحْقَاق المَال) أَي وَلَا يثبت النّسَب لما علمت، وَكَونه يُؤَاخذ الْمقر من حَيْثُ اسْتِحْقَاق
المَال لَا يظْهر هُنَا، لَان هَذَا فِي مُجَرّد الاقرار بِالنّسَبِ لَا الاقرار بِالْمَالِ أَيْضا.
وَإِنَّمَا يظْهر ذَلِك فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة، وَهِي مَا إِذا أقرّ لاجنبي ثمَّ ادّعى بنوته، فَإِنَّهُ إِذا لم تُوجد هَذِه الشُّرُوط لزمَه المَال، وَإِن كَانَ النّسَب لَا يثبت، وَلَا يُرَاد بِالْمَالِ مَا يلْزمه من النَّفَقَة والحضانة والارث كَمَا يَأْتِي لما فِيهِ من تحميل النّسَب على الْغَيْر، فَإِنَّهُ إِذا انْتَفَى هُنَا التَّصْدِيق كَيفَ يَرِثهُ أَو تجب عَلَيْهِ نَفَقَته؟ وَكَذَا إِذا كَانَ لَا يُولد مثله لمثله أَو كَانَ مَعْلُوم النّسَب، وَمَا يَأْتِي مَحَله إِذا وجدت الشُّرُوط اللائقة وَلم يصدق الْمقر عَلَيْهِ: أَي وَقد أقرّ لَهُ مَعَ ذَلِك بِمَال فَإِن النّسَب لَا يثبت، لَان فِيهِ تحميلا على الْغَيْر، وَلكنه يَصح إِقْرَاره بِالْمَالِ كَمَا لَو أقرّ بأخوة غَيره فَمَا فِي يَده من مَال أَبِيه كَانَ للْمقر لَهُ نصفه، وَظَاهره أَنه يقدم على دين الصِّحَّة فَيكون مُخَالفا لما مر أَن مَا أقرّ بِهِ فِي الْمَرَض مُؤخر عَنهُ على أَنَّ الْمُؤَاخَذَةَ حِينَئِذٍ لَيْسَتْ لِلْمُقِرِّ بَلْ لِلْوَرَثَةِ حَيْثُ يشاركهم فِي الْإِرْثِ، وَمَعَ هَذَا فَإِنْ كَانَ الْحُكْمُ كَذَلِك فَلَا بل لَهُ من نقل صَرِيح حَتَّى يقبل.
قَالَ سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى، وَقَدْ رَاجَعْتُ عِدَّةَ كُتُبٍ فَلَمْ أَجِدْهُ، وَلَعَلَّهُ لهَذَا أَمر الشَّارِح

(8/305)


بالتحرير، فَتَأمل.

قَوْله: (كَمَا مر عَنْ الْيَنَابِيعِ) الَّذِي قَدَّمَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ عَنْ الْيَنَابِيعِ فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة نَصه: وَلَو كذبه أَوْ كَانَ مَعْرُوفَ النَّسَبِ مِنْ غَيْرِهِ لَزِمَهُ مَا أقرّ بِهِ وَلَا يثبت النّسَب اهـ.
وَعبارَة الشَّارِح ركيكة، فَلَو قَالَ: فَلَو انْتَفَى أحد هَذِه الشُّرُوط وَقد أقرّ لَهُ بِمَال يُؤَاخذ بِهِ الْمقر لَكَانَ أوضح، لَان الْمَانِع من صِحَة الاقرار ثُبُوت النّسَب فَحَيْثُ لم يثبت لزم الْمقر بِهِ، وَهَذَا هُوَ تَحْرِير الْمقَام ط.

قَوْله: (فيحرر عَنهُ الْفَتْوَى) قَالَ الْحلَبِي: لم يظْهر لي الْمُخَالفَة الْمُوجبَة للتحرير، فَتَأمل.

قَوْلُهُ: (وَالرَّجُلُ صَحَّ إقْرَارُهُ) فِي بَعْضِ النُّسَخِ هَكَذَا بِزِيَادَة لفظ الرجل لافادة أَن الاقرار بالمذكورات لَيْسَ قَاصِر على الْمَرِيض.
ف
قَوْله: (بعد أَي الْمَرِيض) تَفْسِير مُضر وَلَا حَاجَة إِلَيْهِ بعد تقدم مرجعه إِلَّا أَن يَجْعَل مَرْفُوعا تَقْيِيد الرجل، وَهُوَ تَقْيِيد مُضر أَيْضا كَمَا فِي ط.
لَكِن الاولى كَمَا فِي بعض النّسخ الْمَحْذُوف مِنْهَا لفظ الرجل أَن يُقَال: قيد بالمريض ليعلم: أَي الصَّحِيح كَذَلِك بالاولى، وأنما قَيده بِهِ لَان الْكَلَام فِي إِقْرَار الْمَرِيض.

قَوْله: (بِالْوَلَدِ والوالدين) لانه إِقْرَار على نَفسه وَلَيْسَ فِيهِ حمل النّسَب على الْغَيْر وَأعَاد صِحَة الاقرار بِالْوَلَدِ
لذكر جملَة مَا يَصح فِي جَانب الرجل، وَأفَاد بالصراحة الاقرار كَمَا يَأْتِي قَرِيبا اعْتِمَاد الشَّارِح لَهُ تبعا للْمُصَنف.
قَالَ فِي الْعِنَايَة: وَهُوَ رِوَايَة تحفة الْفُقَهَاء وَشرح الْفَرَائِض للامام سراج الدّين، وَالْمَذْكُور فِي الْمَبْسُوط والايضاح وَالْجَامِع الصَّغِير للمحبوبي: أَن إِقْرَار الرجل يَصح بأَرْبعَة بالابن والاب وَالْمَرْأَة وَمولى الْعتَاقَة.
اهـ.
وَمن الظَّاهِر أَن الابْن لَيْسَ بِقَيْد مخرج صِحَة الاقرار بالبنت اهـ.

قَوْله: (وَإِن عليا) أَي الْوَالِدَان، وَلَا يرجع الضَّمِير إِلَى الْوَالِدين وَالِابْن لانه لَا يُقَال فِيهِ وَإِن علا، وَعبارَة الْبُرْهَان يَصح إِقْرَاره بِالْوَلَدِ والوالدين: يَعْنِي الاصل وَإِن علا اهـ.
وَلَا غُبَار عَلَيْهَا.

قَوْله: (وَفِيهِ نَظَرٌ) وَجْهُهُ ظَاهِرٌ فَهُوَ كَإِقْرَارِهِ بِبِنْتِ ابْنٍ.
قَالَ فِي جَامِعِ الْفُصُولَيْنِ: أَقَرَّ بِبِنْتٍ فَلَهَا النِّصْفُ وَالْبَاقِي لِلْعَصَبَةِ إذْ إقْرَارُهُ بِبِنْتٍ جَائِز لَا ببنت الابْن اهـ.
وَمَا ذَاكَ إلَّا لِأَنَّ فِيهِ تَحْمِيلَ النَّسَبِ عَلَى الِابْنِ، فَتَدَبَّرْ ط.

قَوْلُهُ: (لَا يَصِحُّ) سَيَأْتِي التَّصْرِيح بِهِ فِي الْمَتْن وَهُوَ مؤيد أَيْضا لكَلَام الْمَقْدِسِي.

قَوْله: (بِالشُّرُوطِ الثَّلَاثَة الْمُتَقَدّمَة فِي الابْن) لم يذكرهَا اتكالا على مَا تقدم، إِلَّا أَن فِي دَعْوَاهُ هَذَا أبي يشْتَرط أَن يكون الْمقر مَجْهُول النّسَب، وَأَن يُولد مثل الْمقر لمثل الْمقر لَهُ.

قَوْله: (بِشَرْط خلوها الخ) يَنْبَغِي أَن يُزَاد وَأَن لَا تكون مَجُوسِيَّة أَو وثنية، وَلم أر من صرح بِهِ حموي.
وَفِي حَاشِيَة سري الدّين على الزَّيْلَعِيّ.

قَوْله: (وَالزَّوْجَة: أَي بِشَرْط أَن تكون الزَّوْجَة صَالِحَة لذَلِك اهـ) كَافِي.
وَأدْخل فِي ذَلِك مَا إِذا كَانَت حرمتهَا بِالرّضَاعِ.

قَوْله: (مثلا) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الاخت لَيست بِقَيْد بل مثلهَا كل امْرَأَة لَا يحل جمعهَا مَعهَا فِي عقد كخالتها وعمتها.

قَوْله: (وَأَرْبع سواهَا) أَي وَكَذَلِكَ لَو كَانَ مَعَه أَرْبَعَة سواهَا أَو مَعَه حرَّة وَأقر بِنِكَاح الامة.
قَالَ المُصَنّف فِي منحه: وَقد أخل بِهَذِهِ الْقُيُود صَاحب الْكَنْز والوقاية، وَكَذَلِكَ مِمَّا لَا يَنْبَغِي الاخلال بِهِ اهـ.

(8/306)


قَالَ الْعَلامَة الرَّمْلِيّ: أَقُول: أيتوهم متوهم صِحَة الاقرار بِالزَّوْجَةِ مَعَ وجود زوج وعدته أَو أُخْتهَا أَو أَربع سواهَا فَلَا أَدْرِي لهَذَا مثلا إِلَّا مَا اعْترض بِهِ بعض جهلة الاروام على قَول الْكَنْز فِي المَاء
الْجَارِي، وَهُوَ مَا يذهب بتبنه حَيْثُ قَالَ: الْجمل يذهب بأتبان، فَتَأمل وأنصف.

قَوْله: (وَصَحَّ بالمولى من جِهَة الْعتَاقَة) سَوَاء كَانَ أَعلَى أَو أَسْفَل بِأَن كَانَ معتقا أَو معتقا، فَإِن الاقرار لكل وَاحِد صَحِيح إِذا صدقه الْمقر لَهُ وَقَوله من جِهَة الْعتَاقَة: أَي وَكَذَا من جِهَة الْمُوَالَاة إِن كَانَ الاول قد عقل عَنهُ.

قَوْله: (إنْ لَمْ يَكُنْ وَلَاؤُهُ ثَابِتًا مِنْ جِهَةِ غَيره) قَالَ المُصَنّف فِي الْمنح: وَهَذَا قيد لَا بُد مِنْهُ، وَقد أخل بِهِ فِي الْكَنْز والوقاية أَيْضا، لَان مُوجب إِقْرَاره يثبت بَينهمَا بتصادقهما من غير إِضْرَار بِأحد فَينفذ اهـ.
قَالَ الْخَيْر الرَّمْلِيّ أَقُول: إِذا كَانَ وَلَاؤُه ثَابتا من جِهَة غَيره لَا يَصح إِقْرَار الصَّحِيح بِهِ فَكيف يَصح إِقْرَار الْمَرِيض بِهِ؟ وَالْكَلَام إِنَّمَا هُوَ فِي مسَائِل يُخَالف الْمَرِيض الصَّحِيح فِيهَا فَمَا الْحَاجة إِلَى ذكر مَا لَا حَاجَة إِلَى ذكره لعدم خطوره ببال من لَهُ بَال، وَهَذَا الِاسْتِدْرَاك كَالَّذي قبله فَفِي ذكره خلل لَا فِي تَركه، فَلْيتَأَمَّل اهـ.

قَوْله: (أَي غير الْمقر) صَوَابه الْمقر لَهُ وَكَأَنَّهَا سَقَطت من قلم النَّاسِخ، وَذَلِكَ لَان مُوجب الاقرار يثبت بتصادقهما، وَلَيْسَ فِيهِ تحميل النّسَب على الْغَيْر.
وَالْحَاصِل: أَن الْوَلَاء كالنسب وَثُبُوت النّسَب من الْغَيْر يمْنَع صِحَة الاقرار، فَكَذَا الْوَلَاء.

قَوْله: (من صِحَة الاقرار بَالَام) فِي جابن الرجل وَالْمَرْأَة.

قَوْله: (لَان النّسَب للآباء لَا للامهات) فِيهِ أَنه لَا يُنكر انتساب الْوَلَد إِلَى أمه، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ أَنه ينظر فِي النّسَب والدعوة للاب.
قَالَ الْحَمَوِيّ: وَفِي حَوَاشِي شيخ الاسلام الْحَفِيد على صدر الشَّرِيعَة: هَذَا أَي مَا ذكر من صِحَة إِقْرَار الرجل بِالْوَلَدِ والوالدين وَالزَّوْجَة وَالْمولى وَمَا ذكر من صِحَة إِقْرَارهَا بالوالدين وَالزَّوْج وَالْمولى مُوَافق لتقدير الْهِدَايَة وَالْكَافِي وتحفة الْفُقَهَاء، لكنه مُخَالف لعامة الرِّوَايَات على مَا فِي النِّهَايَة، ولتقرير الْخُلَاصَة وَالْمُحِيط وقاضيخان حَيْثُ صَرَّحُوا بِأَنَّهُ لَا يجوز إِقْرَار الرجل بوارث مَعَ ذِي قرَابَة مَعْرُوفَة إِلَّا بأَرْبعَة: الابْن والاب وَالزَّوْجَة وَالْمولى، فَفِيمَا وَرَاء الاربعة كالام مثلا لَا تَرث مَعَ الْوَارِث الْمَعْرُوف، أما الاقرار فَصَحِيح فِي نَفسه حَتَّى يقدم الْمقر لَهُ على بَيت المَال إِذا لم يبْق وَارِث مَعْرُوف.
تَأمل.
اهـ ط.

قَوْله: (وَفِيه حمل الزَّوْجِيَّة على الْغَيْر) المضر تحميل النّسَب على الْغَيْر لَا الزَّوْجِيَّة على أَن الْمقر يُعَامل بِإِقْرَارِهِ من جِهَة الارث، وَإِن كَانَ إِقْرَاره لَا يسري على الزَّوْج ط.

قَوْله: (وَلَكِن الْحق الخ) الظَّاهِر من نقل الْحَفِيد أَنَّهُمَا قَولَانِ.

قَوْله: (بِجَامِع الاصالة) وَهُوَ فِي الاب مَعْلُول بِأَن الانتساب إِلَيْهِ كَمَا قدمه من
التَّعْلِيل على مَا فِيهِ، وَلَا يظْهر ذَلِك فِي حق الام، وَلَيْسَت الْعلَّة الاصالة وَإِلَّا لثبت النّسَب فِي الْآبَاء الاعلين، وَقد تقدم عَن الزَّيْلَعِيّ خِلَافه.

قَوْلُهُ: (وَكَذَا صَحَّ) أَيْ إقْرَارُهَا.

قَوْلُهُ: (وَلَوْ قَابِلَة) أَشَارَ بِهِ إِلَى أَن الْقَابِلَة لَيست بِقَيْد، وَمن قيد بِهِ فباعتبار الْعَادة من حُضُورهَا وَقت الْولادَة.
أَفَادَهُ الرحمتي.
وَأفَاد

(8/307)


بمقابلته بقوله بعده أَوْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ أَنَّ هَذَا حَيْثُ جَحَدَ الزَّوْجُ وَادَّعَتْهُ مِنْهُ، وَأَفَادَ أَنَّهَا ذَاتُ زَوْجٍ، بِخِلَافِ الْمُعْتَدَّةِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الشَّارِحُ، أَمَّا إذَا لَمْ تَكُنْ ذَاتَ زَوْجٍ وَلَا مُعْتَدَّةً أَوْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ وَادَّعَتْ أَنَّ الْوَلَدَ مِنْ غَيْرِهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى أَمْرٍ زَائِدٍ عَلَى إقْرَارِهَا، صَرَّحَ بِذَلِكَ كُلِّهِ ابْنُ الْكَمَالِ وَسَيَأْتِي، فقد علم أَن قَوْله إِن شهِدت الخ مَحَله عِنْد التجاحد، وَأفَاد كَلَامه أَنه إِذا لم يُوجد شَرط صِحَة الاقرار لَا يعْمل بِهِ فِي حَقه أَيْضا.
وَفِي الشلبي عَن الاتقاني: وَلَا يَجُوزُ إقْرَارُ الْمَرْأَةِ بِالْوَلَدِ وَإِنْ صَدَّقَهَا، وَلَكِنَّهُمَا يَتَوَارَثَانِ إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَارِثٌ مَعْرُوفٌ، لِأَنَّهُ اعْتَبَرَ إقْرَارَهَا فِي حَقِّهَا، وَلَا يَقْضِي بِالنَّسَبِ، لِأَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِدُونِ الْحُجَّةِ وَهُوَ شَهَادَة الْقَابِلَة، فَإِن شهِدت لَهَا امْرَأَة على ذَلِك وَقد صدقهَا الْوَلَد ثَبت نسبه مِنْهَا، وَكَذَلِكَ إِذا لم تشهد لَهَا امْرَأَة وَقد صدقهَا زَوجهَا ثَبت النّسَب مِنْهُمَا، لَان النّسَب يثبت بتصادقهما لانه لَا يتَعَدَّى إِلَى غَيرهمَا، كَذَا فِي شرح الْكَافِي اهـ.
فَلْيتَأَمَّل.
وَهَذَا يُفِيد أَن شَهَادَة الْقَابِلَة مثلا لثُبُوت النّسَب إِذا أنكر وِلَادَتهَا.
ف
قَوْله: (بِتَعْيِين الْوَلَد) إِنَّمَا يكون هَذَا إِذا تَصَادقا على الْولادَة، وَاخْتلفَا فِي التَّعْيِينَ.
وَعِبَارَةُ غَايَةِ الْبَيَانِ عَنْ شَرْحِ الْأَقْطَعِ: فَتثبت الْولادَة بشهادتها، ويلتحق النّسَب فِي الْفراش.
اهـ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَا أَفَادَهُ الشَّارِحُ حُكْمُهُ كَذَلِكَ.

قَوْله: (بِتَعْيِين الْوَلَد) وَكَذَا بإثباته لَو جحد: أما الثَّابِت بالفراش فَبعد اعترافه بِالْولادَةِ: أَي إِذا اعْترف أَنَّهَا ولدت ثَبت أَنه مِنْهُ لقِيَام فرَاشه، فَإِن نَفَاهُ لَاعن أما لَو جحد للولادة أَو تعْيين الْوَلَد فَإِنَّهُ يثبت بِشَهَادَة امْرَأَة لانه مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال عَادَة، حَتَّى لَو شهد بِهِ رجل صَحَّ كَمَا يفهم هَذَا كُله من بَاب ثُبُوت النّسَب، وَلَا بُد فِيهِ من الْعَدَالَة كَمَا هُوَ فِي سَائِر أَنْوَاع الشَّهَادَة.

قَوْله: (وَلَو مُعْتَدَّة الخ) إِلَّا مُعْتَدَّة الرَّجْعِيّ إِذا جَاءَت بِهِ لاكثر من سنتَيْن فَإِنَّهُ يثبت بِهِ الرّجْعَة، فَكَانَت زَوْجَة لَا مُعْتَدَّة، فيكتفي فِي إثْبَاته عِنْد الْجحْد بِشَهَادَة امْرَأَة على مَا اخْتَارَهُ فِي الْبَحْر
وَأقرهُ عَلَيْهِ فِي النَّهر وَالشَّارِح فِي بَاب ثُبُوت النّسَب.

قَوْله: (جحدت) بِالْبِنَاءِ للْمَجْهُول أَي جحد الزَّوْج، أَو ورثته.

قَوْله: (أَوْ صَدَّقَهَا الزَّوْجُ إنْ كَانَ لَهَا زَوْجٌ) بَيَان لمحل اشْتِرَاط شَهَادَة الْمَرْأَة وَمَا عطف عَلَيْهَا.

قَوْله: (أَو كَانَت مُعْتَدَّة مِنْهُ) بِأَن طَلقهَا أَو مَاتَ عَنْهَا فادعت الْوَلَد، فَلَا بُد من تَصْدِيق الزَّوْج أَو الْوَرَثَة، فَإِن كذبت يَكْفِي شَهَادَة الْقَابِلَة أَو امْرَأَة غَيرهَا، هَذَا مَا يفهم مِمَّا هُنَا، وَبِه صرح الْعَيْنِيّ تبعا للزيلعي، لَكِن تقدم فِي بَاب ثُبُوت النّسَب أَن الْمُعْتَدَّة إِذا جحدت وِلَادَتهَا لَا يثبت نسب وَلَدهَا إِلَّا بِحجَّة تَامَّة، ويكتفي بالقابلة عِنْدهمَا، فَلَعَلَّهُ جرى هُنَا على قَوْلهمَا.
وَفِي الْمَوَاهِب: لَو جحد ولادَة معتدته فثبوتها بِشَهَادَة رجلَيْنِ أَو رجل وَامْرَأَتَيْنِ أَو بِحَبل ظَاهر أَو اعترافه أَو تَصْدِيق الْوَرَثَة، واكتفينا بِامْرَأَة ثِقَة كتعينه بهَا اهـ.
وَهَذَا كُله فِي عدَّة الْبَائِن.
أما مُعْتَدَّة الرَّجْعِيّ فَإِنَّهُ يثبت نسبه، وَإِن جَاءَت بِهِ لاكثر من سنتَيْن، وَيكون رَجْعَة، وَحِينَئِذٍ فَتكون زَوْجَة لَا مُعْتَدَّة، ويكتفي فِي إثْبَاته عِنْد الْجحْد بِشَهَادَة امْرَأَة على مَا اخْتَارَهُ فِي الْبَحْر كَمَا قدمْنَاهُ آنِفا.
وَاعْلَم أَنَّ مَا ذَكَرَهُ مِنْ الشُّرُوطِ إنَّمَا هُوَ لِصِحَّةِ الْإِقْرَارِ بِالنَّسَبِ لِئَلَّا يَكُونَ تَحْمِيلًا عَلَى الزَّوْج، فَلَو فَقَط شَرْطٌ صَحَّ إقْرَارُهَا عَلَيْهَا فَيَرِثُهَا الْوَلَدُ وَتَرِثُهُ إنْ صَدَّقَهَا، وَلَمْ يَكُنْ لَهُمَا وَارِثٌ غَيْرُهُمَا فَصَارَ كالاقرار بالاخ، وَيفهم هَذَا مِمَّا قدمْنَاهُ.

قَوْله: (وَصَحَّ) أَي إِقْرَارهَا مُطلقًا: أَي وَإِن لم يُوجد شَهَادَة وَلَا

(8/308)


تَصْدِيق من زوج.

قَوْله: (وَلَا مُعْتَدَّة) لَان فِيهِ إلزاما على نَفسهَا دون غَيرهَا فَينفذ عَلَيْهَا.

قَوْله: (وَادعت أَنه من غَيره) أَي فَيصح إِقْرَارهَا فِي حَقّهَا فَقَط.

قَوْله: (فَصَارَ كَمَا لَو ادَّعَاهُ مِنْهَا الخ) لَكِن يفرق بَينهَا وَبَين مَا قبلهَا بِأَن دَعْوَى الزَّوْج لَا تتَوَقَّف على تَصْدِيق الْمَرْأَة لانه يتَزَوَّج غَيرهَا، ويتسرى بِملك الْيَمين، وَلَكِن لَا يلْزمهَا لَو ادّعى أَنه مِنْهَا إِلَّا بتصديقها، وَالْمَرْأَة لَو صَحَّ إِقْرَارهَا بِالْوَلَدِ للَزِمَ الزَّوْج، لَان الْوَلَد للْفراش فَلَا بُد من تَصْدِيقه أَو حجَّة تقوم عَلَيْهِ، وَيَكْفِي الْوَاحِدَة لانه مِمَّا لَا يطلع عَلَيْهِ الرِّجَال، إِلَّا إِن قَالَت هُوَ من غَيره فقد نفته عَنهُ فيلزمها وَلَا يلْزمه.

قَوْلُهُ: (قُلْت) أَقُولُ: غَايَةُ مَا يَلْزَمُ عَلَى عَدَمِ مَعْرِفَةِ زَوْجٍ آخَرَ كَوْنُهُ مِنْ الزِّنَا مَعَ أَنَّهُ لَيْسَ بِلَازِمٍ، وَبِفَرْضِ تَحَقُّقِ كَوْنِهِ مِنْ الزِّنَا يَلْزَمُهَا أَيْضًا، لِأَنَّ وَلَدَ الزِّنَا وَاللِّعَانِ يَرِثُ بِجِهَةِ الْأُمِّ فَقَطْ، فَلَا وَجْهَ للتوقف فِي ذَلِك.
أَبُو السُّعُود.
قَوْله:
(بَقِيَ لَوْ لَمْ يُعْرَفْ لَهَا زَوْجٌ غَيْرُهُ) أَي وَقد ادَّعَت أَنه من غير هَذَا الزَّوْج، وَالظَّاهِر ثُبُوته مِنْهَا لعدم تحميل نسب على مَعْلُوم فيرثها.
قَالَ الرحمتي: هُوَ دَاخل تَحت قَوْله وَادعت أَنه من غَيره لشُمُوله مَا إِذا عرف لَهَا زوج غَيره أَو لم يعرف، إِذْ يَكْفِي فِي ذَلِك الامان الْعقلِيّ كَمَا هُوَ ظَاهر إِطْلَاقهم.

قَوْله: (فيحرر) وَهُوَ أَنه يثبت نسبه من الام كَمَا علمت، لَان غَايَة مَا يكون كَونه من الزِّنَا، وَهُوَ يثبت من الام لَا الاب.

قَوْله: (وَلَا بُد من تَصْدِيق هَؤُلَاءِ) يَعْنِي الْوَلَد والوالدين وَالزَّوْجَة وَالْمولى وَالزَّوْج، لَان إِقْرَار غَيرهم لَا يلْزمهُم لَان كلا مِنْهُم فِي يَد نَفسه.
عَيْني.

قَوْله: (وَلَو كَانَ الْمقر لَهُ عبد الْغَيْر) أَي فَادّعى أَنه ابْنه أَو أَبوهُ أَو أَنه زَوجهَا أَو كَانَت أمة فَأقر أَنَّهَا زَوجته.

قَوْله: (وَصَحَّ التَّصْدِيق من الْمقر لَهُ) بِنسَب أَو زوجية: أَيْ وَلَوْ بَعْدَ جُحُودِ الْمُقِرِّ لِقَوْلِ الْبَزَّازِيِّ: أَقَرَّ أَنَّهُ تَزَوَّجَ فُلَانَةَ فِي صِحَّةٍ أَوْ مَرَضٍ ثُمَّ جَحَدَ وَصَدَّقَتْهُ الْمَرْأَةُ فِي حَيَاتِهِ أَو بعد مَوته جَازَ اهـ.

قَوْله: (لبَقَاء النّسَب وَالْعدة بعد الْمَوْت) بِهَذَا علم أَن المُرَاد بِمَوْت الْمقر فِي جَانب الزَّوْجِيَّة الزَّوْج، وَإِذا صَحَّ إِقْرَاره كَانَ لَهَا الْمِيرَاث وَالْمهْر.
أَبُو السُّعُود: أَي لبَقَاء حكم النِّكَاح وَهُوَ الْعدة.

قَوْله: (إِلَّا تَصْدِيق الزَّوْج بعد مَوتهَا) أَي إِنَّهَا أقرَّت بِنِكَاح لرجل وَمَاتَتْ، فصدقها الزَّوْج لم يَصح تَصْدِيقه عِنْد أبي حنيفَة، وَعِنْدَهُمَا يَصح، فَعَلَيهِ مهرهَا وَله الْمِيرَاث مِنْهَا لابي حنيفَة أَنَّهَا لما مَاتَت زَالَ النِّكَاح بعلائقه، حَتَّى يجوز لَهُ أَن يتَزَوَّج أُخْتهَا وأربعا سواهَا، وَلَا يحل لَهُ أَن يغسلهَا فَبَطل إِقْرَارهَا، فَلَا يَصح التَّصْدِيق بعد بطلَان الاقرار.
وَقَول الْعَيْنِيّ: وَكَذَا إِذا أقرّ الرجل بِالزَّوْجِيَّةِ فصدقته الْمَرْأَة بعد مَوته عِنْد أبي حنيفَة ظَاهر فِي التَّسْوِيَة بَين الزَّوْج وَالزَّوْجَة، وَلَيْسَ كَذَلِك، وَلِهَذَا تعقبه الشَّيْخ شاهين بِأَن تَصْدِيق الزَّوْجَة بعد موت الزَّوْج صَحِيح بالِاتِّفَاقِ، لَان حكم النِّكَاح بَاقٍ فِي حَقّهَا وَهِي الْعدة فَإِنَّهَا من آثَار النِّكَاح، وَلِهَذَا جَازَ لَهَا غسله مَيتا كَمَا فِي حَال الْحَيَاة، وَإِنَّمَا الْخلاف فِي تَصْدِيق الزَّوْج بعد مَوتهَا، فَعِنْدَ أبي حنيفَة لَا يجوز، وَعِنْدَهُمَا يجوز.
زَيْلَعِيّ
قَوْله: (بموتها) كَذَا فِي نُسْخَة، وَهُوَ الصَّوَابُ مُوَافِقًا لِمَا فِي شَرْحِهِ عَلَى الْمُلْتَقَى.

قَوْله: (بِخِلَاف عَكسه) أَي

(8/309)


فَإِن النِّكَاح لم يَنْقَطِع بعلائقه.

قَوْله: (وَلَو أقرّ رجل) مثله الْمَرْأَة.

قَوْله: (كَمَا فِي الدُّرَر) عِبَارَته: أقرّ بِنسَب من غير ولاد كأخ وَعم لَا يثبت: أَي النّسَب وَلَا يقبل إِقْرَاره فِي حَقه، لَان فِيهِ تحميل النّسَب
على الْغَيْر، فَإِن ادّعى نَفَقَة أَو حضَانَة يقبل فِي حَقّهَا، وَيُورث إِلَّا مَعَ وَارِث وَإِن بعد: يَعْنِي إِذا كَانَ للْمقر وَارِث مَعْرُوف قريب أَو بعيد فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِرْثِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ فالارث للعمة وَالْخَالَة، لِأَنَّ نَسَبَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يُزَاحِمُ الْوَارِثَ الْمَعْرُوف اهـ.

قَوْله: (لفساده بالجد وَابْن الابْن) فَإِنَّهُمَا فِي حكم غَيرهمَا مِمَّا فِيهِ تحميل على الْغَيْر، إِلَّا أَن يخص كَلَام الدُّرَر بالاب وَالِابْن، لانه أَرَادَ بِهِ الولاد الاصلي أَو الفرعي بِلَا وَاسِطَة، وَهُوَ الْكَامِل، فَيشْمَل الْغَيْر ابْن الابْن وَالْجد كَمَا صرح بهما فِي الْكَافِي: أَرَادَ بِابْن الابْن فرع الْوَلَد وبالجد أصل الابوين، وَمثل هَذَا الاجمال غير قَلِيل فِي الْمُتُون فَلَا يعد مخلا كَمَا لَا يخفى.
لَا يُقَال: إِن صَاحب الدُّرَر قَالَ: وَإِن أقرّ بِنسَب من غير ولاد لَا يَصح وَهُوَ غير شَامِل لمن إِذا ادّعى أَنه جده أَو ابْن ابْنه مَعَ أَنه لَا يَصح أَيْضا لما فِيهِ من تحميل النّسَب على الْغَيْر، وَقَوله هُنَا وَإِن أقرّ بِنسَب فِيهِ تحميل الخ شَامِل لذَلِك، فَكَانَ أولى لحمل كَلَامه على مَا قُلْنَا.
تَأمل.
أَقُول: وَلَا تنس مَا تقدم من صِحَّته عَن الْبُرْهَان وَمن تنظير الْمَقْدِسِي لَهُ، وَقَول صَاحب الدُّرَر أَيْضا: وَيَرِث إِلَّا مَعَ وَارِث وَإِن بعد أطلقهُ، فَشَمَلَ الزَّوْج وَالزَّوْجَة وَهَذَا مُسْتَقِيم على قَول بعض مَشَايِخنَا أَنه يرد عَلَيْهِمَا أَيْضا فِي زَمَاننَا كَمَا فِي الْقنية، والاصح أَن لَيْسَ لَهما الرَّد فيرث الْمقر لَهُ مَعَهُمَا كَمَا فِي البرجندي، وَأَرَادَ بالقريب صَاحب فرض وعصبة وَلَو مولى الْعتَاقَة، وبالبعيد من كَانَ من ذَوي الارحام وَمولى الْمُوَالَاة، وَلَا يكون لَهُ الثُّلُث بِالْوَصِيَّةِ، لانه مَا أوجبه وَصِيَّة وَإِنَّمَا أوجبه إِرْثا كَمَا فِي الْكَافِي وَغَيره، وَأَنت خَبِير بِأَن هَذَا لم يُخَالف مَا سبق عَن الْقنية ندبر.

قَوْله: (وَابْن الابْن) أَي إِذا كَانَ فِي حَيَاة ابْنه، لَان فِيهِ حمل النّسَب على الْغَيْر كَمَا قَيده الْحَمَوِيّ.
قَالَ الْعَلامَة أَبُو السُّعُود: وَعلم أَن الاقرار بِابْن الابْن ذكره فِي التَّنْوِير وَشَرحه مُطلقًا، لَكِن ذكره الْحَمَوِيّ بِخَطِّهِ مُقَيّدا بِمَا إِذا أقرّ بِهِ فِي حَيَاة ابْنه مُعَللا بِأَن فِيهِ حمل النّسَب على الْغَيْر اهـ فَلْيحْفَظ
قَوْله: (إِلَّا ببرهان) يعم مَا إِذا أَقَامَهُ الْمقر أَو الْمقر لَهُ على الْمقر عَلَيْهِ وَهُوَ من حمل عَلَيْهِ النّسَب
قَوْله: (وَمِنْه إِقْرَار اثْنَيْنِ) أَي من وَرَثَة الْمقر عَلَيْهِ فيتعدى الحكم إِلَى غَيرهمَا، وَإِنَّمَا قيد بِاثْنَيْنِ لَان الْمقر لَو كَانَ وَاحِدًا اقْتصر حكم إِقْرَاره عَلَيْهِ، أما إِقْرَار وَرَثَة الْمقر لَهُ لَا يثبت النِّسْبَة فَإِنَّهُ كتصديقه، وَأطلق فِي
الِاثْنَيْنِ فَشَمَلَ الرجل والمرأتين.
قَالَ فِي الْبَدَائِع إِن الْوَارِث لَو كَانَ كثيرا فَأقر وَاحِد مِنْهُم بِأَخ آخر وَنَحْوه لَا يثبت نسبه وَلَا يَرث مَعَهم، وَلَو أقرّ مِنْهُم رجلَانِ أَو رجل وَامْرَأَتَانِ يثبت نسبه بالِاتِّفَاقِ، وَلَو كَانَ الْوَارِث وَاحِدًا فَأقر بِهِ يثبت بِهِ عِنْد أبي يُوسُف، خلافًا لابي حنيفَة وَمُحَمّد، وَبقول أبي يُوسُف أَخذ الْكَرْخِي.
اهـ.
وَظَاهر إِطْلَاق الْمُتُون على تَرْجِيح قَوْلهمَا كَمَا لَا يخفى
قَوْله: (كَمَا مر فِي بَابِ ثُبُوتِ النَّسَبِ) حَيْثُ قَالَ أَوْ تَصْدِيقِ بَعْضِ الْوَرَثَةِ فَيَثْبُتُ فِي حَقِّ الْمُقِرِّينَ، وَإِنَّمَا يَثْبُتُ النَّسَبُ فِي حَقِّ غَيْرِهِمْ، حَتَّى النَّاسِ كَافَّةً إنْ تَمَّ نِصَابُ الشَّهَادَةِ بِهِمْ: أَيْ بِالْمُقِرِّينَ، وَإِلَّا يَتِمَّ نِصَابُهَا لَا يُشَارِكُ المكذبين لانها لَا تكون شَهَادَة حِينَئِذٍ حَتَّى تتعدى، بل يكون مُجَرّد إِقْرَار وَهُوَ قَاصِر على الْمقر فَقَط، بل لَا بُد من

(8/310)


الشَّهَادَة ونصابها حَتَّى تكون حجَّة تتعدى على غَيرهمَا.

قَوْله: (وَكَذَا لَو صدقه الْمقر عَلَيْهِ) هُوَ من حمل عَلَيْهِ النّسَب.

قَوْلُهُ: (أَوْ الْوَرَثَةِ) يُغْنِي عَنْهُ قَوْلُهُ وَمِنْهُ إِقْرَار اثْنَيْنِ لَكِن كَلَامه هُنَا فِي تَصْدِيقِ الْمُقِرِّ وَهُنَاكَ فِي نَفْسِ الاقرار، وَإِن كَانَ فِي الْمَعْنَى سَوَاءً لَكِنْ بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَهُوَ أَنَّ التَّصْدِيقَ بَعْدَ الْعِلْمِ بِإِقْرَارِ الْأَوَّلِ كَقَوْلِهِ نَعَمْ أَوْ صَدَقَ، وَالْإِقْرَارُ لَا يَلْزَمُ مِنْهُ الْعلم تَأمل.
قَالَ: وَيُمكن التَّفْرِقَة بَينهمَا بِأَن صُورَة الاولى: أقرّ اثْنَان من وَرَثَة الْمقر عَلَيْهِ فبه يثبت النّسَب، وَصُورَة الثَّانِيَة: أقرّ الْمقر وَصدقه اثْنَان من وَرَثَة الْمقر عَلَيْهِ.

قَوْله: (وهم من أهل التَّصْدِيق) بِأَن يَكُونُوا بالغين عاقلين، وَتمّ نِصَاب الشَّهَادَة كَمَا يَأْتِي قَرِيبا مَا يفِيدهُ، لَكِن هَذَا بِالنّظرِ لثُبُوت النّسَب، أما بِالنّظرِ لاسْتِحْقَاق الارث فيستحقه، وَلَو الْمُصدق امْرَأَة وَاحِدَة كَانَت هِيَ الوارثة فَقَط مَعَ الْمقر.
ط.

قَوْله: (حَتَّى تلْزمهُ) بِرَفْع تلْزم لَان حَتَّى للتفريع لَا للغاية.

قَوْله: (من النَّفَقَة) أَي إِذا كَانَ ذَا رحم محرم من الْمقر.

قَوْله: (والحضانة) فِيهِ أَنه يشْتَرط فِي لُزُوم هَذِه الاحكام تَصْدِيق الْمقر لَهُ، وَهُوَ لَا يكون محضونا فيراد بالحضانة الضَّم إِلَيْهِ فِيمَا إِذا كَانَ الْمقر لَهُ بِنْتا بَالِغَة يخْشَى عَلَيْهَا، وَلَا يُقَال: تظهر فِي فرع الْمقر لَهُ إِذا مَاتَ عَنهُ.
قُلْنَا: الظَّاهِر أَن الْحَضَانَة كالارث لَا تظهر فِي غير الْمقر لَهُ، أَفَادَهُ الْعَلامَة الطَّحْطَاوِيّ
قَوْله: (والارث) أَي فِي حَقّهمَا فَقَط بِحَيْثُ لَا يمنعان بإقرارهما وَارِثا آخر كَمَا سَيَأْتِي.

قَوْله: (كذوي الارحام) قد علمت مِمَّا قدمْنَاهُ عَن الْكَافِي تَفْسِير الْقَرِيب والبعيد.
قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّة: نَاقِلا عَن الْعِنَايَة مُفَسرًا للقريب بذوي الْفُرُوض، والعصبات والبعيد بذوي الارحام بعد ذكر مَا مَشى عَلَيْهِ الشَّارِح، وَالْأَوَّلُ أَوْجَهُ، لِأَنَّ مَوْلَى الْمُوَالَاةِ إرْثُهُ بَعْدَ ذَوي الارحام مقدما على الْمقر لَهُ بِنسَب الْغَيْر اهـ.
فَتنبه.

قَوْله: (وَرثهُ) أَي الْمقر لَهُ وَيكون مُقْتَصَرًا عَلَيْهِ، وَلَا يَنْتَقِلُ إلَى فَرْعِ الْمُقَرِّ لَهُ وَلَا إلَى أَصْلِهِ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ الْوَصِيَّةِ.
أَبُو السُّعُود عَن جَامع الْفُصُولَيْنِ.

قَوْله: (لَان نسبه لم يثبت) قَالَ فِي الْمنح: وَهَذَا لانه أقرّ بشيئين بِالنّسَبِ، وباستحقاق مَاله بعده، وَهُوَ فِي النّسَب مقرّ على غَيره فَيرد وَفِي اسْتِحْقَاق مَاله مقرّ على نَفسه، فَيقبل عِنْد عدم المزاحم، لَان ولَايَة التَّصَرُّف فِي مَاله عِنْد عدم الْوَارِث لَهُ فيضعه حَيْثُ شَاءَ، حَتَّى كَانَ لَهُ أَن يُوصي بِجَمِيعِ المَال فَلِذَا كَانَ لَهُ أَن يَجعله لهَذَا الْمقر لَهُ.
وَالظَّاهِر أَن الْمقر يَرث الْمقر لَهُ، لَان صدقه وَهُوَ إِقْرَار، وَلكنه يتَأَخَّر عَن الْوَارِث الْمَعْلُوم.

قَوْله: (فَلَا يزاحم الْوَارِث الْمَعْرُوفَ) قَرِيبًا أَوْ بَعِيدًا فَهُوَ أَحَقُّ بِالْإِرْثِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ، حَتَّى لَوْ أَقَرَّ بِأَخٍ وَلَهُ عَمَّةٌ أَوْ خَالَةٌ فَالْإِرْثُ لِلْعَمَّةِ أَوْ لِلْخَالَةِ لِأَنَّ نَسَبَهُ لَمْ يَثْبُتْ فَلَا يُزَاحِمُ الْوَارِث الْمَعْرُوف.

قَوْلُهُ: (وَالْمُرَادُ غَيْرُ الزَّوْجَيْنِ) أَيْ بِالْوَارِثِ الَّذِي يمْنَع الْمقر لَهُ من الارث لانه وَصِيَّة من وَجه، لَان نسبه لم يثبت فَثَبت حق الرُّجُوع وَارِث من وَجه، حَتَّى لَو أوصى لغيره بِأَكْثَرَ من الثُّلُث لَا ينفذ إِلَّا بِإِجَازَة الْمقر لَهُ مَا دَامَ الْمقر مصرا على إِقْرَاره لانه وَارِث حَقِيقَة كَمَا فِي الزَّيْلَعِيّ، وَفِيه إِشَارَة إِلَى أَن الْمقر بِنَحْوِ الْوَلَد والوالدين لَيْسَ لَهُ الرُّجُوع عَنهُ، وَبِذَلِك صرح فِي الِاخْتِيَار.

قَوْله: (أَي وَإِنْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ) صَوَابُهُ: الْمُقَرُّ عَلَيْهِ كَمَا

(8/311)


عبر بِهِ فِيمَا مر، وَيدل عَلَيْهِ قطعا كَلَام الْمنح حَيْثُ قَالَ: قَوْله أَي الزَّيْلَعِيّ: للْمقر أَن يَرْجِعُ عَنْهُ مَحَلُّهُ مَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْ الْمُقَرُّ لَهُ عَلَى إقْرَارِهِ، أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِمِثْلِ إقْرَارِهِ إلَخْ، وَعَزَاهُ لِبَعْضِ شُرُوحِ السِّرَاجِيَّةِ فَقَوْلُهُ أَوْ لَمْ يُقِرَّ لَا شَكَّ أَنَّ الضَّمِير فِيهِ للْمقر عَلَيْهِ لَا للْمقر لَهُ، فَعلم أَن قَوْله الْمقر لَهُ صَوَابه الْمقر عَلَيْهِ كَمَا عبر بِهِ صَاحب الْمِنَحِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ الْآتِي إنْ بِالتَّصْدِيقِ يَثْبُتُ النَّسَبُ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا مِنْ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي رُوحِ الشُّرُوحِ عَلَى السِّرَاجِيَّةِ: وَاعْلَمْ أَنَّهُ إنْ شَهِدَ مَعَ الْمُقَرِّ رَجُلٌ آخَرُ أَوْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ أَوْ الْوَرَثَةُ وَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْإِقْرَارِ، فَلَا يُشْتَرَطُ الْإِصْرَارُ عَلَى الْإِقْرَارِ إلَى الْمَوْتِ، وَلَا يَنْفَعُ الرُّجُوعُ لثُبُوت
النّسَب حِينَئِذٍ اهـ.
وَفِي شَرْحِ فَرَائِضِ الْمُلْتَقَى لِلطَّرَابُلُسِيِّ: وَصَحَّ رُجُوعُهُ لانه وَصِيَّة معنى وَلَا شئ لِلْمُقَرِّ لَهُ مِنْ تَرِكَتِهِ.
قَالَ فِي شَرْحِ السِّرَاجِيَّةِ الْمُسَمَّى بِالْمِنْهَاجِ: وَهَذَا إذَا لَمْ يُصَدِّقْ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ إقْرَارَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَوْ لَمْ يُقِرَّ بِمِثْلِ إقْرَارِهِ، أَمَّا إذَا صَدَّقَ إقْرَارَهُ قَبْلَ رُجُوعِهِ أَوْ أَقَرَّ بِمِثْلِ إقْرَارِهِ، فَلَا يَنْفَعُ الْمُقِرَّ رُجُوعُهُ عَنْ إقْرَارِهِ، لِأَنَّ نَسَبَ الْمُقَرِّ لَهُ قَدْ ثَبَتَ مِنْ الْمُقَرِّ عَلَيْهِ اهـ.
فَهَذَا كَلَام شرَّاح السِّرَاجِيَّة، فَالصَّوَاب التَّعْبِير بعليه كَمَا عَبَّرَ بِهِ فِي الْمِنَحِ فِي كِتَابِ الْفَرَائِضِ، وَإِنْ كَانَتْ عِبَارَتُهَا هُنَا كَعِبَارَةِ الشَّارِحِ وَعبارَة الشَّارِح فِي الْفَرَائِض غير محررة.
فَتنبه.
أَقُول: لَكِن قد يُقَال: إِن هَذَا التصويب غير صَحِيح، وَإِنَّمَا الْخَطَأ فِي الِاسْتِدْرَاك بعده، لَان الاقرار هُنَا من الْمقر لَهُ وَهنا من الْمقر عَلَيْهِ فالاستدراك بِهِ غلط.
تَأمل
قَوْله: (لَكِن الخ) اسْتِدْرَاك عَن الزَّيْلَعِيّ والبدائع، وَلَا شكّ أَن الزَّيْلَعِيّ وَصَاحب الْبَدَائِع أولى بالاعتماد من شُرُوح السِّرَاجِيَّة، مَعَ أَن الْوَجْه ظَاهر مَعَهُمَا لانه جعله وَصِيَّة من وَجه فباعتباره يَصح الرُّجُوع، وَالْوَصِيَّة يَصح الرُّجُوع عَنْهَا، سَوَاء قبل الْمُوصى لَهُ أم لَا، وَمَا فِي الزَّيْلَعِيّ والبدائع مُوَافق لما فِي الْكتب، وَعبارَة الْهِدَايَة: حَتَّى لَو أقرّ فِي مَرضه بِأَخ وَصدقه الْمقر لَهُ ثمَّ أنكر الْمقر وراثته ثمَّ أوصى بِمَالِه كُله لانسان كَانَ مَاله للْمُوصى لَهُ، وَلَو لم يوص لَاحَدَّ كَانَ لبيت المَال، لَان رُجُوعه صَحِيح لَان النّسَب لم يثبت فَبَطل الاقرار اهـ.
وَأقرهُ الشُّرَّاح.
وَقد صرح بِأَنَّهُ بعد تَصْدِيق الْمقر لَهُ لم يَصح رُجُوعه، وَنَقله المُصَنّف مزاد بِهِ بعد تَصْدِيق الْمقر عَلَيْهِ، وَهُوَ الاب مثلا فِيمَا إِذا أقرّ بِأَخ.
وَقَالَ فِي الدّرّ الْمُنْتَقى: وَعِنْدِي فِي ثُبُوته بِمُجَرَّد تصادقهما تردد، وَلَعَلَّ مُرَاد بعض شراحها بالتصديق تَصْدِيق أَخ آخر كَمَا مر فَتدبر اهـ.
وَذكره بعده فرعا آخر: لَوْ أَقَرَّ الْأَخُ بِابْنٍ هَلْ يَصِحُّ؟ قَالَ الشَّافِعِيَّة لَا لَان مَا دَعَا وُجُودُهُ إلَى نَفْيِهِ انْتَفَى مِنْ أَصْلِهِ، وَلَمْ أَرَهُ لِأَئِمَّتِنَا صَرِيحًا وَظَاهِرُ كَلَامِهِمْ نَعَمْ، فَلْيُرَاجَعْ اهـ.
وتوضيحه: أَن أَخا الْمَيِّت لَو أقرّ أَن للْمَيت ابْنا، قَالَت الشَّافِعِيَّة: لَا يَصح إِقْرَاره، لانه لَو صَحَّ لبطل كَونه وَارِثا، وَإِذا بَطل كَونه وَارِثا لم يَصح إِقْرَاره، وَظَاهر كَلَام أَئِمَّتنَا أَنه أقرّ بِسُقُوط حق فِي
الْمِيرَاث، وَأَن الْمُسْتَحق لَهُ من أقرّ ببنوته للْمَيت فَينفذ عَلَيْهِ.
قَالَ فِي غَايَة الْبَيَان: وَيَنْبَغِي لَك أَن تعرف أَن الرُّجُوع عَن الاقرار بِالنّسَبِ إِنَّمَا يَصح إِذا كَانَ الرُّجُوع قبل ثُبُوت النّسَب كَمَا نَحن فِيهِ، لَان النّسَب لم يثبت لكَونه تحميلا على الْغَيْر وَلَيْسَ لَهُ ذَلِك، فَإِذا ثَبت النّسَب فَلَا يَصح الرُّجُوع بعد ذَلِك، لَان النّسَب لَا يحْتَمل النَّقْض بعد ثوبته اهـ.
وَإِنَّمَا

(8/312)


يثبت النّسَب بِتَصْدِيق الْمقر عَلَيْهِ وَهُوَ الاب فِيمَا إِذا أقرّ بِأَخ لَا بِتَصْدِيق الاخ الْمقر لَهُ، وَالله تَعَالَى أعلم.

قَوْله: (فَليُحرر عِنْد الْفَتْوَى) تَحْرِيرُهُ أَنَّهُ لَوْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ فَلَهُ الرُّجُوعُ، لِأَنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ النَّسَبُ وَهُوَ مَا فِي الْبَدَائِعِ، وَلَوْ صَدَّقَهُ الْمُقَرُّ عَلَيْهِ لَا يَصِحُّ رُجُوعُهُ، لِأَنَّهُ بَعْدَ ثُبُوتِهِ وَهُوَ مَا فِي شُرُوحِ السِّرَاجِيَّةِ فَمَنْشَأُ الِاشْتِبَاهِ تَحْرِيفُ الصِّلَةِ فَالْمَوْضُوعُ مُخْتَلِفٌ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا كُلَّهُ فِي غير الاقرار بِنَحْوِ الْوَلَد.
أَفَادَهُ سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى.
أَقُول: وَيُقَال أَيْضا فِي تحريره أَن الاقرار بِالنّسَبِ إِن لم يكن فِيهِ تحميل على الْغَيْر وَوجد التَّصْدِيق لَا يَصح الرُّجُوع فِيهِ، وَإِن كَانَ فِيهِ تحميل على الْغَيْر وَصدقه الْمقر عَلَيْهِ فَلهُ الرُّجُوع، فَالْكَلَام فِي مقامين، وَهَذَا حَيْثُ لم يكن الاقرار بِنَحْوِ الْوَلَد كَمَا علمت، فَتَأمل.

قَوْله: (وَمن مَاتَ أَبوهُ الخ) هَذِه الْمَسْأَلَة بِعَينهَا فهمت مِمَّا تقدم فَتَقَع مكررة، إِلَّا أَن يُقَال: إِن الْمقر فِي الْمَسْأَلَة السَّابِقَة مورث وَهنا وَارِث، وَإِن كَانَتَا سَوَاء فِي عدم ثُبُوت النّسَب كَمَا فِي أبي السُّعُود عَن الْعَيْنِيّ.
قَالَ فِي الْبَدَائِع: إِذا أقرّ وَارِث وَاحِد بوارث كمن ترك ابْنا فَأقر بِأَخ لَا يثبت نسبه عِنْدهمَا.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يثبت وَبِه أَخذ الْكَرْخِي، لانه لما قبل فِي الْمِيرَاث قبل فِي النّسَب وَإِن كَانَ أَكثر من وَاحِد بِأَن كَانَا رجلَيْنِ أَو رجلا وَامْرَأَتَيْنِ فَصَاعِدا يثبت النّسَب بإقرارهم بالاجماع لكَمَال النّصاب، وَيسْتَحق حَظه من نصيب الْمقر اهـ.
حموي.

قَوْله: (فَأقر بِأَخ) وَإِن كَانَ للْمقر لَهُ أَوْلَاد فَلَا يشْتَرط فِي الْمقر أَن يكون وَارِثا للْمقر لَهُ، بل وَلَو فِي الْجُمْلَة ط.

قَوْله: (فَيسْتَحق نِصْفَ نَصِيبِ الْمُقِرِّ) وَلَوْ مَعَهُ وَارِثٌ آخَرُ شرح الْمُلْتَقى وَبَيَانه فِي الزَّيْلَعِيّ.

قَوْله: (لِمَا تَقَرَّرَ أَنَّ إقْرَارَهُ مَقْبُولٌ فِي حَقِّ نَفسه فَقَط) فَصَارَ كَالْمُشْتَرِي إذَا أَقَرَّ أَنَّ الْبَائِعَ كَانَ أَعْتَقَ الْعَبْدَ الْمَبِيعَ يُقْبَلُ إقْرَارُهُ فِي الْعِتْقِ، وَلَمْ يُقْبَلْ فِي الرُّجُوعِ بِالثَّمَنِ
بَيَانِيَّةٌ.
وَفِي الزَّيْلَعِيِّ: فَإِذَا قُبِلَ إقْرَارُهُ فِي حَقِّ نَفْسِهِ يَسْتَحِقُّ الْمُقِرُّ لَهُ نِصْفَ نَصِيبِ الْمُقِرِّ مُطْلَقًا عِنْدَنَا، وَعِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى: يَجْعَلُ إقْرَارَهُ شَائِعًا فِي التَّرِكَةِ فَيُعْطَى الْمُقِرُّ مِنْ نَصِيبِهِ مَا يَخُصُّهُ مِنْ ذَلِكَ، حَتَّى لَوْ كَانَ لِشَخْصٍ مَاتَ أَبُوهُ أَخٌ مَعْرُوفٌ فَأَقَرَّ بِأَخٍ آخَرَ، فَكَذَّبَهُ أَخُوهُ الْمَعْرُوفُ فِيهِ أُعْطِيَ الْمُقِرُّ نِصْفَ مَا فِي يَدِهِ.
وَعِنْدَهُمَا: يَعْنِي عِنْدَ مَالِكٍ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، لِأَنَّ الْمُقِرَّ قَدْ أَقَرَّ لَهُ بِثُلُثٍ شَائِعٍ فِي النِّصْفَيْنِ فَنَفَذَ إقْرَارُهُ فِي حِصَّتِهِ، وَبَطَلَ مَا كَانَ فِي حِصَّةِ أَخِيهِ، فَيَكُونُ لَهُ ثُلُثُ مَا فِي يَدِهِ وَهُوَ سُدُسُ جَمِيعِ الْمَالِ وَالسُّدُسُ الْآخَرُ فِي نَصِيبِ أَخِيهِ بَطَلَ إقْرَارُهُ فِيهِ لِمَا ذَكَرْنَا، وَنَحْنُ نقُول: إِنَّه فِي زَعْمِ الْمُقِرِّ أَنَّهُ يُسَاوِيهِ فِي الِاسْتِحْقَاقِ وَالْمُنْكِرُ ظَالِمٌ بِإِنْكَارِهِ، فَيُجْعَلُ مَا فِي يَدِ الْمُنكر كالهالك، فَيكون الْبَاقِي

(8/313)


بَينهمَا بِالسَّوِيَّةِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِأُخْتٍ تَأْخُذُ ثُلُثَ مَا فِي يَدِهِ، وَعِنْدَهُمَا خُمُسُهُ، وَلَوْ أَقَرَّ ابْنٌ وَبِنْتٌ بِأَخٍ وَكَذَّبَهُمَا ابْنٌ وَبِنْتٌ يُقْسَمُ نَصِيبُ الْمُقِرِّينَ أَخْمَاسًا، وَعِنْدَهُمَا أَرْبعا وَالتَّخْرِيجُ ظَاهِرٌ، وَلَوْ أَقَرَّ بِامْرَأَةٍ أَنَّهَا زَوْجَةُ أَبِيهِ أَخَذَتْ ثَمَنَ مَا فِي يَدِهِ، وَلَوْ أَقَرَّ بِجَدَّةٍ هِيَ أُمُّ الْمَيِّتِ أَخَذَتْ سُدُسَ مَا فِي يَدِهِ فَيُعَامَلُ فِيمَا فِي يَدِهِ كَمَا يُعَامَلُ لَوْ ثَبَتَ مَا أَقَرَّ بِهِ اهـ.
وَتَمَامُهُ فِيهِ.

قَوْلُهُ: (بِابْنٍ) أَيْ مِنْ أَخِيهِ الْمَيِّت.

قَوْله: (لَان مَا أدّى الخ) أَي لَان مَا أدّى صِحَة وجوده وَهُوَ الاقرار إِلَى نَفْيه انْتَفَى، وَهنا لَو صَحَّ إِقْرَاره بِابْن الاخ تبين أَنه لَيْسَ بوارث وَإِذا لم يكن وَارِثا لَا يَصح إِقْرَاره، فَأدى وجود هَذَا الاقرار إِلَى نَفْيه، فَيَنْتَفِي من أَصله: يَعْنِي لَا يَصح.
وَالْحَاصِل: أَن الاخ بِإِقْرَارِهِ بالابن يصير مقرا على نَفْيه فَيحرم من الْمِيرَاث بِسَبَب الابْن، وَإِذا خرج من الْمِيرَاث صَار أَجْنَبِيّا، فَإِقْرَاره غير صَحِيح، وَلم يكن مقرا على نَفْيه فَلَا يَرث الابْن فَيَعُود الْمِيرَاث لَهُ، وَهَكَذَا فَيلْزم الدّور الْحكمِي الَّذِي عده الشَّافِعِيَّةُ مِنْ مَوَانِعِ الْإِرْثِ لِأَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ التوريث عَدمه، فقد أدّى وجود الاقرار إِلَى عَدمه بَيَانه كَمَا فِي شرح البولاقي على شرح الشنشوري: أَنَّهُ إذَا أَقَرَّ أَخٌ حَائِزٌ بِابْنٍ لِلْمَيِّتِ يَثْبُتُ نَسَبُهُ وَلَا يَرِثُ، لِأَنَّهُ لَوْ وَرِثَ لَحُجِبَ الْأَخُ، فَلَا يَكُونُ الْأَخُ وَارِثًا حَائِزًا فَلَا يُقْبَلُ إقْرَارُهُ بِالِابْنِ فَلَا يَثْبُتُ نَسَبُهُ فَلَا يَرِثُ، لِأَنَّ إثْبَاتَ الْإِرْثِ يُؤَدِّي إلَى نَفْيِهِ، وَمَا أَدَّى إثْبَاتُهُ إلَى نَفْيِهِ
انْتَفَى مِنْ أَصْلِهِ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ مِنْ مَذْهَبِهِمْ.
وَيجب على الْمقر بَاطِنا أَن يدْفع لَهُ التَّرِكَة إِن كَانَ صَادِقا فِي إِقْرَاره، لانه يعلم اسْتِحْقَاقه المَال، وَالْقَوْل الثَّانِي للشَّافِعِيّ: أَنه يثبت نسبه وَيَرِث، وَبِه قَالَ أَحْمد، وَنقل عَن أبي حنيفَة.
وَقيل لَا يثبت وَلَا يَرث، وَبِه قَالَ دَاوُد.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف: لَا يثبت نسبه إِلَّا بِإِقْرَار اثْنَيْنِ من الْوَرَثَة.
وَعند مَالك: يَرث الْمقر لَهُ وَلَا يثبت نسبه إِلَّا إِذا أقرّ بِهِ عَدْلَانِ من الْوَرَثَة أَو أقرّ بِهِ عدل وَصدقه عدل آخر من الْوَرَثَة، هَذَا غَايَة مَا رَأَيْته.
ثمَّ رَأَيْت بعض الافاضل أوضح الْمقَام.
بقوله: بَيَان الْمُلَازمَة أَو الاقرار لَا يَصح إِلَّا من وَارِث، وَإِذا صَحَّ هَذَا الاقرار صَار هَذَا الاخ مَعَ وجود الابْن غير وَارِث، وَإِذا صَار غير وَارِث لم يَصح الاقرار بِالنُّبُوَّةِ فَلم تحصل فَائِدَة، فَصَارَ هَذَا الاقرار عَبَثا.
وَلنَا أَنه أقرّ بشيئين المَال وَالنّسب على الْغَيْر.
وَمن الْمَعْلُوم أَن إِقْرَار الشَّخْص يسري على نَفسه، وَالْمَال ملك نَفسه فَينفذ فِيهِ، وَيلْزمهُ دَفعه لَهُ.
وَأما تحميل النّسَب على غَيره فَلَا يملكهُ، فَلَا ينفذ فِيهِ إِقْرَاره، على أَن النّسَب يثبت فِي حق الْمقر مُؤَاخذَة لَهُ بِزَعْمِهِ، حَتَّى لَو مَاتَ الْمقر لَا عَن وَارِث فإرثه لهَذَا الْمقر لَهُ لَا لبيت المَال.
هَذَا مَا أَفَادَهُ الْمَتْن قَرِيبا.
فَلهَذَا قَالَ الشَّارِح: وَظَاهر كَلَامهم نعم.
والاولى أَن يجْزم لَان الاطلاق السَّابِق يعْمل بِهِ حَتَّى يُوجد مَا يخصصه، وَالْمُطلق السَّابِق هُوَ قَوْله وَإِن أقرّ بِنسَب على غَيره إِلَى قَوْله وَيصِح فِي حق نَفسه، وَنَظِيره لَو أقرّ بِعَبْد فاكتسب ثمَّ مَاتَ ثمَّ صدقه الْمقر لَهُ يلْزمه دفع الاكساب لَهُ، مَعَ أَن الاقرار بِالْعَبدِ نَفسه بَطل بِالْمَوْتِ، وَكَذَا لَو أقرّ المُشْتَرِي بِأَن البَائِع أعتق العَبْد ينفذ فِي حق نَفسه.

قَوْله: (وَظَاهر كَلَامهم نعم فَليُرَاجع) أَي يَصح الاقرار، لَان مُقْتَضى مَا ذَكرُوهُ هُنَا أَن الْمقر إِذا ثَبت إِقْرَاره بنصاب الشَّهَادَة يثبت النّسَب وَإِن كَانَ النّصاب من الْوَرَثَة، وَإِلَّا فَيعْمل بالاقرار فِي حق نَفسه وَإِن لم يثبت

(8/314)


النّسَب، وَهنا إقر بِنسَب على الْغَيْر فَلَا يقبل، وَأقر بِالْمَالِ الَّذِي يسْتَحقّهُ ظَاهرا إِنَّمَا هُوَ للْمقر لَهُ فَيكون إِقْرَاره بِهِ على نَفسه فَيقبل.
وَيَكْفِي فِي إِقْرَاره كَونه وَارِثا ظَاهرا، وَإِن تبين بِإِقْرَارِهِ أَنه لَيْسَ بوارث لَكِن تقدم فِي الشَّهَادَات أَنه تقبل شَهَادَة الْعَتِيق على مُعْتقه إِلَّا فِي مَسْأَلَة وَهِي: رجل مَاتَ عَن عَم وَبنت
وأمتين وعبدين فَأعتق الْعم الْعَبْدَيْنِ فشهدا أَن الثَّانِيَة أُخْت الْمَيِّت قبل الاولى: أَي قبل الشَّهَادَة بِالْبَيِّنَةِ أَوْ بَعْدَهَا أَوْ مَعَهَا لَا تُقْبَلُ بِالْإِجْمَاعِ.
لانا لَو قبلناها لَصَارَتْ عَصَبَةً مَعَ الْبِنْتِ، فَيَخْرُجُ الْعَمُّ عَنْ الوارثة فَيبْطل الْعتْق اهـ.
وَالْحَاصِل: أَن ظَاهِرُ كَلَامِهِمْ صِحَّةُ إقْرَارِ هَذَا الْأَخِ بِالِابْنِ وَثَبت نسبه فِي حَقِّ نَفْسِهِ فَقَطْ، فَيَرِثُ الِابْنُ دُونَهُ لَمَّا قَالُوا: إنَّ الاقرار بِنسَب عَلَى غَيْرِهِ يَصِحُّ فِي حَقِّ نَفْسِهِ، حَتَّى تَلْزَمَهُ الْأَحْكَامُ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْحَضَانَةِ لَا فِي حَقِّ غَيْرِهِ.
وَقَدْ رَأَيْتُ الْمَسْأَلَةَ مَنْقُولَةً وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ فِي فَتَاوَى الْعَلَّامَةِ قَاسِمِ بْنِ قطلو بغا الْحَنَفِيّ.
وَنَصه: قَالَ مُحَمَّد فِي الاصل: وَلَوْ كَانَتْ لِلرَّجُلِ عَمَّةٌ أَوْ مَوْلَى نِعْمَةٍ فَأَقَرَّتْ الْعَمَّةُ أَوْ مَوْلَى النِّعْمَةِ بِأَخٍ لِلْمَيِّتِ أَبِيهِ أَوْ أُمِّهِ أَوْ بِعَمٍّ أَوْ بِابْنِ عَمٍّ أَخَذَ الْمُقَرُّ لَهُ الْمِيرَاثَ كُلَّهُ، لِأَنَّ الْوَارِثَ الْمَعْرُوفَ أَقَرَّ بِأَنَّهُ مُقَدَّمٌ عَلَيْهِ فِي اسْتِحْقَاق مَاله وَإِقْرَاره حجَّة على نَفسه.
اهـ.
هَذَا كَلَامُهُ.
ثُمَّ قَالَ: فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ فِي هَذَا دَوْرٌ عِنْدَنَا لَمْ يُذْكَرْ فِي الْمَوَانِع وَذكر فِي بَابه اهـ.
وَهَذَا مؤيد لما قدمْنَاهُ قَرِيبا عَن بعض الافاضل أَيْضا فاغتنمه.

قَوْله: (فَلَا شئ للْمقر) سبق قبل الِاسْتِثْنَاء أَن مُخْتَار أبي اللَّيْث أَنه لَا يلْزمه قدر حِصَّته، وَكَانَ وضع هَذَا الْفَرْع هُنَاكَ أولى، لَان الدُّيُون تقضى بأمثالها
قَوْله: (لَان إِقْرَاره ينْصَرف إِلَى نصِيبه) وَذَلِكَ لَان الْمِائَة صَارَت مِيرَاثا بَينهمَا، فَلَمَّا أقرّ أَحدهمَا باقتضاء أَبِيه ذَلِك صَحَّ فِي نصِيبه خَاصَّة لَا فِي نصيب أَخِيه، فَبَقيت حِصَّة الآخر كَمَا كَانَت، فَيجْعَل كَأَن الْمقر استوفى نصِيبه، ولان الدُّيُون تقضي بأمثالها.
وَقد أقرّ الْمقر أَن أَبَاهُ أَخذ خمسين فَوَجَبت، ثمَّ تلتقي قصاصا على الْمَدْيُون فقد أقرّ بدين على الْمَيِّت هُوَ لَا ينفذ فِي حق الْوَارِث الآخر، وَينفذ فِي حَقه خَاصَّة، وَالدّين مقدم على الْمِيرَاث فاستغرق نصِيبه فَلَا يَأْخُذ مِنْهُ شَيْئا، كَمَا إِذا أقرّ عَلَيْهِ بدين آخر فَيلْزم الْمقر كَمَا مر قبيل بَابِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَلَا يَجْرِي فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ الْخِلَافُ السَّابِقُ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْحَاذِقِ.

قَوْله: (بعد حلفه) أَي حلف الْمُنكر لاجل الاخ لِأَجْلِ الْغَرِيمِ، لِأَنَّهُ لَا ضَرَرَ عَلَى الْغَرِيمِ، فَلَا يُنَافِي مَا يَأْتِي، وَلَوْ نَكَلَ شَارَكَهُ الْمقر فِي الْخمسين.

قَوْله: (لكنه الخ) الاستدارك يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْلِفَ فِي الْأُولَى، وَبِهِ صَرَّحَ الزَّيْلَعِيُّ.
وَهُوَ مُخَالِفٌ لِمَا قَدَّمَهُ عَنْ الْأَكْمَلِ وَمَرَّ جَوَابُهُ.

قَوْلُهُ: (يَحْلِفُ) أَيْ الْمُنْكِرُ
بِاَللَّهِ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ قَبَضَ الدَّيْنَ، فَإِنْ نَكَلَ بَرِئَتْ ذِمَّةُ الْمَدِينِ، وَإِنْ حَلَفَ دُفِعَ إلَيْهِ نَصِيبُهُ، بِخِلَافِ الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى حَيْثُ لَا يَحْلِفُ لِحَقِّ الْغَرِيمِ، لِأَنَّ حَقَّهُ كُلَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَحْلِيفِهِ، وَهُنَا لَمْ يُحَصِّلْ إلَّا النِّصْفَ فَيُحَلِّفُهُ زَيْلَعِيّ.
وَقد وفْق أَبُو السُّعُود بَين العبارتين كَمَا ذكرنَا، وَحِينَئِذٍ انْدفع مَا أبداه الْحلَبِي من التَّنَافِي وَحِينَئِذٍ، فَقَوله حَيْثُ لَا يحلف مُخَالف لما قَالَه الاكمل فِي الْمَسْأَلَة الاولى يحلف

(8/315)


الاخ بِاللَّه الخ.
وَلَعَلَّ الَّذِي نَفَاهُ الزَّيْلَعِيّ الْحلف لحق الْغَرِيم، وَالَّذِي قَالَه الاكمل لحق أَخِيه الْمقر، لَان كل من إِذا أقرّ بشئ لزمَه يحلف عِنْد إِنْكَاره ليقضي عَلَيْهِ بِالنّكُولِ.
تَأمل.
وَفِي الدّرّ الْمُنْتَقى: لَو مَاتَ عَن ابْنَيْنِ وَكَانَ لابيهما الْمَيِّت دين على شخص فَأقر أَحدهمَا بِقَبض أَخِيه نصفه صَحَّ فِي حِصَّته، وَحِينَئِذٍ فالنصف الْبَاقِي للْآخر بعد حلفه.
قلت: وَكَذَا الحكم لَو أقرّ بِقَبض كُله لَكِن هُنَا يحلف لحق الْغَرِيم.
ذكره الزَّيْلَعِيّ وَغَيره.
اهـ.
وَالْحَاصِل: أَن فِي الْمَسْأَلَة الاولى لَا يحل ف لِحَقِّ الْغَرِيمِ، لِأَنَّ حَقَّهُ كُلَّهُ حَصَلَ لَهُ مِنْ جِهَةِ الْمُقِرِّ فَلَا حَاجَةَ إلَى تَحْلِيفِهِ، بِخِلَاف الْمَسْأَلَة الثَّانِيَة فَإِنَّهُ يحلف الْمُنكر بِاللَّه مَا تعلم أَنه قبض الدّين، فَإِن نكل بَرِئت ذمَّته، وَإِن حلف دفع إِلَيْهِ نصِيبه، وَالله تَعَالَى أعلم وَأَسْتَغْفِر الله الْعَظِيم.
فصل فِي مسَائِل شَتَّى قَالَ عزمي زَاده: أفرز صَاحب التسهيل هَاهُنَا مسَائِل مهمة وأدرجها تَحت زِيَادَة على سَائِر الْمُتُون، واقتفى صَاحب الدُّرَر أَثَره، وانتخب الْمسَائِل الْمَذْكُورَة فِيهِ من الْكَافِي.
اهـ.
وَالشَّارِح رَحمَه الله تَعَالَى جمع بَين مَا أَتَى بِهِ فِي التسهيل وَبَين مَا جرت بِهِ عَادَة الْمُتُون من ذكر مسَائِل شَتَّى، فترجم بهَا، وَفِيه ظرفية الشئ فِي نَفسه، لَان الْفَصْل هُوَ الْمسَائِل، إِلَّا أَن يُقَال: الْفَصْل مُرَاد بِهِ الالفاظ مُرَاد بهَا الْمعَانِي فَيكون من ظرفية الدَّال فِي الْمَدْلُول.

قَوْله: (المكلفة) أَي الْعَاقِلَة الْبَالِغَة: أَي وَهِي حرَّة أَو مأذونة ط.

قَوْله: (فكذبها زَوجهَا) إِمَّا إِذا صدقهَا فَيظْهر فِي حَقه اتِّفَاقًا.

قَوْله: (أَيْضا) أَي كَمَا يَصح فِي حَقّهَا وَتَركه لظُهُوره.

قَوْله: (وَلَا يتَعَدَّى إِلَى غَيره) لَان كَونه حجَّة إِنَّمَا هُوَ فِي زعم الْمُقَرّر وزعمه لَيْسَ حجَّة على غَيره، وَلذَا لَا يظْهر فِي حق الْوَلَد وَالثَّمَرَة، بِخِلَاف الْبَيِّنَة فَإِنَّهَا حجَّة فِي حق الْكل، لَان
حجيتها بِالْقضَاءِ وَهُوَ عَام.
حموي.

قَوْله: (وَهَذِه إِحْدَى الْمسَائِل السِّت) الثَّانِيَة: لَو أَقَرَّ الْمُؤَجِّرُ بِدَيْنٍ لَا وَفَاءَ لَهُ إلَّا من ثمن الْعين الْمُؤجرَة فللدائن بيعهَا، وَإِن تضرر الْمُسْتَأْجر قَالَ الشَّيْخ صَالح فِي هَذَا: إِشَارَة إِلَى أَن رب الدّين إِذا أَرَادَ حبس الْمَدْيُون، وَهُوَ فِي إِجَارَة الْغَيْر يحبس، وَإِن بَطل حق الْمُسْتَأْجر قَالَه تفقها، فَوَافَقَ بحث الْمُؤلف الْآتِي.
الثَّالِثَة: لَو أَقَرَّتْ مَجْهُولَةُ النَّسَبِ بِأَنَّهَا بِنْتُ أَبِي زَوْجِهَا وصدقها الاب انْفَسَخ النِّكَاح بَينهمَا، وَمثل الاب الْجد، بِخِلَافِ مَا إذَا أَقَرَّتْ بِالرِّدَّةِ، وَلَوْ طَلَّقَهَا ثِنْتَيْنِ بَعْدَ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ لَمْ يَمْلِكْ الرَّجْعَةَ.
الرَّابِعَة: إِذا ادّعى ولد الامة الْمَبِيعَة وللمدعي على أَخٌ ثَبَتَ نَسَبُهُ وَتَعَدَّى إلَى حِرْمَانِ الْأَخِ من الْمِيرَاث.
الْخَامِسَة: الْمُكَاتَبُ إذَا ادَّعَى نَسَبَ وَلَدِ حُرَّةٍ فِي حَيَاةِ أَخِيهِ صَحَّتْ، وَمِيرَاثُهُ لِوَلَدِهِ دُونَ أَخِيهِ.
السَّادِسَة: بَاعَ الْمَبِيع ثمَّ أقرّ أَن البيع كَانَ تلجئة وَصدقه المُشْتَرِي، فَلهُ الرَّد على بَائِعه بِالْعَيْبِ، كَذَا فِي الْجَامِع.
قَالَ الْحَمَوِيّ: قَوْله لَو أقرّ الْمُؤَجّر الخ، قَالَ بعض الْفُضَلَاء: يُؤْخَذ من هَذَا جَوَاب حَادِثَة لم أجد فِيهَا نقلا، وَهُوَ أَن رب الدّين إِذا أَرَادَ حبس الْمَدْيُون وَهُوَ فِي إِجَارَة الْغَيْر هَل يحبس وَإِن بَطل

(8/316)


حق الْمُسْتَأْجر؟ فَهَذَا يُشِير إِلَى أَنه يحبس وَإِن بَطل حق الْمُسْتَأْجر.
قَوْله: لَو أقرَّت مَجْهُول النّسَب الخ.
وَقعت حَادِثَة بِالْقَاهِرَةِ: وَهِي أَن شخصا أقرّ فِي مرض مَوته بِأَن فلَانا أخي وشقيقي، وَلِهَذَا الْمقر أُخْت شَقِيقَة وَالْمقر لَهُ غير أَب الْمقر، وكل مِنْهُمَا حر الاصل من الاب وصدقت على إِقْرَار أَخِيهَا حَتَّى لَا يشاركها بَيت المَال، وَهِي شافعية الْمَذْهَب، وَثَبت الاقرار بَين يَدي قَاض حَنَفِيّ، وَحكم بِصِحَّة قَاض شَافِعِيّ، فنازع صَاحب بَيت المَال الْمقر لَهُ، وَدَار سُؤَالهمْ بَين الْعلمَاء، فَمنهمْ من أجَاب بِصِحَّة الاقرار وهم الاكثر، وَمِنْهُم: من أجَاب بِبُطْلَانِهِ، وَمِنْهُم عَلامَة الورى الشَّمْس الرَّمْلِيّ مُعَللا بِأَنَّهُ محَال شَرْعِي، إِذْ يَسْتَحِيل أَن يكون لوَاحِد أَبَوَانِ.
وَقَالَ بعض الْفُضَلَاء من الْحَنَفِيَّة: مُقْتَضى مَذْهَبنَا بطلَان الاقرار: أَي فِي خُصُوص هَذِه الْمَسْأَلَة.
وَإِلَّا فَلَا يَسْتَحِيل شرعا أَن يكون للْوَاحِد أَبَوَانِ أَو ثَلَاثَة إِلَى خَمْسَة، كَمَا فِي ولد الْجَارِيَة الْمُشْتَركَة إِذا ادَّعَاهُ الشُّرَكَاء، بل قد يثبت نسب لوَاحِد الْحر الاصل من
الطَّرفَيْنِ، كَمَا فِي اللَّقِيط إِذا ادَّعَاهُ رجلَانِ حران كل وَاحِد مِنْهُمَا من امْرَأَة حرَّة كَمَا فِي التاترخانية.
اهـ.

قَوْله: (وَلم نرها صَرِيحَة) هَذَا الْبَحْث لصَاحب الْمنح، وَمثله فِي حَاشِيَة الاشباه للحموي كَمَا قدمْنَاهُ قَرِيبا.

قَوْله: (وَعِنْدَهُمَا لَا) لما لم يقف على من يرجح قَول الامام على قَوْلهمَا صرح بِذكر قَوْلهمَا فِي الْمَتْن: فَإِن عَادَته كعادة أَرْبَاب الْمُتُون المألوفة التَّصْرِيح بقولهمَا أَيْضا عِنْد رُجْحَان قَوْلهمَا على قَوْله، وَكَذَا عِنْد التَّسَاوِي بَينهمَا كَمَا فِي الْمولى عبد الْحَلِيم، وَلَكِن يَأْتِي تَصْحِيح قَول الامام.

قَوْله: (فَلَا تحبس وَلَا تلازم) لَان فِيهِ منع الزَّوْج عَن غشيانها وإقرارها فِيمَا يرجع إِلَى بطلَان حق الزَّوْج لَا يَصح انْتهى دُرَر.
وَالظَّاهِر أَنه على قَوْلهمَا يأمرها القَاضِي بِالدفع وَبيع عَلَيْهَا مَا يُبَاع فِي الدّين ط.

قَوْله: (إِفْتَاء وَقَضَاء) منصوبين على الْحَال.

قَوْله: (لَان الْغَالِب الخ) فِيهِ نظر، إذْ الْعِلَّةُ خَاصَّةٌ وَالْمُدَّعَى عَامٌّ، لِأَنَّهُ لَا يَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ الْإِقْرَارُ لِأَجْنَبِيٍّ، وَقَوْلُهُ لتوصل بذلك إِلَى منعهَا بِالْحَبْسِ عِنْده لَا يظْهر أَيْضا، إِذا بِالْحَبْسِ عِنْدَ الْقَاضِي لَا عِنْدَ الْأَبِ، فَإِذًا الْمُعَوَّلُ عَلَيْهِ قَول الامام.
اهـ.
إِذْ لَمْ يَسْتَنِدْ فِي هَذَا التَّصْحِيحِ لِأَحَدٍ مِنْ أَئِمَّةِ التَّرْجِيحِ ط.
لَكِنَّ قَوْلَهُ إذْ الْحَبْسُ عِنْدَ الْقَاضِي مُخَالِفٌ لِمَا مَرَّ فِي بَابِهِ أَن الْخِيَار فِيهِ للْمُدَّعِي.

قَوْله: (فِي حَقّهَا خَاصَّة) أَي فِي بعض الاحكام، فَإِنَّهُ يظْهر فِي حق الزَّوْج فِي الْمُسْتَقْبل، حَتَّى لَو جَاءَت بِولد بعده يكون ملكا للْمقر لَهُ، وَيملك عَلَيْهَا الزَّوْج طَلْقَتَيْنِ فَقَط، وَقد كَانَ يملك عَلَيْهَا ثَلَاثًا.
وَهَذَا عِنْد أبي يُوسُف فِي حق الاولاد وإجماعا فِي الطَّلَاق وَالْعدة، فَإِن طَلاقهَا اثْنَتَانِ وعدتها حيضتان، وَقد كَانَ يملك عَلَيْهَا ثَلَاثًا وَتعْتَد بِثَلَاث حيض، وَالْعدة حق الزَّوْج وَحقّ الشَّرْع، فقد ظهر إِقْرَارهَا فِي حق غَيره كَمَا نَقله الشُّرُنْبُلَالِيّ عَن الْمُحِيط عَن الْمَبْسُوط.
قَوْلُهُ: فَوُلِدَ التَّفْرِيعُ غَيْرُ ظَاهِرٍ، وَمَحَلُّهُ فِيمَا بَعْدُ، وَالظَّاهِرُ أَنْ يُقَالَ: فَتَكُونُ رَقِيقَةً لَهُ كَمَا فِي العزمية، وَيَأْتِي قَرِيبا.
قَوْله:

(8/317)


(رَقِيق) عِنْد أبي يُوسُف: لانه حكم برقيتها وَولد الرقيقة رَقِيق.
دُرَر.

قَوْله: (خلافًا لمُحَمد) هُوَ يَقُول: تزَوجهَا بِشَرْط حريَّة أَوْلَاده مِنْهَا فَلَا تصدق فِي إبِْطَال هَذَا الْحق.
اهـ.
منح: أَي فَيكون أَوْلَادهَا بعد الاقرار أحرارا، وَهَذَا لَيْسَ عَلَى إطْلَاقِهِ لِمَا فِي الْأَشْبَاهِ: مَجْهُولُ النَّسَبِ إذَا أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِإِنْسَانٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ صَحَّ وَصَارَ عبدا، وَهَذَا إذَا كَانَ قَبْلَ تَأَكُّدِ الْحُرِّيَّةِ بِالْقَضَاءِ، أَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِحَدٍّ كَامِلٍ أَوْ
بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ لَا يَصِحُّ إقْرَارُهُ بِالرِّقِّ بعد ذَلِك.
اهـ.

قَوْله: (يرد عَلَيْهِ) أَي على عدم صِحَة إِقْرَارهَا فِي حَقه.

قَوْله: (انتقاص طَلاقهَا) وَكَذَا عدتهَا كَمَا علمت.

قَوْلُهُ: (كَمَا حَقَّقَهُ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ) حَيْثُ قَالَ وَيرد على كَون إِقْرَارهَا غير صَحِيح فِي حَقه انتقاص طَلاقهَا، لِأَنَّهُ نَقَلَ فِي الْمُحِيطِ عَنْ الْمَبْسُوطِ: أَنَّ طَلَاقَهَا ثِنْتَانِ وَعِدَّتُهَا حَيْضَتَانِ بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّهَا صَارَتْ أَمَةً، وَهَذَا حُكْمٌ يَخُصُّهَا.
ثُمَّ نَقَلَ عَنْ الزِّيَادَاتِ: وَلَوْ طَلَّقَهَا الزَّوْجُ تَطْلِيقَتَيْنِ وَهُوَ لَا يَعْلَمُ بِإِقْرَارِهَا مَلَكَ عَلَيْهَا الرَّجْعَةَ، وَلَوْ عَلِمَ لَا يَمْلِكُ، وَذَكَرَ فِي الْجَامِعِ: لَا يَمْلِكُ علم أَو لم يعلم.
قيل مَا ذكره فِي الزِّيَادَات قِيَاسٌ، وَمَا ذَكَرَهُ فِي الْجَامِعِ اسْتِحْسَانٌ.
وَفِي الْكَافِي: آلي وأقرت قبل شَهْرَيْن فهما مدَّته، وَإِنْ أَقَرَّتْ بَعْدَ مُضِيِّ شَهْرَيْنِ فَأَرْبَعَةٌ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ مَتَى أَمْكَنَ تَدَارُكُ مَا خَافَ فَوْتَهُ بِإِقْرَارِ الْغَيْرِ وَلَمْ يَتَدَارَكْ بَطَلَ حَقُّهُ، لِأَنَّ فَوَاتَ حَقِّهِ مُضَافٌ إلَى تَقْصِيرِهِ فَإِنْ لَمْ يُمْكِنْ التَّدَارُكُ لَا يَصِحُّ الْإِقْرَارُ فِي حَقِّهِ، فَإِذَا أَقَرَّتْ بَعْدَ شَهْرٍ أَمْكَنَ الزَّوْجَ التَّدَارُكُ وَبَعْدَ شَهْرَيْنِ لَا يُمْكِنُهُ، وَكَذَا الطَّلَاقُ وَالْعِدَّةُ حَتَّى لَو طَلقهَا ثِنْتَيْنِ ثمَّ أقرَّت يَمْلِكُ الثَّالِثَةَ، وَلَوْ أَقَرَّتْ قَبْلَ الطَّلَاقِ تَبِينُ بِثِنْتَيْنِ، وَلَوْ مَضَتْ مِنْ عِدَّتِهَا حَيْضَتَانِ ثُمَّ أَقَرَّتْ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ، وَلَوْ مَضَتْ حَيْضَةٌ ثُمَّ أقرَّت تبين بحيضتين اهـ.
قُلْتُ: وَعَلَى مَا فِي الْكَافِي لَا إشْكَالَ لِقَوْلِهِ: إنَّ فَوَاتَ حَقِّهِ مُضَافٌ إلَى تَقْصِيرِهِ.
تَأمل.

قَوْله: (وَفرع على حَقه) الاولى أَن يَقُول على قَوْله لَا فِي حَقه.

قَوْله: (مَجْهُول النّسَب) قيد بِهِ احْتِرَازًا عَمَّن علم نسبه وحريته فَلَا يَصح إِقْرَاره بِالرّقِّ لتكذيب العيان لَهُ كَمَا لَا يخفى، وَكَذَا من علم أَنه عَتيق الْغَيْر، وَيصِح هَذَا الاقرار من الْمَجْهُول، وَلَو كَانَ صَبيا مُمَيّزا كَمَا فِي تنوير الاذهان، وَيسْتَثْنى مِنْهُ اللَّقِيط حَيْثُ لَا يَصح إِقْرَاره بِأَنَّهُ عبد لفُلَان، إِلَّا إِذا كَانَ بَالغا.
أَبُو السُّعُود.
وَفِي الاشباه: مَجْهُول النّسَب: لَو أَقَرَّ بِالرِّقِّ لِإِنْسَانٍ وَصَدَّقَهُ الْمُقَرُّ لَهُ صَحَّ وَصَارَ عَبده إِن كَانَ قبل تَأَكد حُرِّيَّته بِالْقَضَاءِ، أَمَّا بَعْدَ قَضَاءِ الْقَاضِي عَلَيْهِ بِحَدٍّ كَامِلٍ أَوْ بِالْقِصَاصِ فِي الْأَطْرَافِ لَا يَصِحُّ إِقْرَاره بِالرّقِّ بعد ذَلِك، وَإِذا صَحَّ إِقْرَاره بِالرّقِّ فأحكامه بعده فِي الْجِنَايَات وَالْحُدُود وَأَحْكَام العبيد وَفِي النتف يصدق، إِلَّا فِي خَمْسَة: زَوجته، ومكاتبه، ومدبره، وَأم وَلَده، وَمولى عتقه.
انْتهى.
أَقُول: وَهَذَا يُفِيد مَجْهُول النّسَب أَيْضا
قَوْله: (صَحَّ إِقْرَاره فِي حَقه) أَي وَصَارَ عَبده إِن كَانَ قبل تَأَكد حُرِّيَّته بِالْقضَاءِ كَمَا علمت.

قَوْله: (دون إبِْطَال الْعتْق) أَي دون مَا يتَعَلَّق بعصبة الْمقر من إِرْث

(8/318)


الْمُعْتق بعد موت الْمقر.

قَوْله: (يَرِثهُ وَارثه الخ) لانه مقدم على الْمُعْتق.

قَوْله: (وَإِلَّا) صَادِق بِأَن لم يكن لَهُ وَارِث أصلا، أَو وَارِث لَا يَرث الْكل كَأحد الزَّوْجَيْنِ.

قَوْله: (فيرث الْكل) أَي إنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَارِثٌ أَصْلًا.

قَوْلُهُ: (أَوْ الْبَاقِيَ) إنْ كَانَ لَهُ وَارِثٌ لَا يسْتَغْرق.

قَوْله: (كَافِي وشرنبلالية) الاولى: شرنبلالية عَن الْكَافِي، لقَوْله كَذَا فِي الْكَافِي.
وَعبارَة الشُّرُنْبُلَالِيَّةِ عَنْ الْمُحِيطِ: وَإِنْ كَانَ لِلْمَيِّتِ بِنْتٌ كَانَ النّصْف لَهَا، وَالنّصف للْمقر لَهُ.
اهـ.
فَعلم أَن المُرَاد بالوارث ذُو الْفَرْض أَو الْعصبَة، وَإِن كَانَ الْمقر لَهُ مقدما على الرَّد وَهل يقدم على ذَوي الارحام يُرَاجع.
قَالَ فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّة: وَإِنْ جَنَى هَذَا الْعَتِيقُ سَعَى فِي جِنَايَتِهِ لِأَنَّهُ لَا عَاقِلَةَ لَهُ، وَإِنْ جَنَى عَلَيْهِ يَجِبُ عَلَيْهِ أَرْشُ الْعَبْدِ، وَهُوَ كَالْمَمْلُوكِ فِي الشَّهَادَةِ، لِأَنَّ حُرِّيَّتَهُ فِي الظَّاهِرِ وَهُوَ يَصْلُحُ للدَّفْع لَا للاستحقاق.
اهـ.

قَوْله: (الْمقر لَهُ) فَاعل يَرث: أَي وَإِلَّا فيرث الْكل أَو الْبَاقِي الْمقر لَهُ.

قَوْله: (فإرثه لعصبة الْمقر) لانه لما مَاتَ انْتقل الْوَلَاء إِلَيْهِم، بِخِلَاف مَا إِذا كَانَ حَيا.
دُرَر.
وَذَلِكَ لَان إِقْرَاره بِالرّقِّ لَا يظْهر فِي حَقهم، فَلَو كَانَ عصبَة أَوْلَاده فَمن قبل الاقرار أَحْرَار يَرِثُونَ، وَمن بعده من أمة أرقاء لَا ترثون، فَتدبر ط.
وَالْحَاصِل: أَن الاقرار حجَّة قَاصِرَة، فَمَا دَامَ حَيا يكون إِرْث الْعَتِيق للْمقر لَهُ عِنْد عدم الْوَارِث، وَبعد الْمقر ينْتَقل الْوَلَاء لعصبته، فَيكون الارث لَهُم فَلَا ينفذ إِقْرَاره عَلَيْهِم، ويستحقون الْمِيرَاث دون الْمقر لَهُ.

قَوْله: (لانه لَا عَاقِلَة لَهُ) إِذْ الَّذِي أعْتقهُ صَار رَقِيقا وَالْمقر لَهُ لم يظْهر حكمه فِي حق ذَلِك الْعَتِيق.

قَوْله: (وَلَو جنى عَلَيْهِ يجب أَرْشُ الْعَبْدِ) وَعَلَيْهِ فَقَدْ صَارَ الْإِقْرَارُ حُجَّةً مُتَعَدِّيَةً فِي حَقِّ الْمَجْنِيِّ عَلَيْهِ، فَيَنْبَغِي زِيَادَةُ هَذِه الْمَسْأَلَة على السِّت الْمُتَقَدّمَة آنِفا.

قَوْله: (لَان حُرِّيَّته بِالظَّاهِرِ) لانا نَظرنَا فِيهَا إِلَى ظَاهر حريَّة الْمُعْتق حَال إِعْتَاقه.

قَوْله: (قَالَ رجل لآخر لي عَلَيْك ألف الخ) .
أَقُول: هَذِه الْمسَائِل معرفَة
أَو مُنكرَة أَو مكررة أَو مَقْرُونا بهَا الْبر يَنْبَغِي أَن تذكر عِنْد قَول المُصَنّف فِي كتاب الاقرار قَالَ: أَلَيْسَ لِي عَلَيْك أَلْفٌ؟ فَقَالَ بَلَى الخ لوَجْهَيْنِ.
الاول: أَنَّهَا من قبيل نعم.
وَالثَّانِي: أَنَّهَا نظيرة اتزنها واتزن، فنظير الاول قَوْله الْحق وَنَحْوه، لَان الْمَفْعُول الْمُطلق أَو الْمَفْعُول بِهِ لَا يسْتَقلّ بِنَفسِهِ، لَان الْهَاء لَا بُد لَهُ من مرجع سَابق، وَنَظِير الثَّانِي قَوْله الْحق حق وَنَحْوه، لانه كَلَام تَامّ غير مُحْتَاج إِلَى مَا قبله، وَكَذَلِكَ اتزن، ثمَّ هَذِه الالفاظ الرِّوَايَة فِيهَا النصب، وَعَلِيهِ كَلَام المُصَنّف حَيْثُ صرح بِهِ فِي النكرَة: إِمَّا بِكَوْنِهِ على المصدرية وَالتَّقْدِير القَوْل الْحق الخ، أَو بِكَوْنِهِ مَفْعُولا بِهِ: أَي ادعيت الْحق الخ، وَجَاز فِي الْكل الرّفْع على أَنه خبر مُبْتَدأ مَحْذُوف يدل عَلَيْهِ فحوى الْكَلَام.
فالتقدير: قَوْلك الْحق أَو دعواك الْحق الخ، وَلَو قدر مجرورا فَلهُ وَجه أَيْضا فَيكون التَّقْدِير قَوْلك: أَو

(8/319)


دعواك بِالْحَقِّ، وَلَو لم يعرب فَيحمل على وَاحِد مِنْهُمَا، فَلَا يخْتَلف الحكم فِي الْجَمِيع فِي الصَّحِيح.
كَذَا فِي الْجَامِع العاملي.

قَوْلُهُ: (وَنَحْوَهُ) بِأَنْ كَرَّرَ الْيَقِينَ أَيْضًا مُعَرَّفًا أَو مُنْكرا.

قَوْله: (أَو قرن بهَا الْبر) قيد بِهِ لانه لَو قرن بهَا الصّلاح لم يكن إِقْرَارا، لَان الصّلاح مُحكم فِي الرَّد، إِذْ القَوْل لَا يُوصف بِهِ فَيكون أمرا بالصلاح والاجتناب عَن الْكَذِب، فَيحمل مَا قرن بِهِ عَلَيْهِ أطلقهُ وَلكنه مُقَيّد بِالنّصب، إِذْ لَو رفع يكون جملَة تَامَّة من مُبْتَدأ وَخبر فَلَا يَجْعَل جَوَابا لما سبق، بِخِلَاف تَكْرِير هَذِه الالفاظ حَيْثُ يحمل على التَّأْكِيد.
وَأَشَارَ بالمقارنة إِلَى أَن الْبر لَو انْفَرد مُعَرفا أَو مُنْكرا أَو مكررا لَا يكون إِقْرَارا لعدم الْعرف.
عبد الْحَلِيم.

قَوْله: (الْبر حق) هَذَا مِمَّا يَصْلُحُ لِلْإِخْبَارِ وَلَا يَتَعَيَّنُ جَوَابًا، وَالَّذِي فِي نُسْخَة الدُّرَرِ: الْبِرُّ الْحَقُّ، وَهُوَ فِي بَعْضِ النُّسَخِ كَذَلِكَ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فَإِنَّهُ يُحْمَلُ عَلَى الْإِبْدَالِ ط.

قَوْله: (لانه كَلَام تَامّ) من مُبْتَدأ وَخبر مُسْتَقل بِنَفسِهِ، هَذَا هُوَ الْمَنْطُوق، وَجعله جَوَابا إِنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَار دلَالَة الْحَال، وَذَا سَاقِط فِي مُقَابِله.
وَقَوله: (لانه لَا يصلح للابتداء) أَي لَان يكون كلَاما مُبْتَدأ، هَذَا هُوَ الظَّاهِر، أَو لَا يصلح لَان يكون مُبْتَدأ، لانه لَو رفع يكون خَبرا لمبتدأ يقدر بِدلَالَة الْحَال، وَهُوَ قَوْلك أَو دعواك على مَا أَشَرنَا إِلَيْهِ.

قَوْله: (يَا سارقة الخ) مَأْخَذ هَذِه الْمَسْأَلَة بتفاريعها من بَاب الاقرار بِالْعَيْبِ فِي الْجَامِع الْكَبِير وإتيان
المُصَنّف بهَا فِي أَوَاخِر بَاب الْعَيْب أنسب من إِتْيَانه بهَا هُنَا كَمَا لَا يخفى.

قَوْله: (لانه نِدَاء) أَي فِيمَا عدا الاخير وَالنِّدَاءُ إعْلَامُ الْمُنَادَى وَإِحْضَارُهُ لَا تَحْقِيقُ الْوَصْفِ، وَلِهَذَا لَو قَالَ لامْرَأَته يَا كَافِرَة لَا يفرق بَينهمَا.
اهـ.
دُرَر.

قَوْله: (أَو شتمة) أَي فِي الاخيرة وَهِي قَوْله هَذِه السارقة فعلت كَذَا: أَي وَلم يكن لتحقيق الْوَصْف، وَفِي نُسْخَة شتيمة وَيحْتَمل أَن أَو بِمَعْنى الْوَاو، فَإِن كل أَمْثِلَة النداء تصلح للشتم وينفرد الشتم فِي الاخيرة ط.
قَوْله: بِخِلَاف هَذِه سارقة وَكَذَا هَذِه السارقة بلام التَّعْرِيف، الْحَاصِل أَن الِاعْتِبَار إِلَى مجئ الْوَصْف خَبرا فيستوي حِينَئِذٍ كَونه مُعَرفا أَو مُنْكرا، بِخِلَاف مَجِيئه نعتا فَحِينَئِذٍ يحمل على الشتم، هَذَا هُوَ الْمُصَرّح بِهِ فِي تَلْخِيص الْجَامِع الْكَبِير، وَعَلِيهِ كَلَام الْكَافِي، فَيظْهر مِنْهُ أَن تنكير هَذِه الاوصاف فِي عبارَة المُصَنّف لَيْسَ للِاحْتِرَاز.

قَوْله: (حَيْثُ ترد بأحدها) أَي لَو اشْتَرَاهَا من لم يعلم بِهَذِهِ الاخبار ثمَّ علم ط.
أَقُول: فِيهِ نظر، لَان الشَّرْط فِي رد الْمَبِيعَة بِالْعَيْبِ أَن يُوجد عِنْد المُشْتَرِي وَالْبَائِع، فَلَو أقرّ البَائِع بِالْعَيْبِ عِنْده وَلم يُوجد عِنْد المُشْتَرِي لَا ترد بل يكون قد زَالَ.
تَأمل.

قَوْله: (بِخِلَاف أول) فَإِنَّ السَّيِّدَ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْ إثْبَاتِ هَذِهِ الاوصاف فِيهَا.

قَوْله: (بطرِيق مَحْظُور) مُتَعَلق بالسكران.

قَوْله: (محرم) لَا

(8/320)


حَاجَة إِلَيْهِ.

قَوْله: (صَحِيح) لتكليفه شرعا لقَوْله تَعَالَى: * ((4) لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى) * (النِّسَاء: 34) خاطبهم تَعَالَى ونهاهم حَال سكرهم.
أشباه.

قَوْله: (أقيم عَلَيْهِ الْحَد فِي سكره) لَعَلَّه سبق قلم.
وَالصَّوَاب الْقصاص لانه لَا فَائِدَة فِي انْتِظَاره، وَأَشَارَ إِلَى أَن الْحَد تَارَة يقْصد بِهِ تَأْدِيب بإيصال الالم إِلَيْهِ، وَهَذَا لَا يحصل فِي حَال السكر فَلَا يُقَام عَلَيْهِ فِيهِ لانه لَا يحس بِهِ كَحَد الشّرْب وَالْقَذْف، وَتارَة يقْصد بِهِ تَأْدِيب غَيره أَو تَحْصِيل ثَمَرَته، وَإِن أقيم فِي حَال السكر لبَقَاء أَثَره بعده كالقود فَإِنَّهُ إِن كَانَ فِي النَّفس يحصل بِهِ إزهاق الرّوح، فَلَا فرق أَن يكون فِي حَال الصحو لحُصُول الْمَقْصُود بِهِ، وَهُوَ زجر غَيره أَن يفعل كَفِعْلِهِ، وَكَذَا فِيمَا دون النَّفس الْمَقْصُود بِهِ يحصل فِي حَال السكر أَو فِي حَال الصحو.
وَيَنْبَغِي أَن يكون حد السّرقَة كَذَلِك لبَقَاء أَثَره بعد الصحو.

قَوْله: (وَفِي السّرقَة يضمن الْمَسْرُوق) أَي لَو أقرّ بِالسَّرقَةِ يتَضَمَّن ذَلِك الاقرار حق الله، وَهُوَ إِقَامَة الْحَد وَحقّ العَبْد، وَهُوَ ضَمَان المَال فَلَا يلْزمه
الْحَد لدرئه بِالشُّبُهَاتِ، وَيصِح فِي حق العَبْد فَيضمن المَال الْمَسْرُوق.

قَوْله: (سعدي أَفَنْدِي) وَعِبَارَتُهُ هُنَاكَ.
وَقَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ: ذَكَرَ الْإِمَامُ التُّمُرْتَاشِيُّ: وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ بِالزِّنَا وَالسَّرِقَةِ، لِأَنَّهُ إذَا صَحَا وَرَجَعَ بَطَلَ إقْرَارُهُ وَلَكِنْ يَضْمَنُ الْمَسْرُوقَ، بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ وَالْقِصَاصِ حَيْثُ يُقَامُ عَلَيْهِ فِي حَالِ سُكْرِهِ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الرُّجُوعَ، لِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ، فَأَشْبَهَ الاقرار بِالْمَالِ وَالطَّلَاق وَالْعتاق انْتهى.
وَلَا يَخْفَى عَلَيْكَ أَنَّ قَوْلَهُ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي التَّأْخِيرِ مَحَلُّ بَحْثٍ، وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: بِخِلَافِ حَدِّ الْقَذْفِ فَإِنَّهُ يُحْبَسُ حَتَّى يَصْحُوَ ثُمَّ يُحَدُّ لِلْقَذْفِ، ثُمَّ يُحْبَسُ حَتَّى يخف مِنْهُ الضَّرْبِ، ثُمَّ يُحَدُّ لِلسُّكْرِ.
ذَكَرَهُ فِي الْمَبْسُوطِ.
وَفِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ: قُيِّدَ بِالْإِقْرَارِ لِأَنَّهُ لَوْ زنى أَو سرق فِي حَالِهِ يُحَدُّ بَعْدَ الصَّحْوِ، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ، وَكَذَا فِي الذَّخِيرَة انْتهى.
أَقُول: لَكِن فِي قَوْله بِخِلَاف الاقرار أَن الاقرار كَذَلِك فَمَا وَجه الْمُخَالفَة.
تَأمل.

قَوْله: (إِلَّا فِيمَا يقبل الرُّجُوع كالردة) أَي وَلَو بسب النَّبِي صلى الله تَعَالَى عَلَيْهِ وَسلم فَإِنَّهَا كَسَائِر أَلْفَاظ الرِّدَّة خلافًا لما قدمه الشَّارِح فِي بَابهَا.
وَكتب عَلَيْهِ سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى كِتَابَة حَسَنَة حرر فِيهَا أَن الْقبُول هُوَ الْمَذْهَب، وَأَن عدم الْقبُول هُوَ مَذْهَب مَالك رَحمَه الله تَعَالَى فَارْجِع إِلَيْهِ.
وَالْحكمَة فِي عدم صِحَة إِقْرَاره فِيمَا يقبل الرُّجُوع أَن الرِّدَّة مَبْنِيَّة على الِاعْتِقَاد وَهُوَ يعْتَمد وجود الْعقل وَلَا عقل لَهُ مَعَ السكر وَلَو أقرّ، وَلذَا لَو ارْتَدَّ فِي سكره لَا تصح ردته، وَعَلِيهِ فَيَنْبَغِي أَن لَا تلْحقهُ أَحْكَام الْمُرْتَد من بينونة زَوْجَة وَنَحْوه، فَليُرَاجع.
أما من ثبتَتْ ردته بِالْبَيِّنَةِ وَأنكر فَإِن إِنْكَاره تَوْبَة فَتلْزمهُ أَحْكَام الْمُرْتَد كَمَا صَرَّحُوا بِهِ.

قَوْله: (وَشرب الْخمر) أَي إِذا أقرّ وَهُوَ سَكرَان بِأَنَّهُ شرب الْخمر الَّذِي هُوَ فِيهِ أَو غَيره لَا يَصح إِقْرَاره فَلَا يُقَام عَلَيْهِ الْحَد، وَإِنَّمَا ترَتّب على الْبَيِّنَة مثلا الاحكام ط.

قَوْله: (لَا يعْتَبر) أَي إِقْرَاره.

قَوْله: (إِلَّا فِي سُقُوط الْقَضَاء) أَي قَضَاء الصَّلَاة أَزِيد من يَوْم وَلَيْلَة، فَتسقط بالاغماء لَا بالسكر، لانه بصنعه كَمَا فِي

(8/321)


الاشباه
قَوْله: (وَتَمَامه فِي أحكامات الاشباه) وعبارتها أَحْكَام السَّكْرَان هُوَ مُكَلّف لقَوْله تَعَالَى: * ((4) لَا تقربُوا الصَّلَاة وَأَنْتُم سكارى) * (النِّسَاء: 34) خاطبهم تَعَالَى ونهاهم حَال سكرهم، فَإِن كَانَ السكر من محرم، فالسكرا مِنْهُ هُوَ الْمُكَلف، وَإِن كَانَ من مُبَاح فَلَا فَهُوَ كالمغمى عَلَيْهِ لَا يَقع طَلَاقه.
وَاخْتلف التَّصْحِيح فِيمَا إِذا سكر مكْرها أَو مُضْطَرّا فَطلق، وَقدمنَا فِي الْفَوَائِد أَنه مِنْ مُحَرَّمٍ كَالصَّاحِي إلَّا فِي ثَلَاثٍ: الرِّدَّةُ، وَالْإِقْرَارُ بِالْحُدُودِ الْخَالِصَةِ، وَالْإِشْهَادُ عَلَى شَهَادَةِ نَفْسِهِ، وزدت على الثَّلَاثَة: تَزْوِيج الصَّغِير وَالصَّغِيرَة بِأَقَلّ من مهر الْمثل أَو بِأَكْثَرَ فَإِنَّهُ لَا ينْعَقد.
الثَّانِيَة: الْوَكِيل بِالطَّلَاق صَاحِيًا إِذا سكر فَطلق لم يَقع.
الثَّالِثَة: الْوَكِيل بِالْبيعِ، وَلَو سكر فَبَاعَ لم ينفذ على مُوكله.
الرَّابِعَة: غصب من صَاح ورده عَلَيْهِ وَهُوَ سَكرَان وَهِي فِي فُصُول الْعمادِيَّة فَهُوَ كالصاحي، إِلَّا فِي سبع فيؤاخذ بأقواله وأفعاله، وَاخْتلف التَّصْحِيح بِمَا إِذا سكر من الاشربة المتخذة من الْحُبُوب أَو الْعَسَل، وَالْفَتْوَى على أَنه سكر محرم، فَيَقَع طَلَاقه وعتاقه وَلَو زَالَ عقله بالبنج لم يَقع وَعَن الامام أَنه إِن كَانَ يعلم أَنه بنج حِين يشرب يَقع وَإِلَّا فَلَا، وصرحوا بِكَرَاهَة أَذَان السَّكْرَان، واستحباب إِعَادَته وَيَنْبَغِي أَن لَا يَصح أَذَانه كَالْمَجْنُونِ.
وَأما صَوْمه فِي رَمَضَان فَلَا إِشْكَال أَنه إِن صَحا قبل خُرُوج وَقت النِّيَّة أَنه يَصح إِذا نوى، لانا لانشرط التبييت فِيهَا، وَإِذا خرج وَقتهَا قبل صحوة أَثم وَقضى، وَلَا يبطل الِاعْتِكَاف بسكره وَيصِح وُقُوفه بِعَرَفَات كالمغمى عَلَيْهِ، لعدم اشْتِرَاط النِّيَّة فِيهِ.
وَاخْتلفُوا فِي حد السَّكْرَان: فَقيل من لَا يعرف الارض من السَّمَاء وَلَا الرجل من الْمَرْأَة، وَبِه قَالَ الامام الاعظم.
وَقيل من فِي كَلَامه اخْتِلَاط وهذيان، وَهُوَ قَوْلهمَا وَبِه أَخذ أَكثر الْمَشَايِخ.
وَالْمُعْتَبر فِي قدح السكر فِي حق الْحُرْمَة مَا قَالَاه احْتِيَاطًا فِي الحرمات، وَالْخلاف فِي الْحَد وَالْفَتْوَى على قَوْلهمَا فِي إنتقاض الطَّهَارَة وَفِي يَمِينه لَا يسكر كَمَا بَيناهُ فِي شرح الْكَنْز.
تَنْبِيه قَوْلهم إِن السكر من مُبَاح كالاغماء، يسْتَثْنى مِنْهُ سُقُوط الْقَضَاء فَإِنَّهُ لَا يسْقط عَنهُ وَإِن كَانَ أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة لانه بصنيعه.
كَذَا فِي الْمُحِيط انْتهى مَا ذكره فِي الاشباه.
قَالَ فِي نور الْعين: وَيلْحق السَّكْرَان بالصاحي فِي الْعِبَادَات والحقوق فَيلْزمهُ سَجْدَة تِلَاوَة وَقَضَاء
الصَّلَاة شح، وَإِذا أَفَاق يلْزمه الْوضُوء لَو كَانَ بِحَال لَا يعرف الذّكر من الانثى لَا كمغمى عَلَيْهِ، وَمن سكر من شراب محرم أَو من المثلث لزمَه كل التكاليف الشَّرْعِيَّة، وَيصِح جَمِيع عباراته وتصرفاته سَوَاء شرب مكْرها أَو طَائِعا.
بزدوي.
السكر لَو بمباح كشرب مكره، ومضطر، وَشرب دَوَاء، وَشرب مَا يتَّخذ من حبوب وَعسل عِنْد أبي حنيفَة كالاغماء يمْنَع من صِحَة طَلَاق، وعتاق وَسَائِر التَّصَرُّفَات، وَالسكر بمحظور كسكر من كل شراب محرم، ونبيذ المثلث، ونبيذ الزَّبِيب الْمَطْبُوخ الْمُعْتق لَا يُنَافِي الْخطاب، فَيلْزمهُ جَمِيع أَحْكَام الشَّرْع، وَتَصِح عباراته كلهَا بِطَلَاق وعتاق وَبيع وَشِرَاء، وأقارير، وَيصِح إِسْلَامه لَا ردته اسْتِحْسَانًا، وَلَو أقرّ بقصاص أَو بَاشر سَببا لزمَه حكمه، وَلَو قذف أَو أقرّ بِهِ لزمَه الْحَد، وَلَو زنى حد إِذا صَحا، وَلَو أقرّ أَنه سكر من خمر طَائِعا لم يحد حَتَّى يصحو فَيقْرَأ وَتقوم عَلَيْهِ الْبَيِّنَة، وَلَو أقرّ بشئ من الْحُدُود لم يحد إِلَّا فِي حد قذف، وتقام عَلَيْهِ الْحُدُود إِذا صَحا.

(8/322)


قَالَ فِي الْهِدَايَة: لَا يحد السَّكْرَان حَتَّى يعلم أَنه سكر من النَّبِيذ وَأَنه شربه طَوْعًا، إِذْ السُّكْرُ مِنْ الْمُبَاحِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ كَالْبَنْجِ وَلبن الرماك، وَكَذَا شرب الْمُكْره لَا يُوجب الْحَد وَلَا يُحَدُّ السَّكْرَانُ حَتَّى يَزُولَ عَنْهُ السُّكْرُ تحصيلا لمقصود الانزجار والسكران الَّذِي يحد عِنْد أبي حنيفَة، هُوَ من لَا يعقل منطقا لَا قَلِيلا وَلَا كثيرا، وَلَا يعقل الرجل من الْمَرْأَة، وَعِنْدَهُمَا: من يهذي ويخلط كَلَامه إِذا هُوَ السَّكْرَان فِي الْعرف، وَإِلَيْهِ مَال أَكثر الْمَشَايِخ، وَالْمُعْتَبر فِي الْقدح الْمُسكر فِي حق الْحُرْمَة مَا قَالَا إِجْمَاعًا أخذا بِالِاحْتِيَاطِ انْتهى.
وَقدمنَا عَن الاشباه أَن الْفَتْوَى على قَوْلهمَا فِي إنتقاض الطَّهَارَة، وَفِي يَمِينه أَن لَا يسكر، وَأَنه يسْتَثْنى سُقُوط الْقَضَاء من قَوْلهم السكر بمباح كإغماء، فَإِنَّهُ لَا يسْقط عَنهُ وَإِن كَانَ أَكثر من يَوْم وَلَيْلَة لانه بِفِعْلِهِ.
قَالَ قاضيخان: يجوز جَمِيع تَصَرُّفَات السَّكْرَان إِلَّا الرِّدَّة والاقرار بالحدود والاشهاد على شَهَادَة نَفسه.
وَفِي مَحل آخر مِنْهُ من سكر من خمر أَو شراب متخذ من أصل الْخمر وَهُوَ الْعِنَب وَالزَّبِيب وَالتَّمْر كنبيذ ومثلث وَغَيرهمَا ينفذ جَمِيع تَصَرُّفَاته عندنَا، وَبِه أَخذ عَامَّة الْمَشَايِخ.
وَقَالَ الْحسن بن زِيَاد
الطَّحْطَاوِيّ والكرخي والصفار وَمَالك وَالشَّافِعِيّ فِي أحد قوليه وَدَاوُد الاصفهاني: لَا يَصح مِنْهُ تصرف مَا وردته لَا تصح عندنَا اسْتِحْسَانًا.
إِذْ الْكفْر وَاجِب النَّفْي لَا وَاجِب الاثبات.
وَعَن أبي يُوسُف أَنه كَانَ يَأْخُذ بِالْقِيَاسِ وَيَقُول: تصح ردته انْتهى.
قَالَ: فَلَو قضى قَاض بقول وَاحِد من هَؤُلَاءِ نفذ قَضَاؤُهُ.
وَاخْتلف الْمَشَايِخ فِيمَا يتَّخذ من حبوب وثمار وَعسل: من قَالَ بِوُجُوب الْحَد بالسكر بِهِ يَقُول ينفذ تَصَرُّفَاته ليَكُون زجرا لَهُ، وَمن قَالَ لَا يجب الْحَد بِهِ وَهُوَ الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر والامام السَّرخسِيّ يَقُول لَا ينفذ تَصَرُّفَاته، وَلَو شَرّ ب شرابًا حلوا فَلم يُوَافقهُ وَذهب عقله بالصداع لَا بِالشرابِ فَطلق، قَالَ مُحَمَّد: لَا يَقع، وَبِه يُفْتى.
هَذَا كُله فِي الشَّرَاب طَائِعا، فَلَو مكْرها فَطلق فَالصَّحِيح أَنه لَا يَقع، وَفِي مَحل آخر مِنْهُ: وَلَو شرب الْخمر مكْرها أَو لضَرُورَة وسكر فَطلق اخْتلفُوا فِيهِ، وَالصَّحِيح أَنه كَمَا لَا يلْزمه الْحَد لَا يَقع طَلَاقه وَلَا تنفذ تَصَرُّفَاته، وَلَو سكر مِمَّا يتَّخذ من حبوب وفواكه وَعسل اخْتلفُوا فِيهِ، قَالَ الْفَقِيه أَبُو جَعْفَر: أَنه كَمَا لَا يلْزمه الْحَد لَا تنفذ تَصَرُّفَاته.
قاضيخان.
لَو كَانَت الْخمر مغلوبة بِالْمَاءِ تحرم، لَكِن لَا يحد شاربها مَا لم يسكر، وَفِيمَا سوى الْخمر مِمَّا يتَّخذ من عِنَب وزبيب لَا يحد شَاربه مَا لم يسكر، وَمن سكر بالبنج فَالصَّحِيح أَنه لَا يحد، وَلَا تصح تَصَرُّفَاته وَلَا تقع ردته.
ابْن الْهمام.
عدم وُقُوع طَلَاق السَّكْرَان بالبنج والافيون لعدم الْمعْصِيَة، فَإِنَّهُ يكون للتداوي غَالِبا فَلَا بِكَوْن زَوَال الْعقل بِسَبَب هُوَ مَعْصِيّة، حَتَّى لَو لم يكن للتداوي بل للهو وَإِدْخَال الآفة قصدا يَنْبَغِي أَن نقُول يَقع.
وَقَالَ أَيْضا: اتّفق مَشَايِخ الْحَنَفِيَّة وَالشَّافِعِيَّة بِوُقُوع طَلَاق من زَالَ عقله بِأَكْل الْحَشِيش، وَهُوَ الْمُسَمّى ورق القنب لفتواهم بحرمته اتِّفَاقًا من متأخريهم، إِذْ لم يظْهر أَمر الْحَشِيش فِي زمن الْمُتَقَدِّمين سني طَلَاق السَّكْرَان غير وَاقع، وَبِه أَخذ كثير من مَشَايِخ بَلخ، وَهُوَ قَول عُثْمَان رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ: هَذَا نَبِيذ عسل وتين وحنطة وشعير وذرة حَلَال، وَإِن لم يطْبخ عِنْد أبي حنيفَة، وَأبي يُوسُف: إِذا شرب بِلَا لَهو وَلَا طرب لقَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام الْخمر من هَاتين الشجرتين، وَأَشَارَ إِلَى كرم ونخل خص التَّحْرِيم بهما، إِذا المُرَاد بَيَان الحكم.
ثمَّ قيل: يشْتَرط الطَّبْخ لاباحته، وَقيل لَا، وَهُوَ الْمَذْكُور فِي

(8/323)


الْكتاب.
وَهل يحد إِذا سكر مِنْهُ؟ قيل لَا يحد، وَقَالُوا: الاصح أَنه يحد، إِذْ رُوِيَ عَن مُحَمَّد فِيمَن سكر من الاشربة أَنه يحد بِلَا تَفْصِيل، إِذْ الْفُسَّاق يَجْتَمعُونَ عَلَيْهِ فِي زَمَاننَا كَمَا على سَائِر الاشربة بل فَوق ذَلِك.
يَقُول الحقير: قَوْله الاصح مُوَافق لما اخْتَارَهُ صَاحب الْمَبْسُوط كَمَا مر، لكنه مُخَالف لما نَقله قاضيخان عَن الْفَقِيه أبي جَعْفَر، وَلما نَقله الْبَزْدَوِيّ أَيْضا عَن أبي حنيفَة، كَمَا مر كِلَاهُمَا فِي أول المبحث، وَالله تَعَالَى أعلم بِالصَّوَابِ.
هِدَايَة المثلث.
العنبي حَلَال عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف إِذا قصد بِهِ التقوية لَا التلهي.
وَعند مُحَمَّد: حرَام، وَعنهُ أَنه حَلَال، وَعند أَنه مَكْرُوه، وَعنهُ أَنه توقف فِيهِ مختارات النَّوَازِل نَبِيذ تمر ونبيذ زبيب إِذا طبخ أدنى طبيخ، وَإِن اشْتَدَّ إِذا شرب مَا يغلب على ظَنّه أَنه لَا يسكر من غير لَهو وَلَا طرب جَازَ عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف، وَهُوَ الصَّحِيح، لانه أبعد من تفسيق الصَّحَابَة رَضِي الله تَعَالَى عَنْهُم، ونبيذ حِنْطَة وشعير وَعسل حَلَال وَإِن لم يطْبخ إِذا شرب مِنْهُ بِلَا لَهو، عِنْد أبي حنيفَة وَأبي يُوسُف فَهُوَ المثلث وَلَا يحد شَاربه عِنْدهمَا، وَلَا يَقع طَلَاقه وَإِن سكر مِنْهُ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ حَرَامٌ، وَيُحَدُّ شَارِبُهُ إذَا سكر مِنْهُ، وَيَقَع طَلَاقه.
والاصح فِيهِ قَول مُحَمَّد، وَكَذَا الْمُتَّخذ من الالبان إِذا اشْتَدَّ، فَهُوَ على هَذَا الْخلاف أشباه.
صَرَّحُوا بِكَرَاهَة أَذَان السَّكْرَان، والاستحباب الاعادة، وَيَنْبَغِي أَن لَا يَصح أَذَانه كَالْمَجْنُونِ فضك.
سَكرَان جمح فرسه فاصطدم إنْسَانا فَمَاتَ، لَو كَانَ يقدر على مَنعه فَلَيْسَ بمسير لَهُ فَلَا يُضَاف إِلَيْهِ سيره، وَكَذَا غير السَّكْرَان لَو عَاجِزا عَن مَنعه.
زوج بنته الصَّغِيرَة بِأَقَلّ من مهرهَا: لَو صَاحِيًا جَازَ عِنْد أبي حنيفَة، أما عِنْدهمَا فَقيل: يجوز النِّكَاح لَا النُّقْصَان، وَنَصّ فِي جمع أَنه لَا يجوز النِّكَاح عِنْدهمَا، وَلَو فِي سكر اخْتلف على قَول أبي حنيفَة، قيل يجوز، وَقيل لَا، وَهُوَ الصَّحِيح فَقَط.
تزوج امْرَأَة بِحَضْرَة سكارى وَعرفُوا أَمر النِّكَاح إِلَّا أَنهم لَا يذكرُونَ بعد صحوهم جَازَ ط.
وَكله بِطَلَاق فَطلقهَا وَهُوَ سَكرَان، فَلَو وَكله وَهُوَ سَكرَان يَقع إِذْ رَضِي بعبارته، وَلَو وَكله وَهُوَ صَاح لَا يَقع إِذْ رَضِي بِعِبَارَة الصاحي لَا السَّكْرَان خَ.
وَكيل بيع وَشِرَاء إِذا سكر نَبِيذ تمر: فَلَو يعرف البيع وَالشِّرَاء وَالْقَبْض قَالَ سنجر: جَازَ عقده على مُوكله كَمَا بَاشر لنَفسِهِ لَا لَو ببنج كمعتوه.
وَقَالَ غَيره: لَا يجوز فِي النَّبِيذ أَيْضا، إِذْ بيع السَّكْرَان إِنَّمَا جَازَ زجرا عَلَيْهِ فَلَا يجوز على مُوكله، فَسقط رد الْغَصْب على سَكرَان وَرفع ثَوْبه للْحِفْظ مر فِي أَوَائِل فصل الضَّمَان انْتهى.
قَالَ بعض الْفُضَلَاء: وَهل يدْخل فِي ذَلِك تَصَرُّفَات الصَّبِي السَّكْرَان من إِسْلَامه وَغَيره؟ وَكَانَت وَاقعَة الْفَتْوَى تَأمل.
أَقُول: الظَّاهِر أَنه لَا يدْخل فِي ذَلِك، لَان الْبَالِغ السَّكْرَان من محرم جعل مُخَاطبا زجرا لَهُ وتغليظا عَلَيْهِ، وَالصَّبِيّ لَيْسَ أَهلا للزجر والتغليظ.
كَذَا ذكره فِي الْحَوَاشِي الْحَمَوِيّ.

قَوْله: (بَطل إِقْرَاره) قَالَ فِي الذَّخِيرَة: من أقرّ لانسان بشئ وَكذبه الْمقر لَهُ فَقَالَ الْمقر أَنا أقيم الْبَيِّنَة على ذَلِك لَا تقبل بَينته اهـ.
بيري.
وَلَو عَاد الْمقر فِي الاقرار ثَانِيًا وَصدقه الْمقر لَهُ كَانَ للْمقر لَهُ أَن يؤاخذه بِإِقْرَارِهِ الثَّانِي.
تاترخانية.
وَالْمعْنَى: أَنه إِذا كذبه ثمَّ صدقه لَا يعْمل تَصْدِيقه إِلَّا فِي الْمَوَاضِع الْمَذْكُورَة فَإِنَّهُ يعْمل تَصْدِيقه بعد التَّكْذِيب ط.

(8/324)


أَقُول: وَمَا نَقله فِي التاترخانية اسْتِحْسَان، وَالْقِيَاس أَن لَا يكون لَهُ ذَلِك، وَفِي الذَّخِيرَة: وَصدقه الْمقر لَهُ بِأَن قَالَ لَك عَليّ ألف دِرْهَم فَقَالَ الْمقر لَهُ أجل لي عَلَيْك، وَلَو أقرّ بِالْبيعِ وَجحد المُشْتَرِي وَوَافَقَهُ الْمقر فِي الْجُحُود أَيْضا ثمَّ إِن الْمقر لَهُ ادّعى الشِّرَاء لَا يثبت الشِّرَاء، وَإِن أَقَامَ المُشْتَرِي بَيِّنَة على ذَلِك وَلَو صدقه البَائِع على الشِّرَاء يثبت الشِّرَاء.
اهـ.
قَالَ السَّيِّد الْحَمَوِيّ أَقُول: وَجه الْقيَاس أَن الاقرار الثَّانِي عين الْمقر بِهِ أَولا فالتكذيب فِي الاول تَكْذِيب فِي الثَّانِي.
وَوجه الِاسْتِحْسَان أَن يحْتَمل أَنه كذبه بِغَيْر حق لغَرَض من الاغراض الْفَاسِدَة فَانْقَطع عَنهُ ذَلِك الْغَرَض، فَرجع إِلَى تَصْدِيقه فجَاء الْحق وزهق الْبَاطِل.
اهـ.

قَوْلُهُ: (عَلَى مَا هُنَا) أَيْ عَلَى مَا فِي الْمَتْنِ، وَإِلَّا فَسَيَأْتِي زِيَادَةٌ عَلَيْهَا.

قَوْلُهُ: (الاقرار بِالْحُرِّيَّةِ) فَإِذَا أَقَرَّ أَنَّ الْعَبْدَ الَّذِي فِي يَده حر تثبت حُرِّيَّته، وَإِن كذبه العَبْد ط.

قَوْله: (وَالنّسب) قد تقدم فِي بَاب دَعْوَى النّسَب فِيمَا تصح فِيهِ دَعْوَى الرجل وَالْمَرْأَة أَنه لَا بُدَّ مِنْ تَصْدِيقِ هَؤُلَاءِ، إلَّا فِي الْوَلَدِ إِذا كَانَ لَا يعبر عَن نَفسه، وَمن جملَة
مَا يشْتَرط تَصْدِيقه مولى الْعتَاقَة، إِلَّا أَن يحمل أَنه إِذا عَاد إِلَى التَّصْدِيق بعد الرَّد يقبل كَمَا قُلْنَا.
وَيدل على ذَلِك عبارَة الْبَحْر فِي المتفرقات فَإِنَّهُ قَالَ: وَقد بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ وَالطَّلَاقِ وَالْعتاق وَالنّسب وَالْوَلَاء فَإِنَّهَا لَا ترتد بِالرَّدِّ، أَمَّا الثَّلَاثَةُ الْأُوَلُ فَفِي الْبَزَّازِيَّةِ: قَالَ لِآخَرَ أَنَا عَبْدُكَ فَرَدَّ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ فَهُوَ عَبْدُهُ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ بِالرَّدِّ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِجُحُودِ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ حَيْثُ يَبْطُلُ بِالرَّدِّ، وَالطَّلَاق وَالْعتاق لَا يبطلان بِالرَّدِّ لانهم إسْقَاطٌ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ مِنْ الْوَلَاءِ، وَأما الاقرار بِالنِّكَاحِ فَلم أره الْآن.
اهـ.
فتصور الْمسَائِل الْمَذْكُورَة هُنَا مثل تَصْوِير الرّقّ إِلَّا الطَّلَاق وَالْعتاق لما علل بِهِ ط.

قَوْله: (وَالْوَقْف) قَالَ فِي الاشباه: أَنَّ الْمُقَرَّ لَهُ إذَا رَدَّهُ ثُمَّ صَدَّقَهُ صَحَّ كَمَا فِي الاسعاف.

قَوْله: (فِي الاسعاف لَو وقف على رجل الخ) يُشِير بِهِ للرَّدّ على الْمَتْن، وَلَكِن رَأَيْت معزيا للخزانة مَا يُوَافق الْمَتْن، وَهُوَ لَو قَالَ لَا أقبل يبطل، وَقيل لَا يبطل، وَهُوَ الْمُخْتَار عِنْد بعض الْمُتَأَخِّرين اهـ.
لَكِن فِيهِ أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْإِقْرَارِ بِالْوَقْفِ لَا فِي الْوَقْفِ، وَأَيْضًا الْكَلَامُ فِيمَا لَا يَرْتَدُّ وَلَوْ قَبْلَ الْقَبُولِ عَلَى أَنَّ عِبَارَةَ الْإِسْعَافِ عَلَى مَا فِي الاشباه والمنح هَكَذَا: وَيُزَاد الْوَقْف، فَإِن الْمقر لَهُ إِذا زَاده ثمَّ صدقه صَحَّ، وَهِي مُوَافقَة لما نَحن بِذكرِهِ من أَن الاقرار لَا يرْتَد بِالرَّدِّ وَلَو قبل الْقبُول، وَمَا نَقله الشَّارِح من أَن الْوَقْف يرْتَد بِالرَّدِّ قبل الْقبُول لَا بعده هُوَ غير مَا نَحن فِيهِ.
وَنقل الْحَمَوِيّ عَن الاسعاف مَا يُنَاسب هَذَا فَقَالَ: وَلَوْ أَقَرَّ لِرَجُلَيْنِ بِأَرْضٍ فِي يَدِهِ أَنَّهَا وقف عَلَيْهِمَا أَو على أَوْلَادِهِمَا وَنَسْلِهِمَا أَبَدًا ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِمْ عَلَى الْمَسَاكِين فَصدقهُ وَكَذَّبَهُ الْآخَرُ وَلَا أَوْلَادَ لَهُمَا يَكُونُ نِصْفُهَا وَقْفًا عَلَى الْمُصَدِّقِ مِنْهُمَا وَالنِّصْفُ الْآخَرُ لِلْمَسَاكِينِ لَو رَجَعَ الْمُنْكِرُ إلَى التَّصْدِيقِ رَجَعَتْ الْغَلَّةُ إلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ أَقَرَّ لِرَجُلٍ بِأَرْضٍ فكذبه الْمقر لَهُ فَإِنَّهَا تصير لَهُ مَا لم يقر لَهُ ثَانِيًا.
وَالْفَرْقُ أَنَّ الْأَرْضَ الْمُقَرَّ بِوَقْفِيَّتِهَا لَا تَصِيرُ مِلْكًا لِأَحَدٍ بِتَكْذِيبِ الْمُقَرِّ لَهُ، فَإِذَا رَجَعَ تَرْجِعُ إلَيْهِ وَالْأَرْضُ الْمُقَرُّ بِكَوْنِهَا مِلْكًا ترجع إِلَى ملك الْمقر بالتكذيب.
اهـ.
وَهَذَا غير مَا نَقله الشَّارِح عَنهُ كَمَا علمت، وَهُوَ الْمُنَاسب للمقام والملائم لَان الْمقر لَهُ قد كذب الْمقر ثمَّ صدقه يَصح

(8/325)


تَصْدِيقه، فَتَأمل.

قَوْله: (وَالرّق) أَي لَو قَالَ لَهُ أَنا رفيقك فَأنْكر ثمَّ ادَّعَاهُ وَصدقه العَبْد صَحَّ، وَمِنْه مَا
قدمه الشَّارِح فِي كتاب الْعتْق عَن الْخُلَاصَة: قَالَ لعَبْدِهِ أَنْت غير مَمْلُوك الخ.

قَوْله: (وَيُزَاد الْمِيرَاث) أَي فَلَا يعْمل رد الْوَارِث إِرْثه من الْمُورث.

قَوْله: (كَمَا فِي متفرقات قَضَاءِ الْبَحْرِ) وَعِبَارَتُهُ: قُيِّدَ بِالْإِقْرَارِ بِالْمَالِ احْتِرَازًا عَنْ الْإِقْرَارِ بِالرِّقِّ وَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ وَالنَّسَبِ وَالْوَلَاءِ، فَإِنَّهَا لَا ترتد بِالرَّدِّ.
أما الثَّلَاثَة الاولى، فَفِي الْبَزَّازِيَّةِ قَالَ لِآخَرَ أَنَا عَبْدُكَ فَرَدَّ الْمُقَرُّ لَهُ ثُمَّ عَادَ إلَى تَصْدِيقِهِ فَهُوَ عَبْدُهُ، وَلَا يَبْطُلُ الْإِقْرَارُ بِالرِّقِّ بِالرَّدِّ كَمَا لَا يَبْطُلُ بِجُحُودِ الْمَوْلَى، بِخِلَافِ الْإِقْرَارِ بِالْعَيْنِ وَالدَّيْنِ حَيْثُ يَبْطُلُ بِالرَّدِّ، وَالطَّلَاقُ وَالْعَتَاقُ لَا يَبْطُلَانِ بِالرَّدِّ لِأَنَّهُمَا إسْقَاطٌ يَتِمُّ بِالْمُسْقِطِ وَحْدَهُ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنَّسَبِ وَوَلَاءِ الْعَتَاقَةِ فَفِي شَرْحِ الْمَجْمَعِ مِنْ الْوَلَاءِ، وَأَمَّا الْإِقْرَارُ بِالنِّكَاحِ فَلَمْ أره الْآن انْتهى
قَوْله: (وَاسْتثنى ثمَّة مَسْأَلَتَيْنِ من الابراء) أَي من قَوْلهم الابراء يرْتَد بِالرَّدِّ، وَلَا حَاجَة إِلَى ذكرهمَا هُنَا فَإِنَّهُمَا ليسَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ ح: أَيْ لِأَنَّ الْكَلَامَ فِي الاقرار وَمَا ذكره فِي الابراء.
وَعبارَته قَالَ: ثمَّ اعْلَم أَن الابراء يرْتَد إلَّا فِيمَا إذَا قَالَ الْمَدْيُونُ أَبْرِئْنِي فَأَبْرَأَهُ فَإِنَّهُ لَا يَرْتَدُّ كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّةِ، وَكَذَا إبْرَاءُ الْكَفِيلِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، فَالْمُسْتَثْنَى مَسْأَلَتَانِ، كَمَا أَنَّ قَوْلَهُمْ إنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَتَوَقَّفُ على الْقبُول وَلَا يَخْرُجُ عَنْهُ الْإِبْرَاءُ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَإِنَّهُ يتَوَقَّف على الْقبُول ليبطلاه كَمَا قدمنَا فِي بَاب السّلم.
وَالْحَاصِل: أَن الْكَلَام فِي أَن الاقرار يرْتَد بِالرَّدِّ إِلَّا فِي مسَائِل، وَهَاتَانِ المسألتان ليستا مِنْهَا، وَحِينَئِذٍ فَلَا وَجه لزِيَادَة ذَلِك.
قَالَ فِي كتاب المداينات: الاقرار يرْتَد بِالرَّدِّ إِلَّا فِي مسَائِل: الاولى: إِذا أَبْرَأ الْمُحْتَال عَلَيْهِ فَرده لم يرْتَد.
الثَّانِيَة: إِذا قَالَ الْمَدْيُون أبرئني فَأَبْرَأهُ فَرده وَلَا يرْتَد.
الثَّالِثَة: إِذا أَبْرَأ الطَّالِب الْكَفِيل فَرده لم يرْتَد، وَقِيلَ يَرْتَدُّ.
الرَّابِعَةُ: إذَا قَبِلَهُ ثُمَّ رَدَّهُ لم يرْتَد اهـ.
إِلَّا أَن يُرَاد بقوله وَاسْتثنى مَسْأَلَتَيْنِ من قَوْلهم الابراء يرْتَد بِالرَّدِّ: أَي كَمَا أَنه يسْتَثْنى من قَوْلَهُمْ إنَّ الْإِبْرَاءَ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ، إِلَّا الْإِبْرَاءُ عَنْ بَدَلِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ فَإِنَّهُ يَتَوَقَّفُ على الْقبُول ليبطلاه، فَإِذا كَانَ الابراء فِي هَاتين الْمَسْأَلَتَيْنِ لَا يرْتَد بِالرَّدِّ وَإِن لم يقبله بعد فَمن بَاب أولى إِذا رده ثمَّ قبله فَإِنَّهُ لَا يبطل، وَبِهَذَا الِاعْتِبَار عدهما مَسْأَلَتَيْنِ مِمَّا نَحن فِيهِ، فَتَأَمّله.

قَوْله: (فالمستثنى عشرَة) أَي على هَذَا الْمقَال.

قَوْله: (وَمَتى صدقه فِيهَا) أَي فِي الاقرار بِعَين أَو دين والابراء وَالْوكَالَة وَالْوَقْف، هَذَا مَا تفيده عبارَة الْعَلامَة عبد الْبر ط.
أَقُول: ذكر فِي شرح الْوَهْبَانِيَّة خمس مسَائِل: مَسْأَلَة الْوكَالَة، فَقَالَ لَو قَالَ لآخر وَكلتك بِبيع هَذَا وَسكت يصير وَكيلا، وَلَو قَالَ لَا أقبل بَطل، وَسَيَأْتِي فِي المقولة الْآتِيَة إِمْكَان تصويرها، وَهَذِه الْمَسْأَلَة الاولى من النّظم.
وَقَالَ أَيْضا: الاقرار والابراء لَا يحتاجان إِلَى الْقبُول ويرتدان بِالرَّدِّ وَهنا أَن الثَّانِيَة وَالثَّالِثَة من النّظم.
وَقَالَ أَيْضا: إِذا سكت الْمَوْقُوف عَلَيْهِ فِي الْوَقْف على فلَان جَازَ، وَلَو قَالَ لَا أقبل بَطل، وَفِي وقف الاصل لَا تبطل.
وَهَذِه الْمَسْأَلَة الْخَامِسَة من النّظم، ثمَّ قَالَ: وَلَو صدقه فِي هَذَا كُله

(8/326)


ثمَّ رده لَا يرْتَد انْتهى، فَغير هَذَا الشَّارِح عِبَارَته إِلَى مَا ترى، فضمير فِيهَا يرجع إِلَى أَربع مسَائِل مَذْكُورَة فِي شرح الوهبانة، لَا إِلَى الْوكَالَة، وَالْمَسْأَلَة الرَّابِعَة من شرح الْوَهْبَانِيَّة هِيَ هبة الدّين مِمَّن عَلَيْهِ الدّين لَا تصح من غير قبُول، خلافًا لزفَر.
كَذَا اخْتَار السَّرخسِيّ: وَقيل الْخلاف على الْعَكْس، وَفِي قاضيخان مثله، وَذكر أَبُو اللَّيْث أَنَّهَا تصح من غير قبُول إِلَّا أَنَّهَا تبطل بِالرَّدِّ، وَفِي الذَّخِيرَة والواقعات أَن عَامَّة الْمَشَايِخ على أَن هبة الدّين وإبراءه يتم من غير قبُول.
وَفِي الْعمادِيَّة: الْمَذْكُور فِي أَكثر الْكتب والشروح: أَن الْقبُول لَيْسَ بِشَرْط عندنَا وَهُوَ الصَّحِيح، ثمَّ ذكر عَن الصُّغْرَى أَنه يرْتَد بِالرَّدِّ انْتهى، فَهَذِهِ خمس مسَائِل، لَكِن لم يذكر قَوْله وَلَو صدقه فِي هَذَا كُله، إِلَّا بعد الاربعة الاول، وَهِي الْوكَالَة والاقرار والابراء وَالْوَقْف، وَلَا شكّ أَن هَذَا الْمَقْصُود لَا يفهم من هَذَا الشَّرْح.

قَوْله: (لَا يرْتَد بِالرَّدِّ) قد علمت أَن من جملَة مرجع الضَّمِير الْوكَالَة وَهِي عقد غير لَازم، فَكيف لَا ترتد بِالرَّدِّ، وَيُمكن تصويرها فِيمَا إِذا وَكله بشرَاء معِين وَقبل الْوكَالَة فَاشْتَرَاهُ بِمثل مَا عين لَهُ من قدر الثّمن ثمَّ ادّعى أَنه رد الْوكَالَة فَلَا يقبل ط.

قَوْله: (وَهل يشْتَرط لصِحَّة الرَّد مجْلِس الابراء) ذكره الْعَلامَة عبد الْبر فِي إِبْرَاء الدَّائِن مديونه من الدّين، وَعبارَته بعد ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة، وَهل يشْتَرط لصِحَّة الرَّد مجْلِس الابراء؟ اخْتلف الْمَشَايِخ.
وَلَو قَالَ أبرئني مِمَّا لَك عَليّ فَقَالَ أَبْرَأتك فَقَالَ لَا أقبل فَهُوَ برِئ.
وَفِي بعض النّسخ.
هبة
الدّين مِمَّن عَلَيْهِ لَا تتمّ إِلَّا بِالْقبُولِ، والابراء يتم لَكِن للمديون حق الرَّد قبل مَوته إِن شَاءَ انْتهى.

قَوْله: (وَالضَّابِط) قَالَ الْعَلامَة عبد الْبر عَن تَقْوِيم الدبوسي: الصَّدَقَة بِالْوَاجِبِ: أَي الثَّابِت فِي الذِّمَّة إِسْقَاط كصدقة الدّين على الْغَرِيم، وَهبة الدّين لَهُ فتتم لَهُ بِغَيْر قبُول، وَكَذَا سَائِر الاسقاطات تتمّ من غير قبُول، إِلَّا أَنَّ مَا فِيهِ تَمْلِيكُ مَالٍ مِنْ وَجْهٍ قبل الارتداء بِالرَّدِّ، وَمَا لَيْسَ فِيهِ تمْلِيك مَال لم يقبل كإبطال حق الشُّفْعَة وَالطَّلَاق، وَهَذَا ضَابِط جيد فَتنبه لَهُ.
اهـ.
قَالَ بعض الْفُضَلَاء: هَذَا الضَّابِط ظَاهر فِيمَا يقبل الرَّد من الانشاءات، لَكِن هُوَ خَارج عَمَّا الْبَحْث فِيهِ من كَون الاقرار يرْتَد أَو لَا يرْتَد، إِذْ الاقرار لَا تمْلِيك فِيهِ.
تَأمل.

قَوْله: (صَالح الخ) وليت هَذَا الْفَرْع مَا جعل متْنا وَلَا شرحا، إِذْ أصل الْعبارَة: قَالَ تَاج الاسلام: وبخط شيخ الْإِسْلَامِ وَجَدْتُهُ: صَالَحَ أَحَدَ الْوَرَثَةِ وَأَبْرَأَ إبْرَاءً عَاما ثمَّ ظهر شئ فِي التَّرِكَة لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الصُّلْحِ لَا رِوَايَةَ فِي جَوَاز الدَّعْوَى، وَلقَائِل أَيْن يَقُول: يجوز دَعْوَى حِصَّتِهِ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُول: لَا اهـ.
ثمَّ اختصرها فِي الاشباه وَتَبعهُ هُنَا.
قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيّ: نقلهَا فِي الاشباه بِمَا فِيهِ اشْتِبَاه لَا يَلِيق، لانه معزو إِلَى الْخط، وَفِيه نظر، وَبرهن عَلَيْهِ فِي رِسَالَة اهـ.
وَيُؤَيِّدهُ مَا سَيَأْتِي: لَو صَالح الْوَرَثَة أحدهم ثمَّ ظهر عين لم يعلموها هَل تدخل فِي الصُّلْح؟ قَولَانِ: أشهرهما: لَا، فَهَذَا بِلَا إِبْرَاء فِيهِ رِوَايَة مَشْهُورَة بِعَدَمِ السماع، فَكيف مَعَ الابراء الَّذِي بمفرده يمْنَع السماع.

(8/327)


قَالَ فِي الْمُحِيطِ: لَوْ أَبْرَأَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ الْبَاقِيَ ثُمَّ ادّعى التَّرِكَة وأنكروا لَا تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالتَّرِكَةِ أُمِرُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ اهـ: أَي لَان الابراء عَن الْعين إِذا منع دَعْوَاهَا فمصادقتهم لَهُ يعْمل بهَا، وَأَيْضًا فرع الْمَتْن يحْتَمل أَن يكون مَا ظهر تَحت يَد الْوَرَثَة وَأَنَّهُمْ أقرُّوا بِأَنَّهُ من التَّرِكَة بعد ذَلِك فَيكون بِسَبَب الصُّلْح فِيهِ رِوَايَتَانِ: قيل لَا تسمع دَعْوَاهُ لَان الْمصَالح خرج عَن كل التَّرِكَة، والاشهر تسمع لانه مَا خرج إِلَّا من قدر مَا علم، فَإِذا انْضَمَّ الابراء إِلَيْهِ رُبمَا ازْدَادَ غير الاشهر قُوَّة عَلَيْهِ وَإِذا كَانَت تَحت يَد أَجْنَبِي، فَكَذَا يُقَال: إِلَّا أَن الابراء لَا يُقَوي غير الاشهر، لعدم يَد المبرأ، وخلط الشَّارِح يَد الْوَصِيّ بِهَذَا الْفَرْع فِيهِ نظر آخر، وَإِن ظَهرت تَحت يَد الْوَرَثَة وأنكروا أَنه من التَّرِكَة فالابراء بِانْفِرَادِهِ
مَانع من الدَّعْوَى، فَكيف مَعَ الصُّلْح؟ فَكيف كَانَ قَوْله لَا رِوَايَة فِيهِ، فِيهِ مَا فِيهِ، بل قيل يعْمل بالابراء الْوَاقِع فِي ضمن الصُّلْح ظهر فَسَاده بفتوى الائمة، فَكيف بِهِ فِي الصَّحِيح؟ فليت التَّاج أَخذ تَخْرِيجه على هَذَا.
وَيُمكن تَوْجِيهه بِأَنَّهُ أَرَادَ أَنه ظهر تَحت يَد أَجْنَبِي، وَتقدم عَن ابْن الْغَرْس أَنه لَو أَبْرَأ مُطلقًا ثمَّ ظهر أَنه كَانَ قبل الابراء مَشْغُول الذِّمَّة بشئ من تَرِكَة أبي المبرئ وَلم يعلم بذلك وَلَا بِمَوْت أَبِيه إِلَّا بعد الابراء عمل الابراء عمله، وَلَا يعْذر المبرئ.
وَفِي الْخُلَاصَة أَبرَأَهُ عَن الدَّعَاوَى ثمَّ ادّعى عَلَيْهِ مَالا بالارث عَن أَبِيه: إِن مَاتَ أَبوهُ قبل إبرائه صَحَّ الابراء وَلَا تسمع دَعْوَاهُ، وَإِن لم يعلم بِمَوْت الاب عِنْد الابراء.
اهـ.
وَيَأْتِي تَمام الْكَلَام على ذَلِك قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْلُهُ: (أَوْ قَالَ) عُطِفَ عَلَى صَالِحٍ لِأَنَّهَا مَسْأَلَة أُخْرَى.

قَوْله: (أَو قبضت الْجَمِيع) أَي لَو أقرّ الْوَارِث أَنه قبض مَا عَلَى النَّاسِ مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ ثُمَّ ادّعى على رجل دينا تسمع دَعْوَاهُ.
منح عَن الْخَانِيَّةِ.
وَصِيُّ الْمَيِّتِ إذَا دَفَعَ مَا كَانَ فِي يَدِهِ مِنْ تَرِكَةِ الْمَيِّتِ إلَى وَلَدِ الْمَيِّتِ وَأَشْهَدَ الْوَلَدَ عَلَى نَفْسِهِ أَنَّهُ قَبَضَ التَّرِكَةَ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ تَرِكَةِ وَالِدِهِ قَلِيلٌ وَلَا كَثِيرٌ إلَّا قَدْ اسْتَوْفَاهُ ثُمَّ ادَّعَى فِي يَدِ الْوَصِيِّ شَيْئًا وَقَالَ مِنْ تَرِكَةِ وَالِدي وَأقَام على ذَلِك بَيِّنَة قبلت بَينته.
قلت: وَوجه قبُولهَا أَنَّ إقْرَارَ الْوَلَدِ لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْرَاءَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَكَذَا إقْرَارُ الْوَارِثِ بِقَبْضِهِ جَمِيعَ مَا عَلَى النَّاسِ لَيْسَ فِيهِ إبْرَاءٌ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا لِلْبَرَاءَةِ فَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الْأَعْيَانِ.
شَرْحُ وَهْبَانِيَّةٍ لِلشُّرُنْبُلَالِيِّ.
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ عَدَمَ صِحَّتِهَا مَعْنَاهُ: أَنْ لَا تَصِيرَ مِلْكًا لِلْمُدَّعَى عَلَيْهِ، وَإِلَّا فَالدَّعْوَى لَا تُسْمَعُ كَمَا يَأْتِي فِي الصُّلْح.

قَوْله: (ثمَّ ظهر فِي يَد وَصِيّه) هَذَا إِنَّمَا يظْهر فِي مَسْأَلَة الْوَصِيّ لَا فِي غَيرهَا، فَلَو سَاق المُصَنّف بِتَمَامِهِ إِلَى.

قَوْله: (وَقت الصُّلْح) ثمَّ يَقُول أَو ادّعى فِي يَد الْوَصِيّ شَيْئا وَقَالَ هَذَا من تَرِكَة وَالِدي أَو ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا لِوَالِدِهِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ فِيمَا ذكر لَكَانَ أنسب، فَتَأمل.

قَوْله: (لم يكن وَقت الصُّلْح) أَي لم يذكر.

قَوْله: (وتحققه) المُرَاد أَنه أثْبته، وَإِلَّا فتحققه من غير إِثْبَات لَا يعْتَبر.

قَوْله: (تسمع دَعْوَى حِصَّته مِنْهُ على الاصح) قَالَ فِي الدُّرَر: وَفِي المنتفى إِذا دفع الْوَصِيّ إِلَى
الْيَتِيم مَاله بعد الْبلُوغ فَأشْهد الْيَتِيم على نَفسه أَنه قبض جَمِيع تَرِكَة وَالِده وَلم يبْق لَهُ من تَرِكَة وَالِده قَلِيل أَو كثير إِلَّا وَقد اسْتَوْفَاهُ ثمَّ ادّعى شَيْئا فِي يَد الْوَصِيّ وَقَالَ هُوَ من تَرِكَة أبي وَأقَام الْبَيِّنَة قبلت بَينته،

(8/328)


وَكَذَا لَو أقرّ الْوَارِث أَنه قد استوفى جَمِيع مَا ترك وَالِده من الدّين على النَّاس ثمَّ ادّعى دينا على رجل تسمع دَعْوَاهُ انْتهى.
قَالَ الشُّرُنْبُلَالِيّ: وَصِحَّة دَعْوَاهُ بِهِ لعدم مَا يمْنَع مِنْهَا، لانه إشهادة أَنه قبض جَمِيع تَرِكَة وَالِده الخ لَيْسَ فِيهِ إِبْرَاء الْمَعْلُوم عَنْ مَعْلُومٍ وَلَا عَنْ مَجْهُولٍ، فَهُوَ إقْرَارٌ مُجَرّد لَا يسْتَلْزم إِبْرَاء فَلَيْسَ مَانِعا من دَعْوَاهُ، ثمَّ قَالَ: وَكَذَلِكَ الحكم فِي إِقْرَار الْوَارِث أَنه استوفى دين وَالِده، فَلَا يمْنَع هَذَا الاقرار دَعْوَى الْوَارِث بدين لمورثه على خصم لَهُ، لانه إِقْرَار غير صَحِيح لعدم إبرائه شخصا معينا أَو قَبيلَة مُعينَة، وهم يُحصونَ، وَهَذَا بِخِلَاف الاباحة لكل من يَأْكُل شَيْئا من ثَمَرَة بستانه فَإِنَّهُ يجوز، وَبِه يُفْتى، وَبِخِلَاف الابراء عَن مَجْهُول لمعلوم فَإِنَّهُ صَحِيح كَقَوْل زيد لعَمْرو حاللني من كل حق لَك عَليّ فَفعل برِئ مِمَّا علم وَمِمَّا لم يعلم، وَبِه يُفْتى.
اهـ.
قَالَ فِي الخزانة: رجل قَالَ لآخر حاللني من كل حق لَك عَليّ: إِن كَانَ صَاحب الْحق عَالما بِمَا عَلَيْهِ برِئ الْمَدْيُون حكما وديانة، وَإِن لم يكن عَالما بِمَا عَلَيْهِ برِئ حكما لَا ديانَة فِي قَول مُحَمَّد.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف: يبرأ حكما وديانة، وَعَلِيهِ الْفَتْوَى اهـ.
قبل وَإِن لم تسمع الدَّعْوَى لَا يحلف لَان الْيَمين فرع الدَّعْوَى، إِلَّا أَن يَدعِي عدم صِحَة إِقْرَاره بِأَن قَالَ كنت مكْرها فِي إقراري أَو كذبت فِيهِ فَإِنَّهُ يحلف الْمقر لَهُ فَقَوْلهم لعدم صِحَة الدَّعْوَى وَعدم التَّحْلِيف بعد الابراء الْعَام إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذا لم يَقع النزاع فِي نفس الاقرار الَّذِي تبتني عَلَيْهِ الدَّعْوَى وَالْيَمِين.
تَأمل.
وَلَا تغفل عِنْد الْفَتْوَى فَإِنَّهُ بحث بَعضهم معي فِي ذَلِك انْتهى.
حموي.

قَوْله: (صلح الْبَزَّازِيَّة) عبارتها: قَالَ تَاج الاسلام وبخط شيخ الْإِسْلَامِ وَجَدْتُهُ: صَالَحَ أَحَدَ الْوَرَثَةِ وَأَبْرَأَ إبْرَاءً عَاما ثمَّ ظهر فِي التَّرِكَة شئ لَمْ يَكُنْ وَقْتَ الصُّلْحِ لَا رِوَايَةَ فِي جَوَازِ الدَّعْوَى، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَجُوزُ دَعْوَى حِصَّتِهِ مِنْهُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ لَا انْتَهَت.

قَوْله: (وَلَا تنَاقض) هَذَا وَارِد على مَا إِذا قَالَ الْوَارِث للْوَصِيّ قبضت تَرِكَة وَالِدي وَلم يبْق لي
حق من تَرِكَة وَالِدي لَا قَلِيل، وَلَا كثير، وَحَاصِل الابراء كَمَا فِي الْمنح وَأَصله لِابْنِ وهبان أَن قَوْلهم النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تعم انْتقض، لَان قَوْله وَلم يبْق لي حق نكرَة فِي سِيَاق النَّفْي، فعلى مُقْتَضى الْقَاعِدَة لَا يَصح دَعْوَاهُ بعد ذَلِك لتناقضه، والمتناقض لَا تقبل دَعْوَاهُ وَلَا بَينته، ثمَّ أجَاب بِمَا ذكره الْمُؤلف ط.

قَوْله: (على أَن الابراء عَن الاعيان بَاطِل) أَي الصَّادِر من الْوَارِث للْوَصِيّ، وَالْمعْنَى: لَو أبقينا عُمُوم النكرَة لَا يَصح لما ذكره، وَظَاهر هَذَا، وَلَو ذكرت وَقت الصُّلْح حَيْثُ كَانَ الصُّلْح عَنْهَا نَفسهَا لَا عَن بدلهَا مستهلكة، لَان الابراء يَشْمَل الدَّرَاهِم وَالدَّنَانِير الَّتِي فِي يَد الْمُوصي أَو بَاقِي الْوَرَثَة، إِذْ هِيَ أَعْيَان وَالدّين مَا يكون ثَابتا فِي الذِّمَّة.
أَقُول: وكما أَن الابراء عَن الاعيان بَاطِل، فَكَذَا إجَازَة تلف الْمُتْلفَات.
قَالَ فِي الْوَجِيز من الدَّعْوَى: أتلف مَال إِنْسَان ثمَّ قَالَ الْمَالِك رضيت بِمَا صنعت وأجزت مَا صنعت لَا يبرأ اهـ.
وَأما الابراء عَن دَعْوَى الاعيان فَصَحِيح، ولوارثا كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّة عَن الْعدة.
وَقَول المُصَنّف: فِي الصُّلْح أَو الابراء عَن دَعْوَى الْبَاقِي صَرِيح فِي ذَلِك، وَقَول الشَّارِح ثمَّة، وَظَاهر الرِّوَايَة الصِّحَّة مُطلقًا يُفِيد صِحَة الْبَرَاءَة عَن الاعيان، ثمَّ حَقَّقَهُ بِحمْل بطلَان الابراء عَن الاعيان على بُطْلَانه فِي الدّيانَة، وَقيد فِي الْبَحْر بطلَان الابراء عَن الاعيان بالانشاء، أما لَو على وَجه الاخبار، كَهُوَ برِئ مِمَّا لِي قِبَلَهُ فَهُوَ صَحِيحٌ

(8/329)


متناول للدّين وَالْعين، وَكَذَا لَا ملك لي فِي هَذَا الْعين.
وَفِي الْمَبْسُوط: وَيدخل فِي لَا حق لي قبل فلَان كل عين أَو دين، وكل كَفَالَة أَو إِجَارَة أَو جِنَايَة أَو حد.
ثمَّ قَالَ شَيخنَا: وَقَوله لَا حق لي وَنَحْوه لَيْسَ من الابراء بل إِقْرَار.
ثمَّ نقل عَن الْفَوَاكِه البدرية مَا نَصه: أَبْرَأ مُطلقًا أَو أقرّ أَنه لَا يسْتَحق عَلَيْهِ شَيْئا ثمَّ ظهر أَن الْمقر لَهُ كَانَ مَشْغُول الذِّمَّة بتركة أبي الْمقر وَلم يعلم الْمقر بذلك وَلَا بِمَوْت أَبِيه إِلَّا بعد الاقرار أَو الابراء عمل الابراء والاقرار عمله وَلَا يعْذر الْمقر كَمَا قدمْنَاهُ.
أَقُول إِنَّمَا لم يفرق بَين الانشاء والاخبار لانه الصَّحِيح وَظَاهر الرِّوَايَة وَفِيه قطع النزاع، وَقد تعورف من الْقُضَاة الْعَمَل عَلَيْهِ، وَقَوله لَيْسَ من الابراء يردهُ قَوْله الْبَزَّازِيَّة: اتّفقت الرِّوَايَات على أَن الْمُدَّعِي لَو قَالَ لَا دَعْوَى لي أَو لَا خُصُومَة لي قبل فلَان يَصح وَلَا تسمع دَعْوَاهُ إِلَّا فِي حق حَادث بعد
الابراء.
اهـ.
وَسَيَأْتِي تَمَامه قَرِيبا إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْله: (كَمَا أَفَادَهُ ابْن الشّحْنَة) لَعَلَّه فِي غير هَذَا الْمحل، فَإِنَّهُ لم يذكرهُ هُنَا عِنْد ذكر هَذِه الْمَسْأَلَة ط.

قَوْله: (وَاعْتَمدهُ الشُّرُنْبُلَالِيّ) أَي فِي حَاشِيَة الدُّرَر وَشرح الْوَهْبَانِيَّة: وَعبارَته فِي الشَّرْح بعد نقل مَا قدمنَا عَن الْمُنْتَقى عازيا لقاضيخان.
فَإِن قلت: أَنَّ إقْرَارَ الْوَلَدِ لَمْ يَتَضَمَّنْ إبْرَاءَ شَخْصٍ مُعَيَّنٍ، وَكَذَا إقْرَارُ الْوَارِثِ بِقَبْضِهِ جَمِيعَ مَا على النَّاس لَيْسَ فِيهِ إِبْرَاء فَتقبل دَعْوَاهُ، وَلَوْ تَنَزَّلْنَا لِلْبَرَاءَةِ فَهِيَ غَيْرُ صَحِيحَةٍ فِي الاعيان، فَإِن الابراء عَن الاعيان لَا يَصح، بِخِلَاف الْبَرَاءَة عَن دَعْوَاهُ.
وَيعلم بِهَذَا أَن لَا نقض على قَول أَئِمَّتنَا النكرَة فِي سِيَاق النَّفْي تعم.
وإيراد صَاحب عقد الْفَرَائِض أَن هَذِه الْمَسْأَلَة انْقِضَاء عَلَيْهَا لظَنّه أَنه من قبيل الابراء وَلَيْسَ كَذَلِك، فَلَا احْتِيَاج لما تكلفه الشَّارِح أَيْضا من الْجَواب.
وَقد قَالَ: إِنَّه ظهر لَهُ أَن الْوَجْه عدم صِحَة الْبَرَاءَة وَهُوَ كَذَلِك، وَهَذَا ملخصه.
اهـ.
وُلِلشُّرُنْبُلَالِيِّ رِسَالَةٌ سَمَّاهَا (تَنْقِيحُ الْأَحْكَامِ فِي الْإِقْرَارِ وَالْإِبْرَاءِ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ) أَجَابَ فِيهَا بِأَنَّ الْبَرَاءَةَ الْعَامَّة بَين الْوَارِثين مَانِعَة من دَعْوَى شئ سَابق عَلَيْهَا عينا كَانَ أَوْ دَيْنًا بِمِيرَاثٍ أَوْ غَيْرِهِ، وَحَقَّقَ ذَلِكَ بِأَنَّ الْبَرَاءَةَ إمَّا عَامَّةٌ كَلَا حَقَّ أَوْ لَا دَعْوَى أَوْ لَا خُصُومَةَ لِي قِبَلَ فلَان أَو هُوَ برِئ مِنْ حَقِّي أَوْ لَا دَعْوَى لِي عَلَيْهِ أَوْ لَا تَعَلُّقَ لِي عَلَيْهِ أَوْ لَا أَسْتَحِقُّ عَلَيْهِ شَيْئًا أَوْ أَبْرَأْته مِنْ حَقِّي أَوْ مِمَّا لِي قِبَلَهُ، وَإِمَّا خَاصَّةً بِدَيْنٍ خَاصٍّ كَأَبْرَأْتُهُ مِنْ دَيْنِ كَذَا أَوْ عَامٍّ كَأَبْرَأْتُهُ مِمَّا لِي عَلَيْهِ فَيَبْرَأُ عَنْ كُلِّ دَيْنٍ دُونَ الْعَيْنِ، وَإِمَّا خَاصَّةً بِعَيْنٍ فَتَصِحُّ لِنَفْيِ الضَّمَانِ لَا الدَّعْوَى فَيَدَّعِي بِهَا عَلَى الْمُخَاطَبِ وَغَيْرِهِ، وَإِنْ كَانَ عَنْ دَعْوَاهَا فَهُوَ صَحِيح كَمَا علمت.
ثمَّ إِن الابراء لشخض مَجْهُولٍ لَا يَصِحُّ، وَإِنْ لِمَعْلُومٍ صَحَّ وَلَوْ بِمَجْهُولٍ، فَقَوْلُهُ قَبَضْتُ تَرِكَةَ مُوَرِّثِي كُلَّهَا أَوْ كل من لي عَلَيْهِ شئ أَو دين فَهُوَ برِئ لَيْسَ إبْرَاءً عَامًّا وَلَا خَاصًّا، بَلْ هُوَ إقْرَارٌ مُجَرَّدٌ لَا يَمْنَعُ مِنْ الدَّعْوَى، لِمَا فِي الْمُحِيطِ قَالَ: لَا دَيْنَ لِي عَلَى أَحَدٍ ثُمَّ ادَّعَى عَلَى رَجُلٍ دَيْنًا صَحَّ لاحْتِمَال وُجُوبه بعد الاقرار اهـ.
أَقُول: لَكِن فِيهِ أَن هَذَا الِاحْتِمَال يصدق فِي الدَّعَاوَى كلهَا أَو أَكْثَرهَا بعد الابراء الْعَام مَعَ أَنَّهَا لَا تسمع.
وَالصَّوَاب التَّعْلِيل بِعَدَمِ صِحَة الابراء للْمَجْهُول.
تَأمل.
وَفِيه أَيْضا: وَقَوله هُوَ برِئ مِمَّا لِي عِنْدَهُ إخْبَارٌ عَنْ ثُبُوتِ الْبَرَاءَةِ لَا إنْشَاءٌ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ: لَا حَقَّ لِي قِبَلَهُ، فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ عَيْنٍ وَدَيْنٍ وَكَفَالَةٍ وَإِجَارَة وَجِنَايَة وحد اهـ.
وَفِي الْأَصْلِ: فَلَا يَدَّعِي إرْثًا وَلَا كَفَالَةَ نَفْسٍ أَوْ مَالٍ وَلَا دَيْنًا أَوْ مُضَارَبَةً أَوْ شَرِكَةً أَوْ وَدِيعَةً أَوْ مِيرَاثًا أَوْ

(8/330)


دَارا أَو عبدا أَو شَيْئا من الاشياء حَادِثا بعد الْبَرَاءَة اهـ.
فَمَا فِي شَرْحِ الْمَنْظُومَةِ عَنْ الْمُحِيطِ: أَبْرَأَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ الْبَاقِيَ ثُمَّ ادَّعَى التَّرِكَةَ وَأَنْكَرَ وَإِلَّا تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالتَّرِكَةِ أُمِرُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ اهـ.
ظَاهِرٌ فِيمَا إذَا لَمْ تَكُنْ الْبَرَاءَةُ عَامَّةٌ لِمَا عَلِمْته، وَلِمَا سَنَذْكُرُ أَنَّهُ لَوْ أَبْرَأَهُ عَامَّا ثُمَّ أَقَرَّ بَعْدَهُ بِالْمَالِ الْمُبْرَأِ بِهِ لَا يَعُودُ بَعْدَ سُقُوطِهِ.
وَفِي الْعِمَادِيَّةِ، قَالَ ذُو الْيَد لَيْسَ هَذَا لي أَو لَيْسَ مِلْكِي أَوْ لَا حَقَّ لِي فِيهِ أَوْ نَحْوَ ذَلِكَ وَلَا مُنَازِعَ لَهُ حِينَئِذٍ ثُمَّ ادَّعَاهُ أَحَدٌ فَقَالَ ذُو الْيَدِ هُوَ لِي فَالْقَوْلُ لَهُ، لِأَنَّ الْإِقْرَارَ لِمَجْهُولٍ بَاطِلٌ، وَالتَّنَاقُضُ إنَّمَا يَمْنَعُ إذَا تَضَمَّنَ إبْطَالَ حَقٍّ عَلَى أحد اهـ.
وَمِثْلُهُ فِي الْفَيْضِ وَخِزَانَةِ الْمُفْتِينَ.
فَبِهَذَا عَلِمْتَ الْفَرْقَ بَيْنَ أَبْرَأْتُك أَوْ لَا حَقَّ لِي قِبَلَك وَبَيْنَ قَبَضْتُ تَرِكَةَ مُوَرِّثِي أَوْ كُلُّ من عَلَيْهِ دين فَهُوَ برِئ وَلَمْ يُخَاطِبْ مُعَيَّنًا، وَعَلِمْتُ بُطْلَانَ فَتْوَى بَعْضِ أَهْلِ زَمَانِنَا بِأَنَّ إبْرَاءَ الْوَارِثِ وَارِثًا آخَرَ إِبْرَاء عَاما لَا يمْنَع من دَعْوَى شئ مِنْ التَّرِكَةِ.
وَأَمَّا عِبَارَةُ الْبَزَّازِيَّةِ أَيْ الَّتِي قَدَّمْنَاهَا فَأَصْلُهَا مَعْزُوٌّ إلَى الْمُحِيطِ، وَفِيهِ نَظَرٌ ظَاهِرٌ، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يُقَيِّدْ الْإِبْرَاءَ بِكَوْنِهِ لِمُعَيِّنٍ أَوْ لَا، وَقَدْ عَلِمْت اخْتِلَافَ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ.
ثُمَّ إنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ اجْتِمَاعَ الصُّلْحِ الْمَذْكُورِ فِي الْمُتُونِ وَالشُّرُوحِ فِي مَسْأَلَةِ التَّخَارُجِ مَعَ الْبَرَاءَةِ الْعَامَّةِ لِمُعَيَّنٍ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ.
كَيفَ وَقد قَالَ قاضيخان: اتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى أَنَّهُ لَا تُسْمَعُ الدَّعْوَى بَعْدَهُ إلَّا فِي حَادِثٍ، وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِهِ الصُّلْحَ وَالْإِبْرَاءَ بِنَحْوِ قَوْلِهِ قَبَضْت تَرِكَةَ مُوَرِّثِي وَلَمْ يَبْقَ لِي فِيهَا حَقٌّ إلَّا اسْتَوْفَيْته فَلَا يَصِحُّ قَوْلُهُ لَا رِوَايَةَ فِيهِ أَيْضا لما قدمنَا مِنْ النُّصُوصِ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَاهُ بَعْدَهُ.
وَاتَّفَقَتْ الرِّوَايَاتُ عَلَى صِحَّةِ دَعْوَى ذِي الْيَدِ الْمُقِرِّ بِأَنْ لَا مِلْكَ لَهُ فِي هَذَا الْعَيْنِ عِنْدَ عَدَمِ الْمُنَازِعِ.
وَاَلَّذِي يَتَرَاءَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ تِلْكَ الْعِبَارَةِ الْإِبْرَاءُ لِغَيْرِ مُعَيَّنٍ مَعَ مَا فِيهِ.
وَلَوْ سَلَّمْنَا أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْمُعَيَّنُ وَقَطَعْنَا النَّظَرَ عَنْ اتِّفَاقِ الرِّوَايَاتِ عَلَى مَنْعِهِ مِنْ الدَّعْوَى بَعْدَهُ فَهُوَ
مُبَايِنٌ لِمَا فِي الْمُحِيطِ عَنْ الْمَبْسُوطِ وَالْأَصْلِ وَالْجَامِعِ الْكَبِيرِ وَمَشْهُورِ الْفَتَاوَى الْمُعْتَمَدَةِ كَالْخَانِيَّةِ وَالْخُلَاصَةِ فَيُقَدِّمُ مَا فِيهَا وَلَا يعدل عَنْهَا إِلَيْهِ.
وَأما فِي الْأَشْبَاهِ وَالْبَحْرِ عَنْ الْقُنْيَةِ: افْتَرَقَ الزَّوْجَانِ وَأَبْرَأَ كُلٌّ صَاحِبَهُ عَنْ جَمِيعِ الدَّعَاوَى وَلِلزَّوْجِ أَعْيَانٌ قَائِمَةٌ لَا تَبْرَأُ الْمَرْأَةُ مِنْهَا، وَلَهُ الدَّعْوَى لَان الابراء إِنَّمَا ينْصَرف إِلَى الدُّيُون لَا الاعيان.
اهـ.
فَمَحْمُولٌ عَلَى حُصُولِهِ بِصِيغَةٍ خَاصَّةٍ كَقَوْلِهِ أَبْرَأْتهَا عَنْ جَمِيعِ الدَّعَاوَى مِمَّا لِي عَلَيْهَا، فَيَخْتَصُّ بالديون فَقَط لكَونه مُقَيّدا بِمَالي عَلَيْهَا، وَيُؤَيِّدُهُ التَّعْلِيلُ، وَلَوْ بَقِيَ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَا يَعْدِلُ عَنْ كَلَامِ الْمَبْسُوطِ وَالْمُحِيطِ وَكَافِي الْحَاكِم الْمُصَرّح بِعُمُوم الْبَرَاءَة لكل من أبراء إِبْرَاء عَاما إِلَى مَا فِي الْقنية.
اهـ.
هَذَا حَاصِلُ مَا ذَكَرَهُ الشُّرُنْبُلَالِيُّ فِي رِسَالَتِهِ الْمَذْكُورَة، وَمن رام الزِّيَادَة فَليرْجع إِلَيْهَا.
قَالَ الشَّارِح فِي شَرحه على الْمُلْتَقى: وَأما لَو قَالَ أبرأت ك عَنْهَا أَوْ عَنْ خُصُومَتِي فِيهَا فَإِنَّهُ بَاطِلٌ، وَلَهُ أَنْ يُخَاصِمَ، كَمَا لَوْ قَالَ لِمَنْ بِيَدِهِ عَبْدٌ بَرِئْتُ مِنْهُ فَإِنَّهُ يَبْرَأُ، وَلَوْ قَالَ أَبْرَأتك لَا لانه أَبْرَأَهُ عَنْ ضَمَانِهِ كَمَا فِي الْأَشْبَاهِ مِنْ أَحْكَامِ الدَّيْنِ.
قُلْت: فَفَرَّقُوا بَيْنَ أَبْرَأْتُكَ وَبَرِئْت وَأَنا برِئ لِإِضَافَةِ الْبَرَاءَةِ لِنَفْسِهِ فَتَعُمُّ، بِخِلَافِ أَبْرَأْتُكَ لِأَنَّهُ خِطَابُ الْوَاحِدِ فَلَهُ مُخَاصَمَةُ غَيْرِهِ كَمَا فِي حاشيتها معزيا للولوالجية.

(8/331)


وَمن المهم مَا فِي الْعمادِيَّة من الْفَصْل السَّابِع عَن دَعْوَى الْخَانِية: اتّفقت الرِّوَايَات أَن قَوْله لَا دَعْوَى لي قبل فلَان أَو لَا خُصُومَة لي قبله يمْنَع الدَّعْوَى، إِلَّا فِي حق حَادث بعد الْبَرَاءَة كَقَوْلِه بَرِئت من هَذَا العَبْد أَو خرجت من أَو لَا ملك لي فِيهِ فَإِنَّهُ يمْنَع دَعْوَاهُ اهـ.
قَوْله لَا حق لي قبله فَإِنَّهُ يعم كل عين وَدين وكفالة وَغَيرهَا مُطلقًا، لَان لَا حق نكرَة فِي النَّفْي والنكرة فِي النَّفْي تعم.
كَذَا أطلقهُ محشي الاشباه وَغَيره.
قلت: وَهَذَا قَضَاء إِلَّا الْمهْر على مَا قدمْنَاهُ قبيل الصُّلْح، فَتَأمل.
وكما لَو أَبرَأَهُ عَن الدَّعَاوَى فَإِنَّهُ يعم كلهَا، إِلَّا إِذا ادّعى مَالا إِرْثا عَن أَبِيه وَلم يعلم بِمَوْتِهِ وَقت الابراء تسمع دَعْوَاهُ، لَا إِن علم كَمَا فِي الْبَزَّازِيَّة من الرَّابِع عشر فِي دَعْوَى الابراء، وَوَقع فِيهَا بكراس وَفِي غَيرهَا بترك جَوَاب الشَّرْط
فليتنبه لذَلِك.
كَذَا أَفَادَهُ الحانوتي فِي فَتَاوِيهِ، وَذكر أَن معنى الابراء الْعَام أَن يكون للْعُمُوم مُطلقًا لَا بِقَيْد تركته أَو تركتهَا فَلَا يحْتَاج لما اسْتَثْنَاهُ فِي الاشباه لانه مُخَصص بتركة وَالِده، وَقد قدمنَا عدم سماعهَا وَلَو بالارث حَيْثُ علم بِمَوْت مُوَرِثه، إِلَّا أَن تخص الْمَسْأَلَة المستثناة مَسْأَلَة الْوَصِيّ دون الْوَارِث.
فَتَأمل.
قَالَ: وَذَلِكَ كُله حَيْثُ لم تكن الْبَرَاءَة والاقرار بعد دَعْوَى بشئ خَاص وَلم يعمم بِأَن يَقُول أَيَّة دَعْوَة كَانَت أَو مَا يُفِيد ذَلِك، لما فِي الْبَزَّازِيَّة أَيْضا بعد قَوْله السَّابِق.
قَوْله: وَفِي الْمنية: ادّعى عَلَيْهِ دعاوى مُعينَة ثمَّ صَالحه وَأقر أَنه لَا دَعْوَى لَهُ عَلَيْهِ ثمَّ ادّعى حَقًا تسمع، وَحمل إِقْرَاره على الدَّعْوَى الاولى، إِلَّا إِذا عمم وَقَالَ أَيَّة دَعْوَة كَانَت، وَنَحْوه كلا خُصُومَة بِوَجْه من الْوُجُوه كَمَا ذكره فِي الصُّلْح: أَي وَنَحْوه مِمَّا يُفِيد الْعُمُوم زَائِدا على قَوْله لَا دَعْوَى لَهُ، وَبِهَذَا الْحل اضمحل توهم تنَاقض كَلَامهم، لَان من صرح بِعَدَمِ سماعهَا بعد الابراء الْعَام الْمُطلق صرح بسماعها بعد إِبْرَاء الْوَارِث وَغَيره، لَكِن فِي محَال مُخْتَلفَة، وَبِهَذَا صَارَت مؤتلفة وَبِاللَّهِ التَّوْفِيق.
انْتهى مَا فِي شرح الْمُلْتَقى.
وَقدمنَا قبيل الاقرار عِنْد قَوْله والتناقض فِي مَوضِع الخفاء عَفْو خُلَاصَة مَا حَرَّره سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى فِي رسَالَته (إِعْلَام الاعلام بِأَحْكَام الابراء الْعَام) الَّتِي وفْق فِيهَا بَين عِبَارَات متعارضة، وَدفع مَا فِيهَا من المناقضة، فَارْجِع إِلَيْهَا فَإِنَّهَا مفيدة فِي بَابهَا، كَافِيَة لطلابها.
وَالَّذِي تحرر فِيهَا فِي خُصُوص مَسْأَلَتنَا: أَن الابْن إِذا أشهد على نَفسه أَنه قبض من وَصِيّه جَمِيع تَرِكَة وَالِده وَلم يبْق لَهُ مِنْهَا قَلِيل وَلَا كثير إِلَّا اسْتَوْفَاهُ ثمَّ ادّعى دَارا فِي يَد الْوَصِيّ وَقَالَ هَذِه من تَرِكَة وَالِدي تَركهَا مِيرَاثا لي وَلم أقبضها فَهُوَ على حجَّته، وَتقبل بَينته كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي آخر أَحْكَام الصغار للاستروشني معزيا للمنتقى، وَكَذَا فِي الْفَصْل الثَّامِن وَالْعِشْرين من جَامع الْفُصُولَيْنِ، وَكَذَا فِي أدب الاوصياء فِي كتاب الدَّعْوَى معزيا إِلَى الْمُنْتَقى وَالْخَانِيَّة والعتابية مصرحين بِإِقْرَار الصَّبِي بِقَبْضِهِ من الْوَصِيّ فَلَيْسَ إِلَّا إِقْرَار الْمَجْهُول كَمَا ادَّعَاهُ الشُّرُنْبُلَالِيّ.
وَمِمَّنْ نَص على ذَلِك التَّصْرِيح أَيْضا الْعَلامَة ابْن الشّحْنَة فِي شرح الْوَهْبَانِيَّة وَذكر الْجَواب عَن مُخَالفَة هَذَا الْفَرْع لما أطبقوا عَلَيْهِ من عدم سَماع الدَّعْوَى بعد الابراء الْعَام بِأَن الظَّاهِر أَنه اسْتِحْسَان.
وَوَجهه أَن الابْن لَا يعرف مَا تَركه أَبوهُ على وَجه التَّفْصِيل غَالِبا، فاستحسنوا سَماع دَعْوَاهُ اهـ.

(8/332)


وَلِهَذَا جعل صَاحب الاشباه الْمَسْأَلَة مُسْتَثْنَاة من ذَلِك الْعُمُوم الَّذِي أطبقوا عَلَيْهِ، وَهَذَا بِخِلَاف إِقْرَار بعض الْوَرَثَة بِقَبض مِيرَاثه من بَقِيَّة الْوَرَثَة وإبرائه لَهُم فَإِنَّهُ لَا تسمع دَعْوَاهُ، خلافًا لما أفتى بِهِ الْخَيْر الرَّمْلِيّ مُسْتَندا إِلَى مَا لَا يدل لَهُ كَمَا أوضحه سَيِّدي الْوَالِد رَحْمَة الله تَعَالَى فِي رسَالَته الْمَذْكُورَة، فَلَا يعدل عَمَّا قَالُوهُ لعدم النَّص فِي ذَلِك.
فَالْحَاصِل: الْفرق بَين إِقْرَار الابْن للْوَصِيّ وَبَين إِقْرَار بعض الْوَرَثَة للْبَعْض، لما فِي الْبَزَّازِيَّة عَن الْمُحِيطِ: لَوْ أَبْرَأَ أَحَدُ الْوَرَثَةِ الْبَاقِيَ ثُمَّ ادّعى التَّرِكَة وأنكروا لَا تُسْمَعْ دَعْوَاهُ، وَإِنْ أَقَرُّوا بِالتَّرِكَةِ أُمِرُوا بِالرَّدِّ عَلَيْهِ اهـ.
وَوجه الْفرق بَينهمَا أَن الْوَصِيّ هُوَ الَّذِي يتَصَرَّف فِي مَال الْيَتِيم بِلَا اطِّلَاعه، فيعذر إِذا بلغ وَأقر بِالِاسْتِيفَاءِ مِنْهُ لجهله، بِخِلَاف بَقِيَّة الْوَرَثَة فَإِنَّهُم لَا تَنْصَرِف لَهُم فِي مَاله وَلَا فِي شئ من التَّرِكَة إِلَّا باطلاع وَصِيّه الْقَائِم مقَامه فَلم يعْذر بالتناقض، وَمن أَرَادَ زِيَادَة بَيَان وَرفع الْجَهَالَة فَعَلَيهِ بِتِلْكَ الرسَالَة فَفِيهَا الْكِفَايَة لِذَوي الدِّرَايَة، وَبِه علم أَن مَا كَانَ يَنْبَغِي لِلْمُصَنِّفِ أَنْ يَذْكُرَ مَا فِي الْبَزَّازِيَّة متْنا، وَأما مَا سيجئ آخر الصُّلْح فَلَيْسَ فِيهِ إِبْرَاء عَام، وَأما الامر بِالرَّدِّ فقد بَينا وَجهه قَرِيبا فَلَا تنسه، فَتدبر.

قَوْله: (وسنحققه فِي الصُّلْح) كَانَ عَلَيْهِ أَن يَقُول: وسنحقق خِلَافه، لَان جعل الابراء عَن الاعيان مُبْطلًا لدعواها قَضَاء، وَقد علمت أَنه لَيْسَ فِيهِ إِبْرَاء عَام.

قَوْله: (رَبًّا عَلَيْهِ) أَي على الْقَرْض.

قَوْله: (شرح وهبانية) أَي لِابْنِ الشّحْنَة، وَمثله فِي الْقنية معزيا لعبد الْقَادِر فِي الطَّبَقَات عَن عَلَاء الدّين، وَبِه أفتى فِي الحامدية وَالْخَيْر الرَّمْلِيّ فِي فَتَاوِيهِ الْخَيْرِيَّة من الدَّعْوَى.

قَوْله: (قلت وحرر الخ) أَقُول: يتَعَيَّن الافتاء بالمنقول، لانه مُضْطَر، فَلَا يرد لَا عذر لمن أقرّ لَا سِيمَا وَقد علمت أَنه أفتى بِالْمَتْنِ هَؤُلَاءِ الاجلاء الْمُتَأَخّرُونَ.

قَوْله: (لانه لَا عُذْرَ لِمَنْ أَقَرَّ) فِيهِ أَنَّ اضْطِرَارَهُ إِلَى هَذَا الاقرار عذر.

قَوْله: (غَايَته أَنْ يُقَالَ إلَخْ) وَلِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ لِأَنَّهُ يَقُولُ بِلُزُومِ الْمَالِ وَلَا يُقْبَلُ تَفْسِيرُهُ وَصَلَ أَوْ فَصَلَ.
وَعِنْدَهُمَا: إنْ وَصَلَ قُبِلَ وَإِلَّا فَلَا، وَلَفْظَةُ ثُمَّ تُفِيدُ الْفَصْل فَلَا يقبل اتِّفَاقًا.
شرنبلالي.
وَقد ضمن يُقَال معنى يُفْتى فعداه بِالْبَاء ط.
وَحَاصِل مَا يُقَال من تَحْرِير الشُّرُنْبُلَالِيّ: أَنَّهُ لَا فَائِدَةَ لِدَعْوَاهُ أَنَّ بَعْضَ الْمُقَرِّ بِهِ رِبًا إلَّا تَحْلِيفَ الْمُقَرِّ لَهُ بِنَاءً على قَول الثَّانِيَ إذَا ادَّعَى أَنَّهُ أَقَرَّ كَاذِبًا يَحْلِفُ الْمُقَرُّ لَهُ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ مِنْ أَفْرَادِهَا فَلِذَا قَالَ فِي هَذِهِ وَنَحْوِهَا: وَلَقَدْ أَبْعَدَ مَنْ حَمَلَ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ عَلَى الضَّرُورَةِ فَقَطْ كَمَا فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَمَا مَرَّ قُبَيْلَ اسْتثِْنَاء، وَلَا تنس مَا قدمْنَاهُ فِي شَتَّى الْقَضَاء فَتحصل أَن الْمُفْتى بِهِ هُوَ الْمَقُول الَّذِي مَشى عَلَيْهِ المُصَنّف.

قَوْله: (بِأَنَّهُ يحلف الْمقر لَهُ) على أَنه لم يكن بعضه رَبًّا بل كُله دين ثَابت فِي ذمَّته شرعا.

قَوْله: (وَبِه) أَي بقول أبي يُوسُف فِيمَن أقرّ: أَي قبيل الِاسْتِثْنَاء، وَفِي بعض النّسخ فِيمَا مر.

(8/333)


قَالَ سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى: وَيُمكن التَّوْفِيق بَين الْكَلَامَيْنِ بِأَن يُقَال: إِن قَامَت الْبَيِّنَة على إِقْرَاره يَنْبَغِي أَن لَا تسمع دَعْوَاهُ أَن بعضه رَبًّا، وَإِن قَامَت على أَن بعضه رَبًّا تقبل، فَتَأمل.

قَوْلُهُ: (مِنْ نُسَخِ الشَّرْحِ) أَيْ الْمِنَحِ.

قَوْلُهُ: (لزمَه مهر بِالدُّخُولِ) فِيهِ أَن إِقْرَاره بعد الدُّخُول أَنه طَلقهَا قبل الدُّخُول إِقْرَار بِالزِّنَا، وَلَيْسَ فِيهِ شُبْهَة دارئة للحد، لَا شُبْهَة فعل وَلَا شُبْهَة مَحل وَلَا شُبْهَة عقد، إِذا لم تذكر الْمَوْطُوءَة بعد الطَّلَاق قبل الدُّخُول فِي وَاحِدَة مِنْهَا وَلَا عدَّة عَلَيْهَا فَكيف يلْزمه الْمهْر، وَقد تتبعت الْمجمع وَغَيره فَلم أر فِيهِ سوى مَسْأَلَة وَاحِدَة فِي فصل الْمهْر وَهِي: وَلَو أَزَال عذرتها بِدفع وَطَلقهَا قبل الدُّخُول فَعَلَيهِ نصفه، وَأفْتى بكله.
وَفِي متن الْمَوَاهِب أُخْرَى وَتَقَدَّمت هُنَا فِي بَاب الْعدة وَهِي: لَو أقرّ بِطَلَاقِهَا مُنْذُ سِنِين فكذبته أَو قَالَت لَا أَدْرِي تَعْتَد من وَقت الاقرار وتستحق النَّفَقَة وَالسُّكْنَى، وَإِن صدقته اعْتدت من حِين الطَّلَاق.
وَقيل الْفَتْوَى على وُجُوبهَا من وَقت الاقرار بِلَا نَفَقَة اهـ.
قَالَ الشَّارِح: غير أَنه إِن وَطئهَا لَزِمَهَا مهْرَان، وَلَا نَفَقَةَ وَلَا كِسْوَةَ وَلَا سُكْنَى لَهَا لِقَبُولِ قَوْلهَا على نَفسهَا.
خَانِية.
قَالَ: ثمَّ لَو وَطئهَا حد: أَي بعد الثُّبُوت والظهور.
وَأفَاد فِي الْبَحْر أَنه بعد الْعدة لعدم الْحَد بوطئ الْمُعْتَدَّة اهـ.
فَتَأمل وراجع.
وَقد يُقَال: إِنَّمَا سقط الْحَد هُنَا لعدم الاقرار بِالزِّنَا أَرْبعا صَرِيحًا، فَتَأمل.

قَوْله: (وَسقط حَقه) قيل عَلَيْهِ الاقرار على الرَّاجِح إِخْبَار، وبنوا عَلَيْهِ أَنه إِذا أقرّ بشئ وَلم يكن مطابقا لنَفس الامر لَا يحل للْمقر لَهُ أَخذه، فغاية مَا حصل بالاقرار الْمُؤَاخَذَة بِهِ ظَاهرا، وَالسُّؤَال إِنَّمَا
هُوَ عَن سُقُوط الْحق حَقِيقَة فَأَيْنَ هَذَا من ذَاك؟ لَكِن الاقرار بِاسْتِحْقَاق فلَان الرّيع لَا يسْتَلْزم الاقرار بِكَوْنِهِ هُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ كَمَا قد يتَوَهَّم، كَمَا يَأْتِي تتمته قَرِيبا مَعَ بَيَان مَا فِيهِ عِنْد قَوْله: وَلَو كتاب الْوَقْف بِخِلَافِهِ.
قَالَ سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى.
قَوْلُهُ: وَسَقَطَ حَقُّهُ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ سُقُوطُهُ ظَاهِرًا، فَإِذَا لَمْ يَكُنْ مُطَابِقًا لِلْوَاقِعِ لَا يَحِلُّ لِلْمُقَرِّ لَهُ أَخْذُهُ: ثُمَّ إنَّ هَذَا السُّقُوطَ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ عَادَ عَلَى مَا شَرَطَ الْوَاقِفُ.
قَالَ السَّائِحَانِيُّ فِي مَجْمُوعَتِهِ: وَفِي الْخَصَّافِ قَالَ الْمُقَرُّ لَهُ بِالْغَلَّةِ عَشْرَ سَنَوَاتٍ مِنْ الْيَوْمِ لِزَيْدٍ، فَإِنْ مَضَتْ رَجَعَتْ لِلْمُقَرِّ لَهُ، فَإِنْ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ أَو الْمقر قَبْلَ مُضِيِّهَا تَرْجِعُ الْغَلَّةُ عَلَى شَرْطِ الْوَاقِفِ، فَكَأَنَّهُ صَرَّحَ بِبُطْلَانِ الْمُصَادَقَةِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ أَوْ مَوْتِ الْمُقِرِّ.
وَفِي الْخَصَّافِ أَيْضًا: رَجُلٌ وَقَفَ عَلَى زَيْدٍ وَوَلَدِهِ ثُمَّ لِلْمَسَاكِينٍ فَأَقَرَّ زَيْدٌ بِهِ وَبِأَنَّهُ عَلَى بَكْرٍ ثُمَّ مَاتَ زَيْدٌ بَطَلَ إقْرَارُهُ لِبَكْرٍ.
وَفِي الْحَامِدِيَّةِ: إذَا تَصَادَقَ جَمَاعَةُ الْوَقْفِ ثُمَّ مَاتَ أَحَدُهُمْ عَنْ وَلَدٍ فَهَل تبطل مصادقة الْمَيِّت فِي حَقه؟ الْجَوَابُ: نَعَمْ.
وَيَظْهَرُ لِي مِنْ هَذَا أَنَّ مَنْ مَنَعَ عَنْ اسْتِحْقَاقِهِ بِمُضِيِّ الْمُدَّةِ الطَّوِيلَةِ إذَا مَاتَ فَوَلَدُهُ

(8/334)


يَأْخُذُ مَا شَرَطَهُ الْوَاقِفُ لَهُ، لِأَنَّ التَّرْكَ لَا يَزِيدُ عَلَى صَرِيحِ الْمُصَادَقَةِ، وَلِأَنَّ الْوَلَدَ لم يَتَمَلَّكهُ من أَبِيه وَإِنَّمَا تملكه من الْوَاقِف اهـ.
أَقُول: اغْترَّ كثيرا بِهَذَا الْإِطْلَاقِ وَأَفْتَوْا بِسُقُوطِ الْحَقِّ بِمُجَرَّدِ الْإِقْرَارِ.
وَالْحَقُّ الصَّوَابُ أَنَّ السُّقُوطَ مُقَيَّدٌ بِقُيُودٍ يَعْرِفُهَا الْفَقِيهُ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ الْكَبِيرُ الْخَصَّافُ: أَقَرَّ فَقَالَ غَلَّةُ هَذِهِ الصَّدَقَةِ لِفُلَانٍ دُونِي وَدُونَ النَّاسِ جَمِيعًا بِأَمْرٍ حَقٍّ وَاجِبٍ ثَابِتٍ لَازِمٍ عَرَفْتُهُ وَلِزَمَنِي الْإِقْرَارُ لَهُ بِذَلِكَ، قَالَ أُصَدِّقُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَأُلْزِمَ مَا أَقَرَّ بِهِ مَا دَامَ حَيا، فَإِذا مَاتَ ردَّتْ الْغَلَّةَ إلَى مَنْ جَعَلَهَا الْوَاقِفُ لَهُ، لِأَنَّهُ لَمَّا قَالَ ذَلِكَ جَعَلْتُهُ كَأَنَّ الْوَاقِفَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ.
وَعَلَّلَهُ أَيْضًا بِقَوْلِهِ لِجَوَازِ أَنَّ الْوَاقِفَ قَالَ إنَّ لَهُ أَنْ يَزِيدَ وَيَنْقُصَ وَأَنْ يَخْرُجَ وَأَنْ يُدْخِلَ
مَكَانَهُ مَنْ رَأَى فَيُصَدَّقُ زَيْدٌ عَلَى حَقِّهِ.
اهـ.
أَقُولُ: يُؤْخَذُ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ عَلِمَ الْقَاضِي أَنَّ الْمُقِرَّ إنَّمَا أَقَرَّ بِذَلِكَ لِأَخْذِ شئ مِنْ الْمَالِ مِنْ الْمُقَرِّ لَهُ عِوَضًا عَنْ ذَلِكَ لِكَيْ يَسْتَبِدَّ بِالْوَقْفِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِقْرَارَ غير مَعْمُول بِهِ، لِأَنَّهُ إقْرَارٌ خَالٍ عَمَّا يُوجِبُ تَصْحِيحَهُ مِمَّا قَالَه الامام الْخصاف وَهُوَ الاقرار فِي زَمَاننَا فَتَأَمّله، وَلَا حول وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ بِيرِيٌّ، أَيْ لَوْ عَلِمَ أَنَّهُ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ ابْتِدَاءً لَا يَصِحُّ كَمَا تقدم فِي الْوَقْف.
أَقُول: وَإِنَّمَا قَالَ أصدقه على نَفسه الخ لانه إِذا كَانَ الْوَقْفُ عَلَى زَيْدٍ وَأَوْلَادِهِ وَنَسْلِهِ ثُمَّ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَأَقَرَّ زَيْدٌ بِأَنَّ الْوَقْفَ عَلَيْهِمْ وَعَلَى هَذَا الرَّجُلِ لَا يُصَدَّقُ عَلَى وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ فِي إدْخَالِ النَّقْصِ عَلَيْهِمْ، بَلْ تُقْسَمُ الْغَلَّةُ عَلَى زَيْدٍ وَعَلَى مَنْ كَانَ مَوْجُودًا مِنْ وَلَدِهِ وَنَسْلِهِ، فَمَا أَصَابَ زَيْدًا مِنْهَا كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْمُقَرِّ لَهُ مَا دَامَ زَيْدٌ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ بَطَلَ إقْرَارُهُ وَلَمْ يَكُنْ لِلْمُقَرِّ لَهُ حَقٌّ، وَإِنْ كَانَ الْوَقْفُ عَلَى زَيْدٍ ثُمَّ مِنْ بَعْدِهِ عَلَى الْفُقَرَاءِ فَأَقَرَّ زَيْدٌ بِهَذَا الْإِقْرَارِ لِهَذَا الرَّجُلِ شَارَكَهُ الرَّجُلُ فِي الْغَلَّةِ مَا دَامَ حَيًّا، فَإِذَا مَاتَ زيد كَانَت للْفُقَرَاء وَلم يصدق زيد عَلَيْهِم، وَإِنْ مَاتَ الرَّجُلُ الْمُقَرُّ لَهُ وَزَيْدٌ حَيٌّ فَنِصْفُ الْغَلَّةِ لِلْفُقَرَاءِ وَالنِّصْفُ لِزَيْدٍ، فَإِذَا مَاتَ زيد صَارَت الْغلَّة كلهَا للْفُقَرَاء.
اهـ.
خصاف مُلَخصا.
وَتَمام الْكَلَام على ذَلِك فِي التَّنْقِيح لسيدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى مَعَ فَوَائِد نفيسة، وَقد مر فِي الْوَقْف فَرَاجعه.
قَوْله: وَلَو كتاب الْوَقْف بِخِلَافِهِ حَمْلًا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ رَجَعَ عَمَّا شَرَطَهُ وَشَرَطَ مَا أَقَرَّ بِهِ الْمُقِرُّ ذَكَرَهُ الْخَصَّافُ فِي بَاب مُسْتَقْبل.
أَشْبَاهٌ.
أَقُولُ: لَمْ أَرَ شَيْئًا مِنْهُ فِي ذَلِكَ الْبَابِ، وَإِنَّمَا الَّذِي فِيهِ مَا نَقَلَهُ الْبِيرِيُّ آنِفًا، وَلَيْسَ فِيهِ التَّعْلِيلُ بِأَنَّهُ رَجَعَ عَمَّا شَرَطَهُ، وَلِذَا قَالَ الْحَمَوِيُّ: إنَّهُ مُشْكِلٌ لِأَنَّ الْوَقْفَ إذَا لَزِمَ لَزِمَ مَا فِي ضِمْنِهِ مِنْ الشُّرُوطِ إلَّا أَنْ يُخَرَّجَ عَلَى قَوْلِ الْإِمَامِ بِعَدَمِ لُزُومِهِ قَبْلَ الْحُكْمِ وَيُحْمَلَ كَلَامه على وقف لم يسجل اهـ مُلَخَّصًا.
قُلْت: وَيُؤَيِّدُهُ مَا مَرَّ عَنْ الدُّرَرِ قُبَيْلَ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ اتَّحَدَ الْوَاقِفُ وَالْجِهَةُ، وَهَذَا التَّأْوِيلُ يُحْتَاجُ إلَيْهِ بَعْدَ ثُبُوتِ النَّقْلِ عَنْ الْخصاف وَالله تَعَالَى أعلم.
والاقرار بِاسْتِحْقَاق فلَان الرّيع لَا يسْتَلْزم الاقرار بِكَوْنِهِ هُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ حَقِيقَة كَمَا قد يتَوَهَّم، وَيصِح الاقرار مَعَ كَون الْمقر هُوَ الْمَوْقُوف عَلَيْهِ، أَلا ترى أَن الْوَقْف لَو كَانَ بستانا وَقد أثمر فَأقر
الْمَوْقُوف عَلَيْهِ بِأَن زيدا هُوَ الْمُسْتَحق لهَذِهِ الثَّمَرَة صَحَّ الاقرار بطرِيق أَنه بَاعه تِلْكَ الثَّمَرَة، أما جعلهَا لَهُ بطرِيق التَّمْلِيك فَلَا يملكهُ لكَونه تمْلِيك الثَّمر بِدُونِ الشّجر، إِذا الِاتِّصَال بِملك الْوَاهِب مخل بِالْقَبْضِ الَّذِي هُوَ شَرط تَمام التَّمْلِيك اهـ.

(8/335)


قَالَ الْحَمَوِيّ: وَفِيه تَأمل.
وَجهه أَن بَين ثَمَرَة البستاني وريع الْوَقْف فرقا، وَهُوَ أَن الثَّمَرَة عين مَوْجُودَة يُمكن قسمتهَا وتناولها، فالاقرار بِهِ للْغَيْر يحمل على التَّمْلِيك بطرِيق البيع وَهُوَ صَحِيح مُطلقًا، وَجعلهَا للْغَيْر تمْلِيك لَا بطرِيق البيع بل بطرِيق الْهِبَة، وَهبة الْمشَاع قبل قسمته بَاطِلَة.
وَأما ريع الْوَقْف فَهُوَ مَا يخرج مِنْهُ من أُجْرَة وَغَيرهَا، فالاقرار بهَا للْغَيْر لَا يكون بطرِيق البيع.

قَوْله: (وَلَو جعله لغيره) بِأَن انشأ الْجعل من غير إِسْقَاط لتحسن الْمُقَابلَة بَينه وَبَين.
قَوْله أَو أسْقطه الخ لانه إِسْقَاط لمجهول فَلَا يسْقط حَقه.

قَوْله: (لم يَصح) أَي لَا يَصح أَن يَصِيرُ لِغَيْرِهِ، لِأَنَّ تَصْحِيحَ الْإِقْرَارِ إنَّمَا هُوَ مُعَامَلَةٌ لَهُ بِإِقْرَارِهِ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ ظَاهِرُ الْحَالِ تَصْدِيقًا لَهُ فِي إخْبَارِهِ مَعَ إِمْكَان تَصْحِيحه حملا أَنَّ الْوَاقِفَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ كَمَا مَرَّ.
أَمَّا إذَا قَالَ الْمَشْرُوطُ لَهُ الْغَلَّةُ أَوْ النَّظَرُ جَعَلْتُ ذَلِكَ لِفُلَانٍ لَا يَصِحُّ لِأَنَّهُ لَيْسَ لَهُ وِلَايَةُ إنْشَاءِ ذَلِكَ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِهِ، وَفَرْقٌ بَيْنَ الْإِخْبَارِ وَالْإِنْشَاءِ.
نَعَمْ لَوْ جَعَلَ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ فِي مرض مَوته يَصح إِذا لَمْ يُخَالِفْ شَرْطَ الْوَاقِفِ لِأَنَّهُ يَصِيرُ وَصِيًّا عَنْهُ، وَكَذَا لَوْ فَرَغَ عَنْهُ لِغَيْرِهِ وَقَرَّرَ الْقَاضِي ذَلِكَ الْغَيْرَ يَصِحُّ أَيْضًا لِأَنَّهُ يَمْلِكُ عَزْلَ نَفْسِهِ، وَالْفَرَاغُ عَزْلٌ، وَلَا يَصِيرُ الْمَفْرُوغُ لَهُ نَاظِرًا بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ بَلْ لَا بُدَّ من تَقْرِير القَاضِي كَمَا تحرر سَابِقًا، فَإِذا قرر القَاضِي المفروغ لَهُ صَار نَاظرا بالتقدير لَا بِمُجَرَّدِ الْفَرَاغِ، وَهَذَا غَيْرُ الْجَعْلِ الْمَذْكُورِ هُنَا، فَافْهَمْ.
وَأَمَّا جَعْلُ الرَّيْعِ لِغَيْرِهِ فَقَالَ ط: إِن كَانَ الْجعل بِمَعْنى التَّبَرُّع لغيره بِأَن يُوكله ليقبضه ثُمَّ يَأْخُذَهُ لِنَفْسِهِ فَلَا شُبْهَةَ فِي صِحَّةِ التَّبَرُّعِ بِهِ، وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى الْإِسْقَاطِ فَقَالَ فِي الْخَانِيَّةِ: إنَّ الِاسْتِحْقَاقَ الْمَشْرُوطَ كَإِرْثٍ لَا يسْقط بالاسقاط اهـ.
قُلْت: مَا عَزَاهُ لِلْخَانِيَّةِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِثُبُوتِهِ فَرَاجِعْهَا.
نَعَمْ الْمَنْقُولُ فِي الْخَانِيَّةِ مَا سَيَأْتِي، وَقَدْ فَرَّقَ فِي
الْأَشْبَاهِ فِي بَحْثِ مَا يَقْبَلُ الْإِسْقَاطَ مِنْ الْحُقُوقِ بَيْنَ إسْقَاطِهِ لِمُعَيَّنٍ ولغير مُعَيَّنٍ، وَذَكَرَ ذَلِكَ فِي جُمْلَةِ مَسَائِلَ كَثُرَ السُّؤَالُ عَنْهَا وَلَمْ يَجِدْ فِيهَا نَقْلًا فَقَالَ: إِذا أسقط الْمَشْرُوط لَهُ الرَّيْعُ حَقَّهُ لَا لِأَحَدٍ لَا يَسْقُطُ كَمَا فَهِمَهُ الطَّرَسُوسِيُّ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَسْقَطَ حَقه لغيره انْتهى: أَيْ فَإِنَّهُ يَسْقُطُ، لَكِنَّهُ ذَكَرَ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ مُطْلَقًا فِي رِسَالَتِهِ الْمُؤَلَّفَةِ فِي بَيَانِ مَا يَسْقُطُ مِنْ الْحُقُوقِ وَمَا لَا يَسْقُطُ أَخْذًا مِمَّا فِي شَهَادَاتِ الْخَانِيَّةِ: مَنْ كَانَ فَقِيرًا مِنْ أَصْحَابِ الْمَدْرَسَةِ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا لِلْوَقْفِ اسْتِحْقَاقًا لَا يَبْطُلُ بِإِبْطَالِهِ، فَلَوْ قَالَ أَبْطَلْت حَقي كَانَ لَهُ أَن يَأْخُذهُ انْتهى.
قُلْت: لَكِنْ لَا يَخْفَى أَنَّ مَا فِي الْخَانِيَّةِ إسْقَاطٌ لَا لِأَحَدٍ.
نَعَمْ يَنْبَغِي عَدَمُ الْفَرْقِ إذْ الْمَوْقُوفُ عَلَيْهِ الرَّيْعُ إنَّمَا يَسْتَحِقُّهُ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ، فَإِذَا قَالَ أَسْقَطْتُ حَقِّي مِنْهُ لِفُلَانٍ أَوْ جَعَلْتُهُ لَهُ يَكُونُ مُخَالِفًا لِشَرْطِ الْوَاقِفِ حَيْثُ أَدْخَلَ فِي وَقْفِهِ مَا لَمْ يَرْضَهُ الْوَاقِفُ لِأَنَّ هَذَا إنْشَاءُ اسْتِحْقَاقٍ، بِخِلَافِ إقْرَارِهِ بِأَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ فُلَانٌ فَإِنَّهُ إخْبَارٌ يُمْكِنُ تَصْحِيحُهُ كَمَا مَرَّ.
ثُمَّ رَأَيْت الْخَيْرَ الرَّمْلِيَّ أَفْتَى بِذَلِكَ، وَقَالَ بَعْدَ نَقْلِ مَا فِي شَهَادَاتِ الْخَانِيَّةِ: وَهَذَا فِي وَقْفِ الْمَدْرَسَةِ فَكَيْفَ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ الْمُسْتَحِقِّينَ بِشَرْطِ الْوَاقِفِ مِنْ غَيْرِ تَوَقُّفٍ عَلَى تَقْرِيرِ الْحَاكِمِ، وَقَدْ صَرَّحُوا بِأَنَّ شَرْطَ الْوَاقِفِ كَنَصِّ الشَّارِعِ فَأَشْبَهَ الْإِرْثَ فِي عَدَمِ قَبُولِهِ الْإِسْقَاطَ، وَقَدْ وَقَعَ لِبَعْضِهِمْ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ كَلَامٌ يَجِبُ أَنْ يحذر انْتهى.
فَإِن قلت: إِذا أَقَرَّ الْمَشْرُوطُ لَهُ الرِّيعُ أَوْ بَعْضُهُ أَنَّهُ لَا حق لَهُ فِيهِ وَأَنه يسْتَحقّهُ فلَان هَل يسْقط

(8/336)


حَقه؟ قلت: نعم، وَلَو كَانَ مَكْتُوب الْوَقْف بِخِلَافِهِ كَمَا ذكره الْخصاف فِي بَاب مُسْتَقل.
فرع: فِي إقْرَارِ الْإِسْمَاعِيلِيَّة فِيمَنْ أَقَرَّتْ بِأَنَّ فُلَانًا يَسْتَحِقُّ رِيعَ مَا يَخُصُّهَا مِنْ وَقْفٍ كَذَا فِي مُدَّةٍ مَعْلُومَةٍ بِمُقْتَضَى أَنَّهَا قَبَضَتْ مِنْهُ مَبْلَغًا مَعْلُوما فالاقرار بَاطِلٌ، لِأَنَّهُ بَيْعُ الِاسْتِحْقَاقِ الْمَعْدُومِ وَقْتَ الْإِقْرَارِ بِالْمَبْلَغِ الْمُعَيَّنِ، وَإِطْلَاقُ قَوْلِهِمْ لَوْ أَقَرَّ الْمَشْرُوطُ لَهُ الرِّيعُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ فُلَانٌ دُونَهُ يَصِحُّ وَلَوْ جَعَلَهُ لِغَيْرِهِ لَمْ يَصِحَّ يُقْضَى بِبُطْلَانِهِ فَإِن الاقرار بعوض مُعَاوضَة.

قَوْله: (وَكَذَا الْمَشْرُوط لَهُ النّظر على هَذَا) يَعْنِي لَو أقرّ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ فُلَانٌ دُونَهُ صَحَّ، وَلَوْ جَعَلَهُ لغيره لم يَصح.
كَذَا فِي شرح تنوير الاذهان.
فَلَوْ أَقَرَّ النَّاظِرُ أَنَّ فُلَانًا يَسْتَحِقُّ مَعَهُ نِصْفَ النَّظَرِ مَثَلًا يُؤَاخَذُ بِإِقْرَارِهِ وَيُشَارِكُهُ فُلَانٌ فِي وَظِيفَتِهِ مَا دَامَا حَيَّيْنِ.
بَقِيَ لَوْ مَاتَ أَحَدُهُمَا، فَإِنْ كَانَ هُوَ الْمُقِرَّ فَالْحُكْمُ ظَاهِرٌ، وَهُوَ بُطْلَانُ الْإِقْرَارِ وَانْتِقَالُ النَّظَرِ لِمَنْ شَرطه لَهُ الْوَاقِفُ بَعْدَهُ.
وَأَمَّا لَوْ مَاتَ الْمُقَرُّ لَهُ فَهِيَ مَسْأَلَة تقع كثيرا، وَقد سُئِلَ عَنْهَا سَيِّدي الْوَالِد رَحمَه الله تَعَالَى مرَارًا.
وَأجَاب عَنْهَا فِي تَنْقِيح الحامدية بِأَن الَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ بُطْلَانُ الْإِقْرَارِ أَيْضًا، لَكِنْ لَا تَعُودُ الْحِصَّةُ الْمُقَرُّ بِهَا إلَى الْمُقِرِّ لِمَا مَرَّ، وَإِنَّمَا يُوَجِّهُهَا الْقَاضِي لِلْمُقِرِّ أَوْ لِمَنْ أَرَادَ مِنْ أَهْلِ الْوَقْفِ، لِأَنَّا صَحَّحْنَا إقْرَارَهُ حَمْلًا عَلَى أَنَّ الْوَاقِفَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ ذَلِكَ لِلْمُقَرِّ لَهُ كَمَا مَرَّ عَنْ الْخَصَّافِ، فَيصير كَأَنَّهُ جعل النّظر لاثْنَيْنِ لَيْسَ لاحدهما الِانْفِرَاد.
وَإِذ مَاتَ أَحَدُهُمَا أَقَامَ الْقَاضِي غَيْرَهُ، وَلَيْسَ لِلْحَيِّ الِانْفِرَاد إِلَّا إِذا أَقَامَهُ القَاضِي كَمَا فِي الاسعاف انْتهى.
وَلَا يُمْكِنُ هُنَا الْقَوْلُ بِانْتِقَالِ مَا أَقَرَّ بِهِ إِلَى الْمَسَاكِين كَمَا فِي الاقرار بالغلة، إِذا لَا حَقَّ لَهُمْ فِي النَّظَرِ وَإِنَّمَا حَقُّهُمْ فِي الْغلَّة فَقَط، هَذَا مَا حَرَّره وَقَالَ وَلَمْ أَرَ مَنْ نَبَّهَ عَلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ.

قَوْلُهُ: (وَذكره فِي الاشباه ثمَّة وَهنا) أَي عِنْد قَوْله يملك الاقرار من لَا يملك الانشاء حَيْثُ قَالَ: وعَلى هَذَا لَوْ أَقَرَّ الْمَشْرُوطُ لَهُ الرِّيعُ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّهُ فُلَانٌ دُونَهُ صَحَّ، وَلَوْ جَعَلَهُ لَهُ لم يَصح اهـ.

قَوْله: (وَفِي السَّاقِط لَا يعود فَرَاجعه) عِبَارَته هُنَاكَ.
قَالَ قاضيخان فِي فَتَاوِيهِ من الشَّهَادَات فِي الشَّهَادَة بوقف الْمدرسَة: إِن من كَانَ فَقِيرا من أهل الْمدرسَة إِلَى آخر مَا قدمْنَاهُ قَرِيبا.

قَوْله: (الْقَصَص المرفوعة) فِي عرض حَال وَنَحْوه من الْمَكْتُوب.

قَوْله: (لَا يُؤَاخذ) أَي القَاضِي صَاحبهَا بِمَا فِيهَا من إِقْرَار وَنَحْوه، لانه لَا عِبْرَة بِمُجَرَّد الْخط فَافْهَم.

قَوْله: (فِي الاول) هُوَ قَوْله فِي علمي، وَظَاهره أَنه لَا خلاف فِي قَوْله فِيمَا أعلم مَعَ أَنه بِمَعْنَاهُ، إِذْ قَوْله فِي علمي: أَي معلومي.

قَوْله: (لزمَه اتِّفَاقًا) لَان قد فِي مثله للتحقيق ط.
قَالَ فِي الْكَافِي: من قَالَ فلَان عَليّ ألف دِرْهَم فِيمَا أعلم أَو قَالَ فِي علمي لزمَه المَال، وَقَالا: لَا يلْزمه لَهُ أَنه أثبت الْعلم بِمَا أقرّ بِهِ فَيُوجب تأكيده كَمَا لَو قَالَ قد علمت.
وَلَهُمَا أَن التشكيك، يبطل الاقرار، فَقَوله فِيمَا أعلم يذكر للشَّكّ عرفا فَصَارَ كَقَوْلِه فِيمَا أَحسب وأظن، بِخِلَاف قَوْله قد علمت لانه للتحقيق.
اهـ.

(8/337)


وَالْحَاصِل: أَن الشَّك عندنَا هُوَ التَّرَدُّد بَين الطَّرفَيْنِ مُطلقًا كَانَ أَحدهمَا راجحا أَو مرجوحا فَيكون
شَامِلًا للظن، فالراجح هُوَ الظَّن والمرجوح هُوَ الْوَهم عِنْد أهل الْمَعْقُود، وغالب الظَّن هُوَ الطّرف الرَّاجِح الَّذِي يكون قَرِيبا من الْجَزْم وَفَوق الظَّن، وَهُوَ عِنْدهم مُلْحق بِالْيَقِينِ، قَالَ فِي الْهِنْدِيَّة فِي الْبَاب الثَّانِي من الاقرار: وَلَوْ قَالَ لِفُلَانٍ عَلَيَّ أَلْفُ دِرْهَمٍ فِيمَا أعلم أَو فِي علمي أَو فِيمَا علمت.
قَالَ أَبُو حنيفَة وَمُحَمّد رحمهمَا الله تَعَالَى: هَذَا بَاطِل كُله.
وَقَالَ أَبُو يُوسُف رَحمَه الله تَعَالَى: هُوَ إِقْرَار صَحِيح.
وَأَجْمعُوا على أَنه لَو قَالَ علمت أَن لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم أَو قَالَ فلَان عَليّ ألف دِرْهَم وَقد علمت ذَلِك أَن ذَلِك إِقْرَار صَحِيح، كَذَا فِي الذَّخِيرَة: وَلَو قَالَ لَهُ عَليّ ألف دِرْهَم فِيمَا أَظن أَو فِيمَا ظَنَنْت أَو فِيمَا أَحسب أَو فِيمَا حسبت أَو فِيمَا أرى أَو فِيمَا رَأَيْت فَهُوَ بَاطِل.
كَذَا فِي الْمَبْسُوط اهـ.
وَفِي الْبَزَّاز ية وَفِيمَا علمت يلْزم.
وَفِي الْخَانِية قَالَ: علمي أَن لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم كَانَ إِقْرَارا فِي قَوْلهم، وَله عَليّ ألف فِي شَهَادَة فلَان أَو فِي علمه لَا يلْزم شئ، وبشهادة فلَان أَو بِعِلْمِهِ كَانَ إِقْرَارا، لَان حرف الْبَاء للالصاق فَيَقْتَضِي وجود الملصوق بِهِ.
وَفِي قَضَاء فلَان القَاضِي أَو الْمُحكم برضانا يلْزمه المَال.

قَوْله: (مثلا) فَالْمُرَاد أَنه أشرك مَعَه غَيره وَلَو وَاحِدًا.

قَوْلُهُ: (كَذَا فِي نُسَخِ الْمَتْنِ) أَيْ بَعْضِهَا وَفِي بَعْضِ نُسَخِ الْمَتْنِ: الْمَغْصُوبِ مِنْهُ.

قَوْلُهُ: (وألزمه زفر بعشرها) لانه أضَاف الاقرار إِلَى نَفسه وَإِلَى غَيره فَيلْزمهُ بِحِصَّتِهِ.
قَالَ فِي الْكَافِي: وعَلى هَذَا الْخلاف لَو قَالَ أقرضنا أَو أودعنا أَو لَهُ علينا أَو أعارنا.
وعَلى هَذَا لَو قَالَ: كُنَّا ثَلَاثَة أَو أَرْبَعَة يلْزمه الثَّالِث أَو الرّبع.
اهـ.

قَوْله: (يسْتَعْمل فِي الْوَاحِد) قَالَ تَعَالَى: * ((71) إِنَّا أرسلنَا) * (نوح: 1) وَإِنَّمَا قُلْنَا بذلك وَإِن كَانَ مجَازًا لما ذكره من قَوْله وَالظَّاهِر.

قَوْله: (وَقَالَ زفر لكل ثلثه) لَان إِقْرَاره للاول صَحِيح، وَلم يَصح رُجُوعه بقوله بل، وَصَحَّ إِقْرَاره للثَّانِي وَالثَّالِث فاستحقا وقاسه على مَسْأَلَة الدّين إِذا أقرّ بِهِ هَكَذَا.

قَوْله: (لنفاذه من الْكل) وَقد تقدم قبيل إِقْرَاره الْمَرِيض.

قَوْله: (أقرّ بشئ ثمَّ ادّعى الْخَطَأ لم يقبل) عزاهُ فِي الْمنح إِلَى الْخَانِية.
قَالَ محشيه الْخَيْر الرَّمْلِيّ أَقُول: وَذكر فِي الْبَزَّازِيَّة من كتاب الْقِسْمَة فِي الثَّانِي من دَعْوَى الْغَلَط فِيهَا: وَإِن ادّعى أَنه أَخذ من حِصَّته شَيْئا بعد الْقِسْمَة يبرهن عَلَيْهِ وَإِلَّا حلف عَلَيْهِ، وَهَذَا إِذا لم يقر

(8/338)


بِالِاسْتِيفَاءِ، فَإِن أقرّ وَبرهن على ذَلِك لَا تَصِحُّ الدَّعْوَى إلَّا عَلَى الرِّوَايَةِ الَّتِي اخْتَارَهَا الْمُتَأَخِّرُونَ أَنَّ دَعْوَى الْهَزْلِ فِي الْإِقْرَارِ تصح وَيحلف الْمقر لَهُ أَنه مَا كَانَ كَاذِبًا فِي إِقْرَاره اهـ.
وَهَذَا يدل على أَنه يقبل وَيحلف، اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يحمل كَلَام الْخَانِية على أَنه لَا يقبل فِي حق الْبَيِّنَة، أَو أَنه على قَول أبي حنيفَة وَمُحَمّد لَا على قَول أبي يُوسُف الَّذِي اخْتَارَهُ الْمُتَأَخّرُونَ للْفَتْوَى وَهُوَ الظَّاهِر، فَتَأَمّله هَذَا.
وَقد ذكر فِي الْخَانِية فِي بَاب الْيَمين الْخلاف الْمَذْكُور.
ثمَّ قَالَ: يُفَوض ذَلِك إِلَى رَأْي القَاضِي والمفتي فَرَاجعه إِن شِئْت.
ثمَّ إِنَّا لم نر فِي إِقْرَار الْخَانِية هَذِه الْعبارَة، وَالشَّارِح هُنَا تبع فِي النَّقْل مَا فِي الاشباه والنظائر فَإِن هَذِه الْفُرُوع منقولة مِنْهُ فَكُن على بَصِيرَة.
وَفِي الْبَحْر عَن خزانَة الْمُفْتِينَ: لَو أقرّ بِالدّينِ ثمَّ ادّعى الايفاء لَا تقبل إِلَّا إِذا تفَرقا عَن الْمجْلس.
اهـ.

قَوْله: (لم يَقع يَعْنِي ديانَة) أما إِذا كَانَ ذَلِك بَين يَدي القَاضِي فَلَا يصدقهُ فِي الْبناء الْمَذْكُور كَمَا يُؤْخَذ من مَفْهُومه، وَبِه صرح فِي حَوَاشِي الاشباه، كَمَا لَو أقرّ أَن هَذِه الْمَرْأَة أمه مثلا ثمَّ أَرَادَ أَن يَتَزَوَّجهَا وَقَالَ وهمت وَنَحْوه وصدقته الْمَرْأَة فَلهُ أَن يَتَزَوَّجهَا لَان هَذَا مِمَّا يجْرِي فِيهِ الْغَلَط، وَكَذَا لَو طلق امْرَأَة ثَلَاثًا ثمَّ تزَوجهَا وَقَالَ لم أكن تَزَوَّجتهَا حِين الطَّلَاق صدق وَجَاز النِّكَاح.
بيري.
فَإِن قيل: كَيفَ يتَبَيَّن خِلَافه أُجِيب بِأَنَّهُ يحْتَمل أَن يكون الْمُفْتِي غير ماهر فِي الْمَذْهَب فَأفْتى من أعلم مِنْهُ بِعَدَمِ الْوُقُوع، وَيحْتَمل أَن الْمُفْتِي أفتى أَولا بالوقوع من غير تثبت ثمَّ أفتى بعد التثبت بِعَدَمِهِ.
قَالَ فِي الْبَزَّازِيَّة: ظن وُقُوع الثَّلَاث بإفتاء من لَيْسَ بِأَهْلٍ فَأَمَرَ الْكَاتِبُ بِصَكِّ الطَّلَاقِ فَكُتِبَ ثُمَّ أَفْتَاهُ عَالِمٌ بِعَدَمِ الْوُقُوعِ لَهُ أَنْ يَعُودَ إلَيْهَا فِي الدِّيَانَةِ لَكِنَّ الْقَاضِيَ لَا يصدقهُ لقِيَام الصَّك اهـ.
وَمن فروع هَذِه الْمَسْأَلَة مَا فِي جَامع الْفُصُولَيْنِ: تَكَلَّمت فَقَالَ هَذَا كفر وَحرمت عَليّ بِهِ فَتبين أَن ذَلِك اللَّفْظ لَيْسَ بِكفْر، فَعَن النَّسَفِيّ أَنَّهَا لَا تحرم.
وَفِي مجمع الفتاوي: ادّعى على إِنْسَان مَالا أَو حَقًا فِي شئ فَصَالحه على مَال ثمَّ تبين أَنه لم يكن ذَلِك المَال عَلَيْهِ وَذَلِكَ الْحق لم يكن ثَابتا كَانَ للْمُدَّعى عَلَيْهِ حق اسْتِرْدَاد ذَلِك المَال.
كَذَا ذكره الْحَمَوِيّ.

قَوْله: (فَأفْتى بَعضهم بِصِحَّتِهِ) وَلَا يُفْتى بعقوبة السَّارِق لانه جور.
تجنيس وقهستاني وَقد سلف ط.
نقل فِي كتاب السّرقَة عَن إكْرَاهِ الْبَزَّازِيَّةِ: مِنْ الْمَشَايِخِ مَنْ أَفْتَى بِصِحَّةِ إِقْرَاره بهَا مكْرها.
قَالَ:
وَهُوَ الَّذِي يَسَعُ النَّاسَ وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، وَإِلَّا فالشهادة على السرقات من أندر الامور.
وَنقل عَن الزَّيْلَعِيّ جَوَاز ذَلِك سياسة، وَيَنْبَغِي التَّعْوِيلُ عَلَيْهِ فِي زَمَانِنَا لِغَلَبَةِ الْفَسَادِ، وَحكي عَنْ عِصَامٍ أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ سَارِقٍ يُنْكِرُ فَقَالَ: عَلَيْهِ الْيَمِينُ، فَقَالَ الْأَمِيرُ سَارِقٌ وَيَمِينٌ، هَاتُوا بِالسَّوْطِ فَمَا ضَرَبُوهُ عَشَرَةً حَتَّى أَقَرَّ، فَأَتَى بِالسَّرِقَةِ فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ مَا رَأَيْت جورا أشبه بِالْعَدْلِ من هَذَا.

قَوْله: (الاقرار بشئ محَال) كَقَوْلِه إِن فلَانا أَقْرضنِي كَذَا فِي شهر كَذَا وَقد مَاتَ قبله أَو أَقَرَّ لَهُ بِأَرْشِ يَدِهِ الَّتِي قَطَعَهَا خَمْسَمِائَةِ دِينَار ويداه صحيحتان لم يلْزمه شئ كَمَا فِي حيل التاترخانية.
وَعَلَى هَذَا أَفْتَيْت بِبُطْلَانِ إقْرَارِ إنْسَانٍ بِقَدْرٍ مِنْ السِّهَامِ لِوَارِثٍ وَهُوَ أَزْيَدُ مِنْ الْفَرِيضَةِ الشَّرْعِيَّة لكَونه محالا شرعا، مثلا لَو مَاتَ عَن ابْن وَبنت فَأقر الابْن أَن التَّرِكَة بَينهمَا نِصْفَانِ بِالسَّوِيَّةِ فالاقرار

(8/339)


بَاطِل لما ذكرنَا، وَلَكِن لَا بُدَّ مِنْ كَوْنِهِ مُحَالًا مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَإِلَّا فقد ذكر فِي التاترخانية من كتاب الْحِيَل لَو أَقَرَّ أَنَّ لِهَذَا الصَّغِيرِ عَلَيَّ أَلْفَ دِرْهَمٍ قرضا أقرضنيه أَو من ثمن مَبِيع باعينه صَحَّ الاقرار مَعَ أَن الصَّبِي لَيْسَ من أهل البيع وَالْقَرْض وَلَا يتَصَوَّر أَن يكون مِنْهُ، لَكِن إِنَّمَا يَصح بِاعْتِبَار أَن هَذَا الْمقر مَحل لثُبُوت الدّين للصَّغِير عَلَيْهِ فِي الْجُمْلَة.
اهـ.
أَقُول: قَالَ الْمحشِي الْحَمَوِيّ: هَل مِنْهُ مَا إِذا أقرَّت عقب العقد أَن مهرهَا لزيد مثلا.
قَالَ فِي شرح الْمَنْظُومَة والقنية: إِذا أقرَّت وَقَالَت الْمهْر الَّذِي لي على زَوجي لفُلَان أَو لوَلَدي فَإِنَّهُ لَا يَصح اهـ.
وَيُؤْخَذ من هَذَا وَاقعَة الْفَتْوَى أَن الرجل لَو أقرّ لزوجته بِنَفَقَة مُدَّة مَاضِيَة هِيَ فِيهَا نَاشِرَة وَمن غير سبق قَضَاء أَو رضَا وَهِي معترفة بذلك فَإِقْرَاره بَاطِل لكَونه محالا شرعا.
قَالَ بعض الْفُضَلَاء: وَقد أَفْتيت أخذا من ذَلِك بِأَن إِقْرَار أم الْوَلَد لمولاها بدين لَزِمَهَا بطرِيق شَرْعِي بَاطِل شرعا، وَإِن كتب بِهِ وَثِيقَة لعدم تصور دين للْمولى على أم وَلَده إِذْ الْملك لَهُ فِيهَا كَامِل والمملوك لَا يكون عَلَيْهِ دين لمَالِكه.
اهـ.
وَفِي الْحَمَوِيّ أَن عدم صِحَة إِقْرَار الْمَرْأَة بِالْمهْرِ الَّذِي لَهَا على زَوجهَا لوالدها لكَونه هبة دين لغيره من عَلَيْهِ الدّين، وَمِنْه مَا إِذا أقرّ أَنه بَاعَ عَبده من فلَان وَلم يذكر الثّمن ثمَّ جحد صَحَّ جحوده لَان
الاقرار بِالْبيعِ بِغَيْر ثمن بَاطِل كَمَا فِي قاضيخان، وَهُوَ إِحْدَى رِوَايَتَيْنِ كَمَا فِي الْوَلوالجِيَّة.
وَمِنْه إِذا زوج بنته ثمَّ طلبُوا مِنْهُ أَن يقر بِقَبض شئ من الصَدَاق فالاقرار بَاطِل لَان أهل الْمجْلس يعْرفُونَ أَنه كذب.
الْوَلوالجِيَّة.
قَالَ فِي البيري: يُؤْخَذ مِنْهُ حكم كثير من مسَائِل الاقرار الْوَاقِعَة فِي زَمَاننَا.

قَوْله: (وبالدين بعد الابراء مِنْهُ الخ) قُيِّدَ بِهِ لِأَنَّ إقْرَارَهُ بِالْعَيْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ الْعَام صَحِيح مَعَ أَنه أَمن الْأَعْيَانِ فِي الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ كَمَا صَرَّحَ بِهِ فِي الْأَشْبَاهِ وَتَحْقِيقُ الْفَرْقِ فِي رِسَالَةِ الشُّرُنْبُلَالِيُّ أَفِي الابراء الْعَام.
قَالَ الطَّحْطَاوِيّ: صُورَة الْمَسْأَلَة: وهبت لزَوجهَا مهرهَا ثمَّ أقرّ بِهِ بعد الْهِبَة لَا يَصح إِقْرَاره.
وَهَذَا لَا يُنَافِي مَا ذكره الْعَلامَة عبد الْبر نقلا عَن الْخُلَاصَة وَالصُّغْرَى قَالَ: رجل أقرّ لامْرَأَته بِمهْر ألف دِرْهَم فِي مرض مَوته وَمَات ثمَّ أَقَامَت الْوَرَثَة الْبَيِّنَة أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ مَهْرَهَا مِنْ زَوْجِهَا فِي حَيَاة الزَّوْج لَا تقبل لاحْتِمَال الابانة والاعادة على الْمهْر الْمَذْكُور، لَكِن فِي فُصُول الْعِمَادِيّ مَا يَقْتَضِي أَن الاقرار إِنَّمَا يَصح بِمِقْدَار مهر الْمثل.
اهـ.
مُلَخصا.
ثمَّ نقلا عَن المُصَنّف أَن الْهِبَة فِي الْمهْر تخَالف الابراء، فَلَو أَبرَأته مِنْهُ ثمَّ أقرّ بِهِ لَا يَصح إِقْرَاره.
انْتَهَت عبارَة الطَّحْطَاوِيّ.
قَالَ فِي جَامع الْفُصُولَيْنِ: بَرْهَنَ أَنَّهُ أَبْرَأَنِي عَنْ هَذِهِ الدَّعْوَى ثُمَّ ادَّعَى الْمُدَّعِي ثَانِيًا أَنَّهُ أَقَرَّ لِي بِالْمَالِ بَعْدَ إبْرَائِي، فَلَوْ قَالَ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ أَبْرَأَنِي وَقَبِلْتُ الْإِبْرَاءَ وَقَالَ صَدَّقْته فِيهِ لَا يَصِحُّ الدَّفْعُ: يَعْنِي دَعْوَى الْإِقْرَارِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْهُ يَصِحُّ الدَّفْعُ لِاحْتِمَالِ الرَّدِّ، وَالْإِبْرَاءُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ فَيَبْقَى الْمَالُ عَلَيْهِ، بِخِلَافِ قَبُولِهِ إذْ لَا يرْتَد بِالرَّدِّ بعده اهـ.
لَكِنَّ كَلَامَنَا فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّيْنِ، وَهَذَا فِي الْإِبْرَاءِ عَنْ الدَّعْوَى.
وَفِي الرَّابِعِ وَالْعِشْرِينَ من التاترخانية: وَلَوْ قَالَ أَبْرَأْتُكَ مِمَّا لِي عَلَيْكَ فَقَالَ عَليّ ألف قَالَ صدقت فَهُوَ برِئ اسْتِحْسَانًا.
لَا حَقَّ لِي فِي هَذِهِ الدَّارِ فَقَالَ كَانَ لَك سدس فاشتريته مِنْك فَقَالَ لَمْ أَبِعْهُ فَلَهُ السُّدُسُ، وَلَوْ قَالَ خرجت من كُلِّ حَقٍّ لِي فِي هَذِهِ الدَّارِ أَوْ بَرِئْتُ مِنْهُ إلَيْكَ أَوْ أَقْرَرْتُ لَكَ فَقَالَ الْآخَرُ اشْتَرَيْتَهَا مِنْكَ فَقَالَ لَمْ أَقْبِضْ الثَّمَنَ فَلهُ الثّمن.
اهـ.

(8/340)


وَفِيهَا عَنْ الْعَتَّابِيَّةِ: وَلَوْ قَالَ لَا حَقَّ لي قبله برِئ من كل عين وَدين، وعَلى هَذَا لَو قَالَ فلَان
برِئ مِمَّا لِي قِبَلَهُ دَخَلَ الْمَضْمُونُ وَالْأَمَانَةُ، وَلَوْ قَالَ هُوَ برِئ مِمَّا لي عَلَيْهِ دخل الْمَضْمُون دون الامانة، وَلَو قَالَ هُوَ برِئ مِمَّا لي عِنْده فَهُوَ برِئ من كل شئ أَصْلُهُ أَمَانَةٌ، وَلَا يَبْرَأُ عَنْ الْمَضْمُونِ، وَلَوْ ادَّعَى الطَّالِبُ حَقًّا بَعْدَ ذَلِكَ وَأَقَامَ بَيِّنَةً: فَإِنْ كَانَ أَرَّخَ بَعْدَ الْبَرَاءَةِ تُسْمَعُ دَعْوَاهُ وَتُقْبَلُ بَيِّنَتُهُ، وَإِنْ لَمْ يُؤَرِّخْ فَالْقِيَاسُ أَنْ تسمع وَيحمل عَلَى حَقٍّ وَجَبَ بَعْدَهَا.
وَفِي الِاسْتِحْسَانِ: لَا تقبل بَينته انْتهى.
قَالَ بعض الْفُضَلَاء بعد أَن ذكر عبارَة جَامع الْفُصُولَيْنِ الْمَذْكُورَة: فَهَذَا أولى بِالِاسْتِثْنَاءِ مِمَّا ذكره وسيذكره المُصَنّف فِي بَيَان السَّاقِط لَا يعود، وَبحث فِيهِ بعض الْفُضَلَاء بِأَنَّهُ لَا أَوْلَوِيَّة وَلَا مُسَاوَاة عِنْد التَّأَمُّل، لَان هُنَا إِنَّمَا صحت دَعْوَاهُ لاحْتِمَال الرَّد كَمَا اعْترف بِهِ، وَأما مَا اسْتَثْنَاهُ المُصَنّف فالمقصود بِالْهبةِ الْهِبَة الْمُعْتَبرَة شرعا الْمُشْتَملَة على الايجاب وَالْقَبُول وَشرط الصِّحَّة واللزوم لانها عِنْد الاطلاق تَنْصَرِف إِلَى الْكَامِلَة.
هَذَا، وَعِنْدِي فِي كَون هَذَا الْفَرْع دَاخِلا تَحت الاصل الْمَذْكُور فِي التاترخانية نظر يعرف بِالتَّأَمُّلِ فِي كَلَامهم، لانه إِنَّمَا جَازَ ذَلِك لانه يَجْعَل زِيَادَة فِي الْمهْر، وَالزِّيَادَة فِي الْمهْر جَائِزَة عندنَا.
وَأما مَا وَقع الابراء مِنْهُ وَسقط فَلَا يعود لَان السَّاقِط لَا يعود.
وَعبارَة الْبَزَّازِيَّة تفِيد مَا قلته بِعَيْنِه.
قَالَ فِي الْمُحِيطِ: وَهَبَتْ الْمَهْرَ مِنْهُ ثُمَّ قَالَ اشْهَدُوا أَن لَهَا عَليّ مهر كَذَا فَالْمُخْتَارُ عِنْدَ الْفَقِيهِ أَنَّ إقْرَارَهُ جَائِزٌ، وَعَلِيهِ الْمهْر الْمَذْكُورُ إذَا قَبِلَتْ لِأَنَّ الزِّيَادَةَ لَا تَصِحُّ بِلَا قَبُولِهَا.
وَالْأَشْبَهُ أَنْ لَا يَصِحَّ وَلَا تجْعَل زِيَادَة بِغَيْر قصد الزِّيَادَة، فاستثناؤه فِي غير مَحَله كَمَا لَا يخفى.
كَذَا فِي الْحَوَاشِي الحموية، وَيَأْتِي أَوَاخِر الْبَاب إِن شَاءَ الله تَعَالَى.

قَوْله: (ذكره المُصَنّف فِي فتاوته) وَنَصُّهُ: سُئِلَ عَنْ رَجُلَيْنِ صَدَرَ بَيْنَهُمَا إبْرَاءٌ عَامٌّ ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنْهُمَا بَعْدَ الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ أَقَرَّ أَنَّ فِي ذِمَّتِهِ مَبْلَغًا مُعَيَّنًا لِلْآخَرِ فَهَلْ يَلْزَمُهُ ذَلِكَ أَمْ لَا؟ أَجَابَ: إذَا أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ كَمَا فِي الْفَوَائِدِ الزَّيْنِيَّةِ نَقْلًا عَنْ التاترخانية.
نَعَمْ إذَا ادَّعَى عَلَيْهِ دَيْنًا بِسَبَبٍ حَادِثٍ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ الْعَامِّ وَأَنَّهُ أَقَرَّ بِهِ يَلْزَمُهُ انْتهى.
وَانْظُرْ مَا فِي إقْرَارِ تَعَارُضِ الْبَيِّنَاتِ لِغَانِمٍ الْبَغْدَادِيِّ.

قَوْلُهُ: (قُلْتُ وَمُفَادُهُ) أَيْ مُفَادُ تَقْيِيدِ اللُّزُوم بِدَعْوَاهُ بِسَبَب حَادث.

قَوْله: (أَنه) أَي الْغَرِيم.

قَوْله: (بِبَقَاء الدّين) أَي الَّذِي أَبرَأَهُ مِنْهُ فَلَيْسَ دينا حَادِثا: أَي بِأَن مَا أَبْرَأَنِي مِنْهُ بَاقٍ فِي ذِمَّتِي، وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ قَوْلِهِ السَّابِقِ وَبِالدَّيْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ أَنَّهُ قَالَ هُنَاكَ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ لفُلَان عَليّ كَذَا وَفِي الثَّانِيَة قَالَ دين فلَان بَاقٍ عَليّ، وَالْحكم فيهمَا وَاحِد وَهُوَ الْبطلَان.
تَأمل.

قَوْله: (فَحكمه
كَالْأَوَّلِ) أَيْ الْإِقْرَارِ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ: أَي فَإِنَّهُ بَاطِل.

قَوْله: (الْفِعْل فِي الْمَرَض) كالاقرار فِيهِ بدين وكالتزوج وَالْعِتْق وَالْهِبَة والمحاباة.

قَوْله: (أحط من فعل الصِّحَّة) فَإِن الاقرار فِيهِ بدين مُؤخر عَن دين الصِّحَّة والتزوج ينفذ فِيهِ بِمهْر الْمثل وَتبطل الزِّيَادَة، بِخِلَاف الصِّحَّة وَالْعِتْق وَمَا بعده فِي الْمَرَض تنفذ من الثُّلُث، وَفِي الصِّحَّة من الْكل.

قَوْله: (إلَّا فِي مَسْأَلَةِ إسْنَادِ النَّاظِرِ النَّظَرَ لِغَيْرِهِ) المُرَاد بالاسناد التَّفْوِيض، فَإِنَّهُ إِذا فوضه فِي صِحَّته لَا يَصح إِلَّا إِذا شَرط لَهُ التَّفْوِيض، وَإِذا فوضه فِي مَرضه صَحَّ.

قَوْله: (بِلَا شَرط) أَي شَرط الْوَاقِف التَّفْوِيض لَهُ، أما إِذا كَانَ هُنَاكَ شَرط فيستويان.

قَوْله: (تَتِمَّة) أَي انْتهى من التَّتِمَّة، وَهِي اسْم كتاب.

(8/341)


وَالْحَاصِل: أَن النَّاظر إِذا فوض النّظر لغيره فَتَارَة يكون بِالشّرطِ وَتارَة لَا، وعَلى كل إِمَّا فِي الصِّحَّة أَو فِي الْمَرَض، وَقد تقدم فِي الْوَقْف فَارْجِع إِلَيْهِ.

قَوْله: (وَتَمَامه فِي الاشباه) قَالَ فِيهَا بعد عبارَة التَّتِمَّة: وَفِي كَافِي الْحَاكِم من بَاب الاقرار فِي الْمُضَاربَة: لَو أقرّ الْمضَارب بِرِبْح ألف دِرْهَم فِي المَال ثمَّ قَالَ غَلطت أَنَّهَا خَمْسمِائَة لم يصدق وَهُوَ ضَامِن لما أقرّ بِهِ انْتهى.
اخْتلفَا فِي كَون الاقرار للْوَارِث فِي الصِّحَّة أَو فِي الْمَرَض فَالْقَوْل لمن ادّعى أَنه فِي الْمَرَض، وَفِي كَونه فِي الصغر أَو الْبلُوغ فَالْقَوْل لمن ادّعى الصغر.
كَذَا فِي إِقْرَار الْبَزَّازِيَّة: وَلَو طلق أَو أعتق ثمَّ قَالَ كنت صَغِيرا فَالْقَوْل لَهُ وَإِن أسْند إِلَى حَال الْجُنُون، فَإِن كَانَ معهودا قبل، وَإِلَّا فَلَا.
مَاتَ الْمقر فبرهن وَارثه على الاقرار وَلم يشْهدُوا لَهُ أَن الْمقر لَهُ صدق الْمقر أَو كذبه تقبل كَمَا فِي الْقنية.
أقرّ فِي مَرضه بشئ وَقَالَ كنت فعلته فِي الصِّحَّة كَانَ بِمَنْزِلَة الاقرار بِالْمرضِ من غير إِسْنَاد إِلَى زمن الصِّحَّة.
قَالَ فِي الْخُلَاصَة: لَوْ أَقَرَّ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ فِي صِحَّتِهِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَادَّعَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثّمن إِلَّا بِقدر الثُّلُث.
وَفِي الْعمادِيَّة: لَا يصدق على اسْتِيفَاء الثّمن إِلَّا أَن يكون العَبْد قد مَاتَ قبل مَرضه انْتهى.
وَتَمَامه فِي شرح ابْن وهبان انْتهى.

قَوْله: (أقرّ بِمهْر الْمثل) هُوَ إصْلَاح بَيت الْوَهْبَانِيَّة لشارحها ابْن الشّحْنَة، وَبَيت الاصل: أقرّ بِأَلف مهرهَا صَحَّ مشرفا وَلَو وهبت من قبل لَيْسَ يُغير وَصورتهَا: مَرِيض مرض الْمَوْت أقرّ لزوجته بِأَلف مهرهَا ثمَّ مَاتَ فأقامت ورثته بَيِّنَة أَن الْمَرْأَة وهبت مهرهَا لزَوجهَا قبل مَرضه لَا تقبل وَالْمهْر لَازم بِإِقْرَارِهِ.
وَفِي فُصُول الْعِمَادِيّ مَا يَقْتَضِي أَن ذَلِك إِذا كَانَ بِمِقْدَار مهر الْمثل، وَقد تقدم ذَلِك قَرِيبا فَلَا تنسه، وَسَيَأْتِي قَرِيبا.
قَالَ ابْن الشّحْنَة: وَمَسْأَلَة الْبَيْت من الْخُلَاصَة وَالصُّغْرَى.
أَقُول: وَقيد بِمهْر الْمثل، إذْ لَوْ كَانَ الْإِقْرَارُ بِأَزْيَدَ مِنْهُ لَمْ يَصح، وَلَا يُنَافِي هَذَا مَا قَدَّمَهُ الشَّارِحُ مِنْ بُطْلَانِ الْإِقْرَارِ بَعْدَ الْهِبَةِ لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ أَبَانَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا عَلَى الْمَهْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الصُّورَة.
وَفِيه أَن الِاحْتِمَال مَوْجُود ثمَّة.
تَأمل.

قَوْله: (فَبَيِّنَة الْإِيهَابِ) أَيْ لَوْ أَقَامَتْ الْوَرَثَةُ الْبَيِّنَةَ وَمِثْلُهُ الْإِبْرَاءُ كَمَا حَقَّقَهُ ابْنُ الشِّحْنَةِ.

قَوْلُهُ: (مِنْ قبل تهدر) أَي الْبَيِّنَة فِي حَال الصِّحَّةِ أَنَّ الْمَرْأَةَ وَهَبَتْ مَهْرَهَا مِنْ زَوْجِهَا فِي حَيَاته لَا تقبل، وَهَذَا ظَاهر على قَول الْفَقِيه الَّذِي اخْتَارَهُ.
وَأما على الْمَذْهَب فَيظْهر لي أَن الاقرار بعد الْهِبَة هُوَ المهدر، لانهم على مَا يظْهر فرضوا هَذَا الْخلاف فِي الصِّحَّة فَيكون فِي الْمَرَض بالاولى، قَالَ فِي الْمنح: أَقَرَّ بِالدَّيْنِ بَعْدَ الْإِبْرَاءِ مِنْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ إِلَّا إِذا أقرّ لزوجته بِمهْر بعد هبتها الْمهْر مِنْهُ على مَا اخْتَارَهُ الْفَقِيه وَيجْعَل زِيَادَة على الْمهْر إِن قبلت، والاشبه خِلَافه لعدم قصد الزِّيَادَة اهـ.
وَمر نَحوه قَرِيبا فَلَا تنسه.

قَوْله: (وَإسْنَاد بيع) بِالنّصب مفعول لاقبلن أَو مُبْتَدأ خَبره جملَة اقبلن.

قَوْله: (فِيهِ) أَي فِي مرض مَوته.

قَوْله: (اقبلن) أَي إِذا صدقه المُشْتَرِي.

(8/342)


وَصُورَة الْمَسْأَلَة كَمَا فِي الْمُنْتَقَى: لَوْ أَقَرَّ فِي الْمَرَضِ الَّذِي مَاتَ فِيهِ أَنَّهُ بَاعَ هَذَا الْعَبْدَ مِنْ فُلَانٍ فِي صِحَّتِهِ وَقَبَضَ الثَّمَنَ وَادَّعَى ذَلِكَ الْمُشْتَرِي فَإِنَّهُ يُصَدَّقُ فِي الْبَيْعِ، وَلَا يُصَدَّقُ فِي قَبْضِ الثَّمَنِ إلَّا بِقَدْرِ الثُّلُثِ.
هَذِهِ مَسْأَلَة النّظم إِلَّا أَنه أغفل فِيهِ تَصْدِيق المُشْتَرِي ابْن الشّحْنَة.
وَفِي الْعمادِيَّة: لَا يصدق على اسْتِيفَاء الثّمن إِلَّا أَن يكون العَبْد قد مَاتَ قبل مَوته اهـ.
أَقُول: عدم التَّصْدِيق فِي الْقَبْض يُفِيد عدم نَفاذ الْمُحَابَاة فِي هَذَا البيع، وَيشْهد لَهُ مَا فِي شرح تحفة الاقران: أقرّ فِي مَرضه بشئ وَقَالَ كنت فعلته فِي الصِّحَّةُ كَانَ بِمَنْزِلَةِ الْإِقْرَارِ فِي الْمَرَضِ من غير إِسْنَاد إِلَى زمن الصِّحَّة.
اهـ.
وارجع إِلَى مَا قدمْنَاهُ أَوَائِل إِقْرَار الْمَرِيض عِنْد قَوْله وإبرائه مديونه وَلَا تغفل.

قَوْله: (التراث) أَي الْمِيرَاث.

قَوْله: (وَلَيْسَ بِلَا تشهد الخ) هَذَا تصويب الْعَلامَة عبد الْبر لَا بَيت الاصل وَهُوَ: وَلَيْسَ بِإِقْرَار مقَالَة لَا تكن شَهِيدا وَلَا تخبر يُقَال فَينْظر ملخصه أَنه لَو قَالَ لَا تشهد أَن لفُلَان عَليّ كَذَا لَا يكون إِقْرَارا بالِاتِّفَاقِ، وَإِن قَالَ لَا تخبره أَن لَهُ عَليّ كَذَا من حَقه أَو لحقه اخْتلف فِيهِ.
قَالَ الْكَرْخِي وَعَامة مَشَايِخ بَلخ: أَن الصَّحِيح أَنه لَيْسَ بِإِقْرَار وَقَالَ مَشَايِخ بُخَارى: الصَّوَاب أَنه إِقْرَار.
قَالَ فِي الْقنية والمنية هُوَ الصَّحِيح.
وَالْفرق على كَونه إِقْرَارا أَن النَّهْي عَن الشَّهَادَة نهي عَن زور يشْهد بِهِ، وَالنَّهْي عَن خبر استكتام علمه عَلَيْهِ، وَقَوله تشهد بِسُكُون الدَّال الْمُهْملَة.

قَوْله: (نعده) بالنُّون وَتَشْديد الدَّال: أَي لَا نعد ذَلِك فِي حكم الاقرار.

قَوْله: (فخلف) قَالَ الْمَقْدِسِيَّ: ذَكَرَ مُحَمَّدٌ أَنَّ قَوْلَهُ لَا تُخْبِرْ فُلَانًا أَنَّ لَهُ عَلَيَّ أَلْفًا إقْرَارٌ.
وَزعم السَّرخسِيّ أَن فِيهِ رِوَايَتَيْنِ.
قَالَ ط: ينظر فِيمَا إِذا قَالَه ابْتِدَاء، وَذكر رِوَايَة الْكَرْخِي ومشايخ بَلخ وَرِوَايَة مَشَايِخ بُخَارى المذكورتين.
ثمَّ قَالَ: وَجه كَونه إِقْرَارا أَن النَّهْي عَن الاخبار يَصح مَعَ وجود الْمخبر عَنهُ لقَوْله تَعَالَى: * ((4) وَإِذا جَاءَهُم أَمر من الامن أَو الْخَوْف أذاعوا بِهِ) * (النِّسَاء: 38) ذمهم على الاخبار مَعَ وجود الْمخبر عَنهُ، وَمن شَرط صِحَة الاخبار عَنهُ فِي الاثبات فَكَذَلِك فِي النَّفْي، فَكَأَنَّهُ أثبت الْمخبر عَنهُ، وَكَأَنَّهُ قَالَ لفُلَان عَليّ ألف دِرْهَم فَلَا تخبره بِأَن لَهُ عَليّ ذَلِك، وَلَو قَالَ ذَلِك كَانَ إِقْرَارا اهـ.
وَوجه كَونه غير إِقْرَار مَا تقدم فِي لَا تشهد، ومسألتا الْبَيْت المذكورتان من قاضيخان من الْمُنْتَقى.

قَوْله: (وَمن قَالَ ملكي الخ) ملخصه: وَلَو أضَاف الشئ إِلَى نَفسه فَقَالَ ملكي هَذَا الْمعِين لفُلَان كَانَ هبة يَقْتَضِي التَّسْلِيم فَلَا يتم إِلَّا بِهِ، وَإِن لم يضفه إِلَى نَفسه كَانَ إِظْهَارًا وإقرارا لَا يَقْتَضِي التَّسْلِيم، وَهبة الاب لصغيره تتمّ بالايجاب فَلَا يحْتَاج لقبض ابْنه الصَّغِير.
وَالْحَاصِل: أَنه إِذا قَالَ ملكي ذَا لهَذَا الشَّخْص كَانَ منشئا لتمليكه فَيعْتَبر فِيهِ شَرَائِط الْهِبَة، وَمَنْ قَالَ هَذَا مِلْكُ ذَا فَهْوَ مُظْهِرُ: أَي مقرّ ومخبر فَلَا يشْتَرط فِيهِ شُرُوط الْهِبَة.

قَوْله: (لذا) أَي لهَذَا الشَّخْص.

قَوْله: (كَانَ منشئا) أَي لتمليكه هِبته.

قَوْله: (فَهُوَ مظهر) أَي مقرّ ومخبر وَمَسْأَلَة الْبَيْت من

(8/343)


قاضيخان من الْمُلْتَقى.

قَوْله: (وَمن قَالَ لَا دَعْوَى لي الْيَوْم) صورتهَا: قَالَ لآخر لَا دَعْوَى لي عَلَيْك الْيَوْم فَلَا تسمع دَعْوَاهُ بعد ذَلِك الْيَوْم بِمَا تقدم لانه إِبْرَاء عَام حَتَّى يَتَجَدَّد لَهُ غَيره عَلَيْهِ بعده، وَكَذَا لَو قَالَ تركته أصلا فَهُوَ إِبْرَاء وَكَذَا لَو قَالَ تَرَكْت دَعْوَايَ عَلَى فُلَانٍ وَفَوَّضْت أَمْرِي إِلَى الْآخِرَة لَا تسمع دَعْوَاهُ بِمَا لم يَتَجَدَّد بعد الابراء، وَالله تَعَالَى أعلم كَمَا فِي الشُّرُنْبُلَالِيَّة: أَي وَلَو إِرْثا حَيْثُ علم بِمَوْت مُوَرِثه وقته.
بَزَّازِيَّة.
وَفِي الْخُلَاصَة: أَبرَأَهُ عَن الدَّعَاوَى والخصومات ثمَّ ادّعى عَلَيْهِ مَالا بالارث عَن أَبِيه: إِن مَاتَ أَبوهُ قبل إبرائه صَحَّ الابراء وَلَا تسمع دَعْوَاهُ، وَإِن لم يعلم بِمَوْت الاب عِنْد الابراء اهـ.
وَتقدم ذَلِك.

قَوْله: (لي الْيَوْم) بتحريك الْيَاء من لي.

قَوْله: (مِنْهَا) أَي من دعاوى الْيَوْم أَو مَا تقدمه، أما إِذا كَانَ بِسَبَب حَادث فَتسمع كَمَا سَمِعت.

قَوْله: (فمنكر) بتَخْفِيف الْكَاف مَعَ إشباع الرَّاء: أَي يُنكره الشَّرْع، وَلَا يقبله.
أَقُول: وَمَسْأَلَة الْبَيْت من الْقنية على مَا نَقله صَاحب الْفَوَائِد عَنْهَا، وَالله تَعَالَى أعلم، وَأَسْتَغْفِر الله الْعَظِيم.

(8/344)