الإقناع في حل ألفاظ أبي شجاع

فصل فِي صَلَاة الْمُسَافِر من حَيْثُ الْقصر وَالْجمع
الْمُخْتَص الْمُسَافِر بجوازهما تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لما يلْحقهُ من مشقة السّفر غَالِبا مَعَ كَيْفيَّة الصَّلَاة بِنَحْوِ الْمَطَر
وَالْأَصْل فِي الْقصر قبل الْإِجْمَاع قَوْله تَعَالَى {وَإِذا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْض}
قَالَ يعلى بن أُميَّة قلت لعمر إِنَّمَا قَالَ الله تَعَالَى {إِن خِفْتُمْ} وَقد أَمن النَّاس فَقَالَ عجبت مِمَّا عجبت مِنْهُ فَسَأَلت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَقَالَ صَدَقَة تصدق الله بهَا عَلَيْكُم فاقبلوا صدقته رَوَاهُ مُسلم
وَالْأَصْل فِي الْجمع أَخْبَار تَأتي
وَلما كَانَ الْقصر أهم هَذِه الْأُمُور بَدَأَ المُصَنّف بِهِ كَغَيْرِهِ فَقَالَ (وَيجوز للْمُسَافِر) لغَرَض صَحِيح (قصر الصَّلَاة الرّبَاعِيّة) الْمَكْتُوبَة دون الثنائية والثلاثية (بِخمْس شَرَائِط) وَترك شُرُوطًا أُخْرَى سنتكلم عَلَيْهَا الأول (أَن يكون سَفَره فِي غير مَعْصِيّة) سَوَاء أَكَانَ وَاجِبا كسفر حج أَو مَنْدُوبًا كزيارة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَو مُبَاحا كسفر تِجَارَة أَو مَكْرُوها كسفر مُنْفَرد
وَأما العَاصِي بِسَفَرِهِ وَلَو فِي أَثْنَائِهِ كآبق وناشزة فَلَا يقصر لِأَن السّفر سَبَب للرخصة فَلَا يناط بالمعصية كَبَقِيَّة رخص السّفر نعم لَهُ بل عَلَيْهِ التَّيَمُّم مَعَ وجوب إِعَادَة مَا صلاه بِهِ على الْأَصَح كَمَا فِي الْمَجْمُوع فَإِن تَابَ فَأول سَفَره مَحل تَوْبَته فَإِن كَانَ طَويلا أَو لم يشْتَرط للرخصة طوله كَأَكْل الْميتَة للْمُضْطَر فِيهِ ترخص وَإِلَّا فَلَا
وَألْحق بسفر الْمعْصِيَة أَن يتعب نَفسه أَو دَابَّته بالركض بِلَا غَرَض شَرْعِي ذكره فِي الرَّوْضَة كَأَصْلِهَا
(و) الشَّرْط الثَّانِي (أَن تكون مسافته) أَي السّفر الْمُبَاح ثَمَانِيَة وَأَرْبَعين ميلًا هاشمية ذَهَابًا وَهِي مرحلتان وهما سير يَوْمَيْنِ معتدلين بسير الأثقال وَهِي (سِتَّة عشر فرسخا) وَلَو قطع هَذِه الْمسَافَة فِي لَحْظَة فِي بر أَو بَحر فقد كَانَ ابْن عمر وَابْن عَبَّاس يقصران ويفطران فِي أَرْبَعَة برد وَمثله إِنَّمَا يفعل عَن تَوْقِيف
وَخرج بذهاب الإياب مَعَه فَلَا يحْسب حَتَّى لَو قصد مَكَانا على مرحلة بنية أَن لَا يُقيم فِيهِ بل يرجع فَلَيْسَ لَهُ الْقصر وَإِن ناله مشقة مرحلَتَيْنِ متواليتين لِأَنَّهُ لَا يُسمى سفرا طَويلا وَالْغَالِب فِي الرُّخص الِاتِّبَاع والمسافة تَحْدِيد لَا تقريب لثُبُوت التَّقْدِير بالأميال عَن الصَّحَابَة وَلِأَن الْقصر على خلاف الأَصْل فيحتاط فِيهِ بتحقيق تَقْدِير الْمسَافَة والميل أَرْبَعَة آلَاف خطْوَة والخطوة ثَلَاثَة أَقْدَام وَالْقَدَمَانِ ذِرَاع والذراع أَرْبَعَة وَعِشْرُونَ أصبعا معترضات والأصبع سِتّ شعيرات معتدلات معترضات والشعيرة سِتّ شَعرَات من شعر البرذون
وَخرج بالهاشمية المنسوبة لبني هَاشم الأموية المنسوبة لبني أُميَّة فالمسافة بهَا أَرْبَعُونَ ميلًا إِذْ كل خَمْسَة مِنْهَا قدر سِتَّة هاشمية
(و) الشَّرْط الثَّالِث (أَن يكون مُؤديا للصَّلَاة) الْمَقْصُورَة فِي أحد أَوْقَاتهَا الْأَصْلِيّ أَو العذري أَو الضَّرُورِيّ فَلَا تقصر فَائِتَة

(1/171)


الْحَضَر فِي السّفر لِأَنَّهَا ثبتَتْ فِي ذمَّته تَامَّة وَكَذَا لَا تقصر فِي السّفر فَائِتَة مَشْكُوك فِي أَنَّهَا فَائِتَة سفر أَو حضر احْتِيَاطًا وَلِأَن الأَصْل الْإِتْمَام وتقضى فَائِتَة سفر قصر فِي سفر قصر وَإِن كَانَ غير سفر الْفَائِتَة دون الْحَضَر نظرا إِلَى وجود السَّبَب
(و) الشَّرْط الرَّابِع (أَن يَنْوِي الْقصر مَعَ) تَكْبِيرَة (الْإِحْرَام) كأصل النِّيَّة وَمثل نِيَّة الْقصر مَا لَو نوى الظّهْر مثلا رَكْعَتَيْنِ وَلم ينْو ترخصا كَمَا قَالَه الإِمَام وَمَا لَو قَالَ أؤدي صَلَاة السّفر كَمَا قَالَه الْمُتَوَلِي فَلَو لم ينْو مَا ذكر بِأَن نوى الْإِتْمَام أَو أطلق أتم لِأَنَّهُ الْمَنوِي فِي الأولى وَالْأَصْل فِي الثَّانِيَة وَيشْتَرط التَّحَرُّز عَن منافي نِيَّة الْقصر فِي دوَام الصَّلَاة كنية الْإِتْمَام فَلَو نَوَاه بعد نِيَّة الْقصر أتم
تَنْبِيه قد علم من أَن الشَّرْط التَّحَرُّز عَن منافيها أَنه لَا يشْتَرط اسْتِدَامَة نِيَّة الْقصر وَهُوَ كَذَلِك وَلَو أحرم قاصرا ثمَّ تردد فِي أَنه يقصر أَو يتم أتم أَو شكّ فِي أَنه نوى الْقصر أم لَا أتم وَإِن تذكر فِي الْحَال أَنه نَوَاه لِأَنَّهُ أدّى جُزْءا من صلَاته حَال التَّرَدُّد على التَّمام وَلَو قَامَ إِمَامه لثالثة فَشك هَل هُوَ متمم أم ساه أتم وَإِن بَان أَنه ساه وَلَو قَامَ الْقَاصِر لثالثة عمدا بِلَا مُوجب للإتمام كنيته أَو نِيَّة إِقَامَة بطلت صلَاته أَو سَهوا ثمَّ تذكر عَاد وجوبا وَسجد لَهُ ندبا وَسلم فَإِن أَرَادَ عِنْد تذكره أَن يتم عَاد للقعود وجوبا ثمَّ قَامَ نَاوِيا الْإِتْمَام
(و) الشَّرْط الْخَامِس (أَن لَا يأتم بمقيم) أَو بِمن (جهل سَفَره) فَإِن اقْتدى بِهِ وَلَو فِي جُزْء من صلَاته كَأَن أدْركهُ فِي آخر صلَاته أَو أحدث هُوَ عقب اقتدائه لزمَه الْإِتْمَام لخَبر الإِمَام أَحْمد عَن ابْن عَبَّاس سُئِلَ مَا بَال الْمُسَافِر يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ إِذا انْفَرد وأربعا إِذا ائتم بمقيم فَقَالَ تِلْكَ السّنة
وَله قصر الصَّلَاة الْمُعَادَة إِن صلاهَا أَولا مَقْصُورَة وصلاها ثَانِيًا خلف من يُصليهَا مَقْصُورَة أَو صلاهَا إِمَامًا وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر وَإِن لم أر من تعرض لَهُ وَلَو اقْتدى بِمن ظَنّه مُسَافِرًا فَبَان مُقيما فَقَط أَو مُقيما ثمَّ مُحدثا لزمَه الْإِتْمَام أما لَو بَان مُحدثا ثمَّ مُقيما أَو بانا مَعًا فَلَا يلْزمه الْإِتْمَام إِذْ لَا قدوة فِي الْحَقِيقَة وَفِي الظَّاهِر ظَنّه مُسَافِرًا وَلَو اسْتخْلف قَاصِر لحَدث أَو غَيره متما أتم المقتدون بِهِ كَالْإِمَامِ إِن عَاد واقتدى بِهِ وَلَو لزم الْإِتْمَام مقتديا فَسدتْ صلَاته أَو إِمَامه أَو بَان إِمَامه مُحدثا أتم لِأَنَّهَا صَلَاة وَجب عَلَيْهِ إِتْمَامهَا وَمَا ذكر لَا يَدْفَعهُ وَلَو بَان للْإِمَام حدث نَفسه لم يلْزمه الْإِتْمَام وَلَو أحرم مُنْفَردا وَلم ينْو الْقصر ثمَّ فَسدتْ صلَاته لزمَه الْإِتْمَام كَمَا فِي الْمَجْمُوع وَلَو فقد الطهُورَيْنِ فشرع فِيهَا بنية الْإِتْمَام ثمَّ قدر على الطَّهَارَة قَالَ الْمُتَوَلِي وَغَيره
قصر لِأَن مَا فعله لَيْسَ بِحَقِيقَة صَلَاة
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَلَعَلَّ مَا قَالُوهُ بِنَاء على أَنَّهَا لَيست بِصَلَاة شَرْعِيَّة بل تشبهها وَالْمذهب خِلَافه اه
وَهَذَا هُوَ الظَّاهِر
وَكَذَا يُقَال فِيمَن صلى بِتَيَمُّم مِمَّن تلْزمهُ الْإِعَادَة بنية الْإِتْمَام ثمَّ أَعَادَهَا وَلَو اقْتدى بمسافر وَشك فِي نِيَّة الْقصر فَجزم هُوَ بنية الْقصر جَازَ لَهُ الْقصر إِن بَان الإِمَام قاصرا لِأَن الظَّاهِر من حَال الْمُسَافِر الْقصر فَإِن بَان أَنه متم لزمَه الْإِتْمَام فَإِن لم يجْزم بِالنِّيَّةِ

(1/172)


بل قَالَ إِن قصر قصرت وَإِلَّا بِأَن أتم أتممت جَازَ لَهُ الْقصر إِن قصر إِمَامه لِأَنَّهُ نوى مَا فِي نفس الْأَمر فَهُوَ تَصْرِيح بالمقتضي فَإِن لم يظْهر للْمَأْمُوم مَا نَوَاه الإِمَام لزمَه الْإِتْمَام احْتِيَاطًا
هَذَا آخر الشُّرُوط الَّتِي اشترطها المُصَنّف
وَأما الزَّائِد عَلَيْهَا فأمور الأول يشْتَرط كَونه مُسَافِرًا فِي جَمِيع صلَاته فَلَو انْتهى سَفَره فِيهَا كَأَن بلغت سفينته دَار إِقَامَته أَو شكّ فِي انتهائه أتم لزوَال سَبَب الرُّخْصَة فِي الأولى وللشك فِيهِ فِي الثَّانِيَة
وَالثَّانِي يشْتَرط قصد مَوضِع مَعْلُوم معِين أَو غير معِين أول سَفَره ليعلم أَنه طَوِيل فيقصر أَولا فَلَا قصر للهائم وَهُوَ الَّذِي لَا يدْرِي أَيْن يتَوَجَّه وَإِن طَال سَفَره لانْتِفَاء علمه بِطُولِهِ أَوله وَلَا طَالب غَرِيم أَو آبق يرجع مَتى وجده وَلَا يعلم مَوْضِعه
نعم إِن قصد سفر مرحلَتَيْنِ أَولا كَأَن علم أَنه لَا يجد مَطْلُوبه قبلهمَا جَازَ لَهُ الْقصر كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا وَكَذَا لَو قصد الهائم سفر مرحلَتَيْنِ كَمَا شملته عبارَة الْمُحَرر وَلَو علم الْأَسير أَن سَفَره طَوِيل وَنوى الْهَرَب إِن تمكن مِنْهُ لم يقصر قبل مرحلَتَيْنِ وَيقصر بعدهمَا وَمثل ذَلِك يَأْتِي فِي الزَّوْجَة وَالْعَبْد إِذا نَوَت الزَّوْجَة أَنَّهَا مَتى تخلصت من زَوجهَا رجعت وَالْعَبْد أَنه مَتى عتق رَجَعَ فَلَا يترخصان قبل مرحلَتَيْنِ وَلَو كَانَ لمقصده طَرِيقَانِ طَوِيل يبلغ مَسَافَة الْقصر وقصير لَا يبلغهَا فسلك الطَّوِيل لغَرَض ديني أَو دُنْيَوِيّ كسهولة طَرِيق أَو أَمن جَازَ لَهُ الْقصر لوُجُود الشَّرْط وَهُوَ اسفر الطَّوِيل الْمُبَاح وَإِن سلكه لمُجَرّد الْقصر أَو لم يقْصد شَيْئا كَمَا فِي الْمَجْمُوع فَلَا يقصر لِأَنَّهُ طول الطَّرِيق على نَفسه من غير غَرَض وَلَو تبع العَبْد أَو الزَّوْجَة أَو الجندي مَالك أمره فِي السّفر وَلَا يعرف كل وَاحِد مِنْهُم مقْصده فَلَا قصر لَهُم وَهَذَا قبل بلوغهم مَسَافَة الْقصر فَإِن قطعوها قصروا كَمَا مر فِي الْأَسير فَلَو نووا مَسَافَة الْقصر وحدهم دون متبوعهم قصر الجندي غير الْمُثبت فِي الدِّيوَان دونهمَا لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَيْسَ تَحت يَد الْأَمِير وقهره بخلافهما فنيتهما كَالْعدمِ أما الْمُثبت فِي الدِّيوَان فَهُوَ مثلهمَا لِأَنَّهُ مقهور تَحت يَد الْأَمِير وَمثله الْجَيْش
وَالثَّالِث يشْتَرط للقصر مُجَاوزَة سور مُخْتَصّ بِمَا سَافر مِنْهُ كبلد وقرية وَإِن كَانَ دَاخله أَمَاكِن خربة ومزارع لِأَن جَمِيع مَا هُوَ دَاخله مَعْدُود مِمَّا سَافر مِنْهُ فَإِن لم يكن لَهُ سور مُخْتَصّ بِهِ بِأَن لم يكن سور مُطلقًا أَو فِي صوب سَفَره أَو كَانَ لَهُ سور غير مُخْتَصّ بِهِ كقرى متفاصلة جمعهَا سور فأوله مُجَاوزَة عمرَان وَإِن تخلله خراب لَا مُجَاوزَة خراب بطرفه هجر بالتحويط على العامر أَو زرع بِقَرِينَة مَا يَأْتِي أَو اندرس بِأَن ذهبت أصُول حيطانه لِأَنَّهُ لَيْسَ مَحل إِقَامَته بِخِلَاف مَا لَيْسَ كَذَلِك فَإِنَّهُ يشْتَرط مجاوزته كَمَا صَححهُ فِي الْمَجْمُوع وَلَا مُجَاوزَة بساتين ومزارع كَمَا فهمت بِالْأولَى وَإِن اتصلتا بِمَا سَافر مِنْهُ أَو كَانَتَا محوطتين لِأَنَّهُمَا لَا يتخذان للإقامة وَلَو كَانَ بالبساتين قُصُور أَو دور تسكن فِي بعض فُصُول السّنة لم يشْتَرط مجاوزتها على الظَّاهِر فِي الْمَجْمُوع خلافًا لما فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا لِأَنَّهَا لَيست من الْبَلَد والقريتان المتصلتان يشْتَرط مجاوزتهما وأوله لساكن خيام كالأعراب مُجَاوزَة حلَّة فَقَط وَمَعَ مُجَاوزَة عرض وَاد إِن سَافر فِي عرضه وَمَعَ مُجَاوزَة عرض مهبط إِن كَانَ فِي ربوة وَمَعَ مُجَاوزَة مصعد إِن كَانَ فِي وهدة هَذَا إِن اعتدلت الثَّلَاثَة فَإِن أفرطت سعتها اكْتفى بمجاوزة الْحلَّة عرفا
وَيَنْتَهِي سَفَره ببلوغ مبدأ سفر من سور أَو غَيره من وَطنه أَو من مَوضِع آخر رَجَعَ من سَفَره إِلَيْهِ أَولا وَقد نوى قبل بُلُوغه وَهُوَ

(1/173)


مُسْتَقل إِقَامَة بِهِ وَإِن لم يصلح لَهَا إِمَّا مُطلقًا وَإِمَّا أَرْبَعَة أَيَّام صِحَاح وبإقامته وَقد علم أَن إربه لَا يَنْقَضِي فِيهَا وَإِن توقعه كل وَقت قصر ثَمَانِيَة عشر يَوْمًا صحاحا وَلَو غير محَارب وَيَنْتَهِي أَيْضا سَفَره بنية رُجُوعه ماكثا وَلَو من طَوِيل لَا إِلَى غير وَطنه لحَاجَة بِأَن نوى رُجُوعه إِلَى وَطنه أَو إِلَى غَيره لَا لحَاجَة فَلَا يقصر فِي ذَلِك الْموضع فَإِن سَافر فسفر جَدِيد فَإِن كَانَ طَويلا قصر وَإِلَّا فَلَا فَإِن نوى الرُّجُوع وَلَو من قصير إِلَى غير وَطنه لحَاجَة لم ينْتَه سَفَره بذلك وكنية الرُّجُوع التَّرَدُّد فِيهِ كَمَا فِي الْمَجْمُوع
وَالرَّابِع يشْتَرط الْعلم بِجَوَاز الْقصر فَلَو قصر جَاهِلا بِهِ لم تصح صلَاته لتلاعبه كَمَا فِي الرَّوْضَة وَأَصلهَا
تَنْبِيه الصَّوْم لمسافر سفر قصر أفضل من الْفطر إِن لم يضرّهُ لما فِيهِ من بَرَاءَة الذِّمَّة وَالْقصر لَهُ أفضل من الْإِتْمَام إِن بلغ سَفَره ثَلَاث مراحل وَلم يخْتَلف فِي جَوَاز قصره فَإِن لم يبلغهَا فالإتمام أفضل خُرُوجًا من خلاف أبي حنيفَة أما لَو اخْتلف فِيهِ كملاح يُسَافر فِي الْبَحْر وَمَعَهُ عِيَاله فِي سفينته وَمن يديم السّفر مُطلقًا فالإتمام لَهُ أفضل لِلْخُرُوجِ من خلاف من أوجبه كَالْإِمَامِ أَحْمد
وَلما فرغ المُصَنّف من أَحْكَام الْقصر شرع فِي أَحْكَام الْجمع فِي السّفر فَقَالَ (وَيجوز للْمُسَافِر) سفر قصر (أَن يجمع بَين) صَلَاتي (الظّهْر وَالْعصر فِي وَقت أَيهمَا شَاءَ) تَقْدِيمًا وتأخيرا (و) أَن يجمع (بَين) صَلَاتي (الْمغرب وَالْعشَاء فِي وَقت أَيهمَا شَاءَ) تَقْدِيمًا وتأخيرا وَالْجُمُعَة كالظهر فِي جمع التَّقْدِيم وَالْأَفْضَل لسَائِر وَقت أولى تَأْخِير وَلغيره تَقْدِيم لِلِاتِّبَاعِ
وَشرط للتقديم أَرْبَعَة شُرُوط الأول التَّرْتِيب بِأَن يبْدَأ بِالْأولَى لِأَن الْوَقْت لَهَا وَالثَّانيَِة تبع لَهَا
وَالثَّانِي نِيَّة الْجمع ليتميز التَّقْدِيم الْمَشْرُوع عَن التَّقْدِيم سَهوا أَو عَبَثا فِي الأولى وَلَو مَعَ تحلله مِنْهَا
وَالثَّالِث وَلَاء بِأَن لَا يطول بَينهمَا فصل عرفا وَلَو ذكر بعدهمَا ترك ركن من الأولى أعادهما وَله جَمعهمَا تَقْدِيمًا وتأخيرا لوُجُود المرخص فَإِن ذكر أَنه من الثَّانِيَة وَلم يطلّ الْفَصْل بَين سلامها وَالذكر تدارك وصحتا فَإِن طَال بطلت الثَّانِيَة وَلَا جمع لطول الْفَصْل وَلَو جهل بِأَن لم يدر أَن التّرْك من الأولى أَو من الثَّانِيَة أعادهما لاحْتِمَال أَنه من الأولى بِغَيْر جمع تَقْدِيم

(1/174)


وَالرَّابِع دوَام سَفَره إِلَى عقد الثَّانِيَة فَلَو أَقَامَ قبله فَلَا جمع لزوَال السَّبَب
وَشرط للتأخير أَمْرَانِ فَقَط أَحدهمَا نِيَّة جمع فِي وَقت أولى مَا بَقِي قدر يَسعهَا تمييزا لَهُ عَن التَّأْخِير تَعَديا وَظَاهر أَنه لَو أخر النِّيَّة إِلَى وَقت لَا يسع الأولى عصى وَإِن وَقعت أَدَاء فَإِن لم ينْو الْجمع أَو نَوَاه فِي وَقت الأولى وَلم يبْق مِنْهُ مَا يَسعهَا عصى وَكَانَت قَضَاء
وَثَانِيهمَا دوَام سَفَره إِلَى تمامهما فَلَو أَقَامَ قبله صَارَت الأولى قَضَاء لِأَنَّهَا تَابِعَة للثَّانِيَة فِي الْأَدَاء للْعُذْر وَقد زَالَ قبل تَمامهَا
وَفِي الْمَجْمُوع إِذا أَقَامَ فِي أثْنَاء الثَّانِيَة يَنْبَغِي أَن تكون الأولى أَدَاء بِلَا خلاف وَمَا بَحثه مُخَالف لإطلاقهم
قَالَ السُّبْكِيّ وَتَبعهُ الْإِسْنَوِيّ وتعليلهم منطبق على تَقْدِيم الأولى فَلَو عكس وَأقَام فِي أثْنَاء الظّهْر فقد وجد الْعذر فِي جَمِيع المتبوعة وَأول التابعة وَقِيَاس مَا مر فِي جمع التَّقْدِيم أَنَّهَا أَدَاء على الْأَصَح أَي كَمَا أفهمهُ تَعْلِيلهم وأجرى الطاوسي الْكَلَام على إِطْلَاقه فَقَالَ وَإِنَّمَا اكْتفى فِي جمع التَّقْدِيم بدوام السّفر إِلَى عقد الثَّانِيَة وَلم يكتف بِهِ فِي جمع التَّأْخِير بل شَرط دَوَامه إِلَى إِتْمَامهَا لِأَن وَقت الظّهْر لَيْسَ وَقت الْعَصْر إِلَّا فِي السّفر وَقد وجد عِنْد عقد الثَّانِيَة فَيحصل الْجمع وَأما وَقت الْعَصْر فَيجوز فِيهِ الظّهْر بِعُذْر السّفر وَغَيره فَلَا ينْصَرف فِيهِ الظّهْر إِلَى السّفر إِلَّا إِذا وجد السّفر فيهمَا وَإِلَّا جَازَ أَن ينْصَرف إِلَيْهِ لوُقُوع بَعْضهَا فِيهِ
وَأَن ينْصَرف إِلَى غَيره لوُقُوع بَعْضهَا فِي غَيره الَّذِي هُوَ الأَصْل اه
وَكَلَام الطاوسي هُوَ الْمُعْتَمد
ثمَّ شرع فِي الْجمع بالمطر فَقَالَ (وَيجوز للحاضر) أَي الْمُقِيم (فِي الْمَطَر) وَلَو كَانَ ضَعِيفا بِحَيْثُ يبل الثَّوْب وَنَحْوه كثلج وَبرد ذائبين (أَن يجمع) مَا يجمع بِالسَّفرِ وَلَو جُمُعَة مَعَ الْعَصْر خلافًا للروياني فِي مَنعه ذَلِك تَقْدِيمًا (فِي وَقت الأولى مِنْهُمَا) لما فِي الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عَبَّاس صلى رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِالْمَدِينَةِ الظّهْر وَالْعصر جَمِيعًا وَالْمغْرب وَالْعشَاء جمعا زَاد مُسلم من غير خوف وَلَا سفر
قَالَ الشَّافِعِي كمالك أرى ذَلِك فِي الْمَطَر وَلَا يجوز ذَلِك تَأْخِيرا لِأَن اسْتِدَامَة الْمَطَر لَيست إِلَى الْجَامِع فقد يَنْقَطِع فَيُؤَدِّي إِلَى إخْرَاجهَا عَن وَقتهَا من غير عذر بِخِلَاف السّفر
وَشرط التَّقْدِيم أَن يُوجد نَحْو الْمَطَر عِنْد تحرمه بهما ليقارن الْجمع وَعند تحلله من الأولى ليتصل بِأول الثَّانِيَة فَيُؤْخَذ مِنْهُ اعْتِبَار امتداده بَينهمَا وَهُوَ ظَاهر وَلَا يضر انْقِطَاعه فِي أثْنَاء الأولى أَو الثَّانِيَة أَو بعدهمَا
وَيشْتَرط أَن يُصَلِّي جمَاعَة بمصلى بعيد عَن بَاب دَاره عرفا بِحَيْثُ يتَأَذَّى بذلك فِي طَرِيقه إِلَيْهِ بِخِلَاف من يُصَلِّي فِي بَيته مُنْفَردا أَو جمَاعَة أَو يمشي إِلَى الْمصلى فِي كن أَو كَانَ الْمصلى قَرِيبا فَلَا يجمع لانْتِفَاء التأذي وَبِخِلَاف من يُصَلِّي مُنْفَردا لانْتِفَاء الْجَمَاعَة فِيهِ وَأما جمعه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بالمطر مَعَ أَن بيُوت أَزوَاجه كَانَت بِجنب الْمَسْجِد فَأَجَابُوا عَنهُ بِأَن بُيُوتهنَّ كَانَت مُخْتَلفَة وأكثرها كَانَ بَعيدا فَلَعَلَّهُ حِين جمع لم يكن بالقريب
وَأجِيب أَيْضا بِأَن للْإِمَام أَن يجمع بالمأمومين وَإِن لم يتأذ بالمطر صرح بِهِ ابْن أبي هُرَيْرَة وَغَيره
قَالَ الْمُحب الطَّبَرِيّ وَلمن اتّفق لَهُ وجود

(1/175)


الْمَطَر وَهُوَ بِالْمَسْجِدِ أَن يجمع وَإِلَّا لاحتاج إِلَى صَلَاة الْعَصْر أَو الْعشَاء فِي جمَاعَة وَفِيه مشقة فِي رُجُوعه إِلَى بَيته ثمَّ عوده أَو فِي إِقَامَته وَكَلَام غَيره يَقْتَضِيهِ
تَنْبِيه قد علم مِمَّا مر أَنه لَا جمع بِغَيْر السّفر وَنَحْو الْمَطَر كَمَرَض وريح وظلمة وَخَوف ووحل وَهُوَ الْمَشْهُور لِأَنَّهُ لم ينْقل وَلخَبَر الْمَوَاقِيت فَلَا يُخَالف إِلَّا بِصَرِيح
وَحكي فِي الْمَجْمُوع عَن جمَاعَة من أَصْحَابنَا جَوَازه بالمذكورات قَالَ وَهُوَ قوي جدا فِي الْمَرَض والوحل وَاخْتَارَهُ فِي الرَّوْضَة لَكِن فَرْضه فِي الْمَرَض وَجرى عَلَيْهِ ابْن الْمقري
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَقد ظَفرت بنقله عَن الشَّافِعِي اه
وَهَذَا هُوَ اللَّائِق بمحاسن الشَّرِيعَة وَقد قَالَ الله تَعَالَى {وَمَا جعل عَلَيْكُم فِي الدّين من حرج} على ذَلِك يسن أَن يُرَاعى الأرفق بِنَفسِهِ فَمن يحم فِي وَقت الثَّانِيَة يقدمهَا بشرائط جمع التَّقْدِيم أَو فِي وَقت الأولى يؤخرها بالأمرين الْمُتَقَدِّمين وعَلى الْمَشْهُور قَالَ فِي الْمَجْمُوع إِنَّمَا لم يلْحق الوحل بالمطر كَمَا فِي عذر الْجُمُعَة وَالْجَمَاعَة لِأَن تاركهما يَأْتِي ببدلهما وَالْجَامِع يتْرك الْوَقْت بِلَا بدل وَلِأَن الْعذر فيهمَا لَيْسَ مَخْصُوصًا بل كل مَا يلْحق بِهِ مشقة شَدِيدَة والوحل مِنْهُ وَعذر الْجمع مضبوط بِمَا جَاءَت بِهِ السّنة وَلم تجىء بالوحل
تَتِمَّة قد جمع فِي الرَّوْضَة مَا يخْتَص بِالسَّفرِ الطَّوِيل وَمَا لَا يخْتَص فَقَالَ الرُّخص الْمُتَعَلّقَة بالطويل أَربع الْقصر وَالْفطر وَالْمسح على الْخُف ثَلَاثَة أَيَّام وَالْجمع على الْأَظْهر وَالَّذِي يجوز فِي الْقصير أَيْضا أَربع ترك الْجُمُعَة وَأكل الْميتَة وَلَيْسَ مُخْتَصًّا بِالسَّفرِ والتنفل على الرَّاحِلَة على الْمَشْهُور وَالتَّيَمُّم وَإِسْقَاط الْفَرْض بِهِ على الصَّحِيح فيهمَا وَلَا يخْتَص هَذَا بِالسَّفرِ أَيْضا كَمَا نبه عَلَيْهِ الرَّافِعِيّ
وَزيد على ذَلِك صور مِنْهَا مَا لَو سَافر الْمُودع وَلم يجد الْمَالِك وَلَا وَكيله وَلَا الْحَاكِم وَلَا الْأمين فَلهُ أَخذهَا مَعَه على الصَّحِيح وَمِنْهَا مَا لَو استصحب مَعَه ضرَّة زَوجته بِقرْعَة فَلَا قَضَاء عَلَيْهِ وَلَا يخْتَص بالطويل على الصَّحِيح وَوَقع فِي الْمُهِمَّات تَصْحِيح عَكسه وَهُوَ كَمَا قَالَ الزَّرْكَشِيّ سَهْو

فصل فِي صَلَاة الْجُمُعَة
بِضَم الْمِيم وإسكانها وَفتحهَا وَحكي كسرهَا وَجَمعهَا جمعات وَجمع سميت بذلك لِاجْتِمَاع النَّاس لَهَا وَقيل لما جمع فِي يَوْمهَا من الْخَيْر وَقيل لِأَنَّهُ جمع فِيهِ خلق آدم وَقيل لاجتماعه فِيهِ مَعَ حَوَّاء فِي الأَرْض
وَكَانَ يُسمى فِي الْجَاهِلِيَّة يَوْم الْعرُوبَة أَي الْبَين الْمُعظم وَهِي أفضل الصَّلَوَات ويومها أفضل الْأَيَّام وَخير يَوْم طلعت فِيهِ الشَّمْس يعْتق لَهُ أجر شَهِيد وَوُقِيَ فتْنَة الْقَبْر
وَهِي بشروطها الْآتِيَة فرض عين لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا} الله تَعَالَى فِيهِ سِتّمائَة ألف عَتيق من

(1/176)


النَّار وَمن مَاتَ فِيهِ كتب الله تَعَالَى {نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا} أَي امضوا {إِلَى ذكر الله} وَلقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رواح الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم
وفرضت الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة وَلم يصلها حِينَئِذٍ إِمَّا لِأَنَّهُ لم يكمل عَددهَا عِنْده أَو لِأَن من شعارها الْإِظْهَار وَكَانَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بِمَكَّة مستخفيا
وَالْجُمُعَة لَيست ظهرا مَقْصُورا وَإِن كَانَ وَقتهَا وقته وتتدارك بِهِ بل صَلَاة مُسْتَقلَّة لِأَنَّهُ لَا يُغني عَنْهَا وَلقَوْل عمر رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ الْجُمُعَة رَكْعَتَانِ تَمام غير قصر على لِسَان نَبِيكُم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَقد خَابَ من افترى رَوَاهُ الإِمَام أَحْمد وَغَيره وتختص بِشُرُوط للزومها وشروط لصحتها وآداب وَسَتَأْتِي كلهَا
وَقد بَدَأَ بالقسم الأول فَقَالَ (وشرائط وجوب) صَلَاة (الْجُمُعَة سَبْعَة أَشْيَاء) بِتَقْدِيم السِّين على الْمُوَحدَة الأول (الْإِسْلَام) وَهُوَ شَرط لغَيْرهَا من كل عبَادَة (و) الثَّانِي (الْبلُوغ و) الثَّالِث (الْعقل) فَلَا جُمُعَة على الصَّبِي وَلَا على مَجْنُون كَغَيْرِهَا من الصَّلَوَات والتكليف أَيْضا شَرط فِي كل عبَادَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة والمغمى عَلَيْهِ كَالْمَجْنُونِ بِخِلَاف السَّكْرَان فَإِنَّهُ يلْزمه قَضَاؤُهَا ظهرا كَغَيْرِهَا
(و) الرَّابِع (الْحُرِّيَّة) فَلَا تجب على من فِيهِ رق لنقصه ولاشتغاله بِحُقُوق السَّيِّد عَن التهيؤ لَهَا وَشَمل ذَلِك الْمكَاتب لِأَنَّهُ عبد مَا بَقِي عَلَيْهِ دِرْهَم
(و) الْخَامِس (الذُّكُورَة) فَلَا تجب على امْرَأَة وَخُنْثَى لنقصهما
(و) السَّادِس (الصِّحَّة) فَلَا تجب على مَرِيض وَلَا على مَعْذُور بمرخص فِي ترك الْجَمَاعَة مِمَّا يتَصَوَّر هُنَا وَمن الْأَعْذَار الِاشْتِغَال بتجهيز الْمَيِّت كَمَا اقْتَضَاهُ كَلَامهم وإسهال لَا يضْبط الشَّخْص نَفسه مَعَه ويخشى مِنْهُ تلويث الْمَسْجِد كَمَا فِي التَّتِمَّة
وَذكر الرَّافِعِيّ فِي الْجَمَاعَة أَن الْحَبْس عذر إِذْ لم يكن مقصرا فِيهِ فَيكون هُنَا كَذَلِك
وَأفْتى الْبَغَوِيّ بِأَنَّهُ يجب إِطْلَاقه لفعلها
وَالْغَزالِيّ بِأَن القَاضِي إِن رأى الْمصلحَة فِي مَنعه منع وَإِلَّا فَلَا وَهَذَا أولى
وَلَو اجْتمع فِي الْحَبْس أَرْبَعُونَ فَصَاعِدا قَالَ الأسنوي فَالْقِيَاس أَن الْجُمُعَة تلزمهم
وَإِذا كَانَ فيهم من لَا يصلح لإقامتها فَهَل لوَاحِد من الْبَلَد الَّتِي لَا يعسر فِيهَا الِاجْتِمَاع إِقَامَة الْجُمُعَة لَهُم

(1/177)


أم لَا وَالظَّاهِر كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين أَن لَهُ ذَلِك وَتلْزم الشَّيْخ الْهَرم والزمن إِن وجدا مركبا ملكا أَو إِجَارَة أَو إِعَارَة وَلَو آدَمِيًّا كَمَا قَالَه فِي الْمَجْمُوع وَلم يشق الرّكُوب عَلَيْهِمَا كمشقة الْمَشْي فِي الوحل لانْتِفَاء الضَّرَر وَلَا يجب قبُول الْمَوْهُوب لما فِيهِ من الْمِنَّة وَالشَّيْخ من جَاوز الْأَرْبَعين فَإِن النَّاس صغَار وَأَطْفَال وصبيان وذراري إِلَى الْبلُوغ وشبان وفتيان إِلَى الثَّلَاثِينَ وكهول إِلَى الْأَرْبَعين وَبعد الْأَرْبَعين الرجل شيخ وَالْمَرْأَة شيخة
واستنبط بَعضهم ذَلِك من الْقُرْآن الْعَزِيز قَالَ تَعَالَى {وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبيا} {قَالُوا سمعنَا فَتى يذكرهم} {ويكلم النَّاس فِي المهد وكهلا} {إِن لَهُ أَبَا شَيخا كَبِيرا} الْهَرم أقْصَى الْكبر والزمانة الِابْتِلَاء والعاهة وَتلْزم الْأَعْمَى إِن وجد قائدا وَلَو بِأُجْرَة مثل يجدهَا أَو مُتَبَرعا أَو ملكا فَإِن لم يجده لم يلْزمه الْحُضُور وَإِن كَانَ يحسن الْمَشْي بالعصا خلافًا للْقَاضِي حُسَيْن لما فِيهِ من التَّعَرُّض للضَّرَر
نعم إِن كَانَ قَرِيبا من الْجَامِع بِحَيْثُ لَا يتَضَرَّر بذلك يَنْبَغِي وجوب الْحُضُور عَلَيْهِ لِأَن الْمُعْتَبر عدم الضَّرَر وَهَذَا لَا يتَضَرَّر وَمن صَحَّ ظَهره مِمَّن لَا تلْزمهُ الْجُمُعَة صحت جمعته لِأَنَّهَا إِذا صحت مِمَّن تلْزمهُ فَمِمَّنْ لَا تلْزمهُ أولى وتغني عَن ظَهره وَله أَن ينْصَرف من الْمصلى قبل إِحْرَامه بهَا إِلَّا نَحْو مَرِيض كأعمى لَا يجد قائدا فَلَيْسَ لَهُ أَن ينْصَرف قبل إِحْرَامه إِن دخل وَقتهَا وَلم يزدْ ضَرَره بانتظاره فعلهَا أَو أُقِيمَت الصَّلَاة نعم لَو أُقِيمَت وَكَانَ ثمَّ مشقة لَا تحْتَمل كمن بِهِ إسهال ظن انْقِطَاعه فأحس بِهِ وَلَو بعد تحرمه وَعلم من نَفسه أَنه إِن مكث سبقه فَالْمُتَّجه كَمَا قَالَه الْأَذْرَعِيّ أَن لَهُ الِانْصِرَاف
وَالْفرق بَين الْمُسْتَثْنى والمستثنى مِنْهُ أَن الْمَانِع فِي نَحْو الْمَرِيض من وُجُوبهَا مشقة الْحُضُور وَقد حضر متحملا لَهَا وَالْمَانِع فِي غَيره صِفَات قَائِمَة بِهِ لَا تَزُول بالحضور
(و) السَّابِع (الاستيطان) وَالْأولَى أَن يعبر بِالْإِقَامَةِ فَلَا جُمُعَة على مُسَافر سفرا مُبَاحا وَلَو قَصِيرا لاشتغاله وَقد رُوِيَ مَرْفُوعا لَا جُمُعَة على مُسَافر لَكِن قَالَ الْبَيْهَقِيّ وَالصَّحِيح وَقفه على ابْن عمر وَأهل الْقرْيَة وَإِن كَانَ فيهم جمع تصح بِهِ الْجُمُعَة وَهُوَ أَرْبَعُونَ من أهل الْكَمَال المستوطنين أَو بَلغهُمْ صَوت عَال من مُؤذن يُؤذن كعادته فِي علو الصَّوْت والأصوات هادئة والرياح راكدة من طرف يليهم لبلد الْجُمُعَة مَعَ اسْتِوَاء الأَرْض لزمتهم وَالْمُعْتَبر سَماع من أصغى وَلم يكن أَصمّ وَلَا جَاوز سَمعه حد الْعَادة وَلَو لم يسمع مِنْهُم غير وَاحِد وَيعْتَبر كَون الْمُؤَذّن على الأَرْض لَا على عَال لِأَنَّهُ لَا ضبط لحده
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب قَالَ أَصْحَابنَا إِلَّا أَن تكون الْبَلَد فِي أَرض بَين أَشجَار كطبرستان وَتَابعه فِي الْمَجْمُوع فَإِنَّهَا بَين أَشجَار تمنع بُلُوغ الصَّوْت فَيعْتَبر فِيهَا الْعُلُوّ على مَا يُسَاوِي الْأَشْجَار
وَقد يُقَال الْمُعْتَبر السماع لَو لم يكن مَانع وَفِي ذَلِك مَانع فَلَا حَاجَة لاستثنائه وَلَو سمعُوا النداء من بلدين فحضور الْأَكْثَر جمَاعَة أولى فَإِن اسْتَويَا فمراعاة الْأَقْرَب أولى كَنَظِيرِهِ فِي الْجَمَاعَة فَإِن لم يكن فيهم الْجمع الْمَذْكُور وَلَا بَلغهُمْ الصَّوْت الْمَذْكُور لم تلزمهم الْجُمُعَة وَلَو ارْتَفَعت قَرْيَة فَسمِعت وَلَو ساوت لم تسمع أَو انخفضت فَلم تسمع وَلَو ساوت

(1/178)


لسمعت لَزِمت الثَّانِيَة دون الأولى اعْتِبَارا بِتَقْدِير الاسْتوَاء وَلَو وجدت قَرْيَة فِيهَا أَرْبَعُونَ كاملون فَدَخَلُوا بَلَدا وصلوا فِيهَا سَقَطت عَنْهُم سَوَاء أسمعوا النداء أم لَا وَيحرم عَلَيْهِم ذَلِك لتعطيلهم الْجُمُعَة فِي قريتهم وَلَو وَافق الْعِيد يَوْم الْجُمُعَة فَحَضَرَ أهل الْقرْيَة الَّذين يبلغهم النداء لصَلَاة الْعِيد وَلَو رجعُوا إِلَى أَهْليهمْ فَاتَتْهُمْ الْجُمُعَة فَلهم الرُّجُوع وَترك الْجُمُعَة على الْأَصَح
نعم لَو دخل وَقتهَا قبل انصرافهم فَالظَّاهِر أَنه لَيْسَ لَهُم تَركهَا
وَيحرم على من لَزِمته الْجُمُعَة السّفر بعد الزَّوَال لِأَن وُجُوبهَا تعلق بِهِ بِمُجَرَّد دُخُول الْوَقْت إِلَّا أَن يغلب على ظَنّه أَنه يدْرك الْجُمُعَة فِي مقْصده أَو طَرِيقه لحُصُول الْمَقْصُود أَو يتَضَرَّر بتخلفه لَهَا عَن الرّفْقَة فَلَا يحرم دفعا للضَّرَر عَنهُ أما مُجَرّد انْقِطَاعه عَن الرّفْقَة بِلَا ضَرَر فَلَيْسَ بِعُذْر بِخِلَاف نَظِيره من التَّيَمُّم لِأَن الطُّهْر يتَكَرَّر فِي كل يَوْم بِخِلَاف الْجُمُعَة وَبِأَنَّهُ يغْتَفر فِي الْوَسَائِل مَا لَا يغْتَفر فِي الْمَقَاصِد وَقبل الزَّوَال وأوله الْفجْر كبعده فِي الْحُرْمَة وَغَيرهَا وَإِنَّمَا حرم قبل الزَّوَال وَإِن لم يدْخل وَقتهَا لِأَنَّهَا مُضَافَة إِلَى الْيَوْم وَلذَلِك يجب السَّعْي قبل الزَّوَال على بعيد الدَّار وَسن لغير من تلْزمهُ الْجُمُعَة وَلَو بمحلها جمَاعَة فِي ظَهره وإخفاؤها إِن خَفِي عذره لِئَلَّا يتهم بالرغبة عَن صَلَاة الإِمَام
وَيسن لمن رجا زَوَال عذره قبل فَوَات الْجُمُعَة كَعبد يَرْجُو الْعتْق تَأْخِير ظَهره إِلَى فَوَات الْجُمُعَة أما من لَا يَرْجُو زَوَال عذره كامرأة فتعجيل الظّهْر أفضل لتحوز فَضِيلَة أول الْوَقْت
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّانِي وَهُوَ شُرُوط الصِّحَّة فَقَالَ (وشرائط) صِحَة (فعلهَا) مَعَ شُرُوط غَيرهَا (ثَلَاثَة) بل ثَمَانِيَة كَمَا ستراها
الأول (أَن تكون الْبَلَد) أَي أَن تُقَام فِي خطة أبنية أوطان المجمعين من الْبَلَد سَوَاء الرحاب المسقفة والساحات والمساجد وَلَو انْهَدَمت الْأَبْنِيَة وَأَقَامُوا على عمارتها لم يضر انهدامها فِي صِحَة الْجُمُعَة وَإِن لم يَكُونُوا فِي مظال لِأَنَّهَا وطنهم وَلَا تَنْعَقِد فِي غير بِنَاء إِلَّا فِي هَذِه وَهَذَا بِخِلَاف مَا لَو نزلُوا مَكَانا وَأَقَامُوا فِيهِ ليعمروه قَرْيَة لَا تصح جمعتهم فِيهِ قبل الْبناء استصحابا للْأَصْل فِي الْحَالين وَكَذَا لَو صلت طَائِفَة خَارج الْأَبْنِيَة خلف جُمُعَة منعقدة لَا تصح جمعتهم لعدم وُقُوعهَا فِي الْأَبْنِيَة المجتمعة فِيهِ وَإِن خَالف فِي ذَلِك بعض الْمُتَأَخِّرين وَتجوز فِي الفضاء الْمَعْدُود من خطة الْبَلَد (مصرا) كَانَت (أَو قَرْيَة) بِحَيْثُ لَا تقصر فِيهِ الصَّلَاة كَمَا فِي السكن الْخَارِج عَنْهَا الْمَعْدُود مِنْهَا بِخِلَاف غير الْمَعْدُود مِنْهَا فَمن أطلق الْمَنْع فِي الْخَارِج عَنْهَا أَرَادَ هَذَا
قَالَ الْأَذْرَعِيّ وَأكْثر أهل الْقرى يؤخرون الْمَسْجِد عَن جِدَار الْقرْيَة قَلِيلا صِيَانة لَهُ عَن نَجَاسَة الْبَهَائِم وَعدم انْعِقَاد الْجُمُعَة فِيهِ بعيد
وَقَول القَاضِي أبي الطّيب قَالَ أَصْحَابنَا لَو بنى أهل الْبَلَد مَسْجِدهمْ خَارِجهَا لم يجز لَهُم إِقَامَة الْجُمُعَة فِيهِ لانفصاله عَن

(1/179)


الْبناء مَحْمُول على انْفِصَال لَا يعد بِهِ من الْقرْيَة اه
وَفِي فَتَاوَى ابْن البزري أَنه إِذا كَانَ أَي الْبَلَد كَبِيرا أَو خرب مَا حوالي الْمَسْجِد لم يزل حكم الوصلة عَنهُ وَيجوز إِقَامَة الْجُمُعَة فِيهِ وَلَو كَانَ بَينهمَا فَرسَخ اه
وَالضَّابِط فِيهِ أَلا يكون بِحَيْثُ تقصر فِيهِ الصَّلَاة قبل مجاوزته أخذا مِمَّا مر وَلَو لَازم أهل الْخيام موضعا من الصَّحرَاء وَلم يبلغهم النداء من مَحل الْجُمُعَة فَلَا جُمُعَة عَلَيْهِم وَلَا تصح مِنْهُم لأَنهم على هَيْئَة المستوفزين وَلَيْسَ لَهُم أبنية المستوطنين وَلِأَن قبائل الْعَرَب كَانُوا مقيمين حول الْمَدِينَة وَمَا كَانُوا يصلونها وَمَا أَمرهم صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بهَا
(و) الثَّانِي من شُرُوط الصِّحَّة (أَن يكون الْعدَد أَرْبَعِينَ) رجلا وَلَو مرضى وَمِنْهُم الإِمَام (من أهل الْجُمُعَة) وهم الذُّكُور الْأَحْرَار المكلفون المستوطنون بمحلها لَا يظعنون عَنهُ شتاء وَلَا صيفا إِلَّا لحَاجَة لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لم يجمع بِحجَّة الْوَدَاع مَعَ عزمه على الْإِقَامَة أَيَّامًا لعدم التوطن وَكَانَ يَوْم عَرَفَة فِيهَا يَوْم جُمُعَة كَمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ وَصلى بهم الظّهْر وَالْعصر تَقْدِيمًا كَمَا فِي خبر مُسلم وَلَو نَقَصُوا فِيهَا بطلت لاشْتِرَاط الْعدَد فِي دوامها كالوقت فِيهَا وَقد فَاتَ فيتمها الْبَاقُونَ ظهرا أَو فِي خطْبَة لم يحْسب ركن مِنْهَا فعل حَال نقصهم لعدم سماعهم لَهُ فَإِن عَادوا قَرِيبا عرفا جَازَ بِنَاء على مَا مضى مِنْهَا فَإِن عَادوا بعد طول الْفَصْل وَجب استئنافها لانْتِفَاء الْمُوَالَاة الَّتِي فعلهَا النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْأَئِمَّة بعده فَيجب اتباعهم فِيهَا كنقصهم بَين الصَّلَاة وَالْخطْبَة فَإِنَّهُم إِن عَادوا قَرِيبا جَازَ الْبناء وَإِلَّا وَجب الِاسْتِئْنَاف لذَلِك وَلَو أحرم أَرْبَعُونَ قبل انفضاض الْأَوَّلين تمت لَهُم الْجُمُعَة وَإِن لم يَكُونُوا سمعُوا الْخطْبَة وَإِن أَحْرمُوا عقب انفضاض الْأَوَّلين قَالَ فِي الْوَسِيط تستمر الْجُمُعَة بِشَرْط أَن يَكُونُوا سمعُوا الْخطْبَة وَتَصِح الْجُمُعَة خلف عبد وَصبي مُمَيّز ومسافر وَمن بَان مُحدثا وَلَو حَدثا أكبر كَغَيْرِهَا إِن تمّ الْعدَد أَرْبَعِينَ بغيرهم بِخِلَاف مَا إِذا لم يتم إِلَّا بهم
(و) الثَّالِث من شُرُوط الصِّحَّة (الْوَقْت) وَهُوَ وَقت الظّهْر لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي فَيشْتَرط الْإِحْرَام بهَا وَهُوَ (بَاقٍ) بِحَيْثُ يَسعهَا جَمِيعهَا (فَإِن خرج الْوَقْت) أَو ضَاقَ عَنْهَا وَعَن خطبتيها أَو شكّ فِي ذَلِك (أَو عدمت الشُّرُوط) أَي شُرُوط صِحَّتهَا أَو بَعْضهَا كَأَن فقد الْعدَد أَو الاستيطان (صليت) حِينَئِذٍ (ظهرا) كَمَا لَو فَاتَ شَرط الْقصر يرجع إِلَى الْإِتْمَام فَعلم أَنَّهَا إِذا فَاتَت لَا تقضى جُمُعَة بل ظهرا أَو خرج الْوَقْت وهم فِيهَا وَجب الظّهْر بِنَاء إِلْحَاقًا للدوام بِالِابْتِدَاءِ فيسر بِالْقِرَاءَةِ من حِينَئِذٍ بِخِلَاف مَا لَو شكّ فِي خُرُوجه لِأَن الأَصْل بَقَاؤُهُ وَأما الْمَسْبُوق الْمدْرك مَعَ الإِمَام مِنْهَا رَكْعَة فَهُوَ كَغَيْرِهِ فِيمَا تقدم فَإِذا خرج الْوَقْت قبل سَلَامه فَإِنَّهُ يجب ظهر بِنَاء وَإِن كَانَت تَابِعَة لجمعة صَحِيحَة وَلَو سلم الإِمَام الأولى وَتِسْعَة وَثَلَاثُونَ فِي الْوَقْت وَسلمهَا الْبَاقُونَ خَارجه صحت جُمُعَة الإِمَام وَمن مَعَه أما الْمُسلمُونَ خَارجه أَو فِيهِ لَو نَقَصُوا عَن أَرْبَعِينَ كَأَن سلم الإِمَام فِيهِ وَسلم من مَعَه أَو بَعضهم خَارجه فَلَا تصح جمعتهم

(1/180)


فَإِن قيل لَو تبين حدث الْمَأْمُومين دون الإِمَام صحت جمعته كَمَا نَقله الشَّيْخَانِ عَن الْبَيَان مَعَ عدم انْعِقَاد صلَاتهم فَهَلا كَانَ هُنَاكَ كَذَلِك أُجِيب بِأَن الْمُحدث تصح جمعته فِي الْجُمْلَة بِأَن لم يجد مَاء وَلَا تُرَابا بِخِلَافِهَا خَارج الْوَقْت
وَالرَّابِع من الشُّرُوط وجود الْعدَد كَامِلا من أول الْخطْبَة الأولى إِلَى انْقِضَاء الصَّلَاة لتخرج مَسْأَلَة الانفضاض الْمُتَقَدّمَة
وَالْخَامِس من الشُّرُوط أَن لَا يسبقها وَلَا يقارنها جُمُعَة فِي محلهَا وَلَو عظم كَمَا قَالَه الشَّافِعِي لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين لم يقيموا سوى جُمُعَة وَاحِدَة وَلِأَن الِاقْتِصَار على وَاحِدَة أفْضى إِلَى الْمَقْصُود من إِظْهَار شعار الِاجْتِمَاع واتفاق الْكَلِمَة
قَالَ الشَّافِعِي وَلِأَنَّهُ لَو جَازَ فعلهَا فِي مسجدين لجَاز فِي مَسْجِد العشائر وَلَا يجوز إِجْمَاعًا إِلَّا إِذا كبر الْمحل وعسر اجْتِمَاعهم فِي مَكَان بِأَن لم يكن فِي مَحل الْجُمُعَة مَوضِع يسعهم بِلَا مشقة وَلَا غير مَسْجِد فَيجوز التَّعَدُّد للْحَاجة بحسبها لِأَن الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ دخل بَغْدَاد وَأَهْلهَا يُقِيمُونَ فِيهَا جمعتين وَقيل ثَلَاثًا فَلم يُنكر عَلَيْهِم فَحَمله الْأَكْثَرُونَ على عسر الِاجْتِمَاع قَالَ الرَّوْيَانِيّ وَلَا يحْتَمل مَذْهَب الشَّافِعِي غَيره وَقَالَ الصَّيْمَرِيّ وَبِه أفتى الْمُزنِيّ بِمصْر وَالظَّاهِر أَن الْعبْرَة فِي الْعسر بِمن يُصَلِّي لَا بِمن تلْزمهُ وَلَو لم يحضر وَلَا بِجَمِيعِ أهل الْبَلَد كَمَا قيل بذلك وَظَاهر النَّص منع التَّعَدُّد مُطلقًا وَعَلِيهِ اقْتصر صَاحب التَّنْبِيه كالشيخ أبي حَامِد ومتابعيه فالاحتياط لمن صلى جُمُعَة بِبَلَد تعدّدت فِيهِ الْجُمُعَة بِحَسب الْحَاجة وَلم يعلم سبق جمعته أَن يُعِيدهَا ظهرا فَلَو سبقها جُمُعَة فِي مَحل لَا يجوز التَّعَدُّد فِيهِ فالصحيحة السَّابِقَة لِاجْتِمَاع الشَّرَائِط فِيهَا واللاحقة بَاطِلَة وَالْمُعْتَبر سبق التَّحَرُّم بِتمَام التَّكْبِير وَهُوَ الرَّاء وَإِن سبقه الآخر بِالْهَمْزَةِ فَلَو وقعتا مَعًا أَو شكّ فِي الْمَعِيَّة فَلم يدر أوقعتا مَعًا أَو مُرَتبا استؤنفت الْجُمُعَة إِن اتَّسع الْوَقْت لتوافقهما فِي الْمَعِيَّة فَلَيْسَتْ إِحْدَاهمَا أولى من الْأُخْرَى وَلِأَن الأَصْل فِي صُورَة الشَّك عدم وُقُوع جُمُعَة مجزئة
قَالَ الإِمَام وَحكم الْأَئِمَّة بِأَنَّهُم إِذا أعادوا الْجُمُعَة بَرِئت ذمتهم مُشكل لاحْتِمَال تقدم إِحْدَاهمَا فَلَا تصح الْأُخْرَى فاليقين أَن يقيموا جُمُعَة ثمَّ ظهرا قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَمَا قَالَه مُسْتَحبّ وَإِلَّا فالجمعة كَافِيَة فِي الْبَرَاءَة كَمَا قَالُوهُ لِأَن الأَصْل عدم وُقُوع جُمُعَة مجزئة فِي حق كل طَائِفَة وَإِن سبقت إِحْدَاهمَا وَلم تتَعَيَّن كَأَن سمع مريضان تكبيرتين متلاحقتين وجهلا الْمُتَقَدّم فأخبرا بذلك أَو تعيّنت ونسيت بعده صلوا ظهرا لأَنا تَيَقنا وُقُوع جُمُعَة صَحِيحَة فِي نفس الْأَمر وَلَا يُمكن إِقَامَة جُمُعَة بعْدهَا والطائفة الَّتِي صحت بهَا الْجُمُعَة غير مَعْلُومَة وَالْأَصْل بَقَاء الْفَرْض فِي حق كل طَائِفَة فَوَجَبَ عَلَيْهِمَا الظّهْر
فَائِدَة الْجمع الْمُحْتَاج إِلَيْهَا مَعَ الزَّائِد عَلَيْهِ كالجمعتين الْمُحْتَاج إِلَى إِحْدَاهمَا فَفِي ذَلِك التَّفْصِيل الْمَذْكُور فيهمَا كَمَا أفتى بِهِ الْبُرْهَان بن أبي شرِيف وَهُوَ ظَاهر
(وفرائضها ثَلَاثَة) وَهَذَا لَا يُخَالف من عبر بِالشُّرُوطِ كالجمهور فَإِن الشُّرُوط ثَمَانِيَة كَمَا مر إِذْ الْفَرْض والشروط قد يَجْتَمِعَانِ فِي أَن كلا مِنْهُمَا لَا بُد مِنْهُ
الأول وَهُوَ الشَّرْط السَّادِس (خطبتان) لخَبر الصَّحِيحَيْنِ عَن ابْن عمر كَانَ رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب يَوْم الْجُمُعَة خطبتين يجلس بَينهمَا وكونهما قبل الصَّلَاة بِالْإِجْمَاع إِلَّا من شَذَّ مَعَ خبر صلوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي وَلم يصل صلى الله عَلَيْهِ وَسلم إِلَّا بعدهمَا

(1/181)


قَالَ فِي الْمَجْمُوع ثبتَتْ صلَاته صلى الله عَلَيْهِ وَسلم بعد خطبتين
وأركانهما خَمْسَة أَولهَا حمد الله تَعَالَى لِلِاتِّبَاعِ وَثَانِيها الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لِأَنَّهَا عبَادَة افْتَقَرت إِلَى ذكر الله تَعَالَى فافتقرت إِلَى ذكر رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَالصَّلَاةِ وَلَفظ الْحَمد وَالصَّلَاة مُتَعَيّن لِلِاتِّبَاعِ فَلَا يجزىء الشُّكْر وَالثنَاء وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَنَحْو ذَلِك وَلَا يتَعَيَّن لفظ الْحَمد الله بل يجزىء أَن نحمد الله أَو لله الْحَمد أَو نَحْو ذَلِك وَيتَعَيَّن لفظ الْجَلالَة فَلَا يجزىء الْحَمد للرحمن أَو نَحوه وَلَا يتَعَيَّن لفظ اللَّهُمَّ صل على مُحَمَّد بل يجزىء نصلي أَو أُصَلِّي أَو نَحْو ذَلِك وَلَا يتَعَيَّن لفظ مُحَمَّد بل يَكْفِي أَحْمد أَو النَّبِي أَو الماحي أَو الحاشر أَو نَحْو ذَلِك وَلَا يَكْفِي رحم الله مُحَمَّدًا أَو صلى الله عَلَيْهِ وَسلم
وَثَالِثهَا الْوَصِيَّة بالتقوى لِلِاتِّبَاعِ رَوَاهُ مُسلم وَلَا يتَعَيَّن لفظ الْوَصِيَّة بالتقوى لِأَن الْغَرَض الْوَعْظ والحث على طَاعَة الله تَعَالَى فَيَكْفِي أطِيعُوا الله وراقبوه
وَهَذِه الثَّلَاثَة أَرْكَان فِي كل من الْخطْبَتَيْنِ
وَرَابِعهَا قِرَاءَة آيَة فِي إِحْدَاهمَا لِأَن الْغَالِب أَن الْقِرَاءَة فِي الْخطْبَة دون تعْيين
قَالَ الْمَاوَرْدِيّ إِنَّه يجزىء أَن يقْرَأ بَين قراءتهما
قَالَ وَكَذَا قبل الْخطْبَة أَو بعد فَرَاغه مِنْهُمَا
وَنقل ابْن كج ذَلِك عَن النَّص صَرِيحًا قَالَ فِي الْمَجْمُوع وَيسن جعلهَا فِي الأولى وَلَو قَرَأَ آيَة سَجْدَة نزل وَسجد إِن لم يكن فِيهِ كلفة فَإِن خشِي من ذَلِك طول فصل سجد مَكَانَهُ إِن أمكنه وَإِلَّا تَركه
وخامسها مَا يَقع عَلَيْهِ اسْم دُعَاء للْمُؤْمِنين وَالْمُؤْمِنَات بأخروي فِي الْخطْبَة الثَّانِيَة لِأَن الدُّعَاء يَلِيق بالخواتيم وَلَو خص بِهِ الْحَاضِرين كَقَوْلِه رحمكم الله كفى بِخِلَاف مَا لَو خص بِهِ الغائبين فِيمَا يظْهر كَمَا يُؤْخَذ من كَلَامهم وَلَا بَأْس بِالدُّعَاءِ للسُّلْطَان بِعَيْنِه كَمَا فِي زِيَادَة الرَّوْضَة إِن لم يكن فِي وَصفه مجازفة
قَالَ ابْن عبد السَّلَام وَلَا يجوز وَصفه بِالصِّفَاتِ الكاذبة إِلَّا لضَرُورَة وَيسن الدُّعَاء لأئمة الْمُسلمين وولاة أُمُورهم بالصلاح والإعانة على الْحق وَالْقِيَام بِالْعَدْلِ وَنَحْو ذَلِك
وَيشْتَرط أَن يَكُونَا عربيتين وَالْمرَاد أركانهما لابباع السّلف وَالْخلف فَإِن لم يكن ثمَّ من يحسن الْعَرَبيَّة وَلم يُمكن تعلمهَا خطب بغَيْرهَا
أَو أمكن تعلمهَا وَجب على الْجَمِيع على سَبِيل فرض الْكِفَايَة فَيَكْفِي فِي تعلمهَا وَاحِد وَأَن (يقوم) الْقَادِر (فيهمَا) جَمِيعًا فَإِن عجز عَنهُ خطب جَالِسا (و) أَن (يجلس بَينهمَا) لِلِاتِّبَاعِ بطمأنينة فِي جُلُوسه كَمَا فِي الْجُلُوس بَين السَّجْدَتَيْنِ
وَمن خطب قَاعِدا لعذر فصل بَينهمَا بسكتة وجوبا وَيشْتَرط كَونهمَا فِي وَقت الظّهْر وَيشْتَرط وَلَاء بَينهمَا وَبَين أركانهما وَبَينهمَا وَبَين الصَّلَاة وطهر عَن حدث أَصْغَر وأكبر وَعَن نجس غير مَعْفُو عَنهُ فِي ثَوْبه وبدنه ومكانه وَستر لعورته فِي الْخطْبَتَيْنِ وإسماع الْأَرْبَعين الَّذين تَنْعَقِد بهم الْجُمُعَة وَمِنْهُم الإِمَام أركانهما لِأَن مقصودهما وعظهم وَهُوَ لَا يحصل إِلَّا بذلك فَعلم أَنه يشْتَرط سماعهم أَيْضا وَإِن لم يفهموا مَعْنَاهُمَا كالعامي يقْرَأ الْفَاتِحَة فِي الصَّلَاة وَلَا يفهم مَعْنَاهَا فَلَا يَكْفِي الْإِسْرَار كالأذان وَلَا إسماع دون أَرْبَعِينَ وَلَا حضورهم بِلَا سَماع لصمم أَو بعد أَو نَحوه
وَسن تَرْتِيب أَرْكَان الْخطْبَتَيْنِ بِأَن يبْدَأ بِالْحَمْد لله ثمَّ الصَّلَاة على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم ثمَّ الْوَصِيَّة بالتقوى ثمَّ الْقِرَاءَة ثمَّ الدُّعَاء كَمَا جرى عَلَيْهِ السّلف وَالْخلف
وَإِنَّمَا لم يجب لحُصُول الْمَقْصُود بِدُونِهِ وَسن لمن يسمعهما سكُوت مَعَ إصغاء لَهما لقَوْله تَعَالَى {وَإِذا قرئَ الْقُرْآن فَاسْتَمعُوا لَهُ وأنصتوا} ذكر فِي التَّفْسِير أَنَّهَا نزلت فِي الْخطْبَة وَسميت قُرْآنًا لاشتمالها عَلَيْهِ
وَوَجَب رد السَّلَام وَسن تشميت الْعَاطِس وَرفع الصَّوْت بِالصَّلَاةِ على النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عِنْد قِرَاءَة الْخَطِيب {إِن الله وَمَلَائِكَته يصلونَ على النَّبِي} وَإِن اقْتضى كَلَام الرَّوْضَة إِبَاحَة الرّفْع
وَصرح القَاضِي أَبُو الطّيب بكراهته
وَعلم من سنّ الْإِنْصَات فيهمَا عدم حُرْمَة

(1/182)


الْكَلَام فيهمَا لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ لمن سَأَلَهُ مَتى السَّاعَة مَا أَعدَدْت لَهَا فَقَالَ حب الله وَرَسُوله فَقَالَ إِنَّك مَعَ من أَحْبَبْت وَلم يُنكر عَلَيْهِ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم الْكَلَام وَلم يبين لَهُ وجوب السُّكُوت فَالْأَمْر فِي الْآيَة للنَّدْب جمعا بَين الدَّلِيلَيْنِ أما من لَا يسمعهما فيسكت أَو يشْتَغل بِالذكر أَو الْقِرَاءَة وَذَلِكَ أولى من السُّكُوت وَسن كَونهمَا على مِنْبَر فَإِن لم يكن مِنْبَر فعلى مُرْتَفع وَأَن يسلم على من عِنْد الْمِنْبَر وَأَن يقبل عَلَيْهِم إِذا صعد الْمِنْبَر أَو نَحوه وانْتهى إِلَى الدرجَة الَّتِي يجلس عَلَيْهَا الْمُسَمَّاة بالمستراح وَأَن يسلم عَلَيْهِم ثمَّ يجلس فَيُؤذن وَاحِد لِلِاتِّبَاعِ فِي الْجَمِيع وَأَن تكون الْخطْبَة فصيحة جزلة لَا مبتذلة ركيكة قريبَة للفهم لَا غَرِيبَة وحشية إِذْ لَا ينْتَفع بهَا أَكثر النَّاس ومتوسطة لِأَن الطَّوِيل يمل والقصير يخل وَأما خبر مُسلم أطيلوا الصَّلَاة وأقصروا الْخطْبَة فقصرها بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة وَأَن لَا يلْتَفت فِي شَيْء مِنْهَا بل يسْتَمر مُقبلا عَلَيْهِم إِلَى فراغها وَيسن لَهُم أَن يقبلُوا عَلَيْهِ مُسْتَمِعِينَ لَهُ وَأَن يشغل يسراه بِنَحْوِ سيف ويمناه بِحرف الْمِنْبَر وَأَن يكون جُلُوسه بَين الْخطْبَتَيْنِ بِقدر سُورَة الْإِخْلَاص وَأَن يُقيم بعد فَرَاغه من الْخطْبَة مُؤذن ويبادر هُوَ ليبلغ الْمِحْرَاب مَعَ فَرَاغه من الْإِقَامَة فيشرع فِي الصَّلَاة وَالْمعْنَى فِي ذَلِك الْمُبَالغَة فِي تَحْقِيق الْوَلَاء الَّذِي مر وُجُوبه وَأَن يقْرَأ فِي الرَّكْعَة الأولى بعد الْفَاتِحَة الْجُمُعَة وَفِي الثَّانِيَة المُنَافِقُونَ جَهرا لِلِاتِّبَاعِ
وَرُوِيَ أَنه صلى الله عَلَيْهِ وَسلم كَانَ يقْرَأ فِي الْجُمُعَة سبح {اسْم رَبك الْأَعْلَى} {هَل أَتَاك حَدِيث الغاشية} قَالَ فِي الرَّوْضَة كَانَ يقْرَأ هَاتين فِي وَقت وَهَاتين فِي وَقت فهما سنتَانِ
(و) الرُّكْن الثَّانِي وَهُوَ الشَّرْط السَّابِع (أَن تصلى رَكْعَتَيْنِ) بِالْإِجْمَاع وَمر أَنَّهَا صَلَاة مُسْتَقلَّة لَيست ظهرا مَقْصُورَة
والركن الثَّالِث وَهُوَ الشَّرْط الثَّامِن أَن تقع فِي (الْجَمَاعَة) وَلَو فِي الرَّكْعَة الأولى لِأَنَّهَا لم تقع فِي عصر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَالْخُلَفَاء الرَّاشِدين إِلَّا كَذَلِك وَهل يشْتَرط تقدم إِحْرَام من تَنْعَقِد بهم لتصح لغَيرهم أَو لَا اشْترط الْبَغَوِيّ ذَلِك وَنَقله فِي الْكِفَايَة عَن القَاضِي وَرجح البُلْقِينِيّ الثَّانِي وَقَالَ الزَّرْكَشِيّ إِن الصَّوَاب أَنه لَا يشْتَرط تقدم من ذكر وَهَذَا هُوَ الْمُعْتَمد
قَالَ البُلْقِينِيّ وَلَعَلَّ مَا قَالَه القَاضِي أَي وَمن تبعه من عدم الصِّحَّة مَبْنِيّ على الْوَجْه الَّذِي قَالَ إِنَّه الْقيَاس وَهُوَ أَنه لَا تصح الْجُمُعَة خلف الصَّبِي أَو العَبْد أَو الْمُسَافِر إِذا تمّ الْعدَد بِغَيْرِهِ وَالأَصَح الصِّحَّة
ثمَّ شرع فِي الْقسم الثَّالِث وَهُوَ الْآدَاب وَتسَمى هيئات فَقَالَ (وهيئاتها) أَي الْحَالة الَّتِي تطلب لَهَا والمذكورة مِنْهَا هُنَا (أَربع)
الأول (الْغسْل) لمن يُرِيد حُضُورهَا وَإِن لم تجب عَلَيْهِ الْجُمُعَة لحَدِيث إِذا جَاءَ أحدكُم الْجُمُعَة فليغتسل وتفارق الْجُمُعَة الْعِيد حَيْثُ لم يخْتَص بِمن يحضر بِأَن غسله للزِّينَة وَإِظْهَار السرُور وَهَذَا للتنظيف وَدفع الْأَذَى عَن النَّاس وَمثله يَأْتِي فِي التزيين وَرُوِيَ غسل الْجُمُعَة وَاجِب على كل محتلم أَي متأكد وَوَقته من الْفجْر الصَّادِق وتقريبه من ذَهَابه إِلَى الْجُمُعَة أفضل لِأَنَّهُ أفْضى إِلَى الْمَقْصُود من انْتِفَاء الرَّائِحَة الكريهة وَلَو تعَارض الْغسْل والتبكير فمراعاة الْغسْل أولى فَإِن عجز عَن المَاء كَأَن تَوَضَّأ

(1/183)


ثمَّ عَدمه أَو كَانَ جريحا فِي غير أَعْضَاء الْوضُوء تيَمّم بنية الْغسْل بِأَن يَنْوِي التَّيَمُّم عَن غسل الْجُمُعَة إحرازا للفضيلة كَسَائِر الأغسال (و) الثَّانِي (تنظيف الْجَسَد) من الروائح الكريهة كالصنان لِأَنَّهُ يتَأَذَّى بِهِ فيزال بِالْمَاءِ أَو غَيره
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله تَعَالَى عَنهُ من نظف ثَوْبه قل همه وَمن طَابَ رِيحه زَاد عقله
وَيسن السِّوَاك وَهَذِه الْأُمُور لَا تخْتَص بِالْجمعَةِ بل تسن لكل حَاضر بمجمع كَمَا نَص عَلَيْهِ لَكِنَّهَا فِي الْجُمُعَة أَشد اسْتِحْبَابا (و) الثَّالِث (أَخذ الظفر) إِن طَال وَالشعر كَذَلِك فينتف إبطه ويقص شَاربه ويحلق عانته وَيقوم مقَام الْحلق القص والنتف وَأما الْمَرْأَة فتنتف عانتها بل يجب عَلَيْهَا ذَلِك عِنْد أَمر الزَّوْج لَهَا بِهِ على الْأَصَح وَإِن تفاحش وَجب قطعا والعانة الشّعْر النَّابِت حول ذكر الرجل وَقبل الْمَرْأَة أما حلق الرَّأْس فَلَا ينْدب إِلَّا فِي نسك وَفِي الْمَوْلُود فِي سَابِع وِلَادَته وَفِي الْكَافِر إِذا أسلم وَأما فِي غير ذَلِك فَهُوَ مُبَاح وَلذَلِك قَالَ الْمُتَوَلِي ويتزين الذّكر بحلق رَأسه إِن جرت عَادَته بذلك وَسَيَأْتِي فِي الْأُضْحِية أَن من أَرَادَ أَن يُضحي يكره لَهُ فعل ذَلِك فِي عشر ذِي الْحجَّة فَهُوَ مُسْتَثْنى (و) رَابِعهَا (الطّيب) أَي اسْتِعْمَاله والتزين بِأَحْسَن ثِيَابه لحَدِيث من اغْتسل يَوْم الْجُمُعَة وَلبس من أحسن ثِيَابه وَمَسّ من طيب إِذا كَانَ عِنْده ثمَّ أَتَى الْجُمُعَة وَلم يتخط أَعْنَاق النَّاس ثمَّ صلى مَا كتب لَهُ ثمَّ أنصت إِذا خرج إِمَامه حَتَّى يفرغ من صلَاته كَانَ كَفَّارَة لما بَينهَا وَبَين الْجُمُعَة الَّتِي قبلهَا وَأفضل ثِيَابه الْبيض لخَبر البسوا من ثيابكم الْبيَاض فَإِنَّهَا خير ثيابكم وكفنوا فِيهَا مَوْتَاكُم وَيسن للْإِمَام أَن يزِيد فِي حسن الْهَيْئَة والعمة والارتداء لِلِاتِّبَاعِ وَلِأَنَّهُ مَنْظُور إِلَيْهِ
(وَيسْتَحب) لكل سامع للخطبة (الْإِنْصَات) إِلَى الإِمَام (فِي وَقت) قِرَاءَة (الْخطْبَة) الأولى وَالثَّانيَِة وَقد مر دَلِيل ذَلِك وَيكرهُ كَمَا نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم أَن يتخطى رِقَاب النَّاس لِأَنَّهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم رأى رجلا يتخطى رِقَاب النَّاس فَقَالَ لَهُ اجْلِسْ فقد آذيت وآنيت أَي تَأَخَّرت
وَيسْتَثْنى من ذَلِك صور مِنْهَا الإِمَام إِذا لم يبلغ الْمِنْبَر أَو الْمِحْرَاب إِلَّا بالتخطي فَلَا يكره لَهُ لاضطراره إِلَيْهِ وَمِنْهَا مَا إِذا وجد فِي الصُّفُوف الَّتِي بَين يَدَيْهِ فُرْجَة لم يبلغهَا إِلَّا بتخطي رجل أَو رجلَيْنِ فَلَا يكره لَهُ ذَلِك وَإِن وجد غَيرهَا لتقصير الْقَوْم بإخلاء فُرْجَة لَكِن يسن إِذا وجد غَيرهَا أَن لَا يتخطى فَإِن زَاد فِي التخطي عَلَيْهِمَا وَلَو من صف وَاحِد وَرَجا أَن يتقدموا إِلَى الفرجة إِذا أُقِيمَت الصَّلَاة كره لِكَثْرَة الْأَذَى
وَمِنْهَا مَا إِذا سبق الصّبيان أَو العبيد أَو غير المستوطنين إِلَى الْجَامِع فَإِنَّهُ يجب على الكاملين إِذا حَضَرُوا التخطي لسَمَاع الْخطْبَة إِذا كَانُوا لَا يسمعونها مَعَ الْبعد وَيسن أَن يقْرَأ الْكَهْف فِي يَوْمهَا وليلتها لقَوْله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من قَرَأَ الْكَهْف فِي يَوْم الْجُمُعَة أَضَاء لَهُ من النُّور مَا بَين الجمعتين روى الْبَيْهَقِيّ من قَرَأَهَا لَيْلَة الْجُمُعَة أَضَاء لَهُ من النُّور مَا بَينه وَبَين الْبَيْت الْعَتِيق وَيكثر من الدُّعَاء يَوْمهَا وليلتها أما يَوْمهَا فرجاء أَن يُصَادف سَاعَة الْإِجَابَة
قَالَ فِي الرَّوْضَة وَالصَّحِيح فِي سَاعَة الْإِجَابَة مَا ثَبت فِي صَحِيح مُسلم أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ هِيَ مَا بَين أَن يجلس الإِمَام إِلَى أَن تَنْقَضِي الصَّلَاة
قَالَ فِي الْمُهِمَّات وَلَيْسَ المُرَاد أَن سَاعَة الْإِجَابَة مستغرقة لما بَين الْجُلُوس وَآخر الصَّلَاة كَمَا يشْعر بِهِ ظَاهر عِبَارَته بل المُرَاد أَن السَّاعَة لَا تخرج عَن هَذَا

(1/184)


الْوَقْت فَإِنَّهَا لَحْظَة لَطِيفَة
فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عِنْد ذكره إِيَّاهَا وَأَشَارَ بِيَدِهِ يقللها وَأما لَيْلَتهَا فلقول الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ بَلغنِي أَن الدُّعَاء يُسْتَجَاب فِي لَيْلَة الْجُمُعَة وللقياس على يَوْمهَا وَيسن كَثْرَة الصَّدَقَة وَفعل الْخَيْر فِي يَوْمهَا وليلتها وَيكثر من الصَّلَاة على رَسُول الله صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي يَوْمهَا وليلتها لخَبر إِن من أفضل أيامكم يَوْم الْجُمُعَة فَأَكْثرُوا عَليّ من الصَّلَاة فِيهِ فَإِن صَلَاتكُمْ معروضة عَليّ
وَخبر أَكْثرُوا عَليّ من الصَّلَاة لَيْلَة الْجُمُعَة وَيَوْم الْجُمُعَة فَمن صلى عَليّ صَلَاة صلى الله عَلَيْهِ بهَا عشرا وَعَن أبي هُرَيْرَة رَضِي الله عَنهُ أَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم قَالَ من صلى عَليّ يَوْم الْجُمُعَة ثَمَانِينَ مرّة غفر لَهُ ذنُوب ثَمَانِينَ سنة وَيحرم على من تلْزمهُ الْجُمُعَة التشاغل بِالْبيعِ وَغَيره بعد الشُّرُوع فِي الْأَذَان بَين يَدي الْخَطِيب حَال جُلُوسه على الْمِنْبَر لقَوْله تَعَالَى {يَا أَيهَا الَّذين آمنُوا إِذا نُودي للصَّلَاة من يَوْم الْجُمُعَة فَاسْعَوْا إِلَى ذكر الله وذروا البيع} فورد النَّص فِي البيع وَقيس عَلَيْهِ غَيره فَإِن بَاعَ صَحَّ بيعا لِأَن النَّهْي لِمَعْنى خَارج عَن العقد
وَيكرهُ قبل الْأَذَان الْمَذْكُور بعد الزَّوَال لدُخُول وَقت الْوُجُوب
(وَمن دخل) لصَلَاة الْجُمُعَة (وَالْإِمَام) يقْرَأ (فِي الْخطْبَة) الأولى أَو الثَّانِيَة أَو هُوَ جَالس بَينهمَا (يُصَلِّي رَكْعَتَيْنِ خفيفتين ثمَّ يجلس) لخَبر مُسلم جَاءَ سليك الْغَطَفَانِي يَوْم الْجُمُعَة وَالنَّبِيّ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم يخْطب فَجَلَسَ فَقَالَ لَهُ يَا سليك قُم فاركع رَكْعَتَيْنِ وَتجوز فيهمَا ثمَّ قَالَ إِذا جَاءَ أحدكُم يَوْم الْجُمُعَة وَالْإِمَام يخْطب فليركع رَكْعَتَيْنِ وليتجوز فيهمَا هَذَا إِن صلى سنة الْجُمُعَة وَإِلَّا صلاهَا مُخَفّفَة وحصلت التَّحِيَّة وَلَا يزِيد على رَكْعَتَيْنِ بِكُل حَال فَإِن لم تحصل تَحِيَّة الْمَسْجِد كَأَن كَانَ فِي غير الْمَسْجِد لم يصل شَيْئا
فإطلاقهم ومنعهم فِي الرَّاتِبَة مَعَ قيام سَببهَا يَقْتَضِي أَنه لَو تذكر فِي هَذَا الْوَقْت فرضا لَا يَأْتِي بِهِ وَأَنه لَو أَتَى بِهِ لم ينْعَقد وَهُوَ الظَّاهِر كَمَا قَالَه بعض الْمُتَأَخِّرين أما الدَّاخِل فِي آخر الْخطْبَة فَإِن غلب على ظَنّه أَنه إِن صلاهما فَاتَتْهُ تَكْبِيرَة الْإِحْرَام مَعَ الإِمَام لم يصل التَّحِيَّة بل يقف حَتَّى تُقَام الصَّلَاة وَلَا يقْعد لِئَلَّا يكون جَالِسا فِي الْمَسْجِد قبل التَّحِيَّة
قَالَ ابْن الرّفْعَة وَلَو صلاهَا فِي هَذِه الْحَالة اسْتحبَّ للْإِمَام أَن يزِيد فِي كَلَام الْخطْبَة بِقدر مَا يكملها وَمَا قَالَه نَص عَلَيْهِ فِي الْأُم وَالْمرَاد بِالتَّخْفِيفِ فِيمَا ذكر الِاقْتِصَار على الْوَاجِبَات كَمَا قَالَه الزَّرْكَشِيّ لَا الْإِسْرَاع
قَالَ وَيدل لَهُ مَا ذَكرُوهُ من أَنه إِذا ضَاقَ الْوَقْت وَأَرَادَ الْوضُوء اقْتصر على الْوَاجِبَات وَيجب أَيْضا تَخْفيف الصَّلَاة على من كَانَ فِيهَا عِنْد صعُود الْخَطِيب الْمِنْبَر وجلوسه وَلَا تُبَاح لغير الْخَطِيب من الْحَاضِرين نَافِلَة بعد صُعُوده الْمِنْبَر وجلوسه وَإِن لم يسمع الْخطْبَة لإعراضه عَنهُ بِالْكُلِّيَّةِ وَنقل فِيهِ الْمَاوَرْدِيّ الْإِجْمَاع وَالْفرق بَين الْكَلَام حَيْثُ لَا بَأْس بِهِ
وَإِن صعد الْخَطِيب الْمِنْبَر مَا لم يبتدىء الْخطْبَة وَبَين الصَّلَاة حَيْثُ تحرم حِينَئِذٍ أَن قطع الْكَلَام هَين مَتى ابْتَدَأَ الْخَطِيب الْخطْبَة بِخِلَاف الصَّلَاة فَإِنَّهُ قد يفوتهُ بهَا سَماع أول الْخطْبَة وَإِذا حرمت لم تَنْعَقِد كَمَا قَالَه البُلْقِينِيّ لِأَن الْوَقْت لَيْسَ لَهَا
تَتِمَّة من أدْرك مَعَ إِمَام الْجُمُعَة رَكْعَة وَلَو ملفقة لم تفته الْجُمُعَة فَيصَلي بعد زَوَال قدوته بمفارقته أَو سَلَامه رَكْعَة
وَيسن أَن يجْهر فِيهَا قَالَ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم من أدْرك من صَلَاة الْجُمُعَة رَكْعَة فقد أدْرك الصَّلَاة فَإِن أدْرك دون الرَّكْعَة فَاتَتْهُ الْجُمُعَة لمَفْهُوم الْخَبَر فَيتم بعد سَلام إِمَامه ظهرا وَيَنْوِي وجوبا فِي اقتدائه جُمُعَة مُوَافقَة للْإِمَام وَلِأَن الْيَأْس لم يحصل مِنْهَا إِلَّا بِالسَّلَامِ
وَإِذا بطلت صَلَاة إِمَام

(1/185)


جُمُعَة أَو غَيرهَا فخلفه عَن قرب مقتد بِهِ قبل بُطْلَانهَا جَازَ لِأَن الصَّلَاة بإمامين بالتعاقب جَائِزَة كَمَا فِي قصَّة أبي بكر مَعَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فِي مَرضه وَكَذَا لَو خَلفه غير مقتد بِهِ فِي غير جُمُعَة إِن لم يُخَالف إِمَامه فِي نظم صلَاته ثمَّ إِن كَانَ الْخَلِيفَة فِي الْجُمُعَة أدْرك الرَّكْعَة الأولى تمت جُمُعَة الْخَلِيفَة والمقتدين وَإِلَّا فتتم الْجُمُعَة لَهُم لَا لَهُ لأَنهم أدركوا رَكْعَة كَامِلَة مَعَ الإِمَام وَهُوَ لم يُدْرِكهَا مَعَه فيتمها ظهرا كَذَا ذكره الشَّيْخَانِ وَقَضيته أَنه يُتمهَا ظهرا وَإِن أدْرك مَعَه رُكُوع الثَّانِيَة وسجودها
لَكِن قَالَ الْبَغَوِيّ يُتمهَا جُمُعَة لِأَنَّهُ صلى مَعَ الإِمَام رَكْعَة ويراعي الْمَسْبُوق نظم صَلَاة الإِمَام فَإِذا تشهد أَشَارَ إِلَيْهِم بِمَا يفهمهم فرَاغ صلَاتهم وانتظارهم لَهُ ليسلموا مَعَه أفضل وَمن تخلف عَن الإِمَام لعذر عَن سُجُود فأمكنه على شَيْء من إِنْسَان أَو غَيره لزمَه السُّجُود لتمكنه مِنْهُ فَإِن لم يُمكنهُ فلينتظر تمكنه مِنْهُ ندبا وَلَو فِي جُمُعَة ووجوبا فِي أولى جُمُعَة على مَا بَحثه الإِمَام وَأقرهُ عَلَيْهِ الشَّيْخَانِ فَإِن تمكن مِنْهُ قبل رُكُوع إِمَامه فِي الثَّانِيَة سجد فَإِن وجده بعد سُجُوده قَائِما أَو رَاكِعا فكمسبوق وَإِن وجده فرغ من رُكُوعه وَافقه فِيمَا هُوَ فِيهِ ثمَّ يُصَلِّي رَكْعَة بعده فَإِن وجده قد سلم فَاتَتْهُ الْجُمُعَة فيتمها ظهرا وَإِن تمكن فِي رُكُوع إِمَامه فِي الثَّانِيَة فليركع مَعَه ويحسب لَهُ رُكُوعه الأول فركعته ملفقة فَإِن سجد على تَرْتِيب صَلَاة نَفسه عَالما عَامِدًا بطلت صلَاته وَإِلَّا فَلَا تبطل لعذره وَلَكِن لَا يحْسب لَهُ سُجُوده الْمَذْكُور لمُخَالفَته الإِمَام فَإِذا سجد ثَانِيًا وَلَو مُنْفَردا حسب هَذَا السُّجُود فَإِن كمل قبل سَلام الإِمَام أدْرك الْجُمُعَة وَإِلَّا فَلَا